الموافقات

 

ج / 1 ص -3-            بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الحمد لله الذي أنقذنا بنور العلم من ظلمات الجهالة، وهدانا بالاستبصار به عن الوقوع في عَمَاية الضلالة، ونصب لنا من شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- أعلى عَلَم وأوضح دلالة، وكان ذلك أفضل ما مَنَّ به من النعم الجزيلة والمنح الجليلة وأناله.
فلقد كنا قبل شروق هذا النور نَخْبِطُ خبط العشواء، وتجري عقولنا في اقتناص مصالحنا على غير السواء؛ لضعفها عن حمل هذه الأعباء، ومشاركة عاجلات الهواء، على ميدان النفس التي هي بين المنقلبين مدار الأسواء؛ فنضع السموم على الأدواء مواضع الدواء، طالبين للشفاء، كالقابض على الماء، ولا زلنا1 نسبح بينهما في بحر الوهم فنهيم، ونسرح من جهلنا بالدليل في ليل بهيم، ونستنتج القياس العقيم، ونطلب آثار الصحة من الجسم السقيم، ونمشي إكبابا2 على الوجوه ونظن أنا نمشي على الصراط المستقيم؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "ما زلنا".
2 من أكب على وجهه، إذا تمادى في الغواية، وهو أحد الأفعال التي تهمز؛ فتكون لازمة وتجرد فتتعدى، ونظائره: انسل الطير، وأحجم زيد، وأنزفت البئر "خ".

 

ج / 1 ص -4-            حتى ظهر محض الإجبار في عين الأقدار، وارتفعت حقيقة أيدي الاضطرار إلى الواحد القهار، وتوجهت إليه أطماع أهل الافتقار؛ لما صح من ألسنة الأحوال صدق الإقرار، وثبت في مكتسبات الأفعال حكمُ الاضطرار؛ فتداركنا الرب الكريم بلطفه العظيم، ومن علينا البر الرحيم بعطفه العميم؛ إذ لم نستطع من دونه حيلا، ولم نهتد1 بأنفسنا سُبلا، بأن جعل العذر1 مقبولا، والعفو عن الزلات قبل [بعث الرسالات مأمولا]1؛ فقال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
فبعث الأنبياء -عليهم السلام- في الأمم، كل بلسان قومه من عرب أو عجم؛ ليبيِّنوا لهم طريق الحق من أمم2، ويأخذوا بحُجزهم عن موارد جهنم، وخصنا معشر الآخرين السابقين بلبنة تمامهم، ومسك3 ختامهم؛ محمد بن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بدلا منها في نسخة "خ" بياضات, وكتب المعلق: "هكذا الأصل، وفيه حذف من الناسخ، ولعل نظم الكلام هكذا: "ولم نسلك بأنفسنا سُبُلا، بأن جعل لما أُمرنا به قبولا، وللعفو عن الزلات قبل الابتهال حصولا"".
2 أي: من قُرب. انظر: "لسان العرب" "أ م م".
3 في نسخة "خ": "مسكة"، وكتب المعلق عليها ما نصه:
"قال الغزالي في كتاب "الاقتصاد": الأكثرون على العمل بالإجماع فيما لم يرد فيه نص قاطع وضرب المثل لهذا بقوله تعالى:
{وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}؛ فأنكر عليه بعض المفسرين، ووسم هذه المقالة بأنها إلحاد، وما قاله الغزالي مبني على الوجه الذي سيقرره المصنف قريبا من أن الألفاظ لا تدل على المراد منها بوجه قاطع لتوقف القطع على التحقق؛ من عدم النقل، والمجاز، والإضمار، والتقديم، والتأخير، والإطلاق، والتقييد ونحو ذلك، وإنما يحصل القطع بمضمونها بعد أن ينضم إليها ما ينفي تلك الوجوه المحتملة؛ كأن ينعقد على مدلولها إجماع أو تتوارد عليه نصوص أخرى، والمحققون على أن الآية نص قاطع بنفسها وعلى أي مذهب؛ فقد بلغ مضمونها مبلغ القطع المعتد به في تقرير العقائد التي يخرج المتردد فيها عن دائرة الإسلام حيث تضافر عليها صريح القرآن والسنة والإجماع".

 

ج / 1 ص -5-            عبد الله، الذي هو النعمة المُسْداة، والرحمةُ المهداة، والحكمةُ البالغة الأميَّة، والنخبة الطاهرة الهاشمية، أرسله إلينا شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وأنزل عليه كتابه العربي المبين، الفارق بين الشك واليقين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ووضع بيانه الشافي وإيضاحه الكافي في كفِّه، وطيَّبه بطيب ثنائه وعرَّفه بعَرْفه1؛ إذ جعل أخلاقه وشمائله جملة نعته، وكلي وصفه، فصار عليه السلام مبيِّنا بقوله وإقراره وفعله وكفه؛ فوضُح النهار لذي عينين، وتبيَّن الرشد من الغي شمسا من غير سحاب ولا غَيْن2.
فنحمده سبحانه والحمد نعمة منه مستفادة، ونشكر له والشكر أول الزيادة، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، خالق الخلق أجمعين، وباسطُ الرزق للمطيعين والعاصين، بسطا يقتضيه العدل والإحسان، والفضل والامتنان، جاريا على حكم الضمان.
قال تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56-58].
وقال تعالى:
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].
كل ذلك ليتفرغوا لأداء الأمانة التي عُرضت عليهم عرضا، فلما تحمَّلوها على حكم الجزاء؛ حُمِّلوها فرضا، ويا ليتهم اقتصروا على الإشفاق والإباية، وتأمَّلوا في البداية خطر النهاية، لكنهم لم يخطر لهم خطرها على بال، كما خطر للسموات والأرض والجبال3؛ فلذلك سُمِّي الإنسان ظلوما جهولا، وكان أمر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: طيَّبه بطيب رائحته.
2 الغين لغة في الغيم. انظر: "لسان العرب" "غ ي ن".
3 أشار إلى أن المراد بالأمانة في قوله تعالى:
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَالْجِبَالِ} عهدة التكليف، وإباية السموات والأرض والجبال لحملها تمثيل لعدم استعدادها بحسب الفطرة لتقلدها، وفي هذا التمثيل تنويه بقدر هذه التكاليف وتعظيم لشأنها. "خ".

 

ج / 1 ص -6-            الله مفعولا؛ فدل1 على هذه الجملة المستبانة شاهدٌ قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72].
فسبحان من أجرى الأمور بحكمته وتقديره، على وفق علمه وقضائه ومقاديره؛ لتقوم الحجة على العباد فيما يعملون، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون!
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، الصادق الأمين، المبعوثُ رحمة للعالمين، بملة حنيفية، وشرعة الحاكمين2 بها حفية، ينطق بلسان التيسير بيانها، ويعرِّف أن الرفق خاصيتها والسماح شأنها؛ فهي تحمل الجماء الغفير ضعيفا وقويا، وتهدي الكافة فهيما وغبيا، وتدعوهم بنداء مشترك دانيا وقصيا، وترفق بجميع المكلفين مُطيعا وعصيا، وتقودهم بخزائمهم3 منقادا وأبيا، وتُسوي بينهم بحكم العدل شريفا ودنيا، وتُبوئ حاملها في الدنيا والآخرة مكانا عليا، وتدرج النبوءة بين جنبيه وإن لم يكن نبيا، وتُلبس المتصف بها ملبسا سنيا، حتى يكون لله وليا؛ فما أغنى من والاها وإن كان فقيرا، وما أفقر من عادها وإن كان غنيا.
فلم يزل عليه السلام يدعو بها وإليها4، ويبث للثقلين ما لديها، ويناضل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "دل"، وما أثبتناه من الأصل و"خ" و"م".
2 في النسخ المطبوعة: "شرعة بالمكلفين"، والمثبت من الأصل.
3 جمع خِزامة، وهي حلقة من شعر تُجعل في وترة أنف البعير يُشد فيها الزمام. انظر: "مختار الصحاح" "خ ز م".
4 يتحقق هذا المعنى بالنظر إلى القرآن الذي هو مطلع الشريعة الغراء؛ فإنه من جهة اشتماله على الحجج المحكمة والمواعظ الحسنة مدعو به، ومن حيث تقريره للعقائد والأحكام والآداب مدعو إليه "خ".

 

ج / 1 ص -7-            ببراهينها عليها، ويحمي بقواطعها جانبيها، بالغ الغاية في البيان، بقوله1 بلسان حاله ومقاله: "أنا النذير العُريان"2 صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه؛ الذين عرفوا مقاصد الشريعة فحصَّلوها، وأسسوا قواعدها وأصَّلوها، وجالت أفكارهم في آياتها، وأعملوا الجد في تحقيق مبادئها وغاياتها، وعنوا بعد ذلك باطراح الآمال، وشفَّعوا العلم بإصلاح الأعمال، وسابقوا إلى الخيرات فسبقوا3، وسارعوا إلى الصالحات فما لحقوا، إلى أن طلع في آفاق بصائرهم شمس الفرقان، وأشرق في قلوبهم نور الإيقان؛ فظهرت ينابيع الحكم منها على اللسان، فهم أهل الإسلام والإيمان والإحسان، وكيف لا وقد كانوا أول من قرع ذلك الباب، فصاروا خاصة الخاصة ولباب اللباب، ونجوما يهتدي بأنوارهم أولو الألباب؟! رضي الله عنهم وعن الذين خلفوهم قدوة للمقتدين، وأسوة للمهتدين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد؛ أيها الباحث عن حقائق أعلى العلوم4، الطالب لأسنى نتائج الحُلوم، المتعطش إلى أحلى موارد الفهوم، الحائم حول حمى ظاهر المرسوم؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخ المطبوعة: "يقول"، والمثبت من الأصل.
2 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب الانتهاء عن المعاصي 11/ 316/ رقم 6482، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله, صلى الله عليه وسلم، 13/ 250/ رقم 7253"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل, باب شفقته -صلى الله عليه وسلم- على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم، 4/ 1788-1789/ رقم 2283" من حديث أبي موسى مرفوعا:
"إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم! إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العُريان؛ فالنجاء...".
3 في الأصل: "فتسبقوا"، وله وجه كما في "اللسان" "س ب ق".
4 تتفاضل العلوم على حسب شرف غايتها، أو قوة دلائلها، أو كمال موضوعاتها؛ ولهذا كان أشرف العلوم وأرفعها منزلة علم التوحيد، ثم ما ينبني عليه من سائر علوم الشريعة "خ".

 

ج / 1 ص -8-            طمعا في إدراك باطنه المرقوم، معاني1 مرتوقة في فتق تلك الرسوم2؛ فإنه قد آن لك أن تُصغي إلى من وافق هواك هواه، وأن تُطارح الشجي مَنْ مَلَكه -مثلك- شجاه، وتعود -إذْ شاركْتَه في جواه- محل نجواه؛ حتى يبث إليك شكواه، لتجري معه في هذا الطريق من حيث جرى، وتسري في غَبَشِهِ الممتزج ضوءه بالظلمة كما سرى، وعند الصباح تحمد إن شاء الله عاقبة السرى.
فلقد قطع في طلب هذا المقصود مهامِهَ فِيحا، وكابد من طوارق طريقه حسنا وقبيحا، ولاقى من وجوهه المعترضة جَهْما وصَبِيحا، وعانى من راكبته المختلفة مانعا ومبيحا3، فإن شئت ألفيته لتعب السير طَلِيحا4، أو لما حالف من العناء طريحا، أو لمحاربة العوارض الصادة جريحا؛ فلا عيش هنيئا، ولا موت مريحا.
وجُملة الأمر في التحقيق: أن أدهى ما يلقاه السالك للطريق فقد الدليل، مع ذهن لعدم نور الفرقان كليل، وقلب بصدمات الأضغاث5 عليل؛ فيمشي على غير سبيل، وينتمي إلى غير قبيل، إلى أن مَنَّ الرب الكريم، البر الرحيم، الهادي من يشاء إلى صراط مستقيم؛ فبُعثت له أرواح تلك الجسوم، وظهرت حقائق تلك الرسوم، وبدت مسميات تلك الوسوم؛ فلاح في أكنافها الحق واستبان، وتجلى من تحت سحابها شمس الفرقان وبان، وقويت النفس الضعيفة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الطبعات الثلاث والأصل.
2 أي: ملتئمة في تضاعيف معالمه.
3 في الأصل: "سخيا".
4 أي: منهكا هزيلا. انظر: "لسان العرب" "ط ل ح".
وعلق "خ" هنا ما نصه: "من قولهم: طلح البعير طلحا وطلاحة، إذا أعيا؛ فهو طليح".
5 الأضغاث: الأخلاط، ومنه أضغاث الأحلام لما التبس منها، والمراد منها في هذه الجملة مثارات الحيرة، وشبه الباطل. "خ".

 

ج / 1 ص -9-            وشجُع القلب الجبان، وجاء الحق فوصل أسبابه وزهق الباطل فبان، فأورد من أحاديثه الصحاح الحسان1، وفوائده الغريبة البرهان، وبدائعه الباهرة للأذهان؛ ما يعجز عن تفصيل بعض أسراره العقل، ويقصر عن بث معشاره اللسان، إيرادا يميز المشهور من الشاذ، ويحقق مراتب العوام والخواص والجماهير والأفذاذ، ويُوفي حق المقلد والمجتهد والسالك والمربي والتلميذ والأستاذ، على مقاديرهم في الغباوة والذكاء والتواني والاجتهاد والقصور والنفاذ، وينزل كلا منهم منزلته حيث حل، ويُبصره في مقامه الخاص به بما دقَّ وجلَّ، ويحمله فيه على الوسط الذي هو مجال العدل والاعتدال، ويأخذ بالمختلفين على طريق مستقيم بين الاستصعاد والاستنزال؛ ليخرجوا من انحرافي التشدد والانحلال، وطرفي التناقض والمُحال؛ فله الحمد كما يجب لجلاله، وله الشكر على جميل إنعامه وجزيل إفضاله.
ولما بدا من2 مكنون السر ما بدا ووفق الله الكريم لما شاء منه وهدى, لم أزل أقيد من أوابده، وأضم من شوارده تفاصيل وجُملا، وأسوق من شواهده في مصادر الحُكم وموارده مبينا لا مجملا، معتمدا على الاستقراءات الكلية، غير مقتصر على الأفراد الجزئية، ومبينا أصولها النقلية بأطراف من القضايا العقلية، حسبما أعطته الاستطاعة والمنة، في بيان مقاصد الكتاب والسنة، ثم استخرت الله تعالى في نظم تلك الفرائد، وجمع تلك الفوائد، إلى تراجم تردها إلى أصولها، وتكون عونا على تعقلها وتحصيلها؛ فانضمت إلى تراجم الأصول الفقهيه، وانتظمت في أسلاكها السَّنِية البهية؛ فصار كتابا منحصرا في خمسة أقسام3:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بل فيه أحاديث موضوعة وضعيفة؛ كما بيناه في التخريج، والله الموفق.
2 في "ط": "من".
3 "القسم؛ بالفتح: مصدر قسم الشيء يقسمه قسما، وبالكسر: النصيب والحظ، والجمع أقسام... وحقيقته أنه جزء من جملة تقبل التقسيم". "ماء".

 

ج / 1 ص -10-         الأول:
في المقدمات1 العلمية المحتاج إليها في تمهيد المقصود.
والثاني:
في الأحكام وما يتعلق بها من حيث تصورها والحكم بها أو عليها، كانت من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف.
والثالث:
في المقاصد الشرعية في الشريعة وما يتعلق بها من الأحكام.
والرابع:
في حصر الأدلة الشرعية وبيان ما ينضاف إلى ذلك فيها على الجملة وعلى التفصيل، وذكر مآخذها، وعلى أي وجه يُحكم بها على أفعال المكلفين.
والخامس:
في أحكام الاجتهاد والتقليد، والمتصفين بكل واحد منهما، وما يتعلق بذلك من التعارض والترجيح والسؤال والجواب.
وفي كل قسم من هذه الأقسام مسائل وتمهيدات، وأطراف وتفصيلات؛ يتقرر بها الغرض المطلوب، ويقرب بسببها تحصيله للقلوب.
ولأجل ما أودع فيه من الأسرار التكليفية المتعلقة بهذه الشريعة الحنيفية، سميته بـ"عنوان التعريف بأسرار التكليف"، ثم انتقلت عن هذه السيماء لسند غريب، يقضي العجب منه الفطن الأريب، وحاصله أني لقيت يوما بعض الشيوخ الذين أحللتهم مني محل الإفادة، وجعلت مجالسهم العلمية محطا للرحل ومُناخا للوفادة، وقد شرعت في ترتيب الكتاب وتصنيفه، ونابذت الشواغل دون تهذيبه وتأليفه؛ فقال لي: رأيتك البارحة في النوم، وفي يدك كتاب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "جمع مقدمة بكسر الدال وفتحها، وهي بالكسر أفصح، وهي من كل شيء أوله.
والعلمية المنسوبة للعلم أي: المعرفة احترازا مما ينسب إلى العمل.
والمحتاج المفتقر.
وتمهيد الأمر: تسويته وإصلاحه وجعله وطئا سهلا، والمقصود الشيء الذي يقصد إتيانه لفائدة مرغوبة" "ماء".

 

ج / 1 ص -11-         ألفته فسألتك عنه، فأخبرتني أنه كتاب "الموافقات"، قال: فكنت أسألك عن معنى هذه التسمية الظريفة، فتخبرني أنك وفقت به بين مذهبي ابن القاسم1 وأبي حنيفة. فقلت له: لقد أصبتم الغرض بسهم من الرؤيا الصالحة مُصيب، وأخذتم من المبشرات النبوية بجزء صالح ونصيب؛ فإني شرعت في تأليف هذه المعاني، عازما على تأسيس تلك المباني، فإنها الأصول المعتبرة عند العلماء، والقواعد المبني عليها عند القدماء. فعجب الشيخ من غرابة هذا الاتفاق، كما عجبت أنا من ركوب هذه المفازة وصحبة هذه الرفاق؛ ليكون -أيها الخل الصفي، والصديق الوفي- هذا الكتاب عونا لك في سلوك الطريق، وشارحا لمعاني الوفاق والتوفيق، لا ليكون عمدتك في كل تحقق وتحقيق، ومرجعك في جميع ما يعنُّ لك من تصور وتصديق؛ إذ قد صار علما من جملة العلوم، ورسما كسائر الرسوم، وموردا لاختلاف العقول وتعارض الفهوم، لا جَرَمَ أنه قرب عليك في المسير، وأعلمك كيف ترقى في علوم الشريعة وإلى أين تسير، ووقف بك من الطريق السابلة على الظَّهر، وخطب لك عرائس الحكمة ثم وهب لك المهر.
فقدِّمْ قَدَم عزمك؛ فإذا أنت بحول الله قد وصلت، وأقبل على ما قِبَلك منه؛ فها أنت إن شاء الله قد فزت بما حصلت، وإياك وإقدام الجبان، والوقوف مع الظن والحسبان2، والإخلاد إلى مجرد التصميم من غير بيان، وفارق وَهَد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خالف ابن القاسم الإمام مالكا في مسائل كثيرة؛ فوصفه بعض الفقهاء بأنه مجتهد مطلق، وذهب الأكثرون إلى أنه مجتهد في المذهب؛ أي: مقيد النظر بأصول مالك، ولهذا كان أهل الأندلس -وهم مقتدون بمذهب مالك- يشرطون في سجلات قرطبة أن لا يخرج القاضي عن قول ابن القاسم ما وجده، ولم يتركوا العمل بقوله إلا في ثماني عشرة مسألة. "خ".
2 كذا في "ط" وحدها، وفي سائر النسخ: "مع الطرق الحسان"!! وفسرها "خ" بقوله: "لا يشغلك جمال الطريق عن السير إلى الغايات الشريفة، وكثير من القارئين من يلهيه حسن أساليب القول عن الغوص في أعماقه واقتناص حكمه البديعة ومراميه السامية".

 

ج / 1 ص -12-         التقليد راقيا إلى يَفَاع الاستبصار1، وتمسك من هديك بهمة2 تتمكن بها من المدافعة والاستنصار إذا تطلعت الأسئلة الضعيفة والشبه القصار، والبس التقوى شعارا، والاتصاف بالإنصاف دثارا، واجعل طلب الحق لك نِحْلَة، والاعتراف به لأهله ملة، لا تملك [قلبك]3 عوارض الأغراض، ولا تُغير4 جوهرة قصدك طوارق الإعراض، وقف وقفة المتخيرين لا وقفة المتحيرين؛ إلا إذا اشتبهت المطالب، ولم يلح وجه المطلوب للطالب؛ فلا عليك من الإحجام وإن لجَّ الخصوم، فالواقع في حمى المشتبهات هو المخصوم، والواقف دونها هو الراسخ المعصوم، وإنما العار والشنارُ5 على من اقتحم المناهي فأوردته النار، لا ترد مشرع العصبية، ولا تأنف من الإذعان إذا لاح وجه القضية أنفة ذوي النفوس العصية، فذلك مرعى لسوامها وَبيل، وصدود عن سواء السبيل.
فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار، وعمي عنك وجه الاختراع فيه والابتكار وغر6 الظان أنه شيء ما سُمع بمثله ولا ألف في العلوم الشرعية الأصلية أو الفرعية ما نُسج على منواله أو شُكل بشكله، وحسبك من شر سماعه، ومن كل بدع في الشريعة ابتداعه؛ فلا تلتفت إلى الإشكال دون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جعل التقليد بمنزلة الوهد، وهو المنخفض من الأرض؛ لأن المقلد لا يرمي ببصره إلى ما وراء قول متبوعه أو فعله، فكأنه في منحدر تمنعه جوانبه من أن يمد عينه إلى ما خلفه من ملكوت السموات والأرض، وجعل التبصر بمكان اليفاع وهو الرابية؛ لأن المتبصر لا يقف بفكره جامدا على ما يسبق إليه من قول أو يشهده من عمل، بل ينفذ ببصيرته الصافية إلى مرتقى الاستدلال؛ فكأنه قائم على أكمة يشرف منها على مواقع شتى ليتخير من بينها أبدع المناظر وأصفى الموارد "خ".
2 في نسخة "خ": "من تهديك بمنة تتمكن".
3 ليست في الأصل ولا في "ط"، وضبط ناسخ "ط" "تُمِلْكَ" من "الميلان".
4 في "د": "تغر".
5 في حاشية الأصل: الشنار, بالفتح: أقبح العيب والعار، الأمر المشهور بالشنعة. ا. هـ. "قاموس".
6 في "ط": "وظنَّ".

 

ج / 1 ص -13-         اختبار، ولا ترْمِ بمظنة الفائدة على غير اعتبار؛ فإنه بحمد الله أمر قررته الآيات والأخبار، وشد معاقده السلف الأخيار، ورسم معالمه العلماء الأحبار، وشيد أركانه أنظار النظار1، وإذا وضُح السبيلُ لم يجب2 الإنكار، ووجب قبول ما حواه والاعتبار بصحة ما أبداه والإقرار، حاشا ما يطرأ على البشر من الخطأ والزلل ويطرق صحة أفكارهم من العلل؛ فالسعيد من عُدَّت سقطاته، والعالم من قلت غلطاته.
وعند ذلك فحق على الناظر المتأمل، إذا وجد فيه نقصا أن يكمل، وليحسن الظن بمن حالف الليالي والأيام، واستبدل التعب بالراحة والسهر بالمنام؛ حتى أهدى إليه نتيجة عُمره، ووهب له يتيمة دهره؛ فقد ألقى إليه مقاليد ما لديه، وطوقه طوق الأمانة التي في يديه، وخرج عن عهدة البيان فيما وجب عليه، و
"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه"3.
جعلنا الله من العاملين بما علمنا، وأعاننا على تفهيم ما فهمنا، ووهب لنا علما نافعا يبلغنا رضاه، وعملا زاكيا يكون عدة لنا يوم نلقاه، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
وها أنا أشرع في بيان الغرض المقصود، وآخذ في إنجاز ذلك الموعود، والله المستعانُ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: تأمل الحفظة. انظر: "مختار الصحاح" "ن ظ ر".
2 من "أجبى" بمعنى أخفى، مأخوذا من الإجباء، وهو أن يغيب الرجل إبله عن المتصدق، والمعنى: أن السبيل الواضح لا يتمكن المنكر من إخفائه. "خ".
3 الحديث في "الصحيحين" وغيرهما، ولم يصح إلا عن عمر -رضي الله عنه- وسيأتي تخريجه "ص459".

 

ج / 1 ص -17-         المقدمة الأولى1
إن أصول الفقه2 في الدين قطعية لا ظنية، والدليل على ذلك أنها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نحو ما عند المصنف تحت هذه المسألة في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 228-234، و20/ 62-64".
2 "قوله: "أصول" جمع أصل، وهو في الاصطلاح ما يبنى عليه غيره عكس الفرع؛ فإنه ما ينبني على غيره.
والفقه لغة: الفهم، وفي الاصطلاح: الأحكام الشرعية التي طريقها طريق المجتهدين والدين والجزاء والعبادة، وهو المراد هنا.
والقطعي: الذي لا شك فيه، وتراها وتبصرها.
وظنية: منسوبة إلى الظن، وهو الراجح من الأمر، والمرجوح يسمى وهما، والمستوي يسمى شكا". "ماء".
وكتب "د" ما نصه: "تطلق الأصول على الكليات المنصوصة في الكتاب والسنة كـ
"لا ضرر ولا ضرار"، و{لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، و{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، "إنما الأعمال بالنيات"، "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة"، وهكذا، وهذه تسمى أدلة أيضا؛ كالكتاب، والسنة، والإجماع... إلخ. وهي قطعية بلا نزاع، وتطلق أيضا على القوانين المستنبطة من الكتاب والسنة، التي توزن بها الأدلة الجزئية عند استنباط الأحكام الشرعية منها، وهذه القوانين هي فن الأصول؛ فمنها ما هو قطعي باتفاق، ومنها ما فيه النزاع بالظنية والقطعية؛ فالقاضي ومن وافقه على أن من هذه المسائل الأصولية ما هو ظني، والمؤلف بصدد معالجة إثبات كون مسائل الأصول قطعية بأدلته الثلاثة الأول وبالأدلة الأخرى التي جاء بها في صدد الرد على المازري في اعتراضه على القاضي، ثم قرر أخيرا أن ما كان ظنيا يطرح من علم الأصول؛ فيكون ذكره تبعيا لا غير".

 

ج / 1 ص -18-         راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك؛ فهو قطعي1.
بيان2 الأول ظاهر بالاستقراء المفيد للقطع3.
وبيان الثاني من أوجه:
أحدُها4: أنها ترجع إما إلى أصول عقلية5، وهي قطعية، وإما إلى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خفي الوجه الذي بسطه المصنف في هذه المقدمة على بعض الكاتبين في الأصول؛ فقال: من أصول الفقه ما ليس بقطعي؛ كحجية الاستصحاب، ومفهوم المخالفة، وستطلع إن شاء الله على أن من قرر أصلا كالاستصحاب أو سد الذرائع أو المصالح المرسلة؛ إنما انتزعه من موارد متعددة من الشريعة حتى قطع بأنه من الأصول المقصودة في بناء الأحكام. "خ".
قال "ماء": "قطعية أبدا في جميع الدهر ولا تكون ظنية".
قلت: الخلاف في هذه المسألة يبدو أنه راجع إلى عدم تحرير محل النزاع فقط؛ فالقائلون بأن "أصول الفقه" قطعية لا تحتمل الظنيات -ومنهم المصنف-؛ يقصدون "أصول" الأدلة، والقواعد الكلية للشريعة، ويعتبرون ما سوى ذلك من المباحث التفصيلية والاجتهادات التطبيقية ليس من "أصول" الفقه، وإن بُحث في علم "أصول الفقه" وكتبه، وأما القائلون بأن أصول الفقه تشتمل على كثير من الظنيات؛ فإنما يتكلمون عن "علم أصول الفقه"، حيث أدرجت فيه كثير من الظنيات، ودليل ظنيتها كثرة الخلاف فيها، وهو ما سعى المصنف إلى إقصائه من "أصول الفقه"، وافتتح كتابه بالتأكيد على أن "أصول الفقه" قطعية لا ظنية، تأمل اعتراض أستاذنا الدريني في "بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأدلته" "1/ 20" تجد مصداق التوجيه السابق، وقد ذكره الأستاذ أحمد الريسوني في "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص140".
2 في "م": "وبيان".
3 فإنا إذا تصفحنا جميع مسائل علم الأصول نقطع بأنها مبنية على كليات الشريعة الثلاث، واستقراء جميع الأفراد فيه ممكن؛ فإنها مسائل محصورة "د".
4 حاصله أن كليات الشريعة مبنية؛ إما على أصول عقلية، وإما على استقراء كلي من الشريعة، وكلاهما قطعي؛ فهذه الكليات قطعية، فما ينبني عليها من مسائل الأصول قطعي "د".
5 أي: راجعة إلى أحكام العقل الثلاثة كما سيذكره في المقدمة الثانية تفصيلا. "د".

 

ج / 1 ص -19-         الاستقراء الكلي1 من أدلة الشريعة، وذلك قطعي أيضا، ولا ثالث2 لهذين إلا المجموع منهما، والمؤلف من القطعيات قطعي، وذلك أصول الفقه.
والثاني3: أنها لو كانت ظنية؛ لم تكن راجعة إلى أمر عقلي؛ إذ الظن لا يقبل في العقليات، ولا إلى كلي شرعي لأن الظن إنما يتعلق بالجزئيات4؛ إذ لو جاز تعلق الظن بكليات الشريعة؛ لجاز تعلقه بأصل الشريعة لأنه الكلي الأول5، وذلك غير جائز عادة6 -وأعني بالكليات7 هنا: الضروريات،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا يتأتى عادة أن يكون المستنبطون لقاعدة "أن الأمر للوجوب" مثلا وقفوا على كل أمر صدر من الشارع حتى يتحقق الاستقراء الكلي المعروف الموجب لليقين، لكن المطلوب هنا القطع؛ أي: الجزم، ويكفي لذلك الكثرة المستفيضة الإفراد من كل نوع من أنواع الأمر الواردة في مقاصد الشريعة الثلاثة: الضروريات والحاجيات والتحسينيات، ومثل هذا كافٍ في عده استقراء كليا يوجب القطع؛ لأن ما لم يطلع عليه المستنبط من الأوامر لا يخرج عن كونه فردا من أنواع الأوامر التي اطلعوا عليها؛ فلا يترتب عليه إخلال بالقاعدة.
2 سيأتي في المقدمة الثانية زيادة: العادي؛ فلعله توسع هنا بإدراجه في العقلي "د".
3 إثبات للمطلوب بإبطال نقيضه؛ لأنه يترتب على كونه ظنية حصول ما لا يجوز عادة، وهو تعلق الظن بأصل الشريعة، وأيضا حصول الشك فيها، وأيضا جواز تبديلها، وكلها باطلة "د".
قلت: وانظر في هذا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 112-126".
4 لا الكليات الشرعية بدليل قوله: "إذ لو جاز..."؛ فهو روح الدليل "د".
5 أي: بملاحظة أنها جاءت بعد الاستقراء الكلي؛ فيصح قوله: "لجاز..." إلخ، وأصل الشريعة المقطوع بها هي الكلي الأول الذي تفرعت عنه القوانين والكليات الأخرى، وحيث كان الأصل الأول مقطوعا به، وكان التفريع عليه بطريق الاستقراء الكلي؛ فحكم الفرع حينئذ يكون حكما للأصل، والعكس "د".
6 لأنه بعد قيام الدليل على الأصل والقطع به يستحيل عادة أن يحصل فيه ظن بدل القطع، ولم يقل عقلا؛ لأنه لا يمنع العقل حصول الظن للشخص في شيء بعد القطع بالدليل؛ فإنه لا يلزم من عرض ذلك محال عقلا. "د".
7 أي: التي قلنا: إنها مرجع لمسائل الأصول "د".

 

ج / 1 ص -20-         والحاجيات، والتحسينيات1-، وأيضا لو جاز تعلق الظن بأصل الشريعة؛ لجاز تعلق الشك بها، وهي لا شك فيها، ولجاز تغييرها وتبديلها، وذلك خلاف ما ضمن الله -عز وجل- من حفظها.
والثالث:
أنه لو جاز جعل الظني2 أصلا في أصول الفقه؛ لجاز جعله أصلا في أصول الدين، وليس كذلك باتفاق، فكذلك هنا؛ لأن نسبة أصول الفقه من أصل الشريعة كنسبة أصول الدين، وإن تفاوتت في المرتبة؛ فقد استوت في أنها كليات معتبرة3 في كل ملة، وهي داخلة في حفظ الدين من الضروريات.
وقد قال بعضهم: لا سبيل إلى إثبات أصول الشريعة بالظن؛ لأنه تشريع، ولم نُتَعبد بالظن إلا في الفروع4، ولذلك لم يعد القاضي ابن الطيب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "الظن".
2 استدلال خطابي؛ لأنه لا يتأتى اعتبار ذلك في جميع مسائل الأصول؛ حتى ما اتفقوا عليه منها، إنما المعتبر في كل ملة بعض القواعد العامة فقط، وكان يجدر به وهو في مقام الاستدلال العام على قطعية مسائل الأصول ومقدماتها ألا يذكر مثل هذا الدليل "خ".
3 "أما الضروريات؛ فمعناها: أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج، وهي خمس: حفظ الدين، والنفس, والنسل، والمال، والعقل.
وأما الحاجيات؛ فمعناها: أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع التضيق؛ كالرخص، وإباحة الصيد، والتمتع بالطيبات مما هو حلال.
وأما التحسينيات؛ فمعناها: الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات؛ كإزالة النجاسة، وستر العورة، وأخذ الزينة" "ماء".
4 ذهبت طائفة إلى أن الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بالطرق المفيدة للعلم، متمسكين بقوله تعالى:
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، وقوله: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}، وأجاب الجمهور عن الآيتين بأنهما من قبيل العام المخصوص بالأدلة القائمة على العمل بما يفيد الظن في الفروع؛ كأدلة العمل بخبر الآحاد، أو أن العمل بمثل خبر الآحاد حيث كان يستند إلى الدلائل الموجبة للعمل عند ظن الصدق كان وجوبه معلوما قطعا؛ فالظن واقع في طريق الحكم، وقد انضمت إليه الدلائل القاطعة على وجوب العمل بمقتضى هذا الظن؛ فلم يكن العامل بما يفيده خبر الآحاد مثلا متبعا لمجرد الظن، بل مستندا إلى ما يفيد العلم بأن ذلك الحكم المنتزع بطريق مظنون هو ما ناطه الشارع بعهدته "خ".

 

ج / 1 ص -21-         من الأصول تفاصيل العلل، كالقول في عكس العلة، ومعارضتها، والترجيح بينها وبين غيرها، وتفاصيل أحكام الأخبار، كأعداد الرواة، والإرسال؛ فإنه ليس بقطعي.
واعتذر ابن الجويني1 عن إدخاله في الأصول بأن التفاصيل المبنية على الأصول المقطوع بها داخلة بالمعنى2 فيما دل عليه الدليل القطعي.
قال المازري: وعندي أنه لا وجه للتحاشي عن عد هذا الفن من الأصول وإن كان ظنيا، على طريقة القاضي في أن الأصول هي أصول العلم3؛ لأن تلك الظنيات قوانين كليات وضعت لا لأنفسها4، لكن ليُعْرَض عليها أمر غير معين مما لا ينحصر. قال: فهي في هذا كالعموم5 والخصوص. قال: ويحسن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "البرهان" "1/ 85-86".
2 لا يخفى أن اعتبار مثل هذا يؤدي إلى دعوى أن الفروع قطعية أيضا "د".
3 أصول العلم قوانينه التي يتألف منها؛ ككون الإجماع أو القياس حجة، والمطلق يحمل على المقيد والعام يقبل التخصيص، ودلالته على جميع أفراده قطعية أو ظنية، أما الأصول بمعنى الأدلة؛ فهي الكتاب, والسنة، والإجماع، والقياس، والاستدلال. فقوله تعالى:
{وَآتَوُا الزَّكَاةَ} أصل بمعنى الدليل، وقولك بعد: "والأمر للوجوب" أصل من أصول العلم "خ".
4 أي: لا لتعتقد حتى يلزم فيها ثبوتها على وجه قطعي "د".
5 لعله يريد أن القاعدة بالنسبة لجزئيات الأدلة كالعام بالنسبة لجزئياته، وحيث إن جزئيات الأدلة يلحقها الظن في دلالتها؛ فلا مانع أن تكون الكليات التي تنطبق عليها كانطباق العام على الخاص يلحقها الظن أيضا "د".

 

ج / 1 ص -22-         من أبي المعالي أن لا يعدها من الأصول؛ لأن الأصول عنده [هي الأدلة، والأدلة عنده]1 ما يفضي إلى القطع، وأما القاضي؛ فلا يحسن به إخراجها من الأصول، على أصله الذي حكيناه عنه. هذا ما قال.
والجواب2: أن الأصل على كل تقدير لا بد أن يكون مقطوعا به؛ لأنه إن كان مظنونا تطرق إليها احتمال الإخلاف، ومثل هذا لا يجعل أصلا في الدين عملا بالاستقراء، والقوانين الكلية لا فرق بينها3 وبين الأصول الكلية التي نص عليها، ولأن الحفظ المضمون في قوله تعالى:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، إنما المراد به حفظ أصوله الكلية المنصوصة4، وهو المراد بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] أيضا، لا أن المراد5 المسائل الجزئية؛ إذ لو كان كذلك؛ لم يتخلف عن الحفظ جزئي من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليست في الأصل.
2 أي: عن القاضي؛ أي: إن القاضي وإن قال: إن الأصول هي تلك القوانين؛ فهذا لا ينافي أنه يقول: إنها قطعية؛ لأن كل ما كان ظنيا لا يعد من الأصول؛ فسواء أريد بالأصول الأدلة من الكتاب والسنة... إلخ أو أريد بها تلك القواعد؛ لا بد أن تكون قطعية، ومنه يُعلم أن قوله: "لأن تلك الظنيات... إلخ" من كلام المازري لا من كلام القاضي، ومعلوم أن الغرض من جلب كلام القاضي والمازري تصفية المقام ورد شبهة المازري ليتم له أن أصول الفقه على أي تقدير في معناها قطعية، سواء كانت هي القواعد أو الأدلة من الكتاب والسنة، أو الكليات الشرعية المنصوصة. "د".
3 مجرد دعوى؛ إلا أن يجعل تفريعا على ما قبله فتكون الفاء ساقطة "د".
4 مسلم، ولكنك تعمم في المستنبطة الصرفة أيضا "د".
وانظر في معنى الآية: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "27/ 447"، و"المحرر الوجيز" "3/ 351-352" لابن عطية.
5 سيأتي له ما يخالف هذا؛ إذ يقول في المقدمة التاسعة: "ولذا كانت الشريعة محفوظة أصولها وفروعها"، ويمكن الجمع بين كلاميه بأن مراده هنا نفي حفظ الفروع بذاتها، وهناك إثبات حفظها بنصب أدلتها الكافية لمن توجه إليها بفهم راسخ، فإن أخطأها بعض؛ أصابها بعض آخر، فهي محفوظة في الجملة "د".

 

ج / 1 ص -23-         جزئيات الشريعة، وليس كذلك لأنا نقطع بالجواز، ويؤيده الوقوع؛ لتفاوت الظنون، وتطرق الاحتمالات في النصوص الجزئية، ووقوع الخطأ فيها قطعا؛ فقد وُجد الخطأ في أخبار الآحاد وفي معاني الآيات؛ فدل على أن المراد بالذكر المحفوظ ما كان منه كليا1، وإذ ذاك يلزم أن يكون كل أصل قطعيا.
هذا على مذهب أبي المعالي، وأما على مذهب القاضي, فإن إعمال الأدلة القطعية أو الظنية إذا كان متوقفا على تلك القوانين التي هي أصول الفقه2؛ فلا يمكن الاستدلال بها إلا بعد عرضها عليها, واختبارها بها، ولزم أن تكون مثلها، بل أقوى منها؛ لأنك أقمتها مُقام الحاكم على الأدلة، بحيث تُطرح الأدلة إذا لم تجز على مقتضى تلك القوانين؛ فكيف يصح أن تُجعل الظنيات قوانين لغيرها3؟
ولا حجة في كونها غير مرادة لأنفسها حتى يستهان بطلب القطع فيها؛ فإنها حاكمة على غيرها؛ فلا بد من الثقة بها في رتبتها، وحينئذ يصلح أن تُجعل قوانين، وأيضا، لو صح كونها ظنية؛ لزم منه جميع ما تقدم في أول المسألة، وذلك غير صحيح، ولو سلم ذلك كله؛ فالاصطلاح اطرد على أن المظنونات لا تُجعلُ أصولا، وهذا كافٍ في اطراح الظنيات من الأصول بإطلاق، فما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كليا منصوصا كما قال أولا؛ فيمنع قوله بعد: يلزم أن يكون كل أصل قطعيا، فإذا كان غرضه تقرير مذهب أبي المعالي، وأن القطع إنما هو في الكليات المنصوصة في الشريعة بدون تعرض للقوانين المستنبطة؛ لا يكون لذكره هنا فائدة تعود على غرضه من قطعية مسائل الأصول، وإذا كان يقيس القوانين على النصوص كما هو المفهوم من قوله: "لا فرق بينها وبين الأصول التي نص عليها"؛ فهو قياس لم يذكر له علة صحيحة "د".
2 في "ط": "أصول العلم".
3 أي: من القطعيات التي تعرض فيما يعرض عليها، وقد يقال: إنها جعلت قوانين لاستخراج الفروع من القطعيات والظنيات، وليست قوانين لنفس القطعيات، والفروع المستنبطة بها ظنية ولا ضير في هذا "د".

 

ج / 1 ص -24-         جرى1 فيها مما ليس بقطعي تفريعا عليه بالتبع، لا بالقصد الأول2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رجوع عن قسم عظيم مما شملته الدعوى، ولكنه مقبول ومعقول؛ فإن من مسائل الأصول ما هو قطعي مجمع عليه، ومنها ما هو محل للنظر، وتشعب وجوه الأدلة إثباتا وردا، راجع "الأسنوي على المنهاج" في تعريف الأصول على أنه -بهذه الخاتمة التي طرح بها كثيرا من القواعد المذكورة في الأصول جزافا دون تحديد لنوع ما يطرح- صار لا يُعرف مقدار ما بقي قطعيا وما سلم فيه أنه ظني، وهذا يقلل من فائدة هذه المقدمة. "د".
2 بعد ختم "ماء" هذا الفصل قال: "تنبيه: اعلم أني ذكرت في النظم تبعا للأصل أن أصول فقه الدين قطعية، ولا تكون ظنية، وتقدم ما تقدم من الكلام، ثم إني أقول: إن أصول الفقه عرفها صاحب "جمع الجوامع" أعني السبكي بقول: أصول الفقه: دلائل الفقه الإجمالية، وقيل: معرفتها، والأصولي: العارف بها وبطرق استفادتها ومستفيدها، والفقه: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية".
وقال في تعريفها سيدي عبد الله ابن الحاج إبراهيم العلوي في "مراقي السعود" "أصوله دلائل الإجمال"، قال في شرحه: "يعني أن أصول الفقه أدلته الإجمالية؛ لأن الأصل في الاصطلاح هو الدليل أو الأمر الراجح... والدليل الإجمالي هو الذي لا يعين مسألة جزئية كقاعدة "مطلق الأمر والنهي".
وفعله -صلى الله عليه وسلم- والإجماع، والقياس، والاستصحاب، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمبين والمجمل، والظاهر والمؤول، والناسخ والمنسوخ، وخبر الواحد..." إلى أن قال: "والقاعدة قضية كلية تعرف منها أحكام جزئياتها نحو مطلق الأمر للوجوب ومطلق النهي للتحريم، والإجماع والقياس والاستصحاب حجة، والعام يقبل التخصيص والخاص يقضي على العام... إلى غير ذلك من كلامهم في كتبهم, جزاهم الله خيرا" "ماء".

 

ج / 1 ص -25-         المقدمة الثانية:
إن المقدمات المستعملة في هذا العلم والأدلة المعتمدة فيه لا تكون إلا قطعية1؛ لأنها لو كانت ظنية لم تفد القطع في المطالب المختصة به، وهذا بين، وهي:
- إما عقلية؛ كالراجعة إلى أحكام العقل الثلاثة: الوجوب، والجواز، والاستحالة.
- وإما عادية، وهي تتصرف ذلك التصرف أيضا؛ إذ من العادي ما هو واجبٌ في العادة أو جائز أو مستحيل.
- وإما سمعية، وأجلها المستفاد من الأخبار المتواترة في اللفظ، بشرط أن تكون قطعية الدلالة، أو من الأخبار المتواترة في المعنى، أو المستفاد من الاستقراء في موارد الشريعة.
فإذًا الأحكام المتصرفة2 في هذا العلم لا تعدو الثلاثة: الوجوب،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لازم أو ملزوم لما تقدم له في المقدمة الأولى؛ فيجري عليه ما جرى عليها "د".
2 أي: التي تتركب منها مقدماته لا تتجاوز الأحكام الثلاثة، سواء كانت عقلية أو عادية أو سمعية، وقد يذكر في الأصول أن كذا حجة أو ليس بحجة؛ فهذا ليس من المقدمات، وإنما هو مما يتفرع على تلك المقدمات؛ إذ هو العرض الذاتي الذي يُراد إثباته لموضوعاته التي هي الأدلة بواسطة تلك المقدمات "د".

 

ج / 1 ص -26-         والجواز، والاستحالة، ويلحق بها الوقوع أو عدم الوقوع، فأما كون الشيء حجة أو ليس بحجة؛ فراجع إلى وقوعه كذلك، أو عدم وقوعه كذلك، وكونه صحيحا أو غير صحيح راجع1 إلى الثلاثة الأول، وأما كونه فرضا أو مندوبا أو مباحا أو مكروها أو حراما؛ فلا مُدخل له في مسائل الأصول من حيث هي أصول، فمن أدخلها فيها فمن2 باب خلط بعض العلوم ببعض.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنها بمعنى ثبوته أعم من أن يكون واجبا أو جائزا أو مستحيلا، يعني عقليا أوعاديا، لا خصوص العقلي "د".
2 إنما ذكروها من باب المقدمات لحاجة الأصولي إلى تصورها والحكم بها إثباتا ونفيا؛ كقوله: الأمر للوجوب والنهي للتحريم مثلا، وقد ذكرها هو وأطال في تحديدها؛ إلا أن يكون مراده كون كذا من الأفعال فرضا أو حراما مثلا، فإن هذا من الفروع الصرفة التي ليست من المقدمات في شيء "د".

 

ج / 1 ص -27-         المقدمة الثالثة1
الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم؛ فإنما تستعمل مركبة2 على الأدلة السمعية، أو مُعِينة في طريقها، أو محققة لمناطها، أو ما أشبه ذلك، لا مستقلة بالدلالة؛ لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي، والعقل ليس بشارع, وهذا مبيَّن في علم الكلام، فإذا كان كذلك؛ فالمعتمد بالقصد الأول الأدلة الشرعية، ووجود القطع3 فيها -على الاستعمال المشهور- معدوم، أو في غاية الندور

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المقدمة كبيان ودفع لما يرد على المقدمة قبلها "د".
وقارن ما فيها بكلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "19/ 228-234".
2 أي: لا تكون أدلة هذا العلم مركبة من مقدمات عقلية محضة، بل قد تكون إحدى المقدمات والباقي شرعية مثلا، وقد تكون معينة بأن يأتي الدليل كله شرعيا، ويستعان على تحقيق نتيجته بدليل عقلي، وقد تكون المقدمات العقلية أو العادية لا لإثبات أصل كلي، بل لتحقيق المناط؛ أي: لتطبيق أصل على جزئي من جزئياته، وذلك بالبحث في أن هذا الجزئي مندرج في موضوع القاعدة ليأخذ حكمها، وسيأتي أن هذا البحث قد يرجع للطب أو للصناعات المختلفة أو للعرف في التجارات والزراعات وغير ذلك؛ إلا أنه يلاحظ على ذلك أن تحقيق المناط من صناعة الفقيه المجتهد، لا من تحقيق مسائل الأصول في ذاتها، ومثل ذلك يقال في تنقيح المناط وتخريج المناط الآتيين له في الجزء الرابع؛ لأنها كلها من وظيفة الفقيه لا الأصولي؛ إلا أن يقال: لا مانع من تحقيق المناط في مسائل الأصول أيضا، لكن على وجه آخر غير طريقة ذلك الاصطلاح "د".
3 يستعمل القطع في دلالة الألفاظ؛ فيأتي على نوعين:
أولهما:
الجزم الحاصل في النص القاطع، وهو ما لا يتطرقه احتمال أصلا نحو
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وهذا ما يقصده المصنف في هذه المقدمة.
ثانيهما:
العلم الحاصل من الدليل الذي لم يقم بإزائه احتمال يستند إلى أصل يعتد به ولا يضره الاحتمالات المستندة إلى وجوه ضعيفة أو نادرة، وهذا المعنى هو الذي يقصده القائلون بأن دلالة العام على أفراده قطعية. "خ".

 

ج / 1 ص -28-         "أعني: في آحاد الأدلة"؛ فإنها إن كانت من أخبار الآحاد؛ فعدم إفادتها القطع ظاهر، وإن كانت متواترة؛ فإفادتها القطع موقوفة على مقدمات جميعُها أو غالبها ظني، والموقوف على الظني لا بد أن يكون ظنيا؛ فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو، وعدم الاشتراك، وعدم المجاز، والنقل الشرعي أو العادي، والإضمار، والتخصيص للعموم، والتقييد للمطلق، وعدم الناسخ، والتقديم والتأخير والمُعارض العقلي1، وإفادة القطع مع اعتبار هذه الأمور متعذر وقد اعتصم من قال بوجودها بأنها ظنية في أنفسها، لكن إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة؛ فقد تفيد اليقين، وهذا كله نادرٌ أو متعذر2.
وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع؛ فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع، وهذا نوع منه، فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموعٌ يفيد العلم؛ فهو الدليل المطلوب، وهو شبيه بالتواتر3 المعنوي، بل هو كالعلم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العقليات التي يصح لها أن تعارض لفظ الشارع ويتعين صرفه عن ظاهره لأجلها كمال* ما إذا عارضه الحس والمشاهدة إنما هي القضايا الثابتة بأدلة قاطعة، أما مجرد استحسان العقل واستقباحه؛ فلا يقف أمام نص الشارع لأنه قد يكون ناشئا عن عدم صفاء الفطرة والذوق، أو تغلب الهوى، وكثيرا ما يكون أثرا من آثار النشأة والبيئة الخاصة. "خ".
2 أي: فلا يفيد الاعتصام به بحالة مطردة في سائر الأدلة كما هو المطلوب "د".
3 وليس تواترا معنويا؛ لأن ذاك يأتي كله على نسق واحد؛ كالوقائع الكثيرة المختلفة التي تأتي جميعُها دالة على شجاعة علي مثلا بطريق مباشر، أما هذا؛ فيأتي بعضه دالا مباشرة على وجوب الصلاة، وبعضه بطريق غير مباشر، لكن يستفاد منه الوجوب؛ كمدح الفاعل لها، وذم التارك، والتوعد الشديد على إضاعتها، وإلزام المكلف بإقامتها ولو على جنبه إن لم يقدر على القيام، وقتال من تركها... إلخ، ولذلك عده شبيها بالمعنوي ولم يجعله معنويا "د".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا في الأصل، ولعل صوابه: "كما لو".

 

ج / 1 ص -29-         بشجاعة علي -رضي الله عنه- وجود حاتم1 المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما.
ومن هذا الطريق ثبت وجوب القواعد الخمس؛ كالصلاة، والزكاة، وغيرهما قطعا، وإلا فلو استدل مستدل على وجوب الصلاة بقوله تعالى:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 110] أو ما أشبه ذلك؛ لكان في الاستدلال بمجرده نظر من أوجه2، لكن خف3 بذلك من الأدلة الخارجية والأحكام المترتبة ما صار به فرض الصلاة ضروريا في الدين، لا يشك فيه إلا شاك في أصل الدين.
ومن ههنا4 اعتمد الناس في الدلالة على وجوب مثل هذا على دلالة الإجماع؛ لأنه قطعي وقاطع لهذه الشواغب.
وإذا تأملت أدلة كون الإجماع حجة، أو خبر الواحد أو القياس حجة؛ فهو راجع إلى هذا المساق5؛ لأن أدلتها مأخوذة من مواضع تكاد تفوت الحصر،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 193": "يشير إلى التواتر المعنوي، ومثله بالأخبار الواردة في سخاء حاتم؛ فإنها كثيرة، لكنها لم تتفق على سياق واحد، ومجموعها يفيد القطع بأنه كان سخيا، وكذلك الأخبار الواردة في شجاعة علي، واستيعاب ذلك متعسر؛ فرأيت أن أشير إلى شيء من ذلك..."، ثم سرد بعضا منها.
2 أي: كان استدلالا ظنيا لتوقفه على المقدمات الظنية المشار إليها "د".
3 في "ط": "حَفَّت".
4 أي: فبدل أن يسردوا الأدلة الجزئية، فيؤخذ في مناقشة كل دليل يورد بالمناقشات المشار إليها؛ يعدلون عن هذا الطريق القابل للمشاغبة إلى طريق ذكر الإجماع القاطع للشغب، وما ذلك إلا لأن كل دليل على حدته ظني لا يفيد القطع "د".
5 وهو شبه التواتر المعنوي "د".

 

ج / 1 ص -30-         وهي مع ذلك مختلفة المساق1، لا ترجع إلى باب واحد؛ إلا أنها تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالاستدلال عليه، وإذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضد بعضها بعضا، فصارت بمجموعها مفيدة للقطع؛ فكذلك الأمر في مآخذ الأدلة في هذا الكتاب2، وهي مآخذ الأصول؛ إلا أن المتقدمين من الأصوليين ربما3 تركوا ذكر هذا المعنى والتنبيه عليه، فحصل إغفاله من بعض المتأخرين؛ فاستشكل الاستدلال بالآيات على حدتها4، وبالأحاديث على انفرادها؛ إذ لم يأخذها مأخذ الاجتماع5، فكر عليها بالاعتراض نصا نصا، واستضعف الاستدلال بها على قواعد الأصول المراد منها القطع، وهي إذا أخذت على هذا السبيل6 غيرُ مشكلة، ولو أخذت أدلة الشريعة على الكليات والجزئيات مأخذ هذا المعترض؛ لم يحصل لنا قطع بحكم شرعي ألبتة؛ إلا أن نشرك العقل7، والعقل إنما ينظر من وراء الشرع؛ فلا بد من هذا الانتظام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كما أشرنا إليه؛ فلذا كان شبيها بالتواتر المعنوي وليس إياه "د".
2 فإنه بناها على هذه الطريقة بحالة اطردت له فيها "د".
3 إنما قال: ربما, ولم يقل: إنهم تركوه قطعا لأن الغزالي أشار إليه في دليل كون الإجماع حجة، كما تجيء الإشارة إليه, ولله در الغزالي؛ فإنه بإشارته لهذا في الإجماع جعل الشاطبي يستفيد منه كل هذه الفوائد الجليلة، ويتوسع فيه هذا التوسع، بل جعله خاصة كتابه؛ كما سيقول في آخره "د".
4 أي: كل آية على حدة بدون ضمها إلى سائر الآيات والأحاديث؛ حتى يصير النظر إليها نظرا إلى المجموع الذي يشبه التواتر "د".
5 في الأصل و"م": "الإجماع".
6 أي: سبيل الاجتماع الذي يصير كالإجماع من آحاد الأدلة على المعنى المطلوب "د".
7 أي: بالاستقراء والنظر إلى الأدلة منظومة في سلك واحد، ويحتمل أن يكون المعنى: إلا أن نحكم العقل في الأحكام الشرعية، ونقول: إنه يدركها بنفسه؛ فيحصل القطع بها من جهته وإن كان دليل السمع ظنيا، لكن العقل عندنا لا يدركها مباشرة، وإنما ينظر فيها من وراء الشرع؛ فتعين هذا الطريق الاستقرائي في إفادة السمعيات القطع "د".

 

ج / 1 ص -31-         في تحقيق الأدلة الأصولية.
فقد اتفقت1 الأمة -بل سائر الملل- على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس -وهي: الدين، والنفس, والنسل، والمال، والعقل- وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين, ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل عُلمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد، ولو استندت إلى شيء معين لوجب عادة تعيينه، وأن يرجع أهل الإجماع إليه، وليس كذلك2؛ لأن كل واحد منها بانفراده ظني، ولأنه كما لا يتعين في التواتر المعنوي أو غيره أن يكون المفيد للعلم خبر واحد دون سائر الأخبار، كذلك لا يتعين3 هنا لاستواء جميع الأدلة في إفادة الظن على فرض الانفراد، وإن كان الظن يختلف باختلاف أحوال الناقلين، وأحوال دلالات المنقولات، وأحوال الناظرين في قوة الإدراك وضعفه، وكثرة البحث وقلته، إلى غير ذلك.
فنحن إذا نظرنا4 في الصلاة؛ فجاء فيها:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 110] على وجوه، وجاء مدح المتصفين بإقامتها، وذم التاركين لها، وإجبار المكلفين على فعلها وإقامتها قياما وقعودا وعلى جنوبهم، وقتال من تركها أو عاند في تركها، إلى غير ذلك مما في هذا المعنى, وكذلك النفس: نُهي عن قتلها، وجُعل قتلها موجبا للقصاص متوعدا عليه، ومن كبائر الذنوب المقرونة بالشرك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تمثيل بأهم مسألة أصولية لا يمكن إثباتها بدليل معين، وإنما ثبتت بشبه التواتر المعنوي بأدلة لم ترد على سياق واحد وفي باب واحد "د".
2 بعدها في "ط": "الأنظار والقرائح".
3 في الأصل: "يعتني".
4 مثالان آخران في أهم المسائل الشرعية من الفروع "د".

 

ج / 1 ص -32-         كما كانت الصلاة مقرونة بالإيمان، ووجب سد رمق المضطر، ووجبت الزكاة والمواساة والقيام على من لا يقدر على إصلاح نفسه، وأقيمت الحكام والقضاة والملوك لذلك، ورتبت الأجناد لقتال من رام قتل النفس، ووجب على الخائف من الموت سد رمقه بكل حلال وحرام من الميتة والدم ولحم الخنزير، إلى سائر ما ينضاف لهذا [المعنى]1، علمنا يقينا وجوب الصلاة وتحريم القتل، وهكذا سائر الأدلة في قواعد الشريعة.
وبهذا امتازت الأصول من الفروع؛ إذ كانت الفروع مستندة إلى آحاد الأدلة وإلى مآخذ معينة، فبقيت على أصلها من الاستناد إلى الظن، بخلاف الأصول؛ فإنها مأخوذة من استقراء مقتضيات الأدلة بإطلاق، لا من آحادها على الخصوص.
فصل
وينبني على هذه المقدمة معنى آخر، وهو أن كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائما لتصرفات الشرع، ومأخوذا معناه من أدلته؛ فهو صحيح يُبنى2 عليه، ويُرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعا به؛ لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها كما تقدم؛ لأن ذلك كالمتعذر3.
ويدخل تحت هذا ضرب الاستدلال المرسل4 الذي اعتمده مالك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين من "ط" فقط.
2 في الأصل: "ينبني".
3 في "م": "كالمنعذر" بالنون، ومثل ما مضى عند الغزالي في "المنخول" "ص364".
4 أي: المصالح المرسلة، وهي التي لم يشهد لها أصل شرعي من نص أو إجماع، لا بالاعتبار ولا بالإلغاء، وذلك كجمع المصحف وكتابته؛ فإنه لم يدل عليه نص من قِبَل الشارع، ولذا توقف فيه أبو بكر وعمر أولا، حتى تحققوا من أنه مصلحة في الدين تدخل تحت مقاصد الشرع في ذلك، ومثله ترتيب الدواوين وتدوين العلوم الشرعية وغيرها؛ ففي مثل تدوين النحو مثلا لم يشهد له دليل خاص، ولكنه شهد له أصل كلي قطعي يلائم مقاصد الشرع وتصرفاته، بحيث يؤخذ حكم هذا الفرع منه، وأنه مطلوب شرعا وإن كان محتاجا إلى وسائط لإدراجه فيه "د".

 

ج / 1 ص -33-         والشافعي1؛ فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين؛ فقد شهد له أصل كلي، والأصل الكلي إذا كان قطعيا قد يساوي الأصل المعين, وقد يربو2 عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه، كما أنه قد يكون مرجوحا3 في بعض المسائل, حكم سائر الأصول المعينة المتعارضة في باب الترجيح، وكذلك أصل الاستحسان على رأي مالك، ينبني على هذا الأصل، لأن معناه يرجع4 إلى [تقديم]5 الاستدلال المرسل على القياس6، كما هو مذكور في موضعه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الأبياري في "شرح البرهان" في الاستدلال بالمصالح: "هو عين ما ذهب إليه مالك، وقد رام إمام الحرمين التفريق بين المذهبين، وهو لا يجد إلى ذلك سبيلا؛ فالمصلحة المرسلة يتمسك بها كثير من الأئمة؛ إلا أن الإمام مالكا عمل بها في بناء الأحكام أكثر من غيره". "خ".
2 في جميع الأصول: "بربي".
3 في "م" و"خ": "موجودا".
4 بناء على بعض تفاسير الاستحسان، وسيأتي غير ذلك له في الجزء الرابع، وأنه يقدم على الظاهر وعلى القياس؛ فمالك يستحسن تخصيصه بالمصلحة، وأبو حنيفة يستحسن تخصيصه بخبر الواحد؛ فلذا نسبه هنا لمالك "د".
5 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
6 أي: الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي، وذلك كبيع العرية بخرصها تمرا؛ فهو بيع رطب بيابس وفيه الغرر الممنوع بالدليل العام؛ إلا أنه أبيح رفعا لحرج المعرِي والمعرَى، ولو منع لأدى إلى منع العريّة رأسا وهو مفسدة، فلو اطرد الدليل العام فيه لأدى إلى هذه المفسدة؛ فيستثنى من العام، وسيأتي شرحه بإيضاح في المسألة العاشرة من كتاب الاجتهاد من الجزء الرابع، ومنه الاطلاع على العورات في التداوي أبيح على خلاف الدليل العام لأن اتباع العام في هذا يوجب مفسدة وضررا لا يتفق مع مقاصد الشريعة في مثله؛ فالاستحسان ينظر إلى لوازم الأدلة ويراعي =

 

ج / 1 ص -34-         فإن قيل1:
الاستدلال بالأصل الأعم على الفرع الأخص غير صحيح؛ لأن الأصل الأعم كلي، وهذه القضية المفروضة جزئية خاصة، والأعم لا إشعار له بالأخص؛ فالشرع وإن اعتبر كلي المصلحة، من أين يُعلم اعتباره لهذه المصلحة الجزئية المتنازع فيها؟
فالجواب:
أن الأصل الكلي إذا انتظم في الاستقراء [يكون]2 كليا جاريا مجرى العموم في الأفراد، [أما كونه كليا؛ فكما يأتي في موضعه إن شاء الله، وأما كونه يجري مجرى العموم في الأفراد]3؛ فلأنه في قوة اقتضاء وقوعه في جميع الأفراد، ومن هنالك استنبط لأنه إنما استنبط من أدلة الأمر والنهي والواقعين على جميع المكلفين؛ فهو كلي في تعلقه، فيكون عاما في الأمر به والنهي للجميع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مآلاتها إلى أقصاها، فلو أدت في بعض الجزئيات إلى عكس المصلحة التي قصدها الشارع؛ حجز الدليل العام عنها، واستثنيت وفاقا لمقاصد الشرع، وفي الشرع من هذا كثير جدا في أكثر أبوابه، وهو وإن لم ينص على أصل الاستحسان بأدلة معينة خاصة؛ إلا أنه يلائم تصرفاته ومأخوذ معناه من موارد الأدلة التفصيلية*؛ فيكون أصلا شرعيا وكليا يُبنى عليه استنباط الأحكام "د".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "لعل في العبارة حذفا، وأصلها: "يرجع إلى تقدم أصل الاستدلال المرسل على القياس"، قال الأبياري: الذي يظهر من مذهب مالك القول بالاستحسان، وحاصله استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي".
1 هذا الاعتراض يتجه على كل من المصالح المرسلة والاستحسان؛ لأن كلا منهما استدلال بأصل كلي على فرع خاص، والفرق بينهما أن الثاني تخصيص لدليل بالمصلحة، والأول إنشاء دليل بالمصلحة على ما لم يرد فيه دليل خاص "د".
2 ساقط من الأصل، "وفي "ط": "انتظم الاستقراء جرى مجرى...".
3 سقط من الأصل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع "التفصيلة".

 

ج / 1 ص -35-         لا يقال: يلزم على هذا اعتبار كل مصلحة موافقة لمقصد الشارع أو مخالفة، وهو باطل؛ لأنا نقول: لا بد من اعتبار الموافقة لقصد الشارع؛ لأن المصالح إنما اعتبرت مصالح من حيث وضعها الشارع كذلك, حسبما هو مذكور في موضعه1 من هذا الكتاب [بحول الله]2.
فصل
وقد أدى عدم الالتفات إلى هذا الأصل وما قبله إلى أن ذهب بعض الأصوليين إلى أن كون الإجماع حجة ظني لا قطعي3؛ إذ لم يجد في آحاد الأدلة بانفرادها4 ما يفيده القطع، فأداه ذلك إلى مخالفة من قبله من الأمة5 ومن بعده، ومال أيضا بقوم آخرين إلى ترك الاستدلال بالأدلة اللفظية في الأخذ بأمور عادية، أو الاستدلال بالإجماع على الإجماع6، وكذلك مسائل أخر غير الإجماع عرض فيها [هذا الإشكال فادعى فيها]7 أنها ظنية، وهي قطعية بحسب هذا الترتيب من الاستدلال، وهو واضح إن شاء الله تعالى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة الثامنة من كتاب المقاصد "د".
2 من "ط" فقط.
3 انظر في هذا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 267، 268، 270".
4 في "د": "بانفردها".
5 كذا في الأصول، ولعل صوابه: "الأئمة".
6 أي: إن عدم التفاتهم إلى التواتر المعنوي في حديث
"لا تجتمع أمتي على ضلالة" الذي استدل به الغزالي على حجية الإجماع، ونظرهم في الأحاديث الواردة نظرا إفراديا لكل حديث منها جعلهم يتركون الاستدلال بها على حجية الإجماع ويجنحون؛ إما إلى الاستدلال عليه بأمور عادية كالقرائن المشاهدة أوالمنقولة التي تدل عادة على اعتباره، وإما إلى الاستدلال عليه بالإجماع على القطع بتخطئة المخالف له، مع ما فيه من شبه المصادرة "راجع ابن الحاجب"، وبهذا البيان يعلم أن قوله في الأخذ إن لم يكن محرفا عن "والأخذ" أو "إلى الأخذ"؛ فهو بمعناه "د".
7 ساقط من "د"، وأثبته من الأصل و"خ" و"م".

 

ج / 1 ص -37-         المقدمة الرابعة:
كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية، أو آداب شرعية، أو لا تكون عونا في ذلك1؛ فوضعها في أصول الفقه عارية.
والذي يوضح ذلك أن هذا العلم لم يختص بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيدا له، ومحققا للاجتهاد فيه، فإذا لم يفد ذلك؛ فليس بأصل له، ولا يلزم على هذا أن يكون كل ما انبنى عليه فرع فقهي من جملة أصول الفقه، وإلا أدى ذلك إلى أن يكون سائر العلوم من أصول الفقه؛ كعلم النحو، واللغة، والاشتقاق, والتصريف، والمعاني، والبيان، والعدد، والمساحة، والحديث، وغير ذلك من العلوم التي يتوقف عليها تحقيق الفقه2، وينبني عليها من مسائله، وليس كذلك؛ فليس [كل ما يفتقر إليه الفقه يُعد من أصوله, وإنما اللازم أن كل أصل يُضاف إلى الفقه لا ينبني عليه فقه؛ فليس]3 بأصل له.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بطريق مباشر لا بالوسائط كما هو الحال في الاستعانة على الاستنباط بالعلوم الآتية؛ فهو يريد أن المقدمات التي ذكرها في كتابه فيها العون المباشر الذي يجعلها من الأصول، بخلاف المقدمات البعيدة مثل ما سيذكره من المباحث بعد "د".
2 تحقيقه غير استنباطه، ولهذا الغرض لم يقل: مسائله، بل: "من مسائله" "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط على ناسخ الأصل.

 

ج / 1 ص -38-         وعلى هذا يخرج عن أصول الفقه كثير من المسائل التي تكلم عليها المتأخرون وأدخلوها فيها؛ كمسألة ابتداء الوضع1، ومسألة الإباحة2 هل هي تكليف أم لا، ومسألة أمر المعدوم، ومسألة هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- متعبدا بشرع أم لا، ومسألة لا تكليف إلا بفعل، كما أنه لا ينبغي3 أن يُعد4 منها ما ليس منها، ثم البحث فيه في علمه وإن انبنى عليه الفقه؛ كفصول كثيرة من النحو، نحو معاني الحروف، وتقاسيم الاسم والفعل والحرف، والكلام على الحقيقة والمجاز، وعلى المشترك والمترادف، والمشتق، وشبه ذلك.
غير أنه يتكلم من الأحكام العربية في أصول الفقه على مسألة هي عريقة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أضف إليها مسألة الموضوع قبل الاستعمال لا حقيقة ولا مجازا، ونحو ذلك "د".
2 تكلم على المباح في خمس مسائل تأتي قريبا؛ فعليك أن تنظر فيها بضابطه في هذه المقدمة لتعرف الفرق بين البحث في كون الإباحة تكليفا أو لا، وبين تلك المسائل؛ حتى عد هذا خارجا عن الأصول وعد مباحثه الخمسة من الأصول. "د".
3 ذكر فيما قبل الكاف نوعا من المسائل التي لا يصح إدخالها في أصول الفقه، وجعل ضابطه كل مسألة لا ينبني عليها فقه، ومثل له بكثير من مبادئ الأحكام وبعض المبادئ اللغوية؛ كمسألة ابتداء الوضع، وهذا نوع آخر وهو ما ينبني عليه فقه، ولكنه ليس من مسائل الأصول، بل من مباحث علم آخر، وقد استوفى البحث فيه في علمه الخاص به، وذلك كمبادئ النحو واللغة، وبهذا البيان تعلم أن قوله: "ثم البحث فيه في علمه" جملة اسمية معطوفة على صلة ما، ولعل أصل النسخة: "وتم* البحث... إلخ" بجملة فعلية من التام؛ فحُرِّفت إلى ما ترى.
وبعد؛ فالمعروف أن مباحث النحو واللغة ذكرت في الأصول لا على أنها من مسائله، بل من مقدماته التي يتوقف عليها توقفا قريبا، نعم، كان ينبغي ألا يتوسعوا في بحثها وتحريرها كأنها مسائل من هذا العلم؛ لأنها محققة في علم آخر، ولعل هذا هو مراد المؤلف "د".
4 في الأصل: "لا يعد"، و"لا" ساقطة من جميع النسخ المطبوعة ومن "ط" و"ماء".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في الأصل المعتمد في التحقيق: "ثم" بمثلثة واضحة في أوله.

 

ج / 1 ص -39-         في الأصول، وهي أن القرآن [الكريم ليس فيه من طرائق كلام العجم شيء، وكذلك السنة، وأن القرآن]1 عربي، والسنة عربية, لا بمعنى أن القرآن يشتمل على ألفاظ أعجمية في الأصل أو لا يشتمل؛ لأن هذا من علم النحو واللغة، بل بمعنى أنه في ألفاظه ومعانيه وأساليبه عربي, بحيث إذا حقق هذا التحقيق سلك به في الاستنباط منه والاستدلال به مسلك كلام العرب في تقرير معانيها ومنازعها في أنواع مخاطباتها خاصة؛ فإن كثير من الناس يأخذون أدلة القرآن بحسب ما يعطيه العقل فيها، لا بحسب ما يُفهم من طريق الوضع، وفي ذلك فساد كبير وخروج عن مقصود الشارع، وهذه مسألة مبينة2 في كتاب المقاصد، والحمد لله.
فصل
وكل مسألة في أصول الفقه ينبني عليها فقه؛ إلا أنه لا يحصل من الخلاف فيها اختلاف3 في فرع من فروع الفقه؛ فوضع الأدلة على صحة بعض المذاهب أو إبطاله عاريّة أيضا، كالخلاف مع المعتزلة في الواجب المخير4،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د"، وأثبته من الأصل و"خ" و"م"، وسيأتي بسط من المصنف لهذه المسألة في "2/ 101 وما بعد".
2 في المسألة الأولى من النوع الثاني في "المقاصد" "د".
3 في "د" و"خ" و"ط": "خلاف".
4 فالجمهور قالوا: الواجب واحد مبهم يتحقق في الخارج في أحد هذه المعينات التي خير بينها. وقال المعتزلة: بل الواجب الجميع, قال الإمام في البرهان: "إنهم معترفون بأن من ترك الجميع لا يأثم إثم تارك واجبات، ومن فعل الجميع لا يثاب ثواب واجبات؛ فلا فائدة في هذا الخلاف عمليا، بل هو نظري صرف، لا يبنى عليه تفرقة في العمل؛ فلا يصح الاشتغال بأدلته في علم الأصول" "د".
وعلق "خ" في هذا الموطن بقوله: "ذهبت المعتزلة إلى أن الوجوب والتحريم يرجعان إلى =

 

ج / 1 ص -40-         والمحرم المخير1؛ فإن كل فرقة موافقة للأخرى في نفس العمل، وإنما اختلفوا في الاعتقاد بناء على أصل محرر في علم الكلام، وفي أصول الفقه له تقرير

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= صفات الأعيان، ونفى الجمهور أن يكونا راجعين إلى ذات المحكوم أو إلى صفة ذاتية أو عرضية، ويقولون: إنما هما تعلق أمر الله أو نهيه بالمخاطبين, ومناط الوجوب عند المعتزلة في مثل خصال الكفارة الجميع على وجه البدل، ويرجع إلى القول بأن الواجب هو القدر المشترك المتحقق في الخصال الثلاث، ومذهب الأشاعرة والفقهاء أن مناط الوجوب واحد منها لا بعينه؛ فالواجب كل خصلة على تقدير أن لا تسبق بأخرى، وحاول بعض الأصوليين أن يجعل لهذا الخلاف أثرا في الفروع؛ فقال: إذا ترك من وجبت عليه الكفارة جميع الخصال وقلنا للإمام المطالبة بالكفارات؛ أجبر بمقتضى مذهب الجمهور على فعل واحدة منها بدون تعيين، أما على مذهب المعتزلة؛ فيصح جبره على واحد بعينه؛ لأن الواجب عندهم القدر المشترك وهو يتأدى بأي خصلة فعلت".
وكتب ناسخ الأصل هنا ما نصه: "انظر هذا؛ فإن المسألة ذات أقوال أربعة:
الأول لأهل السنة:
إن الواجب واحد لا بعينه.
والثاني للمعتزلة:
إن الواجب هو الكل، ويسقط بواحد.
والثالث لهم أيضا:
إن الواجب معين عند الله تعالى، فإن فعل غيره؛ سقط.
والرابع:
وهو ما وقع التزاحم به بين أهل السنة والمعتزلة: إن الواجب هو ما يختاره المكلف.
وبنوا على الأول: إنه إذا فعل الجميع أنه يثاب على أعلاها ثواب الواجب، وعلى العمل في ثواب المندوب من حيث إنها أحدها، وإذا ترك الجميع يعاقب على أدناها، وبنوا على الثاني أنه يُثاب ثواب من فعل واجبات، ويعاقب على تركها عقاب من ترك واجبات؛ فإن الخلاف جاوز الاعتقاد إلى غيره؛ تأمل".
قلت: نقل إمام الحرمين في الهامش السابق عن المعتزلة يشوش على استدراك الناسخ على المصنف، فإن لم يصح عنهم النقل المذكور؛ فكلامه وجيه قوي؛ فتأمل.
1 قال الأولون: يجوز أن يُحرَّم واحد لا بعينه، ويكون معناه: أن عليه أن يترك أيها شاء، جمعا وبدلا؛ فلا يجمع بينها في الفعل، وقال المعتزلة: لا يجوز، بل المحرم الجميع، وترك واحد كاف في الامتثال، والأدلة من الطرفين والردود هي بعينها المذكورة في الواجب المخير، وإذن؛ فليس من فائدة عملية في هذا الخلاف أيضا، هذا ما يريده المؤلف، وهو واضح "د".
وعلق "خ" في هذا الموطن بقوله: "جرى الخلاف في جوازه ووقوعه، والحق أنه لم يقع 
والمحرم في مسألة الأختين، إنما هو الجمع بينهما كما هو صريح قوله تعالى:
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}".

 

ج / 1 ص -41-         أيضا، وهو: هل الوجوب والتحريم أو غيرهما راجعة إلى صفة الأعيان1، أو إلى خطاب الشارع؟ وكمسألة تكليف الكفار بالفروع2 عند الفخر الرازي، وهو ظاهر؛ فإنه لا ينبني عليه عمل، وما أشبه ذلك من المسائل التي فرضوها مما لا ثمرة له في الفقه.
لا يقال: إن ما يرجع الخلاف فيه إلى الاعتقاد [ينبني عليه حكم ذلك الاعتقاد من وجوب أو تحريم، وأيضا]3 ينبني عليه عصمة الدم والمال، والحكم بالعدالة أو غيرها من الكفر إلى ما دونه، وأشباه ذلك، وهو من علم الفروع؛ لأنا نقول: هذا جار في علم الكلام في جميع مسائله؛ فليكن من أصول الفقه، وليس كذلك، وإنما المقصود ما تقدم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل صوابه الأفعال، وهي قاعدة التحسين والتقبيح العقليين؛ فالمعتزلة القائلون بها يقولون: إن الأمر بواحد مُبهم غير مستقيم؛ لأنه مجهول، ويقبح العقل الأمر بالمجهول، والجمهور يقولون: إن الوجوب والتحريم بخطاب الشرع، ولا دخل للعقل فيه، ولا حسن ولا قُبح في الأفعال إلا بأمر الشارع ونهيه؛ فلا مانع من الأمر بواحد مبهم من أشياء معينة كخصال الكفارة، على أن له جهة تعيين بأنه أحد الأشياء المعينة؛ فهذا وجه بناء مسألة المخير على قاعدة التحسين "د".
قلت: وفي النسخ المطبوعة جميعها: "صفات الأعيان" وما أثبتناه من الأصل و"ط".
2 راجع الأسنوي؛ فقد ذكر له فوائد عملية كثيرة، من تنفيذ عتقه، وطلاقه... في نحو عشرة فروع خلافية، نعم، إنه قيد كلامه بقوله: "عند الفخر الرازي"، والرازي يقول: "لا فائدة في التكليف إلا تضعيف العذاب عليهم في الآخرة"، وعليه؛ فليس له عنده فائدة عملية فقهية، لكن بعد ظهور هذه الفروع، واطلاع المؤلف عليها بدليل تقييده بكلام الرازي؛ كان ينبغي للمؤلف حذف مسألة تكليف الكفار من بحثه هذا "د" وقال "خ" هنا: "بنى بعض الفقهاء على هذا الخلاف فروعا؛ منها: غرم من أتلف لهم خمرا أو خنزيرا، وإباحة وطء الكتابية لزوجها المسلم القادم من السفر في نهار رمضان".
قلت: وكذا تقديم الطعام والشراب لهم في نهار رمضان، وغيرها.
3 ساقط من الأصل.

 

ج / 1 ص -43-         المقدمة الخامسة:
كل مسألة لا ينبني عليها عمل؛ فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح، من حيث هو مطلوب1 شرعا.
والدليل على ذلك استقراء الشريعة؛ فإنا رأينا الشارع يُعرض عما لا يفيد عملا مكلفا به2؛ ففي القرآن الكريم:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المباح ليس مطلوبا شرعا كما يأتي له في بحثه؛ فقاعدته هذه تقتضي أن البحث الذي ينبني عليه استنباط المباح ومعرفة أن العمل الفلاني مباح؛ لا يكون مستحسنا شرعا، وهو غير ظاهر؛ فتقييده بالحيثية فيه خفاء "د".
2 أليس هذا من باب النظر في مصنوعات الله المؤدي إلى قوة الإيمان وزيادة البصيرة بكمالات الخالق -جل شأنه- امتثالا للآيات الطالبة من المكلفين النظر في السموات والأرض وما فيها؟ ولذا قالوا: إن الجواب بالآية عن السؤال من الأسلوب الحكيم، أي: إنه أليق بحال هذا السائل لمعنى عرفه -صلى الله عليه وسلم- فيه، وعليه؛ فلو أجابه -صلى الله عليه وسلم- بما يطلب؛ لكان فيه فائدة عملية قلبية، إلا أنه رأى الأليق بحاله توجيه فكره إلى ثمرة من ثمرات طريقة سير الهلال، بدل بيان نفس الطريقة التي لا يفهمها هو، وقد يعسر فهمها على كثير من العرب، ومثله لا يناسب منصب النبوة؛ فالعدول لحال السائل وأمثاله كما هو اللائق بمنصب النبوة، وإن كان الجواب المطابق للسؤال قد يؤدي إلى فائدة عملية قلبية؛ فتأمل "د".

 

ج / 1 ص -44-         فوقع الجواب بما يتعلق به العمل؛ إعراضا عما قصده السائل من السؤال عن الهلال: "لِمَ يبدو في أول الشهر دقيقا كالخيط، ثم يمتلئ حتى يصير بدرا، ثم يعود إلى حالته الأولى؟"1.
ثم قال:
{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189]، بناء على تأويل من تأول أن الآية كلها نزلت في هذا المعنى؛ فكان من جملة الجواب أن هذا السؤال في التمثيل إتيان للبيوت من ظهورها2، والبر إنما هو التقوى،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نقله المصنف عن الغزالي في "الإحياء"، وقال العراقي: "لم أقف له على إسناد".
قلت: أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" "1/ ق 6"، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" "3/ 269" من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس به. وإسناده واه، فيه السدي والكلبي، وضعفه السيوطي في "الدر المنثور" "1/ 490".
وأخرج ابن جرير في "التفسير" "2/ 185-186"، وابن أبي حاتم في "التفسير" "1/ 133/ أ"، عن أبي العالية؛ قال: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله! لم خلقت الأهلة؟ فنزلت. فيه أبو جعفر الرازي وأبوه، وكلاهما ضعيف.
وأخرج نحوه ابن جرير عن قتادة بسندٍ رجاله ثقات؛ إلا أنه مرسل.
وانظر: "الفتح السماوي" "1/ 231-232" للمناوي، و"لباب النقول" "ص35" للسيوطي، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي "1/ 118-119"، وقال: "وهو عند الثعلبي كما ذكره المصنف"، وحكم عليه بأنه "غريب".
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب العمرة، باب قول الله تعالى:
{وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}، 3/ 621/ رقم 1803، وكتاب التفسير، باب {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}، 8/ 183/ رقم 4512" عن البراء -رضي الله عنه- قال: "نزلت هذه الآية فينا, كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قِبَل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها؛ فجاء رجل من الأنصار فدخل من قِبَل بابه، فكأنه عُيِّرَ بذلك؛ فنزلت: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}".
قال "خ": "ومتى ثبت سبب نزول الآية بسند صحيح؛ امتنع تأويلها على وجه التمثيل، وتعيَّن فهمُها على ما يطابق السبب حتما".

 

ج / 1 ص -45-         لا العلم بهذه الأمور التي لا تفيد نفعا في التكليف، ولا تجرُّ إليه.
وقال تعالى بعد سؤالهم عن الساعة أيَّان مُرْساها:
{فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43]؛ أي: إن السؤال عن هذا سؤال عما لا يعني؛ إذ يكفي من علمها أنه لا بد منها، ولذلك لما سُئل عليه الصلاة والسلام عن الساعة؛ قال للسائل: "ما أَعْدَدْتَ لها؟"1؛ إعراضا عن صريح سؤاله إلى ما يتعلق بها مما فيه فائدة، ولم يُجبه عما سأل.
وقال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
نزلت في رجل سأل: من أبي؟ رُوي أنه -عليه السلام- قام يوما يُعرف الغضب في وجهه؛ فقال:
"لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم". فقام رجل، فقال: يا رسول الله! من أبي؟ قال: "أبوك حُذافة". فنزلت2.
وفي الباب3 روايات أُخر.
وقال ابنُ عبَّاس في سؤال بني إسرائيل عن صفات البقرة: "لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم، ولكن شددوا؛ فشدد الله عليهم"4، وهذا يبيِّن أن سؤالهم لم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخار في "الصحيح" "كتاب الأدب، باب علامة الحب في الله، 10/ 557/ رقم 6171"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب، 4/ 2032-2033/ رقم 2639" من حديث أنس بن مالك, رضي الله عنه.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال من تكلف ما لا يعنيه، 13/ 265/ رقم 7294"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب توقيره -صلى الله عليه وسلم- وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، 4/ 1832/ رقم 2359" من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- وسيذكره المصنف "ص257-258" بأطول من هذا.
3 في "د" والأصل: "البابين".
4 أخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" "1/ 215-216/ رقم 698"، وابن جرير في =

 

ج / 1 ص -46-         يكن فيه فائدة.
وعلى هذا المعنى يجري الكلام في الآية قبلها1 عند من روى أن الآية نزلت2 فيمن سأل3: أحجُّنا هذا لعامنا أم للأبد؟ فقال عليه السلام:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "التفسير" "1/ 338" بإسناد ضعيف.
وأخرجه ابن جرير في "التفسير" أيضا -ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر" "2/ 168"- بإسناد صحيح عن ابن عباس بلفظ: "لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها، ولكنهم شددوا فشدد عليهم".
قال ابن كثير في "تفسيره" "1/ 114": "إسناده صحيح، وقد رواه غير واحد عن ابن عباس، وكذا قال عبيدة والسدي ومجاهد وعكرمة وأبو العالية وغير واحد"، وأورده في كتابه "تحفة الطالب" "رقم 234" بإسناد ابن أبي حاتم الضعيف، وسكت عليه، وقال ابن حجر عقبه: "هذا موقوف صحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة عن عفان بن مسلم عن عبد الواحد بن زياد عن الأعمش، ورجاله كوفيون من رجال الصحيح".
وورد مرفوعا ولكن من حديث أبي هريرة، أخرجه ابن مردويه في "تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير" "1/ 111"، والبزار في "مسنده" "3/ 40/ رقم 2188- زوائده"، وابن أبي حاتم في "تفسيره" "1/ 223/ رقم 727". وفيه عباد بن منصور، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في "المجمع" "6/ 314"، وقال ابن كثير: "وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة"، وقال البزار: "لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد"، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "1/ 189" للفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر، وأخرجه سعيد بن منصور في "سننه" "رقم 193- ط المحققة" عن عكرمة يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ضعيف لإرساله.
وانظر: "الدر المنثور" "1/ 190"، و"بحر العلوم" "1/ 384", و"تخريج الزيلعي لأحاديث الكشاف" "1/ 66".
1 آية:
{لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ...}.
2 هذا البحث مستوفى في المسألة الثانية من أحكام السؤال والجواب في قسم الاجتهاد آخر الكتاب "د" قلت: انظره في "5/ 374-392".
3 سأل بعد نزول آية:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} كما يأتي للمؤلف "2/ 257".

 

ج / 1 ص -47-         "للأبد،  ولو قلت نعم؛ لوجبت"1، وفي بعض رواياته: "فذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم أنبياءهم"2 الحديث، وإنما سؤالهم هنا زيادة3 لا فائدة عمل فيها؛ لأنهم لو سكتوا لم يقفوا عن عمل، فصار السؤال لا فائدة فيه.
ومن هنا نهى عليه السلام:
"عن قيل وقال وكثرة السؤال"4؛ لأنه مظنة السؤال عما لا يفيد، وقد سأله جبريل عن الساعة؛ فقال:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الجملة ملفقة من حديثين في قصتين مختلفتين كما يُفهم من الأسلوب العربي، وكما يعلم من مراجعة "صحيح مسلم" في "باب حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي باب فرض الحج مرة"، والأصل أنه لما فُرض الحج؛ قال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا. ثم قال:
"ذروني ما تركتكم، لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم..." إلخ، والسائل هنا هو الأقرع بن حابس، وهذه القصة هي المناسبة للمقام "د".
قلت: وسيأتي تخريج ذلك "ص257".
"أما الحديث الآخر؛ ففي صفة متعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحج قال سُراقة بن مالك: أرأيت مُتعتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ فقال:
"بل هي للأبد" "د".
قلت: سيأتي تخريجه "ص275".
2 سيأتي عند المصنف "ص256" بلفظه، ولكن فيه
"بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" مع تتمة له، وهو في "الصحيحين" وغيرهما.
3 فقد سأل بعدما أخذ من العلوم حاجته؛ لأن ظاهر الآية الإطلاق، وهو أن حجهم لا يجب إلا مرة في العمر، والآية تنزل على هذا الوجه، بمعنى أن الإجابة على الأسئلة الكثيرة مظنة الإساءة بزيادة تكليف لم يكن، أو بجواب يكرهه السائل، ولو في غير التكليف، وإن كان ليس في خصوص سببها هنا ما يكرهون؛ لأن الجواب بما فيه يُسْر، وهو أن الحج واجب مرة فقط "د".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264/ رقم 7292" أن المغيرة بن شعبة كتب إلى معاوية: "إنه -أي: النبي, صلى الله عليه وسلم- كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال".

 

ج / 1 ص -48-         "ما المسئول عنها بأعلم من السائل"1؛ فأخبره أن ليس عنده من ذلك عِلْم، وذلك يبيِّن أن السؤال عنها لا يتعلق به2 تكليف، ولما كان ينبني على ظهور أماراتها الحذرُ منها ومن الوقوع في الأفعال3 التي هي من أماراتها، والرجوع إلى الله عندها؛ أخبره بذلك، ثم ختم عليه السلام ذلك الحديث بتعريفه عُمر أن جبريل أتاهم ليعلمهم دينهم؛ فصح إذًا أن من جملة دينهم في فصل السؤال عن الساعة أنه مما لا يجب العلم به "أعني: علْم زمان إتيانها"؛ فليتنبه لهذا المعنى في الحديث وفائدة سؤاله له عنها.
وقال:
"إن أعظم الناس جُرما: من سأل عن شيء لم يُحرم فحُرِّم من أجل مسألته"4، وهو مما نحن فيه، فإنه إذا لم يُحرم؛ فما فائدة السؤال عنه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث جبريل الطويل، أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان، 1/ 114/ رقم 50"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان... 1/ 39-40/ رقم 9" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه.
2 وإلا لعلمه -صلى الله عليه وسلم- وإذا كان هو لا يعنيه علمها وهو المعني بالعلم والمعارف الربانية, فغيره أولى. "د".
3 كما ينبه عليه حديث الترمذي مجملا:
"يكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم..." إلخ إلى أن قال: "يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا". "د".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، 13/ 264/ رقم 7289"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب توقيره -صلى الله عليه وسلم- وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، 4/ 1831/ رقم 2358" من حديث سعد بن أبي وقاص, رضي الله عنه.
قال "خ": "الحكمة من مثل هذا الإنذار تأكيد النهي عن إلقاء الأسئلة في وقت غير لائق من غير أن تدعو إليها حاجة، وتحريم الشيء عقوبة وتأديبا وقع في بعض الشرائع الماضية، كما قال تعالى:
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]، ولكن لم يقع في الشريعة الإسلامية بحال".

 

ج / 1 ص -49-         بالنسبة إلى العمل؟
وقرأ عمر بن الخطاب:
{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]، وقال: "هذه الفاكهة؛ فما الأب؟"1، ثم قال: "نُهينا عن التكلف"2.
وفي القرآن الكريم:
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الآية [الإسراء: 85].
وهذا بحسب الظاهر يفيد أنهم لم يُجابوا، وأن هذا مما لا يُحتاج إليه في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إنه لفت نظرهم أولا إلى أن هنا شيئا مجهولا ليبني عليه هذه الفائدة العلمية. "د".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264-265" بسنده إلى أنس؛ قال: "كنا عند عمر؛ فقال: "نهينا عن التكلف"".
وأخرج الإسماعيلي وأبو نعيم في "مستخرجيهما"، وعبد بن حميد في "التفسير" -كما في "فتح الباري" "13/ 271"، وأورد ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 372" إسناد عبد بن حميد- وعبد الرزاق في "التفسير" "2/ 348"، وسعيد بن منصور في "سننه" "1/ 181/ رقم 43"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 327"، وأبو عبيد في "فضائل القرآن" "رقم 825، 227- ط غاوجي"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 512-513"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 514"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 229-230/ رقم 2084"، وابن جرير في "التفسير" "30/ 59"، والهروي في "ذم الكلام" "ص133" من طرق عن عمر بعضها صحيح نحو ما عند المصنف من ذكر الأب.
وعزاه الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "4/ 159" للثعلبي وابن مردويه والطبراني في "مسند الشاميين".
وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 372": "وهذا محمول على أنه إنما أراد استكشاف علم كيفية الأب، وإلا؛ فكونه نبتا من الأرض ظاهر لا يجهل"، وقاله ابن كثير في "تفسيره" أيضا.
قلت: ويستشكل هذا بما أخرجه الحاكم -مختصرا- في كتاب الصوم في "المستدرك" عن عمر بن الخطاب؛ أنه سأل ابن عباس عن الأب؛ فقال: هو نبت الأرض مما يأكله الدواب والأنعام، ولا يأكله الناس، وقال: "صحيح على شرط مسلم".

 

ج / 1 ص -50-         التكليف.
وروي1 أن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ملُّوا مَلَّة، فقالوا: يا رسول الله! حدثنا.
فأنزل الله تعالى:
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الآية] [الزمر: 23].
وهو كالنص في الرد عليهم فيما سألوا، وأنه لا ينبغي السؤال إلا فيما يفيد في التعبد لله، ثم ملُّوا ملَّة، فقالوا: حدِّثنا حديثا فوق الحديث ودون القرآن؛ فنزلت سورة يوسف2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو قطعة من الحديث الآتي.
2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص22/ رقم 13" -ثنا حجاج- وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 248" من طريق وكيع بن الجراح، كلاهما عن المسعودي عن عون بن عبد الله به.
وسماع وكيع من المسعودي -وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة- بالكوفة قديم، قبل الاختلاط، بخلاف سماع حجاج بن محمد الأعور، نص على ذينك الإمام أحمد؛ كما في "الكواكب النيرات" "ص288، 293".
إلا أن عون بن عبد الله روايته عن الصحابة مرسلة فيما قيل؛ كما في "تهذيب الكمال" "22/ 454"؛ فكيف روايته سبب النزول؛ فهو مرسل، بل معضل بلا شك، وقد ذكره الواحدي في "أسباب النزول" "ص182-183" من غير سند.
وقد أخرج ابن جرير في "التفسير" "23/ 211" بسند ضعيف عن ابن عباس؛ قال: قالوا: يا رسول الله! لو حدثتنا؟ قال: فنزلت:
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}.
وأخرج إسحاق بن راهويه في "المسند" -وكما في "المطالب العالية" "3/ 343، ق 136/ ب-المسندة"- ومن طريقه الحاكم في "المستدرك" "2/ 345"، وابن حبان في "الصحيح" "14/ 92/ رقم 6209- الإحسان"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص182-183"، أخبرنا عمرو بن محمد القرشي ثنا خلاد الصفار عن عمرو بن قيس الملائي عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن أبيه؛ قال: أنزل القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتلا عليهم زمانا، فقالوا: يا رسول الله! لو قصصت علينا؟ فأنزل الله:
{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ...} إلى قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 1-3]؛ فتلاها عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- زمانا، فقالوا: يا رسول =

 

ج / 1 ص -51-         انظر الحديث في "فضائل القرآن" لأبي عُبيد.
وتأمل خبر عمر بن الخطاب مع صبيغ في سؤاله الناس عن أشياء من القرآن لا ينبني عليها حُكم تكليفي، وتأديب عمر [رضي الله عنه] له1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الله! لو حدثتنا؟ فأنزل الله:
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} الآية [الزمر: 23] كل ذلك يؤمرون بالقرآن.
قال خلاد: وزاد فيه حين قالوا: يا رسول الله! ذكِّرنا. فأنزل الله:
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16].
وأخرجه بنحوه ابن جرير في "التفسير" "12/ 90" مختصرا من طريق محمد بن سعيد العطار، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 740" عن الحسين بن عمرو العنقري، والبزار في "المسند" "رقم 86- مسند سعد، و3/ 352-353/ رقم 1153" عن الحسين بن عمرو والحسين بن الأسود وإسماعيل بن حفص، جميعهم عن عمرو بن محمد به.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "المُذَكِّر والتذكير" "رقم 24" ثنا حسين بن الأسود به.
قال البزار عقبه: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن سعد [إلا] بهذا الإسناد، ولا نعلم رواه عن سعد إلا مصعب، ولا عن مصعب إلا عمرو بن مرة، ولا عن عمرو بن مرة إلا عمرو بن قيس، ولا عن عمرو بن قيس إلا خلاد بن مسلم".
قلت: إسناده جيد، رجاله ثقات رجال مسلم؛ غير خلاد، وهو ثقة، وثقه ابن معين في رواية الدوري، وقال في رواية عثمان بن سعيد الدارمي: "لا بأس به", وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو حاتم: "حديثه مقارب".
وأعلَّه الهيثمي في "المجمع" "10/ 219" بالحسين بن عمرو، وقال عنه: "وثقه ابن حبان، وضعّفه غيره، وبقية رجاله ثقات".
والحسين بن عمرو توبع؛ كما يظهر لك من التخريج السابق.
وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "4/ 496" لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في "المطالب": "هذا حديث حسن".
1 أخرج ذلك ابن أبي شيبة في "المصنف" "11/ 426"، والدارمي في "السنن" "1/ =

 

ج / 1 ص -52-         وقد سأل ابنُ الكوَّاء علي بن أبي طالب عن {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا، فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا...} [الذاريات: 1-2] إلخ؛ فقال له علي: "ويلك، سَل تفقها ولا تسأل تعنتا". ثم أجابه؛ فقال له ابنُ الكوَّاء: أفرأيت السواد الذي في القمر؟ فقال: "أعمى سأل عن عمياء". ثم أجابه، ثم سأله عن أشياء1، وفي الحديث طُول.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 55-56"، والخلال -كما قال أبو يعلى في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" "ق 122-123"- وابن بطة في "الإبانة" "رقم 329، 330، 332، 333، 789"، وابن عساكر في "تاريخه" "ترجمة صبيغ"، وهو صحيح.
وأخرجها البزار في "البحر الزخار" "1/ 423-424/ رقم 299"، والدارقطني في "الأفراد" "ق 20/ ب-أطراف الغرائب" مرفوعا، وفيه أبو بكر بن أبي سبرة، وهو متروك.
قال ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 606" بعد عزوه للبزار: "قلت: المستغرب من هذا السياق رفع هذا التفسير إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلا؛ فقصة صبيغ بن عسل التميمي مع عمر مشهورة وكأنه -والله أعلم- إنما ضربه لما ظهر له من حاله أن سؤاله سؤال استشكال، لا سؤال استرشاد واستدلال، كما قد يفعله كثير من المتفلسفة الجهال، والمبتدعة الضلال؛ فنسأل الله العافية في هذه الحياة الدنيا وفي المآل".
وانظر: "مجمع الزوائد" "7/ 112-113"، و"تفسير ابن كثير "4/ 231-232" و"الاعتصام" "1/ 80، و2/ 53-54" للمصنف.
1 أخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "2/ 241"، وابن جرير في "التفسير" "26/ 115-117"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 466-467"، والفريابي وسعيد بن منصور والحارث بن أبي أسامة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في "المصاحف" -كما في "الدر المنثور" "6/ 111"- وابن عبد البر في "الجامع" "1/ 464/ رقم 726-ط الجديدة"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 334"، والآجري في "أخلاق العلماء" "ص126-ط المغرب" من طرق عن علي -رضي الله عنه- وبعضها إسناده صحيح.
وانظر: "مسند الشاشي" "2/ 96/ رقم 620"، و"الاعتصام" للمصنف "1/ 65-66"؛ فقد أطال في ذكر الروايات التي فيها إنكار علي -رضي الله عنه- على هذا المبتدع.

 

ج / 1 ص -53-         وقد كان مالك بن أنس يكره الكلام فيما ليس تحته عمل، ويحكي كراهيته عمَّن تقدَّم1.
وبيان عدم الاستحسان فيه من أوجه متعددة:
- منها: أنه شغل عما يعني من أمر التكليف الذي طُوِّقَه المكلَّف بما لا يعني، إذ لا ينبني على ذلك فائدة؛ لا في الدنيا، ولا في الآخرة، أما في الآخرة؛ فإنه2 يُسأل عما أُمر به أو نُهي عنه، وأما في الدنيا؛ فإن علمه بما علم من ذلك لا يزيده في تدبير رزقه ولا ينقصه، وأما اللذة الحاصلة منه في الحال؛ فلا تفي مشقة اكتسابها وتعبُ طلبها بلذة حصولها، وإن فُرض أن فيه فائدة في الدنيا؛ فمن شرط كونها فائدة شهادة الشرع لها بذلك، وكم من لذة وفائدة يعدها الإنسان كذلك وليست في أحكام الشرع إلا على الضد؛ كالزنى، وشرب الخمر، وسائر وجوه الفسق، والمعاصي التي يتعلق بها غرض عاجل، فإذًا قطع الزمان فيما لا يجني ثمرة في الدارين، مع تعطيل ما يجني الثمرة من فعل ما لا ينبغي.
- ومنها: أن الشرع3 قد جاء ببيان ما تصلح به أحوال العبد في الدنيا والآخرة على أتم الوجوه وأكملها، فما خرج عن ذلك قد يُظن أنه على خلاف ذلك، وهو مشاهد في التجربة العادية؛ فإن عامة المشتغلين بالعلوم التي لا تتعلق بها ثمرة تكليفية تدخل عليهم فيها الفتنة والخروج عن الصراط المستقيم، ويثور بينهم الخلاف والنزاع المؤدي إلى التقاطع والتدابر والتعصُّب، حتى تفرقوا شيعا4، وإذا فعلوا ذلك خرجوا عن السنة، ولم يكن أصل التفرق5 إلا بهذا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "2/ 142-143، 5/ 332".
2 في "م" و"خ" و"ط" زيادة: "إنما".
3 في "ط": "الشارع".
4 وذلك كاختلافهم في نجاة أبويه -صلى الله عليه وسلم- فإنه طالما شقي به الناس فرقة وتدابرا. "د". قلت: وكذلك مسألة عصمة نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- من الزنا؛ هل هي قدرية أم شرعية؟ فإنها وقع بسببها خلاف وهجر بين بعض فضلاء علماء عصرنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
5 في "ط": "الفِرَق".

 

ج / 1 ص -54-         السبب، حيث تركوا الاقتصار من العلم على ما يعني، وخرجوا إلى ما لا يعني؛ فذلك فتنة على المتعلم والعالم، وإعراض الشارع -مع حصول السؤال- عن الجواب من أوضح الأدلة على أن اتباع مثله من العلم فتنة أو تعطيل للزمان في غير تحصيل.
- ومنها: أن تتبع النظر في كل شيء وتطلب عمله من شأن الفلاسفة الذين يتبرأ المسلمون منهم1، ولم يكونوا كذلك إلا بتعلقهم بما يُخالف السنة؛ فاتباعهم في نحلة هذا شأنها خطأ عظيم، وانحراف عن الجادَّة.
ووجوه عدم الاستحسان كثيرة.
فإن قيل: العلم محبوب على الجملة، ومطلوب على الإطلاق، وقد جاء الطلب فيه على صيغ العموم والإطلاق، فتنتظم صِيَغه كل علم، ومن جملة العلوم ما يتعلق به عمل، وما لا يتعلَّق به عمل؛ فتخصيص أحد النوعين بالاستحسان دون الآخر تحكم2، وأيضا؛ فقد قال العلماء: إن تعلم كل علم فرض كفاية، كالسحر والطلسمات، وغيرهما من العلوم البعيدة الغرض عن العمل3، فما ظنك بما قرب منه؛ كالحساب، والهندسة، وشبه ذلك؟ وأيضا؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يتبرأ الإسلام من الفلسفة المتولدة من أوهام وظنون، لا يشهد لها حس أو تجربة صحيحة أو برهان، وأما ما يقوم منها على نظر صادق؛ فيأذن بتعلمه ولا سيما حيث يكون له مدخل في تنظيم شئون الحياة وترقية وسائل العمران. "خ".
2 قلت: أي: قول بالتشهي والهوى.
3 السحر والطلسمات من العلوم المحرمة، قال الذهبي في رسالته "مسائل في طلب العلم وأقسامه" "ص214-215- ضمن ست رسائل": "من العلوم المحرمة علم السحر والكيمياء والطيرة والسيمياء والشعبذة والتنجيم والرَّمل، وبعضها كفر صراح". وانظر, غير مأمور: كتابنا "كتب حذر العلماء منها" "المجموعة الأولى، 1/ 99"؛ فقد أتينا على نقل كثير من النقول على حرمة تعلم السحر والطلسمات، وذكرنا فيه أشهر كتبه الرائجة، ليحذر منها المتقي ربه -عز وجل- والله الهادي.

 

ج / 1 ص -55-         فعلم التفسير من جُملة العلوم المطلوبة، وقد لا ينبني عليه عمل، وتأمل حكاية الفخر الرازي1: إن بعض العلماء مر بيهودي وبين يديه مسلم يقرأ عليه علم هيئة العالم، فسأل اليهودي عما يقرأ عليه؛ فقال له: أنا أفسر له آية من كتاب الله، فسأله ما هي؟ وهو متعجب، فقال: قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6]. قال اليهودي: فأنا أُبيِّن له كيفية بنائها وتزيينها. فاستحسن ذلك العالم منه. هذا معنى الحكاية لا لفظها.
وأيضا؛ فإن قوله تعالى:
{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185] يشمل كل علم ظهر في الوجود، من معقول أو منقول، مُكْتسب أو موهوب، وأشباهها من الآيات، ويزعم الفلاسفة أن حقيقة الفلسفة إنما هو النظر في الموجودات على الإطلاق، من حيث تدل على صانعها، ومعلوم طلب النظر في الدلائل والمخلوقات؛ فهذه وجوه تدل على عموم الاستحسان في كل علم على الإطلاق والعموم.
فالجواب عن الأول: أن عموم الطلب مخصوص، وإطلاقه مقيد بما تقدم من الأدلة، والذي يوضحه أمران:
أحدهما: بأن السلف الصالح من الصحابة والتابعين لم يخوضوا في هذه الأشياء التي ليس تحتها عمل، مع أنهم كانوا أعلم بمعنى العلم المطلوب، بل قد عد عمر ذلك في نحو
{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] من التكلف الذي نُهي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يذكرها في "تفسيره" عند الآية المذكورة "28/ 133".

 

ج / 1 ص -56-         عنه1، وتأديبه صبيغا ظاهر فيما نحن فيه، مع أنه لم يُنكر عليه2، ولم يفعلوا ذلك إلا لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يَخُض في شيء من ذلك، ولو كان لنُقل، لكنه لم يُنقل؛ فدل على عدمه.
والثاني: ما ثبت في كتاب "المقاصد" أن هذه الشريعة أمية لأمة أميّة، وقد قال عليه السلام:
"نحن أمة أمية، لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا"3 إلى نظائر ذلك، والمسألة مبسوطة هنالك، والحمد لله.
وعن الثاني: أنا لا نُسلِّم ذلك على الإطلاق، وإنما فرض الكفاية رد4 كل فاسد وإبطاله، عُلم ذلك الفاسد أو جُهل؛ إلا أنه لا بد من علم أنه فاسد، والشرعُ متكفل بذلك. والبرهان على ذلك أن موسى -عليه السلام- لم يعلم علم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص49".
2 مضى تخريجه "ص51-52".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم:
"لا نكتب ولا نحسب" "4/ 126/ رقم 1913"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، 2/ 761/ رقم 1080 بعد 15"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصوم، باب الاختلاف على يحيى بن أبي كثير في خبر أبي سلمة فيه, 7/ 139-140" من حديث ابن عمر بلفظ: "إنا أمة أمية..." وتقديم "نكتب" على "نحسب".
وأخرجه أحمد في "المسند" "2/ 122" من حديثه بلفظ:
"نحن أمة أميون...".
وعلّق "خ" هنا: "وصف عليه -الصلاة والسلام- العرب بأنها أمة أمية لقلة العارفين منها بالكتابة، وإنما ذكر هذا الوصف ليكون كالعلة لتعليق حكم الصيام على رؤية الهلال دون الحساب، ولم يأت به في مساق الفخر حتى يفهم منه مدح الأمية والترغيب في البقاء عليها، بل القرآن وصفهم بالأميين ونبه على أن الرسول -عليه السلام- بعث فيهم ليخرجهم من طور الأمية ويرتقي بهم إلى صفوف الذين أوتوا العلم والحكمة؛ فقال تعالى:
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]".
4 في "ط": "فيه رد".

 

ج / 1 ص -57-         السحر الذي جاء به السحرة، مع أنه بطل على يديه بأمر هو أقوى من السحر، وهو المعجزة ولذلك لما سحروا أعْين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم؛ خاف موسى من ذلك، ولو كان عالما به لم يخف، كما لم يخف العالمون به، وهم السحرة؛ فقال الله له: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 68].
ثم قال:
{إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69].
وهذا تعريف1 بعد التنكير, ولو كان عالما به لم يُعرَّف به، والذي كان يعرف من ذلك أنهم مبطلون في دعواهم على الجملة، وهكذا الحكم في كل مسألة من هذا الباب، فإذا حصل الإبطال والرد بأي وجه حصل، ولو بخارقة على يد ولي لله، أو بأمر خارج عن ذلك العلم ناشئ عن فرقان التقوى؛ فهو المراد، فلم يتعيَّن إذًا طلبُ معرفة تلك العلوم من الشرع.
وعن الثالث: أن علم التفسير مطلوبٌ فيما يتوقف عليه فهم المراد من الخطاب، فإذا كان المراد معلوما؛ فالزيادة على ذلك تكلف، ويتبين ذلك في مسألة عمر، وذلك أنه لما قرأ:
{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]، توقف في معنى الأب2، وهو معنى إفرادي لا يقدح عدم العلم به في علم المعنى التركيبي في الآية؛ إذ هو مفهوم من حيث أخبر الله تعالى في شأن طعام الإنسان أنه أنزل من السماء ماء فأخرج به أصنافا كثيرة مما هو من طعام الإنسان مباشرة؛ كالحب3، والعنب، والزيتون، والنخل، ومما هو من طعامه بواسطة، مما هو مرعى للأنعام على الجملة؛ فبقي التفصيل في كل فرد من تلك الأفراد فضلا؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: قوله: "إنما صنعوا... إلخ" تعريف لموسى بأن هذا سحر وصاحبه لا يفلح، بعد تنكير وعدم معرفة من موسى -عليه السلام- بذلك. "د".
2 مضى تخريجه "ص49".
3 في الأصل: "كالحب مباشرة والعنب".

 

ج / 1 ص -58-         فلا على الإنسان أن لا يعرفه، فمن هذا الوجه والله أعلم؛ عد البحث عن معنى الأب من التكلف، وإلا؛ فلو توقف عليه فهم المعنى التركيبي من جهته لما كان من التكلف، بل من المطلوب علمه لقوله: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، ولذلك سأل الناس على المنبر عن معنى التخوف في قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47]؛ فأجابه الرجل الهُذلي بأن التخوُّف في لغتهم التنقص، وأنشده شاهدا عليه:

تخوَّف الرَّحْل منها تامِكا قَرِدا                   كما تخوَّف عودُ النَّبْعَةِ السَّفَنُ

فقال عمر: "يا أيها1 الناس! تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم؛ فإن فيه تفسير كتابكم"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "أيها".
2 قال المناوي في "الفتح السماوي" "2/ 755/ رقم 642": "لم أقف عليه", وقال ابن همات في كتابه "تحفة الراوي في تخريج أحاديث تفسير البيضاوي" "ق 194/ ب": "قال السيوطي: لا يحضرني الآن تخريجه، لكن أخرج ابن جرير [في "التفسير" "14/ 113"] عن عمر أنه سألهم عن هذه الآية...." وذكر نحوه.
قلت: إسناد ابن جرير ضعيف، فيه رجل لم يسم عن عمر، وفيه سفيان بن وكيع ضعيف، وذكره القرطبي في "التفسير" "10/ 110" عن سعيد بن المسيب نحوه.
وقال ابن حجر في "الفتح" "8/ 386": "وروي بإسناد فيه مجهول عن عمر؛ أنه سأل عن ذلك, فلم يجب، فقال عمر: ما أرى إلا أنه على ما ينتقصون من معاصي الله. قال: فخرج فلقي أعرابيا؛ فقال: ما فعل فلان؟ قال: تخوفته -أي: تنقصته- فرجع؛ فأخبر عمر فأعجبه"، ثم قال: "وفي شعر أبي كبير الهذلي ما يشهد له". وورد نحوه عن ابن عباس فيما أخرجه الحاكم "2/ 499"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "ص345"، وابن الأنباري في "الوقف"؛ كما في "المزهر" "2/ 302"، وابن أبي حاتم وابن المنذر وعبد بن حميد؛ كما في "الدر" "6/ 254".
قلت: ويشير ابن حجر في مقولته السابقة إلى البيت المذكور، وقد عزاه الجوهري في "الصحاح" "مادة: خوف، 4/ 1359" لذي الرمة، وفيه: "ظهر النبعة"، وعزاه ابن منظور في "لسان =

 

ج / 1 ص -59-         ولما كان السؤال في محافل الناس عن معنى: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1]، {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} [النازعات: 3] مما يُشوش على العامة من غير بناء عمل عليه، أدَّب عمر صبيغا بما هو مشهور1.
فإذًا تفسير قوله:
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} الآية [ق: 6] بعلم الهيئة الذي ليس تحته عمل؛ غير سائغ؛ ولأن ذلك من قبيل ما لا تعرفه العرب، والقرآن إنما نزل بلسانها وعلى معهودها، وهذا المعنى مشروح في كتاب المقاصد بحول الله.
وكذلك القول في كل علم يُعزى إلى الشريعة لا يؤدي فائدة عمل، ولا هو مما تعرفه العرب؛ فقد تكلف أهل العلوم الطبيعية وغيرها الاحتجاج على صحة الأخذ في علومهم بآيات من القرآن، وأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما استدل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= العرب" "مادة خوف، 9/ 101" لابن مقبل، ونسبه الأصفهاني في "الأغاني" -كما قال الزبيدي في "تاج العروس"- لابن مزاحم الثمالي، ونسبه الآلوسي في "تفسيره" "14/ 152" والبيضاوي في "تفسيره" "357" وغيرهما لأبي كبير الهذلي، ووقع في بعض المصادر: "تخوف السير".
ومعنى "تامكا" -بالمثناة الفوقية، اسم فاعل- من "تمك السنام يتمك تمكا"؛ أي: طال وارتفع، فهو تامك؛ أي: سنام مرتفع، وقوله "قردا" -بفتح القاف، وكسر الراء- أي: متراكما أو مرتفعا، و"النبعة" -بضم النون وفتحها-: واحد "النبع"، وهو شجر يتخذ منه القسي، و"السَّفَن" -بفتح السين والفاء-: ما ينحت به الشيء كالمبرد، وهو فاعل "تخوف"، ومفعوله "عود" أو "ظهر"، ومعنى البيت: إن رحل ناقته أثر في سنمهم المتراكم -أوالمرتفع- وتنقص كما ينقص المبرد عود النبعة، أفاده ابن همات.
وقال "خ" في هذا الموطن: "اختلف علماء اللغة في قائل هذا البيت؛ فنسبوه إلى زهير وذي الرمة وابن مزاحم الثمالي وعبد الله بن عجلان النهدي؛ كما اختلفت الرواية في بعض ألفاظه؛ فروى لفظ "السير" بدل "الرحل"، و"ظهر" بدل "عود"، والبيت وارد في وصف ناقة أضناها السير، والتامك المرتفع والمراد به السنام، والقرد المتلبد بعضه على بعض، والسفن الحديدة التي تبرد بها القسي".
1 مضى تخريجه "ص51-52".

 

ج / 1 ص -60-         أهل العدد بقوله تعالى: {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون: 113].
وأهل [النسب العددية أو الهندسية]1 بقوله تعالى:
[{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ..... مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] إلى آخر الآيتين.
وأهل الكيمياء بقوله, عز وجل]:
{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} الآية [العدد: 17].
وأهل التعديل النجومي بقوله:
{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5].
وأهل المنطق في أن نقيض الكلية السالبة جزئية موجبة بقوله:
{إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ} [الآية] [الأنعام: 91].
وعلى بعض الضروب الحملية والشرطية بأشياء أُخر.
وأهل خط الرمل بقوله سبحانه:
{أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4]، وقوله, عليه السلام: "كان نبي يخط في الرمل"2 إلى غير ذلك مما هو مسطور

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المثبت من "ط" -وكذا ما بين المعقوفتين فيما سيأتي- فقط، وبدله في سائر النسخ: "الهندسة".
2 رواه عن معاوية بن الحكم السلمي اثنان، ضمن حديث طويل جليل في باب الصفات، في بعض طرقه ذكر بالسؤال "أين الله؟" وإجابة الجارية "في السماء"، وفيه اللفظ المذكو عند المصنف، على النحو التالي:
أولا: عطاء بن يسار، وعنه هلال بن أبي ميمونة، ورواه عنه ثلاثة:
1- يحيى بن أبي كثير.
قال الذهبي في "العلو للعلي الغفار" "16": "رواه جماعة من الثقات عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن معاوية السلمى". قلت: وقفت على ثمانية منهم:
الأول: حجاج الصَّوَّاف:
كما عند ابن أبي شيبة في "الإيمان" مختصرا "رقم 84"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، 1/ 381-382/ رقم 537 بعد 33، وكتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، 4/ 1749"، وأحمد في "المسند" "5/ 447، 448"، والنسائي في "السنن الكبرى" كما في =

 

ج / 1 ص -61-         .............................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "تحفة الأشراف" "8/ 427"، وعثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" "رقم 61"، وأبي داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب تشميت العاطس في الصلاة، 1/ 244/ رقم 930، وكتاب الأيمان والنذور، باب في الرقبة المؤمنة، 3/ 230/ رقم 3282، وكتاب الطب، باب في الخط وزجر الطير، 4/ 16/ رقم 3909"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 490"، والدارمي في "السنن" "1/ 354" -ولم يسق لفظه- وأبي عوانة في "المسند" "2/ 142-143"، وابن خزيمة في "الصحيح" "2/ 35-36/ ورقم 859"، و"التوحيد" "ص122"، وابن حبان في "الصحيح" "1/ 383/ رقم 165- مختصرا، 6/ 124/ رقم 2248- الإحسان"، والطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 398-399، الأرقام: 938 و943 و947"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 212"، والبغوي في "شرح السنة" "3/ 237/ رقم 726"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "2/ 360 مختصرا"، ولفظه:... ومنا رجال يخطون. قال:
"كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه؛ فذاك".
ورواه عن يحيى وفيه اللفظ المذكور جماعة، منهم:
الثاني: الأوزاعي:
كما عند مسلم في "الصحيح" "1/ 383" -ولم يسق لفظه- وأشار إليه في "4/ 1749"، وأبي عوانة في "المسند" "2/ 141"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب الكلام في الصلاة، 3/ 14-18", وابن حبان في "الصحيح" "6/ 22/ رقم 2247- الإحسان"، وابن خزيمة في "الصحيح" "2/ 35-36/ رقم 859"، و"التوحيد" "ص121"، والطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 398/ رقم 937 و941 و945"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "2/ 249"، و"الأسماء والصفات" "421".
وأخرجه من طريقه مختصرا البخاري في "خلق أفعال العباد" "رقم 193"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 446"، والدارمي في "المسند" "1/ 353"، والبيهقي في "القراءة خلف الإمام" "84".
الثالث والرابع: حرب بن شداد وأبان بن يزيد العطار:
كما عند الطيالسي في "المسند" "رقم 1105".
ومن طريقه: البيهقي مختصرا في "السنن الكبرى" "2/ 250"، و"الأسماء والصفات" "422"، وابن قدامة مختصرا في "إثبات صفة العلو" "رقم 16".
وأخرجه أبو عوانة في "المسند" "2/ 141-142" بسنده إلى أبان والأوزاعي، جميعا عن =

 

ج / 1 ص -62-         .............................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يحيى به، وفيه اللفظ المذكور.
وأخرجه مختصرا دونه عن أبان وحده به: أحمد في "المسند" "5/ 448"، وعثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" "رقم 60"، و"الرد على بشر المريسي" "ص95"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 489"، ومن طريقه الحافظ أبو العلاء ابن العطار في "فتيا وجوابها في ذكر الاعتقاد وذم الاختلاف" "رقم 20"، والطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 399/ رقم 939 و942 و946"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 652"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي, صلى الله عليه وسلم" "ص63".
الخامس: هشام الدستوائي:
كما عند الحربي في "غريب الحديث" "2/ 720"؛ قال: حدثنا مسدد, حدثنا يحيى "هو ابن سعيد القطان" عن هشام به مختصرا، وفيه اللفظ المذكور.
السادس: حسين المعلم:
كما عند الطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 401/ رقم 944"، وفيه اللفظ المذكور.
السابع: همام بن يحيى:
كما عند أحمد في "المسند" "5/ 448"، وفيه اللفظ المذكور.
ورواه عن يحيى، لكن بلفظ:
"... فمن وافق علْمَه علِم".
الثامن: معمر، وعنه عبد الرزاق في "المصنف" "10/ 403/ رقم 19501، وبإسناده إليه الطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 399/ رقم 940"، والبغوي في "شرح السنة" "12/ 181/ رقم 3359".
ورواه تاسع عن يحيى وهو من أقرانه، وهو:
التاسع: أيوب السختياني:
ولكن عن يحيى عن هلال عن معاوية به، ولم يذكر فيه عطاء بن يسار؛ كما عند الطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 402-403/ رقم 948" مختصرا، وليس فيه اللفظ المذكور.
وهذا حديث سمعه يحيى من هلال؛ إذ صرح بالتحديث عند أحمد وابن خزيمة؛ فانتفت شبهة تدليسه، كما صرح كل من هلال بن أبي ميمونة وعطاء بالتحديث عند ابن خزيمة.
2- فليح بن سليمان:
رواه مختصرا ولم يرد فيه السؤال المذكور، ولا جواب الجارية، ولا اللفظ الذي أورده المصنف؛ كما عند البخاري في "خلق أفعال العباد" "رقم 530"، وأبي داود في "السنن" "كتاب =

 

ج / 1 ص -63-         ...........................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الصلاة، باب تشميت العاطس في الصلاة، 1/ 245/ رقم 931"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 446"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "2/ 249".
3- مالك بن أنس:
وذكر فيه السؤال وجواب الجارية، ولم يذكر اللفظ الذي أورده المصنف أو نحوه؛ كما في "الموطأ" "2/ 776-777"، وعنه الشافعي في "الرسالة" فقرة "242"، و"الأم" "5/ 280"، والنسائي في "التفسير" "2/ 255-256/ رقم 485"، و"السنن الكبرى" في "السير" و"النعوت"؛ كما في "تحفة الأشراف" "رقم 11378"، وابن خزيمة في "التوحيد" "ص122"، والخطيب في "الموضح" "1/ 195"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "7/ 387".
ولكن قال مالك في روايته في اسم الصحابي "عمر بن الحكم"؛ فتعقبه الشافعي؛ فقال في "الرسالة" "ص76": "وهو معاوية بن الحكم، وكذلك رواه غير مالك، وأظن مالكا لم يحفظ اسمه".
قلت: رواه عن مالك على الصواب يحيى بن يحيى التميمي، وعنه عثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" "رقم 62"، والبيهقي في "السنن الكبرى "7/ 387"، وقال: "ورواه يحيى بن يحيى عن مالك مجوّدا".
وانظر غير مأمور: "الجوهر النقي"، وشروح "الموطأ"، و"تحفة الأشراف" "رقم 11348"، وترجمة "معاوية بن الحكم" من "تهذيب الكمال" ومختصراته؛ ففيها كلام تفصيلي بخصوص هذا الشأن.
ثانيا: أبو سلمة بن عبد الرحمن:
وعنه الزهري، وعنه جماعة؛ كما عند مسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب تحريم الكهانة، 4/ 1748-1749/ رقم 537 بعد 121"، وعبد الرزاق في "المصنف" "10/ 402/ رقم 19500"، وأحمد في "المسند" "3/ 443 و5/ 447-448، 449"، والطيالسي في "المسند" "رقم 1104"، والطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 396-397/ رقم 933-936".
والحديث صحيح، وقد شكك بعضهم في سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- الجارية، وجوابها، وإقراره -صلى الله عليه وسلم- لها بقولهم تارة: إن الحديث مضطرب، وبقولهم أخرى: إنها زيدت فيما بعد في "صحيح مسلم"! =

 

ج / 1 ص -64-         ...........................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ومن زعم الاختلاف في متنه؛ فلم يصب لأنه احتج لما ذهب إليه بروايات أحسن مراتبها الضعف على أنها عند التحقيق لا تُعدّ اختلافا، وإنما أراد بعض أهل البدع التعلق بهذا لإبطال دلالة هذا الحديث على اعتقاد أهل السنة من أن الله فوق خلقه، وكذلك تشكيك بعض أهل الزيغ في ثبوت هذا الحديث في "صحيح مسلم" هو أوهى من بيت العنكبوت، لمن علم وَفَهِمَ وأنصف، وشبهات أهل البدع لم تسلم منها آيات الكتاب؛ فكيف تسلم منها السنن؟!
أما اللفظ الذي أورده المصنف آنفا في الخط؛ فهو صحيح عند مسلم وغيره، ورواته جميعا ثقات معروفون؛ فقول ابن رشد "ت520هـ" في رسالته "الرد على من ذهب إلى تصحيح علم الغيب من جهة الخط" "ص42- بتحقيقي"، وكذا قول ابن العربي في "أحكام القرآن" "4/ 696" بأن جميع أحاديث الخط ضعيفة؛ ليس بجيد، ويعوزه التحقيق العلمي، والله تعالى أعلم، وكذا قال القرطبي المفسر في "الجامع لأحكام القرآن" "16/ 179" متعقبا ابن العربي: "هو ثابت من حديث معاوية بن الحكم السلمي أخرجه مسلم".
تنبيه: أورد الرافعي في "الشرح الكبير" هذا الحديث عن معاوية بن الحكم، وورد في أوله: "لما رجعت من الحبشة؛ صليت مع رسول الله, صلى الله عليه وسلم..." وهو غلط محض لا وجه له، ولم يذكر أحد "معاوية بن الحكم" في مهاجرة الحبشة؛ لا من الثقات، ولا من الضعفاء، وكأنه انتقال ذهني من حديث متقدم لابن مسعود، يورده الفقهاء قبل هذا؛ فإن فيه "رجعت من الحبشة"، والله أعلم، أفاده ابن حجر في "التلخيص الحبير" "1/ 281".
ومن الجدير بالذكر أن الذهبي عد هذا الحديث في "العلو للعلي الغفار" "16" من الأحاديث المتواترة الواردة في العلو، وذكر طرفا منه، وقال: "هذا حديث صحيح".
وأخرجه ابن وهب في "جامعه" "1/ 113-114"؛ قال: أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم أن أناسا قالوا لرسول الله, صلى الله عليه وسلم... "وذكر نحوه".
وهذا النبي هو إدريس -عليه السلام- كما قال أبو ذر ابن الشيخ الإمام سبط ابن العجمي في "تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" "رقم 258، 932- بتحقيقنا"، والأبي في "إكمال الإكمال" "2/ 239"، وحاجي خليفة في "كشف الظنون" "1/ 912"، واقتصروا عليه، وذكره الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين" "9/ 118"، وشبير العثماني في "فتح الملهم شرح صحيح مسلم" "2/ 135"، وذكرا معه قولا آخر، وهو "دانيال".

 

ج / 1 ص -65-         في الكتب، وجميعُه1 يقطع بأنه مقصود لما تقدم.
وبه تعلم الجواب عن السؤال الرابع، وأن قوله:
{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185] لا يدخل فيه من وجوه الاعتبار علوم الفلسفة التي لا عهد للعرب بها2، ولا يليق بالأميين الذين بُعث فيهم النبي الأمي -صلى الله عليه وسلم- بملة سهلة سمحة، والفلسفة -على فرض أنها جائزة الطلب- صعبة المأخذ، وعرة المسلك، بعيدة الملتمس، لا يليق الخطاب بتعلمها كي تُتعرف آيات الله ودلائل توحيده3 للعرب الناشئين في محض الأمية؛ فكيف وهي مذمومة على ألسنة أهل الشريعة، مُنبَّه على ذمها بما تقدم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وجميع المسطور في هذه الكتب يأتون فيه بما يدل على القطع بأن هذه الآيات مقصود منها ما استدلوا عليه، يعني: وإنما هي تكلفات لا تليق بلسان العرب ومعهودها. "د".
قلت: وهنالك أمثلة من إسقاطات العقلانيين و"العلمانيين" يضحك منها العقلاء بله العلماء، والله الهادي. وفي "ط": "بأنه غير مقصود ما تقدم".
2 إذا نظرنا للحديث الصحيح:
"بلغوا عني ولو آية؛ فرب مبلغ أوعى من سامع"، مع العلم بأن القرآن للناس كافة، وأنه ليس مخاطبا به خصوص طائفة العرب في العهد الأول لها، بل العرب كلهم في عهدهم الأول وغيره وغير العرب كذلك، إذا نظرنا بهذا النظر؛ لا يمكننا أن نقف بالقرآن وبعلومه وأسراره وإشاراته عند ما يريده المؤلف وكيف نوفق بين ما يدعو إليه من ذلك وبين ما ثبت من أنه لا ينضب معينه؟ والخير في الاعتدال؛ فكل ما لا تساعد عليه اللغة، ولا يدخل في مقاصد التشريع؛ يعامل المعاملة التي يريدها المؤلف، أما ما لا تنبو عنه اللغة، ويدخل في مقاصد الشريعة بوجه؛ فلا يوجد مانع من إضافته إلا الكتاب العزيز، ومنه ما يتعلق بالنظر في مصنوعات الله للتدبر والاعتبار وتقوية الإيمان وزيادة الفهم والبصيرة. "د".
3 من الآيات المبثوثة في السماء والأرض ما يكفي في إدراكه النظر الفطري، ومنها ما يُدرك بمزاولة قوانين علمية، ولا مانع من أن يبقى هذا القسم في الآيات المرغب في تدبرها؛ فإن النظر الذي يحث عليه مثل قوله تعالى:
{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101] لم يحد بنهاية أو ينص فيه على طريق معين. "خ".

 

ج / 1 ص -66-         في أول المسألة.
فإذا ثبت هذا؛ فالصواب أن ما لا ينبني عليه عمل؛ غيرُ مطلوب في الشرع.
فإن كان ثم ما يتوقف عليه المطلوب؛ كألفاظ اللغة، وعلم النحو، والتفسير، وأشباه ذلك؛ فلا إشكال أن ما يتوقف عليه المطلوب مطلوب، إما شرعا، وإما عقلا، حسبما تبيَّن في موضعه، لكن هنا معنى آخر لا بد من الالتفات إليه، وهو:

 

ج / 1 ص -67-         المقدمة السادسة:
وذلك أن ما يتوقف عليه معرفة المطلوب قد يكون له طريق تقريبي يليق بالجمهور، وقد يكون له طريق لا يليق بالجمهور، وإن فُرِضَ1 تحقيقا.
فأما الأول؛ فهو المطلوب، المنبَّه عليه، كما إذا طُلب معنى المَلَك؛ فقيل: إنه خَلْقٌ مِنْ خَلْق الله يتصرف في أمره، أو معنى الإنسان؛ فقيل: إنه هذا الذي أنت من جنسه، أو معنى التخوف؛ فقيل: هو التنقص، أو معنى الكوكب؛ فقيل: هذا الذي نشاهده بالليل، ونحو ذلك؛ فيحصل فهم الخطاب مع هذا الفهم التقريبي حتى يمكن الامتثال.
وعلى هذا وقع البيان في الشريعة؛ كما قال عليه السلام:
"الكِبْرُ بَطر الحق وغمطُ الناس"2؛ ففسَّره بلازمه الظاهر لكل أحد، وكما تُفسر ألفاظ القرآن والحديث بمرادفاتها لغة، من حيث كانت أظهر في الفهم منها، وقد بيَّن عليه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سينازع في كونه تحقيقا، وأنه يتعذر الوصول لحقائق الأشياء؛ فلذا قال: "وإن فرض" "د".
قلت: وفي نسخة "م": "وإن قرض" بالقاف، وهو خطأ.
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، 1/ 93/ رقم 91" من حديث ابن مسعود, رضي الله عنه.

 

ج / 1 ص -68-         السلام, الصلاة والحج بفعله وقوله على ما يليق بالجمهور، وكذلك سائر الأمور، وهي عادة العرب، والشريعة عربية، ولأن الأمة أمية؛ فلا يليق بها من البيان إلا الأمي، وقد تبين هذا في كتاب المقاصد مشروحا، والحمد لله.
فإذًا؛ التصورات المستعملة في الشرع إنما هي تقريبات بالألفاظ المترادفة وما قام مقامها من البيانات القريبة.
وأما الثاني -وهو ما لا يليق بالجمهور- فعدم مناسبته للجمهور أخرجه عن اعتبار الشرع له؛ لأن مسالكه صعبة المرام،
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، كما إذا طلب معنى الملك، فأحيل به على معنى أغمض منه، وهو: ماهية مجردة عن المادة أصلا، أو يقال: جوهرٌ بسيط ذو نهاية ونطق عقلي، أو طلب معنى الإنسان؛ فقيل: هو الحيوان الناطق المائت1، أو يقال: ما الكوكب؟ فيجاب بأنه جسم بسيط، كُرِيٌّ، مكانه الطبيعي نفس الفلك، من شأنه أن يُنير، متحرك على الوسط، غير مشتمل عليه، أو سئل عن المكان؛ فيقال: هو السطح الباطن من الجرم الحاوي، المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا تعرفها العرب، ولا يوصل إليها إلا بعد قطع أزمنة في طلب تلك المعاني، ومعلوم أن الشارع لم يقصد إلى هذا ولا كلف به2.
وأيضا؛ فإن هذا تسور على طلب معرفة ماهيات الأشياء3، وقد اعترف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بمعنى الميت؛ أي: الذي مآله الموت. انظر "لسان العرب" "م و ت".
2 تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية على فساد المنطق وعلم الكلام في المجلد التاسع من "مجموع الفتاوى"، وفي كتابه "الرد على المنطقيين"، وغير ذلك.
3 معرفة كنه الأشياء ينفع في علوم الطبيعة، والعلوم المعروفة اليوم كالطب والهندسة والفلك، أما في "الإلهيات"؛ فهو علم لا ينفع.

 

ج / 1 ص -69-         أصحابه بصعوبته، بل قد نقل بعضهم أنه عندهم متعذر، وأنهم أوجبوا أن لا يُعرف شيء من الأشياء على حقيقته؛ إذ الجواهر لها فصول مجهولة, والجواهر عرفت بأمور سلبية؛ فإن الذاتي الخاص1 إن عُلم في غير هذه الماهية لم يكن خاصا، وإن لم يعلم فكان غير ظاهر للحس, فهو مجهول، فإن عُرِّف ذلك الخاص بغير ما يخصه؛ فليس بتعريف، والخاص به كالخاص المذكور أولا؛ فلا بد من الرجوع إلى أمور محسوسة، أو ظاهرة من طريق أخرى, وذلك لا يفي بتعريف الماهيات، هذا في الجوهر، وأما العرض؛ فإنما يعرف باللوازم؛ إذ لم يقدر أصحاب هذا العلم على تعريفه بغير ذلك.
وأيضا ما ذكر في الجواهر أو غيرها من الذاتيات لا يقوم البرهان على أن ليس ذاتي سواها، وللمنازع أن يطالب بذلك, وليس للحادّ أن يقول: لو كان ثم وصف آخر لاطلعت عليه؛ إذ كثير من الصفات غير ظاهر. ولا يقال أيضا:
لو كان ثم ذاتي آخر ما عُرفت الماهية [دونه]2؛ لأنا نقول: إنما تُعرف الحقيقة إذا عُرف جميع ذاتياتها، فإذا جاز أن يكون ثم ذاتي لم يعرف؛ حصل الشك في معرفة الماهية.
فظهر أن الحدود على ما شرطه أربابُ الحدود يتعذر الإتيان بها، ومثل هذا لا يُجعل من العلوم الشرعية التي يُستعان بها فيها، وهذا المعنى تقرر، وهو أن ماهيات الأشياء لا يعرفها على الحقيقة إلا باريها؛ فتسوُّر الإنسان على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1الذي يُراد جعله فصلا إن علم بوجوده في غير الماهية التي يُراد جعله فصلا لها؛ لم يكن خاصا، وإن لم يعلم في غيرها؛ كان مجهولا، فإن عرّفناه بشيء لا يخصه؛ فليس تعريفا له، وإن عرّفناه بشيء خاص به؛ انتقل الكلام إليه، كالخاص الذي هو موضوع الكلام، فيتسلسل؛ فلا بد من الرجوع في كون الفصل ذاتيا خاصا إلى أمور محسوسة... إلخ، وذلك نادر الحصول؛ فلا يفي بما يُطلب من تعريف الماهيات الكثيرة "د".
2 ليست في الأصل.

 

ج / 1 ص -70-         معرفتها رمي في عماية، هذا كله في التصور.
وأما [في]1 التصديق؛ فالذي يليق منه بالجمهور ما كانت مقدمات الدليل فيه ضرورية، أو قريبة من الضرورية، حسبما يتبين في آخر هذا الكتاب بحول الله وقوته.
فإذا كان كذلك؛ فهو الذي ثبت طلبه في الشريعة، وهو الذي نبَّه القرآن على أمثاله؛ كقوله [تعالى]2:
{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل: 17].
وقوله تعالى:
{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] إلى آخرها.
وقوله تعالى:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ [مِنْ شَيْءٍ]3} [الروم: 40].
وقوله تعالى:
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
وقوله تعالى:
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: 58-59].
وهذا إذا احتيج إلى الدليل في التصديق، وإلا؛ فتقرير الحكم كافٍ.
وعلى هذا النحو مر السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف4 والمخالف، ومن نظر في استدلالالهم على إثبات الأحكام التكليفية؛ علم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين، لكن من غير ترتيب متكلَّف، ولا نظم مؤلف5، بل كانوا يرمون بالكلام على عواهنه، ولا يُبالون كيف وقع في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من الأصل.
2، 3 ساقطات من الأصل.
4 في "م": "للموافق".
5 كقياسات المنطق "د".

 

ج / 1 ص -71-         ترتيبه، إذا كان قريب المأخذ، سهل الملتمس، هذا وإن كان راجعا1 إلى نظم الأقدمين في التحصيل؛ فمن حيث كانوا يتحرون إيصال المقصود، لا من حيث احتذاء من تقدَّمهم.
وأما إذا كان الطريق مرتبا على قياسات مركبة أو غير مركبة؛ إلا أن في إيصالها إلى المطلوب بعض التوقف للعقل؛ فليس هذا الطريق بشرعي، ولا تجده في القرآن، ولا في السنة، ولا في كلام السلف الصالح2؛ فإن ذلك متلفة للعقل ومحارة له قبل بلوغ المقصود، وهو بخلاف وضع التعليم، ولأن المطالب الشرعية إنما هي في عامة الأمر وقتية3؛ فاللائق بها ما كان في الفهم وقتيا، فلو وضع النظر في الدليل غير وقتي؛ لكان مناقضا لهذه المطالب، وهو غير صحيح.
وأيضا؛ فإن الإدراكات ليست على فن واحد، ولا هي جارية على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: قد يتفق أن يكون على نظم الأقيسة لا من حيث إنهم قصدوا الاقتداء بالفلاسفة في تركيب الأدلة، بل من جهة أنهم قصدوا الوصول إلى المقصود، فاتفق لهم المشاكلة في النظم كما سيأتي في حديث:
"كل مسكر خمر، وكل خمر حرام"؛ إلا أنه نادر، كما يأتي في آخر مسألة في الكتاب "د" قلت: انظر "5/ 418"، وسيأتي تخريج الحديث "4/ 360".
2 جرى السلف في البحث عن العقائد على طريقة الكتاب العزيز حتى رفع المعاندون من المتفلسفة والمبتدعة رءوسهم بإلقاء الشكوك والشبه على حقائق الدين؛ فلم يسع علماء الكلام إلا أن تصدوا لمكافحتهم بمثل السلاح الذي كانوا يهاجمونهم به، وأخذ البحث في العقائد هيئة غير هيئته الأولى، وإنما يكون هذا الصنيع بدعة مكروهة حيث يتحقق أنه رفع أو بدل حقيقة شرعية "خ".
3 أي: مطلوب تحصيلها في الوقت التالي للخطاب بها، بدون التراخي الذي يقتضيه السير في طريقة الاستدلال المنطقي، ونظام المناقضات والمعارضات والنقوض الإجمالية، التي قد تستغرق الأزمان الطويلة، ولا تستقر النفس فيها على ما ترتاح إليه، مع كثرة المطالب الشرعية اليومية وغيرها. "د".

 

ج / 1 ص -72-         التساوي في كل مطلب؛ إلا في الضروريات وما قاربها؛ فإنها لا تفاوت فيها يُعتدُّ به، فلو وُضعت الأدلة على غير ذلك1؛ لتعذر هذا المطلب، ولكان التكليف خاصا لا عاما، أو أدى إلى تكليف ما لا يُطاق2، أو ما فيه حرج، وكلاهما مُنتفٍ عن الشريعة، وسيأتي في كتاب "المقاصد" تقرير هذا المعنى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: غير ما كان من الضروريات وما قاربها. "د".
2 في "م": "يطلق".

 

ج / 1 ص -73-         المقدمة السابعة:
كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون [من]1 حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى, فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى؛ فبالتبع والقصد الثاني، لا بالقصد الأول، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: ما تقدَّم في المسألة قبل أن كل علم لا يُفيد عملا2؛ فليس في الشرع ما يدلُّ على استحسانه، ولو كان له غاية أخرى شرعية؛ لكان مستحسنا شرعا، ولو كان مستحسنا شرعا؛ لبحث عنه الأولون3 من الصحابة والتابعين،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من الأصل و"م" و"خ".
2 كالفلسفة النظرية الصرفة، أما الفلسفة العملية؛ كالهندسة، والكيمياء، والطب، والكهرباء, وغيرها؛ فليست داخلة في كلامه، ولا يصح أن يقصدها؛ لأنها علوم يتوقف عليها حفظ مقاصد الشرع في الضروريات والحاجيات... إلخ، والمصالح المرسلة تشملها، وهي وسيلة إلى التعبد أيضا؛ لأن التعبد هو تصرف العبد في شئون دنياه وأخراه بما يقيم مصالحهما، بحيث يجري في ذلك على مقتضى ما رَسم له مولاه، لا على مقتضى هواه؛ كما سيأتي للمؤلف. "د".
3 ممنوع؛ فكم من علم شرعي لم يبحث عنه الأولون لعدم الحاجة إليه عندهم؟ وأقربها إلينا علم الأصول، ولم يبدأ البحث في تأصيل مسائله في عهد الصحابة والتابعين. "د".
وقال "خ": "من العلوم ما تقتضيه حال العصر؛ كعلم الكيمياء، والهندسة، ومباحث الحرارة والكهرباء، وقاعدة وزن الثقل، وما يشاكلها من العلوم التي لا يمكن الخلاص من الأعداء إلا بالقيام عليها، ولم يبحث عنها الأولون من الصحابة والتابعين؛ لأن الحاجة الداعية إلى تعلمها لم تظهر في ذلك العهد بمثل الوجه الذي ظهرت به اليوم".

 

ج / 1 ص -74-         وذلك غير موجود، فما يلزم عنه كذلك.
والثاني: أن الشرع إنما جاء بالتعبُّد، وهو المقصود من بعثة الأنبياء -عليهم السلام- كقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [النساء: 1].
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود: 1-2].
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1].
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].
{[
الْحَمْدُ لِلَّهِ] الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]؛ أي: يُسوون به غيره في العبادة؛ فذمهم على ذلك.
وقال:
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92].
{لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} [الكهف: 2].
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} الآية [الزمر: 2-3].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من الأصل.

 

ج / 1 ص -75-         وما أشبه ذلك من الآيات التي لا تكاد تُحصى، كلها دال على أن المقصود التعبد لله، وإنما أُتوا بأدلة التوحيد ليتوجهوا إلى المعبود بحق وحده، سبحانه لا شريك له، ولذلك قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19].
وقال:
{فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 14].
وقال:
{هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 65].
ومثله سائر المواضع التي نص فيها على كلمة التوحيد، لا بد أن أُعقبت بطلب التعبد لله وحده، أو جُعل مقدمة لها، بل أدلة التوحيد هكذا جرى مساق القرآن فيها: ألا تُذكر إلا كذلك1؛ وهو واضح في أن التعبد لله هو المقصود من العلم، والآيات في هذا المعنى لا تُحصى.
والثالث: ما جاء من الأدلة الدالة على أن روح العلم هو العمل، وإلا؛ فالعلم عارية وغير منتفع به؛ فقد قال الله تعالى:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
وقال:
{وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: 68].
قال قتادة: يعني لذو عمل بما علَّمناه2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المثبت من "ط" فقط، وفي سائر النسخ: "إلا تذكرة إلا كذا"، وهو خطأ.
2 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "13/ 15"، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ؛ كما في "الدر المنثور" "4/ 557". وقال "خ" معلقا عليه: "ولا وجه لهذا التأويل على ما يطابق وضعها المألوف قيما لا عوج فيه، وهو الثناء على يوسف -عليه السلام- بفضيلة العلم، وبيان أنه مفاض عليه بتعليم الله إياه على طريق الوحي، أو نصب الأدلة الكونية".

 

ج / 1 ص -76-         وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ...} إلى أن قال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} الآية [الزمر: 9].
وقال تعالى:
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 44].
ورُوي عن أبي جعفر محمد بن علي في قول الله تعالى:
{فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: 94]؛ قال: قوم وصفوا الحق والعدل بألسنتهم، وخالفوه إلى غيره1.
وعن أبي هريرة؛ قال:
"إن في جهنم أرْحاء تدور بعُلماء السوء، فيُشرف عليهم بعض من كان يعرفهم في الدنيا، فيقول: ما صيَّركم في هذا، وإنما كنا نتعلم منكم؟ قالوا: إنا كنا نأمركم بالأمر, ونخالفكم إلى غيره"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1194".
2 أخرج نحو هذا الحديث عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- البخاري في "صحيحه" "كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، 6/ 331/ رقم 3267، وكتاب الفتن، باب الفتنة التي تموج كموج البحر، 13/ 48/ رقم 7098"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزهد، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله، 4/ 2290/ رقم 2989"، ولفظ البخاري:
"يجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاهُ؛ فيجتمع أهل النار عليه؛ فيقولون: أي فلان! ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه".
وأخرجه من حديث أبي هريرة باللفظ المذكور عند المصنف الديلمي في "المسند" "رقم 845"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1177" بسند ضعيف جدا، ونحوه عن أنس عند ابن عدي وابن عساكر، وعن ابن عمر عند ابن عساكر بإسناد فيه متهم بالكذب؛ كما في "إتحاف السادة المتقين" "10/ 519"، ويغني عن هذه الأحاديث حديث أسامة السابق، وكان ينبغي للمصنف أن يقتصر عليه، ولكنه يتابع الغزالي -في بعض الأحايين- في نقل الأحاديث من "الإحياء"، وضعفها مشهور معلوم، والله الموفق.

 

ج / 1 ص -77-         وقال سفيان الثوري: "إنما يُتعلَّم العلم ليُتَّقى به الله، وإنما فُضِّل العلم على غيره؛ لأنه يُتقى الله به"1.
وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
"لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يُسأل عن خمس خِصال"، وذكر فيها: $"وعن علمه, ماذا عمل فيه؟"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "ص82".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب في القيامة، 4/ 612/ رقم 2416"، وأبو يعلى في "المسند" "9/ 178/ رقم 5271"، والطبراني في "الكبير" "10/ 8-9/ رقم 9772"، و"الصغير" "1/ 269"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 763-764"، والخطيب في "التاريخ" "12/ 440"، والآجري في "أخلاق العلماء" "ص96" من طريق حسين بن قيس الرحبي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر عن ابن مسعود مرفوعا به.
قال الترمذي عقبه: "هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا من حديث الحسين بن قيس، وحسين بن قيس يُضعَّفُ في الحديث من قِبَل حفظه".
قلت: إسناده ضعيف؛ إلا أن للحديث شواهد يصحح بها، منها:
حديث أبي بَرْزة الأسلمي: أخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 2417" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- والدارمي في "السنن" "1/ 135"، وأبو يعلى في "المسند" "13/ 428/ رقم 7434"، والخطيب في "اقتضاء العلم العمل" "رقم 1، ص16-17"، وابن أبي الدنيا في "إصلاح المال" "رقم 30"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 494"، وأبو نعيم في الحلية "10/ 232"، وإسناده حسن.
وأخرجه الطبراني في "الأوسط" "رقم 2212" بإسناد واه عن أبي برزة، وفيه زيادة:
"وعن حب أهل البيت"، وفيه معروف بن خرَّبوذ، ترجمه الذهبي في "الميزان" "1/ 443"، وقال: "أتى بخبر باطل..." وذكره، إلا أنه جعله من مسند أبي ذر.
قلت: وهو كذلك في "تاريخ ابن عساكر" "12/ ق 126"، وأخرجه الطبراني في "الكبير" "11/ 102/ رقم 11177" بهذه الزيادة بإسناد ضعيف جدا، فيه حسين بن الحسن الأشقر، كان يشتم السلف، كذا في "المجمع" "10/ 346".
حديث معاذ بن جبل: أخرجه الطبراني في "الكبير" "20/ 60-61/ رقم 11"، والخطيب في "التاريخ" "11/ 441-442"، و"الاقتضاء" "رقم 2"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 493" بإسناد لا بأس به في الشواهد، وصححه المنذري في "الترغيب" "4/ 185".
وقد اضطرب فيه ليث بن أبي سُليم؛ فكان يرفعه مرة، ويوقفه مرة عن معاذ؛ كما عند هناد في "الزهد" "رقم 724"، والدارمي في "السنن" "1/ 135"، والبزار في "المسند" "رقم 3437، 3438"، والخطيب في "الاقتضاء" "رقم 3"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1208".
وانظر: "مجمع الزوائد" "10/ 346"، و"السلسلة الصحيحة" "رقم 946".

 

ج / 1 ص -78-         وعن أبي الدرداء: "إنما أخاف أن يُقال لي يوم القيامة: أَعَلِمْتَ أم جَهِلْتَ؟ فأقول: علمت. فلا تبقى آية من كتاب الله آمرة أو زاجرة إلا جاءتني تسألني فريضتها، فتسألني الآمرة: هل ائتمرت؟ والزاجرة: هل ازدجرت؟ فأعوذ بالله من علم لا ينفع، [ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع]1، ومن دعاء لا يُسمع"2.
وحديث أبي هريرة في الثلاثة الذين هم أول من تُسعَّر بهم النار يوم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقطة من الأصل.
2 أخرجه أحمد في "الزهد" "2/ 58"، وابنه عبد الله في "زوائده" "2/ 65" -ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية" "1/ 213-214"- وعبد الرزاق في "المصنف" "11/ 253" -ومن طريقه البيهقي في "المدخل" "رقم 489"- وابن أبي شيبة في "المصنف" 13/ 311"، والدارمي في مقدمة "السنن" "1/ 82"، وابن المبارك في "الزهد" "رقم 39" -ومن طريقة ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1201"- وأبو داود في "الزهد" "رقم 226، 254"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "5/ 17، 18/ تهذيب ابن بدران"، والخطيب في "اقتضاء العلم العمل" "رقم 51، 53، 54، 55"، وابن الجوزي في "صفة الصفوة" "1/ 630"، والآجري في "أخلاق العلماء "ص97-ط المغرب" من طرق عن أبي الدرداء مطولا ومختصرا، والمطول الذي فيه: "فلا تبقى آية في كتاب الله..."، أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1207"، وهو عند أبي داود وعبد الله بن أحمد، وإسناده لا بأس به.
وأخرجه دونه أيضا البيهقي في "المدخل" "رقم 492" و"الشعب" "4/ 411", وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1204"، وهو صحيح مختصرا.

 

ج / 1 ص -79-         القيامة، قال فيه: "ورجل تعلم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به فعرَّفه نِعَمه فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟ قال: تعلَّمت فيك العلم وعلَّمته، وقرأتُ القرآن. قال: كذبت، ولكن ليقال: فلان قارئ؛ فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار"1.
وقال:
"إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة عالما لم ينفعه الله بعلمه"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، 3/ 1513-1514/ رقم 1905"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب ما جاء في الرياء والسمعة/ رقم 2383"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الجهاد، باب من قاتل ليقال: فلان جريء، 6/ 23، 24".
2 أخرجه الطبراني في "الصغير" "1/ 305/ رقم 507- الروض الداني"، وابن عدي في "الكامل" "5/ 1807"، والبيهقي في "الشعب" "2/ 284-285/ رقم 1778"، والخطيب في "الكفاية" "6-7"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 162" من طريق عثمان البري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا.
وإسناده ضعيف جدا، مداره على عثمان بن مقسم البري، قال الطبراني: "لم يروه عن المقبري إلا عثمان البري"، وهو ضعيف جدا، واتهمه ابن معين بالوضع، وألان الهيثمي في "المجمع" "1/ 185" فيه الكلام بقوله بعد عزو الحديث للطبراني في "الصغير": "وفيه عثمان البري، قال الفلاس: صدوق كثير الغلط، صاحب بدعة، ضعّفه أحمد والنسائي والدارقطني".
وضعف الحديث العراقي في "تخريجه لأحاديث الإحياء" "1/ 3 و3/ 377"، والمنذري في "الترغيب والترهيب" "1/ 78"، وابن حجر كما قال المناوي في "فيض القدير" "1/ 518"؛ إلا أنه لم يرتض حكم هؤلاء الحفاظ، فاستدرك عليهم بقوله: "لكن للحديث أصل أصيل"، وعزا للحاكم حديث ابن عباس بلفظ:
"أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا، أو قتله نبي، أو قتل أحد والديه, والمصوّرون، وعالم لم ينتفع بعلمه".
قلت: أخرجه أبو القاسم الهمذاني في "فوائده" "1/ 196/ 1" -كما في "السلسلة الضعيفة" "رقم 1617"- من طريق عبد الرحيم أبي الهيثم عن الأعمش عن الشعبي عن ابن عباس مرفوعا. =

 

ج / 1 ص -80-         وروي أنه -عليه السلام- كان يستعيذ من علم لا ينفع1.
وقالت الحكماء: "من حَجب الله عنه العلم؛ عذَّبه به على الجهل، وأشد منه عذابا من أقبل عليه العلم فأدبر عنه، ومن أهدى الله إليه علما فلم يعمل به"2.
وقال معاذ بن جبل: "اعلموا ما شئتم أن تعلموا؛ فلن يأجُركم الله بعلمه حتى تعملوا"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال شيخنا الألباني: "وهذا إسناد واهٍ، آفته عبد الرحيم هذا، وهو ابن حماد الثقفي، قال العقيلي في "الضعفاء": "حدث عن الأعمش مناكير، وما لا أصل له من حديث الأعمش"، ثم ساق له أحاديث ونقلها الذهبي عنه، ثم قال: "ولا أصل لها من حديث الأعمش"، ثم قال: "عبد الرحيم هذا شيخ واه، لم أر لهم فيه كلاما، وهذا عجيب"".
ثم بيَّن أن الحديث ليس في "المستدرك" وقال: "وقد ثبت الحديث من رواية ابن مسعود مرفوعا دون جملة الوالدين، وكذا جملة العالم... وهو مخرج في "الصحيحة" "رقم 281"".
قلت: فالحديث المذكور ضعيف جدا مرفوعا، ولكنه ثبت عن أبي الدرداء من قوله، أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 82"، وابن المبارك في "الزهد" "رقم 40"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 223"، وابن عبد البر في "الجامع" "1/ 165" بإسناد رجاله ثقات.
1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب التعوذ من شر ما عمل، 4/ 2088/ رقم 2722" مطولا من حديث زيد بن أرقم مرفوعا:
"اللهم! إني أعوذ بك من علم لا ينفع". وفي الباب عن عبد الله بن عمرو عند الترمذي في "الجامع" "أبواب الدعوات، باب منه، 5/ 519/ رقم 4382"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من قلب لا يخشع، 8/ 255"، وتصدير المصنف للحديث بصيغة التمريض "روي" ليس بجيد، والحديث صحيح ثابت، والله الموفق.
2 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "1214".
3 أخرجه ابن المبارك في "الزهد" "رقم 62" -ومن طريقه أبو داود في "الزهد" "رقم 196"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 236"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 693/ =

 

ج / 1 ص -81-         وروي أيضا مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه زيادة: "إن العلماء همتهم الرعاية، وإن السفهاء همتهم الرواية"1.
وروي موقوفا أيضا عن أنس بن مالك2، وعن عبد الرحمن بن غَنْم؛ قال: حدَّثني عشرة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: كنا نتدارس العلم في مسجد قُباء؛ إذ خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال:
"تعلَّموا ما شئتم أن تعلَّموا؛ فلن يأجركم الله حتى تعملوا"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رقم 1227-ط الجديدة"- والدارمي في "السنن" "1/ 81"، وأحمد في "الزهد" "ص181" بإسناد رجاله ثقات إلى معاذ موقوفا، وفيه انقطاع، يزيد بن جابر لم يدرك معاذا.
1 أخرجه الخطيب البغدادي في "اقتضاء العلم العمل" "رقم 7، 8"، و"التاريخ" "10/ 94"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 458-459"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 236"، وابن الشجري في "أماليه" "1/ 62" عن معاذ مرفوعا، وله إسنادان، كل منهما ضعيف جدا، وفيه انقطاع في الأول بكر بن خنيس، وهو متروك، وحمزة النصيبي مثله, بل أشد؛ إذ هو متهم بالوضع، وفي الآخر عثمان بن عبد الرحمن الجمحي، عامة ما يرويه مناكير؛ كما قال ابن عدي.
والزيادة التي في آخره:
"إن العلماء همتهم الرعاية" إنما هي من قول الحسن؛ كما عند الخطيب في "الاقتضاء" "رقم 39"، وأرسلها في رواية عند ابن عساكر "19/ 78/ 2"، وهي خطأ، ومدارها على أبي محمد الأطرابلسي، وهو مجهول.
2 أشار إليه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 694-695"، وأفاد أنه جاء عن أنس مرفوعا وموقوفا، وأسند الموقوف، وفيه وفي المرفوع عباد بن عبد الصمد، قال ابن حبان: "واه، وله عن أنس نسخة أكثرها موضوعة".
وقال ابن عبد البر إثر الموقوف: "وهو أولى من رواية من رواه مرفوعا، وعباد بن عبد الصمد ليس ممن يحتج به، بل هو ممن لا يشتغل بحديثه؛ لأنه متفق على تركه وتضعيفه".
وأخرج الموقوف أبو الحسن بن الأخرم في "أماليه".
3 ذكره ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 694/ رقم 1228" عن مكحول عن عبد الرحمن بن غنم مثله، وقال ابن السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" "6/ 289": "لم أجد له إسنادا". وانظر: "إتحاف السادة المتقين" "1/ 373".

 

ج / 1 ص -82-         وكان رجل يسأل أبا الدرداء؛ فقال له: كل ما تسأل عنه تعمل به؟ قال: لا. قال: فما تصنع بازدياد حُجَّة الله عليك؟1.
وقال الحسن: "اعتبروا الناس بأعمالهم، ودعوا أقوالهم؛ فإن الله لم يدع قولا إلا جعل عليه دليلا من عمل يصدّقه أو يكذّبه، فإذا سمعت قولا حسنا؛ فَرويدا بصاحبه، فإن وافق قوله عمله؛ فنِعْم ونعمةَ عَين"2.
وقال ابن مسعود: "إن الناس أحسنوا القول كلهم, فمن وافق فعله قوله؛ [فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف فعله قوله]3؛ فإنما يُوبِّخ نفسه"4.
وقال الثوري: "إنما يطلب الحديث ليُتَّقى به الله -عز وجل- فلذلك فُضِّل على غيره من العلوم، ولولا ذلك كان كسائر الأشياء"5.
وذكر مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد؛ قال: "أدركت الناس وما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1232".
2 أخرجه عبد الله بن المبارك في "الزهد" "رقم 77"، ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1234"، وفيه يحيى بن المختار، قال عنه ابن حجر في "التقريب": "مستور".
3 ساقطة من الأصل، واستشكل الناسخ السياق؛ فكتب في الهامش: قوله: "يوبخ نفسه" كذا في النسخ!! وهو إما تحريف، أو مرتب على كلام نقص من هذه النسخ.
4 قلت: وفي "خ": "يربح نفسه"!! أخرجه ابن المبارك في "الزهد" "رقم 75" -ومن طريقه الفسوي في "المعرفة والتاريخ"، وابن أبي الدنيا في "الصمت" "رقم 627"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1233"- ووكيع في "الزهد" "رقم 266" -ومن طريقه أحمد في "الزهد" "2/ 108"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "6/ 414-415"- من طريقين عن ابن مسعود، أحدهما حسن. وذكر ابن قتيبة في "عيون الأخبار" "4/ 179" عن زبيد اليامي؛ قال: "أسكتتني كلمة ابن مسعود عشرين سنة..." وذكرها.
5 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1152، 1159"، وأبو نعيم "6/ 362، 366"، والبيهقي في "المدخل" "470"، وتمام في "الفوائد" "97- روض"، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" "298، 299" بإسناد حسن بألفاظ، مضى واحد منها في "ص77".

 

ج / 1 ص -83-         يعجبهم القول، إنما يعجبهم العمل"1، والأدلة على هذا المعنى أكثر من أن تُحصى، وكل ذلك يُحقق أن العلم وسيلة من الوسائل، ليس مقصودا لنفسه من حيث النظر الشرعي، وإنما هو وسيلة إلى العمل، وكل ما ورد في فضل العلم؛ فإنما هو ثابت للعلم من جهة ما هو مكلف بالعمل به2.
فلا يقال: إن العلم قد ثبت في الشريعة فضله، وإن منازل العلماء فوق منازل الشهداء، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن مرتبة العلماء تلي مرتبة الأنبياء، وإذا كان كذلك، وكان الدليل الدال على فضله مطلقا لا مقيَّدا؛ فكيف يُنكر أنه فضيلة مقصودة لا وسيلة؟ هذا وإن كان وسيلة من وجه؛ فهو مقصود لنفسه أيضا، كالإيمان3؛ فإنه شرط في صحة العبادات، ووسيلة إلى قبولها، ومع ذلك؛ فهو مقصود لنفسه.
لأنا نقول: لم يثبت فضله مطلقا بل من حيث التوسل به إلى العمل، بدليل ما تقدَّم ذكره آنفا، وإلا؛ تعارضت الأدلة، وتناقضت الآيات والأخبار،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2062، 2063" عن ابن وهب؛ قال: "قال لي مالك: أدركت أهل هذه البلاد، وإنهم ليكرهون هذا الإكثار الذي في الناس اليوم". قال ابن وهب: "يريد المسائل".
قال: "وقال مالك: إنما كان الناس يفتون بما سمعوا وعلموا، ولم يكن هذا الكلام في الناس اليوم".
2 تكلَّم ابن القيم عن العلم والعمل في مواطن عديدة من كتبه؛ منها: "إعلام الموقعين" "1/ 165-169 و3/ 394 و2/ 158"، و"مفتاح دار السعادة" "52-196، 175، 183، 188، 189، 190، 304"، و"الداء والدواء" "3"، و"المدارج" "2/ 60، 293، 464-478 و3/ 260، 302، 325"، و"روضة الطالبين" "68، 156، 195، 305"، و"البدائع" "2/ 62"، و"الزاد" "1/ 152"، و"الصواعق" "1/ 93-96"، و"طريق الهجرتين" "618".
3 في الأصل: "المقصود لنفسه كالإيمان أيضا".

 

ج / 1 ص -84-         وأقوال السلف الأخيار؛ فلا بد من الجمع بينها، وما ذُكر آنفا شارح لما ذُكر في فضل العلم والعلماء، وأما الإيمان؛ فإنه عمل من أعمال القلوب، وهو التصديق، وهو ناشئ عن العلم، والأعمال قد يكون بعضها وسيلة إلى البعض، وإن صح أن تكون مقصودة في أنفسها، أما العلم؛ فإنه وسيلة، وأعلى ذلك العلم بالله، ولا تصح به فضيلة لصاحبه حتى يصدِّق بمقتضاه، وهو الإيمان بالله.
فإن قيل: هذا متناقض؛ فإنه لا يصح العلم بالله مع التكذيب به.
قيل: بل1 قد يحصل العلم مع التكذيب2؛ فإن الله قال في قوم:
{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14].
وقال:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146].
وقال:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 20].
فأثبت لهم المعرفة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ثم بيَّن أنهم لا يؤمنون، وذلك مما يوضح أن الإيمان غير العلم؛ كما أن الجهل مُغايرٌ للكفر.
نعم، قد يكون العلم فضيلة، وإن لم يقع العمل به على الجملة، كالعلم بفروع الشريعة والعوارض الطارئة في التكليف، إذا فُرض أنها لم تقع في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ": "بلى".
2 يرى بعض أهل العلم أن المعتبر في الإيمان هو التصديق اللغوي، وهو بعينه التصديق المنطقي؛ كما قال السيد في حواشي شرح "التلخيص": إن المنطقي إنما يبين ما هو في العرف واللغة، وذهب فريق إلى أن التصديق اللغوي -وهو الشرعي- أخص من التصديق المنطقي؛ إذ يزيد عليه بقيد الاختيار والتسليم، وهذا ما جرى عليه المصنف في هذه المقدمة. "خ".

 

ج / 1 ص -85-         الخارج؛ فإن العلم بها حسن، وصاحب العلم مُثابٌ عليه وبالغ مبالغ العلماء، لكن من جهة ما هو مظنَّة الانتفاع عند وجود محله، ولم يُخرجه ذلك عن كونه وسيلة، كما أن في تحصيل الطهارة للصلاة فضيلة وإن لم يأت وقت الصلاة بعد، أو جاء ولم يمكنه أداؤُها لعذر، فلو فُرض أنه تطهَّر على عزيمة أن لا يُصلي؛ لم يصح له ثواب الطهارة، فكذلك إذا علم على أن لا يعمل؛ لم ينفعه علمه، وقد وجدنا وسمعنا أن كثيرا من اليهود والنصارى يعرفون دين الإسلام، ويعلمون كثيرا من أصوله وفروعه، ولم يكن ذلك نافعا لهم مع البقاء على الكفر1 باتفاق أهل الإسلام.
فالحاصل أن كل علم شرعي ليس بمطلوب إلا من جهة ما يتوسل به إليه، وهو العمل.
فصل
ولا يُنكر فضل العلم في الجملة إلا جاهل، ولكن له قصد أصلي وقصد تابع.
فالقصد الأصليُّ ما تقدم ذكره.
وأما التابع؛ فهو الذي يذكره الجمهور من كون صاحبه شريفا، وإن لم يكن في أصله كذلك، وأن الجاهل دنيء، وإن كان في أصله شريفا، وأن قوله نافذ في الأشعار والأبشار2 وحكمه ماض3 على الخلق وأن تعظيمه واجب على جميع المكلفين، إذ قام لهم مقام النبي؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، وأن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كالمستشرقين والمتخصصين من الكافرين في علوم الشريعة، وهو مشهور معلوم هذه الأيام.
2 أي: البشر. انظر: "لسان العرب" "ب ش ر".
3 في "ط": "قاض".

 

ج / 1 ص -86-         العلم جمال ومال ورتبة لا توازيها رتبة، وأهله أحياء أبد الدهر،... إلى سائر ما له في الدنيا من المناقب الحميدة، والمآثر الحسنة، والمنازل الرفيعة؛ فذلك كله غير مقصود من العلم شرعا، كما أنه غير مقصود من العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، وإن كان صاحبه1 يناله.
وأيضا؛ فإن في العلم بالأشياء لذة لا توازيها لذة2؛ إذ هو نوع من الاستيلاء على المعلوم والحوز له، ومحبة الاستيلاء قد جُبلت عليها النفوس ومُيلت3 إليها القلوب، وهو مطلبٌ خاص، برهانه التجربة التامة والاستقراء العام؛ فقد يُطلب العلم للتفكه به، والتلذذ بمحادثته، ولا سيما العلوم التي للعقول فيها مجال، وللنظر في أطرافها مُتسع، ولاستنباط المجهول من المعلوم فيها طريق متبع.
ولكن كل تابع من هذه التوابع؛ إما أن يكون خادما للقصد الأصلي، أو لا.
فإن كان خادما له؛ فالقصد إليه ابتداء صحيح، وقد قال تعالى في معرض المدح:
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
وجاء عن بعض السلف الصالح: اللهم اجعلني من أئمة المتقين، وقال عمر لابنه حين وقع في نفسه أن الشجرة التي هي مثل المؤمن النخلة: "لأن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "صاحبها".
2 ذهبت طائفة من الحكماء إلى أن اللذة الدنيوية محصورة في المعارف، وقالوا: ما يتوهم من لذة حسية كقضاء شهوتي البطن والفرج، أو خيالية كالازدهاء بالرئاسة والاستعلاء؛ فهو دفع ألم فقط؛ فالأولى دفع ألم الجوع والعطش ودغدغة المني لأوعيته، والثانية دفع ألم القهر والغلبة. "خ".
3 في "م": "مالت".

 

ج / 1 ص -87-         تكون قلتها أحب إليّ من كذا وكذا"1.
وفي القرآن عن إبراهيم, عليه السلام:
{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84].
فكذلك إذا طلبه لما فيه من الثواب الجزيل في الآخرة، وأشباه ذلك.
وإن كان غير خادم له؛ فالقصد إليه ابتداء غير صحيح، كتعلمه رياء، أو ليُماري به السفهاء، أو يُباهي به العلماء، أو يستميل به قلوب العباد، أو لينال من دنياهم، أو ما أشبه ذلك؛ فإن مثل هذا إذا لاح له شيء مما طلب زهد في التعلم، ورغب في التقدم، وصعب عليه إحكام ما ابتدأ فيه، وأنف من الاعتراف بالتقصير؛ فرضي بحاكم عقله، وقاس بجهله؛ فصار ممن سُئل فأفتى بغير علم؛ فضَلَّ وأضلَّ، أعاذنا الله من ذلك بفضله.
وفي الحديث:
"لا تعلَّموا العلم لُتباهوا به العلماء، ولا لتُماروا به السفهاء، ولا لتحتازوا به المجالس، فمن فعل ذلك؛ فالنار النار"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب الحياء في العلم، 1/ 229/ رقم 131، وكتاب الأدب، باب ما لا يستحى من الحق للتفقه في الدين، 10/ 523-524/ رقم 6122"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صفات المنافقين، باب مثل المؤمن مثل النخلة، 4/ 2164-2165/ رقم 2811"، وأحمد في "المسند" "2/ 31، 61، 115" عن ابن عمر, رضي الله عنهما.
قال "م": "كان ابن عمر حدثا؛ فاستحيا أن يذكر ما جال بخاطره".
2 أخرجه ابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، 1/ 93/ رقم 254"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 90- موارد"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 86"، والآجري في "أخلاق العلماء" "ص100"، والخطيب في "الجامع" "1/ 86-87"، وابن عبد البر في "الجامع" "1/ 187" من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- وصححه الحاكم والمنذري في "الترغيب والترهيب" "1/ 116"، وقال البوصيري في "زوائد ابن ماجه" "1/ 111": "هذا إسناد رجاله ثقات على شرط مسلم"؛ فهو صحيح.

 

ج / 1 ص -88-         وقال: "من تعلم علما ما يُبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا؛ لم يجد عَرف الجنة يوم القيامة"1.
وفي بعض الحديث: سئل عليه السلام عن الشهوة الخفية؛ فقال:
"هو الرجل يتعلم العلم يريد أن يُجلس إليه"2 الحديث.
وفي القرآن العظيم:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [الآية] [البقرة: 174].
والأدلة في المعنى كثيرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبوداود في "السنن" "كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير الله، 3/ 323/ رقم 3664"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، 1/ 92-93/ رقم 252"، وأحمد في "المسند" "2/ 338"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 85"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 89- موارد" والآجري في "أخلاق العلماء" "ص107"، والخطيب في "اقتضاء العلم العمل" "رقم 102"، و"تاريخ بغداد" "5/ 347 و8/ 78"، و"الجامع" "1/ 84"، وابن عبد البر في "الجامع" "1/ 190" بسند صحيح، وصححه الذهبي في "الكبائر" "ص120- بتحقيقي".
قال الحاكم: "هذا حديث صحيح، سنده ثقات، رواته على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "التلخيص"، وهو كما قالا.
2 أخرجه الديلمي في "الفردوس"، وقال ابن حجر: "وفيه إبراهيم بن محمد الأسلمي متروك"، قاله المناوي في "فيض القدير" "1/ 189".

 

ج / 1 ص -89-         المقدمة الثامنة:
العلم الذي هو العلم المعتبر شرعا -أعني الذي مدح الله ورسوله [صلى الله عليه وسلم] أهله على الإطلاق- هو العلم الباعث على العمل، الذي لا يُخلي صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعا أو كرها، ومعنى هذه الجملة أن أهل العلم في طلبه وتحصيله على ثلاث مراتب1:
المرتبة الأولى:
الطالبون له ولمّا يحصلوا على كماله بعد، وإنما هم في طلبه في رتبة التقليد، فهؤلاء إذا دخلوا في العمل به؛ فبمقتضى الحَمل التكليفي، والحث الترغيبي والترهيبي، وعلى مقدار شدة التصديق يخف ثقل التكليف؛ فلا يكتفي العلم ههنا بالحمل دون أمر آخر خارج مقوله؛ من زجر، أو قصاص، أو حد، أو تعزير، أو ما جرى هذا المجرى، ولا احتياج ههنا إلى إقامة برهان على ذلك؛ إذ التجربة الجارية في الخلق قد أعطت في هذه المرتبة برهانا لا يحتمل متعلقه النقيض بوجه.
والمرتبة الثانية:
الواقفون منه على براهينه، ارتفاعا عن حضيض التقليد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تكلم ابن تيمية نحو ما عند المصنف في مواطن من "مجموع الفتاوى"، منها: "5/ 270، 274، 3/ 30-34 و4/ 36-39".

 

ج / 1 ص -90-         المجرد، واستبصارا فيه، حسبما أعطاه شاهد النقل، الذي يصدِّقه العقل تصديقا يطمئن إليه، ويعتمد عليه؛ إلا أنه بعد منسوب إلى العقل لا إلى النفس، بمعنى أنه لم يصِر كالوصف الثابت للإنسان، وإنما هو كالأشياء المكتسبة، والعلوم المحفوظة، التي يتحكم عليها العقل، و[عليه]1 يعتمد في استجلابها، حتى تصير من جملة مودعاته، فهؤلاء إذا دخلوا في العمل؛ خف عليهم خفة أخرى زائدة على مجرد التصديق في المرتبة الأولى، بل لا نسبة بينهما2؛ إذ هؤلاء يأبى لهم البرهان المصدق أن يكذبوا، ومن جملة التكذيب الخفي؛ العمل على مخالفة العلم الحاصل لهم، ولكنهم حين لم يصر لهم كالوصف، ربما كانت أوصافهم الثابتة من الهوى والشهوة الباعثة الغالبة أقوى الباعثين؛ فلا بد من الافتقار إلى أمر زائد من خارج، غير أنه يتسع في حقهم؛ فلا يُقتصر فيه على مجرد الحدود والتعزيرات، بل ثَم أمور أُخر كمحاسن العادات، ومطالبة المراتب التي بلغوها بما يليق بها، وأشباه ذلك.
وهذه المرتبة أيضا يقوم البرهان عليها من التجربة، إلا أنها أخفى مما قبلها، فيحتاج إلى فضل نظر موكول إلى ذوي النباهة في العلوم الشرعية، والأخذ في الاتصافات السلوكية.
والمرتبة الثالثة:
الذين صار لهم العلم وصفا من الأوصاف الثابتة، بمثابة الأمور البديهية في المعقولات الأول، أو تُقاربها، ولا يُنظر إلى طريق حصولها؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقطة من الأصل.
2 لو عقدنا موازنة بين علماء السلف وعلماء العصور المتأخرة؛ لوجدنا الفرق بينهما من جهة الورع والقيام بفريضة الإرشاد واضحا جليا، ولم يكن هذا التفاضل فيما أحسب إلا لأن علماء السلف لا يقنعون بتصور الأحكام العملية حتى ينفذوا منها إلى معرفة أسرارها وأدلتها، وبعد أن كانت هذه الحجة تتدفق بسالكيها تتدفق السيل الجرار؛ ضرب التقليد الصلب أطنابه في النفوس، وأصبحت الرابطة بين العلم والعمل واهية.
"خ". قلت: انظر تفصيل ذلك عند ابن رجب في "فضل علم السلف على الخلف".

 

ج / 1 ص -91-         فإن ذلك لا يُحتاج إليه، فهؤلاء لا يُخليهم العلم وأهواءهم إذا تبين لهم الحق، بل يرجعون إليه رجوعهم إلى دواعيهم البشرية، وأوصافهم الخلقية1، وهذه المرتبة هي المترجم لها.
والدليل على صحتها من الشريعة كثير؛ كقوله تعالى:
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9].
[ثم قال]2:
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} الآية [الزمر: 9].
فنسب هذه المحاسن إلى أولي العلم من أجل العلم، لا من أجل غيره.
وقال تعالى:
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23].
والذين يخشون ربهم هم العلماء، لقوله:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
وقال تعالى:
{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} الآية [المائدة: 83].
ولما كان السحرة قد بلغوا في علم السحر مبلغ الرسوخ فيه، وهو معنى هذه المرتبة؛ بادروا إلى الانقياد والإيمان حين عرفوا من علمهم أن ما جاء به موسى -عليه السلام- حق، ليس بالسحر ولا الشعوذة، ولم يمنعهم من ذلك التخويف ولا التعذيب الذي توعدهم به فرعون3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "الخليقية".
2 ليست موجودة في الأصل.
3 مبادرة السحرة إلى الانقياد والإيمان تستند مباشرة إلى تحققهم في العلم بصدق موسى -عليه السلام- وصحة رسالته؛ فهي أثر من آثار هذا العلم المترتب على مشاهدة المعجزة وتمييزهم بينها وبين ما هو سحر، وهذا التمييز الذي أومض في قلوبهم بسرعة هو الناشئ عن رسوخهم في علم السحر. "خ".

 

ج / 1 ص -92-         وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].
فحصر تعقلها في العالمين، وهو قصد الشارع من ضرب الأمثال.
وقال:
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19].
ثم وصف أهل العلم بقوله:
{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} [الرعد: 20].
إلى آخر الأوصاف، وحاصلها يرجع إلى أن العلماء هم العاملون.
وقال في أهل الإيمان, والإيمان من فوائد العلم:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...} إلى أن قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2-4].
ومن هنا قرن العلماء في العمل بمقتضى العلم بالملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؛ فقال تعالى:
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18].
فشهادة الله تعالى وفق علمه1 ظاهرة التوافق؛ إذ التخالف مُحال، وشهادة الملائكة على وفق ما علموا صحيحة؛ لأنهم محفوظون من المعاصي، وأولو العلم أيضا كذلك من حيث حُفظوا بالعلم، وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- إذا نزلت عليهم آية فيها تخويف أحزنهم2 ذلك وأقلقهم، حتى يسألوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أجرى الشهادة على ظاهرها، والمفسرون يقولون: إنها بمعنى إقامة الأدلة ونصب الدلائل في الكون على ذلك؛ فشهد بمعنى أقام ما يدل عليه:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}. "د" وفي "ط": "على وفق علمه".
2 في الأصل: "أحزنتهم".

 

ج / 1 ص -93-         النبي -صلى الله عليه وسلم- كنزول1 آية البقرة: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ...} الآية [البقرة: 284].
وقوله2:
{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ...} الآية [الأنعام: 82].
وإنما القلق والخوف من آثار العلم بالمنزل3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان أنه -سبحانه وتعالى- لم يكلف إلا ما يطاق، 1/ 115-116/ رقم 125" -واللفظ له- وأحمد في "المسند" "2/ 412"، وابن جرير في "التفسير" "3/ 143" من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال:
لما نزلت على رسول الله, صلى الله عليه وسلم:
{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}؛ قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها. قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير". قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}. فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى؛ فأنزل الله, عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}. قال: "نعم". {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}. قال: "نعم". {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}. قال: "نعم". {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. قال: "نعم".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب
{وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}، 8/ 294/ رقم 4629" من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "لما نزلت: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}، قال أصحابه: وأيُّنا لم يظلم؟ فنزلت: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}".
3 لأنه لما كان علمهم علما ملجئا لهم إلى الجري على مقتضاه طوعا أو كرها، وعرفوا  أنهم قد يحصل منهم ما ليس على مقتضاه؛ لأنه فوق الطاقة البشرية، فلا يكون لهم الأمن من غضب الله كما في الآية الثانية، ولا بد من حسابهم عليه كما في الآية الأولى؛ حصل لهم القلق إلى أن فهموا ما يزيله عنهم. "د".

 

ج / 1 ص -94-         والأدلة أكثر من إحصائها هنا، وجميعها يدل على أن العلم المعتبر هو الملجئ إلى العمل به.
فإن قيل: هذا غير ظاهر من وجهين:
أحدهما: أن الرسوخ في العلم؛ إما أن يكون صاحبه محفوظا به من المخالفة، أو لا.
فإن لم يكن كذلك؛ فقد استوى أهل هذه المرتبة مع من قبلهم، ومعناه أن العلم بمجرده غير كاف في العمل به، ولا مُلجئ إليه.
وإن كان محفوظا به من المخالفة؛ لزم أن لا يعصي العالم إذا كان من الراسخين فيه، لكن العلماء تقع منهم المعاصي، ما عدا الأنبياء -عليهم السلام- ويشهد لهذا في أعلى الأمور قوله تعالى في الكفار:
{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].
وقال:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146].
وقال:
{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [المائدة: 43].
وقال:
{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}.
ثم قال:
{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102].

 

ج / 1 ص -95-         وسائر ما في هذا المعنى؛ فأثبت لهم المعاصي والمخالفات مع العلم، فلو كان العلم صادا عن ذلك؛ لم يقع.
والثاني: ما جاء من ذم العلماء السوء، وهو كثير، ومن أشد ما فيه قوله, عليه السلام: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه"1.
وفي القرآن:
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 44].
وقال:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية [البقرة: 159].
وقال:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآية [البقرة: 174].
وحديث الثلاثة الذين هم أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة2، والأدلة فيه كثيرة، وهو ظاهر في أن أهل العلم غيرُ معصومين بعلمهم، ولا هو مما يمنعهم عن إتيان الذنوب؛ فكيف يقال: إن العلم مانع من العصيان؟!
فالجواب عن الأول: أن الرسوخ في العلم يأبى أن يخالفه بالأدلة المتقدمة، وبدليل التجربة العادية؛ لأن ما صار كالوصف الثابت لا يتصرف صاحبه إلا على وفقه اعتيادا3، فإن تخلف؛ فعلى أحد ثلاثة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص79"، والصواب أنه من قول أبي الدرداء؛ كما بيناه هناك.
2 مضى تخريجه "ص78"، وأخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 1905".
3 من طبيعة العالم الراسخ أن يتدفق غيرة على الحقائق والمصالح حتى يبلغ به التفاني في حب إقامتها أن يكافح الرئيس المستبد حيث حاول العبث بها، ولا يعبأ بما يسومه به من اضطهاد وأذى، ومما يصلح مثلا لهذا أن الملك إسماعيل صاحب دمشق خان السلطان نجم الدين الأيوبي واتفق مع الإفرنج على أن يسلم إليهم في مقابلة نجدتهم له صيداء وغيرها من الحصون؛ فقام في وجهه الإمام عز الدين بن عبد السلام بالإنكار البالغ، واحتمل في سبيل مصارعة الباطل الاعتقال وما كان يشهره عليه ذلك الملك من ضروب التهديد والإرهاب إلى أن تخلص إلى الديار المصرية "خ".

 

ج / 1 ص -96-          أوجه1:
الأول: مجرد العناد، فقد يُخالف فيه مقتضى الطبع الجبلي؛ فغيره أولى، وعلى ذلك دل قوله تعالى: [
{وَجَحَدُوا بِهَا} الآية [النمل: 14]، وقوله تعالى]2: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ]}3 [البقرة: 109] وأشباه ذلك.
والغالب على هذا الوجه أن لا يقع إلا لغلبة هوى، من حب دنيا أو جاه أو غير ذلك، بحيث يكون وصف الهوى قد غمر القلب، حتى لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا.
والثاني: الفلتات الناشئة عن الغفلات التي لا ينجو منها البشر؛ فقد يصير العالم بدخول الغفلة غير عالم، وعليه يدل -عند جماعة- قوله تعالى:
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}4 الآية [النساء: 17].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 علل شيخ الإسلام ابن تيمية مرد هذا الأمر إلى الإرادة الجازمة والعلم التام، وأنه كلما قل العلم التام، وضعفت الإرادة الجازمة؛ ضعف العمل، إذ هما المؤثر الفعال، وفصل ذلك بتفصيل حسن واف في كتابه "الحسنة والسيئة" وغيره.
2 ليست في الأصل.
3 زيادة من الأصل.
4 ذهب جماعة من المفسرين إلى تأويل آخر؛ فحملوا الجهالة في الآية على معنى السفه وارتكاب ما لا يطابق الحكمة، والأقرب في النظر إبقاؤها على حقيقتها، والمراد عدم العلم بكنه الخاتمة السيئة والعقوبة التي تلحق مرتكب المعصية؛ إذ لو تبصر الهاجم على خرق سياج العفة والعدالة بارتكاب المآثم، وتمثل أمام عينيه ما يحيط به من الخزي والشقاء؛ لملك داعية الهوى، وأحجم عن مواطن اللذائذ الفانية غير مأسوف عليها. "خ".

 

ج / 1 ص -97-         وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 102].
ومثل هذا الوجه لا يعترض على أصل المسألة؛ كما لا يعترض نحوه على سائر الأوصاف الجبلية؛ فقد لا تبصر العين، ولا تسمع الأذن، لغلبة فكر أو غفلة أو غيرهما؛ فترتفع في الحال منفعة العين والأذن حتى يُصاب1، ومع ذلك لا يُقال: إنه غير مجبول على السمع والإبصار؛ فما نحن فيه كذلك.
والثالث: كونه ليس من أهل هذه المرتبة؛ فلم يصر العلم له وصفا، أو كالوصف مع عده من أهلها، وهذا يرجع إلى غلط في اعتقاد العالم في نفسه، أو اعتقاد غيره فيه، ويدل عليه قوله تعالى:
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50].
وفي الحديث:
"إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس", إلى أن قال: "اتخذ الناس رؤساء جُهالا، [فسئلوا، فأفتوا بغير علم]2؛ فضلُّوا وأضلُّوا3".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فيصاب بسقطة في وهدة؛ لأنه لم يبصرها، أو تؤذيه دابة أو غيرها لم يسمع حركتها أو صوتها من بُعد فيتقيها، كل هذا من غفلة طرأت على غير مقتضى طبيعته؛ فكذلك فلتات العالم "د".
2 ليست في الأصل.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، 1/ 194/ رقم 100"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان" "4/ 2058/ رقم 2673" عن عبد الله بن عمرو بن العاص, رضي الله عنهما.  وقد أسهبت في تخريجه في تعليقي على "الأوهام التي في مدخل أبي عبد الله الحاكم" "ص55-58"؛ فانظره هناك إن أردت الاستزادة، والله الهادي.

 

ج / 1 ص -98-         وقوله: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين1 فرقة، أشدها فتنة على أمتي الذين يقيسون الأمور بآرائهم2" الحديث، فهؤلاء وقعوا في المخالفة بسبب ظن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا يقدح في هذا الحديث أن الفرق الأصلية لم يبلغ عددها هذا الحد، والفرق الفرعية تتجاوزه؛ إذ يكفي في صحته أن تبلغ الفرق الإسلامية هذا المقدار ولو في بعض الأزمنة، وقد بلغته بلا ريب، وساقها العلامة عضد الدين في خاتمة كتاب "المواقف" بتفصيل. "خ".
قلت: أحصى هذه الفِرَق البغدادي في كتابه "الفرق" "ص25"، وخلط بين الفرق الخارجة عن الإسلام والداخلة فيه مع ابتداع، وذكر ما يزيد على ثمانين فرقة، وقال: "فهذه ثنتان وسبعون"، مع ملاحظة أن فرقا كثيرة نشأت بعد البغدادي لو عايشها لأدخلها في حسابه.
2 أخرجه الطبراني في "الكبير" "18/ 90"، وفي "مسند الشاميين" "رقم 1072"، وابن عدي في "الكامل" "7/ 2483"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 430"، والبزّار في "المسند" "رقم 172- زوائده"، والخطيب في "تاريخ بغداد" "13/ 307-308"، و"الفقيه والمتفقه" "1/ 179-180"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 207"، والهروي في "ذم الكلام" "ص83"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 813"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1673"، وابن حزم في "إبطال القياس" من طرق عن نعيم بن حماد عن عيسى بن يونس عن حريز بن عثمان الرحبي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي مرفوعا.
والحديث ضعيف، وأشار إلى ذلك المصنف بقوله "5/ 147": "ذكره ابن عبد البر بسند لم يرضه". ثم قال: "وإن كان غيره قد هوّن الأمر فيه".
قلت: الحديث ضعيف، آفته نعيم بن حماد، وقد تكلم الحفاظ فيه بسببه، قال ابن عدي: "وهذا إنما يعرف بنعيم بن حماد، رواه عن عيسى بن يونس، فتكلم الناس بجراه، ثم رواه رجل من أهل خراسان، يقال له: الحكم بن المبارك، يُكنَّى أبا صالح، يقال له: "الخواشتي"، ويقال: إنه لا بأس به، ثم سرقه قوم ضعفاء ممن يعرفون بسرقة الحديث؛ منهم: عبد الوهاب بن الضحاك، والنضير بن طاهر، وثالثهم سويد الأنباري"، وقال البيهقي عقبه: "تفرد به نعيم بن حماد، وسرقه عنه جماعة من الضعفاء، وهو منكر، وفي غيره من أحاديث الصحاح الواردة في معناه كفاية، وبالله =

 

ج / 1 ص -99-         الجهل علما؛ فليسوا من الراسخين في العلم، ولا ممن صار لهم كالوصف، وعند ذلك لا حفظ1 لهم في العلم؛ فلا اعتراض بهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= التوفيق".
وقال ابن عبد البر: "هذا عند أهل العلم بالحديث حديث غير صحيح، حملوا فيه على نعيم بن حماد، وقال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين: حديث عوف بن مالك هذا لا أصل له، وأما ما روي عن السلف في ذم القياس؛ فهو عندنا قياس على غير أصل أو قياس يرد به الأصل".
قلت: مراد أحمد ويحيى هذا الحديث بلفظه المذكور، وفيه ذكر وذمٌّ للقياس، وإلا؛ فقد أخرج ابن ماجه في "السنن" "رقم 3992"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 63"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 149" بسند جيد من حديث عوف بن مالك مرفوعا:
"افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة؛ فواحدة في الجنة، وسبعين في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة؛ فواحدة في الجنة، وإحدى وسبعين في النار، والذي نفسي بيده؛ لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة؛ فواحدة في الجنة، وثنتين وسبعين في النار". قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: "هم الجماعة".
وأخرجه من حديثه أيضا الحاكم في "المستدرك" "1/ 128-129" من طريق أخرى، ولكن فيها كثير بن عبد الله المزني، لا تقوم به الحجة.
ولحديث عوف باللفظ السابق -وليس بلفظ المصنف- شواهد عديدة من حديث أبي هريرة ومعاوية وأنس وعبد الله بن عمرو، وقد صححه جمع من الحفاظ؛ كما بيَّن ذلك بتطويل وتحقيق متين شيخنا الألباني -فسح الله مدته- في "السلسلة الصحيحة" "رقم 203، 204".
وقد ضعّف حديث عوف -بلفظ المصنف- الزركشي فقال في "المعتبر" "ص227": "هذا حديث لا يصح، مداره على نُعيم بن حماد، قال الحافظ أبو بكر الخطيب في "تاريخه" "13/ 311": بهذا الحديث سقط نعيم بن حماد عند كثير من أهل الحديث، وكان يحيى بن معين لا ينسبه إلى الكذب، بل إلى الوهم، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبو زرعة: قلت ليحيى بن معين في حديث نعيم هذا وسألته عن صحته؛ فأنكره. قلت له: من أين يؤتى؟ قال: شبه له. وقال محمد بن علي بن حمزة المروزي: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث، قال: ليس له أصل. قلت: فنُعيم بن حماد؟ قال: نُعيم ثقة. قلت: كيف يحدّث ثقة بباطل؟ قال: شُبِّه له".
1 في "م": "حظ".

 

ج / 1 ص -100-       فأما من خلا عن هذه الأوجه الثلاثة؛ فهو الداخل تحت حفظ العلم، حسبما نصته الأدلة، وفي هذا المعنى من كلام السلف كثير.
وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن لكل شيء إقبالا وإدبارا، وإن لهذا الدين إقبالا وإدبارا، وإن من إقبال هذا الدين ما بعثني الله به؛ حتى إن القبيلة لتتفقه من عند أسرها" أو قال: آخرها، "حتى لا يكون فيها إلا الفاسق أو الفاسقان؛ فهما مَقْمُوعان ذليلان، إن تكلَّما أو نطقا؛ قُمعا وقُهرا واضطُهدا"1 الحديث.
وفي الحديث:
"سيأتي على أمتي زمان يكثر القُرَّاء، ويَقِلُّ الفُقهاء، ويُقبض العلم، ويكثر الهَرْج, إلى أن قال: ثم يأتي من بعد ذلك زمان يقرأ القرآن رجال من أمتي لا يُجاوز تراقيهم، ثم يأتي من بعد ذلك زمان يُجادل المنافق المشرك بمثل ما يقول"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطبراني في "الكبير" "8/ 234/ رقم 7807"، والهروي في "ذم الكلام" "ص157"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1026، 1028"، وابن السني وأبو نعيم -كما في "كشف الخفاء" "2/ 192/ رقم 2070"- من طريق علي بن يزيد الألهاني عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعًا، وإسناده ضعيف؛ لضعف علي بن يزيد الألهاني.
قال الهيثمي في "المجمع" "7/ 262، 271": "رواه الطبراني في "الكبير"، وفيه علي بن زيد، وهو متروك".
2 أخرجه الطبراني في "الأوسط" "1/ ق 187" -وكما في "مجمع البحرين" "رقم 273"- من طريق ابن لهيعة، والحاكم في "المستدرك" "4/ 457"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1043" من طريق عمرو بن الحارث، كلاهما عن دراج أبي السمح عن عبد الرحمن بن حجيرة عن أبي هريرة مرفوعا.
قال الهيثمي في "المجمع" "1/ 187" بعد عزوه للطبراني في "الأوسط": "وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف".
قلت: توبع، ودراج صدوق في غير روايته عن أبي الهيثم، وهذا منها؛ فالحديث إسناده  حسن.
وقال الهيثمي: "الحديث: في "الصحيح" بعضه".
قلت: في "الصحيح":
"قبض العلم، وكثرة الهرج، وقراءة القرآن من أناس لا يجاوز حناجرهم"، نسأل الله العافية والسلامة، ولو اقتصر المصنف على ما في "الصحيح"؛ لكان أحرى وأولى، والله الموفق، وما في "الصحيح" سيأتي "5/ 173".

 

 

ج / 1 ص -101-       وعن علي: "يا حملة العلم! اعملوا به؛ فإن العالم من عَلِم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف علمهم عملهم، يقعدون حلقا يُباهي بعضهم بعضا؛ حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالُهم تلك إلى الله, عز وجل"1.
وعن ابن مسعود: "كونوا للعلم رُعاة، ولا تكونوا له رواة؛ فإنه قد يَرْعَوي ولا يَروي، وقد يروي ولا يَرْعَوي"2.
وعن أبي الدرداء: "لا تكون تقيا حتى تكون عالما، ولا تكون بالعلم جميلا حتى تكون به عاملا"3.
وعن الحسن: "العالم الذي وافق علمه عمله، ومن خالف علمه عمله؛ فذلك راوية حديث، سمع شيئا فقاله"4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 106"، والخطيب في "الجامع" "رقم 31"، وفي "الاقتضاء" "رقم 9" عن يحيى بن جعدة عن علي به، وفيه ثوير بن أبي فاختة وهو ضعيف، ويحيى بن جعدة غير معروف بالرواية عن علي -رضي الله عنه- فالإسناد ضعيف.
2 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1238".
3 أخرجه من طرق عن أبي الدرداء الدارمي في "السنن" "1/ 88"، والخطيب في "الاقتضاء" "16، 17"، وعلقه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1239" بإسناد رجاله ثقات.
4 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1241".

 

ج / 1 ص -102-       وقال الثوري: "العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شُغلوا، فإذا شُغلوا فُقدوا، فإذا فُقدوا طُلبوا، فإذا طُلبوا هَربوا"1.
وعن الحسن؛ قال:
"الذي يفوق الناس في العلم جدير أن يفوقهم في العمل"2.
وعنه في قول الله تعالى:
{وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} [الأنعام: 91]؛ قال: "عُلِّمتم فَعَلِمتم ولم تعملوا؛ فوالله ما ذلكم بعلم"3.
وقال الثوري: "العلم يَهتف بالعمل، فإن أجابه؛ وإلا ارتحل"4. وهذا تفسير كون العلم هو الذي يُلجئ إلى العمل.
وقال الشَّعبيُّ:
"كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به"5، ومثله عن وكيع بن الجراح6.
وعن ابن مسعود: "ليس العلم عن كثرة الحديث، إنما العلم خشية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1249".
2 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1270".
3 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1273".
4 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1274"، وأسند نحوه عن علي -رضي الله عنه- وابن المنكدر الخطيب في "الاقتضاء" "رقم 40، 41".
5 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1284".
6 أخرجه عن وكيع, ابن عساكر في "جزء حفظ القرآن" "11"، وأخرجه الخطيب في "الجامع" "الأرقام 1787، 1788، 1789"، و"الاقتضاء" "رقم 149"، والبيهقي في "الشعب" "رقم 1659، 1741"، مرة بذكر العمل، ومرة بذكر الصوم -عن شيخ لوكيع به- وأخرجه وكيع في "الزهد" "رقم 539" عن شيخ لهم؛ قال: "كنا نستعين على طلب الحديث بالصوم"، وجاء مصرحا في بعض الروايات بأنه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمَّع.
وانظر: كلام محقق "الزهد" الشيخ عبد الرحمن الفريوائي حفظه الله ورعاه.

 

ج / 1 ص -103-       الله"1.
والآثار في هذا النحو كثيرة.
وبما ذُكر يتبيَّن الجواب عن الإشكال الثاني؛ فإن علماء السوء هم الذين لا يعملون بما يعلمون، وإذا لم يكونوا كذلك؛ فليسوا في الحقيقة من الراسخين في العلم، وإنما هم رواة -والفقه فيما رَوَوْا أمرٌ آخر- أو ممن غلب عليهم هوى غطى على القلوب والعياذ بالله.
على أن المثابرة على طلب العلم، والتفقه فيه، وعدم الاجتزاء باليسير منه؛ يجرُّ إلى العمل به ويُلجئ إليه، كما تقدم بيانه، وهو معنى قول الحسن: "كنا نطلب العلم للدنيا؛ فجرَّنا إلى الآخرة"2.
وعن مَعْمَر؛ أنه قال: "كان يقال: من طلب العلم لغير الله يأبى عليه العلم حتى يُصيِّره إلى الله"3.
وعن حبيب بن أبي ثابت: "طلبنا هذا الأمر وليس لنا فيه نية، ثم جاءت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أحمد في "الزهد" "185"، وأبو داود في "الزهد" "رقم 182"، والطبراني في "الكبير" "9/ 105/ رقم 8534"، وابن بطة في "إبطال الحيل" "ص21"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 131"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 486"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1400، 1401"، بإسناد كلهم ثقات؛ إلا أن عون بن عبد الله لم يدرك ابن مسعود، كما قال أئمة هذا الفن، وبالانقطاع أعله الهيثمي في "المجمع" "10/ 235"؛ فإسناده ضعيف بسببه.
وذكره ابن الجوزي في "صفة الصفوة" "1/ 416".
2 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1375" بسند فيه عبد الله بن غالب مستور، والربيع بن صبيح صدوق، سيئ الحفظ؛ كما في ترجمتيهما في "التقريب".
3 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "11/ 256"، ومن طريقه البيهقي في "المدخل" "519"، والخطيب في "الجامع" "774، 775"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1376، 1377، 1378، 1379" بإسناد صحيح.

 

ج / 1 ص -104-       النية بعد"1.
وعن الثوري؛ قال: "كنا نطلب العلم للدنيا؛ فجرَّنا إلى الآخرة"2، وهو معنى قوله في كلام آخر: "كنتُ أغبطُ الرجل يُجتمع حوله، ويكتب عنه، فلما ابتليت به؛ وَدِدْتُ أني نجوت منه كفافا، لا علي ولا لي"3.
وعن أبي الوليد الطيالسي؛ قال: سمعت ابن عُيَيْنَةَ منذ أكثر من ستين سنة يقول: "طلبنا هذا الحديث لغير الله؛ فأعقبنا الله ما ترون"4.
وقال الحسن: "لقد طلب أقوام العلم ما أرادوا به الله وما عنده فما زال بهم حتى أرادوا به الله وما عنده"5؛ فهذا أيضا مما يدل على صحة ما تقدم.
فصل:
ويتصدى النظر هنا في تحقيق هذه المرتبة، وما هي.
والقول في ذلك على الاختصار أنها أمرٌ باطن، وهو الذي عُبَّر عنه بالخشية في حديث ابن مسعود، وهو راجع إلى معنى الآية، وعنه عبر في الحديث في أول ما يُرفع من العلم الخشوع6، وقال مالك: "ليس العلم بكثرة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الخطيب في "الجامع" "رقم 773"، والبيهقي في "المدخل" "521"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1380"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 61" بإسناد صحيح.
2 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1381".
3 أخرج نحوه عن الثوري بإسناد حسن ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 982".
4 أخرجه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" "38"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1382".
5 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1383".
6 أخرجه النسائي في "الكبرى" "كتاب العلم"؛ كما في "تحفة الأشراف" "8/ 211"، وأحمد في "المسند" "6/ 26-27"، والطبراني في "الكبير" "18/ رقم 75"، و"الأوائل" "رقم =

 

ج / 1 ص -105-       الرواية، ولكنه نور يجعله الله في القلوب"1، وقال أيضا: "الحكمة والعلم نور يهدي به الله من يشاء، وليس بكثرة المسائل، ولكن عليه علامة ظاهرة: وهو التجافي عن دار الغُرور، والإنابة إلى دار الخلود"2, وذلك عبارة عن العمل بالعلم من غير مخالفة.
وأما تفصيل القول فيه؛ فليس هذا موضع ذكره، وفي كتاب الاجتهاد منه طرف3؛ فراجعه إن شئت، وبالله التوفيق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 81"، وابن أبي عاصم في "الأوائل" "رقم 109"، والبزار في "المسند" "رقم 232- زوائده"، وابن حبان في "الصحيح" "10/ 433/ رقم 4572- الإحسان" في آخر حديث طويل لشداد بن أوس الأنصاري، وإسناده صحيح.
وله شاهد عن أبي الدرداء عند الترمذي في "الجامع" "رقم 2653"، والطبراني في "الكبير" بإسناد حسن؛ كما في "الترغيب" "رقم 543- صحيحه"، و"مجمع الزوائد" "2/ 36"، وقال المنذري: "الموقوف أشبه"، وعلق على مقولته شيخنا الألباني: "قلت: بل المرفوع أشبه؛ لأن له شواهد, ولا سيما وهو لا يقال بالرأي". وفي "ط": "العلم ليس...".
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "4/ 469" عن حذيفة، وصححه ووافقه الذهبي.
1 أخرجه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" "558"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 319"، وابن منده في "الفوائد" "رقم 68"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1398"، عن "جامع ابن وهب"، وأورده البغوي في "شرح السنة" "1/ 284"، وابن الجوزي في "صفوة الصفوة" "2/ 179"، والفلاني في "إيقاظ الهمم" "24"، وأبو شامة في "مختصر المؤمل" "32"، والقاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 184".
2 أورده ابن عبد البر في "التمهيد" "4/ 267"، و"الجامع" "70" عن "جامع ابن وهب" وعنه: الفلاني في "إيقاظ الهمم" "ص24"، وأبو شامة في "مختصر المؤمل" "ص32"، وكلمة "والعلم" ساقطة من "ط".
3 انظر: "5/ 24، 260 وما بعد".

 

ج / 1 ص -107-       المقدمة التاسعة:
من العلم ما هو من صُلْب1 ومنه ما هو2 مُلَح العلم لا من صلبه، ومنه ما ليس من صُلْبه ولا مُلَحه؛ فهذه ثلاثة أقسام.
- القسم الأول:
هو الأصل والمعتمد، والذي عليه مَدَارُ الطَّلَب، وإليه تنتهي مقاصد الراسخين، وذلك ما كان قطعيا، أو راجعا إلى أصل قطعي، والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه، ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها3؛ كما قال تعالى:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]؛ لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "الصلب؛ بضم، فسكون: عظم الظهر من لدن الكاهل إلى العجب، والصلب أيضا الشديد القوي.
والملح؛ بفتح وسكون اللام؛ أي: ملحة التي تستملح, أي: تعد مليحة، أي: حسينة؛ إذ الملح بضم ففتح: هي الأخبار المليحة، وهي الملح بفتح فسكون" "ماء".
2 في "م" و"خ" زيادة: "من".
3 حمل المصنف في المقدمة الأولى الحفظ في الآية على الأصول الكلية، ونفى أن يكون المراد المسائل الجزئية وهو كما يظهر مخالف لعبارته في هذه المقدمة؛ إذ جعل الحفظ شاملا للأصول والفروع، والتحقيق أن الفروع محفوظة بنصب الأدلة الكافية لمن توجه إلى استنباطها ببصيرة صافية وفهم راسخ، فإذا ضل نبؤها على قوم؛ اهتدى إليه آخرون. "خ".

 

ج / 1 ص -108-       وهي: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات، وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها، وهي أصول الشريعة، وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها، وسائر الفروع مستندة إليها؛ فلا إشكال في أنها علم أصيل، راسخ الأساس، ثابت الأركان.
هذا وإن كانت وضعية لا عقلية؛ فالوضعيات قد تجاري العقليات في إفادة العلم القطعي، وعلم الشريعة من جملتها؛ إذ العلم بها مستفاد من الاستقراء التام1 الناظم لأشتات أفرادها، حتى تصير في العقل مجموعة في كليات مطردة، عامة، ثابتة غير زائلة ولا متبدلة، وحاكمة غير محكوم عليها، وهذه خواص الكليات العقليات2.
وأيضا؛ فإن الكليات العقلية مقتبسة من الوجود، وهو أمر وضعي لا عقلي؛ فاستوت مع الكليات الشرعية بهذا الاعتبار، وارتفع الفرق بينهما.
فإذًا لهذا القسم3 خواص ثلاث، بهن يمتاز عن غيره:
إحداها:
العموم والاطراد؛ فلذلك جرت الأحكام الشرعية في أفعال المكلفين على الإطلاق، وإن كانت آحادها الخاصة لا تتناهى؛ فلا عمل يُفرض, ولا حركة ولا سكون يدعى، إلا والشريعة عليه حاكمة إفرادا وتركيبا، وهو معنى كونها عامة، وإن فرض في نصوصها أو معقولها خصوص ما؛ فهو راجع إلى عموم؛ كالعرايا، وضرب الدية على العاقلة، والقراض،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخ المطبوعة: "العام"، وما أثبتناه من المخطوط الأصل.
2 في "م": "العقلية"، وأثبت "م" هنا في الهامش ما نصه: "من لوازم ذلك وصف الشريعة بثلاثة أوصاف: عمومها، وثباتها، وكونها حاكمة".
3 أصوله وفروعه. "د".

 

ج / 1 ص -109-       والمساقاة1، والصاع في المصراة2، وأشباه ذلك؛ فإنها راجعة إلى أصول حاجية أو تحسينية أو ما يكملها3، وهي أمور عامة4؛ فلا خاص في الظاهر إلا وهو عام في الحقيقة، والاعتبار في أبواب الفقه يبين ذلك.
والثانية:
الثبوت من غير زوال؛ فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخا، ولا تخصيصا لعمومها، ولا تقييدا لإطلاقها، ولا رفعا لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان، ولا حال دون حال5، بل ما أثبت سببا؛ فهو سبب أبدا لا يرتفع، وما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فعموم النهي عن الغرر، وعدم مسئولية الشخص عن فعل غيره، وفساد المعاملات المشتملة على الجهالة في الثمن أو الأجرة مثلا، يشمل بظاهره هذه المسائل، ولكن لما كان لها في الواقع علل معقولة تجعل حكمها مغايرا لحكم العمومات المذكورة، وقد أخذت حكمها المعقول على خلاف حكم ما كان يشملها في الظاهر؛ أطلقوا عليها أنها مستثناة، وقالوا: إنها خاصة، وهي في الحقيقة قواعد كلية أيضا انبنت على أصول من مقاصد الشريعة الثلاثة. "د".
2 انظر وجه نظمه في هذا السلك مع أنهم قالوا: إنه حكم تعبدي محض "د".
و"المصراة": الناقة -مثلا- يربط صاحبها ضرعها ليجتمع لبنها، فيظن من يريد شراءها أن حلبتها كثير، فإذا اشتراها فحلبها، ثم أراد ردها للتدليس؛ رد معها صاعا من تمر. "م".
3 تندرج صور الوقائع تحت أصل واحد، وتتفق في الحكم إذا كانت متماثلة من كل وجه له مناسبة بالحكم، فإذا اختلف بعض المسائل في الحكم؛ عرفنا أنها لم تكن متماثلة تماثلا تاما، وأن اختلافها في الحكم كان لوجه يفرق بينها في نفس الأمر؛ فوصف بعض الفقهاء العرايا ونحوها بأنها مخالفة للقياس أو خارجة عن الأصل لا يصح إلا إذا أرادوا القياس أو الأصل الذي يتراءى لهم في بادئ النظر "خ". قلت: حقق ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "20/ 555" وتلميذه ابن القيم في "إعلام الموقعين" أنه لم يثبت شيء في الشريعة على خلاف القياس.
4 بعدها في "ط" وحدها كلمة لم نتبينها.
5 لا يرد على هذا اختلاف الأحكام عند اختلاف العرف والعادة؛ فإنه ليس باختلاف في أصل الخطاب، وتحقيقه أن العوائد إذا اختلفت؛ رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يختص بها وينطبق حكمه عليها "خ".

 

ج / 1 ص -110-       كان شرطا؛ فهو أبدا شرط، وما كان واجبا؛ فهو واجب أبدا، أو مندوبا فمندوب، وهكذا جميع الأحكام؛ فلا زوال لها ولا تبدل، ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية؛ لكانت أحكامها كذلك.
والثالثة:
كون العلم حاكما لا محكوما عليه، بمعنى كونه مفيدا لعمل يترتب عليه مما يليق به؛ فلذلك انحصرت علوم الشريعة فيما يفيد العمل, أو يصوب نحوه, لا زائد على ذلك, ولا تجد في العمل أبدا ما هو حاكم على الشريعة، وإلا انقلب كونها حاكمة إلى كونها محكوما عليها، وهكذا سائر ما يعد من أنواع العلوم.
فإذًا؛ كل علم حصل له هذه الخواص الثلاث؛ فهو من صلب العلم، وقد تبين معناها والبرهان عليها في أثناء هذا الكتاب، والحمد لله.
- والقسم الثاني:
وهو المعدود في ملح العلم لا في صلبه1: ما لم يكن قطعيا ولا راجعا إلى أصل قطعي، بل إلى ظني، أو كان راجعا إلى قطعي إلا أنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص، أو أكثر من خاصة واحدة؛ فهو مخيل، ومما يستفز العقل ببادئ الرأي والنظر الأول، من غير أن يكون فيه إخلال بأصله، ولا بمعنى غيره، فإذا كان هكذا؛ صح أن يعد في هذا القسم.
فأما تخلف الخاصية الأولى -وهو الاطراد والعموم- فقادح في جعله من صلب العلم؛ لأن عدم الاطراد يقوي جانب الاطراح ويضعف جانب الاعتبار؛ إذ النقص2 فيه يدل على ضعف الوثوق بالقصد الموضوع عليه ذلك العلم، ويقربه من الأمور الاتفاقية الواقعة عن غير قصد؛ فلا يوثق به ولا يبنى عليه.
وأما تخلف الخاصية الثانية -وهو الثبوت- فيأباه صُلب العلم وقواعده،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "القواعد" للمقري "2/ 406".
2 في "د": "النقض" بالمعجمة.
 

 

ج / 1 ص -111-       فإنه إذا حكم في قضية، ثم خالف حكمه الواقع في القضية في بعض المواضع أو بعض الأحوال؛ كان حكمه خطأ وباطلا، من حيث أطلق الحكم فيما ليس بمطلق، أو عم فيما هو خاص؛ فعدم الناظر الوثوق بحكمه، وذلك معنى خروجه عن صلب العلم.
وأما تخلف الخاصية الثالثة -وهو كونه حاكما ومبنيا عليه- فقادح أيضا؛ لأنه إن صح في العقول لم يستفد به فائدة حاضرة، غير مجرد راحات النفوس, فاستوى مع سائر ما يتفرج به، وإن لم يصح فأحرى في الاطراح، كمباحث السوفسطائيين ومن نحا نحوهم.
ولتخلف بعض هذه الخواص أمثلة يلحق بها ما سواها:
أحدها:
الحكم المستخرجة لما لا يعقل معناه على الخصوص في التعبدات1 كاختصاص الوضوء بالأعضاء المخصوصة والصلاة بتلك الهيئة من رفع اليدين والقيام والركوع والسجود، وكونها على بعض الهيئات دون بعض، واختصاص الصيام بالنهار دون الليل، وتعيين أوقات الصلوات في تلك الأحيان المعينة دون ما سواها من أحيان الليل والنهار، واختصاص الحج بالأعمال المعلومة، وفي الأماكن المعروفة، وإلى مسجد مخصوص، إلى أشباه ذلك مما لا تهتدي العقول إليه بوجه ولا تطور نحوه2 فيأتي بعض الناس فيطرق3 إليه حكما يزعم4 أنها مقصود الشارع من تلك الأوضاع، وجميعها مبني على ظن5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كلام المصنف هنا تعميق وتأصيل لما عند شيخه المقري في "القواعد" "2/ 406-408، القاعدة التاسعة والخمسون بعد المائة".
2 أي: لا تحوم جهته من الطور، وهو الحوم حول الشيء. "د".
وكتب "م" في الهامش" "يطور: يتجه".
3 أي: يدخل تلك الحكم ويقحمها على تلك الأحكام وينسبها إليه.
4 في "ط": "يزعم فيها أنها".
5 فيكون من باب ما انتفى فيه خاصتان، ومع ذلك؛ فهو مبني على ظني، وربما يستفاد  منه أن قوله سابقا: "إلا أنه تخلف عنه خاصة" ليس خاصا بما كان مبنيا على قطعي، وأنه لو كان ظنيا وانتفى فيه خاصة أو أكثر؛ يصح أن يعد من هذا القسم؛ فتأمل. "د".

 

ج / 1 ص -112-       وتخمين غير مطرد في بابه، ولا مبني عليه عمل، بل كالتعليل بعد السماع للأمور الشواذ، وربما كان من هذا النوع ما يعد من القسم الثالث لجنايته على الشريعة في دعوى ما ليس لنا به علم، ولا دليل لنا عليه1.
والثاني:
تحمل الأخبار والآثار على التزام كيفيات لا يلزم مثلها، ولا يطلب التزامها، كالأحاديث المسلسلة التي أتي بها على وجوه ملتزمة في الزمان المتقدم على غير قصد؛ فالتزمها المتأخرون بالقصد، فصار تحملها على ذلك القصد تحريا له، بحيث يتعنى في استخراجها، ويبحث عنها بخصوصها، مع أن ذلك القصد لا ينبني عليه عمل، وإن صحبها العمل؛ لأن تخلفه في أثناء تلك الأسانيد لا يقدح في العمل بمقتضى تلك الأحاديث، كما في حديث:
"الراحمون يرحمهم الرحمن"2؛ فإنهم التزموا فيه أن يكون أول حديث يسمعه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كالنهي عن اتخاذ التماثيل، يقولون: إن العلة في التحريم خشية أن تجر إلى احترامها، ثم إلى عبادتها؛ لقرب الألف بعبادة الأوثان, فلما أيس الآن من ذلك؛ صار لا مانع مع اتخاذها، فهذا استنباط للعلة بطريق الظن واتباع الهوى. "د".
وعلق "خ" هنا ما نصه: "من هذا الصنف ما يصنعه بعض أصحاب الأهواء حين يريدون التملص من بعض ما نهت عنه الشريعة؛ إذ يقصدون إلى أمر كان واقعا في زمن التشريع، ثم ارتفع، يزعمون من غير بينة أنه علة التحريم؛ ليتسنى لهم القول بالإباحة بناء على قاعدة أن الأحكام تدور مع العلل وجودا وعدما".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة المسلمين، 4/ 323-324/ رقم 1924"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في الرحمة، 4/ 285/ رقم 4941"، وأحمد في "المسند" "2/ 160"، والحميدي في "المسند" "رقم 591"، والبخاري في "التاريخ" "9/ 64"، وعثمان الدارمي في "الرد على الجهمية" "69"، والرامهرمزي في "المحدث الفاصل" "775"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 159"، والبيهيق في "الأسماء" =

 

ج / 1 ص -113-       التلميذ من شيخه، فإن سمعه من بعد ما أخذ عنه غيره؛ لم يمنع ذلك الاستفادة بمقتضاه، [وكذا سائرها؛ غير أنهم التزموا ذلك على جهة التبرك وتحسين الظن خاصة]1، وليس2 بمطرد في جميع الأحاديث النبوية أو أكثرها؛ حتى يُقال: إنه مقصود؛ فطلب مثل ذلك من ملح العلم لا من صلبه.
والثالث:
التأنق3 في استخراج الحديث من طُرق كثيرة، لا على قصد طلب تواتره، بل على أن يعد آخذا له عن شيوخ كثيرة، ومن جهات شتى، وإن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "ص423"، والخطيب في "التاريخ" "3/ 260"، وابن أبي الدنيا في "العيال" "1/ 426" من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو عن عبد الله بن عمرو مرفوعا. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
وحسنه ابن حجر في كتابه "الإمتاع" "ص63"، وذكر تصحيح الترمذي وعلق عليه بقوله: "وكأنه صححه باعتبار المتابعات والشواهد، وإلا؛ فأبو قابوس لم يرو عنه سوى عمرو بن دينار, ولا يعرف اسمه، ولم يوثقه أحد من المتقدمين".
قلت: وأقوى هذه الشواهد ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التوحيد، باب قول الله تبارك وتعالى:
{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ}، 13/ 358/ رقم 7376"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب رحمته -صلى الله عليه وسلم- الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، 4/ 1809/ رقم 2319" عن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- مرفوعا بلفظ: "من لا يرحم الناس؛ لا يرحمه الله عز وجل".
وما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، 10/ 426/ رقم 5997"، ومسلم في "الصحيح" "رقم 2318" عن أبي هريرة مرفوعا:
"من لا يَرْحم؛ لا يُرحَم". وانظر: "الأربعين في فضل الرحمة والراحمين" لابن طولون.
1 زيادة من الأصل المخطوط و"خ" و"م"، وسقطت من "د".
2 فيكون انتفى فيه الخاصتان المنتفيتان في المثال قبله. "د".
3 وهو مما انتفى فيه فائدة بناء عمل عليه؛ لأنه ما دام ذلك راجعا إلى كثرة الرواة في بعض طبقاتهم في الحديث لا إلى جميع الطبقات حتى يفيد قوة في الحديث، لا يكون فيه فائدة، ولا ينبني عليه ترجيح للحديث على غيره. "د".

 

ج / 1 ص -114-       كان راجعا إلى الآحاد في الصحابة، أو التابعين، أو غيرهم؛ فالاشتغال بهذا من الملح، لا من صلب العلم.
خرج أبو عمر ابن عبد البر عن حمزة بن محمد الكناني؛ قال: خرجت حديثا واحدا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من مائتي طريق, أو من نحو مائتي طريق -شك الراوي- قال: فداخلني من ذلك من الفرح غير قليل، وأعجبت بذلك؛ فرأيت يحيى بن معين في المنام، فقلت له: يا أبا زكريا! قد خرجت حديثا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من مائتي طريق. قال: فسكت عني ساعة، ثم قال: أخشى أن يدخل هذا تحت:
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}1 [التكاثر: 1]، هذا ما قال. وهو صحيح في الاعتبار؛ لأن تخريجه من طرق يسيرة كافٍ في المقصود منه؛ فصار الزائد على ذلك فضلا.
والرابع: العلوم المأخوذة من الرؤيا، مما لا يرجع إلى بشارة ولا نذارة2؛ فإن كثيرا من الناس يستدلون على المسائل العلمية بالمنامات وما يتلقى منها تصريحا، فإنها وإن كانت صحيحة؛ فأصلها الذي هو الرؤيا غير معتبر في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكرها بإسناد صحيح ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1988"، وذكرها السلفي في "الوجيز" "93"، وابن رشيد في "ملء العيبة" "3/ 215"، والذهبي في "السير" "16/ 181".
2 الأدلة المعتد بها ما يمكن التوصل إلى تمييز صحيحها من فاسدها، وهي اللفظ المروي أو الاستنباط، والرؤيا لا يمكن تمييز صالحها من باطلها كالإلهامات، ومن ثَم أفتى الفقهاء بأن من رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- في المنام وأخبره بأن زوجه طالق عليه، أو أن هذا اليوم من رمضان؛ ألغى العمل على مقتضى الرؤيا، وعول على ما يعرفه في اليقظة "خ".
قلت: وانظر في هذا: "مجموع ابن تيمية" "24/ 376"، و"الاعتصام" "1/ 261-263"، و"مدارج السالكين" "1/ 51"، و"التنكيل" "2/ 242"، وما سيأتي عند المصنف "4/ 470 وما بعدها".

 

ج / 1 ص -115-       الشريعة في مثلها1، كما في رؤيا الكناني المذكورة آنفا، فإن ما قال فيها يحيى بن معين صحيح، ولكنه لم نحتج2 به حتى عرضناه على العلم في اليقظة؛ فصار الاستشهاد به مأخوذا من اليقظة لا من المنام، وإنما ذُكرت الرؤيا تأنيسا، وعلى هذا يُحمل ما جاء عن العلماء من الاستشهاد بالرؤيا.
والخامس: المسائل التي يُختلف فيها؛ فلا ينبني على الاختلاف فيها فرع عملي، إنما تعد من الملح، كالمسائل المنبه عليها قبل في أصول الفقه3، ويقع كثير منها في سائر العلوم، وفي العربية منها كثير؛ كمسألة اشتقاق الفعل من المصدر4، ومسألة اللَّهُم5، ومسألة أشياء6، ومسألة الأصل في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مثل هذه الاستدلالات؛ فلم يجعلها الشرع من الأدلة على الأحكام، وإنما جعلها بشارة للمؤمنين مثلا "د".
2 فهذا من باب الظني غير المطرد، ولا ينبني عليه عمل. "د".
3 انظرها: "ص38".
4 ذهب الكوفيون إلى أن المصدر مشتقٌّ من الفعل وفرعٌ عليه، وذهب البصريون إلى أن الفعل مشتق من المصدر وفرع عليه.
انظر تفصيل المسألة في: "الإنصاف في مسائل الخلاف" لابن الأنباري "1/ 235"، "شرح الرضى على الكافية" "2/ 178".
5 ذهب الكوفيون إلى أن الميم المشددة في "اللهمَّ" ليست عوضا من "يا" التي للتنبيه في النداء، وذهب البصريون إلى أنها عوض من "ياء" التي للتنبيه في النداء، والهاء مبنية على الضم؛ لأنه نداء.
انظر تفصيل المسألة في "الإنصاف" لابن الأنباري "1/ 341"، "لسان العرب" "أ ل ه".
6 ذهب الكوفيون إلى أن "أشياء" وزنه "أفْعاء"، والأصل "أفعلاء"، وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش من البصريين، وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنه "أفعال"، وذهب البصريون إلى أن وزنه "لفعاء"، والأصل "فعلاء".
انظر تفصيل المسألة في: "الإنصاف" لابن الأنباري "2/ 812"، "لسان العرب" "ش ي أ".

 

ج / 1 ص -116-       لفظ الاسم1، وإن انبنى البحث فيها على أصول مطردة، ولكنها لا فائدة تجنى ثمرة للاختلاف فيها؛ فهي خارجة عن صلب العلم.
والسادس: الاستناد إلى الأشعار في تحقيق المعاني العلمية والعملية، وكثيرا ما يجري مثل هذا لأهل التصوف في كتبهم2، وفي بيان مقاماتهم؛ فينتزعون معاني الأشعار، ويضعونها للتخلق بمقتضاها، وهو في الحقيقة من الملح3؛ لما في الأشعار الرقيقة من إمالة الطباع، وتحريك النفوس إلى الغرض المطلوب, ولذلك اتخذه الوعاظ دَيْدَنا، وأدخلوه في أثناء وعظهم، وأما إذا نظرنا إلى الأمر في نفسه؛ فالاستشهاد بالمعنى، فإن كان شرعيا؛ فمقبول، وإلا فلا.
والسابع: الاستدلال على تثبيت المعاني بأعمال المشار إليهم بالصلاح، بناء على مجرد تحسين الظن، لا زائد عليه؛ فإنه ربما تكون أعمالهم حجة حسبما هو مذكور في كتاب الاجتهاد4، فإذا أخذ ذلك بإطلاق فيمن يُحسن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذهب الكوفيون إلى أن الاسم مشتق من الوَسْم وهو العلامة، وذهب البصريون إلى أنه مشتق من السمو وهو العلو.
انظر تفصيل المسألة في: "الإنصاف في مسائل الخلاف" لابن الأنباري "1/ 6"، "لسان العرب" "س م و".
2 ذكروا لمأخذ اسم الصوفية وجوها أقربها أنه نسبة إلى الصوف الذي هو لباس العباد أو إلى آل الصوفة على وجه التشبيه بهم، وهم حي من مضر كانوا يخدمون الكعبة، ويتنسكون كما في "أساس البلاغة" و"القاموس". "خ".
قلت: وهذه المآخذ ليست بصحيحة، والأسقم منها نسبة الصوفية إلى "أهل الصفة"، وقد بينت خطأ ذلك من وجوه أربعة في مقدمة تحقيقي لكتاب السخاوي "رجحان الكفة"؛ فانظره إن أردت الاستزادة، والله الهادي.
3 لأنها ليست قطعية، ولا مبنية على قطعي غالبا، ولا هي مطردة عامة "د".
4 انظر: "5/ 258 وما بعدها".

 

ج / 1 ص -117-       الظن به؛ فهو -عندما يسلم من القوادح1- من هذا القسم؛ لأجل ميل الناس إلى من ظهر منه صلاح وفضل، ولكنه ليس من صلب العلم لعدم اطراد الصواب في عمله، ولجواز تغيره، فإنما يؤخذ -إن سلم- هذا المأخذ2.
والثامن: كلام أرباب الأحوال3 من أهل الولاية4؛ فإن الاستدلال به من قبيل ما نحن فيه، وذلك أنهم قد أوغلوا في خدمة مولاهم، حتى أعرضوا عن غيره جملة، فمال بهم هذا الطرف إلى أن تكلموا بلسان الاطراح لكل ما سوى الله، وأعربوا عن مقتضاه، وشأن من هذا شأنه لا يطيقه الجمهور، وهم إنما يكلمون به الجمهور، وهو وإن كان حقا؛ ففي رتبته لا مطلقا؛ لأنه يصير -في حق الأكثر- من الحرج أو تكليف ما لا يطاق، بل ربما ذموا بإطلاق ما ليس بمذموم إلا على وجه دون وجه، وفي حال دون حال؛ فصار أخذه بإطلاق موقعا في مفسدة، بخلاف أخذه على الجملة؛ فليس على هذا من صلب العلم، وإنما هو من ملحه ومستحسناته.
والتاسع: حمل بعض العلوم على بعض في بعض قواعده؛ حتى تحصل الفتيا في أحدها بقاعدة الآخر، من غير أن تجتمع القاعدتان في أصل واحد حقيقي، كما يحكى عن الفراء النحوي؛ أنه قال: من برع في علم واحد سهل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م" و"خ": "الفوادح", بالفاء.
2 انظر في هذا والذي يليه "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 430 و11/ 15".
3 وهو مما انتفى فيه الاطراد، وأخذ كلامهم على الاطراد والإطلاق موقع في مفسدة الحرج أو تكليف ما لا يطاق؛ فالبحث في كلامهم وشرحه من الملح "د".
4 الولي في العرف الشرعي وكلام السلف من صفت بصيرته وامتلأ قلبه وثوقا بالله ثم استقام على السنة الصحيحة والآداب الرفيعة، وبهذا المعنى يفسر الولي في مثل قوله تعالى:
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، والحديث القدسي: "من آذى لي وليا؛ فقد آذنته بالحرب". "خ".

 

ج / 1 ص -118-       عليه كل علم. فقال له محمد بن الحسن القاضي, وكان حاضرا في مجلسه ذلك، وكان ابن خالة الفراء: فأنت قد برعت في علمك، فخذ مسألة أسألك عنها من غير علمك: ما تقول فيمن سها في صلاته, ثم سجد لسهوه فسها في سجوده أيضا؟
قال الفراء: لا شيء عليه.
قال: وكيف؟
قال: لأن التصغير عندنا1 لا يصغر؛ فكذلك السهو في سجود السهو لا يسجد له؛ لأنه بمنزلة تصغير التصغير؛ فالسجود للسهو هو جبر للصلاة، والجبر لا يجبر، كما أن التصغير لا يصغر.
فقال القاضي: ما حسبت أن النساء يلدن مثلك2.
فأنت ترى ما في الجمع بين التصغير والسهو في الصلاة من الضعف؛ إذ لا يجمعهما في المعنى أصل حقيقي فيعتبر أحدهما بالآخر.
فلو جمعهما أصل واحد؛ لم يكن من هذا الباب، كمسألة الكسائي مع أبي يوسف القاضي بحضرة الرشيد.
روي أن أبا يوسف دخل على الرشيد، والكسائي يداعبه ويمازحه؛ فقال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كلمة "عندنا" ليست في "م" و"خ".
2 المحاورة بين الفراء ومحمد بن الحسن موجودة في "تاريخ بغداد" "14/ 151-152"، لكن رواها قبل ذلك "14/ 151" على أن بشرا المريسي هو الذي سأل الفراء.
وذكرها كذلك ابن خلكان في "وفيات الأعيان" "6/ 179"، وكان ذكرها قبل ذلك "3/ 296" في ترجمة الكسائي أنها جرت بينه وبين محمد بن الحسن، ثم قال: "هكذا وجدت هذه الحكاية في عدة مواضع، وذكر الخطيب في "تاريخ بغداد" أن هذه القضية جرت بين محمد بن الحسن المذكور والفراء".

 

ج / 1 ص -119-       له أبو يوسف: هذا الكوفي قد استفرغك وغلب عليك.
فقال: يا أبا يوسف! إنه ليأتيني بأشياء يشتمل عليها قلبي.
فأقبل الكسائي على أبي يوسف، فقال: يا أبا يوسف! هل لك في مسألة؟
فقال: نحو أم فقه؟
قال: بل فقه.
فضحك الرشيد حتى فحص برجله، ثم قال: تلقي على أبي يوسف فقها؟
قال: نعم. قال: يا أبا يوسف! ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق أن دخلت الدار، وفتح أن؟
قال: إذا دخلت طلقت.
قال: أخطأت يا أبا يوسف.
فضحك الرشيد، ثم قال: كيف الصواب؟
قال: إذا قال "أن"؛ فقد وجب الفعل ووقع الطلاق، وإن قال: "إن"؛ فلم يجب ولم يقع الطلاق.
قال: فكان أبو يوسف بعدها لا يدع أن يأتي الكسائي1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والصواب في المسألة التفريق بين العارف بالعربية والجاهل بها؛ فيقع إن قال: "أن" بخلاف قوله "إن"، وإن كان جاهلا لم يقع شيء، أفاده الأسنوي في "الكوكب الدري" "ص471".
والقصة التي ساقها المصنف ذكرها ياقوت في "معجم الأدباء" في ترجمة الكسائي "13/ 175-176" عن المرزباني أنها مع أبي يوسف أو محمد بن الحسن على الشك.
وكتب "م" هنا في الحاشية: "السر في هذا أن "إن" بالكسرة شرطية؛ فيصير الطلاق معلقا، وبالفتح مصدرية؛ فيصير مدخولها علة لوقوع الطلاق".

 

ج / 1 ص -120-       فهذه المسألة جارية على أصل لغوي لا بد من البناء عليه في العلمين.
فهذه أمثلة ترشد الناظر إلى ما وراءها، حتى يكون على بينة فيما يأتي من العلوم ويذر؛ فإن كثيرا منها يستفز الناظر استحسانها1 ببادئ الرأي، فيقطع فيها عمره، وليس وراءها ما يتخذه معتمدا في عمل ولا اعتقاد، فيخيب في طلب العلم سعيه، والله الواقي.
ومن طريف الأمثلة في هذا الباب ما حدثناه بعض الشيوخ: أن أبا العباس بن البناء سئل، فقيل له: لِمَ لم تعمل إن في
{هَذَانِ} من قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} الآية [طه: 63]؟
فقال في الجواب: لما لم يؤثر القول في المقول؛ لم يؤثر العامل في المعمول.
فقال2 السائل: يا سيدي! وما وجه الارتباط بين عمل إن وقول الكفار في النبيين؟
فقال له المجيب: يا هذا! إنما جئتك بنوارة يحسن رونقها، فأنت تريد أن تحكها بين يديك، ثم تطلب منها ذلك الرونق, أو كلاما هذا معناه3!
فهذا الجواب فيه ما ترى، وبعرضه على العقل يتبين ما بينه وبين ما هو من صلب العمل.
والقسم الثالث:
وهو ما ليس من الصلب، ولا من الملح: ما لم يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني وإنما شأنه أن يكر4 على أصله أو على غيره بالإبطال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تحرفت في "د": "استسحانها" بتقديم السين الثانية.
2 في "م" و"خ" زيادة: "له".
3 أورد المصنف في "الإفادات" "ص110" هذه القصة وسمى شيخه، وهو المقري.
4 أي: يرجع. "ماء".

 

ج / 1 ص -121-       مما صح كونه من العلوم المعتبرة، والقواعد المرجوع إليها في الأعمال والاعتقادات، أو كان منهضا إلى إبطال الحق وإحقاق الباطل على الجملة؛ فهذا ليس بعلم لأنه يرجع على أصله بالإبطال، فهو غير ثابت، ولا حاكم، ولا مطرد أيضا، ولا هو من ملحه؛ لأن الملح هي التي تستحسنها العقول، وتستملحها النفوس؛ إذ ليس يصحبها منفر، ولا هي مما تعادي العلوم؛ لأنها ذات أصل مبني عليه في الجملة، بخلاف هذا القسم؛ فإنه ليس فيه شيء من ذلك.
هذا وإن مال بقوم فاستحسنوه وطلبوه؛ فلشبه عارضة، واشتباه بينه وبين ما قبله، فربما عده الأغبياء مبنيا على أصل، فمالوا إليه من ذلك الوجه، وحقيقة أصله وهم وتخييل لا حقيقة له، مع ما ينضاف إلى ذلك من الأغراض والأهواء؛ كالإغراب باستجلاب غير المعهود، والجعجعة بإدراك ما لم يدركه الراسخون، والتبجح بأن وراء هذه المشهورات مطالب لا يدركها إلا الخواص، وأنهم من الخواص... وأشباه ذلك مما لا يحصل منه مطلوب، ولا يحور1 منه صاحبه إلا بالافتضاح2 عند الامتحان، حسبما بينه الغزالي3، وابن العربي4، ومن تعرض لبيان ذلك من غيرهما.
ومثال هذا القسم ما انتحله الباطنية في كتاب الله من إخراجه عن ظاهره، وأن المقصود وراء هذا الظاهر، ولا سبيل إلى نيله بعقل ولا نظر، وإنما يُنال من الإمام المعصوم، تقليدا لذلك الإمام، واستنادهم -في جملة من دعاويهم- إلى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يرجع، انظر: "مختار الصحاح" "ح و ر"، وبالأصل: "يجوز"، وفي "ط": "يحلا".
2 في "ط": "بافتضاح".
3 انظر: "إحياء علوم الدين" "كتاب العلم، بيان القدر المحمود من العلوم المحمودة" "1/ 41".
4 انظر: "قانون التأويل" "ص196-197".

 

ج / 1 ص -122-       علم الحروف، وعلم النجوم1، ولقد اتسع الخرق في الأزمنة المتأخرة على الراقع؛ فكثرت الدعاوى على الشريعة بأمثال ما ادعاه الباطنية2؛ حتى آل3 ذلك إلى ما لا يعقل على حال، فضلا عن غير ذلك، ويشمل هذا القسم ما ينتحله أهل السفسطة4 والمتحكمون5، وكل ذلك ليس له أصل ينبني عليه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكتب السحر والشعبذة أكبر دليل على ذلك؛ مثل: "شمس المعارف الكبرى" للبوني، و"الرحمة في الطب والحكمة" المنسوب كذبا للسيوطي، و"الجفر" المنسوب كذبا تارة لعلي -رضي الله عنه- وتارة لجعفر الصادق، وغيرها كثير؛ كما بينته في المجلد الأول من "المجموعة الأولى" من كتابي "كتب حذر العلماء منها"، وهو مطبوع، ولله الحمد.
وقد عالج ابن القيم في كتابه: "مفتاح دار السعادة" هذا الموضوع معالجة وافية.
وأورد في آخره "2/ 148- إلى آخر الكتاب" رسالة في الرد على المنجمين لأبي القاسم عيسى بن علي بن الجراح البغدادي "ت391هـ" كتبها لما بصره الله رشده وأراه بطلان ما عليه هؤلاء الضلال الجهال، كتبها نصيحة لبعض إخوانه، وهي نفيسة جدا، ولا سيما مع تعقبات ابن القيم عليها، وانظر تفصيلا عن علم الحروف "مبادئه وأشهر أعلامه" في "علم الحروف وأقطابه" لعبد الحميد حمدان-مكتبة مدبولي، القاهرة، "1410هـ".
2 مبدأ هذا المذهب كما حكى السيد في "شرح المواقف": إن طائفة من المجوس تذاكروا ما كان لسلفهم من السطوة والملك، وقالوا: لا سبيل إلى مغالبة المسلمين بالسيف لقوة شوكتهم وسعة ممالكهم، لكنا نقاتلهم بتأويل شريعتهم إلى ما يطابق قواعد ديانتنا، ونستدرج به الضعفاء حتى تختلف كلمتهم ويختل نظام وحدتهم، وأول ما وضعوا في مبادئهم أن للقرآن ظاهرا وهو المعلوم في اللغة، وباطنا وهو المراد. "خ".
قلت: وكلام ابن تيمية فيهم كثير جدا، انظر منه ما في "مجموع الفتاوى" "5/ 550-551 و13/ 235"، وسيأتي للمصنف كلام بديع حول الظاهر والباطن في "4/ 231 وما بعدها".
3 ساقطة من الأصل المخطوط، وأشار إلى ذلك الناسخ.
4 السفسطة: شعبة من شعب الفلسفة اليونانية نشأت في المائة الخامسة قبل الميلاد، ومن أشهر مؤسسيها "بروتغورس" القائل: كل واحد مخطئ ومصيب في آن واحد؛ لأن الحقيقة تابعة للشعور الوقتي الذي نحس به، وقد تصدى لنقض مغالطاتهم سقراط وأفلاطون وأرسطو، ونشأة هذا المذهب هي التي بعثت أرسطو على وضع علم المنطق "خ".
5 أي: مدعو الحكمة.

 

ج / 1 ص -123-       ولا ثمرة تُجنى منه؛ فلا تعلق به بوجه.
فصل:
وقد يعرض للقسم الأول أن يعد من الثاني، ويتصور ذلك في خلط بعض العلوم ببعض؛ كالفقيه يبني فقهه على مسألة نحوية مثلا، فيرجع إلى تقريرها مسألةً -كما يقررها النحوي- لا مقدمة مسلمة، ثم يرد مسألته الفقهية إليها، والذي كان من شأنه أن يأتي بها على أنها مفروغ منها في علم النحو فيبني عليها، فلما لم يفعل ذلك، وأخذ يتكلم فيها, وفي تصحيحها، وضبطها، والاستدلال عليها، كما يفعله النحوي؛ صار الإتيان بذلك فضلا1 غير محتاج إليه، وكذلك إذا افتقر إلى مسألة [عددية؛ فمن حقه أن يأتي بها مسلمة]2 ليفرع عليها في علمه، فإن أخذ يبسط القول فيها كما يفعله العددي في علم العدد؛ كان فضلا معدودا من المُلَح إن عُدَّ منها، وهكذا سائر العلوم التي يخدم بعضها بعضا.
ويعرض أيضا للقسم الأول أن يصير من الثالث، ويتصور ذلك فيمن يتبجح بذكر المسائل العلمية لمن ليس من أهلها، أو ذكر كبار المسائل لمن لا يحتمل عقله إلا صغارها، على ضد التربية المشروعة، فمثل هذا يوقع في مصائب3، ومن أجلها قال علي, رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يفهمون،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: زيادة غير مغتفر إليها. "م".
2 ساقطة من الأصل.
3 تلقين كبار المسائل لمن لا يحتملها عقله كانت إحدى الآفات التي نزلت بأسلوب التعليم في معاهدنا؛ فقتلت أوقاتا نفيسة في غير سبيل الله، وعطلت قرائح كانت أحق بأن تسقى بتعليم سائغ فتؤتي أكلها كل حين, وعلاج هذه العلة أن يعلم الأستاذ أن تمييز مراتب التلاميذ في الفهم وترشيحهم بمبادئ العلوم على حسب استعدادهم أعظم ثوابًا في الدار الباقية، وأدعى لإجلال التلاميذ أنفسهم وإخلاصهم له من مفاجأتهم بالخوض في مسائل لا تسعها مداركهم. "خ".

 

ج / 1 ص -124-       أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟"1، وقد يصير ذلك فتنة على بعض السامعين، حسبما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب2.
وإذا عرض للقسم الأول أن يعد من الثالث؛ فأولى أن يعرض للثاني أن يعد من الثالث؛ لأنه أقرب إليه من الأول.
فلا يصح للعالم في التربية العلمية إلا المحافظة على هذه المعاني، وإلا لم يكن مربيا، واحتاج هو إلى عالم يربيه.
ومن هنا لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد؛ حتى يكون ريان من علم الشريعة، أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب3، فإنه إن كان هكذا؛ خيف عليه أن ينقلب عليه ما أودع فيه فتنة بالعرض، وإن كان حكمة بالذات، والله الموفق للصواب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا، 1/ 225/ رقم 127"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 610"، والخطيب في "الجامع" "رقم 1318"، وآدم بن أبي أياس في "العلم"، وأبو نعيم في "المستخرج"؛ كما في "فتح الباري" "1/ 225" بألفاظ مقاربة منها المذكور، وسيأتي "5/ 168" مرفوعا ولا يصح.
2 انظر: "5/ 167".
3 التعصب للمذهب ينشأ عن قصر النظر وعدم التفقه في الأصول العالية، ولهذا نجد المتبحر في علم الكتاب والسنة، المطلع على مذاهب الفقهاء ومداركها؛ يكاد احترامه للمذهب الذي يتبعه لا يزيد على احترامه للمذاهب الأخرى، وذلك لما يبدو له من رجحانها وتفوقها على مذهبه في كثير من المسائل "خ".

 

ج / 1 ص -125-       المقدمة العاشرة:
إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية؛ فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا، ويتأخر العقل فيكون تابعا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل1، والدليل على ذلك أمور:
الأول:
أنه لو جاز للعقل تخطي مأخذ النقل؛ لم يكن للحد الذي حده النقل فائدة؛ لأن الفَرَض أنه حد له حدا، فإذا جاز تعديه؛ صار الحد غير مفيد، وذلك في الشريعة باطل، فما أدى إليه مثله.
والثاني:
ما تبين في علم الكلام والأصول من أن العقل لا يحسن ولا يقبح2، ولو فرضناه متعديا لما حده الشرع؛ لكان محسنا ومقبحا، هذا خلف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه المسألة بما لا مزيد عليه في "درء تعارض العقل والنقل"، وكذا في المجلد الأول من "مجموع الفتاوى"، وأيضا فيها "13/ 64 وما بعدها".
وللمصنف كلام رائع في "الاعتصام" "2/ 318-322، 327-334" حيث قسم العلوم من حيث إدراك العقل لها إلى ثلاثة أقسام، وتكلم عليها بإسهاب.
ولابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 331 وما بعدها و2/ 3 وما بعدها، 47 وما بعدها"، و"الصواعق" "3/ 796 إلى نهاية الجزء الرابع"، و"مختصره" "1/ 129 وما بعدها" كلام مسهب قيم متين في هذا الموضوع.
2 هذه مسألة مشهورة في علم الكلام وفي علم أصول الفقه، وهي معروفة بمسألة =

 

ج / 1 ص -126-       ..........................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "التحسين والتقبيح"، ولم ينج المصنف من بعض الآثار السلبية لها، أعني بالذات تأثره بالنظرة الأشعرية إلى الموضوع، ولننطلق من الشاطبي -فهو منطلق البحث كله- لنرى بعض مظاهر أشعريته في الموضوع، ومن خلاله ستتضح معالم النظرية الأشعرية في التحسين والتقبيح*.
وأفضل الكلام على هذه المسألة في هذا الموطن، جامعا الكلام فيها، ولا سيما كلام الشاطبي؛ فأقول: هذه المسألة لها جوانب اتفاق وافتراق بين العلماء.
أما محل الاتفاق؛ فالعقل يدرك الحسن والقبح فيما هو ملائم لطبع أو مضاد له، فإذا لاءم الغرض الطبع؛ فحسن؛ كاللذة والحلاوة، وإذا نافره فهو قبيح؛ كالألم والمرارة، وهذا القدر معلوم بالحس والعقل والشرع مجمع عليه بين الأولين والآخرين، بل هو معلوم عند البهائم**.
أما محل الافتراق والتنازع؛ فهو في الحسن والقبح المتعلق بالشرع، بمعنى كون الفعل سببا للذم والعقاب أو المدح والثواب، وهل يعلم ذلك بالعقل أم لا يعلم إلا بالشرع، أم يعلم بهما معا***؟ وحاصل أقوال الناس في هذه المسألة على سبيل الإجمال ثلاثة أقوال أساسية، هي:
القول الأول:
وهو قول جهم والأشعري ومن تابعه من المنتسبين إلى السنة وأصحاب مالك والشافعي وأحمد؛ كالقاضي أبي يعلى، وأبي الوليد الباجي، وأبي المعالي الجويني وغيرهم، وهو قول عموم الأشاعرة، وحاصل هذا القول: "إن الأفعال لا تتصف بصفات تكون بها حسنة ولا سيئة ألبتة، وكون الفعل حسنا وسيئا إنما معناه أنه منهي عنه أو غير منهي عنه، وهذه الصفة إضافية لا تثبت إلا بالشرع"****، أي: إنهم ينفون الحسن والقبح العقليين ويقولون: إن ذلك لا يعرف إلا بالشرع فقط، مع أنه "من المحال أن يكون الدم والبول والرجيع مساويا للخبز والماء والفاكهة ونحوها، وإنما =

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص216".
** انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 90، 308، 309"، و"مفتاح دار السعادة" "2/ 44"، و"مدارج السالكين" "1/ 230"، و"إرشاد الفحول" "7".
*** "مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 309".
**** انظر: "درء التعارض" "8/ 492"، ونحوه في "مجموع الفتاوى" "11/ 676-677 و8/ 90"، و"مفتاح دار السعادة" "2/ 5"، و"مدارج السالكين" "1/ 91, 230"، و"شفاء الغليل" "435 وما بعدها".

 

ج / 1 ص -127-      
............................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الشارع فرق بينهما؛ فأباح هذا وحرم هذا مع استواء الكل في نفس الأمر, وكذلك أخذ المال بالبيع والهبة والوصية والميراث، لا يكون مساويا لأخذه بالقهر والغلبة والغصب والسرقة والجناية؛ حتى يكون إباحة هذا أو تحريم هذا راجعا إلى محض الأمر والنهي المفرق بين المتماثلين..."*.
إلا أن هذا هو مذهب الأشاعرة الذي يصرحون به في كتبهم الاعتقادية والأصولية؛ ففي "المواقف" يقول الإيجي: "القبيح ما نهي عنه شرعا والحسن بخلافه، ولا حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها، وليس ذلك عائدا إلى أمر حقيقي في الفعل يكشف عنه الشرع، بل الشرع هو المثبت له والمبين، ولو عكس القضية، فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه؛ لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر"**.
وفي "الإرشاد" "228" للجويني: "العقل لا يدل على حسن شيء ولا قبحه في حكم التكليف، وإنما تلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع وموجب السمع".
وهذا ما ردده الشاطبي هنا؛ فهو يقول: "إن العقل لا يحسن ولا يقبح"، ويؤكد هذا المعنى في سياق آخر، وعلى وجه أوضح؛ فيقول "3/ 28": "الأفعال والتروك -من حيث هي أفعال وتروك- متماثلة عقلا بالنسبة إلى ما يقصد بها؛ إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح", وعلى الرغم من مرور الشاطبي على المسألة مرورا سريعا على خلاف ما يفعله المتكلمون والأصوليون؛ فإن التأثير الأشعري بادٍ على كلامه، قارن كلامه السابق بقول الجويني في "الإرشاد" "ص259": "فليس الحسن صفة زائدة على الشرع مدركة به، وإنما هو عبارة عن نفس ورود الشرع بالثناء على فاعله، وكذلك القول في القبح، فإذا وصفنا فعلا من الأفعال بالوجوب أو الحظر؛ فلسنا نعني بما نثبته تقدير صفة للفعل الواجب يتميز بها عما ليس بواجب، وإنما المراد بالواجب الفعل الذي ورد الشرع بالأمر به إيجابا، والمراد بالمحظور: الفعل الذي ورد الشرع بالنهي عنه حظرا وتحريما".
واقرأ له قوله الآتي "2/ 534-535": "... كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم والمفسدة =

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* "مفتاح دار السعادة" "2/ 5".
** "المواقف" "323"، وانظر: "إتحاف المريد" "32-33"، و"الاقتصاد في الاعتقاد" "102-110" للغزالي، و"أصول الدين" "262-263" للبغدادي، و"أصول الدين" للرازي "92-94".

 

ج / 1 ص -128-      
..........................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مفسدة كذلك مما يختص بالشارع، لا مجال للعقل فيه، بناء على قاعدة نفي التحسين والتقبيح، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما؛ فهو الواضع لها مصلحة، وإلا؛ فكان يمكن عقلا أن لا تكون كذلك؛ إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء العقل فيها بحسن ولا قبح، فإذًا؛ كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس".
وهذا بالضبط هو كلام الجويني وغيره من أئمة الأشاعرة، ولهذا القول لوازم فاسدة قد التزموها وقالوا بها، منها كما يقول ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" "2/ 42-52": إنه يجوز ظهور المعجزة على يد الكاذب، وإنه ليس بقبيح، وإنه يجوز نسبة الكذب إلى أصدق الصادقين، وإنه لا يقبح منه، وإنه يستوي التثليث والتوحيد قبل ورود الشرع، وإنه لا يقبح الشرك ولا عبادة الأصنام، ولا مسبة المعبود سبحانه، وإنه لا يقبح الزواج بالأم والبنت، وغير ذلك من اللوازم التي انبنت على أن هذه الأشياء لم تقبح بالعقل، وإنما جهة قبحها السمع فقط.
وهذه كلها لوازم فاسدة تدل على فساد الملزوم، بل ويلزم على قولهم هذا أنه يصح أن يأمر الله بالشرك؛ فلا يكون قبيحا، وبالزنى والسرقة والظلم وسائر المنكرات؛ فلا يكون ذلك قبيحا، ويجوز عندهم أن ينهى سبحانه عن التوحيد والعفة والصدق والعدل؛ فتكون هذه كلها قبيحة، كما قال الإيجي في "المواقف" "323": "ولو عكس القضية، فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه؛ لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر".
القول الثاني:
وهو مذهب المعتزلة على اختلاف بينهم في التفصيلات، وكثير من أصحاب أبي حنيفة، وهذا القول يقع في مقابل القول الأول؛ إذ الحسن والقبح عند هؤلاء عقليان، لا يتوقف في معرفتهما وأخذهما عن الدليل السمعي، ويجعلون الحسن والقبح صفات ذاتية للفعل لازمة له، ويجعلون الشرع إلا كاشفا عن تلك الصفات لا سببا لشيء من الصفات، ترى تفصيل ذلك في "مجموع الفتاوى" "8/ 431 و11/ 677"، و"درء تعارض العقل والنقل" "8/ 492"، و"مدارج السالكين" "1/ 238"، و"مفتاح دار السعادة" "2/ 8، 39، 105"، و"شرح الأصول الخمسة" "41، 46"، و"سلم الوصول شرح نهاية السؤل" "1/ 83"، و"إرشاد الفحول" "7".
ورتب المعتزلة على هذا الأصل أمورا عديدة، منها: أن القبح في العقل يترتب عليه الذم والعقاب في الشرع، والحسن في العقل يترتب عليه المدح والثواب في الشرع، وأن الله -سبحانه وتعالى- يجب عليه أن يفعل ما استحسنه العقل ويحرم عليه أن يفعل ما استقبحه العقل، وأن =

 

ج / 1 ص -129-      
..........................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المصلحة تنشأ من الفعل المأمور به فقط؛ كالصدق، والعفة، والإحسان، والعدل؛ فإن مصالحها ناشئة منها، وغير ذلك من الأمور المترتبة على هذا الأصل الفاسد واللوازم الملازمة له، كما بينه ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" "2/ 59-60 و105".
القول الثالث:
هو القول الوسط بين هاتين الطائفتين، والطريق القاصد بين الطريقين الجائرين, إذ قال أصحابه, كما في "مفتاح دار السعادة" "2/ 57": "ما منكم أيها الفريقان إلا من معه حق وباطل، ونحن نساعد كل فريق على حقه ونصير إليه، ونبطل ما معه من الباطل ونرده عليه؛ فنجعل حق الطائفتين مذهبا ثالثا يخرج من بين فرث ودم, لبنا خالصا سائغا للشاربين".
وحاصل هذا القول:
أن الحسن والقبح يدركان بالعقل، ولكن ذلك لا يستلزم حكما في فعل العبد، بل يكون الفعل صالحا لاستحقاق الأمر والنهي، والثواب والعقاب من الحكيم الذي لا يأمر بنقيض ما أدرك العقل حسنه، أو ينهى عن نقيض ما أدرك العقل قبحه؛ لأن ما أدرك العقل حسنه أو قبحه راجح ونقيضه مرجوح، بمعنى أن صفة الحسن في الفعل ترجح جانب الأمر به على جانب الأمر بنقيضه القبيح، وصفة القبح في الفعل ترجح جانب النهي عنه على جانب النهي عن نقيضه الحسن، عملا في ذلك بمقتضى الحكمة التي هي صفة من صفات الله سبحانه؛ فلا حكم إلا من الخطاب الشرعي، ولا أمر ولا نهي إلا من قبل الشارع الحكيم.
وهذا هو قول عامة السلف وأكثر المسلمين؛ كما في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "11/ 677"، وأهل هذا القول يوافقون الأشاعرة في أنه لا حكم بالثواب والعقاب والأمر والنهي في الفعل إلا جهة الوحي، وأن الحجة إنما تقوم على العباد بالرسالة، وأن الله لا يعذبهم قبل بعثة الرسل، ولا يطالبهم إلا بما بلغهم من أمر، ولا يعاقبهم إلا على ارتكاب ما نهاهم عنه.
ويوافقون المعتزلة في أن العقل يحكم بحسن الشيء أو قبحه، وأن الحسن والقبح صفات ثبوتية للأفعال معلومة بالعقل والشرع، وأن الشرع جاء بتقرير ما هو مستقر في الفطر، والعقول من تحسين الحسن والأمر به وتقبيح القبيح والنهي عنه، وأنه لم يجئ بما يخالف العقل والفطرة، ويوافقونهم في إثبات الحكمة لله تعالى، وأنه سبحانه لا يفعل فعلا خاليا عن الحكمة، بل كل أفعاله مقصودة لعواقبها الحميدة وغاياتها المحبوبة.
ومن الجدير بالذكر أن القول بإدراك العقل للمصالح والمفاسد لا يعني أن إدراكه تام مطلق، بل إنه يدرك ويعجز، ويصيب ويخطئ... وقد بين ابن القيم هذه النقطة؛ فقال في "مفتاح دار =

 

ج / 1 ص -130-      
............................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= السعادة" "2/ 117": "... بل غاية العقل أن يدرك بالإجمال حسن ما أتى الشرع بتفصيله أو قبحه؛ فيدركه العقل جملة، ويأتي الشرع بتفصيله، وهذا كما أن العقل يدرك حسن العدل، وأما كون هذا الفعل المعين عدلا أو ظلما؛ فهذا مما يعجز العقل عن إدراكه في كل فعل وعقد، وكذلك يعجز عن إدراك حسن كل فعل وقبحه.
فتأتي الشرائع بتفصيل ذلك وتبينه، وما أدركه العقل الصريح من ذلك تأتي الشرائع بتقريره، وما كان حسنا في وقت قبيحا في وقت، ولم يهتد العقل لوقت حسنه من وقت قبحه أتت الشرائع بالأمر به في وقت حسنه، وبالنهي عنه في وقت قبحه، وكذلك الفعل يكون مشتملا على مصلحة ومفسدة، ولا تعلم العقول مفسدته أرجح أم مصلحته؟ فيتوقف العقل في ذلك، فتأتي الشرائع ببيان ذلك، وتأمر براجح المصلحة، وتنهى عن راجح المفسدة، وكذلك الفعل يكون مصلحة لشخص مفسدة لغيره، والعقل لا يدرك ذلك؛ فتأتي الشرائع ببيانه؛ فتأمر به من هو مصلحة له، وتنهى عنه من هو مفسدة في حقه، وكذلك الفعل يكون مفسدة في الظاهر، وفي ضمنه مصلحة عظيمة، لا يهتدي إليها العقل؛ فلا تعلم إلا بالشرع؛ كالجهاد والقتل في الله، ويكون في الظاهر مصلحة، وفي ضمنه مفسدة عظيمة لا يهتدي إليها العقل، فتجيء الشرائع ببيان ما في ضمنه من المصلحة والمفسدة الراجحة، هذا مع أن ما يعجز العقل عن إدراكه من حسن الأفعال وقبحها ليس بدون ما تدركه من ذلك؛ فالحاجة إلى الرسل ضرورية، بل هي فوق كل حاجة؛ فليس العالم إلى شيء أحوج منهم إلى المرسلين, صلوات الله عليهم أجمعين...".
وقد تعرض الشاطبي مرارا لبيان هذا القصور في إدراك العقل للمصالح والمفاسد، ترى ذلك في "الاعتصام" "2/ 321-322"، وكما سيأتي "ص537 و2/ 77 و3/ 210".
انظر بسط المسألة في: "مفتاح دار السعادة" "2/ 2-118"، و"مدارج السالكين" "1/ 230-257، 91 و3/ 407، 488، 492"، و"شفاء الغليل" "435"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 90، 91 و428-432 و3/ 114-115 و11/ 675-687 و75/ 8 و16/ 235-363"، و"درء تعارض العقل والنقل" "8/ 492-493"، و"شرح الكوكب المنير" "1/ 300، 322"، و"لوامع الأنوار" "1/ 284-291"، و"روح المعاني" "14/ 94 و15/ 37-42"، و"تيسير التحرير" "1/ 283-387", و"حقيقة البدعة وأحكامها" "2/ 127-133"، و"نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص216-229".

 

ج / 1 ص -131-       والثالث:
أنه لو كان كذلك؛ لجاز إبطال الشريعة بالعقل، وهذا محال باطل، وبيان ذلك أن معنى الشريعة أنها تحد للمكلفين حدودا؛ في أفعالهم، وأقوالهم، واعتقاداتهم، وهو جملة ما تضمنته، فإن جاز للعقل تعدي حد واحد؛ جاز له تعدي جميع الحدود؛ لأن ما ثبت للشيء ثبت لمثله، وتعدي حد واحد هو معنى إبطاله؛ أي: ليس هذا الحد بصحيح، وإن جاز إبطال واحد؛ جاز إبطال السائر، وهذا لا يقول به أحد لظهور مُحاله.
فإن قيل: هذا مشكل؛ من أوجه:
الأول:
أن هذا الرأي هو رأي الظاهرية1؛ لأنهم واقفون مع ظواهر النصوص من غير زيادة ولا نقصان، وحاصله عدم اعتبار المعقول جملة، ويتضمن نفي القياس الذي اتفق الأولون عليه.
والثاني:
أنه قد ثبت للعقل التخصيص حسبما ذكره الأصوليون في نحو:
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284]، و{عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102]، و{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]، وهو نقص من مقتضى العموم؛ فلتجز الزيادة لأنها بمعناه2، ولأن الوقوف دون حد النقل كالمجاوزة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هم أصحاب داود بن علي الأصفهاني، ولكن الذي صح عن داود أنه يحتج بالقياس الجلي وينكر القياس الخفي فقط، والذي أنكر القياس مطلقا -خفيه، وجليه- طائفة من أصحابه زعيمهم أبو محمد علي بن حزم الأندلسي "خ".
2 في أن كلا منهما تصرف، ومن له النقص له الزيادة، هكذا يفهم هذا الاستدلال مجملا حتى يكون للدليل بعده فائدة جديدة، وهي أنهم* يشتركان في المعنى الخاص المطلوب بناء الإشكال عليه في قوله، ولما لم يعد... إلخ؛ إلا أن تكون الواو في قوله: ولإن زائدة في النسخ، ثم يبقى النظر في أن أصل الدعوى هي تعدي حد الشرع وإبطاله بالعقل، سواء في ذلك النقص =

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "أنها".

 

ج / 1 ص -132-       له؛ فكلاهما إبطال للحد على زعمك، فإذا جاز إبطاله مع النقص؛ جاز مع الزيادة، ولما لم يعد هذا إبطالا للحد؛ فلا يعد الآخر.
والثالث:
أن للأصوليين قاعدة قضت بخلاف هذا القضاء، وهي أن المعنى المناسب إذا كان جليا سابقا للفهم عند ذكر النص؛ صح تحكيم ذلك المعنى في النص بالتخصيص له والزيادة عليه، ومثلوا ذلك بقوله, عليه السلام:
"لا يقضي القاضي وهو غضبان"1؛ فمنعوا -لأجل معنى التشويش2- القضاء مع جميع المشوشات، وأجازوا مع ما لا يشوش من الغضب؛ فأنت تراهم تصرفوا بمقتضى العقل في النقل من غير توقف، وذلك خلاف ما أصلت, وبالجملة؛ فإنكار تصرفات العقول بأمثال هذا إنكار للمعلوم في أصول الفقه.
فالجواب: أن ما ذكرت لا إشكال فيه على ما تقرر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والزيادة، وعليه؛ فكان المفهوم أنه يجعل نفس النقص مما يقتضيه العموم تعديا أيضا يعترض به، ويقول: إن ما أصلته هنا ينافيه أصل آخر، وهو تخصيص العقل؛ لأنه نقص, ثم يبني على تخصيص العقل، وكونه نقصا مما حده الشرع، الإشكال بالزيادة على الطريق الذي قرره كما راعى الإشكال بالزيادة والنقص في الإشكال الثالث، وقد وجه همته في الجواب عن الإشكال الثاني إلى طرف النقص فأبطله، ثم قال: "فلا يصح قياس المجاوزة عليه"، وهو يقتضي أنه راعى الاعتراض بالنقص مدرجا في قوله: "وهو نقص" يعني، وهذا إشكال، ثم أخذه مقدمة؛ فقال: فلتجز الزيادة". "د".
1 سيأتي تخريجه "ص411"، والحديث في "الصحيحين" وغيرهما.
2 أنكر هذه الكلمة جماعة من علماء اللغة؛ كأبي منصور، والحريري، وصاحب القاموس، وقالوا: إنها مولدة وصوابها التهويش، ومن المتأخرين من أجاز استعمالها وثوقا بذكر الجوهري لها في "صحاحه"؛ إذ هو مثبت فيقدم على النافي والمتحري للعربية الفصحى لا يكفيه في صحة الكلمة متى أنكرها طائفة من أئمة اللغة ولم يظفر لها بشاهد صحيح أن ترد في كتاب "الصحاح" الذي تركه مؤلفه في المسودة حتى يبيضه تلميذه إبراهيم بن صلاح الوراق، وتسربت فيه أغلاط كثيرة. "خ".

 

ج / 1 ص -133-       أما الأول:
فليس القياس1 من تصرفات العقول محضا، وإنما تصرفت فيه من تحت نظر الأدلة، وعلى حسب ما أعطته من إطلاق أو تقييد، وهذا مبين في موضعه من كتاب القياس، فإنا إذا دلنا الشرع على أن إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه معتبر، وأنه من الأمور التي قصدها الشارع، وأمر بها، ونبه النبي -صلى الله عليه وسلم- على العمل بها؛ فأين استقلال العقل بذلك؟ بل هو مهتدٍ فيه بالأدلة الشرعية، يجري بمقدار ما أجرته، ويقف حيث وقفته.
وأما الثاني:
فسيأتي في باب العموم والخصوص2 إن شاء الله أن الأدلة المنفصلة لا تخصص3، وإن سلم أنها تخصص؛ فليس معنى تخصيصها أنها تتصرف في اللفظ المقصود به ظاهره، بل هي مبينة أن الظاهر غير مقصود في الخطاب، بأدلة شرعية دلت على ذلك؛ فالعقل مثله، فقوله:
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] خصصه العقل بمعنى أنه لم يرد في العموم دخول ذات البارئ وصفاته؛ لأن ذلك محال4, بل المراد جميع ما عدا ذلك؛ فلم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تأمل لتأخذ جواب أصل الإشكال الأول؛ لأنه أوسع من إنكار القياس الذي تصدى للجواب عنه صراحة، أي؛ فالعقل تابع للأدلة وخادم لها، وهو ما ندعيه. "د".
2 انظر: "4/ 44".
3 ادعى المصنف فيما يأتي أن الشارع نقل ألفاظ العموم عن مدلولاتها اللغوية إلى معانٍ أخر، وصار له في هذه العمومات عرف يخالف عرف اللغة؛ فيكون العام الذي يراه الأصوليون مخصوصا بمنفصل مستعملا عنده في المراد منه فقط، وبهذا يخرج عن العام الذي دخله التخصيص، وستطلع إن شاء الله تعالى على ما يطعن في هذه الدعوى. "خ".
4 ودل الاستقراء للشريعة على أنها لا تصادم العقل بقلب الحقائق، وجعل المحال جائزا أو واجبا، وبذلك يكون العقل آخذا تصرفه في التخصيص من النقل وتحت نظره، أما مجرد قياس العقل على الأدلة الشرعية بدون هذه المقدمة؛ فإنه تسليم للإشكال، ونقض للأصل الذي أصله في المسألة؛ فتأمل. "د".

 

ج / 1 ص -134-       يخرج العقل عن مقتضى النقل بوجه، وإذا كان كذلك؛ لم يصح قياس المجاورة1 عليه.
وأما الثالث:
فإن إلحاق كل مشوش بالغضب من باب القياس، وإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به بالقياس سائغ، وإذا نظرنا إلى التخصيص بالغضب اليسير؛ فليس من تحكيم العقل، بل من فهم معنى التشويش، ومعلوم أن الغضب اليسير غير مشوش؛ فجاز القضاء مع وجوده بناء على أنه غير مقصود في الخطاب.
هكذا يقول الأصوليون في تقرير هذا المعنى، وأن مطلق الغضب يتناوله اللفظ، لكن خصصه المعنى.
والأمر أسهل من غير احتياج إلى تخصيص؛ فإن لفظ غضبان وزنه فعلان، وفعلان في أسماء الفاعلين يقتضي الامتلاء مما اشتق منه؛ فغضبان إنما يستعمل في الممتلئ غضبا؛ كريان في الممتلئ ريًّا، وعطشان في الممتلئ عطشا، وأشباه ذلك، لا أنه يستعمل في مطلق ما اشتق منه2، فكأن الشارع إنما نهى عن قضاء الممتلئ غضبا؛ حتى كأنه قال: لا يقضي القاضي وهو شديد الغضب، أو ممتلئ من الغضب، وهذا هو المشوش، فخرج المعنى عن كونه مخصصا، وصار خروج يسير الغضب عن النهي بمقتضى اللفظ، لا بحكم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل، وفي النسخ المطبوعة "المجاوزة" بالزاي.
2 ممن صرح بهذا المعنى عز الدين ابن جماعة؛ فقال في "كشف المعاني" "ص85" موجها تقديم الرحمن على الرحيم في البسملة: إن فعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمه والامتلاء منه، ولا يلزم منه الدوام؛ كغضبان، وسكران، ونومان، وصيغة فعيل لدوام الصفة ككريم، وظريف؛ فمعنى الرحمن الرحيم: العظيم الرحمة، الدائمها.
قلت: انظر: "نظم الدرر" "1/ 26" للبقاعي.

 

ج / 1 ص -135-       المعنى، وقيس على مشوش الغضب كل مشوش؛ فلا تجاوز للعقل إذًا.
وعلى كل تقدير؛ فالعقل لا يحكم على النقل في أمثال هذه الأشياء، وبذلك ظهرت صحة ما تقدم.

 

ج / 1 ص -137-       المقدمة الحادية عشرة:
لما ثبت أن العلم المعتبر1 شرعا هو ما ينبني عليه عمل؛ صار ذلك منحصرا فيما دلت عليه الأدلة الشرعية، فما اقتضته؛ فهو العلم الذي طلب من المكلف أن يعلمه في الجملة، وهذا ظاهر؛ غير أن الشأن إنما هو في حصر الأدلة الشرعية، فإذا انحصرت؛ انحصرت مدارك العلم الشرعي، وهذا مذكور في كتاب الأدلة الشرعية، حسبما يأتي إن شاء الله2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "إن المعتبر من العلم هو الذي دل عليه أدلة الشرع حال كونها تستقل -أي: تثبت- بحصر أي بعد، وحيث تحصر عند أحد؛ فإن العلم يحصر عنده بكل مدرك من مداركه" "ماء".
2 انظر: "3/ 165 وما بعد".

 

ج / 1 ص -139-       المقدمة الثانية عشرة:
من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين1 به على الكمال والتمام.
وذلك أن الله خلق الإنسان لا يعلم شيئا، ثم علمه وبصره، وهداه طرق مصلحته في الحياة الدنيا؛ غير أن ما علمه من ذلك على ضربين:
ضرب منها ضروري2، داخل عليه من غير علم من أين ولا كيف، بل هو مغروز فيه من أصل الخلقة، كالتقامه الثدي ومصه له عند خروجه من البطن إلى الدنيا -هذا من المحسوسات، وكعلمه بوجوده، وأن النقيضين لا يجتمعان- من جملة المعقولات.
وضرب منها بوساطة التعليم، شعر بذلك أو لا؛ كوجوه التصرفات الضرورية، نحو محاكاة الأصوات، والنطق بالكلمات، ومعرفة أسماء الأشياء في المحسوسات، وكالعلوم النظرية التي للعقل في تحصيلها مجال ونظر في المعقولات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يأتي شرح التحقق "ص140 وما بعدها".
2 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "16/ 129-139".

 

ج / 1 ص -140-       وكلامنا من ذلك فيما يفتقر إلى نظر وتبصر؛ فلا بد من معلم فيها، وإن كان الناس قد اختلفوا: هل يمكن حصول العلم دون معلم أم لا؟ فالإمكان مسلم، ولكن الواقع في مجاري العادات أن لا بد من المعلم، وهو متفق عليه في الجملة، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل؛ كاختلاف جمهور الأمة والإمامية -وهم الذين يشترطون المعصوم- والحق مع السواد الأعظم الذي لا يشترط العصمة، من جهة أنها مختصة بالأنبياء عليهم السلام، ومع ذلك؛ فهم مقرون بافتقار الجاهل إلى المعلم، علما كان المعلم أو عملا، واتفاق الناس على ذلك في الوقوع، وجريان العادة به كافٍ في أنه لا بد منه، وقد قالوا: "إن العلم كان في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال".
وهذا الكلام يقضي بأن لا بد في تحصيله من الرجال؛ إذ ليس وراء هاتين المرتبتين مرمى عندهم، وأصل هذا في الصحيح:
"إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء"1 الحديث، فإذا كان كذلك؛ فالرجال هم مفاتحه بلا شك.
فإذا تقرر هذا؛ فلا يؤخذ إلا ممن تحقق به، وهذا أيضا واضح في نفسه، وهو أيضا متفق عليه بين العقلاء؛ إذ من شروطهم في العالم بأي علم اتفق؛ أن يكون عارفا بأصوله وما ينبني عليه ذلك العلم، قادرا على التعبير عن مقصوده فيه، عارفا بما يلزم عنه، قائما على دفع الشبه الواردة عليه فيه، فإذا نظرنا إلى ما اشترطوه، وعرضنا أئمة السلف الصالح في العلوم الشرعية؛ وجدناهم قد اتصفوا بها على الكمال.
غير أنه لا يشترط السلامة عن الخطأ البتة؛ لأن فروع كل علم إذا انتشرت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص97"، وهو في "الصحيحين".

 

ج / 1 ص -141-       وانبنى بعضها على بعض اشتبهت، وربما تصور تفريعها على أصول1 مختلفة في العلم الواحد فأشكلت، أو خفي فيها الرجوع إلى بعض الأصول، فأهملها العالم من حيث خفيت عليه، وهي في نفس الأمر على غير ذلك، أو تعارضت وجوه الشبه فتشابه الأمر، فيذهب على العالم الأرجح من وجوه الترجيح, وأشباه ذلك؛ فلا يقدح في كونه عالما، ولا يضر في كونه إماما مقتدى به، فإن قصر عن استيفاء الشروط؛ نقص عن رتبة الكمال بمقدار ذلك النقصان؛ فلا يستحق الرتبة الكمالية ما لم يكمل ما نقص.
فصل:
وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق على ما تقدم، وإن خالفتها في النظر2، وهي ثلاث:
إحداها:
العمل بما علم؛ حتى يكون قوله مطابقا لفعله، فإن كان مخالفا له؛ فليس بأهل لأن يؤخذ عنه، ولا أن يقتدى به في علم، وهذا المعنى مبين على الكمال في كتاب الاجتهاد3، والحمد لله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر صورا ثلاثا: إحداها فرع ينبني على فرع مبني على أصل؛ فيفهم أن كلا من الفرعين له أصل خاص به، فيشكل عليه الأمر، فيهمل الاستنباط ويقف، وقد لا يهتدي في بعض الفروع إلى أصل يرجعها إليه؛ فيقف ويهمل الاستنباط، وقد يكون الفرع من المشتبه بأصلين، ويذهب عن العالم الأرجح من وجوه الترجيح، فيأخذ بالمرجوح في الواقع أو يقف، والتمثيل للثلاثة لا يخفى عليك، وكلها لا تضر في كونه إماما؛ فقد توقف مالك كثيرا، ورجع عما ترجح عنده أولا كثيرا لأحد الأسباب السالفة "د".
2 لأن بعضها سبب للتحقق بالعلم وهي الثانية، وبعضها مرتب عليه وهي الأولى؛ فهي تتفق مع الشروط المتقدمة، من حيث حصول كل وإن اختلفت في الاعتبار. "د".
3 انظر: "5/ 262".

 

ج / 1 ص -142-       والثانية:
أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم؛ لأخذه عنهم، وملازمته لهم؛ فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا كان شأن السلف الصالح.
فأول ذلك ملازمة الصحابة -رضي الله عنهم- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخذهم بأقواله وأفعاله، واعتمادهم على ما يرد منه، كائنا ما كان، وعلى أي وجه صدر؛ فهم1 فهموا مغزى ما أراد به أولا2 حتى علموا وتيقنوا أنه الحق الذي لا يُعارض، والحكمة التي لا ينكسر قانونها، ولا يحوم النقص حول حمى كمالها، وإنما ذلك بكثرة الملازمة، وشدة المثابرة.
وتأمل قصة عمر بن الخطاب في صلح الحديبية؛ حيث قال: يا رسول الله! ألسنا على حق، وهم على باطل؟
قال:
"بلى".
قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟
قال:
"بلى".
قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟
قال:
"يابن الخطاب! إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل قوله: "فهم" زائد أو محرف عن لفظ منه، وعليه يتعين أن يكون الشاهد في قصة عمر بدليل سائر المقدمات التي منها قوله، وفيه قال سهل بن حنيف. وقوله: والانقياد للعلماء والصبر عليهم في مواطن الإشكال، وقوله: ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم... إلخ، وبه ينتظم المقام كله, ويأخذ بعضه بحجز بعض؛ فالأمر لم يشكل على أبي بكر، بل على عمر، ولكنه صبر حتى لاح البرهان "د".
2 في "م": "أولا"! ولا وجود لها في الأصل.

 

ج / 1 ص -143-       فانطلق عمر ولم يصبر، متغيظا، فأتى أبا بكر؛ فقال له مثل ذلك.
فقال أبو بكر: إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا.
قال: فنزل القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه؛ فقال: يا رسول الله! أَوَفَتح هو؟ قال:
"نعم". فطابت نفسه ورجع1.
فهذا من فوائد الملازمة، والانقياد للعلماء، والصبر عليهم في مواطن الإشكال؛ حتى لاح البرهان للعيان.
وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين: "أيها الناس! اتهموا رأيكم، والله؛ لقد رأيتني يوم أبي جندل2 ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرددته"3، وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه من الإشكال، وإنما نزلت سورة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجزية والموادعة، باب منه، 6/ 281/ رقم 3182، وكتاب التفسير، باب
{إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، 8/ 587/ رقم 4844"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية، 3/ 1411-1412/ رقم 1785", وأحمد في "المسند" "3/ 485"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 222"، وعنده: "فطابت نفسه، ورجع"، وفي سائر النسخ: "ولم يضيعني" في الموطنين والمثبت من "ط".
2 سمي يوم الحديبية يوم [أبي] جندل؛ إذ لم يقع في ذلك اليوم أشد على المسلمين من قصة أبي جندل بن سهيل بن عمرو؛ إذ جاء يوسف في قيوده فارا من مشركي قريش، ورده النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى أبيه سهل وفاء بما شرطوه في عقد الصلح من أن يرد عليهم من يأتيه منهم وإن كان على دين الإسلام. "خ".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجزية والموادعة، باب منه، 6/ 281/ رقم 3181، وكتاب المغازي، [باب] غزوة الحديبية، 7/ 457/ رقم 4189، وكتاب التفسير، باب
{إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، 8/ 587/ رقم 4844، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة, باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس، 13/ 282/ رقم 7307"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية، 3/ 1411-1412/ رقم 1785"،  وأحمد في "المسند" "3/ 485"، والحميدي في "المسند" "رقم 404"، والبيهقي في "السنن" "9/ 222".
1 في "م": "وجدت فرقة زائغة، ولا أحدا مخالفا للسنة".

 

ج / 1 ص -144-       الفتح بعد ما خالطهم الحزن والكآبة؛ لشدة الإشكال عليهم، والتباس الأمر، ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن فزال الإشكال والالتباس.
وصار مثل ذلك أصلا لمن بعدهم؛ فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى فقهوا، ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية، وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة واشتهر في قرنه بمثل ذلك، وقلما وجدت فرقة زائغة، ولا أحد مخالف للسنة1 إلا وهو مفارق لهذا الوصف، وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري2، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ، ولا تأدب بآدابهم، وبضد ذلك كان العلماء الراسخون كالأئمة الأربعة وأشباههم.
والثالثة: الاقتداء بمن أخذ عنه3، والتأدب بأدبه، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- واقتداء التابعين بالصحابة، وهكذا في كل قرن، وبهذا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "وجدت فرقة زائغة، ولا أحدا مخالفا للسنة".
2 هو الحافظ أبو محمد علي ابن الوزير أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي، كان شافعي المذهب ثم صار ظاهريا، وبلغ من الذكاء وغزارة العلم منزلة فائقة؛ فألف الكتب القيمة، وناضل عن كثير من حقائق الدين بالحجج الباهرة، ولكنه لم يهذب حاشية منطقه؛ فكان يرمي بشرر من عبارات الازدراء والغضاضة من شأن أئمة السلف، ولم يحتمل منه علماء عصره هذه السيرة الشاذة؛ فنهضوا في وجهه ودارت بينه وبينهم المناظرات حتى امتدت إليه يد الدولة وأبعدته عن وطنه، وتوفي بالبادية رحمه الله سنة "456". "خ".
3 أخص من الأمارة الأولى؛ لأن الاقتداء بمن أخذ عنه والتأدب بأدبه بعض العمل بما علم، وقد يؤخذ من وصفه لمالك بميزته عن أضرابه المجتهدين في هذه الأمارة، أنه لا يلزم من العمل بما علم أن يكون مقتديا بمن أخذ عنه، بل يغلب عليه العمل بما يراه باجتهاده، وإن لم يظهر عليه التأسي بنوع آداب أستاذه؛ تكون أمارة مستقلة. "د".

 

ج / 1 ص -145-       الوصف امتاز مالك عن أضرابه -أعني: بشدة الاتصاف به- وإلا؛ فالجميع ممن يهتدى به في الدين، كذلك كانوا، ولكن مالكا اشتهر بالمبالغة في هذا المعنى، فلما ترك هذا الوصف؛ رفعت البدع رءوسها لأن ترك الاقتداء دليل على أمر حدث عند التارك، أصله اتباع الهوى، ولهذا المعنى تقرير في كتاب الاجتهاد بحول الله تعالى1.
فصل:
وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله؛ فلذلك طريقان:
أحدهما:
المشافهة، وهي أنفع الطريقين وأسلمهما؛ لوجهين2:
الأول:
خاصية جعلها الله تعالى بين المعلم والمتعلم، يشهدها كل من زاول العلم والعلماء؛ فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب، ويحفظها ويرددها على قلبه فلا يفهمها، فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة، وحصل له العلم بها بالحضرة, وهذا الفهم يحصل إما بأمر عادي من قرائن أحوال، وإيضاح موضع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال، وقد يحصل بأمر غير معتاد، ولكن بأمر يهبه الله للمتعلم عند مثوله بين يدي المعلم، ظاهر الفقر بادي الحاجة إلى ما يلقى إليه.
وهذا ليس يُنكر؛ فقد نبه عليه الحديث الذي جاء: "إن الصحابة أنكروا أنفسهم عندما مات رسول الله, صلى الله عليه وسلم"3، وحديث حنظلة الأسيدي؛ حين شكا إلى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: المسألة الثانية من الطرف الثاني من الاجتهاد.
2 لم يذكر إلا وجها واحدا؛ فتأمل.
3 وقع نحوه وما يفيده؛ ففي "صحيح البخاري" "كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت إذ أدرج في أكفانه/ رقم 1242" بسنده إلى عمر بن الخطاب؛ قال: "والله؛ ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها -أي: قوله تعالى:
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 44]- فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات.
وأخرجه بلفظ المصنف عن أبي سعيد الخدري بإسناد صحيح ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2387"، وابن مردويه؛ كما في "الدر المنثور" "6/ 89"، وتتمته: "وكيف لا ننكر أنفسنا والله تعالى يقول:
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7]".

 

ج / 1 ص -146-       رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم إذا كانوا عنده وفي مجلسه كانوا على حالة يرضونها، فإذا فارقوا مجلسه زال ذلك عنهم؛ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم تكونون كما تكونون عندي؛ لأظلتكم الملائكة بأجنحتها"1.
وقد قال عُمر بن الخطاب: "وافقت ربي في ثلاث"2، وهي من فوائد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة، 4/ 2106-2107/ رقم 2750"، وأحمد في "المسند" "4/ 346" عن حنظلة الأسيدي، بلفظ:
"والذي نفسي بيده؛ لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة". واللفظ المذكور عند الطيالسي في "المسند" "رقم 1345"، وأحمد في "المسند" "4/ 346"، والترمذي في "الجامع" "رقم 2452".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة، 1/ 504/ رقم 402، وكتاب التفسير، باب قوله:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، 8/ 168/ رقم 4483, وباب في سورة الأحزاب, 8/ 527/ رقم 4790, وباب في سورة التحريم, 8/ 660/ 4916"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر -رضي الله تعالى عنه- 4/ 1865/ رقم 2399"، والنسائي في "التفسير" "الأرقام 18، 435، 623"، والترمذي في "الجامع" "4/ 69"، وابن ماجه في "السنن" "1/ 322/ رقم 1009"، وأحمد في "المسند" "1/ 23-24، 36"، والدارمي في "السنن" "2/ 44" من قول عمر, رضي الله عنه.
وقد جمع موافقات عمر وتكلم عليها في رسالة مفردة السيوطي في "قطف الثمر"، وهي =

 

ج / 1 ص -147-       مجالسة العلماء؛ إذ يُفتح للمتعلم بين أيديهم ما لا يفتح له دونهم، ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في متابعة معلمهم، وتأدبهم معه، واقتدائهم به؛ فهذا الطريق نافع على كل تقدير.
وقد كان المتقدمون لا يكتب منهم إلا القليل، وكانوا يكرهون ذلك، وقد كرهه مالك1؛ فقيل له: فما نصنع؟ قال: تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم، ثم لا تحتاجون إلى الكتابة، وحكي عن عمر بن الخطاب كراهية الكتابة، وإنما ترخص الناس في ذلك عندما حدث النسيان، وخِيفَ على الشريعة الاندراس.
الطريق الثاني:
مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين، وهو أيضا نافع في بابه؛ بشرطين:
الأول:
أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله؛ ما يتم له به النظر في الكتب، وذلك يحصل بالطريق الأول، ومن مشافهة العلماء، أو مما هو راجع إليه، وهو معنى قول من قال: "كان العلم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مطبوعة ضمن "الحاوي للفتاوى"، واعتنى بها عناية جيدة ابن شبة في "تاريخ المدينة"، وذكر طرفا منها ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص97 وما بعدها، ترجمة عمر".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "بيان الثلاث في بقية هذا الأثر المروي في "صحيح البخاري"، وهي آية الحجاب، وآية
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، وآية: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ}، ولا بدع أن ينطق الفاروق بما يوافق الوحي؛ فإن الشرائع تنزل لبيان الحقائق والإرشاد إلى المصالح، وكثير من القضايا والوقائع لا يلتبس على ذوي البصائر النقية والمدارك الراقية وجه كونها حقا أو مصلحة".
1 كان يكره الكتابة، ويقول: "لا تكتبوا "يعني ما يفتيهم به"؛ فلعله يتغير رأيي، فتذهب الكتابة إلى الأقطار قبل أن يستقر الحكم؛ فيحصل للناس بذلك ضرر، وإلا؛ فقد دون "الموطأ". "د". قلت: وانظر ما سيأتي "5/ 332".

 

ج / 1 ص -148-       في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، ومفاتحه بأيدي الرجال"، والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئا، دون فتح العلماء، وهو مشاهد معتاد.
والشرط الآخر1: أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد؛ فإنهم أقعد2 به من غيرهم من المتأخرين، وأصل ذلك التجربة والخبر.
أما التجربة3؛ فهو أمر مشاهد في أي علم كان، فالمتأخر لا يبلغ من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخ المطبوعة: "والشرط الثاني"، وما أثبتناه في الأصل المخطوط.
2 أي: أثبت. "ماء".
3 قال أبو عبيدة: خاطب الشاطبي بعض مستفتيه؛ فقال في "فتاويه" "120-122": "... ما ذكرت لكم من عدم اعتمادي على التآليف المتأخرة؛ فلم يكن ذلك مني -بحمد الله- محض رأيي، ولكن اعتمدت بسبب الخبرة عند النظر في كتب المتقدمين مع كتب المتأخرين، وأعني بالمتأخرين كابن بشير وابن شاس وابن الحاجب ومن بعدهم؛ ولأن بعض من لقيته من العلماء بالفقه أوصاني بالتحامي عن كتب المتأخرين، وأتى بعبارة خشنة في السمع، لكنها محض النصيحة".
وقد بين الونشريسي -رحمه الله تعالى- في "المعيار العرب" "11/ 142" ما أبهمه المصنف؛ فقال: "العبارة الخشنة التي أشار إليها كان رحمه الله ينقلها عن شيخه أبي العباس أحمد القباب، وهي أنه كان يقول في ابن بشير وابن الحاج وابن شاس: أفسدوا الفقه".
ونقل السراج في "الحلل السندسية" "1/ 2/ 665" عن الشيخ أحمد بابا توضيحا لوجه الفساد المذكور؛ فقال: "كأنه يعني بذلك أن الأخيرين أدخلا جملة من مسائل من "وجيز الغزالي" في المذهب مع مخالفتهما له، كما نبه عليها الناس، والأول بنى فروعا على قواعد أصولية وأدخلها في المذهب كذلك، ومسائل المذهب لا تجري جميعها على قواعد الأصول".
وفي "الحلل السندسية" "1/ 3/ 656" و"سلوة الأنفاس" "3/ 245" ذكر لمحاورة جرت بين أبي العباس أحمد بن قاسم القباب "ت حوالي سنة 779هـ" وابن عرفة، وكان قد شرع آنذاك في تأليفه؛ فقال له القباب: "ما صنعت شيئا. فقال ابن عرفة: ولم؟ قال: لا يفهمه المبتدئ، ولا يحتاج إليه المنتهي".

 

ج / 1 ص -149-       الرسوخ في علم ما يبلغه المتقدم، وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري؛ فأعمال المتقدمين -في إصلاح دنياهم ودينهم- على خلاف أعمال المتأخرين، وعلومهم في التحقيق أقعد، فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم، وهكذا إلى الآن، ومن طالع سيرهم، وأقوالهم، وحكاياتهم؛ أبصر العجب في هذا المعنى.
وأما الخبر؛ ففي الحديث:
"خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"1، وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع ما بعده كذلك، وروي عن النبي, صلى الله عليه وسلم: "أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض"2، ولا يكون هذا إلا مع قلة الخير، وتكاثر الشر شيئا بعد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- باب فضائل أصحاب النبي, صلى الله عليه وسلم 7/ 3/ رقم 3651"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، 4/ 1962/ رقم 2533" من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- بلفظ:
"خير الناس...".
2 أخرجه الدارمي في "السنن" "2/ 114"، ونعيم بن حماد في "الفتن" "1/ 98-99/ رقم 233، 235"، من حديث أبي عبيدة، والطيالسي "رقم 228"، ومن طريقه أبو يعلى في "المسند" "2/ 177/ رقم 873"، والطبراني في "الكبير" "1/ رقم 367 و20/ رقم 91"، والبيهقي في "السنن" "8/ 159" و"الدلائل" "6/ 340" و"الشعب" "5/ 16-17/ رقم 5616" من حديث معاذ وأبي عبيدة، وأحمد "4/ 273"، ونعيم بن حماد في "الفتن" "رقم 234" من حديث حذيفة، والحربي -كما قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 251"- من حديث أبي ثعلبة، جميعهم رفعوه بألفاظ مقاربة. وأخرجه نعيم "رقم 236" موقوفا على عمر، و"رقم 237، 238"، من قول كعب، و"رقم 239" من مذاكرة أبي عبيدة وبشير بن سعيد، والداني في "الفتن" "رقم 334" عن عبد الرحمن بن سابط مرسلا. وفي أسانيدها مقال، ولها شاهد صحيح -عدا جملة باطلة في آخره- من حديث حذيفة، انظره في "السلسلة الصحيحة" "رقم 5"، وانظر: "ضعيف الجامع" "رقم 1578"، وقال "ماء": "عضوض؛ أي: يصيب الرعية فيه عسف وظلم كأنهم يعصفون عضا، والعضوض من أبنية المبالغة، وفي رواية: ملوك عضوض, وهو جمع عض بالكسر، وهو  الخبيث الشرس، أي: سيئ الخلق، وفي حديث أبي بكر, رضي الله عنه:
"وسترون بعدي ملكا عضوضا" ا. هـ.

 

ج / 1 ص -150-       شيء1، ويندرج ما نحن فيه تحت الإطلاق.
وعن ابن مسعود؛ أنه قال: "ليس عام إلا الذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخضب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم2؛ فيهدم الإسلام ويثلم"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وانظر في ترجيح فعل السلف المتقدمين على غيرهم: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4، 9، 10، 23، 157 و5/ 1-11 و11/ 366-373".
2 يطلق القياس في سياق الذم مضافا إلى الرأي، وإنما يراد به القياس الباطل، وهو ما لم يتحقق فيه شروط الصحة؛ كأن يكون مخالفا لنص، أو لا يقوم بجانبه دليل يشهد بأن المعنى المشترك بين صورتي المقيس والمقيس عليه هو العلة في تقرير الحكم المنصوص عليه. "خ".
3 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 65"، والفسوي في "المعرفة" "3/ 393"، وابن أبي زمنين في "السنة" "10"، وابن وضاح في "البدع" "ص33"، والطبراني في "الكبير" "9/ 109"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 182"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 205"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2007، 2008، 2009، 2010"، والهروي في "ذم الكلام" "ق 37/ أ" من طرق مدارها على مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق عن ابن مسعود به.
وإسناده ضعيف؛ لضعف مجالد واختلاطه، قال الهيثمي في "المجمع" "1/ 180":
"وفيه مجالد بن سعيد وقد اختلط"، ومع هذا؛ فقد جوده ابن حجر في "فتح الباري" "13/ 20".
نعم، هو جيد من طرق أخرى، أخرجه يعقوب بن شيبة، أفاده ابن حجر أيضا "13/ 21".
وأوله محفوظ في حديث أنس مرفوعا.
أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الفتن، باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه، 13/ 19-20/ رقم 7068"، وغيره بسنده إلى الزبير بن عدي؛ قال: "أتينا أنس بن مالك؛ فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج؛ فقال: اصبروا؛ فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه، حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم, صلى الله عليه وسلم".

 

ج / 1 ص -151-       ومعناه موجود في "الصحيح" في قوله: "ولكن ينتزعه مع قبض العلماء بعلمهم؛ فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم، فيَضلون ويُضلون"1.
وقال عليه السلام:
"إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء". قيل: من الغرباء؟ قال: "النزاع من القبائل".
وفي رواية: قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال:
"الذين يصلحون عند فساد الناس"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص97".
2 الحديث دون ذكر "من هم الغرباء" أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب وعرض الفتن على القلوب، 1/ 130/ رقم 415" من حديث أبي هريرة وابن عمر, رضي الله عنهم.
وأخرجه مع تفسيرهم بـ"النزاع من القبائل" الترمذي في "العلل الكبير" "2/ 854"، وابن ماجه في "السنن" "2/ 1320/ رقم 3988"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "13/ 236" -ومن طريقه أحمد وابنه عبد الله في "المسند" "1/ 398"، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 4975"، والآجري في "الغرباء" "رقم 2"، وابن وضاح في "البدع" "ص65"، والخطابي في "غريب الحديث" "1/ 174-175"، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" "ص23"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 64"، وابن حزم في "الإحكام" "8/ 37"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 298"، والبيهقي في "الزهد" "رقم 208".
وقال البخاري, كما نقل عنه الترمذي في "العلل": "وهو حديث حسن"، وصححه البغوي. وأخرجه مع تفسيرهم بـ"الذين يصلحون عند فساد الناس": الداني في "السنن الواردة في الفتن" "رقم 288"، والآجري "رقم 1" من حديث ابن مسعود بإسناد صحيح.
وأخرجه أحمد وابنه عبد الله في "المسند" "1/ 184"، وأبو يعلى في "المسند" "2/ 99/ رقم 756"، والبزار في "المسند" "رقم 56- مسند سعد" -دون زيادة- والدورقي في "مسند سعد" "رقم 87"، وابن منده في "الإيمان" "رقم 424"، والداني في "الفتن" "رقم 290" بإسناد صحيح.

 

ج / 1 ص -152-       وعن أبي إدريس الخولاني: "إن للإسلام عُرًى يتعلق الناس بها، وإنها تمتلخ عروة عروة"1.
وعن بعضهم: "تذهب السنة سنة سنة، كما يذهب الحبل قوة قوة"2.
وتلا أبو هريرة قوله تعالى:
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} الآية [النصر: 1],
ثم قال:
"والذي نفسي بيده؛ ليخرجن من دين الله أفواجا، كما دخلوا فيه أفواجا"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن وضاح في "البدع" "رقم 174-ط عمرو سليم، ورقم 190-ط بدر" بسند ضعيف فيه نعيم بن حماد.
2 القائل هو عبد الله بن محيريز، وأسند هذه المقولة عنه الدارمي في "السنن" "رقم 98"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 93"، وابن وضاح في "البدع" "ص66"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 226"، وأبو نعيم في "الحلية" 5/ 144"، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" "ص12".
3 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 41"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 496"، والداني في "الفتن" "رقم 417" مرفوعا -وليس موقوفا كما ذكر المصنف- عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: تلا رسول الله, صلى الله عليه وسلم:
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ...} وذكره، وصحح إسناده، ووافقه الذهبي.
قلت: وفيه أبو قرة -وتصحف في جميع مصادر التخريج إلى "فروة"؛ فليصحح- مولى أبي جهل، ترجمه ابن أبي حاتم "9/ 428" ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وكذا ابن عبد البر في "الاستغناء" "3/ 1516"، ثم ظفرت به موقوفا عند ابن وضاح في "البدع" "رقم 199-ط بدر"، وفيه: "قال مالك: وبلغني أن أبا هريرة" "وذكره".
وهذا إسناد ضعيف لإعضاله، وسقط سنده ومتن الأثر الذي قبله في "ط عمرو عبد المنعم" وهو فيه برقم "182".
وله شاهد عن جابر بن عبد الله مرفوعا، أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 343"، والداني  في "الفتن" "رقم 420"، وابن بطة في "الإبانة" "137"، والثعلبي في "تفسيره" -كما في "تفسير القرطبي" "20/ 231"- وابن مردويه -كما في "الدر المنثور" "8/ 664"- عن جار لجابر عنه، وسنده ضعيف، قال الهيثمي في "المجمع" "7/ 281": "رواه أحمد، و[جار] جابر لم أعرفه".

 

ج / 1 ص -153-       وعن عبد الله؛ قال: "أتدرون كيف ينقص الإسلام؟". قالوا: نعم، كما ينقص صبغ الثوب، وكما ينقص سِمَن الدابة. فقال عبد الله: "ذلك منه"1.
ولما نزل قوله تعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} [المائدة: 3]، بكى عمر؛ فقال عليه السلام [له]2: "ما يبكيك؟" قال: يا رسول الله! إنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا كمل؛ فلم يكمل شيء قط إلا نقص. فقال عليه السلام: "صدقت"3.
والأخبار هنا كثيرة، وهي تدل على نقص الدين والدنيا، وأعظم ذلك العلم؛ فهو إذًا في نقص بلا شك.
فلذلك صارت كتب المتقدمين وكلامهم وسيرهم؛ أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم، على أي نوع كان، وخصوصا علم الشريعة4، الذي هو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن وضاح في "البدع" "رقم 201-ط بدر، ورقم 184-ط عمرو". وإسناده صحيح.
2 ساقطة من الأصل.
3 أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "8/ 140-ط دار الفكر"، وابن جرير في "التفسير" "6/ 52"، والواحدي في "الوسيط" "2/ 154"، وابن وضاح في "البدع" "رقم 202" بإسناد ضعيف، وهو منقطع.
قال ابن كثير في "التفسير" "2/ 14": "ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت:
"إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا".
قلت: ومضى تخريجه قريبا.
4 كتب المتقدمين في العلوم الإسلامية مقاصد كانت أو وسائل هي أحكم صنعا وأشد صلة بروح الموضوع من كتب المتأخرين، ولا سيما منذ أصبحت سوق الاختصار نافقة، وقد صرح المصنف في مراسلة دارت بينه وبين بعض أصحابه في هذا الغرض بأنه يعني بالمتأخرين من الفقهاء مثل ابن شاس وابن الحاجب ومن بعدهما. "خ".

 

ج / 1 ص -154-       العروة الوثقى، والوَزَر الأحمى1، وبالله تعالى التوفيق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الوزر: الملجأ. والأحمى: الممنوع. انظر: "لسان العرب" "و ز ر"، و"ح م".

 

ج / 1 ص -155-       المقدمة الثالثة عشرة:
كل أصل علمي يتخذ إماما في العمل؛ فلا يخلو إما أن يجري به العمل على مجاري العادات في مثله، بحيث لا ينخرم منه ركن ولا شرط، أو لا، فإن جرى؛ فذلك الأصل صحيح، وإلا؛ فلا.
وبيانه أن العلم المطلوب إنما يراد -بالفرض- لتقع الأعمال في الوجود على وفقه من غير تخلف، كانت الأعمال قلبية أو لسانية، أو من أعمال الجوارح، فإذا جرت في المعتاد على وفقه من غير تخلف؛ فهو حقيقة العلم بالنسبة إليه، وإلا؛ لم يكن بالنسبة إليه علما لتخلفه، وذلك فاسد؛ لأنه من باب انقلاب العلم جهلا.
ومثاله في علم الشريعة الذي نحن في تأصيل أصوله: أنه قد تبين في أصول الدين1 امتناع التخلف في خبر الله تعالى، وخبر رسوله -صلى الله عليه وسلم- وثبت في الأصول الفقهية امتناع التكليف بما لا يُطاق، وألحق2 به امتناع التكليف بما فيه حرج خارج عن المعتاد، فإذًا؛ كل أصل شرعي تخلف عن جريانه على هذه المجاري، فلم يطرد، ولا استقام بحسبها في العادة؛ فليس بأصل يعتمد عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "الأصول الدينية".
2 في الأصل و"ط": "لحق".

 

ج / 1 ص -156-       ولا قاعدة يستند إليها.
ويقع ذلك في فهم الأقوال، ومجاري1 الأساليب، والدخول في الأعمال.
فأما فهم الأقوال؛ فمثل قوله تعالى:
{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]، إن حُمل على أنه إخبار؛ لم يستمر مخبره لوقوع سبيل الكافر على المؤمن كثيرا بأسره وإذلاله؛ فلا يمكن أن يكون المعنى إلا على ما يصدقه الواقع ويطرد عليه، وهو تقرير الحكم الشرعي؛ فعليه يجب أن يُحمل2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معطوف على الأقوال، والأول معناه أن القول في ذاته بقطع النظر عن أقوال أخرى سبقته أو لحقته يختلف الفهم فيه بين صحيح وغيره، أما الفهم في مجاري الأساليب؛ فإنه ينظر فيه إلى أن فهمه على صحته يقتضي التوفيق بين المساق جميعه وعدم مخالفته السابق واللاحق. "د".
2 كتب بعض الفضلاء* في التعليق على هذا الموضع أنه: "يجوز بقاء الآية على معنى الخبر، ويكون المراد من المؤمنين: جماعة المسلمين العاملين بما يقتضيه الإيمان الراسخ؛ من الاستعداد، والاتحاد، والثبات"، وقال: "إن التاريخ يشهد بأن المسلمين لا يغلبون على أمرهم ما داموا كذلك"**.
ولكن هذا يقتضي أمورا قد لا تسلم؛ منها أنهم يعطون من ذلك ما لم يعطه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في حياته، وأنت تعلم ما حصل لهم في مكة، وانفرادهم في شعب أبي طالب، وإذلال الكثير منهم، وهجرتهم إلى الحبشة، وغيرها.
ومنها: أن تاريخ الحروب الصليبية -وكان في عز الإسلام واستمر قرونا- كان الأمر فيه تارة للمسلمين وتارة عليهم بأخذ بلادهم، والاستيلاء على بيت المقدس، وانكماش دولتهم، وآية: =

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هو الشيخ محمد الخضر حسين, رحمه الله تعالى.
** ونص عبارته الثانية: "والتاريخ الصادق يشهد بأن الممالك الإسلامية لا تزال تتمتع باستقلالها آمنة من أن يغلبها العدو على أمرها وينشب مخالبه في مقاتلها؛ إلا حيث ينفضون أيديهم من وسائل الدفاع، أو يسري بينهم داء التفرق، أو يخالط قلوبهم الفزع واليأس". "خ".

 

ج / 1 ص -157-       ومثله قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]، إن حُمل على أنه تقرير حكم شرعي؛ استمر وحصلت الفائدة، وإن حُمل على أنه إخبار بشأن الوالدات؛ لم تتحكم فيه فائدة زائدة1 على ما عُلم قبل الآية.
وأما مجاري الأساليب؛ فمثل قوله:
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} إلخ [المائدة: 93].
فهذه صيغة عموم تقتضي بظاهرها دخول كل مطعوم، وأنه لا جناح في استعماله بذلك الشرط، ومن جملته الخمر، لكن هذا الظاهر يفسد جريان2

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ}... [النور: 55] لا تدل على المعنى الذي يراد تحميله لهذه الآية، وما في هذه الآية الأخيرة قد أعطيه -عليه السلام- وأصحابه في حياته وبعد وفاته والمسلمون بعدهم؛ لأن تمكين الدين وتبديل الخوف أمنا لا يلزمه كل ما يراد من الآية الأولى باعتبار المعنى الذي يراد تحميلها إياه، وأنت ترى أن آية الوعد قيدت الإيمان بعمل الصالحات؛ بخلاف الآية المذكورة؛ فليس فيها إلا مجرد الإيمان المقابل للكفر، على خلاف آيات الوعد في القرآن؛ فإنها مقيدة بعمل الصالحات، ولا يخفى أن مجرد الإيمان كاف في تطبيق حكم أنه لا يتولى الكافر شئون المسلم في العقود وغيرها؛ فيكون هو الذي ينبغي تنزيل الآية عليه "د".
1 لم يقل: "لم يستمر"؛ لأن الاستمرار حاصل على كلا الفهمين، غايته أنه على الفهم الثاني لم توجد فيه فائدة زائدة؛ لأنه يكون مجرد إخبار بمجرى العادة المعروفة للناس بدون هذه الآية، فلتحقق الفائدة يلزم أن يكون إنشاء لتقرير ما جرت به العادة حكما شرعيا يرجع إليه في تقرير النفقات وغيرها؛ إلا أنه يبقى الكلام في التمثيل به لما ذكره؛ فإنه بصدد التمثيل لما يقتضي تخلف خبر الله ورسوله، أو لما يلزم عليه تكليف بما لا يطاق، أو بما فيه حرج زائد عن المعتاد، وليس في هذا واحد من هذه الثلاثة، بل شيء آخر، وهو أنه لم يفد فائدة جديدة، فلو زاد على الأمور الثلاثة أنه يلزم في خبر الله ورسوله أن يفيد فائدة جديدة؛ لم تكن معروفة، ثم فرع عليه هذا المثال لكان ظاهرا "د".
2 لأن آية تحريم الخمر السابقة في نفس الموضوع تقتضي تحريم الخمر نصا، وهذا =

 

ج / 1 ص -158-       الفهم في الأسلوب، مع إهمال السبب الذي لأجله نزلت الآية بعد تحريم الخمر؛ لأن الله تعالى لما حرم الخمر؛ قال: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 93]، فكان هذا نقضا للتحريم، فاجتمع الإذن والنهي معا؛ فلا يمكن للمكلف امتثال.
ومن هنا خطأ عمر بن الخطاب من تأول في الآية أنها عائدة إلى ما تقدم من التحريم في الخمر، وقال له: "إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله"1.
إذ لا يصح أن يقال للمكلف: "اجتنب كذا"، ويؤكد النهي بما يقتضي التشديد فيه جدا، ثم يقال: "فإن فعلت؛ فلا جناح عليك".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الظاهر ينافيها؛ فلا ينتظم السياق إلا بعدم دخول الخمر في العموم الظاهر؛ لئلا يلزم نقض التحريم، واجتماع النهي والإذن؛ فيكون تكليفا بما لا يطاق فضلا عن إهمال السبب في النزول، وهو أنهم قالوا لما نزل تحريم الخمر: "كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر؟". فنزلت:
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} إلخ، يعني: ليس عليهم وزر لأنهم آمنوا واتقوا وما تعدوا ولا فعلوا ذلك بعد التحريم، وفضلا أيضا عن معارضة النص بالظاهر، ومعلوم أن النص هوالمقدم، ويكفي للتمثيل بالآية أن يكون فيها عدم جريان الفهم في الأسلوب، وإن كان هناك أسباب أخرى، كما أشار إليه بقوله: "مع إهمال السبب"، وبقوله: "بعد"، وأيضا؛ فإن الله أخبر، وكما أشرنا إليه في تقديم النص على الظاهر وتخصيص النص له. "د".
1 أي: ومنه الخمر التي تقتضي صحة الأسلوب تقرير حرمته، ولما كان هذا ضمن الوجوه التي يصح أن يني عمر عليها أن التقوى لا تكون إلا باجتنابها لتقرر تحريمها وعدم دخولها في هذا الظاهر؛ قال: "ومن هنا"، ولم يجزم فيقول: "ولذلك قال عمر"؛ فتأمل "د".
قلت: وأثر عمر أخرجه ابن أبي شيبة "9/ 546"، وابن المنذر بنحوه؛ كما في "الدر المنثور" "3/ 174"، وسيأتي عند المصنف بأطول من هذا "ص272"، وأفاد هناك أنه عند القاضي إسماعيل في "الأحكام" وأخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 842-844"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 315"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "5/ 56"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 154".

 

ج / 1 ص -159-       وأيضا؛ فإن الله أخبر أنها تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وتوقع العداوة والبغضاء بين المتحابين في الله، وهو بعد استقرار التحريم كالمنافي1 لقوله:
{إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93]؛ فلا يمكن إيقاع كمال التقوى بعد تحريمها إذا شربت؛ لأنه من الحرج أو تكليف ما لا يُطاق.
وأما الدخول في الأعمال؛ فهو العمدة في المسألة، وهو الأصل في القول بالاستحسان والمصالح المرسلة؛ لأن الأصل إذا أدى القول بحمله على عمومه إلى الحرج2 أو إلى ما لا يمكن شرعا أو عقلا؛ فهو غير جار على استقامة ولا اطراد، فلا يستمر الإطلاق، وهو الأصل أيضا لكل من تكلم في مشكلات القرآن أو السنة، لما يلزم في حمل مواردها على عمومها أو إطلاقها من المخالفة المذكورة، حتى تقيد بالقيود المقتضية للاطراد والاستمرار فتصح، وفي ضمنه تدخل أحكام الرخص، إذ هو الحاكم فيها، والفارق بين ما تدخله الرخصة وما لا.
ومن لم يلاحظه في تقرير القواعد الشرعية؛ لم يأمن الغلط، بل كثيرا ما تجد خرم هذا الأصل في أصول المتبعين للمتشابهات، والطوائف المعدودين في الفرق الضالة عن الصراط المستقيم، كما أنه قد يعتري ذلك في مسائل الاجتهاد المختلف فيها عند الأئمة المعتبرين والشيوخ المتقدمين.
وسأمثل لك بمسألتين وقعت المذاكرة بهما مع بعض شيوخ العصر3:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من حيث الكمال؛ كما يفيده كلامه "د".
2 تقتضي قاعدتا تعيين قدر المبيع في البيع وتحديد مدة الانتفاع بالمحل في الإجارة أن لا يجوز الدخول للحمام إلا بشرط تحديد مدة المكث به، وبيان مقدار ما يستعمل من الماء، ولكن وقع استثناء هذه المسألة وأعطيت حكم الإباحة بإطلاق لما في تقدير الماء المستعمل في الحمام، وتحديد مدة المقام به من المشقة القاضية بالرخصة والتيسير. "خ".
3 أفاد التنبكي في "نيل الابتهاج" "ص48" أن الشاطبي "تكلم مع كثير من الأئمة في =

 

ج / 1 ص -160-       إحداهما: أنه كتب إلي بعض شيوخ المغرب1 في فصل يتضمن "ما يجب على طالب الآخرة النظر فيه، والشغل به"، فقال فيه: "وإذا شغله شاغل عن لحظة في صلاته؛ فرغ سره منه، بالخروج عنه، ولو كان يُساوي خمسين ألفا كما فعله المتقون".
فاستشكلت هذا الكلام، وكتبت إليه بأن قلت2: أما أنه مطلوب بتفريغ السر منه؛ فصحيح، وأما أن تفريغ السر بالخروج عنه واجب؛ فلا أدري ما هذا الوجوب؟ ولو كان واجبا بإطلاق؛ لوجب على جميع الناس الخروج عن ضياعهم، وديارهم، وقُراهم، وأزواجهم، وذرياتهم، وغير ذلك3 مما يقع لهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مشكلات المسائل من شيوخه وغيرهم؛ كالقباب، وقاضي الجماعة الفشتالي، والإمام ابن عرفة، والولي الكبير أبي عبد الله بن عباد؛ فجرى له معهم أبحاث ومراجعات أجلت عن ظهوره فيها"، وأفاد ناسخ الأصل كما سيأتي أن ابن عرفة كتب للشاطبي في مسألة "مراعاة الخلاف"، ونقل عن "نوازل البرزالي" ذلك.
قلت: وفي "المعيار المعرب" "6/ 387" ما يدل عليه وعلى أن أبا العباس القباب باحثه في ذلك، ثم وجدت في "الاعتصام" "2/ 146" قوله: "فأجابني بعضهم بأجوبة منها الأقرب والأبعد، إلا أني راجعت بعضهم بالبحث، وهو أخي ومفيدي أبو العباس بن القباب -رحمة الله عليه- فكتب إلي ما نصه...".
وأورد الونشريسي في "المعيار" "12/ 293" مراسلة بين المصنف والشيخ أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن مالك بن إبراهيم بن يحيى بن عباد النفزي النفري في علم التصوف ومدى ضرورة الشيخ في ذلك.
1 هو ابن القباب كما صرح به الونشريسي في "المعيار المعرب" "11/ 20".
2 في "ط": "قلت له".
3 وهذا منتهى الحرج للأفراد، وتكليف الجميع به تكليف بما لا يطاق، وهو أيضا مخالف لما يقصده الشرع من المحافظة على الضروريات والحاجيات... إلخ؛ فهو جار على غير استقامة. "د". وانظر رد المصنف على القشيري في مسألة الاشتراط على المريد أن يخرج من ماله في: "الاعتصام" "1/ 214-215".

 

ج / 1 ص -161-       به الشغل في الصلاة، وإلى هذا فقد يكون الخروج عن المال سببا للشغل في الصلاة أكثر من شغله بالمال.
وأيضا؛ فإذا كان الفقر هو الشاغل؛ فماذا يفعل؟ فإنا نجد كثيرا ممن يحصل له الشغل بسبب الإقلال، ولا سيما إن كان له عيال لا يجد إلى إغاثتهم سبيلا، ولا يخلو أكثر الناس عن الشغل بآحاد هذه الأشياء؛ أفيجب على هؤلاء الخروج عما سبب لهم الشغل في الصلاة؟ هذا ما لا يفهم، وإنما الجاري على الفقه والاجتهاد في العبادة طلب مجاهدة الخواطر الشاغلة خاصة، وقد يُندب إلى الخروج عما شأنه أن يشغله، من مال أو غيره، إن أمكنه الخروج عنه شرعا، وكان مما لا يؤثر فيه فقده تأثيرا يؤدي إلى مثل ما فر منه أو أعظم، ثم ينظر بعدُ في حكم الصلاة الواقع فيها الشغل: كيف حال صاحبها من وجوب الإعادة، أو استحبابها، أو سقوطها؟ وله موضع غير هذا. ا. هـ حاصل المسألة.
فلما وصل إليه ذلك؛ كتب إلي بما يقتضي التسليم فيه، وهو صحيح؛ لأن القول بإطلاق الخروج عن ذلك كله غير جار في الواقع على استقامة؛ لاختلاف أحوال الناس؛ فلا يصح اعتماده أصلا فقهيا ألبتة.
والثانية: مسألة الورع بالخروج عن الخلاف1؛ فإن كثيرا من المتأخرين يعدون الخروج عنه في الأعمال التكليفية مطلوبا، وأدخلوا في المتشابهات المسائل المختلف فيها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في هذه المسألة: "مجموع ابن تيمية" "10/ 644، 522 و20/ 138، 139", و"الاعتصام" "1/ 214 و2/ 146"، و"بدائع الفوائد" "3/ 257"، و"تهذيب السنن" "1/ 60"، و"إغاثة اللهفان" "1/ 129-130" -كلها للإمام ابن القيم- و"الإحكام" لابن حزم "6/ 745"، و"إيضاح السالك" للونشريسي "160"، و"فتح الباري" "1/ 27"، و"الفواكه العديدة" "2/ 136"، و"الورع" للصنهاجي "ص37"، و"تمام المنة" "159"، و"رفع الحرج" ليعقوب الباحسين "ص137-182"، وما سيأتي "5/ 107 وما بعدها".

 

ج / 1 ص -162-       ولا زلت منذ زمان أستشكله؛ حتى كتبت فيها إلى المغرب، وإلى أفريقية؛ فلم يأتني جواب بما يشفي الصدر، بل كان من جملة الإشكالات الواردة؛ أن جمهور مسائل الفقه1 مختلف فيها اختلافا يعتد به، فيصير إذًا أكثر مسائل الشريعة من المتشابهات، وهو خلاف2 وضع الشريعة.
وأيضا؛ فقد صار الورع من أشد الحرج؛ إذ لا تخلو لأحد في الغالب عبادة، ولا معاملة، ولا أمر من أمور التكليف، من خلاف يطلب الخروج عنه، وفي هذا ما فيه.
فأجاب بعضهم3: بأن المراد بأن المختلف فيه من المتشابه، المختلف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جمهور الشيء أكثره، وهي دعوى تحتاج لإحصاء مسائل الشريعة مسألة مسألة، والوقوف على حصول خلاف في أكثرها بين مجتهدين مسلم لهم في الاجتهاد، ومنقول لنا خلافهم بطريق صحيح، ويكون الخلاف معتدا به كما يقول، وسيذكر في كتاب الاجتهاد أن هناك عشرة أسباب تجعل كثيرا من الخلافات غير معتد به خلافا، على أن الورع بعد هذا كله في مراعاة شرط أو ركن لم يقل به آخر، أو في تحريم شيء لم ير حرمته آخر، أو إيجاب شيء لم ير وجوبه آخر، أما الخلافات بين مباح ومندوب، وبين سنة ومباح، وبين طلب تقديم شيء وتأخيره، وهكذا من أمثال هذا الذي لا يترتب عليه حرمة ولا بطلان عبادة؛ فليس مما يقصد دخوله في ورع الخروج من الخلاف، وإذًا؛ فهل بقي بعد هذا أن الورع في ذلك من أشد أنواع الحرج؟ ذلك ما يحتاج إلى دقة نظر. "د".
2 سيأتي بيانه في المتشابه والمحكم في فصول ضافية. "د".
3 كتب ناسخ الأصل هنا ما نصه: "المراد بهذا البعض هو الشيخ الإمام ابن عرفة التونسي، كما يعلم ذلك بمراجعة أوائل "البرزالي"؛ فإنه ذكر ورود السؤال من بعض فقهاء غرناطة -يعني: المصنف- عن الشيخ ابن عرفة في مسائل عديدة، من جملتها هذه المسألة؛ فذكر عن السائل المذكور البحث فيها من سبعة أوجه:
أحدها:
أن الورع إما لتوقع العقاب أو ثبوت الثواب، وإلا؛ فليس بورع، أما الأول؛ فالإجماع على عدم تأثيم المخطئ في الفروع، وإذا قلنا: إن كل مجتهد مصيب؛ فالأمر واضح. =

 

ج / 1 ص -163-       فيه اختلافا دلائل أقواله متساوية أو متقاربة، وليس أكثر مسائل الفقه هكذا، بل الموصوف بذلك أقلها، لمن تأمل من محصلي موارد1 التأمل, وحينئذ لا يكون المتشابه منها إلا الأقل، وأما الورع من حيث ذاته، ولو في هذا النوع فقط؛ فشديد مشق، لا يحصله إلا من وفقه الله إلى كثرة استحضار لوازم فعل المنهي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأما الثاني:
فلأن المخطئ مأجور كالمصيب، وإذا قلنا: إن المصيب أكثر أجرا؛ فلعل الخطأ في الجهة التي إليها المتورع إذ المخطئ غير متعين.
وثانيها: أن هذا الخروج لا يتصور، فإن المتورع إذا انكب عن الفعل المختلف فيه بالحل والحرمة؛ فقد رجع "الصحيح لغة: رجح" الضرب المحرم؛ إذ لم ينكب إلا خوف الإثم؛ فإن المنكب لأمر آخر ليس بورع.
وثالثها: أن المتورع إن كان مجتهدا يعرض ما أداه إليه اجتهاده، فإن تعارضت الأدلة؛ فالترجيح، وإلا؛ فالوقف أو التخيير، وإن كان مقلدا؛ فإن قلد أحد المجتهدين لم يتمكن له في قضيته تلك أن يقلد الآخر، ولا أن يجمع بينهما لأنهما متضادان، ولا له أن ينظر لأنه ليس من أهل النظر.
ورابعها: أن الورع بمثل هذا لم يثبت عن الصحابة والتابعين أنهم استعملوه، بل حديث
"أصحابي كالنجوم"1 مطلق في الاقتداء بهم، من غير تقييد ولا تنبيه على جهة الورع إذا اختلفوا على المقتدي.
خامسها: أن ترجيح المتورع لأحد القولين فممنوع؛ لأنه إن كان بدليل فهو منصب المجتهد وحينئذ يكون عملا بأحدهما أو بالقول الثالث، وإن كان بغير دليل؛ فلا يصح باتفاق.
سادسا: ما ذكره المصنف هنا وهو أن جمهور مسائل الفقه... إلخ.
سابعها: لأن عامل الورع في مسائل الخلاف الآخذ بالأشد وتتبع الأشد أبدا لمذهب لا يقصر عمن تتبع الرخص في الذم.
فإن كان تتبع الرخص غير محمود، بل حكى ابن حزم الإجماع على أنه فسق لا يحل؛ فتتبع الشدائد غير محمود أيضا؛ لأنه تنطع ومشادة في الدين، وأجاب الإمام ابن عرفة عن هذه الأوجه كلها وأجاد في بعضها كل الإجادة، رحمه الله تعالى ونفعنا به، آمين. ا. هـ.
1 في النسخ المطبوعة الثلاث: "مواد".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث منكر، كما سيأتي تفصيله "4/ 452".

 

ج / 1 ص -164-       عنه، وقد قال عليه السلام: "حفت الجنة بالمكاره"1، هذا ما أجاب به.
فكتبت إليه: بأن ما قررتم من الجواب غير بين؛ لأنه إنما يجري في المجتهد وحده، والمجتهد إنما يتورع عند تعارض الأدلة، لا عند تعارض الأقوال؛ فليس مما نحن فيه، وأما المقلد؛ فقد نص صاحب هذا الورع الخاص على طلب خروجه من الخلاف إلى الإجماع، وإن كان من أفتاه أفضل العلماء المختلفين، والعامي -في عامة أحواله- لا يدري من الذي دليله أقوى من المختلفين والذي دليله أضعف، ولا يعلم: هل تساوت أدلتهم أو تقاربت أم لا؛ لأن هذا لا يعرفه إلا من كان أهلا للنظر، وليس العامي كذلك، وإنما بني الإشكال على اتقاء الخلاف المعتد به، والخلاف المعتد به موجود في أكثر مسائل الشريعة، والخلاف الذي لا يعتد به قليل2؛ كالخلاف في المتعة3، وربا النساء، ومحاش4 النساء، وما أشبه ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب حجبت النار بالشهوات، 11/ 320/ رقم 6487"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها, باب منه 4/ 2174/ رقم 2823" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه.
2 أشرنا آنفا إلى أنه أكثر مواضع الخلاف، رجوعا إلى ما سيقرره في موضعه، وأن القليل هو الذي يعتد به خلافا. "د".
3 أبيحت المتعة في صدر الإسلام بداعية قلة النساء وطول مدة الاغتراب في سبيل الجهاد، ثم حرمت تحريما مؤبدا بقوله -عليه الصلاة والسلام- كما في "صحيح مسلم" "رقم 1406 بعد 21":
"قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة"، ومن حكمة تحريمه أنه يحط من شأن المرأة، ويجعلها كالأدوات المبتذلة يتناولها الرجال واحدا بعد آخر، ثم إن المقصد الأعظم من النكاح التناسل، ومصلحة الولد تستدعي أن يتربى بين أبوين يرتبطان بعاطفة وداد روحي وإخلاص في المعاشرة، وهذه الرابطة لا تستقيم حيث يعقد النكاح لأمد معلوم. "خ".
4 جمع محشة، وهي من الألفاظ المكنى بها عن الاست، ومنه حديث ابن مسعود:
"محاش النساء عليكم حرام" "خ".

 

ج / 1 ص -165-       وأيضا؛ فتساوي الأدلة1 أو تقاربها أمر إضافي بالنسبة إلى أنظار المجتهدين، فرب دليلين يكونان عند بعض متساويين أو متقاربين، ولا يكونان كذلك عند بعض؛ فلا يتحصل للعامي ضابط يرجع إليه فيما يجتنبه من الخلاف مما لا يجتنبه، ولا يمكنه الرجوع في ذلك إلى المجتهد؛ لأن ما يأمره به من الاجتناب أو عدمه راجع إلى نظره واجتهاده، واتباع نظره وحده في ذلك تقليد له وحده، من غير أن يخرج عن الخلاف، لا سيما إن كان هذا المجتهد يدعي أن قول خصمه ضعيف لا يعتبر مثله، وهكذا الأمر فيما إذا راجع المجتهد الآخر؛ فلا يزال العامي في حيرة إن اتبع هذه الأمور، وهو شديد جدا، و"من يشاد هذا الدين يغلبه"2، وهذا هو الذي أشكل على السائل، ولم يتبين جوابه بعد.
ولا كلام في أن الورع شديد في نفسه، كما أنه لا إشكال في أن التزام التقوى شديد؛ إلا أن شدته ليست من جهة إيقاع ذلك بالفعل؛ لأن الله لم يجعل علينا في الدين من حرج، بل من جهة قطع مألوفات النفس وصدها عن هواها خاصة.
وإذا تأملنا مناط المسألة؛ وجدنا الفرق بين هذا الورع الخاص وغيره من أنواع الورع بينا، فإن سائر أنواع الورع سهل في الوقوع، وإن كان شديدا في مخالفة النفس، وورع الخروج من الخلاف صعب في الوقوع قبل النظر في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يدفع بهذا ما يتوهم وروده على قوله: "ولا يعلم هل تساوت أدلتهم..." إلخ؛ فقد يقال: يرجع في ذلك إلى المجتهد ليعرف التساوي والتقارب؛ فقال هنا: إنه لا يتأتى الرجوع في ذلك له. "د".
2 قطعة من حديث أوله:
"إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه..."؛ أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب الدين يسر، 1/ 93/ رقم 39" عن أبي هريرة, رضي الله عنه.

 

ج / 1 ص -166-       مخالفة النفس؛ فقد تبين مقصود السائل بالشدة والحرج، وأنه ليس ما أشرتم إليه. ا. هـ. ما كتبت به، وهنا وقف الكلام بيني وبينه.
ومن تأمل هذا التقرير؛ عرف أن ما أجاب به هذا الرجل لا يطرد1، ولا يجري في الواقع مجرى الاستقامة للزوم الحرج في وقوعه؛ فلا يصح أن يستند إليه، ولا يجعل أصلا يبنى2 عليه3.
والأمثلة كثيرة؛ فاحتفظ بهذا الأصل؛ فهو مفيد جدا، وعليه ينبني كثير من مسائل الورع، وتمييز المتشابهات، وما يعتبر من وجوه الاشتباه4 وما لا يعتبر، وفي أثناء الكتاب مسائل تحققه إن شاء الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه إنما يجري في المجتهد لا في المقلد، وإجراؤه في المقلد الذي هو أصل السؤال مؤد إلى الحرج "د".
2 في "خ": "ينبني".
3 أنكر جماعة من الفقهاء دخول الورع في بسملة المالكي في الصلاة بحجة أنه لا يخرج من خلاف الإمام الشافعي؛ إلا أن يقرأ البسملة معتقدا وجوبها، كما أنكروا دخوله في مسح الشافعي جميع رأسه خروجا من خلاف المذهب المالكي؛ لأنه لا يتخلص من خلاف هذا المذهب إلا أن يمسح الجميع باعتقاد الوجوب، وحاول شهاب الدين القرافي في "قواعده" تصوير الجمع بين المذهبين في الفرع الثاني؛ فلم يهتد إلى وجه مرضي، ومن المتعذر عليه وعلى غيره أن يجمع بين حكمين متضادين مثل الندب والوجوب في عبادة واحدة "خ".
4 تعارض الأدلة على المجتهد لا تعارض الأقوال على المقلد؛ فلا يلزم عليه الحرج.
نعم، سيأتي له أن على المقلد إذا تعارضت عليه الأقوال أن يرجح واحدا منها، ولكنه اعتبر في الترجيح أمورا واضحة لا يبقى معها اشتباه، كأن يأخذ بقول من عرف بأنه يعمل بعلمه مثلا "د".