الموافقات

ج / 1 ص -171-       القسم الأول: خطاب التكليف
المسألة الأولى1: [في المباح]2
المباح من حيث هو مباح لا يكون مطلوب الفعل، ولا مطلوب الاجتناب، أما كونه ليس بمطلوب الاجتناب3؛ فلأمور:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 استفاد المصنف كثيرا في هذه المسألة من الإمام شمس الدين علي بن إسماعيل الصنهاجي الأبياري المالكي "ت 616هـ" في كتابه المطبوع بعنوان: "الورع"، بتحقيق فاروق حمادة، طبع دار الآفاق الجديدة - بيروت، وبين عبارة المصنف وعبارة الأبياري تطابق إلى حد كبير في كثير من الأحايين؛ فاقتضى التنويه.
2 ما بين المعقوفتين ليس في "د".
تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في المباح في "مجموع الفتاوى" "12/ 300 و14/ 108، 109 و15/ 448 و18/ 9، 10 و21/ 314-318، 538-541 و29/ 16-18، 150، 151".
3 ممن حقق النظر في هذه المسألة أبو بكر الأبهري، ونفى دخول الورع في ترك المباح بحجة أن الله سوى بين الفعل والترك، والورع مندوب، والندب مع التسوية متعذر، وتصدى شهاب الدين القرافي للتوفيق بينه وبين مخالفيه قائلا: "لا ورع ولا زهد في المباحات من حيث هي مباحة، ولكن يدخلها الورع والزهد من حيث إن الاستكثار من المباحات يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في الشبهات، وقد يوقع في المحرمات ويفضي إلى بطر النفس"، وهذا هو المبدأ الذي رتب عليه المصنف بحثه المسهب في هذا المقام "خ".

 

ج / 1 ص -172-       أحدها:
أن المباح عند الشارع هو المخير فيه بين الفعل والترك، من غير مدح ولا ذم، لا على الفعل ولا على الترك، فإذا تحقق الاستواء شرعا والتخيير؛ لم يتصور أن يكون التارك به مطيعا لعدم تعلق الطلب بالترك؛ فإن الطاعة لا تكون إلا مع الطلب، ولا طلب؛ فلا طاعة1.
والثاني:
أن المباح مساوٍ للواجب والمندوب في أن كل واحد منهما غير مطلوب الترك، فكما يستحيل أن يكون تارك الواجب والمندوب مطيعا بتركه شرعا؛ لكون الشارع لم يطلب الترك فيهما، كذلك يستحيل أن يكون تارك المباح مطيعا شرعا.
لا يقال: إن الواجب والمندوب يفارقان المباح، بأنهما مطلوبا الفعل؛ فقد قام المعارض لطلب الترك، وليس المباح كذلك؛ فإنه لا معارض لطلب الترك فيه.
لأنا نقول: كذلك المباح؛ فيه معارض لطلب الترك, وهو التخيير في الترك؛ فيستحيل الجمع بين طلب الترك عينا وبين التخيير فيه2.
والثالث:
أنه إذا تقرر استواء الفعل والترك في المباح شرعا، فلو جاز أن يكون تارك المباح مطيعا بتركه؛ جاز أن يكون فاعله مطيعا بفعله، من حيث كانا مستويين بالنسبة إليه، وهذا غير صحيح باتفاق، ولا معقول في نفسه3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص16".
2 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص16-17".
3 سيأتي أنه مؤد إلى التناقض "د".
قلت: وقارن مع "الورع" للصنهاجي "ص17".

 

ج / 1 ص -173-       والرابع:
إجماع المسلمين على أن ناذر ترك المباح لا يلزمه الوفاء بنذره، بأن يترك ذلك المباح، وأنه كنذر1 فعله.
وفي الحديث2:
"من نذر أن يُطيع الله؛ فليطعه"3، فلو كان ترك المباح طاعة للزم بالنذر، لكنه غير لازم؛ فدل على أنه ليس بطاعة.
وفي الحديث: "أن رجلا نذر أن يصوم قائما، ولا يستظل، فأمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجلس، وأن يستظل، ويتم صومه"4. قال مالك: أمره -عليه السلام- أن يتم ما كان لله طاعة، ويترك ما كان لله معصية؛ فجعل5 نذر ترك المباح معصية6 كما ترى7.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م" و"خ": "كناذر".
2 هو تمام الدليل، ومحصله أن النذر إنما يكون في الطاعة كما في الحديث، وقد أجمعوا على أن ناذر ترك المباح نذره لغو؛ فلو كان تركه طاعة وداخلا فيما يُطلب بالحديث الوفاء به؛ لم يجمعوا على عدم لزوم الوفاء به. "د".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية, 11/ 585/ رقم 6700" من حديث عائشة, رضي الله عنها.
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، 11/ 586/ رقم 6704" من حديث ابن عباس, رضي الله عنه.
5 حمل المؤلف كلام مالك على ترك المباح وهو الجلوس والاستظلال؛ فقال ما قال، ولكن في الحديث الصحيح في مثله ما يفيد أن الفعل نفسه تعذيب للنفس، وهو حرام؛ حيث يقول: "إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني"؛ فهو نذر لفعل المعصية مباشرة لا بواسطة ترك المباح. "د".
قلت: وعبارة مالك في "الموطأ" "2/ 29".
6 ترك الكلام والاستظلال والجلوس لا يبلغ أن يكون معصية بنفسه؛ إلا أن يجر إلى نصب ومشقة، ولكن في نذر المباح قلبا لحقائق الشرع؛ فيدخل صاحبه من هذه الجهة في قبيل الذي يقصدون إلى حقيقة قررها الشارع على وضع خاص، ويخرجون بها على ذلك الوضع المرسوم؛ إما عبثا وتلاعبا، وإما جهلا بالحكم الذي تمكنهم معرفته بسهولة. "خ".
7 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص17-19".

 

ج / 1 ص -174-       والخامس:
أنه لو كان تارك المباح مطيعا بتركه -وقد فرضنا1 أن تركه وفعله عند الشارع سواء- لكان أرفع درجة في الآخرة ممن فعله، وهذا باطل قطعا؛ فإن القاعدة المتفق عليها2 أن الدرجات في الآخرة منزلة على أمور الدنيا، فإذا تحقق الاستواء في [جميع الطاعات؛ تحقق الاستواء في]3 الدرجات، وفعل المباح وتركه في نظر الشارع متساويان، فيلزم تساوي درجتي الفاعل والتارك إذا4 فرضنا تساويهما في الطاعات، والفرض5 أن التارك مطيع دون الفاعل؛ فيلزم أن يكون أرفع درجة منه، هذا خلف ومخالف لما جاءت به الشريعة، اللهم إلا أن يظلم6 الإنسان فيؤجر على ذلك وإن لم يطع7؛ فلا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا حاجة لذكره هذا الفرض في صوغ الدليل، وسيذكره في بيان بطلان اللازم؛ فيقول: وفعل المباح وتركه... إلخ "د".
2 من أين هذه القاعدة، وقد قالوا: إنه تعالى يعطي على القليل كثيرا وأن أمور الثواب ليست في التقدير؛ إلا بمجرد الفضل لا بالوزن؟ فالله تعالى يقول:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}؛ فلا مانع أن يكون اثنان متساويين في الطاعات، وأحدهما أرفع من الآخر منزلة، بل قد يكون الأقل عملا أرفع منزلة؛ لأن الكل بمحض الفضل لا بوزان الأعمال؛ فهذا الدليل كما ترى يحوطه الضعف من جهات. "د".
3 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"خ" و"ط".
4 في "د": "وإذا" بزيادة واو.
5 ملخص الدليل: أنه لو كان تارك المباح مطيعا بالترك؛ للزم أن يكون أرفع درجة ممن فعله، واللازم باطل؛ لأنهما متساويان في الدرجة، فما أدى إليه وهو المقدم باطل؛ فعليك بالنظر فيما توسط من كلامه أثناء الدليل، والتعرف عن وجه الحاجة إلى ذلك. "د".
6 أي: نفسه بالحمل عليها ومشاقتها بترك المباح، ثم يدعي أنه يؤجر على ذلك، أي: وهذا لا يقول به أحد. "د".
قلت: وهذا التفسير خطأ، وضبط الكلمة منه خطأ [ضبطها بعد بالفتحة، ثم فسرها]، ولو ضبطها بالضمة؛ لبان المعنى، يدل على ذلك سياق العبارة في "الورع" "ص21".
7 مقابل قوله: "أولا مطيعا" بتركه أي: وإن لم يكن مطيعا بالترك؛ فلا يكون المباح مطلوب الاجتناب، يعني وهو مع هذا الفرض مفروغ منه لا داعي للكلام فيه. "د".

 

ج / 1 ص -175-       كلام في هذا1.
والسادس:
أنه لو كان ترك المباح طاعة؛ للزم رفع المباح من أحكام الشرع، من حيث النظر إليه في نفسه، وهو باطل بالإجماع، ولا يخالف في هذا الكعبي2؛ لأنه إنما نفاه3 بالنظر إلى ما يستلزم، لا بالنظر إلى ذات الفعل، وكلامنا إنما هو بالنظر إلى ذات الفعل، لا بالنظر إلى ما يستلزم.
وأيضا؛ فإنما قال الكعبي ما قال بالنظر إلى فعل المباح؛ لأنه مستلزم ترك حرام، بخلافه بالنظر إلى تركه، إذ لا يستلزم تركه فعل واجب فيكون واجبا، ولا فعل مندوب فيكون مندوبا؛ فثبت أن القول بذلك يؤدي إلى رفع المباح بإطلاق، وذلك باطل باتفاق.
والسابع:
أن الترك عند المحققين فعل من الأفعال الداخلة تحت الاختيار؛ فترك المباح إذًا فعل مباح4.
وأيضا؛ القاعدة أن الأحكام إنما تتعلق بالأفعال أو بالتروك بالمقاصد5،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص21".
2 يأتي مذهبه ودليله والرد عليه في الفصل اللاحق لهذه المسألة. "د".
قلت: ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "10/ 530-548".
3 هنا جزم بالحصر، وسيأتي له جعله استظهارا فقط. "د".
4 وإذًا؛ فليس بمطلوب، وهو مدَّعانا. "د".
5 أي: مقاصد الشريعة من تشريع الأحكام، وهي* حفظ الضروريات والحاجيات؛ فالحكم الشرعي يتوجه إلى الفعل من إيجاب أو غيره حسبما فيه من المصلحة، وكيف يكون الشيء فعله وتركه مصلحة حتى يطلب تركه وفعله؟ "د".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "وهو".

 

ج / 1 ص -176-       حسبما يأتي إن شاء الله، وذلك يستلزم رجوع1 الترك إلى الاختيار، كالفعل، فإن جاز أن يكون تارك المباح مطيعا بنفس الترك؛ جاز أن يكون فاعله مطيعا، وذلك تناقض2 محال.
فإن قيل: هذا كله معارض بأمور:
أحدها:
أن فعل المباح سبب في مضار كثيرة:
- منها: أن فيه اشتغالا عما هو الأهم في الدنيا من العمل بنوافل الخيرات، وصدا عن كثير من الطاعات.
- ومنها: أنه سبب في الاشتغال عن الواجبات، ووسيلة إلى الممنوعات؛ لأن التمتع بالدنيا له ضراوة كضرواة الخمر، وبعضها يجر إلى بعض، إلى أن تهوي بصاحبها في المهلكة3، والعياذ بالله.
- ومنها: أن الشرع قد جاء بذم الدنيا، والتمتع بلذاتها؛ كقوله تعالى:
{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20].
[وقوله]:
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود: 15].
وفي الحديث:
"إن أخوف ما أخاف عليكم أن تفتح عليكم4 الدنيا كما فتحت على من كان قبلكم"5 الحديث. وفيه: "إن مما ينبت الربيع ما يقتل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حتى صح أن تعلق به مقاصد الشرع وتبنى عليه الأحكام "د".
2 لأنه يقتضي أن يكون الشيء مقصود الفعل للشارع لحفظ المصلحة، ومقصود الترك له أيضا لحفظها، حتى تعلق بكل منهما حكمه، وهو طلب الفعل والترك؛ فيعد المكلف مطيعا لهما. "د".
3 في "ط": "الهلكة".
4 في الأصل: "لكم".
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب، 6/ 257/ رقم 3158، وكتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرا، 7/ 319/ رقم 4015، وكتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا، 11/ 243/ رقم 6425"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزهد، باب منه، 4/ 2273-2274"، وأحمد في "المسند" "4/ 137"، والترمذي في "الجامع" "4/ 640/ رقم 2462"، وابن ماجه في "السنن" "2/ 1324/ رقم 3797"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 319"، من حديث عمرو بن عوف, رضي الله عنه.

 

ج / 1 ص -177-       حبطا أو يلم"1.
وذلك كثير شهير في الكتاب والسنة، وهو كافٍ في طلب ترك المباح؛ لأنه أمر دنيوي لا يتعلق بالآخرة من حيث هو مباح.
- ومنها: ما فيه من التعرض لطول الحساب في الآخرة، وقد جاء:
"إن حلالها حساب، وحرامها عذاب"2، وعن بعضهم3: "اعزلوا عني حسابها"،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث في أوله نحو المذكور عند المصنف آنفا، وسيأتي "2/ 281".
أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الصدقة على اليتامى، 2/ 327/ رقم 1465، وكتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، 11/ 244/ رقم 6724" من حديث أبي سعيد الخدري, رضي الله عنه.
2 أخرجه الديلمي في "الفردوس" "رقم 8192" من طريق الدراقطني في "الأفراد" عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: "يابن آدم! ما تصنع الدنيا! حلالها حساب، وحرامها عذاب".
وإسناده واه جدا، فيه عمر بن هارون البلخي، قال ابن مهدي وأحمد والنسائي: "متروك الحديث"، وقال يحيى: "كذاب خبيث"، وقال أبو داود: "غير ثقة"، وقال ابن المديني والدارقطني: "ضعيف جدا"، وقال صالح جزرة: "كذاب". وانظر: "الميزان" "3/ 228".
وأخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 17"، ومن طريقه البيهقي في "الشعب" 7/ 371/ رقم 10622" بسند منقطع عن علي موقوفا بلفظ: "حلالها حساب، وحرامها النار".
وضعفه العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"؛ كما في "إتحاف السادة" للزبيدي "8/ 120 و10/ 25" موقوفا، وقال عن المرفوع: "لم أجده"!!
وأخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 211" عن الحسن قوله، وهو الأشبه، ولكن إسناده ضعيف، فيه أبو عباد الزاهد، لا يحل الاحتجاج به؛ كما قال ابن حبان في "المجروحين" "3/ 158".
3 القائل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال ابن الجوزي في "سيرة عمر" "ص141": "عن الحسن أن عمر أتي بشربة عسل، فذاقها، فإذا ماء وعسل، فقال: "اعزلوا عني حسابها، اعزلوا عني مؤنتها"".
وذكره الأبياري في "الورع" "ص22"، وقال قبله: "في قول الصديق أو غيره".
وأخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 803، 804" بلفظين آخرين، آخرهما: "استسقى، فأتي رجل بقدح من زجاج -أو قال: من قوارير- فيه عسل، فقال -أي: عمر: "ما رأيت كاليوم إناء أحسن ولا شرابا أحسن". ثم قال: "شرابا هو أيسر في المسألة من هذا"؛ فأتي بماء، فشرب.
ونحوه في "الزهد" "ص119" لأحمد، و"الزهد" "رقم 618" لابن المبارك، و"الزهد" "رقم 94، 95" لأبي داود، و"الطبقات الكبرى" "3/ 319" لابن سعد، و"مناقب عمر بن الخطاب" "ص142" لابن الوزي، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "رقم 618" لعبد بن حميد بأسانيد بعضها حسن.

 

ج / 1 ص -178-       حين أتي بشيء يتناوله، والعاقل يعلم أن طول الحساب نوع من العذاب، وأن سرعة الانصراف من الموقف إلى الجنة من أعظم المقاصد، والمباح صاد عن ذلك؛ فإذًا تركه أفضل شرعا؛ فهو طاعة، فترك المباح طاعة1.
فالجواب: أن كونه سببا في مضار لا دليل فيه؛ من أوجه:
أحدها:
أن الكلام في أصل المسألة إنما هو في المباح من حيث هو مباح متساوي الطرفين2، ولم يتكلم فيما إذا كان ذريعة إلى أمر آخر، فإنه إذا كان ذريعة إلى ممنوع؛ صار ممنوعا من باب سد الذرائع، لا من جهة كونه مباحا,

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص20".
2 انظر في هذا: "مجموع الفتاوى" "10/ 460-462".

 

ج / 1 ص -179-       وعلى هذا يتنزل قول من قال: "كنا ندع ما لا بأس به1؛ حذرا لما به البأس".
وروي مرفوعا2.
وكذلك كل ما جاء من هذا الباب؛ فذم الدنيا إنما هو لأجل أنها تصير ذريعة إلى تعطيل التكاليف.
وأيضا3؛ فقد يتعلق بالمباح في سوابقه أو لواحقه أو قرائنه ما يصير به غير مباح، كالمال4 إذا لم تؤد زكاته، والخيل5 إذا ربطها تعففا، ولكن نسي حق الله في رقابها، وما أشبه ذلك.
والثاني:
أنا إذا نظرنا إلى كونه وسيلة؛ فليس تركه أفضل بإطلاق, بل هو ثلاثة أقسام:
قسم يكون ذريعة إلى منهي عنه؛ فيكون من تلك الجهة مطوب الترك.
وقسم يكون ذريعة إلى مأمور به؛ كالمستعان به على أمر أخروي؛ ففي الحديث:
"نعم المال الصالح للرجل الصالح"6، وفيه: "ذهب أهل الدثور

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ما لا بأس به في ذاته؛ حذرا أن يوقعنا فيما هو ذريعة إليه مما فيه بأس. "د".
2 سيأتي نصه وتخريجه "ص189".
3 أعم مما قبله الخاص بالذريعة؛ أي: باللواحق. "د".
4 و5 المثالان من نوع واحد، والظاهر أنهما من أمثلة المقارن، ويصح أن يكونا من اللواحق. "د". وفي "ط": "والخيل إذا ارتبطها".
6 أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 299"، وأحمد في "المسند" "4/ 197، 202"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 2، 236"، وأبو يعلى في "المسند" "13/ 320-322/ رقم 7336"، وعنه ابن حبان في "الصحيح" "8/ 6، 7/ رقم 3210، 3211- الإحسان"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 259/ رقم 1315"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 2495"، وابن أبي الدنيا في "إصلاح المال" "رقم 43" بإسناد صحيح، وأوله:
"يا عمرو"، وجود إسناده العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 228" وغيره.

 

ج / 1 ص -180-       بالأجور والدرجات العلا والنعيم المقيم..." إلى أن قال: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"1، بل قد جاء أن في مجامعة الأهل أجرا، وإن كان قاضيا لشهوته؛ لأنه يكف به عن الحرام2، وذلك في الشريعة كثير؛ لأنها لما كانت وسائل إلى مأمور به؛ كان لها حكم ما توسل بها إليه.
وقسم لا يكون ذريعة إلى شيء؛ فهو المباح المطلق، وعلى الجملة، فإذا فرض ذريعة إلى غيره؛ فحكمه حكم ذلك الغير، وليس الكلام فيه.
والثالث:
أنه إذا قيل: إن ترك المباح طاعة على الإطلاق لكونه وسيلة إلى ما ينهى عنه، فهو معارض بمثله؛ فيقال: بل فعله طاعة بإطلاق؛ لأن كل مباح ترك حرام3، ألا ترى أنه ترك المحرمات كلها عند فعل المباح؛ فقد شغل النفس به عن جميعها، وهذا الثاني أولى4؛ لأن الكلية هنا تصح، ولا يصح أن يقال: كل مباح وسيلة إلى محرم أو منهي عنه بإطلاق؛ فظهر أن ما اعترض به لا ينهض دليلا على أن ترك المباح طاعة.
وأما قوله: "إنه سبب في طول الحساب"؛ فجوابه من أوجه5:
أحدها:
أن فاعل المباح إن كان يحاسب عليه؛ لزم أن يكون التارك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، 1/ 416-417، رقم 595" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه.
2 سيأتي نصه وتخريجه "ص461".
3 أليس قد يكون فعل المباح ترك واجب؛ فيكون غير تارك للحرام بفعل المباح؟
تأمل. "د".
4 أي: إن هذا المعارِض أقوى من الدليل المعارَض؛ لأنه كلي بخلاف أصل الدليل. "د".
5 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص20-22".

 

ج / 1 ص -181-       محاسبا على تركه، من حيث كان الترك فعلا، ولاستواء نسبة الفعل والترك شرعا، وإذ ذاك يتناقض الأمر على فرض المباح، وذلك محال؛ فما أدى إليه مثله.
وأيضا؛ فإنه إذا تمسك بأن حلالها حساب، ثم قضى بأن التارك لا يحاسب، مع أنه آت بحلال، وهو الترك؛ فقد صار الحلال سببا لطول الحساب وغير سبب له، لأن طول الحساب إنما نيط به من جهة كونه حلالا بالفرض، وهذا تناقض من القول.
والثاني:
أن الحساب إن كان ينهض سببا لطلب الترك؛ لزم أن يُطلب ترك الطاعات من حيث كانت مسئولا عنها كلها، فقد قال تعالى:
{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، فقد انحتم على الرسل -عليهم الصلاة والسلام- أن يسألوا عن الرسالة وتبليغ الشريعة، ولم يكن هذا مانعا من الإتيان بذلك، وكذلك سائر المكلفين.
لا يقال: إن الطاعات يُعارض طلب تركها طلبها.
لأنا نقول: كذلك المباح، يعارض طلب تركه التخيير فيه، وأن فعله وتركه في قصد الشارع بمثابة واحدة.
والثالث:
أن ما ذكر من الحساب على تناول الحلال قد يقال: إنه راجع إلى أمر خارج عن نفس المباح، فإن المباح هو أكل كذا مثلا، وله مقدمات، وشروط، ولواحق لا بد من مراعاتها، فإذا روعيت؛ صار الأكل مباحا، وإن لم تراع؛ كان التسبب والتناول غير مباح.
وعلى الجملة؛ فالمباح كغيره من الأفعال له أركان، وشروط، وموانع، ولواحق تراعى، والترك في هذا كله كالفعل، فكما أنه إذا تسبب للفعل كان تسببه مسئولا عنه، كذلك إذا تسبب إلى الترك كان مسئولا عنه.

 

ج / 1 ص -182-       ولا يقال: إن الفعل كثير الشروط والموانع، ومفتقر إلى أركان بخلاف الترك؛ فإن ذلك فيه قليل، وقد يكفي مجرد القصد إلى الترك.
لأنا نقول: حقيقة المباح إنما تنشأ بمقدمات، كان فعلا أو تركا، ولو بمجرد القصد.
وأيضا؛ فإن الحقوق تتعلق بالترك كما تتعلق بالفعل، من حقوق الله، أو حقوق الآدميين، أو منهما جميعا، يدل عليه قوله, صلى الله عليه وسلم:
"إن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا؛ فأعط كل ذي حق حقه"1.
وتأمل حديث سلمان وأبي الدرداء2 -رضي الله عنهما- يبين3 لك هو وما في معناه أن الفعل والترك -في المباح على الخصوص- لا فرق بينهما من هذا الوجه؛ فالحساب يتعلق بطريق الترك كما يتعلق بطريق الفعل، وإذا كان الأمر كذلك؛ ثبت أن الحساب إن كان راجعا إلى طريق المباح؛ فالفعل والترك سواء، وإن كان راجعا إلى نفس المباح أو إليهما معا؛ فالفعل والترك أيضا سواء.
وأيضا؛ إن كان في المباح ما يقتضي الترك؛ ففيه ما يقتضي عدم الترك؛ لأنه من جملة ما امتن الله به على عباده، ألا ترى إلى قوله تعالى:
{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَام}... إلى قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 10-22].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، 4/ 209/ 1968، وكتاب الآداب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف، 10/ 534/ رقم 6139"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر، 2/ 813/ رقم182".
2 سيأتي بلفظه وتمامه عند المصنف "2/ 247-248"، والمذكور آنفا قطعة منه.
3 في الأصل: "يتبين".

 

ج / 1 ص -183-       وقوله: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ} إلى قوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14].
وقوله:
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13].
إلى غير ذلك من الآيات التي نص فيها على الامتنان بالنعم، وذلك يشعر بالقصد إلى التناول والانتفاع، ثم الشكر عليها، وإذا كان هكذا؛ فالترك له قصدا يسأل عنه: لِم تركته، ولأي وجه أعرضت عنه، وما منعك من تناول ما أحل لك؟ فالسؤال حاصل في الطرفين، وسيأتي لذلك تقرير في المباح الخادم لغيره إن شاء الله1.
وهذه الأجوبة أكثرها جدلي، والصواب في الجواب أن تناول المباح لا يصح أن يكون صاحبه محاسبا عليه بإطلاق، وإنما يحاسب على التقصير في الشكر عليه؛ إما من جهة تناوله واكتسابه، وإما من جهة الاستعانة به على التكليفات، فمن حاسب نفسه في ذلك وعمل على ما أمر به؛ فقد شكر نعم الله، وفي ذلك قال تعالى:
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} إلى قوله: {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32].
أي: لا تبعة فيها، وقال تعالى:
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 7-8].
وفسره النبي -عليه السلام- بأنه العرض2، لا الحساب الذي فيه مناقشة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "ص224 وما بعد".
2 وذلك فيما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب
{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}، 8/ 697/ رقم 4939"، وذكره تعليقا في "كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب، 11/ 400/ رقم 6536"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 4/ 2204/ رقم 2876"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة {إِذَا السَّمَاءُ  انْشَقَّتْ}، 5/ 535/ رقم 3337" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح" - والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير/ رقم 679" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "من حوسب يوم القيامة عُذب". قالت: قلت: قال الله, عز وجل: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}. قال: "ليس ذلك بالحساب، إنما ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب".

 

ج / 1 ص -184-       وعذاب، وإلا؛ لم تكن النعم المباحة خالصة للمؤمنين يوم القيامة، وإليه يرجع قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6].
أعني: سؤال المرسلين، ويحققه أحوال السلف في تناول المباحات؛ كما سيذكر على إثر هذا1.
والثاني من الأمور العارضة:
أن ما تقدم مخالف لما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والعلماء المتقين؛ فإنهم تورعوا عن المباحات كثيرا، وذلك منقول عنهم تواترا؛ كترك الترفه في المطعم، والمشرب، والمركب، والمسكن، وأعرقهم في ذلك عمر بن الخطاب، وأبو ذر، وسلمان، وأبو عبيدة بن الجراح، وعلي بن أبي طالب، وعمار، وغيرهم -رضي الله عنهم- وانظر إلى ما حكاه ابن حبيب في كتاب "الجهاد"، وكذلك الداودي في كتاب "الأموال"2؛ ففيه الشفاء، ومحصوله أنهم تركوا المباح من حيث هو مباح، ولو كان ترك المباح غير طاعة؛ لما فعلوه.
والجواب عن ذلك من أوجه3:
أحدها: أن هذه أولا حكايات أحوال؛ فالاحتجاج بمجردها من غير نظر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام في هذا في "مجموع الفتاوى" "10/ 514، 515".
2 انظره بتحقيق رضا محمد سالم شحادة، طبع مركز إحياء التراث العربي - الرباط.
3 ولشيخ الإسلام ابن تيمية جواب في "مجموع الفتاوى" "10/ 150، 151، 514 و20/ 146".

 

ج / 1 ص -185-       فيها لا يجدي، إذ لا يلزم أن يكون تركهم لما تركوه من ذلك من جهة كونه مباحا؛ لإمكان تركه لغير ذلك من المقاصد، وسيأتي1 إن شاء الله أن حكايات الأحوال بمجردها غير مفيدة في الاحتجاج.
والثاني: أنها معارضة بمثلها في النقيض.
فقد كان عليه السلام يحب الحلواء والعسل2.
ويأكل اللحم، ويختص بالذراع، وكانت تعجبه3.
وكان يستعذب له الماء4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "1/ 391 و2/ 458، 495".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأطعمة، باب الحلوى والعسل، 9/ 557/ رقم 5431، وكتاب الأشربة، باب شرب الحلواء والعسل، 10/ 78/ رقم 5614، وكتاب الطب، باب الدواء بالعسل، 8/ 139/ رقم 5682"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق/ رقم 1474 بعد 21"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأطعمة، باب ما جاء في حب النبي -صلى الله عليه وسلم- الحلواء والعسل/ رقم 1832"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأشربة، باب شراب العسل/ رقم 3715"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب الحلواء/ رقم 3323"، وأحمد في "المسند" "6/ 59" عن عائشة, رضي الله عنها.
3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} "6/ 371/ رقم 3340", ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها, 1/ 184/ رقم 194"، عن أبي هريرة، وذكر حديث طويلا فيها: "فرفعت إليه الذراع، وكانت تعجبه؛ فنهس منها نهسة".
4 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأشربة، باب استعذاب الماء، 10/ 74/ رقم 5611"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب منه/ رقم 998" من حديث أنس؛ قال: "كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب ماله إليه بيرحاء، وكانت مستقبل المسجد، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب". =

 

ج / 1 ص -186-       وينقع له الزبيب والتمر1.
ويتطيب بالمسك2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأخرج أبو داود في "السنن" "رقم 3735"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 138"، وأحمد في "المسند" "6/ 108"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "1/ 158"، وابن حبان في "الصحيح" "12/ 149/ رقم 5332- الإحسان"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي, صلى الله عليه وسلم" "رقم 245"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 394"، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" "2/ 125"، والبغوي في "الشمائل" "رقم 1017، 1018"، و"شرح السنة" "رقم 3049" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان يستعذب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من السقيا".
وإسناده قوي، وجوده ابن حجر في "فتح الباري" "10/ 74".
وأخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل، 4/ 2207/ رقم 3013" ضمن حديث طويل جدا فيه: "وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الماء في أشجاب له على حمارة من جريد".
1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأشربة، باب نقيع التمر ما لم يسكر، 10/ 62/ رقم 5597" عن سهل بن سعد أن أبا أسيد الساعدي دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لعرسه؛ فكانت امرأته خادمهم يومئذ، وهي العروس، فقالت: هل تدرون ما أنقعت لرسول الله, صلى الله عليه وسلم؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور.
وأخرجه بنحوه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكرا، 3/ 1950-1951/ رقم 2006"، وخرجته مسهبا في تحقيقي لكتاب ابن حيويه "ت 366هـ" "من وافقت كنيته كنية زوجه من الصحابة" "ص43-44".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الغسل، باب من تطيب ثم اغتسل وبقي أثر الطيب، 1/ 381/ رقم 270، 271"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام/ رقم 1190" عن عائشة: "أنا طيبت رسول الله ثم طاف في نسائه", وقالت: "وكأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق النبي, صلى الله عليه وسلم" لفظ البخاري.
ولفظ مسلم: "يتطيب بأطيب ما يجد"، وعنده أيضا "برقم 1191"، عنها: "كنت أطيب النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يحرم، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك".

 

ج / 1 ص -187-       ويحب النساء1.
وأيضا؛ فقد جاء كثير من ذلك عن الصحابة والتابعين والعلماء المتقين، بحيث يقتضي أن الترك عندهم كان غير مطلوب، والقطع أنه لو كان مطلوب الترك عندهم شرعا؛ لبادروا إليه مبادرتهم لكل نافلة وبر ونيل منزلة ودرجة؛ إذ لم يبادر أحد من الخلق إلى نوافل الخيرات مبادرتهم، ولا شارك أحد أخاه المؤمن -ممن قرب عهده أو بعد- في رفده2 وماله مشاركتهم، يعلم ذلك من طالع سيرهم، ومع ذلك؛ فلم يكونوا تاركين للمباحات أصلا، ولو كان مطلوبا؛ لعلموه قطعا، ولعملوا بمقتضاه مطلقا من غير استثناء، لكنهم لم يفعلوا؛ فدل ذلك على أنه عندهم غير مطلوب، بل قد أراد بعضهم أن يترك شيئا من المباحات؛ فنهوا عن ذلك، وأدلة هذه الجملة كثيرة، وانظر في باب المفاضلة بين الفقر والغنى3 في "مقدمات ابن رشد".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما يأتي عند المصنف "2/ 240" في حديث:
"حُبب إلي..."، وتخريجه هناك.
وكتب "خ" هنا في الهامش ما نصه: "في البشر داعية فطرية إلى الأنس بالمرأة وملابستها، وليس في هذه الفطرة ما يمس الكمال الروحي بغضاضة متى وقفت بالنفس في غاية معتدلة، وكان تمتع صاحبها بالنساء في دائرة الحكمة والنظام؛ فحبه -عليه الصلاة والسلام- للنساء غريزة بشرية، ولكنها لم تتجاوز حد الاعتدال؛ فتلهيه عن معالي الهمم والجهاد في سبيل العبادة والدعوة إلى صراط الله المستقيم، ومن حكمة انتظامها في جملة دواعيه الفطرية؛ أن يتعلم المسلمون من معاشرته لأزواجه الطاهرات كيف تعاشر المرأة بعواطف المودة والرحمة والاحترام". ا. هـ.
وانظر فيما تقدم جميعا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 641 و22/ 124".
2 الرفد: العطاء والصلة. انظر: "لسان العرب" "ر ف د".
3 لم يختلفوا في المفاضلة بين أصحاب الوصفين إلا باعتبار العمل الصالح اللاحق بكل منهما، وهو محل النظر والأخذ والرد بينهم؛ فلا محل للاعتراض الذي أوردها هنا بأن الفقر والغنى لا يوضعان في ميزان المفاضلة، وإنما التفاضل على قدر العمل الصالح، وسيأتي للمؤلف في التعارض والترجيح آخر الكتاب بحث جيد في هذا المعنى. "د". =

 

ج / 1 ص -188-       والثالث:1
إذا2 ثبت أنهم تركوا منه شيئا طلبا للثواب على تركه؛ فذلك لا من جهة أنه مباح فقط للأدلة المتقدمة، بل لأمور خارجة, وذلك غير قادح في كونه غير مطلوب الترك:
- منها: أنهم تركوه من حيث هو مانع من عبادات، وحائل دون خيرات، فيترك ليمكن الإتيان بما يثاب عليه، من باب التوصل إلى ما هو مطلوب، كما كانت عائشة -رضي الله عنها- يأتيها المال العظيم الذي يمكنها به التوسع في المباح، فتتصدق به، وتفطر على أقل ما يقوم به العيش3، ولم يكن تركها التوسع من حيث كان الترك مطلوبا، وهذا هو محل النزاع.
- ومنها: أن بعض المباحات قد يكون مورثا لبعض الناس أمرًا لا يختاره لنفسه، بالنسبة إلى ما هو عليه من الخصال الحميدة؛ فيترك المباح لما يؤديه إليه، كما جاء أن عمر بن الخطاب لما عذلوه في ركوبه الحمار في مسيره إلى الشام، أتي بفرس, فلما ركبه فهملج4 تحته؛ أخبر أنه أحس من نفسه فنزل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفي "م": "الفقير والغني".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "الفقر والغنى حالان لا يحسبان في مراقي الكمال، ولا يوضعان في ميزان المفاضلة، وإنما التفاضل على قدر العمل الصالح وما يفيض على جوانبه من أشعة الإخلاص وصفاء السريرة؛ فأعظم الرجلين عملا وأقواهما إخلاصا يكون أرفع مقاما في التقوى وأكرم منزلة عند الله من صاحبه، وفي استطاعة الغني أن يكون أفضل من الفقير مما يتيسر له من إقامة المشروعات العظيمة والمساعي التي يعم نفعها ويتجدد أثرها كل حين". وانظر: "5/ 367".
1 ينظر وجه الفرق بينه وبين الأول، غير الإجمال والتفصيل في المقاصد؛ إلا أن يقال: إنه روعي في الأول مجرد كونها حكايات أحوال، وهي لا يؤخذ بها دليلا بمجردها؛ فلا بد من عرضها على قواعد الشرع، ويكون قوله: "لإمكان تركه لغير ذلك من المقاصد"، وهي ما فصلها هنا ليس محل القصد فيما سبق. "د".
2 في "ط": "أنه إذا".
3 سيأتي تخريجه "ص191".
4 أي: سار سيرا حسنا سريعا. انظر: "لسان العرب" "هـ م ل ج".

 

ج / 1 ص -189-       عنه، ورجع إلى حماره1، وكما جاء في حديث الخميصة ذات العلم، حين لبسها النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرهم أنه نظر إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنه2، وهو المعصوم -صلى الله عليه وسلم- ولكنه علم أمته كيف يفعلون بالمباح إذا أداهم إلى ما يكره، وكذلك قد يكون المباح وسيلة إلى ممنوع؛ فيترك من حيث هو وسيلة، كما قيل: "إني لأدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال، ولا أحرمها"3، وفي الحديث: "لا يبلغ الرجل درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به؛ حذرا لما به البأس"

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: الخبر في "تاريخ المدينة" "3/ 822-823" لابن شبة.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب إذا صلى في ثوب له أعلام، 1/ 482-483/ رقم 373"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة في ثوب له أعلام، 1/ 391/ رقم 556"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة, باب الرخصة في الصلاة في خميصة لها أعلام 2/ 72", وابن ماجه في "السنن" "كتاب اللباس، باب لباس رسول الله, صلى الله عليه وسلم 2/ 1176/ رقم 3550"، ومالك في "الموطأ" "1/ 91- مع "تنوير الحوالك""، وأبو عوانة في "المسند" "2/ 24"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ 423" من حديث عائشة -رضي الله عنها- وليس عندهم "فكاد يفتنه"، وإنما
"إنها ألهتني آنفا عن صلاتي"، وفي رواية عند البخاري: "فأخاف أن تفتنني"، ونقل المصنف العبارة السابقة عن "الأموال" للداودي "ص89".
3 في النسخ الثلاث: "ولا أحرمها"، وأورده ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "1/ 209" عن ابن عمر، وفيه: "لا أخرقها"، وأورد نحوه عن مجموعة من التابعين، وانظر: "الحلية" "4/ 84، 7/ 284، 288".
ثم ظفرت بطرف من الخبر في "زهد أبي داود" "رقم 320" عن مالك بلاغا، ولم يهتد المحقق إلى لفظه بتمامه.
4 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 634/ رقم 2451"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب الورع والتقوى، 2/ 1409/ رقم 4215"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 319"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 335"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 484"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 74-76/ رقم 909-912"، =

 

ج / 1 ص -190-       وهذا بمثابة من يعلم أنه إذا مر لحاجته على الطريق الفلانية؛ نظر إلى محرم، أو تكلم فيما لا يعنيه، أو نحوه.
- ومنها: أنه قد يترك بعض الناس ما يظهر "لغيره" أنه مباح، إذا تخيل فيه إشكالا وشبهة، ولم يتخلص له حله، وهذا موضع مطلوب الترك على الجملة بلا خلاف؛ كقوله: "كنا ندع ما لا بأس به حذرا لما به البأس"1، ولم يتركوا كل ما لا بأس به، وإنما تركوا ما خشوا أن يفضي بهم إلى مكروه أو ممنوع.
- ومنها: أنه قد يترك المباح لأنه لم تحضره نية في تناوله؛ إما للعون به على طاعة الله، وإما لأنه2 يحب أن يكون عمله كله خالصا لله، لا يلوي فيه على حظ نفسه من حيث هي طالبة له، فإن من خاصة عباد الله من لا يحب أن يتناول مباحا لكونه مباحا، بل يتركه حتى يجد لتناوله قصد عبادة، أو عونا على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والدولابي في "الكنى" "2/ 34"، والطبراني في "الكبير" "17/ رقم 446" من حديث عطية السعدي.
وإسناده ضعيف، مداره على عبد الله بن عقيل عن عبد الله بن يزيد الدمشقي، وروى ابن عقيل عن ابن يزيد أحاديث منكرة؛ كما قال ابن عدي في "الكامل" نقلا عن الدولابي: "ابن يزيد هذا ضعيف"، وضعف هذا الحديث شيخنا الألباني في "غاية المرام" "رقم 178"، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب, لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "ساق هذا الحديث ابن حزم في كتاب "الإحكام" ولفظه: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما ليس به بأس حذرا لما به بأس"، ثم قال: "وفي سنده أبو عقيل وليس بالمحتج به".
1 مضى ما يشهد له.
2 يغاير ما قبله في أن هذا دائما لا يكون عمله إلا لأحد هذه الأمور: أن تحضره نية عبادة، أو عون ما على عبادة، أو أخذه له من جهة الإذن؛ فيترك الفعل حتى يجد أحد هذه الأمور، ولعل الأخير يدعو إلى الترك في بعض الأحيان، وأن مجرد نية أخذه من جهة الإذن لا تكفي، بل تحتاج لشرط غير ميسور في كل وقت؛ فيوكل هذا لأهله، أما الأول؛ فإنه قد يتفق أن يتركه لأنه لم تحضره نية العون به على عبادة، ولا شك أن الثاني أرقى من صاحب الحال الأول. "د".

 

ج / 1 ص -191-       عبادة، أو يكون أخذه له من جهة الإذن لا من جهة الحظ؛ لأن الأول نوع من الشكر بخلاف الثاني، ومن ذلك أن يتركه حتى يصير مطلوبا؛ كالأكل والشرب ونحوهما؛ فإنه -إذا كان لغير حاجة- مباح كأكل بعض الفواكه، فيدع التناول إلى زمان الحاجة إلى الغذاء، ثم يأكل قصدا لإقامة البنية، والعون في الطاعة، وهذه كلها أغراض صحيحة، منقولة عن السلف, وغير قادحة في مسألتنا.
- ومنها: أن يكون التارك مأخوذ الكلية في عبادة: من علم، أو تفكر، أو عمل، مما يتعلق بالآخرة؛ فلا تجده يستلذ بمباح، ولا ينحاش1 قلبه إليه، ولا يلقي إليه بالًا، وهذا وإن كان قليلا؛ فالترك على هذا الوجه يشبه الغفلة عن المتروك، والغفلة عن تناول المباح ليس بطاعة، بل هو في طاعة بما اشتغل به، وقد نقل مثل هذا عن عائشة حين أُتيت بمال عظيم فقسمته، ولم تبق لنفسها شيئا, فعُوتبت على تركها نفسها دون شيء، فقالت: "لا تُعنِّيني2، لو كنت ذكرتني لفعلت"3، ويتفق مثل هذا للصوفية، وكذلك إذا ترك المباح لعدم قيام النفس له4 هو في حكم المغفول عنه.
- ومنها: أنه قد يرى بعض ما يتناوله من المباح إسرافا، والإسراف مذموم، وليس في الإسراف حد يوقف دونه، كما في الإقتار؛ فيكون التوسط

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا يتحرك. انظر: "لسان العرب" "ح و ش".
2 لا تعنيني؛ أي: لا تعترضيني. انظر "لسان العرب" "ع ن ن".
وفي بعض مصادر التخريج: "لا تعنفيني".
3 أخرجه الدارقطني في "المستجاد" "رقم 36، 37"، وابن سعد في "الطبقات" "8/ 67"، وأبو نعيم في "الحلية" "2/ 47، 48، 49"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 13"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "16/ ق 738" بأسانيد بعضها صحيح.
4 كترك تناول بعض المأكولات؛ لأن نفسه لا تقبل عليها ولا تتلذذ بها، وإن كان الغير على خلاف ذلك. "د".

 

ج / 1 ص -192-       راجعا إلى الاجتهاد بين الطرفين؛ فيرى الإنسان بعض المباحات بالنسبة إلى حاله داخلا تحت الإسراف، فيتركه لذلك، ويظن من يراه ممن ليس ذلك إسرافا في حقه أنه تارك للمباح، ولا يكون كما ظن؛ فكل أحد فيه فقيه نفسه.
والحاصل أن التفقه في المباح بالنسبة إلى الإسراف وعدمه والعمل على ذلك مطلوب، وهو شرط من شروط تناول المباح، ولا يصير بذلك المباح مطلوب الترك، ولا مطلوب الفعل؛ كدخول المسجد1 لأمر مباح هو مباح، ومن شرطه أن لا يكون جُنبا، والنوافل من شرطها الطهارة، وذلك واجب، ولا يصير دخول المسجد ولا النافلة بسبب ذلك واجبين؛ فكذلك هنا تناول المباح مشروط بترك الإسراف، ولا يصير ذم الإسراف في المباح ذما للمباح مطلقا.
وإذا تأملت الحكايات في ترك بعض المباحات عمن تقدم؛ فلا تعدو هذه الوجوه، وعند ذلك لا تكون فيها معارضة لما تقدم، والله أعلم.
والثالث من الأمور المعارضة:
ما ثبت من فضيلة الزهد في الدنيا، وترك لذاتها وشهواتها، وهو مما اتفق على مدح صاحبه شرعا، وذم تاركه على الجملة، حتى قال الفضيل بن عياض: "جُعل الشر كله في بيت، وجُعل مفتاحه حب الدنيا، وجُعل الخير كله في بيت، وجُعل مفتاحه الزهد"2.
وقال الكتاني الصوفي: "الشيء الذي لم يخالف فيه كوفي، ولا مدني،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تنظير لا تمثيل. "د".
2 أخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 290"، والسلمي في "طبقاته" "ص13"، والبيهقي في "الزهد" "رقم 247" بإسنادهم إلى الفضل.
وكتب "خ" هنا ما نصه: "الزهد حال من أحوال النفس، وهو خلوص القلب من شائبة الحرص على ملاذ هذه الحياة, بحيث لا يستخفه الفرح عند حضورها، ولا يضطرب حسرة عند فواتها، ولا جَرَمَ أن من أحكم هذا الخلق يتمكن من اجتناب الحرام بسهولة، ويترفع عن الوصول إلى هذه الملاذ من طرق تخدش في وجه المروءة".

 

ج / 1 ص -193-       ولا عراقي، ولا شامي؛ الزهد في الدنيا، وسخاوة النفس، والنصيحة للخلق".
قال القشيري1: يعني: أن هذه الأشياء لا يقول أحد: إنها غير محمودة.
والأدلة من الكتاب والسنة على هذا لا تكاد تنحصر، والزهد حقيقة إنما هو في الحلال، أما الحرام؛ فالزهد فيه لازم من أمر الإسلام، عام في أهل الإيمان، ليس مما يتجارى فيه خواص المؤمنين مقتصرين عليه فقط، وإنما تجاروا فيما صاروا به من الخواص، وهو الزهد في المباح، فأما المكروه؛ فذو طرفين، وإذا ثبت هذا؛ فمحال عادة أن يتجاروا فيه هذه المجاراة وهو لا فائدة فيه، ومحال أن يُمدح شرعا مع استواء فعله وتركه.
والجواب من أوجه:
أحدها:
أن الزهد -في الشرع2- مخصوص بما طُلب تركه حسبما يظهر من الشريعة؛ فالمباح في نفسه خارج عن ذلك لما تقدم من الأدلة، فإذا أطلق بعض المعبرين لفظ الزهد على ترك الحلال؛ فعلى جهة المجاز بالنظر إلى ما يفوت من الخيرات، أو لغير ذلك مما تقدم.
والثاني:
أن أزهد البشر -صلى الله عليه وسلم- لم يترك الطيبات جملة إذا وجدها، وكذلك من بعده من الصحابة والتابعين، مع تحققهم في مقام الزهد.
والثالث:
أن ترك المباحات [من حيث إنه مباح]3؛ إما أن يكون بقصد أو بغير قصد، فإن كان بغير قصد؛ فلا اعتبار به، بل هو غفلة لا يقال فيه: "مباح"، فضلا عن أن يقال فيه: "زهد"، وإن كان تركه بقصد؛ فإما أن يكون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "الرسالة" "ص57"، وأورد فيها مقولتي الفضيل والكتاني السابقتين.
2 انظر تعريفه في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 616-619، 11/ 28، 20/ 142".
3 زيادة من الأصل فقط.

 

ج / 1 ص -194-       القصد مقصورا على كونه مباحا، فهو محل النزاع، أو لأمر خارج؛ فذلك الأمر إن كان دنيويا كالمتروك؛ فهو انتقال من مباح إلى مثله لا زهد، وإن كان أخرويا؛ فالترك إذًا وسيلة إلى ذلك المطلوب؛ فهو فضيلة من جهة ذلك المطلوب، لا من جهة مجرد الترك، ولا نزاع في هذا.
وعلى هذا المعنى فسره الغزالي؛ إذ قال1: "الزهد عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه"، فلم يجعله مجرد الانصراف عن الشيء خاصة، بل بقيد الانصراف إلى ما هو خير منه، وقال في تفسيره: "ولما كان الزهد رغبة عن محبوب بالجملة؛ لم يتصور إلا بالعدول إلى شيء هو أحب منه، وإلا؛ فترك المحبوب لغير الأحب محال"2. ثم ذكر أقسام الزهد، فدل على أن الزهد لا يتعلق بالمباح من حيث هو مباح على حال، ومن تأمل كلام المعتبرين؛ فهو دائر على هذا المدار.
فصل:
وأما كون المباح غير مطلوب الفعل؛ فيدل عليه كثير مما تقدم3؛ لأن كلا الطرفين من جهته في نفسه على سواء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "إحياء علوم الدين" "4/ 216".
2 "4/ 217".
3 يجري فيه الدليل الأول لا الثاني، ويجري فيه الثالث باعتبار قوله: "ولا معقول في نفسه"، لا باعتبار قوله: "غير صحيح باتفاق"؛ لأنه في الترك غير متفق عليه، ولا يجري فيه الخامس، ويجري فيه السادس، وقد أعاده هنا بقوله: "أحدها"؛ لأنه احتاج هنا إلى كلام فيه وإلى رد على الكعبي ليس محله هناك، ويجري فيه الشق الأخير من الدليل السابع؛ فصح قوله: "يدل عليه كثير مما تقدم"، وعليك بالنظر في تطبيق ذلك. "د".

 

ج / 1 ص -195-       وقد استدل من قال: إنه مطلوب1، بأن كل مباح ترك حرام، وترك الحرام واجب؛ فكل مباح واجب... إلى آخر ما قرره الأصوليون عنه، لكن هذا القائل يظهر منه أنه يسلم أن المباح -مع قطع النظر عما يستلزم- مستوي الطرفين، وعند ذلك يكون ما قاله الناس هو الصحيح2؛ لوجوه:
أحدها:
لزوم أن لا توجد الإباحة في فعل من الأفعال عينا3 ألبتة؛ فلا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا مذهب الكعبي وأتباعه، وقد اختلفت عبارات الأصوليين في تصوير مأخذه على ثلاثة وجوه:
أحدها: أن كل فعل يوصف بأنه مباح عند النظر إليه بانفراده هو واجب باعتبار أنه ترك به حرام.
ثانيها: أن المباح مأمور به بناء على أنه حسن؛ فيحسن أن يطلبه الطالب لحسنه.
ثالثها: أن المباح من أضداد المحروم؛ فيكون مأمورا به بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده، والقول الفاصل في هدم هذه المآخذ من أساسها هو ما نبه عليه المصنف من أن تمايز الأحكام يرجع إلى قصد الشارع, ومقصود الشارع بخطاب الإباحة أن يكون المباح موكولا إلى خبرة المكلف ولا قصد له في فعله دون تركه ولا في تركه دون فعله. "خ". وانظر في الرد على الكعبي: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 530-548"، و"البرهان" "1/ 294"، و"المحصول" "2/ 207"، و"المستصفى" "1/ 75"، و"المنخول" "116"، و"البحر المحيط" "1/ 155"، و"شرح المنهاج" "1/ 115-117" لشمس الدين الأصبهاني.
2 لم يقل: وعند ذلك يكون الخلاف* لفظيًّا؛ لأنه وإن وافقهم في هذا؛ يرى أن استلزامه للواجب حتم؛ لأن فيه ترك محرم دائما، بخلافه عندهم؛ فإنه يجري عليه ما يجري على الذريعة، وتكون تسميته مباحا لا محصل لها على رأيه؛ فلا يوجد فعل في الخارج مباح أبدا؛ لأنه مهما وقع ما يسمى مباحا؛ فهو واجب، وهو مبنى الرد في الوجه الأول، وسيرتب عليه الوجه الثاني، وهو أن يكون وضع هذا القسم بين الأحكام الشرعية عبثا، ولا يقول هو بذلك كغيره "د".
3 أي: في أي فعل معين. "د".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "الخلف".

 

ج / 1 ص -196-       يوصف فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بإباحة أصلا، وهذا باطل باتفاق؛ فإن الأمة -قبل هذا المذهب- لم تزل تحكم على الأفعال بالإباحة، كما تحكم عليها بسائر الأحكام، وإن استلزمت ترك الحرام؛ فدل على عدم اعتبارها لما يستلزم؛ لأنه أمر خارج عن ماهية المباح.
والثاني:
أنه لو كان كما قال؛ لارتفعت الإباحة رأسا عن الشريعة، وذلك باطل على مذهبه ومذهب غيره.
بيانه أنه إذا كانت الإباحة غير موجودة في الخارج على التعيين؛ كان وضعها في الأحكام الشرعية عبثا؛ لأن موضوع الحكم هو فعل المكلف، وقد فرضناه واجبا؛ فليس بمباح، فيبطل قسم المباح أصلا وفرعا؛ إذ لا فائدة شرعا في إثبات حكم لا يقضي على فعل من أفعال المكلف.
والثالث:
أنه لو كان كما قال؛ لوجب مثل ذلك في جميع الأحكام الباقية؛ لاستلزامها ترك الحرام؛ فتخرج عن كونها أحكاما مختلفة، وتصير واجبة1.
فإن التزم ذلك باعتبار الجهتين حسبما نقل عنه؛ فهو باطل؛ لأنه يعتبر جهة الاستلزام، [فلذلك نفى المباح؛ فليعتبر جهة الاستلزام]2 في الأربعة الباقية فينفيها، وهو خلاف الإجماع والمعقول؛ فإن اعتبر3 في الحرام والمكروه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن الموجود في الخارج فعل واحد، ولا يصح أن يكون حراما واجبا مثلا؛ إذ المعنى الذي يتقوم به مفهوم الواجب يعاند المعنى الذي يتقوم به مفهوم الحرام، ويستحيل وجود فرد يصدق عليه مفهومان يتقومان من أمرين متناقضين. "خ".
2 غير موجود في الأصل.
3 أي: لتبقى الأحكام الأربعة ولا تنفى؛ حتى يخلص من القول بما يخالف المعقول، وذلك بألا يعتبر فيها جهة الاستلزام، بل جهة النهي أو الأمر. "د".

 

ج / 1 ص -197-       جهة النهي، وفي المندوب جهة الأمر -كالواجب- لزمه اعتبار جهة التخيير في المباح؛ إذ لا فرق بينهما من جهة معقولهما.
فإن قال: يخرج المباح عن كونه [مباحا]1 بما يؤدي إليه، أو بما يتوسل به إليه؛ فذلك غير مسلم، وإن سُلِّم؛ فذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به، والخلاف فيه معلوم؛ فلا نسلم أنه واجب، وإن سلم؛ فكذلك الأحكام الأخر، فيصير الحرام والمكروه والمندوب واجبات، والواجب من جهة واحدة واجبا من جهتين، وهذا كله لا يتحصل له مقصود معتبر في الشرع.
فالحاصل أن الشارع لا قصد له في فعل المباح دون تركه، ولا في تركه دون فعله، بل قصده جعله لخيرة المكلف، فما كان من المكلف من فعل أو ترك، فذلك قصد الشارع بالنسبة إليه؛ فصار الفعل والترك بالنسبة إلى المكلف كخصال الكفارة، أيهما2 فعل فهو قصد الشارع، لا أن للشارع قصدا في الفعل بخصوصه، ولا في الترك بخصوصه.
لكن يرد على مجموع الطرفين3 إشكال زائد على ما تقدم في الطرف الواحد، وهو أنه قد جاء في بعض المباحات ما يقتضي قصد الشارع إلى فعله على الخصوص، وإلى تركه على الخصوص.
فأما الأول؛ فأشياء:
- منها: الأمر بالتمتع بالطيبات؛ كقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 غير موجودة في الأصل.
2 ليست في "م".
3 أي: استواء الفعل والترك في المباح؛ فالإشكال السابق كان على كون الترك ليس مطلوبا، أما هنا؛ فعلى كون كل منهما غير مطلوب، فيقال: كيف وقد طلب الفعل وطلب الترك أيضا؟ فهل مع هذا يقال: إن المباح يستوي طرفاه؟ "د".

 

ج / 1 ص -198-       فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168].
وقوله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} [البقرة: 51].
وقوله:
{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51].
إلى أشباه ذلك مما دل الأمر به على قصد الاستعمال.
وأيضا؛ فإن النعم المبسوطة في الأرض لتمتعات العباد التي ذكرت المنة بها، وقررت عليهم؛ فهم منها القصد إلى التنعم بها، لكن بقيد الشكر عليها.
- ومنها: أنه تعالى أنكر على من حرم شيئا مما بث في الأرض من الطييات، وجعل ذلك من أنواع ضلالهم؛ فقال تعالى:
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف: 32]؛ أي: خلقت لأجلهم، {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]، لا تِبَاعة1 فيها ولا إثم؛ فهذا ظاهر في القصد إلى استعمالها دون تركها2.
- ومنها: أن هذه النعم هدايا من الله للعبد، وهل يليق بالعبد عدم قبول هدية السيد؟! هذا غير لائق في محاسن العادات، ولا في مجاري الشرع, بل قصد المهدي أن تقبل هديته، وهدية الله إلى العبد ما أنعم به عليه؛ فليقبل، ثم ليشكر له عليها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التباعة كالتبعة: ما فيه إثم يتبع به. انظر: "لسان العرب" "ت ب ع".
2 الإنكار في الآية واقع على تحريم الزينة والطيبات؛ أي: الحكم عليها بالحرمة، وهذا الحكم مخالف للواقع, وقول على الله بغير بينة؛ فيكون محظورا، ويستحق صاحبه الإنكار والإنذار، وليس في الآية وجه يمكن الاستئناس به لرجحان استعمال الزينة والطيبات سوى ذكرها على وجه أنها نعمة خلقها الله ليتمتع بها عباده المخلصون. "خ".

 

ج / 1 ص -199-       وحديث ابن عمر وأبيه عمر في مسألة قصر الصلاة ظاهر في هذا المعنى، حيث قال عليه السلام: "إنها صدقة تصدق الله بها عليكم؛ فاقبلوا صدقته"1، زاد في حديث ابن عمر الموقوف عليه: "أرأيت لو تصدقت بصدقة فردت عليك؟ ألم تغضب؟"2، وفي الحديث: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، 1/ 478/ رقم 686"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة, باب في تقصير الصلاة في السفر، 3/ 116-117"، والترمذي في "الجامع" أبواب التفسير، باب سورة النساء/ رقم 3034، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب قصر الصلاة/ رقم 1199/ 1200" من حديث عمر, رضي الله عنه.
2 لم يرد في مسألة القصر كما قال المصنف، وإنما في الفطر.
أخرج الفريابي في "الصيام" "رقم 103" بسند حسن عن بلال بن عبد الله بن عمر؛ أنه سأل أباه عبد الله بن عمر؛ فقال: يا أبا عبد الرحمن! إنا نكون في السفر، فيكون الطعام والخبيص، فلعلنا نرحل غدوة، فلا ننزل حتى تغرب الشمس؛ فنحب أن نصوم بعض الذي علينا. فقال ابن عمر: أرأيت لو أنك أهديت لرجل هدية فردها عليك، ألم تجد في نفسك؟ قال: قلت: بلى. قال: فإن الله تعالى يحب أن تقبل رخصه كما يحب أن تقبل عزيمته.
وأخرجه الديلمي في "الفردوس" "1/ 2/ 226" بسند ضعيف، وفيه أن هذه الزيادة وقعت بين ابن عمر ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي إسنادها إسماعيل بن رافع وهو ضعيف، وأبو بكر بن محمد وهو مجهول، قاله عبد الحق في "الأحكام"؛ كما في "اللسان" "6/ 349"، وانظر: "السلسلة الضعيفة" "رقم 2196".
3 أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 108" من حديث ابن عمر بإسناد صحيح على شرط مسلم، وسيأتي "ص480" وتخريجه هناك أوعب، والله الهادي.
وشرح شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الحديث شرحا رائعا في رسالة "شرح كلمات الشيخ عبد القادر الجيلاني" ضمن المجلد العاشر من "مجموع الفتاوى" على نقص فيها ترى تمامه في "جامع الرسائل" للشيخ محمد رشاد سالم, رحمه الله تعالى.

 

ج / 1 ص -200-       وغالب الرخص في نمط الإباحة نزولا عن الوجوب؛ كالفطر في السفر، أو التحريم؛ كما قاله طائفة في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] إلى آخرها, وإذا تعلقت المحبة بالمباح؛ كان راجح الفعل.
فهذه جملة تدل على أن المباح قد يكون فعله أرجح من تركه.
وأما ما يقتضي القصد إلى الترك على الخصوص؛ فجميع ما تقدم من ذم [التنعمات]1 والميل إلى الشهوات على الجملة، وعلى الخصوص قد جاء ما يقتضي تعلق الكراهة في بعض ما ثبتت له الإباحة؛ كالطلاق السني2؛ فإنه جاء في الحديث وإن لم يصح:
"أبغض الحلال إلى الله الطلاق"3، ولذلك لم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقطة من الأصل.
2 وهو الذي رسمته السنة بأن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يمسها فيه، أما البدعي؛ فليس بمباح حتى يمثل به. "د".
3 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الطلاق, باب في كراهية الطلاق، 2/ 255/ رقم 2178" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "7/ 322"- وابن عدي في "الكامل" "6/ 2453" من طريق محمد بن خالد الوهبي عن معرف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن عمر مرفوعا.
وإسناده ضعيف، شذ محمد بن خالد الوهبي في وصله, فرواه من هو أوثق منه وأكثر عددا فأرسلوه، وهذا البيان:
أخرجه أبو داود في "سننه" "رقم 2177", ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "7/ 322": ثنا أحمد بن يونس، والبيهقي أيضا "7/ 322" من طريق يحيى بن بكير، وابن أبي شيبة في "المصنف" "5/ 253" من طريق وكيع بن الجراح، وعبد الله بن المبارك في "البر والصلة" -كما في "المقاصد الحسنة" "12"- وأبو نعيم الفضل بن دكين -كما قال الدارقطني في "العلل" "4/ ق 52/ ب"-، خمستهم عن معرف بن واصل عن محارب مرسلا دون ذكر "ابن عمر" فيه، وهذا هو الصواب، وهو الذي رجحه أبو حاتم -كما في "العلل" "1/ 431" لابنه- والدارقطني في =

 

 

ج / 1 ص -201-       يأتِ به صيغة أمر في القرآن ولا في السنة كما جاء في التمتع بالنعم، وإنما جاء مثل قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229].
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230].
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1].
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "العلل" "4/ ق 52/ ب"، والخطابي في "معالم السنن" "4/ 231"، وإليه مال البيهقي حيث رجح رواية أبي داود عن أحمد بن يونس المرسلة على رواية محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن أحمد بن يونس الموصولة -وهي عند الحاكم "2/ 196"، والبيهقي- حيث قال عقبها: "ولا أراه -أي: ابن أبي شيبة- حفظه".
وقد جاء الحديث موصولا من حديث ابن عمر، ولكن من طريق المعتمد عليها: "كالقابض على الماء"، أخرجه ابن ماجه في "السنن" "رقم 2018"، وأبو أمية الطرسوسي في "مسند ابن عمر" "رقم 14"، وابن حبان في "المجروحين" "2/ 64" -ومن طريقه ابن الجوزي في "الواهيات" "رقم 1056"- وتمام في "الفوائد" "رقم 798- ترتيبه" -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "2/ ق 103/ أ"- وابن عدي في "الكامل" "4/ 1630" من طريق عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب به.
والوصافي ليس بشيء؛ كما قال ابن معين، وقال الفلاس والنسائي: متروك الحديث؛ فإسناده ضعيف جدا.
وفي الباب عن معاذ عند الدارقطني في "السنن" "4/ 35"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 694" بلفظ: "ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق"، وله ألفاظ أخرى، وإسناده ضعيف.
وكتب "خ" هنا في الهامش ما نصه: "وهو محمول على الصور التي لا يتحقق فيها الموجد للفراق؛ فإنه يكون وقتئذ من المكروه الذي يناله نصيب من بغض الله لما يترتب عليه من الإساءة للزوجة أو أقاربها، أو الولد الذي تتركه من خلفها، وإنما سمي بالحلال؛ لأن الحلال يطلق على ما يقابل الحرام؛ فيتناول المباح والمكروه".

 

ج / 1 ص -202-       ولا شك أن جهة البغض في المباح مرجوحة1.
وجاء:
"كل لهو باطل إلا ثلاثة"2.
وكثير من أنواع اللهو مباح، واللعب أيضا مباح، وقد ذم.
فهذا كله يدل على أن المباح لا ينافي قصد الشارع لأحد طرفيه على الخصوص دون الآخر، وذلك مما يدل على [أن]3 المباح يتعلق به الطلب فعلا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي تجعله مرجوحا، كما أن تعلق الحب بالرخصة المباحة يجعل المباح راجحا. "د".
2 وتتمته:
"رميه الصيد بقوسه، وتأديبه فرسه, وملاعبته امرأته؛ فإنه من الحق".
أخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 95"، والطبراني في "الأوسط" -كما في "مجمع البحرين" "1/ ق 120/ ب"- بإسناد ضعيف عن أبي هريرة فيه سويد بن عبد العزيز، قال أحمد: "متروك"، وضعفه الجمهور، قاله الهيثمي في "مجمع الزوائد" "5/ 269".
وقد وهم فيه سويد، إنما هو عن ابن عجلان عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين مرسلا، كما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله، 4/ 174/ رقم 1637".
أفاده أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان؛ كما في "العلل" "1/ 302/ رقم 905" وزاد ابن أبي حاتم:
"قال أبي: ورواه ابن عيينة عن ابن أبي حسين عن أبي الشعثاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أيضا مرسل".
قلت: وروايته أخرجها سعيد بن منصور في "سننه" "رقم 2454-ط الأعظمي".
وأخرجه موصولا من طريق آخر عن أبي هريرة القراب في "فضائل الرمي" "رقم 12"، وإسناده ضعيف جدا، فيه عمر بن صبح، متروك، وقد اتهم.
انظر: "المجروحين" "2/ 88"، و"الميزان" "3/ 206".
وللحديث شواهد بألفاظ مقاربة يصل بها إلى درجة الصحة، خرجتها في "فضائل الرمي" للقراب، وانظر: "السلسلة الصحيحة" "رقم 315".
3 ليست في الأصل.

 

ج / 1 ص -203-       وتركًا على غير الجهات المتقدمة1.
والجواب من وجهين2، أحدهما إجمالي، والآخر تفصيلي.
فالإجمالي أن يقال: إذا ثبت أن المباح عند الشارع هو المتساوي الطرفين؛ فكل ما ترجح أحد طرفيه؛ فهو خارج عن كونه مباحا، إما لأنه ليس بمباح حقيقة وإن أطلق عليه لفظ المباح، وإما لأنه مباح في أصله, ثم صار غير مباح لأمر خارج، وقد يسلم أن المباح يصير غير مباح بالمقاصد والأمور الخارجة3.
وأما التفصيلي؛ فإن المباح ضربان:
أحدهما: أن يكون خادما لأصل ضروري، [أو حاجي]4، أو تكميلي.
والثاني: أن لا يكون كذلك.
فالأول: قد يُراعى من جهة ما هو خادم له؛ فيكون مطلوبا ومحبوبا5 فعله، وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب ونحوها مباح في نفسه، وإباحته بالجزء6، وهو خادم لأصل ضروري، وهو إقامة الحياة؛ فهو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الخارجة عنه، الآتية بطريق الاستلزام يعني: بل ذلك راجع لنفس المباح؛ فلا تصلح هنا الأجوبة المتقدمة "د".
2 في الأصل: "جهتين".
3 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 460-462".
4 ليست في الأصل.
5 في "م" و"خ": "محبوبا ومحبوبا"!
6 يعني أنه باعتبار هذا المأكول بعينه، وهذا الجزئي من الملبس والمشرب بخصوصه مباح، وباعتبار أنه يخدم ضروريا وهو إقامة الحياة -وهي جهة كلية- يكون مطلوبا ويؤمر به، لا من جهة خصوصيته، بل من جهة كليته؛ فليس الأمر آتيا من جهة كونه خوخا أو تفاحا أو خبزا في وقت كذا، بل من الوجهة العامة، ومن هنا يجيء قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} إلى غير ذلك من صيغ الأوامر. "د".

 

ج / 1 ص -204-       مأمور به من هذه الجهة، ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب؛ فالأمر به راجع إلى حقيقته1 الكلية، لا إلى اعتباره الجزئي ومن هنا يصح كونه هدية يليق فيها القبول دون الرد، لا من حيث هو جزئي معين.
والثاني: إما أن يكون خادما لما ينقض أصلا من الأصول الثلاثة المعتبرة، أو لا يكون خادما لشيء كالطلاق2؛ فإنه ترك للحلال الذي هو خادم لكلي إقامة النسل في الوجود، وهو ضروري، ولإقامة مطلق الألفة والمعاشرة، واشتباك العشائر بين الخلق، وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما، فإذا كان الطلاق بهذا النظر خرما لذلك المطلوب ونقضا عليه؛ كان مبغضا، ولم يكن فعله أولى من تركه؛ إلا لمعارض أقوى؛ كالشقاق, وعدم إقامة حدود الله, وهو من حيث كان جزئيا في هذا الشخص، وفي هذا الزمان مباح وحلال، وهكذا القول فيما جاء من ذم الدنيا، وقد تقدم، ولكن لما كان الحلال فيها قد يتناول فيخرم ما هو ضروري؛ كالدين3 -على الكافر والتقوى على العاصي- كان من تلك الجهة مذموما، وكذلك اللهو واللعب والفراغ من كل شغل إذا لم يكن في محظور ولا يلزم عنه محظور فهو مباح، ولكنه مذموم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا غير الاستلزام وغير الأمور الخارجية التي سبق الكلام عليها في الرد على الكعبي. "د".
2 فالطلاق خادم لترك النكاح الحلال الذي يخدم ضروريا كليا هو إقامة النسل؛ فالطلاق خدم ما ينقض أصلا كليا وحاجيا أيضا كما سيقول. "د".
3 فإن المال واقتناءه حلال في ذاته، ولكنه قد يكون فتنة تلحق الشخص؛ فيكون سببا في الكفر أو الاستمرار عليه، وهذا في الكافر، وقد يكون سببا في خرم التقوى وهدمها بالنسبة للمسلم العاصي "د".

 

ج / 1 ص -205-       ولم يرضه العلماء1، بل كانوا يكرهون أن لا يرى الرجل في إصلاح معاش، ولا في إصلاح معاد؛ لأنه قطع زمان فيما لا يترتب عليه فائدة دنيوية ولا أخروية.
وفي القرآن:
{وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء: 37]؛ إذ2 يشير إلى هذا المعنى.
وفي الحديث:
"كل لهو باطل إلا ثلاثة"3، ويعني بكونه باطلا أنه عبث أو كالعبث، ليس له فيه فائدة ولا ثمرة تجنى، بخلاف اللعب مع الزوجة؛ فإنه مباح يخدم أمرا ضروريا وهو النسل، وبخلاف تأديب الفرس، وكذلك اللعب بالسهام؛ فإنهما يخدمان أصلا تكميليا وهو الجهاد4، فلذلك استثنى هذه الثلاثة من اللهو الباطل، وجميع هذا بين أن المباح من حيث هو مباح غير مطلوب الفعل ولا الترك بخصوصه5.
وهذا الجواب مبني على أصل آخر ثابت في الأحكام التكليفية؛ فلنضعه [ها] هنا، وهي:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "العقلاء".
2 في الأصل: "قد".
3 مضى تخريجه قريبا.
4 عده هنا من التكميليات، وسيعده في كتاب المقاصد من الضروريات، ولا تعارض بين المقامين؛ إذ لا مانع من جعله ضروريا في حال، وتكميليا في حال؛ فالأول فيما إذا ترتب على تركه هرج وفساد، وفوت حياة دنيوية أو أخروية، والثاني فيما إذا دعت إليه حاجة كون كلمة الإسلام هي العليا، أو توقف عليه كف بعض الأذى عن المسلمين. "د".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "عد المصنف في المسألة الثالثة من كتاب المقاصد الجهاد في قسم الضروريات، وهو الذي يقتضيه تعريف الضروري بما لا بد منه في قيام مصالح الدين والدنيا؛ فإن هذا المعنى متحقق في الحرب التي يقصد بها دفاع الهاجمين أو مناجزة المتحفزين".
5 هذه هي فائدة الإشكال والجواب عنه، ولم تستفد من أول المسألة، ولا من الجدل الماضي كله، وفي الحقيقة قد أخذ من هنا تقييد الكلام السابق وتنقيحه، وأنه لا بد أن نزيد هذه الكلمة الوجيزة "بخصوصه" "د".
قلت: ونحو ما سبق عند البغوي في "شرح السنة" "10/ 383"، وابن القيم في "تهذيب  سنن أبي داود" "3/ 371"، وابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "5/ 516, 21/ 48، 30/ 216، 32/ 223".

 

ج / 1 ص -206-       المسألة الثانية في الإباحة:
فيقال: إن الإباحة1 بحسب الكلية والجزئية يتجاذبها الأحكام البواقي؛ فالمباح يكون مباحا بالجزء، مطلوبا بالكل على جهة الندب أو الوجوب2، ومباحا بالجزء، منهيا عنه بالكل على جهة الكراهة3 أو المنع.
فهذه أربعة أقسام:
فالأول:
كالتمتع بالطيبات4؛ من المأكل، والمشرب، والمركب، والملبس، مما سوى الواجب من ذلك, والمندوب المطلوب في محاسن العبادات، أو المكروه في محاسن العادات؛ كالإسراف؛ فهو مباح بالجزء، فلو ترك بعض الأوقات5 مع القدرة عليه, لكان جائزا كما لو فعل، فلو ترك جملة؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإباحة: مصدر أباحه له إباحة؛ أي: أحله له، والمباح: الحلال. "ماء".
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 461".
3 في "ط": "الكراهية".
4 أي: إن التمتع بهذه الطيبات إذا لم يكن واجبا "كما إذا اقتضته ضرورة حفظ الحياة أو دفعت إليه حاجة رفع الحرج"، ولا مندوبا "كما إذا كان داخلا فيما هو من محاسن العادات"، ولا مكروها "كما إذا كان فيه إخلال بمحاسنها، كالإسراف في بعض أحواله" نقول: إن التمتع بهذه الطيبات إذا لم يكن واحدا من هذه الثلاثة يكون مباحا بالجزء مندوبا بالكل، فلو تركه الناس جميعا وأخلوا به, لكان مكروها، فيكون فعله كليا مندوبا إليه شرعا. "د".
5 مقتضاه مع سياق الأحاديث أنه مباح بالجزء مندوب بالكل في حق الشخص الواحد بعينه، وقوله بعد: "لو تركه الناس جميعا؛ لكان مكروها"، يقتضي أن طلبه كفائي، لو قام به البعض سقط عن الباقي، ولو كان قادرا عليه فلم يفعله رأسا؛ لم يكن مكروها، ولعل الأول هو المعول عليه، ويشهد له قوله في الثاني: "إذا اختار أحدها، أو تركها الرجل في بعض الأحيان أو تركها بعض الناس" "د". وفي "ط": "ترك ذلك في بعض...".

 

ج / 1 ص -207-       لكان على خلاف ما ندب الشرع إليه؛ ففي الحديث: "إذا أوسع الله عليكم؛ فأوسعوا على أنفسكم"1، و: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"2، وقوله في الآخر حين حسن من هيئته: "أليس هذا أحسن؟"3، وقوله: "إن الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب الصلاة في القميص والسراويل والتبان والقباء 1/ 475/ رقم 365" عن أبي هريرة ضمن حديث، فيه:
"إذا وسع الله فأوسعوا".
وأخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب الزكاة، باب الحنطة، 5/ 52-53" عن ابن عباس ضمن حديث آخر، في آخره: "قال علي: أما إذا أوسع الله, فأوسعوا".
وأخرج مالك في "الموطأ" "2/ 911" بسند صحيح إلى عمر -رضي الله عنه- قال:
"إذا أوسع الله عليكم؛ فأوسعوا على أنفسكم".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الأدب، باب ما جاء أن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، 5/ 123-124/ رقم 2819" -وقال: "هذا حديث حسن"- والطيالسي في "المسند" "رقم 2261"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 135"، وابن أبي الدنيا في "الشكر" "رقم 51"، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، والحديث حسن، وله شواهد كثيرة؛ منها: حديث عمران بن حصين, أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 438"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "4/ 291 و7/ 10"، والطحاوي في "المشكل" "4/ 151"، والحاكم في "المعرفة" "ص161"، والطبراني في "الكبير" "18/ 135"، وابن أبي الدنيا في "الشكر" "رقم 50" بلفظ:
"إذا أنعم الله -عز وجل- على عبده نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"، وإسناده صحيح.
وانظر سائر الشواهد في "المجمع" "5/ 132-133"، و"غاية المرام" "رقم 75".
3 أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 949" من طريق عطاء بن يسار؛ قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية؛ فأشار إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- كأنه يأمره بإصلاح شعره، ففعل، ثم رجع؛ فقال النبي, صلى الله عليه وسلم:
"أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان".
وإسناده ضعيف بهذا اللفظ؛ لإرساله، وسائر رجاله ثقات.
قال ابن عبد البر في "التمهيد" "5/ 50": "ولا خلاف عن مالك أن هذا الحديث مرسل، =

 

ج / 1 ص -208-       جميل يحب الجمال"1، بعد قول الرجل: "إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة"، وكثير من ذلك، وهكذا لو ترك الناس كلهم ذلك؛ لكان مكروها.
والثاني: كالأكل والشرب، ووطء الزوجات، والبيع، والشراء، ووجوه الاكتسابات الجائزة؛ كقوله تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96].
{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1].
وكثير من ذلك، كل هذه الأشياء مباحة بالجزء؛ أي: إذا اختار أحد هذه الأشياء على ما سواها؛ فذلك جائز، أو تركها الرجل في بعض الأحوال أو الأزمان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقد يتصل معناه من حديث جابر وغيره".
قلت: أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب اللباس، باب في غسل الثوب/ رقم 4062"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الزينة، باب تسكين الشعر, 8/ 183-184"، وأحمد في "المسند" "3/ 357"، وأبو يعلى في "المسند" "4/ 23/ رقم 2026"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1438- موارد"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 186"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 78"، وابن عبد البر في "التمهيد" "5/ 52-53"، بسند صحيح على شرط الشيخين عن جابر؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا وسخة ثيابه، فقال:
"أما وجد هذا ما ينقي ثيابه؟!" ورأى رجلا ثائر الشعر، فقال: "ما وجد هذا ما يسكن به شعره؟!".
وعزاه العراقي في "تخريج الإحياء" "1/ 122" للترمذي وغيره، وقال: "بإسناد جيد".
قلت: أخشى أن يكون العراقي قد رمز له بـ"ن"؛ فتحرفت إلى "ت"، وعلى كل؛ فعزو الحديث للترمذي خطأ، والله الموفق.
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان, باب تحريم الكبر وبيانه، 1/ 93/ رقم 91" عن ابن مسعود, رضي الله عنه.

 

ج / 1 ص -209-       أو تركها بعض الناس1؛ لم يقدح ذلك, فلو فرضنا ترك الناس كلهم ذلك؛ لكان تركا لما هو من الضروريات المأمور بها، فكان الدخول فيها واجبا بالكل.
والثالث:
كالتنزه2 في البساتين، وسماع تغريد الحمام، والغناء المباح، واللعب المباح بالحمام، أو غيرها؛ فمثل هذا مباح بالجزء، فإذا فعل يوما ما، أو في حالة ما؛ فلا حرج فيه, فإن فعل دائما كان مكروها، ونسب فاعله إلى قلة العقل, وإلى خلاف محاسن العادات، وإلى الإسراف في فعل ذلك المباح.
والرابع:
كالمباحات التي تقدح في العدالة المداومة عليها وإن كانت مباحة؛ فإنها لا تقدح إلا بعد أن يعد صاحبها خارجا عن هيئات أهل العدالة، وأجري صاحبها مجرى الفساق، وإن لم يكن كذلك، وما ذلك إلا لذنب اقترفه شرعا، وقد قال الغزالي: "إن المداومة على المباح قد تصيره صغيرة، كما أن المداومة على الصغيرة تصيره3 كبيرة"4، ومن هنا قيل5: "لا صغيرة مع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا في غير الأكل والشرب مثلا، أما هما؛ فلا، بل الذي يجري فيهما قوله تركها في بعض الأحوال؛ فقوله: "فلو فرضنا ترك الناس كلهم" يعني: أو فرضنا ترك الشخص لمثل الأكل والشرب دائما وكليا لكان... إلخ، فهو مع كونه ذكر أحوالا كثيرة؛ اكتفى بافتراض الترك في بعضها فقط، مع اعتباره عموم الحكم لما بقي من وجوه الافتراض، ويمكن أن يقال نظيره في القسم الأول.
فكأنه قال في القسمين: ولو فرضنا ترك الشخص دائما وكليا, لكان تاركا للمندوب في الأول، وللواجب في الثاني فيما يكون فيه ذلك كالأكل والشرب. "د".
2 في هذا القسم والذي بعده جعل الكلام في الشخص الواحد جزئيا وكليا؛ فتنبه. "د".
3 في "ط": "تصيرها".
4 في "إحياء علوم الدين" "4/ 22"، وانظر منه: "3/ 129"، وهذا النوع الأخير عند المصنف قد يصعب التسليم به، خاصة وأنه أورده بلا أمثلة ولا أدلة، كما يصعب التفريق بينه وبين سابقه؛ ففي كل منهما "المداومة على بعض المباحات"، إلا أن نقول: إنها -أي: تلك المباحات- تصير محرمة بالإدمان عليها والإفراط فيها؛ لأنها حينئذ تصير هوى متبعا، وآفة مستحكمة، ومضيعة للعمر، وفي هذا من موجبات التحريم ما لا يخفى، ومن الأمثلة الجلية على هذا احتراف بعض الناس اليوم لبعض أنواع اللعب, فيصير الإنسان حرفته "لاعب"، وتصير حياته لعبا في لعب، وقريب من هذا ما يداوم عليه بعض الناس من قطع الساعات الطوال من كل أيامهم أو معظمها في المقاهي وما أشبهها من توافه الأمور وسفاسفها، أفاده الريسوني.
5 في "ط": "قالوا".

 

ج / 1 ص -210-       الإصرار"1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كتب "خ" هنا ما نصه: "هذه مقالة لبعض الصوفية، وليست بحديث كما تخيله بعض من لا يتحرى في الرواية". وفي "ط": "إصرار".
قال أبو عبيدة: وردت المقولة السابقة على أنها حديث مرفوع عن:
- ابن عباس، أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 853"، وأبو الشيخ، والديلمي، والعسكري في "الأمثال" -كما في "المقاصد" "467"- بسند ضعيف, فيه أبو شيبة الخراساني، أتى بخبر منكر؛ كما قال الذهبي في "الميزان" "4/ 537"، وذكره.
- أبي هريرة، أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" بسند واه بمرة، فيه مبشر بن عبيد الدارسي، وهو متروك، أفاده السخاوي.
وأخرجه من حديثه أيضا: الثعلبي وابن شاهين في "الترغيب" من طريق آخر لا يفرح بها، فيها بشر بن إبراهيم وضاع مشهور؛ كما في "اللسان" "2/ 18".
- عائشة، أخرجه أبو حذيفة إسحاق بن بشر في "المبتدأ"، قاله السخاوي، وزاد: "وإسحاق حديثه منكر" قلت: وهو متهم بالوضع.
- أنس، أخرجه البغوي ومن جهته الديلمي، قال السخاوي: "وينظر سنده"، قال محشيه: "نظرت سنده؛ فوجدت فيه راويا مجهولا"؛ فالحديث لم يثبت مرفوعا، وثبت موقوفا على ابن عباس, وليس عن بعض الصوفية، وقد قلد المحشي في عبارته السابقة الشوكاني في "إرشاد الفحول" "ص47"؛ إذ المقولة مقولته!! -أخرج ابن جرير في "التفسير" "رقم 9207"، وابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" "1/ 498، النساء: 31"- والبيهقي في "الشعب" "7/ رقم 7150"، وابن المنذر -كما في "المقاصد"- بسند صحيح؛ أن ابن عباس سئل: كم الكبائر؛ أسبع هي؟ قال: "إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع, غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار".
وانظر في ضابط الإصرار المصير للصغيرة كبيرة: "الذخيرة" "10/ 223" للقرافي.

 

ج / 1 ص -211-       فصل:
إذا كان الفعل مندوبا بالجزء كان واجبا بالكل1؛ كالأذان في المساجد الجوامع أو غيرها، وصلاة الجماعة، وصلاة العيدين، وصدقة التطوع، والنكاح، والوتر، والفجر2، والعمرة، وسائر النوافل الرواتب؛ فإنها مندوب إليها بالجزء، ولو فرض تركها جملة لجرح التارك لها, ألا ترى أن في الأذان إظهارا لشعائر الإسلام؟ ولذلك يستحق أهل المصر القتال إذا تركوه، وكذلك صلاة الجماعة، من داوم على تركها يجرح، فلا تقبل شهادته؛ لأن في تركها مضادة لإظهار شعائر الدين، وقد توعد الرسول -عليه السلام- من دوام على ترك الجماعة؛ فهم أن يحرق عليهم بيوتهم3، كما كان عليه السلام لا يغير على قوم حتى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك، وإلا أغار4، والنكاح لا يخفى ما فيه مما هو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إما كفائيا كالأذان وإقامة الجماعة، وإما عينيا كباقي الأمثلة؛ إلا ما يأتي بعد من النكاح، فوجوبه الكفائي بقدر ما يتحقق منه مقصود الشارع. "د".
قلت: وفي بعض الأمثلة المذكورة عند المصنف نزاع في كونها على الكفاية، وانتصر غير واحد من المحققين -كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه- للقول بوجوب صلاة الجماعة والعيدين على الأعيان، والله الموفق.
2 هذا التمثيل غير صحيح, ولا وجه له إلا أن يكون فيه سقط تقديره "وسنة الفجر".
3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة، 2/ 125/ رقم 644"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة، 1/ 451/ رقم 651"، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد ناسا في بعض الصلوات؛ فقال:
"لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها؛ فآمر بهم، فيحرقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم، ولو علم أحدهم أنه يجد عظما سمينا لشهدها" يعني: صلاة العشاء، لفظ مسلم.
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب ما يحقن الأذان من الدماء، 2/ 89-90/ رقم 610، وكتاب الجهاد، باب دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس إلى الإسلام والنبوة، 6/ =

 

ج / 1 ص -212-       مقصود للشارع؛ من تكثير النسل، وإبقاء النوع الإنساني، وما أشبه ذلك؛ فالترك لها جملة مؤثر في أوضاع الدين، إذا كان دائما، أما إذا كان في بعض الأوقات؛ فلا تأثير له، فلا محظور في الترك.
فصل:
إذا كان الفعل مكروها بالجزء كان ممنوعا بالكل؛ كاللعب بالشطرنج والنرد بغير مقامرة، وسماع الغناء المكروه1، فإن مثل هذه الأشياء إذا وقعت على غير مداومة؛ لم تقدح في العدالة، فإن داوم عليها؛ قدحت في عدالته، وذلك2 دليل على المنع بناء على أصل الغزالي3، قال محمد بن عبد الحكم في اللعب بالنرد والشطرنج: "إن كان يكثر منه حتى يشغله عن الجماعة؛ لم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 111/ رقم 2943، 2944"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان" "1/ 288/ رقم 382" عن أنس بن مالك, رضي الله عنه.
وعلق "خ" على الحديث بقوله: "فترك الأذان لم يكن السبب في الإغارة على القوم، وإنما كان كالدليل على أنهم لا زالوا على مناوأة الإسلام التي هي السبب في الإغارة عليهم، ولم يكن عليه السلام ليغير على قوم من العرب إلا بعد أن تبلغهم دعوته، ويجاهروا بعداوته، ويشهد بهذا قوله لعلي بن أبي طالب في هذه الغزوة نفسها:
"على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام".
1 والحق أن اللعب بالنرد والشطرنج والغناء حرام، كما هو مقرر عند كثير من المحققين من أهل العلم. انظر: "الفروسية" لابن القيم "ص302 وما بعد-بتحقيقي".
2 وذلك "أي: قدح المداومة على المكروهات في العادة، وإخراج صاحبها عن أهل الشهادة" دليل على أنه اقترف ذنبا. "د".
3 وهو أن المداومة على المباح قد تصيره صغيرة، بل هذا أولى من المداومة على بعض المباحات "د".

 

ج / 1 ص -213-       تقبل شهادته"، وكذلك اللعب الذي يخرج به عن هيئة أهل المروءة1، والحلول بمواطن التهم لغير عذر، وما أشبه ذلك.
فصل:
أما الواجب إن قلنا: إنه مرادف للفرض؛ فإنه لا بد أن يكون واجبا بالكل والجزء، فإن العلماء إنما أطلقوا الواجب من حيث النظر الجزئي، وإذا كان واجبا بالجزء؛ فهو كذلك بالكل من باب أولى، ولكن هل يختلف حكمه بحسب الكلية والجزئية أم لا؟
أما بحسب الجواز2؛ فذلك ظاهر, فإنه إذا كانت هذه الظهر المعينة فرضا على المكلف يأثم بتركها, ويعد مرتكب كبيرة؛ فينفذ عليه الوعيد بسببها إلا أن يعفو الله؛ فالتارك لكل ظهر أو لكل صلاة أحرى بذلك، وكذلك القاتل عمدا إذا فعل ذلك مرة، مع من كثر ذلك منه وداوم عليه، وما أشبه ذلك؛ فإن المفسدة بالمداومة أعظم منها في غيرها.
وأما بحسب الوقوع؛ فقد جاء ما يقتضي ذلك؛ كقوله -عليه السلام- في تارك الجمعة:
"[من ترك الجمعة]3 ثلاث مرات طبع الله على قلبه"4؛ فقيد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر كتابنا: "المروءة وخوارمها"؛ فقد فصلنا -ولله الحمد- في ذلك.
2 أي: جواز ذلك وإمكان وقوعه شرعا، ويأتي مقابله، وهو الوقوع بالفعل في قوله: "وأما بحسب الوقوع". "د".
3 ساقطة من الأصل، والسياق واضح بدونها.
4 ورد عن أبي الجعد الضمري، بلفظ:
"من ترك ثلاث جمع تهاونا؛ طبع الله على قلبه".
أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب التشديد في ترك الجمعة، 1/ 277/ رقم 1052"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الجمعة، باب التشديد في التخلف عن الجمعة، 3 =

 

ج / 1 ص -214-       بالثلاث كما ترى، وقال في الحديث الآخر: "من تركها1 استخفافا بحقها أو تهاونا"2، مع أنه لو تركها3 مختارا غير متهاون ولا مستخف؛ لكان تاركا للفرض؛ فإنما قال ذلك لأن [تركها]4 مرات أولى في التحريم، وكذلك5 لو تركها قصدا للاستخفاف والتهاون، وانبنى على ذلك في الفقه: أن من تركها ثلاث مرات من غير عذر؛ لم تجز شهادته. قاله سحنون، وقال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: إذا6 تركها مرارا لغير عذر؛ لم تجز شهادته7. وكذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= / 277/ رقم 1052"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب إقامة الصلاة، باب فيمن ترك الجمعة من غير عذر، 1/ 357/ رقم 1125"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الص لاة، باب ما جاء في ترك الجمعة من غير عذر، 2/ 373/ رقم 500"، وأحمد في "المسند" "3/ 424"، وابن خزيمة في "الصحيح" "3/ 175، 176/ رقم 1875، 1876"، والطحاوي في "المشكل" "4/ 230"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 280"، وابن حبان في "الصحيح" "1/ 237-238/ رقم 258 و4/ 198/ رقم 2775- الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 172"، والبغوي في "شرح السنة" "4/ 213/ رقم 1053"، والدولابي في "الكنى والأسماء" "1/ 21-22"، والمروزي في "فضل الجمعة" "رقم 62" بإسناد قوي، كما قال الذهبي في "الكبائر" "ص208- بتحقيقي"، وصحح الحديث جماعة، انظر: "التلخيص الحبير" "2/ 52".
1 ذكر الحديث بهذه الرواية على ما فيها ليفيد أن الشارع رتب على تكرار الترك ما رتبه على الترك تهاونا واستخفافا، ولا يخفى عظم جرم الاستخفاف؛ فدل على أن جريمة التكرار أكبر من جريمة المرة الواحدة، ولا يخفى عليك حكمة ذلك؛ فإن تكرار الترك لغير عذر وإن لم تشعر النفس فيه بالاستخفاف، ولم يخطر بالبال؛ إلا أنه في الواقع لا بد أن يكون مركوزا في نفس الشخص الذي يتكرر منه الترك؛ لأنه هو السبب الحقيقي للتكرار، كما يشير إليه كلامه بعد. "د".
2 تقدم نحوه في الحديث السابق.
3 أي مرة واحدة؛ لكان تاركا للفرض؛ أي: ولم يرتب عليه الطبع على القلب. "د".
4 ما بين حاصرتين زيادة من الأصل و"م" و"ط".
5 لعل صوابه "كما"، ويكون بيانا لحكمة ذكر الحديث الثاني. "د".
6 في "د": "إذ". 
7 بعدها في النسخ المطبوعة: "قاله سحنون"، وليس لها معنى، وهي ليست في الأصل، وأشار إلى ذلك محقق "د" بقوله: "انظر ما معنى إعادتها؟ فلعل هنا تحريفا".

 

ج / 1 ص -215-       يقول الفقهاء فيمن ارتكب إثما ولم يكثر منه ذلك: إنه لا يقدح في شهادته إذا لم يكن كبيرة، فإن تمادى وأكثر منه كان قادحا في شهادته، وصار في عداد من فعل كبيرة، بناء على أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة.
وأما إن قلنا: إن الواجب ليس بمرادف للفرض؛ فقد يطرد فيه ما تقدم، فيقال: إن الواجب إذا كان واجبا بالجزء كان فرضا بالكل1، لا مانع يمنع من ذلك؛ فانظر فيه وفي أمثلته منزلا على مذهب الحنفية، وعلى هذه الطريقة يستتب التعميم؛ فيقال في الفرض2: إنه يختلف بحسب الكل والجزء، كما تقدم بيانه أول الفصل.
وهكذا القول في الممنوعات: إنها تختلف مراتبها بحسب الكل والجزء، وإن عدت في الحكم في مرتبة واحدة وقتا ما، أو في حالة ما؛ فلا تكون كذلك في أحوال أخر، بل يختلف الحكم فيها, كالكذب من غير عذر, وسائر الصغائر مع المداومة عليها فإن المداومة لها تأثير في كبرها، وقد ينضاف3 الذنب إلى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فينزل الواجب منزلة المندوب فيما سبق, ويكون جزئيه واجبا وكليه فرضا، بل يكون هذا أولى من المندوب، وعليه لا يخرج الواجب عن الطريقة التي شرحت في المندوب والمكروه والمباح، واختلافها جزئيا عنهما كليا، وأخذ الكلي حكما* آخر من الأحكام الخمسة غير ما كان في الجزئي. "د".
2 أي: أيضا كما قيل في الواجب والأقسام قبله، لكن بالطريقة التي ذكرها في هذا الفصل، وأن جريمة التكرار أكبر من الترك، وهكذا مما سبق له، لا أنه يأخذ لقبا آخر من ألقاب الأحكام الخمسة لم يكن له قبلا في الجزئية، ومثله يقال في الحرام. "د".
3 في الأصل: "يضاف".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "حكم"!

 

ج / 1 ص -216-       الذنب؛ فيعظم بسبب الإضافة؛ فليست سرقة نصف النصاب كسرقة ربعه، ولا سرقة النصاب كسرقة نصفه، ولذلك عدوا سرقة لقمة والتطفيف بحبة من باب الصغائر -مع أن السرقة معدودة من الكبائر- وقد قال الغزالي: "قلما يتصور الهجوم على الكبيرة بغتة، من غير سوابق ولواحق من جهة الصغائر، -قال:- ولو تصورت كبيرة وحدها بغتة، ولم يتفق عوده إليها، ربما كان العفو إليها أرجى من صغيرة واظب عليها عمره"1.
فصل:
هذا وجه من النظر مبني على أن الأفعال كلها تختلف أحكامها بالكلية والجزئية من غير اتفاق2.
ولمدع3 أن يدعي اتفاق أحكامها وإن اختلفت بالكلية والجزئية.
أما في المباح؛ فمثل قتل كل مؤذ، والعمل بالقراض، والمساقاة، وشراء العرية، والاستراحة بعد التعب، حيث لا يكون ذلك متوجه الطلب، والتداوي، إن قيل: إنه مباح4؛ فإن هذه الأشياء إذا فعلت دائما أو تركت دائما لا يلزم من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "إحياء علوم الدين" "4/ 32"، وفي الأصل المخطوط: "غيره" بدل "عمره".
2 أي: في الحكم بين الجزئي والكلي، ويجعل ذلك قاعدة كلية مطردة لا تتخلف "د".
3 أي: له أن ينازع في اطراد القاعدة، ويقول: بل قد يستوي حكم الكلية والجزئية، وذاك في مثل الأمثلة التي ذكرها ووجدها في كل نوع من أنواع الأحكام الخمسة "د".
4 هذا مذهب طائفة من الفقهاء، وذهب جمهور أهل العلم إلى أن الأخذ بالتداوي أفضل من تركه، ونظر فريق من المحققين إلى صحة قوانين الطب وكثرة إصابة الأطباء الماهرين في تطبيقها عمليا؛ فقالوا: متى خيف على النفس الوقوع في خطر، وغاب على الظن نفعه؛ كان أمرا واجبا، وأجازوا جميعا حتى الطائفة القائلة بالإباحة تمكين الطبيب من بعض الوسائل المحرمة بحسب الأصل؛ كلمس الأجنبية، والنظر إلى العورة. "خ".

 

ج / 1 ص -217-       فعلها ولا من تركها إثم، ولا كراهة، ولا ندب، ولا وجوب، وكذلك لو ترك الناس كلهم ذلك اختيارا؛ فهو كما لو فعلوه كلهم.
وأما في المندوب؛ فكالتداوي إن قيل بالندب فيه؛ لقوله, عليه السلام:
"تداووا"1، وكالإحسان في قتل الدواب المؤذية؛ لقوله: "إذا قتلتم؛ فأحسنوا القتلة"2؛ فإن هذه الأمور لو تركها الإنسان دائما لم يكن مكروها3 ولا ممنوعا، وكذلك لو فعلها دائما.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى، 4/ 3/ رقم 3855"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الطب، باب ما جاء في الدواء والحث عليه، 4/ 382/ رقم 2038"، والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" "1/ 62-63"- وابن ماجه في "السنن" "كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، 2/ 1137/ رقم 3436"، وأحمد في "المسند" "4/ 278"، والبخاري في "الأدب المفرد" "291"، والحميدي في "المسند" "824"، والطيالسي في "المسند" "1747"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 323"، والطبراني في "الصغير" "1/ 202، 203"، و"الكبير" "1/ 144-151"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 399" بإسناد صحيح عن أسامة بن شريك، ولفظه: "
نعم يا عبد الله! تداووا؛ فإن الله -عز وجل- لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد". قالوا: وما هو؟ قال: "الهرم".
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، 3/ 1548/ رقم 1955"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الديات، باب ما جاء في النهي عن المثلة، 4/ 23/ رقم 1409" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- والنسائي في "المجتبى" "كتاب الضحايا، باب الأمر بإحداد الشفرة، 7/ 227"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 3170"، وأحمد في "المسند" 4/ 123، 124، 125"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 60" من حديث شداد بن أوس مرفوعا، وأوله:
"إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم...".
3 الجاري على ما تقدم أن يقول: لم يكن ممنوعا، وأيضا؛ فالذي يراد نفيه هنا أن تكون واجبة بالكل، أي: فيكون تركها دائما ممنوعا على وزان ما تقدم، أما كونه ليس مكروها؛ فمن جهة أن ضد المندوب المكروه. "د".

 

ج / 1 ص -218-       وأما في المكروه؛ فمثل قتل النمل إذا لم تؤذ1، والاستجمار بالحممة2 والعظم وغيرهما مما ينقي؛ إلا أن فيه تلويثا أو حقا للجن3، فليس النهي عن ذلك نهي تحريم، ولا ثبت أن فاعل ذلك دائما يحرج به ولا يؤثم، وكذلك البول في الجحر4، واختناث الأسقية في الشرب5، وأمثال ذلك كثيرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما في حديث ابن عباس: "نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قتل أربع من الدواب: النملة..." أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأدب, باب في قتل الذر، 4/ 367، 5267"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الصيد، باب ما ينهى عن قتله، 2/ 1074/ رقم 3224"، والدارمي في "السنن" "2/ 88-89", والطحاوي في "المشكل" "1/ 371"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 649"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 317"، كلهم من طريق عبد الرزاق -وهو في "المصنف" "رقم 8415"- عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس به.
قال أبو زرعة, كما في "العلل" "2/ 302" لابن أبي حاتم: "أخطأ فيه عبد الرزاق، والصحيح من حديث معمر عن الزهري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسل".
والحديث صحيح، وله طرق أخرى عن ابن عباس، أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 332، 347" -ومن طريقه القطيعي في "جزء الألف دينار" "رقم 58"- وابن حبان في "الصحيح" "رقم 5617"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 317"، وانظر: "إرواء الغليل" "8/ 142/ رقم 2490".
2 الحممة: الفحمة الباردة، وكل ما احترق من النار. انظر: "لسان العرب" "ح م م".
3 كما في حديث أبي هريرة، أخرجه البخاري في "كتاب الوضوء، باب الاستنجاء بالحجارة، 1/ 255/ رقم 155، وكتاب مناقب الأنصار، باب ذكر الجن، 7/ 171/ رقم 3860".
ولفظ "الحممة" جاء في حديث ابن مسعود، أخرجه أبو داود في "كتاب الطهارة، باب ما ينهى عنه أن يستنجى به، 1/ 10/ رقم 39" بإسناد صحيح.
4 كما في حديث عبد الله بن سرجس، أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الحجر، 1/ 8/ رقم 29"، وأحمد في "المسند" "5/ 82"، وإسناده ضعيف.
5 كما في حديث أبي سعيد الخدري، أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب  آداب الطعام والشراب وأحكامهما، 3/ 1600/ رقم 2023"، ونصه: "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن اختناث الأسقية".

 

ج / 1 ص -219-       وأما في الواجب والمحرم؛ فظاهر أيضا التساوي، فإن الحدود وضعت على التساوي؛ فالشارب للخمر مائة مرة كشاربها مرة واحدة، وقاذف الواحد1.
كقاذف الجماعة، وقاتل نفس واحدة كقاتل مائة نفس في إقامة الحدود عليهم، وكذلك تارك صلاة واحدة مع المديم الترك، وما أشبه ذلك.
وأيضا؛ فقد نص الغزالي على أن الغيبة، أو سماعها، والتجسس2، وسوء الظن، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأكل الشبهات، وسب الولد والغلام، وضربهما بحكم الغضب زائدا على حد المصلحة، وإكرام السلاطين الظلمة، والتكاسل عن تعليم الأهل والولد ما يحتاجون إليه من أمر الدين؛ جار دوامها مجرى الفلتات في غيرها؛ لأنها غالبة في الناس على الخصوص، كما كانت الفلتات في غيرها غالبة؛ فلا يقدح في العدالة دوامها كما لا تقدح فيها الفلتات، فإذا ثبت هذا؛ استقامت الدعوى في أن الأحكام قد تستوي، وإن اختلفت الأفعال بحسب الكلية والجزئية.
ولصاحب النظر الأول أن يجيب بأن ما استشهد به على الاستواء محتمل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تراجع هذه الأحكام في الفروع. "د".
2 التجسس: البحث عن عورات الناس، واستطلاع معائبهم ولو بقصد مجازاتهم عليها متى كانت تستوجب التأديب والعقوبة، قيل لابن مسعود كما أخرجه أبو داود وغيره: هل لك في الوليد بن عقبة بن معيط تقطر لحيته خمرا؟ فقال: "قد نهينا عن التجسس، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به، أما التجسس بالتنقيب عن أحوال الأمة والسعي بها إلى عدوها ليستعين بمعرفة شئونها الخفية على تمزيق وحدتها ووضع قيد الاستعباد في عنقها؛ فجناية تقتلع أصل العدالة من حيث نشأت، وأمر مرتكبها -كما نص فقهاء المالكية- موكول إلى اجتهاد من بيده الحكم النافذ، وله أن يحمله على أشد العقوبات، ويقضي على حياة تلك النفس السامة قبل أن تقضي على حياة أمة بأجمعها". "خ".

 

ج / 1 ص -220-       أما الأول؛ فإن الكلى والجزئي يختلف بحسب الأشخاص والأحوال والمكلفين، ودليل ذلك أنا إذا نظرنا إلى جواز الترك في قتل كل مؤذ بالنسبة إلى آحاد الناس خف الخطب، فلو فرضنا تمالؤ الناس كلهم على الترك، داخلهم الحرج من وجوه عدة، والشرع طالب لدفع الحرج قطعا؛ فصار الترك منهيا عنه نهي كراهة إن لم يكن أشد، فيكون الفعل إذًا مندوبا بالكل إن لم نقل واجبا، وهكذا العمل بالقراض وما ذكر معه؛ فلا استواء إذًا بين الكلي والجزئي فيه، وبحسبك في المسألة أن الناس لو تمالئوا على الترك؛ لكان ذريعة إلى هدم معلم شرعي، وناهيك به، نعم قد يسبق ذلك النظر1 إذا تقارب ما بين الكلي والجزئي، وأما إذا تباعد ما بينهما؛ فالواقع ما تقدم، ومثل هذا النظر جار في المندوب والمكروه.
وأما ما ذكره في الواجب والمحرم؛ فغير وارد، فإن اختلاف الأحكام في الحدود ظاهر، وإن اتفقت في بعض، وما ذكره الغزالي فلا يسلم بناء على هذه القاعدة2، وإن سلم؛ ففي العدالة وحدها لمعارض راجح، وهو أنه لو قدح دوام ذلك فيها لندرت العدالة؛ فتعذرت الشهادة3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: نظر الاتفاق في الحكم بين الكلي والجزئي في هذه المسائل إذا كان الكلي قليل الشمول ضعيف العموم؛ فربما يقال: إن الشخص الواحد لو ترك قتل المؤذي أو العمل بالقراض أو المساقاة طول حياته؛ لما خرج عن حكم المباح، وكذا يقال في الباقي، أما إذا اتسع العموم؛ فإن الحكم لا يتفق، ولا يخفى عليك أنه تسليم في شيء مما يوهن القاعدة العامة الكلية التي قررها أول الفصل.
"د".
2 وهي اختلاف مراتب الممنوعات بالكلية والجزئية كما سبق. "د".
3 يكتفي الفقهاء بالميسور من شروط العدالة من تعطيل الشهادة المفضي إلى إضاعة الحقوق واختلال شأن الأمن، قال القرافي في باب السياسة من كتاب "الذخيرة": "نص ابن أبي زيد في "النوادر" على أنا إذا لم نجد في جهة إلا غير العدول؛ أقمنا للشهادة عليهم أصلحهم وأقلهم فجورا، ويلزم مثل ذلك في القضاة وغيرهم لئلا تضيع المصالح". ثم قال القرافي: "وما أظن أحدا يخالفه في هذا؛ فإن التكليف شرطه الإمكان". "خ". وانظر: "النوازل" للعلمي "3/ 28".

 

ج / 1 ص -221-       فصل:
إذا تقرر تصوير الكلية والجزئية في الأحكام الخمسة؛ فقد يطلب الدليل على صحتها، والأمر فيها واضح مع تأمل ما تقدم في أثناء التقرير، بل هي في اعتبار الشريعة بالغة مبلغ القطع لمن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها، ولكن إن طلب مزيدا في طمأنينة القلب، وانشراح الصدر؛ فيدل على ذلك جمل:
- منها: ما تقدمت الإشارة إليه في التجريح بما داوم عليه الإنسان، مما لا يجرح به لو لم يداوم عليه، وهو أصل متفق عليه بين العلماء في الجملة، ولولا أن للمداومة تأثيرا؛ لم يصح لهم التفرقة بين المداوم عليه وما لم يداوم عليه من الأفعال، لكنهم اعتبروا ذلك؛ فدل على التفرقة، وأن المداوم عليه أشد وأحرى منه إذا لم يداوم عليه، وهو معنى ما تقدم تقريره في الكلية والجزئية، وهذا المسلك لمن اعتبره كاف.
- ومنها: أن الشارع وضع الشريعة على اعتبار المصالح باتفاق, وتقرر في هذه المسائل أن المصالح المعتبرة هي الكليات دون الجزئيات؛ إذ مجاري العادات كذلك جرت الأحكام فيها، ولولا أن الجزئيات أضعف شأنا في الاعتبار لما صح ذلك بل لولا ذلك لم تجر1 الكليات على حكم الاطراد، كالحكم بالشهادة, وقبول خبر الواحد، مع وقوع الغلط والنسيان في الآحاد، لكن الغالب الصدق؛ فأجريت الأحكام الكلية على ما هو الغالب حفظا على الكليات، ولو اعتبرت الجزئيات لم يكن بينهما فرق, ولامتنع الحكم إلا بما هو معلوم، ولا طرح الظن بإطلاق، وليس كذلك, بل حكم بمقتضى ظن الصدق، وإن برز

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "تجز" بالزي، ولها وجه.

 

ج / 1 ص -222-       بعد في بعض الوقائع الغلط في ذلك الظن، وما ذاك إلا اطراح لحكم الجزئية1 في حكم الكلية، وهو دليل على صحة اختلاف الفعل الواحد بحسب الكلية والجزئية، وأن شأن الجزئية أخف.
- ومنها: ما جاء في الحذر من زلة العالم، [فإن زلة العالم]2 في علمه أو عمله -إذا لم تتعد لغيره- في حكم زلة غير العالم، فلم يزد فيها على غيره، فإن تعدت إلى غيره اختلف حكمها، وما ذلك إلا لكونها جزئية إذا اختصت به ولم تتعد إلى غيره، فإن تعدت صارت كلية بسبب الاقتداء والاتباع على ذلك الفعل، أو على مقتضى القول؛ فصارت عند الاتباع عظيمة جدا، ولم تكن كذلك على فرض اختصاصها به، ويجري مجراه كل من عمل عملا فاقتدى به فيه؛ إن صالحا فصالح، وإن طالحا فطالح، وفيه جاء:
"من سن سنة حسنة أو سيئة"3، و"إن نفسا تقتل ظلما؛ إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وإن كان هذا في أحكام وضعية لا الأحكام الخمسة التكليفية التي الكلام فيها؛ لأن الشهادة وقبولها من الأحكام الوضعية. ا. هـ. إلا أن يقال: إن مجاري العادات تدخلها الأحكام التكليفية أيضا، وأنت ترى أن هذه الأدلة الثلاثة إنما تدل على مجرد أصل الاختلاف بين الفعل الواحد كلا وجزءا، ولكن هل ذلك مطرد ومطرود بمعنى؟ وفي كل الأحكام الخمسة كما هي أصل الدعوى، أو في بعضها فقط؟ ا. هـ. "د".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"خ".
3 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، 2/ 704-705/ رقم 1017"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة، 5/ 75-77"، والترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما جاء فيمن دعا إلى هوى فاتبع أو إلى ضلالة/ رقم 2675"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب من سن سنة حسنة أو سيئة/ رقم 203"، وأحمد في "المسند" "4/ 357-359"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 175-176" من حديث جرير -رضي الله عنه- بلفظ:
"من سن في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص =

 

ج / 1 ص -223-       أول من سن القتل"1، وقد عدت سيئة العالم كبيرة لهذا السبب, وإن كانت في نفسها صغيرة، والأدلة على هذا الأصل تبلغ القطع على كثرتها وهي توضح ما دللنا عليه من كون الأفعال تعتبر بحسب الجزئية والكلية، وهو المطلوب.
المسألة الثالثة: اختلافات المباح
المباح يطلق بإطلاقين:
أحدهما: من حيث هو مخير فيه بين الفعل والترك.
والآخر: من حيث يقال: لا حرج فيه، وعلى الجملة؛ فهو على أربعة أقسام2:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=
من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة؛ كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "فيدخل في معنى "سن" السنن استنباط الرجل لأصل أو حكم شرعي ينبني عليه عمل صالح, أو ابتكاره مشروعا، أو نظاما له أثر في إصلاح شأن وتأييد قوة الدفاع عن حقوق البلاد كما يتناول إظهاره عملا نافعا يترتب على قيامه به بين الناس اقتداؤهم بأثره، وإن عرف حكمه من قبل، وسبب ورود الحديث كان من هذا القبيل؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله حين جاء رجل من الأنصار بصرة من وَرِق لتنفق على أناس من الأعراب كانوا في حاجه، ثم جاء آخر، وتتابع المسلمون على ذلك، وكذلك يجري معنى سن السنن السيئة على نظير هذا البيان".
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته، 6/ 364/ رقم 3335"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القسامة، باب بيان إثم من سن القتل، 3/ 1303-1304/ رقم 1677"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب تحريم الدم، باب منه، 7/ 81-82"، وابن أبي عاصم في "الديات" "ص23" وغيرهم من حديث ابن مسعود, رضي الله عنه.
في "د": "لا تقتل ظلما", ولا معنى لزيادة "لا" في هذا الموضع؛ إلا إن كانت: "لا تقتل..."، والتصحيح من الأصل.
2 انظر حولها: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 460-462".

 

ج / 1 ص -224-       أحدها: أن يكون خادما لأمر مطلوب الفعل.
والثاني: أن يكون خادما لأمر مطلوب الترك.
والثالث1: أن يكون خادما لمخير فيه.
والرابع: أن لا يكون فيه شيء من ذلك.
فأما الأول؛ فهو المباح بالجزء، المطلوب الفعل بالكل، وأما الثاني؛ فهو المباح بالجزء، المطلوب الترك بالكل، بمعنى أن المداومة عليه منهي عنها، وأما الثالث والرابع؛ فراجعان إلى هذا القسم الثاني.
ومعنى هذه الجملة؛ أن المباح -كما مر- يعتبر بما يكون خادما له إن كان خادما، والخدمة هنا2 قد تكون في طرف الترك؛ كترك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ستعرف أنه على ما قرره لا يكون هذا التقسيم ظاهرا؛ فلا يتأتى وجود الثالث والرابع. "د".
وكتب ناسخ الأصل ما صورته:
"قوله: والثالث أن يكون خادما لمخير فيه... إلخ, فإن قيل عليه: انظر ما قرره في هذه من أن خادم المخير فيه من مطلوب الترك؛ فالكل مع ما يقرره فيما بعدها من أن المخير فيه مطلوب الفعل بالكل؛ إذ مقتضاه أن يكون خادمه مثله.
قيل: الذي فيما بعدها هو أن مطلوب الفعل بالكل هو المخير فيه، وذلك يقتضي حصر المطلوب الكلي في المخير، فلا يلزم أن يكون كل مخير مطلوب الفعل؛ فلا تنافي بين كلاميه، ويدل عليه ما ذكره في هذه من أن القسم الثالث مثل الرابع؛ لأنه خادم له؛ فدل هذا على أن المخير فيه تارة يكون خادما لمطلوب الفعل بالكل، وتارة يكون خادما فيه غير خادم لشيء.
2 أي: في موضوع المباح قد تكون في طرف الترك، وقد تكون في طرف الفعل؛ أي: في كل من القسمين الأول والثاني، وإن اقتصر في التمثيل على جانب الترك في القسم الثاني, وجانب الفعل في القسم الأول، وتوضيح ذلك على هذا الفهم أن يقال: ترك سماع الغناء جزئيا خادم لترك =

 

ج / 1 ص -225-       الدوام1 على التنزه في البساتين، وسماع تغريد الحمام، والغناء المباح، فإن ذلك هو المطلوب2، وقد يكون3 في طرف الفعل؛ كالاستمتاع بالحلال من الطيبات، فإن الدوام فيه بحسب الإمكان من غير سرف مطلوب، من حيث هو خادم لمطلوب وهو أصل الضروريات4، بخلاف المطلوب الترك؛ فإنه5 خادم لما يضادها6، وهو الفراغ من الاشتغال بها، والخادم للمخير فيه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الدوام المطلوب، ونفس السماع خادم للمطلوب الترك وهو الكلي من اللهو، والتمتع بالطيبات خادم لكلي إقامة الضروري، وترك الجزئي خادم للترك الكلي المنهي عنه.
وقد أشار إلى مطلوب الترك كليا فيما يخدمه من جانب الفعل؛ فقال: "بخلاف المطلوب الترك" يعني: الجزئي الذي يخدم كليا مطلوب الترك؛ فإنه يكون خادما لما يضادها وهو الفراغ في الاشتغال بها.
ويحتمل أن يكون قوله "هنا"؛ أي: في خصوص مطلوب الفعل كليا، فإنه يكون بالترك؛ كمثال الغناء, وبالفعل كمثال الاستمتاع بالطيبات، وربما رشح هذا الاحتمال قوله بعد المثال الأول: "فإن ذلك هو المطلوب". "د".
1 لو قال: كترك التنزه في البساتين وسماع تغريد الحمام؛ فإنه مباح خادم لترك الدوام على التنزه وهو المطلوب، لكان جاريا مع بيانه بعد في طرف الفعل، ولظهر غرضه من أن مطلوب الفعل كما يخدمه الفعل يخدمه الترك إذا أجرينا كلامه على الاحتمال الثاني الذي أشرنا إليه. "د".
2 لأنه يخدم كليا مطلوبا هو إقامة الحياة. "د".
3 في النسخ المطبوعة: "تكون"؛ بالتاء المثناة الفوقية.
4 هو إقامة الحياة. "د".
5 أي: فعل جزئيه خادم؛ أي: فالمطلوب الترك كليا يخدمه فعل المباح، وعلى ما قررنا أولا قد يخدمه أيضا، أي: يحققه ويعين على حصوله ترك المباح، وذلك كترك الاستمتاع بالمباح كليا؛ فإنه مطلوب الترك، ويخدمه مباح أهله وترك الاستمتاع بها جزئيا، وإن كان قد اقتصر على بيان خدمته جانب الفعل كما أشرنا إليه. "د".
6 فإن الاشتغال باللهو الجزئي يتكون منه ومن جزئيات اللهو أمثاله فراغ من الاشتغال بالضروريات؛ فاللهو الجزئي خادم للهو الكلي الذي يضاد الضروريات. "د".

 

ج / 1 ص -226-       على حكمه1.
وأما الرابع؛ فلما كان غير خادم لشيء يعتد به؛ كان عبثا، أو كالعبث عند العقلاء، فصار مطلوب الترك [أيضا]2؛ لأنه صار خادما لقطع الزمان في غير مصلحة دين ولا دنيا، فهو إذًا خادم [لمطلوب3 الترك؛ فصار مطلوب]4 الترك بالكل، والقسم الثالث مثله أيضا لأنه خادم له؛ فصار مطلوب الترك أيضا.
وتلخص أن كل مباح ليس بمباح بإطلاق، وإنما هو مباح بالجزء خاصة، وأما بالكل؛ فهو إما مطلوب الفعل، أو مطلوب الترك.
فإن قيل: أفلا يكون هذا التقرير نقضا لما تقدم من أن المباح هو المتساوي الطرفين؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مخير فيه، هذا إذا كان المخدوم المحذوف جزئيا؛ كالمشي المباح لسماع الغناء مثلا؛ فلا ينافي أنه يأخذ -وهو كلي- حكما من الأحكام الباقية غير المباح، كما سبق، وبهذا يمكن تصوير مباح خادم لمخير، لكن قوله بعده: "والقسم الثالث مثله لأنه خادم له" يقتضي أنه خادم لمخير كلي, ويكون قوله في أول المسألة: "والثالث أن يكون خادما لمخير فيه"؛ أي: كلي, وقوله: "والرابع ألا يكون خادما لشيء من ذلك"؛ أي: إنه مباح لا يخدم كليا مطلقا، أو لا يخدم كليا مطلوب الفعل أو مطلوب الترك، ولا يخفى عليك أن هذا التقسيم بهذا المعنى لا يستقيم مع ما سبق من القاعدة التي أسهب في أدلتها، وهي أن المباح بالجزء لا بد أن يأخذ حكما آخر إذا نظر إليه كليا؛ فكيف يتصور أن يخدم المباح كليا مخيرا فيه أو كليا لا حكم له من الأحكام؟ على أنه سيصرح بأن القسمين الثالث والرابع من باب المطلوب الترك بالكل هو حكمه؛ فيقال: فيما يخدم المطلوب مطلوب بالكل، وما يخدم المنهي عنه، يقال: مطلوب بالترك بالكل، وكان يمكنه إدماجها في أثناء سابقتها؛ فتأمل. "د".
2 ليست في الأصل.
3 في الأصل: "المطلوب".
4 ليست في الأصل.

 

ج / 1 ص -227-       فالجواب أن لا؛ لأن ذلك الذي تقدم هو من حيث النظر إليه في نفسه، من غير اعتبار أمر خارج، وهذا النظر من حيث اعتباره بالأمور الخارجة عنه، فإذا نظرت إليه في نفسه؛ فهو الذي سمي هنا المباح بالجزء، وإذا نظرت إليه بحسب الأمور الخارجة؛ فهو المسمى بالمطلوب بالكل1، فأنت ترى أن هذا الثوب الحسن مثلا مباح اللبس، قد استوى في نظر الشرع فعله وتركه؛ فلا قصد له في أحد الأمرين، وهذا معقول واقع بهذا الاعتبار المقتصر به على ذات المباح من حيث هو كذلك، وهو -من جهة ما هو وقاية للحر والبرد، وموار للسوأة، وجمال في النظر- مطلوب الفعل، وهذا النظر غير مختص بهذا الثوب المعين, ولا بهذا الوقت المعين؛ فهو نظر بالكل لا بالجزء.
المسألة الرابعة: انواع المباح
إذا قيل في المباح: إنه لا حرج فيه -وذلك في أحد الإطلاقين المذكورين- فليس بداخل تحت التخيير بين الفعل والترك؛ لوجوه:
أحدها: أنا إنما فرقنا بينهما بعد فهمنا من الشريعة القصد إلى التفرقة:
فالقسم المطلوب الفعل بالكل هو الذي جاء فيه التخيير بين الفعل والترك؛ كقوله تعالى:
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].
وقوله:
{وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني مثلا، وإلا؛ فالنظر إليه بالأمور الخارجية يجعله؛ إما من هذا، وإما من المسمى بالمطلوب الترك بالكل كما تقدم في اللهو، وبالجملة؛ فهذه المسألة لم تقرر قاعدة وأصلا زائدة على ما تقدم في المسألة قبلها، بل هي زيادة إيضاح لمسلك فهم مغايرة حكم الكلي للجزئي، وذلك باعتبار ضابط هو الخدمة، فما يخدمه الجزئي يأخذ هو حكمه؛ فيقال فيما يخدم المطلوب: مطلوب بالكل، وما يخدم المنهي عنه يقال: مطلوب الترك بالكل، وكان يمكنه إدماجها في أثناء سابقتها؛ فتأمل. "د".

 

ج / 1 ص -228-       {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} [البقرة: 58].
والآية الأخرى في معناها؛ فهذا تخيير حقيقة.
وأيضا؛ فالأمر في المطلقات -إذا كان الأمر للإباحة- يقتضي التخيير حقيقة؛ كقوله تعالى:
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2].
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].
{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الأعراف: 160].
وما أشبه ذلك؛ فإن إطلاقه -مع أنه يكون على وجوه- واضح في التخيير في تلك الوجوه؛ إلا ما قام الدليل على خروجه عن ذلك.
وأما القسم المطلوب الترك بالكل؛ فلا نعلم في الشريعة ما يدل على حقيقة التخيير فيه نصا، بل هو مسكوت عنه، أو مشار إلى بعضه بعبارة تخرجه عن حكم التخيير الصريح؛ كتسمية الدنيا لعبا ولهوا في معرض الذم لمن ركن إليها، فإنها مشعرة بأن اللهو غير مخير فيه، وجاء:
{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11]، وهو الطبل أو ما في معناه، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6].
وما تقدم من قول بعض الصحابة1: حدثنا يا رسول الله -حين ملوا ملة- فأنزل الله, عز وجل:
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23].
وفي الحديث:
"كل لهو باطل"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه "ص50".
2 تقدم تخريجه "ص202".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "وذكر القوس بجانب الرمي؛ لأنه المعروف في ذلك العصر، والحكم =

 

ج / 1 ص -229-       وما أشبه ذلك من العبارات التي لا تجتمع مع التخيير في الغالب، فإذا ورد في الشرع بعض هذه الأمور مقدرة1، أو كان فيها بعض الفسحة في بعض الأوقات2 أو بعض الأحوال؛ فمعنى نفي الحرج على معنى الحديث الآخر: "وما سكت عنه؛ فهو عفو"3؛ أي: مما عفا عنه، وهذا إنما يعبر به في العادة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= من حيث المعنى شامل لسائر أنواع الرماية على اختلاف آلاتها، كما أن العلة في استثناء تأديب الفرس من الباطل، وهي التوسل به إلى القيام بواجب الجهاد تقتضي أن يلحق بالفرس في استحسان العناية بها والتدرب على إدارة عنانها حسب الإرادة كل ما اخترع من المراكب البحرية والبرية والجوية، وتعين اتخاذه في وسائل الدفاع عن البلاد وحماية الحقوق. "خ".
قلت: ويلحق بالرمي بالنشاب الأسلحة النارية في أيامنا، ومن الغباوة الجمود على الرمي بالنصل على ظاهر الحديث؛ فإن التحريض عليه ليس إلا للجهاد، وليس فيه معنى وراءه، ولما لم يبق الجهاد بالنشاب والأقواس؛ لم يبق فيه معنى مقصود، فلا تحريض فيها، ومن هذه الغباوة ذهبت سلطنة "بخارى", حيث استفتى السلطان من علماء زمانه بشراء بعض الآلات الكائنة في زمنه؛ فمنعوه، وقالوا: إنها بدعة، فلم يدعوه أن يشتريها، حتى كانت عاقبة أمرهم أنهم انهزموا، وتسلط عليهم الروس، ونعوذ بالله من الجهل، قاله الكشميري في "فيض الباري شرح صحيح البخاري" "3/ 435" ونحوه عند المطيعي في "تكملة المجموع" "15/ 203"، والساعاتي في "الفتح الرباني" "13/ 130".
1 أي: بحال مخصوصة كما ورد:
"أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدفوف"، وكما ورد في سؤاله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة لما حضرت زواج الجارية الأنصارية: "أما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو" "د".
2 كما ورد في لعب الحبشة في المسجد يوم العيد. "د".
3 أخرج الحاكم في "المستدرك" "2/ 375"، والبزار في "مسنده" "رقم 123، 2231، 2855- زوائده"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 12" عن أبي الدرداء مرفوعا:
"ما أحل الله في كتابه؛ فهو حلال، وما حرم؛ فهو حرام، وما سكت عنه؛ فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته؛ فإن الله لم يكن لينسى شيئا".
وإسناده حسن، ورجاله موثقون؛ كما قال الهيثمي في "المجمع" "1/ 171"، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد"، وقال البزار: "إسناده صالح"، وحسن إسناده شيخنا الألباني في "غاية المرام" "رقم 2".
وفي الباب عن سلمان وعائشة وابن عمر ومرسل الحسن وعن ابن عباس موقوفا.

 

ج / 1 ص -230-       إشعار بأن فيه ما يعفى عنه، أو ما هو مظنة عنه، أو هو مظنة لذلك فيما تجري به العادات.
وحاصل الفرق؛ أن الواحد1 صريح في رفع الإثم والجناح، وإن كان قد2 يلزمه الإذن في الفعل والترك إن قيل به؛ إلا أن قصد اللفظ فيه نفي الإثم خاصة، وأما الإذن؛ فمن باب "ما لا يتم3 الواجب إلا به"، أو من باب "الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده أم لا"، و"النهي عن الشيء هل هو أمر بأحد أضداده4 أم لا"، والآخر صريح في نفس التخيير، وإن كان قد يلزمه نفي الحرج عن الفعل؛ فقصد اللفظ فيه التخيير خاصة، وأما رفع الحرج؛ فمن تلك الأبواب.
والدليل عليه أن رفع الجناح5 قد يكون مع الواجب؛ كقوله تعالى:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من هذين الإطلاقين للمباح، وهو ما لا حرج فيه. "د".
2 أي: وقد لا يلزمه الإذن فيهما، كما سيأتي له أنه يكون مع مخالفة المندوب ومع الواجب الفعل. "د".
3 أي: شبيه بهذه الأبواب وقريب من طريقها لا أنه منها حقيقة كما هو ظاهر. "د".
4 أورد المصنف هذه المسائل الثلاث على سبيل التنظير لوجه استلزام معنى نفي الحرج للإذن في الفعل والترك؛ فاللفظ المعبر به عن رفع الجناح يتضمن الإذن في الفعل والترك، كما أن الأمر بالواجب يتضمن طلب ما لا يتم ذلك الواجب إلا به، والأمر بالشيء يتضمن ترك كل ما هو ضد له، والنهي عن الشيء يتضمن فعل أحد أضداده. "خ".
5 أي: على هذا الفرق بين الإطلاقين، وهذا أظهر الأدلة الثلاثة، وإن كان لا يطلق عليه لفظ المباح حتى يدرج في هذا القسم؛ فالاستدلال من حيث إن كلمة رفع الجناح عامة ولا تقتضي التخيير. "د".

 

ج / 1 ص -231-       {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158].
وقد يكون مع مخالفة المندوب؛ كقوله:
{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}1 [النحل: 106].
فلو كان رفع الجناح يستلزم التخيير في الفعل والترك؛ لم يصح مع الواجب، ولا مع مخالفة المندوب، وليس كذلك التخيير المصرح به؛ فإنه لا يصح مع كون الفعل واجبا دون الترك، ولا مندوبا، [وبالعكس]2.
والثاني:
أن لفظ التخيير مفهوم منه قصد الشارع إلى تقرير الإذن في طرفي الفعل والترك، وأنهما على سواء في قصده، ورفع الحرج مسكوت عنه، وأما لفظ رفع الجناح؛ فمفهومه قصد الشارع إلى رفع الحرج في الفعل إن وقع من المكلف، وبقي الإذن في ذلك الفعل مسكوتا عنه، فيمكن أن يكون مقصودا له، لكن بالقصد الثاني, كما في الرخص؛ فإنها راجعة إلى رفع الحرج، كما سيأتي بيانه إن شاء الله؛ فالمصرح به في أحدهما مسكوت عنه في الآخر، وبالعكس، فلذلك إذا قال الشارع في أمر واقع: "لا حرج فيه"؛ فلا يؤخذ منه حكم الإباحة، إذ قد يكون كذلك، وقد يكون مكروها3، فإن المكروه بعد الوقوع لا حرج فيه؛ فليتفقد هذا في الأدلة.
والوجه الثالث:
مما يدل على أن ما لا حرج فيه غير مخير فيه على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليس في الآية لفظ رفع الجناح، ولكن فيها ما يفهمه، ولذلك أدرجها فيما فيه رفع الجناح مع أنه خلاف المندوب، وسيذكر في الدليل الثاني لفظ التخيير ولفظ رفع الحرج؛ فلا يتوهمن أن كلامه قاصر هناك على ما فيه اللفظان، بل غرضه اللفظ الدال على التخيير، وكذا اللفظ الدال على رفع الحرج، ولو لم يكن بعبارة التخيير ولا بعبارة الحرج. "د".
2 ليست في الأصل.
3 الجاري على ما سبق أن يقول: "وقد يكون واجبا أيضا". "د".

 

ج / 1 ص -232-       الإطلاق، أن1 المخير فيه لما كان هو الخادم للمطلوب الفعل؛ صار خارجا عن محض اتباع الهوى، بل اتباع الهوى فيه مقيد وتابع بالقصد الثاني، فصار الداخل فيه داخلا تحت الطلب بالكل؛ فلم يقع التخيير فيه إلا من حيث الجزء، ولما كان مطلوبا بالكل؛ وقع تحت الخارج عن اتباع الهوى من هذا الوجه، وقد عرفنا اعتناء الشارع بالكليات، والقصد إليها في التكاليف؛ فالجزئي الذي لا يخرمه ليس بقادح في مقتضاه، ولا هو مضاد له، بل هو مؤكد له؛ فاتباع الهوى في المخير فيه تأكيد لاتباع مقصود الشارع من جهة الكلي، فلا ضرر في اتباع الهوى هنا؛ لأنه اتباع لقصد الشارع ابتداء، وإنما اتباع الهوى فيه خادم له.
وأما قسم ما لا حرج فيه؛ فيكاد يكون شبيها باتباع الهوى المذموم، ألا ترى أنه كالمضاد لقصد الشارع في طلب النهي الكلي على الجملة، لكنه لقلته، وعدم دوامه، ومشاركته للخادم المطلوب الفعل بالعرض حسبما هو مذكور في موضعه؛ لم يحفل2 به، فدخل تحت المرفوع الحرج؛ إذ الجزئي منه لا يخرم أصلا مطلوبا، وإن كان فتحا لبابه في الجملة؛ فهو غير مؤثر من حيث هو جزئي حتى يجتمع مع غيره من جنسه، والاجتماع مقو، ومن هنالك يلتئم الكلي المنهي عنه، وهو المضاد للمطلوب فعله، وإذا ثبت أنه كاتباع الهوى من غير دخول3 تحت كلي أمر، اقتضت الضوابط الشرعية أن لا يكون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "وأن".
2 في الأصل: "يجعل".
3 بخلاف المخير؛ فإنه داخل تحت كلي أمر؛ فإنه كلية* مأمور به. "د".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: ".... تحت على أمر؛ فإن كلية..."!!

 

ج / 1 ص -233-       مخيرا فيه؛ تصريحا1 بما تقدم في قاعدة اتباع الهوى، وأنه مضاد للشريعة، [والله أعلم وبه التوفيق]2.
المسألة الخامسة: وصف المباح
أن المباح إنما يوصف بكونه مباحا إذا اعتبر فيه حظ المكلف فقط، فإن خرج عن ذلك القصد؛ كان له حكم آخر، والدليل على ذلك أن المباح -كما تقدم- هو ما خير فيه بين الفعل والترك، بحيث لا يقصد فيه من جهة الشرع إقدام ولا إحجام؛ فهو إذًا من هذا الوجه لا يترتب عليه أمر ضروري في الفعل أو في الترك، ولا حاجي، ولا تكميلي، من حيث هو جزئي؛ فهو راجع إلى نيل حظ عاجل خاصة، وكذلك المباح الذي يقال: "لا حرج فيه" أولى أن يكون راجعا إلى الحظ، وأيضا3؛ فالأمر والنهي راجعان إلى حفظ ما هو ضروري أو حاجي، أو تكميلي، وكل واحد منها قد فهم من الشارع قصده إليه، فما خرج عن ذلك؛ فهو مجرد نيل حظ، وقضاء وطر.
فإن قيل: فما الدليل على انحصار الأمر في المباح في حظ المكلف لا في غير ذلك، وأن الأمر والنهي راجعان إلى حق الله لا إلى حظ المكلف؟ ولعل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فتصريحا"، وفي "د": "فتصريح"، وكتب المعلق عليه: "ينظر في تصحيح التركيب"، والمثبت من "ط".
2 زيادة من الأصل و"ط".
3 ليس بعيدا عن الدليل الأول؛ فإنه يفيد أن الشارع قصد المأمور به والمنهي عنه لما يترتب على ذلك من حفظ الأمور الثلاثة، بخلاف المباح؛ فلم يقصده بفعل ولا ترك؛ لأنه لا يترتب عليه شيء من ذلك؛ فكان بمجرد اختيار المكلف وتابعا لهواه المحض وحظه الصرف، وهو الدليل الأول بعينه، غايته أن الأول سلك إلى الغرض من جهة المباح مباشرة، وهذا بواسطة الأمر والنهي؛ فهو تصوير آخر لنفس الدليل. "د".

 

ج / 1 ص -234-       بعض المباحات يصح فيه أن لا يؤخذ من جهة الحظ، كما صح في بعض المأمورات والمنهيات أن تؤخذ من جهة الحظ.
فالجواب: أن القاعدة المقررة؛ أن الشرائع إنما جيء بها لمصالح العباد؛ فالأمر، والنهي، والتخيير، جميعا راجعة إلى حظ المكلف ومصالحه؛ لأن الله غني عن الحظوظ، منزه عن الأغراض؛ غير أن الحظ على ضربين:
أحدهما:
داخل تحت الطلب، فللعبد أخذه من جهة الطلب؛ فلا يكون ساعيا في حضه, وهو مع ذلك لا يفوته حظه، لكنه آخذ له من جهة الطلب لا من حيث باعث نفسه، وهذا معنى كونه بريئا من الحظ، وقد يأخذه من حيث الحظ؛ إلا أنه لما كان داخلا تحت الطلب فطلبه1 من ذلك الوجه؛ صار حظه تابعا للطلب، فلحق بما قبله في التجرد عن الحظ، وسمي باسمه، وهذا مقرر في موضعه من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.
والثاني:
غير داخل تحت الطلب؛ فلا يكون آخذا له إلا من جهة إرادته واختياره؛ لأن الطلب مرفوع عنه بالفرض، فهو قد أخذه إذًا من جهة حظه، فلهذا يقال في المباح: إنه العمل المأذون فيه، المقصود به مجرد الحظ الدنيوي خاصة.
المسألة السادسة: الأحكام الخمسة
الأحكام الخمسة إنما تتعلق بالأفعال، والتروك بالمقاصد2، فإذا عريت عن المقاصد؛ لم تتعلق بها، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: ما ثبت من أن الأعمال بالنيات، وهو أصل متفق عليه في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بصيغة الفعل؛ فصح قوله: "صار حظه... إلخ". "د".
2 أي: النيات. "ماء".

 

ج / 1 ص -235-       الجملة، والأدلة عليه لا تقصر عن مبلغ القطع1، ومعناه أن مجرد الأعمال من حيث هي محسوسة فقط غير معتبرة شرعا على حال؛ إلا ما قام الدليل على اعتباره في باب خطاب الوضع خاصة2، أما في غير ذلك؛ فالقاعدة مستمرة، وإذا لم تكن معتبرة حتى تقترن بها المقاصد؛ كان مجردها في الشرع بمثابة حركات العجماوات والجمادات، والأحكام الخمسة لا تتعلق بها عقلا ولا سمعا؛ فكذلك ما كان مثلها.
والثاني: ما ثبت من عدم اعتبار الأفعال الصادرة من المجنون والنائم والصبي والمغمى عليه، وأنها لا حكم لها في الشرع بأن يقال فيها: جائز، أو ممنوع، أو واجب، أو غير ذلك؛ كما لا اعتبار بها من البهائم.
وفي القرآن:
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5].
وقال:
{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
قال:
"قد فعلت"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "18/ 256 و26/ 23-29".
2 يمتاز خطاب التكليف عن خطاب الوضع بأنه لا يتعلق إلا بفعل المكلف المكسوب له، وشرط صحته علم المكلف به وقصده إليه، أما خطاب الوضع؛ فقد يتعلق بفعل غير المكلف كوجوب ضمان ما يتلفه الصبي أو الدية، ويتعلق بغيره بما لا كسب له فيه؛ كوجوب الدية على العاقلة في قتل الخطأ، ولا يشترط في نفاذه علم المكلف أو قصده؛ فيتقرر له الإرث بموت من يحق له إرثه، ويطلق عليه الحاكم زوجته بثبوت الضرر وإن كان غائبا. "خ".
3 قطعة من حديث طويل أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، 1/ 116/ رقم 126"، والترمذي في "الجامع" "رقم 2992"، وأحمد في "المسند" "1/ 233"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 286"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 5046" من حديث ابن عباس, رضي الله عنهما.

 

ج / 1 ص -236-       وفي معناه روي الحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"1، وإن لم يصح سندا؛ فمعناه متفق على صحته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 573"، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" "1/ 90-91" من طريق جعفر بن جسر عن أبيه عن الحسن عن أبي بكرة مرفوعا: "رفع الله -عز وجل- عن هذه الأمة الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه"، وإسناده ضعيف، فيه جعفر بن جسر في حفظه اضطراب شديد، كان يذهب إلى القدر, وحدث بمناكير، وأبوه مضعف. انظر: "الميزان" "1/ 403-404".
وأخرجه الفضل بن جعفر التميمي المعروف بـ"أخي عاصم" في "فوائده" -كما في "التلخيص الحبير" "1/ 283"- من حديث ابن عباس:
"رفع الله عن أمتي..."، وعزاه بلفظ المصنف السيوطي في "الجامع الصغير" "2/ 16" إلى الطبراني من حديث ثوبان، وهو خطأ، ولفظ الطبراني في "الكبير" "2/ 94/ رقم 1430": "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ..."، وتابع السيوطي على هذا الوهم: المناوي في "الفيض" "4/ 35"، وأقر السيوطي شيخنا الألباني في "صحيح الجامع" "رقم 3515"، ولكنه نبه في "الإرواء" "رقم 82" أنه منكر بلفظ: "رفع عن أمتي...".
وأخرجه ابن ماجه في "السنن" "كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، 1/ 659/ رقم 2045" من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس رفعه بلفظ:
"إن الله تجاوز لي عن أمتي...".
وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 95"، والدارقطني في "سننه" "4/ 170-171"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 198"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 356"، وابن حبان في "صحيحه" "رقم 2045"، وابن حزم في "الإحكام" "5/ 149" من طريق الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس مرفوعا.
وهذا إسناد صحيح، وقد أعله أحمد في "العلل" "1/ 227" بالنكرة، وأبو حاتم في "العلل" "1/ 431" بالانقطاع؛ فقال: "لم يسمع الأوزاعي هذا الحديث من عطاء"!! ورجح شيخنا الألباني في "الإرواء" "رقم 82" صحة هذا الطريق، وعلى كلٍّ؛ الحديث له شواهد عديدة، ولحديث ابن عباس طرق كثيرة يصل معها إلى درجة الصحة، وحسنه النووي في "أربعينه" "رقم  39"، ولأحمد الغماري جزء بعنوان: "شهود العيان بثبوت حديث:
"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"، وصححه ابن حبان والضياء المقدسي والذهبي والسخاوي في "المقاصد" "ص229" وجماعة.

 

ج / 1 ص -237-       وفي الحديث أيضا: "رفع القلم عن ثلاث"1؛ فذكر "الصبي حتى يحتلم، والمغمى عليه حتى يفيق"؛ فجميع هؤلاء لا قصد لهم، وهي العلة في رفع أحكام التكليف عنهم.
والثالث:
الإجماع على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع في الشريعة، وتكليف من لا قصد له تكليف ما لا يطاق2.
فإن قيل: هذا في الطلب، وأما المباح؛ فلا تكليف فيه، قيل: متى صح [تعلق التخيير؛ صح]3 تعلق الطلب، وذلك يستلزم قصد المخير، وقد فرضناه غير قاصد، هذا خلف.
ولا يعترض هذا بتعلق الغرامات والزكاة بالأطفال والمجانين وغير ذلك؛ لأن هذا من قبيل خطاب الوضع، وكلامنا في خطاب التكليف، ولا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق، 4/ 558/ رقم 4398"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطلاق, باب من لا يقع طلاقه من الأزواج، 6/ 156"، وابن ماجه في السنن" "كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم, 1/ 657/ رقم 2041"، وأحمد في "المسند" "6/ 100-101، 144"، وإسحاق بن راهويه في "المسند" "رقم 1713"، والدارمي في "السنن" "2/ 171", وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 148"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1496- موارد", والحاكم في "المستدرك" "2/ 59"، وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين" "رقم 1003" من طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة، وإسناده صحيح.
وفي الباب عن علي وابن عباس وأبي هريرة وأنس وأبي قتادة -رضي الله عنهم- ولا يتسع المقام للتفصيل.
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "1/ 344-348 و22/ 100-102".
3 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.

 

ج / 1 ص -238-       بالسكران1؛ لقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]؛ فإنه قد أجيب عنه في أصول الفقه2؛ ولأنه في عقوده وبيوعه محجور عليه لحق نفسه كما حجر على الصبي والمجنون، وفي سواهما3 لما أدخل السكر على نفسه؛ كان كالقاصد لرفع الأحكام التكليفية؛ فعومل بنقيض المقصود، أو لأن الشرب سبب لمفاسد كثيرة، فصار استعماله4 له تسببا في تلك المفاسد، فيؤاخذه الشرع بها وإن لم يقصدها، كما وقعت مؤاخذة أحد ابني آدم بكل نفس تقتل ظلما، وكما يؤاخذ الزاني بمقتضى المفسدة في اختلاط الأنساب وإن لم يقع منه غير الإيلاج المحرم، ونظائر ذلك كثيرة؛ فالأصل صحيح، والاعتراض عليه غير وارد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السكران المنتشي وهو من لا يزال حاضر الذهن بحيث يتصور معنى الخطاب يجري في التكليف على حكم العقلاء بإجماع، أما الطافح الذي اختل شعوره وأخذ يقذف بالهذيان؛ فلا ينفذ عليه ما يصدر عنه من إقرار وعقود ومعاملات، ولكن يخاطب بعد الإفاقة بقضاء ما أدركه من الواجبات؛ كالصوم، والصلاة، ويؤاخذ بما يقترفه من الجناية على الأنفس أو الأموال، واختلف الأئمة في حكم طلاقه؛ فنفذه عليه قوم، وعده آخرون لاغية، قال ابن رشد في "بداية المجتهد": "وثبت عن عثمان -رضي الله عنه- أنه كان لا يرى طلاق السكران، وزعم بعض أهل العلم أنه لا مخالف لعثمان في ذلك من الصحابة"، وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين" الثابت عن الصحابة الذي لا يعلم فيه خلاف بينهم؛ أن السكران لا يقع طلاقه. "خ".
2 الجواب: أن النهي عائد إلى السكر عند إرادة الصلاة كما يقال لمن أراد التهجد: لا تتهجد وأنت شبعان، والمراد: لا تملأ بطنك بالطعام إن كنت تريد التهجد حتى تنهض إليه بنشاط وتقبل عليه بصفاء نفس وارتياح, والنهي على هذا الوجه يقتضي أن لا يتناولوا الخمر حيث يعلمون أن أثرها من السكر يستغرق وقت الصلاة "خ".
3 في "ط": "وفيما سواها".
4 فقد استعمله وهو عاقل يعلم أنه يجر إلى مفاسد كثيرة وإن لم يقصد حصولها فيؤاخذ بها، والزاني ما شددت عليه العقوبة بالجلد والقتل إلا للمآلات التي قد تسبب عن فعله، وهو يعرف هذا التسبب وإن لم يقصده من الفعل، ولا خطر بباله حينه، وسيأتي في المسألة الثامنة من السبب؛ أن إيقاع المسبب بمنزلة إيقاع السبب، قصد ذلك المسبب أو لا. "د".

 

ج / 1 ص -239-       المسألة السابعة: المندوب
المندوب إذا اعتبرته اعتبارا أعم1 من الاعتبار المتقدم؛ وجدته خادما للواجب لأنه إما مقدمة له، [أو تكميل له]2، أو تذكار به، كان من جنس الواجب أو لا.
فالذي من جنسه؛ كنوافل الصلوات مع فرائضها، ونوافل الصيام والصدقة والحج، وغير ذلك مع فرائضها.
والذي من غير جنسه؛ كطهارة الخبث في الجسد والثوب والمصلى، والسواك، وأخذ الزينة، وغير ذلك مع الصلاة، وكتعجيل الإفطار، وتأخير السحور، وكف اللسان عما لا يعني مع الصيام، وما أشبه ذلك.
فإذا كان كذلك؛ فهو لاحق بقسم الواجب بالكل، وقلما يشذ عنه مندوب يكون مندوبا بالكل والجزء، ويحتمل هذا المعنى تقريرا، ولكن ما تقدم مغن3 عنه بحول الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يريد في هذه المقدمة أن يتوسع في أن المندوب بالجزء يكون واجبا بالكل؛ فيجعله شاملا لغير السنن المؤكدة ورواتب النوافل التي اقتصر عليها في الفصل الأول من المسألة الثانية، ويقول: إنه قلما يشذ مندوب عن ذلك. "د".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"خ".
3 مدار الدليل فيما تقدم أن تركها جملة واحدة يجرح التارك لها، وأيضا؛ فإنه مؤثر في أوضاع الدين, فهل هذا وذاك يجري هنا في المندوبات التي لا كراهة في تركها وليست كالسنن التي بنى عليها القاعدة السابقة؟ فإذا كان لا كراهة في تركها؛ فكيف يجرح التارك لها؟ وكيف تؤثر على أوضاع الدين؟ فالموضع يحتاج إلى فضل نظر في ذاته وفي دعوى أن ما تقدم يغني* هنا. "د".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "يعني" بالعين المهملة.

 

ج / 1 ص -240-       فصل:
المكروه إذا اعتبرته كذلك مع الممنوع؛ كان كالمندوب مع الواجب، وبعض الواجبات منه ما يكون مقصودا، وهو أعظمها، ومنه ما يكون وسيلة وخادما للمقصود1؛ كطهارة الحدث، وستر العورة، واستقبال القبلة، والأذان للتعريف بالأوقات وإظهار شعائر الإسلام مع الصلاة، فمن حيث كان وسيلة حكمه مع المقصود حكم المندوب مع الواجب يكون وجوبه بالجزء دون2 وجوبه بالكل، وكذلك بعض الممنوعات منه ما يكون مقصودا، ومنه ما يكون وسيلة له؛ كالواجب حرفا بحرف؛ فتأمل ذلك.
المسألة الثامنة: الواجبات أو المندوبات
ما حد له الشارع وقتا محدودا من الواجبات أو المندوبات؛ فإيقاعه في وقته لا تقصير فيه شرعا، ولا عتب، ولا ذم، وإنما العتب والذم في إخراجه عن وقته، سواء علينا أكان وقته مضيقا أو موسعا3؛ لأمرين:
أحدهما:
أن حد الوقت؛ إما أن يكون لمعنى قصده الشارع، أو لغير معنى، وباطل أن يكون لغير معنى؛ فلم يبق إلا أن يكون لمعنى، وذلك المعنى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "المقصود".
2 أي: فلا يتأكد الوجوب فيه تأكده في المقصود، وينبني عليه أن إثم تركه والثواب على فعله لا يساوي الواجب المقصود. "د".
3 بنى المسألة على مذهب الجمهور في الموسع، وهو أن هناك وقتا موسعا لبعض المطلوبات لو أوقعها المكلف في أي جزء منه لا إثم فيه، ويريد هنا أن يقول: بل ولا تقصير ولا عتب أيضا، والأفضلية في السبق أول الوقت شيء آخر لا يلزم منه أن يكون إيقاعه آخر الوقت تقصيرا موجبا للعتاب. "د".
قلت: وانظر في تحقيق المسألة "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 299-302".

 

ج / 1 ص -241-       هو أن يوقع الفعل فيه، فإذا وقع فيه؛ فذلك مقصود الشارع من ذلك التوقيت، وهو يقتضي -قطعا- موافقة الأمر في ذلك الفعل الواقع فيه، فلو كان فيه عتب أو ذم؛ للزم أن يكون لمخالفة قصد الشارع في إيقاعه في ذلك الوقت الذي وقع فيه العتب بسببه، وقد فرضناه موافقا، هذا خلف.
والثاني:
أنه لو كان كذلك؛ للزم أن يكون الجزء من الوقت الذي وقع فيه العتب، ليس من الوقت المعين؛ لأنا قد فرضنا الوقت المعين مخيرا في أجزائه إن كان موسعا، والعتب مع التخيير متنافيان؛ فلا بد أن يكون خارجا عنه، وقد فرضناه جزءا من أجزائه، هذا خلف محال، وظهور هذا المعنى غير محتاج إلى دليل.
فإن قيل: قد ثبت أصل طلب المسارعة إلى الخيرات والمسابقة إليها، وهو أصل قطعي، وذلك لا يختص ببعض الأوقات دون بعض، ولا ببعض الأحوال دون بعض، وإذا1 كان السبق إلى الخيرات مطلوبا بلا بد؛ فالمقصر عنه معدود في المقصرين والمفرطين، ولا شك أن من كان هكذا؛ فالعتب2 لاحق به في تفريطه وتقصيره؛ فكيف يقال لا عتب عليه؟
ويدل على تحقيق هذا ما روي عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه لما سمع قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله"3؛ قال:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "إذا" بدون واو، وفي الأصل و"خ": "وإن".
2 تحرفت في "د": "فالمتعب" بتقديم المثناة.
3 أخرجه الدارقطني في "السنن" "1/ 249"، ومن طريقه أحمد عيسى المقدسي في "فضائل جرير" "2/ ق 238/ ب"، وابن الجوزي في "التحقيق" "1/ 647- مع التنقيح" عن جرير بن عبد الله بسند واه بمرة، فيه عبيد بن القاسم، متروك، كذبه ابن معين واتهمه أبو داود بالوضع.
وأخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 272"، والدارقطني في "السنن" "1/ 249"، وابن =

 

ج / 1 ص -242-       رضوان الله أحب إلينا من عفوه؛ فإن رضوانه للمحسنين، وعفوه عن المقصرين.
وفي مذهب مالك ما يدل على هذا أيضا؛ فقد قال في المسافرين يقدمون.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عدي في "الكامل" "7/ 2606"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 189"، والبيهقي في "الكبرى" "1/ 435"، وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 388" من طريق يعقوب بن الوليد، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا... فذكره، قال ابن حبان في "المجروحين" "3/ 138":
"ما رواه إلا يعقوب بن الوليد المدني".
قلت: وهو متهم بالكذب، قال أحمد: "كان من الكذابين الكبار", وقال الحاكم: "يعقوب بن الوليد هذا شيخ من أهل المدينة، سكن بغداد، وليس من شرط هذا الكتاب؛ إلا أنه شاهد".
قلت: لا يفرح به؛ فالشاهد كالعاضد؛ فما فائدته إذا لم تكن فيه قوة؟! وهذا ساقط ولذا تعقبه الذهبي بقوله: "يعقوب كذاب"، وقال ابن عدي: "هذا الحديث بهذا الإسناد باطل".
وله شاهد من حديث أنس -رضي الله عنه- أخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 509"، وعنه ابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 388" من طريق بقية بن الوليد عن عبد الله مولى عثمان بن عفان حدثني عبد العزيز حدثني محمد بن سيرين عن أنس بن مالك؛ فذكره مرفوعا. قال ابن عدي: "وهذا بهذا الإسناد لا يرويه غير بقية، وهو من الأحاديث التي يحدث بها بقية عن المجهولين؛ لأن عبد الله مولى عثمان، وعبد العزيز الذي ذكر في هذا الإسناد لا يعرفان..." وتبعه ابن الجوزي.
وآخر من حديث أبي محذورة -رضي الله عنه- أخرجه ابن عدي "1/ 255" من طريق إبراهيم بن زكريا ثنا إبراهيم بن أبي محذورة مؤذن مسجد مكة؛ قال: حدثني أبي، عن جدي مرفوعا... فذكره. قال ابن عدي: "وهذا الحديث بهذا الإسناد يرويه إبراهيم بن زكريا".
قلت: وإبراهيم كان يحدث عن الثقات بالبواطيل كما قال ابن عدي، قال ابن حبان: "يأتي عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات، إن لم يكن بالمتعمد؛ فهو المدلس عن الكذابين...".
وبالجملة؛ فالحديث ضعيف جدا، بل قال أبو حاتم: "موضوع"؛ كما في "نصب الراية" "1/ 127".
وذكر الزيلعي في "نصب الراية" "1/ 243" أن الإمام أحمد سئل عن هذا الحديث؛ فقال: "من روى هذا؟ ليس هذا يثبت".
وقد ضعفه جماعة، وورد نحوه في أحاديث فيها مقال، انظر: "تنقيح التحقيق" "1/ 646 وما بعدها"، و"الإرواء" "رقم 259"، وسيأتي تضعيف المصنف له "ص246".

 

ج / 1 ص -243-       الرجل لسنه يصلي1 بهم فيسفر بصلاة الصبح، قال: "يصلي الرجل وحده في أول الوقت، أحب إلي من أن يصلي بعد الإسفار في جماعة"؛ فقدم كما ترى حكم المسابقة، ولم يعتبر الجماعة التي هي سنة يعد من تركها مقصرا؛ فأولى أن يعد من ترك المسابقة مقصرا.
وجاء عنه أيضا فيمن أفطر في رمضان لسفر أو مرض، ثم قدم أو صح في غير شعبان من شهور القضاء، فلم يصمه حتى مات؛ فعليه الإطعام، وجعله مفرطا، كمن صح أو قدم في شعبان؛ فلم يصمه حتى دخل رمضان الثاني، مع أن القضاء ليس على الفور عنده.
قال اللخمي: جعله مترقبا2 ليس على الفور ولا على التراخي، فإن قضى في شعبان مع القدرة عليه قبل شعبان؛ فلا إطعام لأنه غير مفرط، وإن مات قبل شعبان؛ فمفرط وعليه الإطعام، نحو قول الشافعية في الحج: إنه على التراخي، فإن مات قبل الأداء3؛ كان آثما، فهذا أيضا -رأي الشافعية- مضاد لمقتضى الأصل المذكور.
فأنت ترى أوقاتا معينة شرعا؛ إما بالنص4، وإما بالاجتهاد5، ثم صار من قصر عن المسابقة فيها ملوما معاتبا، بل آثما في بعضها، وذلك مضاد لما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليس المراد أنه يطول بهم حتى يسفر، بل المراد أنه يبتدئ الصلاة بعد الإسفار وحينئذ يتم الدليل "د".
2 بل لعله مترتبا؛ أي: إنه لم يعامل معاملة الفور الصرف، ولا التراخي الصرف، بل حالة بين الحالتين؛ فلذا كان الحكم مترددا بين الأمرين كما شرحه بقوله: "فإن قضى... إلخ" "د".
3 في الأصل: "التراخي".
4 كما في الحديث السابق: "أول الوقت" إلخ "د".
5 كما في المسائل التي نسبها لمالك والشافعي في الصلاة والصوم والحج؛ فأوقاتها معينة بالاجتهاد. "د".

 

ج / 1 ص -244-       تقدم.
فالجواب: أن أصل المسابقة إلى الخيرات لا ينكر، غير أن ما عين له وقت معين من الزمان؛ هل يقال: إن إيقاعه في وقته المعين له مسابقة؛ فكيف الأصل المذكور شاملا له، أم يقال: ليس شاملا له؟
والأول هو الجاري على مقتضى الدليل1؛ فيكون قوله -عليه السلام- حين سئل عن أفضل الأعمال؛ فقال:
"الصلاة لأول وقتها"2 يريد به وقت الاختيار مطلقا، ويشير إليه أنه -عليه السلام- حين علم الأعرابي الأوقات صلى في أوائل الأوقات وأواخرها، وحد ذلك حدا لا يتجاوز، ولم ينبه فيه على تقصير، وإنما نبه على التقصير والتفريط بالنسبة إلى ما بعد ذلك من أوقات الضروريات3، إذا صلى فيها من لا ضرورة له؛ إذ قال: "تلك صلاة المنافقين"4 الحديث؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المتقدم أول المسألة. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، 2/ 9/ رقم 527"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، 1/ 89/ رقم 85" من حديث ابن مسعود, رضي الله عنه.
3 تقسيم الأوقات إلى اختيارية وضرورية يقول به أكثر علماء الأمصار، وإنما اختلفوا في تحديدها وفي الصلوات التي يكون لها وقتان: اختياري وضروري، وفي أهل العذر الذين يختصون بأوقات الضروريات، ونفى أهل الظاهر أن تكون الأوقات منقسمة إلى اختياري وضروري، وأسباب الخلاف بين الفريقين مفصلة في كتب الخلاف. "خ".
4 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالعصر، 1/ 434/ رقم 622"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب وقت صلاة العصر، 1/ 112-113/ رقم 413"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في تعجيل العصر، 1/ 301/ رقم 160"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب المواقيت، باب التشديد في تأخير العصر، 1/ 254"، وأحمد في "المسند "3/ 102-103، 247" عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- ولفظه:
"تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس, حتى إذا كانت بين قرني الشيطان؛ قام فنقرها أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا".

 

ج / 1 ص -245-       فبين أن وقت التفريط هو الوقت الذي تكون الشمس فيه بين قرني الشيطان.
فإنما ينبغي أن يخرج عن وصف المسابقة والمسارعة من خرج عن الإيقاع في ذلك الوقت المحدد، وعند ذلك يسمى مفرطا، ومقصرا، وآثما أيضا عند بعض الناس، وكذلك الواجبات الفورية.
وأما المقيدة بوقت العمر، فإنها لما قيد آخرها بأمر مجهول؛ كان ذلك علامة على طلب المبادرة والمسابقة1 في أول أزمنة الإمكان، فإن العاقبة مغيبة، فإذا عاش المكلف ما في مثله يؤدي ذلك المطلوب، فلم يفعل -مع سقوط الأعذار- عد ولا بد مفرطا، وأثمه الشافعي لأن المبادرة هي المطلوب، لا أنه -على التحقيق- مخير بين أول الوقت وآخره؛ فإن آخره غير معلوم، وإنما المعلوم منه ما في اليد الآن، فليست هذه المسألة من أصلنا المذكور؛ فلا تعود عليه بنقض2.
وأيضا؛ فلا ينكر استحباب المسابقة بالنسبة إلى الوقت المعين، لكن بحيث لا يعد المؤخر عن أول الوقت الموسع مقصرا، وإلا لم يكن الوقت على حكم التوسعة، وهذا كما في الواجب المخير في خصال الكفارة؛ فإن للمكلف الاختيار في الأشياء المخير فيها، وإن كان الأجر فيها يتفاوت؛ فيكون بعضها أكثر أجرا من بعض، كما يقول بذلك [مالك] في الإطعام في كفارة رمضان، مع وجود التخيير في الحديث, وقول مالك به، وكذلك العتق في كفارة الظهار، أو القتل، أو غيرهما، هو مخير في أي الرقاب شاء، مع أن الأفضل أعلاها ثمنا،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "المبالغة".
2 في "م": "بنقص" بالصاد المهملة.

 

ج / 1 ص -246-       وأنفسها عند أهلها، ولا يخرج بذلك التخيير عن بابه، ولا يعد مختار غير الأعلى مقصرا ولا مفرطا, وكذلك مختار الكسوة أو الإطعام في كفارة اليمين، وما أشبه ذلك من المطلقات التي ليس للشارع قصد في تعيين بعض أفرادها، مع حصول الفضل في الأعلى منها، وكما أن الحج ماشيا أفضل، ولا يعد الحاج راكبا مفرطا ولا مقصرا، وكثرة الخطا إلى المساجد أفضل من قلتها، ولا يعد من كان جار المسجد بقلة1 خطاه له مقصرا، بل المقصر هو الذي قصر عما حد له، وخرج عن مقتضى الأمر المتوجه إليه، وليس في مسألتنا ذلك.
وأما حديث أبي بكر -رضي الله عنه- فلم يصح, وإن فرضنا صحته؛ فهو معارض بالأصل القطعي, وإن سلم؛ فمحمول على التأخير2 عن جميع الوقت المختار، وإن سلم؛ فأطلق لفظ التقصير على ترك الأولى من المسارعة إلى تضعيف الأجور، لا أن المؤخر مخالف لمقتضى الأمر.
وأما مسائل مالك؛ فلعل استحبابه لتقديم الصلاة، وترك الجماعة، مراعاة للقول بأن للصبح وقت ضرورة، وكان الإمام قد أخر إليه، وما ذكر في إطعام التفريط في قضاء رمضان، بناء على القول بالفور في القضاء فلا يتعين فيها ما ذكر في السؤال؛ فلا اعتراض بذلك، وبالله التوفيق.
المسألة التاسعة: الحقوق الواجبة على المكلف على ضربين
الحقوق الواجبة على المكلف على ضربين, كانت من حقوق الله؛ كالصلاة, والصيام، والحج، أو من حقوق الآدميين؛ كالديون، والنفقات، والنصيحة، وإصلاح ذات البين، وما أشبه ذلك:
أحدهما:
حقوق محدودة شرعا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فقلت".
2 في "ط": "على التقصير".

 

ج / 1 ص -247-       والآخر: حقوق غير محدودة.
فأما المحدودة المقدرة؛ فلازمة لذمة المكلف1، مترتبة عليه دينا، حتى يخرج عنها؛ كأثمان المشتريات، وقيم المتلفات، ومقادير الزكوات، وفرائض الصلوات، وما أشبه ذلك؛ فلا إشكال في أن مثل هذا مترتب في ذمته، دينا عليه.
والدليل على ذلك التحديد والتقدير؛ فإنه مشعر بالقصد إلى أداء ذلك المعين، فإذا لم يؤده؛ فالخطاب باق عليه، ولا يسقط عنه إلا بدليل2.
وأما غير المحدودة؛ فلازمة له، وهو مطلوب بها، غير أنها لا تترتب في ذمته؛ لأمور:
أحدها:
أنها لو ترتبت في ذمته؛ لكانت محدودة معلومة؛ إذ المجهول لا يترتب في الذمة ولا يعقل نسبته إليها، فلا يصح أن يترتب دينا، وبهذا استدللنا على عدم الترتب؛ لأن هذه الحقوق مجهولة المقدار، والتكليف بأداء ما3 لا يعرف له مقدار تكليف بمتعذر الوقوع, وهو ممتنع سمعا.
ومثاله: الصدقات المطلقة, وسد الخلات، ودفع حاجات المحتاجين، وإغاثة الملهوفين، وإنقاذ الغرقى، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويدخل تحته سائر فروض الكفايات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الذمة كون الإنسان قابلا للزوم الحقوق والتزامها شرعا، وهذا المعنى إنما يتحقق في البالغ الرشيد؛ فإن قلنا: إن للصبي ذمة أيضا كما يراه بعض الفقهاء؛ اقتصرنا في تعريفها على كون الإنسان قابلا للزوم الحقوق، فيتناول التعريف الصبي؛ لأنه وإن كان لا يقبل التزام الحقوق من نحو البيع والهبة والحمالة؛ يقبل لزوم بعضها كأرش الجنايات وقيم المتلفات. "خ".
قلت: الأرش هو بدل الدم أو بدل الجناية مقابل بآدمية المقطوع أو المقتول، لا بماليته، قاله الكفوي في "الكليات" "ص78".
2 كإبرام الدائن للمدين "د".
3 تحرفت في "د": "بأدائنا" بالنون بدل الميم.

 

ج / 1 ص -248-       فإذا قال الشارع: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]، أو قال: "اكسوا العاري"1، أو: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 195]؛ فمعنى ذلك طلب رفع الحاجة في كل واقعة بحسبها، من غير تعيين مقدار، فإذا تعينت حاجة؛ تبين مقدار ما يحتاج إليه فيها، بالنظر لا بالنص، فإذا تعين جائع؛ فهو مأمور بإطعامه وسد خلته، بمقتضى ذلك الإطلاق، فإن أطعمه ما لا يرفع عنه الجوع؛ فالطلب باق عليه ما لم يفعل من ذلك ما هو كاف ورافع للحاجة التي من أجلها أمر ابتداء، والذي هو كاف يختلف باختلاف الساعات والحالات في ذلك المعين، فقد يكون في الوقت غير مفرط الجوع، فيحتاج إلى مقدار من الطعام، فإذا تركه حتى أفرط عليه؛ احتاج إلى أكثر منه، وقد يطعمه آخر فيرتفع عنه الطلب رأسا، [وقد يطعمه آخر ما لا يكفيه، فيطلب هذا بأقل مما كان مطلوبا به]2.
فإذا كان المكلف به يختلف باختلاف الأحوال والأزمان؛ لم يستقر للترتيب في الذمة أمر معلوم يطلب ألبتة، وهذا معنى كونه مجهولا؛ فلا يكون معلوما إلا في الوقت الحاضر بحسب النظر، لا بمقتضى النص، فإذا زال الوقت الحاضر؛ صار في الثاني مكلفا بشيء آخر لا بالأول، أو سقط3 عنه التكليف إذا فرض ارتفاع الحاجة العارضة.
والثاني:
أنه لو ترتب في ذمته أمر؛ لخرج إلى ما لا يعقل؛ لأنه في كل وقت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم أظفر به بهذا اللفظ، وله شواهد كثيرة تؤيد معناه، وأقرب الألفاظ له ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "8/ 438/ رقم 17933" ضمن حديث طويل مرسل، فيه:
"واكسوهم ولا تعروهم".
2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
3 أي: فكيف يتأتى الاستقرار في الذمة والأمر يختلف باختلاف الحال والزمان بين سقوط المكلف به رأسا، وبين تغير المكلف به قلة وكثرة؟ "د".

 

ج / 1 ص -249-       من أوقات حاجة المحتاج مكلف بسدها، فإذا مضى وقت يسع سدها بمقدار معلوم مثلا، ثم لم يفعل؛ فترتب في ذمته، ثم جاء زمان ثان وهو على حاله أو أشد، فأما أن يقال: إنه مكلف أيضا بسدها أو لا، والثاني باطل؛ إذ ليس هذا الثاني بأولى1 بالسقوط من الأول؛ لأنه إنما كلف لأجل سد الخلة، فيرتفع التكليف والخلة باقية، هذا محال؛ فلا بد أن يترتب في الذمة ثانيا مقدار ما تسد به الحاجة ذلك الوقت، وحينئذ يترتب في ذمته في حق واحد، قيم كثيرة بعدد الأزمان الماضية، وهذا غير معقول في الشرع.
والثالث:
أن هذا2 يكون عينا أو كفاية، وعلى كل تقدير يلزم -إذا لم يقم به أحد- أن يترتب؛ إما في ذمة واحد غير معين، وهو باطل لا يعقل، وإما في ذمم جميع الخلق مقسطا؛ فكذلك للجهل بمقدار ذلك القسط لكل واحد، أو غير مقسط؛ فيلزم فيما قيمته درهم أن يترتب في ذمم مائة ألف رجل مائة ألف درهم، وهو باطل كما تقدم3.
والرابع:
لو ترتب في ذمته لكان عبثا، ولا عبث في التشريع، فإنه إذا كان المقصود دفع الحاجة؛ فعمران الذمة ينافي هذا المقصد؛ إذ المقصود إزالة هذا العارض4 لا غرم قيمة العارض، فإذا كان الحكم بشغل الذمة منافيا لسبب الوجوب؛ كان عبثا غير صحيح.
لا يقال: إنه لازم في الزكاة المفروضة وأشباهها؛ إذ المقصود بها سد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لو قال: ليس بأضعف سببية في التكليف من الأول؛ لكان أوضح. "د".
2 في "م" و"خ" و"ط" زيادة: "الواجب؛ إما أن".
3 في قوله: "فهذا غير معقول في الشرع". "د".
4 أي: العارض* الوقتي ولا فائدة تعود على إزالته من شغل ذمة الغير به. "د".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "المعارض"!!

 

ج / 1 ص -250-       الخلات، وهي تترتب في الذمة.
لأنا نقول: نسلم أن المقصود ما ذكرت، ولكن الحاجة التي تسد بالزكاة غير متعينة1 على الجملة، ألا ترى أنها تؤدي اتفاقا وإن لم تظهر عين الحاجة؟ فصارت كالحقوق الثابتة بمعاوضة أو هبة؛ فللشرع قصد في تضمين المثل أو القيمة فيها، بخلاف ما نحن فيه؛ فإن الحاجة فيه متعينة فلا بد من إزالتها، ولذلك لا يتعين لها مال زكاة من غيره بل بأي مال ارتفعت حصل المطلوب فالمال غير مطلوب لنفسه فيها، فلو ارتفع العارض بغير شيء؛ لسقط الوجوب، والزكاة ونحوها لا بد من بذلها، وإن كان محلها غير مضطر إليها في الوقت، ولذلك عينت، وعلى هذا الترتيب في بذل المال للحاجة يجري حكم سائر أنواع هذا القسم.
فإن قيل: لو كان الجهل مانعا من الترتب في الذمة؛ لكان مانعا من أصل التكليف أيضا؛ لأن العلم بالمكلف به شرط في التكليف؛ إذ التكليف بالمجهول تكليف بما لا يطاق، فلو قيل لأحد: أنفق مقدارا لا تعرفه, أو صل صلوات لا تدري كم هي، أو انصح من لا تدريه ولا تميزه، وما أشبه ذلك؛ لكان تكليفا بما لا يطاق؛ إذ لا يمكن العلم بالمكلف به أبدا إلا بوحي، وإذا علم بالوحي؛ صار معلوما لا مجهولا، والتكليف بالمعلوم صحيح، هذا خلف.
فالجواب: أن الجهل المانع من أصل التكليف هو المتعلق بمعين عند الشارع؛ كما لو قال: اعتق رقبة، وهو يريد الرقبة الفلانية من غير بيان؛ فهذا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فيكون القسم الأول وهو الزكاة مثلا متعينا محدودة المقدار ولا زيادة فيها ولا نقص؛
فكانت متقررا وإن كانت الحاجة فيه غير متعينة ولا صاحبها معلوما، وهنا بالعكس، وصاحب الحاجة معلوم، ومقدار ما يلزمه غير معلوم ولا ثابت؛ فالمكلف به هناك معلوم محدود المكلف بسببه غير معلوم، والقسم الثاني بالعكس. "د".

 

ج / 1 ص -251-       هو الممتنع، أما ما لم يتعين عند الشارع بحسب التكليف؛ فالتكليف به صحيح، كما صح في التخيير بين الخصال في الكفارة؛ إذ ليس للشارع قصد في إحدى الخصال دون ما بقي؛ فكذلك هنا إنما مقصود الشارع سد الخلات على الجملة، فما لم يتعين1 [فيه]2 خلة فلا طلب، فإذا تعينت وقع الطلب، هذا هو المراد هنا، وهو ممكن للمكلف مع نفي التعيين في مقدار ولا في غيره.
وهنا ضرب ثالث آخذ بشبه من الطرفين الأولين؛ فلم يتمحض لأحدهما، هو محل اجتهاد، كالنفقة على الأقارب والزوجات، ولأجل ما فيه من الشبه بالضربين اختلف الناس فيه، هل له ترتب في الذمة أم لا؟ فإذا ترتب؛ فلا3 يسقط بالإعسار4؛ فالضرب الأول لاحق بضروريات5 الدين، ولذلك محض بالتقدير والتعيين، والثاني لاحق بقاعدة التحسين والتزيين، ولذلك وكل إلى اجتهاد المكلفين، والثالث آخذ من الطرفين بسبب متين؛ فلا بد فيه من النظر في كل واقعة على التعيين، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "يتعين" بياء -آخر الحروف- في أوله.
2 سقطت من النسخ المطبوعة، وأثبتناها من الأصل.
3 بدلها في الأصل: "فقد"
4 ذهب جمهور العلماء إلى أن نفقة الزوجة غير مقدرة، وأمرها موكول إلى ما يقتضيه حال الزوجين، وذلك مما يجعلها تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال، واقتضى عدم تقديرها أن لا تستقر في الذمة، وأن تسقط بالإعسار، وكذلك يقول المالكية، والمشهور في مذهب الشافعية أنها مقدرة؛ فعلى الموسر مدان، وعلى الأوسط مد ونصف، وعلى المعسر مد، وينبني على تقديرها أنها تتعلق بالذمة ولا تسقط بالإعسار، وكذلك يقول الشافعية، وحجة الجمهور في القول بعدم تقديرها حديث هند بنت عتبة وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لها:
"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، وقد روي عن الإمام الشافعي -رضي الله عنه- ما يوافق مذهب الجمهور. "خ".
5 في "د": "بضروريات".

 

ج / 1 ص -252-       فصل:
وربما انضبط الضربان الأولان بطلب العين والكفاية1؛ فإن حاصل الأول أنه طلب مقدر على كل عين من أعيان المكلفين، وحاصل الثاني إقامة الأوَد العارض في الدين وأهله، وإلا أن هذا الثاني قد2 يدخل فيه ما يظن أنه طلب عين, ولكنه لا يصير طلبا متحتما في الغالب إلا عند كونه كفاية؛ كالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وأما إذا لم يتحتم؛ فهو مندوب، وفروض الكفايات مندوبات على الأعيان؛ فتأمل هذا الموضع، وأما الضرب الثالث؛ فآخذ شبها من الطرفين أيضا؛ فلذلك اختلفوا في تفاصيله حسبما ذكره الفقهاء، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فائدة: السنة أيضا قد تكون كفاية، كما مثلوه بتشميت العاطس, وبالأضحية في حق أهل البيت الواحد كما في "المنهاج". "د".
قلت: والصواب في التشميت أنه ليس على الكفاية، بل على أعيان الحاضرين السامعين، لما أخرج البخاري في "الصحيح":
"حق على كل من سمعه أن يشمته"، والله أعلم.
2 أي: قد يكون مخيرا بالجزء؛ كالصناعات المختلفة التي لها أثر في إقامة العمران، وقد يكون مندوبا بالجزء؛ كالعدل، والإحسان، وسائر النوافل، والنكاح وغيرها مما تقدم في المندوب بالجزء، ولكن هذا الثاني إنما يكون واجبا كفاية إذا نظر إليه كليا في الغالب، وقد يكون متحتما جزئيا؛ كالعدل بالنسبة للأمير نفسه، فهو مطلوب بإقامة العدل جزئيا أيضا طلبا حتما؛ إلا أن قوله: "وفروض الكفايات مندوبة على الأعيان" ليس كليا، بل قد تكون مندوبة, وقد تكون مخيرا فيها؛ كما سبق في فصله, وكما أشرنا إليه في هذه الجملة.
وملخصه أن فريضة الكفاية قد يكون مخيرا بالجزء، وقد يكون مندوبا بالجزء، ولا يتحتم إلا بالكل، وقد يتحتم على البعض أيضا نادرا، ويبقى بعد هذا أنه يقتضي أن مؤدى فرض الكفاية إنما يثاب عليه ثواب المندوب، فإذا تركه الكل؛ عوقب عليه الجميع، وقد لا يثاب عليه الفاعل وذلك إذا كان بالجزء مخيرا؛ فتأمل هذا الموضع جيدا. "د".

 

ج / 1 ص -253-       المسألة العاشرة: مرتبة العفو
يصح أن يقع1 بين الحلال والحرام مرتبة العفو؛ فلا يحكم عليه بأنه واحد من الخمسة المذكورة، هكذا على الجملة2، ومن الدليل على ذلك أوجه:
أحدها:3
ما تقدم من أن الأحكام الخمسة إنما تتعلق بأفعال المكلفين مع القصد إلى الفعل، وأما دون ذلك؛ فلا، وإذا لم يتعلق بها حكم منها، مع وجدانه ممن شأنه أن تتعلق به؛ فهو معنى العفو المتكلم فيه؛ أي: لا مؤاخذة به.
والثاني:4
ما جاء من النص على هذه المرتبة على الخصوص؛ فقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
"إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان؛ فلا تبحثوا عنها"5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لما كان لهذه المرتبة شبه بالحلال؛ لأنه لا طلب يتعلق بها ولا إثم في فعلها، وشبه بالحرام؛ لأن مثلها لو تعلق به حكم لكان اللوم والذم، قال: "يقع بين الحلال والحرام، وليس لها شبه بما يطلب من الواجب والمندوب رأسا". "د".
2 لما لم يحكم عليها إلا بأنها غير الخمسة، ولم يقل: إنها حكم شرعي سادس، أو ليست حكما؛ قال: "على الجملة"، وسيأتي الإشارة إليه آخر المسألة. "د".
3 الدليل قاصر على خصوص بعض النوع الثاني من أنواع مواضع مرتبة العفو المذكورة في الفصل الثاني: ولا يدل على الباقي, وسيأتي في الفصل الأول ما يصح أن يكون دليلا على البعض الباقي من النوع الثاني؛ حيث يقول: "ومنها الترجيح بين الدليلين عند تعارضها" إلخ. "د".
4 هذا الدليل قاصر على النوع الثالث من مراتب العفو الآتية في الفصل الثاني. "د".
5 أخرجه الدارقطني في "السنن" "4/ 183-184" والطبراني في "الكبير" "22/ 221-222/ رقم 589"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 9"، والبيهقي في "الكبرى" "10 =

 

ج / 1 ص -254-       وقال ابن عباس: "ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض صلى الله عليه وسلم، كلها في القرآن: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222].
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة: 220].
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217].
ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم"1.
يعني: إن هذا كان الغالب2 عليهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= / 12-13"، وأبو نعيم في "الحلية" "9/ 17"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 314"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1045/ رقم 2012" من طريق مكحول عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعا.
قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 150": "له علتان:
إحداهما: أن مكحولا لم يصح له السماع من أبي ثعلبة، كذلك قال أبو مسهر الدمشقي وأبو نعيم الحافظ وغيرهما.
والثانية: أنه اختلف في رفعه ووقفه على أبي ثعلبة، ورواه بعضهم عن مكحول من قوله، لكن قال الدارقطني [في "العلل" "رقم 1170"]: "الأشبه بالصواب المرفوع"، قال: "وهو الأشهر".
وقد حسن الشيخ, رحمه الله [أي: النووي في "أربعينه" "رقم 30"] هذا الحديث، وكذلك حسنه قبله الحافظ أبو بكر بن السمعاني في "أماليه". ا. هـ.
قلت: والحديث حسن بشواهده، وتقدم بعضها في "ص229", وانظر التعليق عليها.
1 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 51"، والطبراني في "الكبير" "11/ 454/ رقم 12288"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 296" من طريق جرير بن عبد الحميد ومحمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وفي "ط": "كلهن في القرآن".
وإسناده ضعيف، جرير وابن فضيل رويا عن عطاء بعد اختلاطه، قال الهيثمي في "المجمع" "1/ 159": "فيه عطاء بن السائب وهو ثقة، ولكنه اختلط، وبقية رجاله ثقات". وانظر عن تحرير عدد الأسئلة: "5/ 375".
2 قيده لما سيأتي بعضه أثناء المسألة من مثل سؤال عبد الله بن حذافة عن أبيه "د".

 

ج / 1 ص -255-       وعن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: "ما لم يذكر في القرآن؛ فهو مما عفا الله عنه"1، وكان يسأل عن الشيء لم يحرم2؛ فيقول: عفو، وقيل له: ما تقول في أموال أهل الذمة؟ فقال: العفو "يعني: لا يؤخذ منهم زكاة"3.
وقال عبيد بن عمير:
"أحل الله حلالا, وحرم حراما، فما أحل؛ فهو حلال، وما حرم؛ فهو حرام، وما سكت عنه؛ فهو عفو"4.
والثالث5: ما يدل على هذا المعنى في الجملة؛ كقوله تعالى:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب ما لم يذكر تحريمه، 3/ 354-355/ رقم 3800" بإسناد صحيح عن ابن عباس؛ قال:
"... وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه؛ فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وتلا: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}" إلى آخر الآية.
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "4/ 115"، وابن مردويه؛ كما في "تفسير ابن كثير" "2/ 184"، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ؛ كما في "الدر المنثور" "3/ 372".
وفي الباب عن سلمان -واختلفوا في رفعه ووقفه- وعن غيره، انظره مبسوطا في "سنن سعيد بن منصور" "2/ 320-330/ رقم 94" مع التعليق عليه للشيخ سعد آل حميد، وفقه الله لكل خير.
2 أي: فيه شبهة الحرمة، ولم يرد فيه تحريم بل سكت عنه. "د".
3 إن كان معناه أنه لا تؤخذ منهم زكاة بمقتضى النص؛ فليس مما نحن فيه ولا محل لذكره، وإن كان معناه أنه مما سكت عنه؛ فلا تؤخذ الزكاة لذلك كان لذكره وجه, وقد يقال: إنه يرجع إلى قاعدة أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أو لا. "د".
4 ذكره عن عبيد بن عمير, ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 152".
5 هذا الدليل خاص ببعض النوع الثاني كما في حديث:
"أكل عام"، وبالنوع الثالث، وقد انتهى به مقام الاستدلال ولم يجئ فيه بما يدل على النوع الأول، وهو الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض وإن قوي معارضه. "د".

 

ج / 1 ص -256-       {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}1 الآية [التوبة: 43]؛ فإنه موضع اجتهاد في الإذن عند عدم النص.
وقد ثبت من الشريعة العفو عن الخطأ في الاجتهاد حسبما بسطه الأصوليون, ومنه قوله تعالى:
{لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68].
وقد كان النبي -عليه السلام- يكره كثرة السؤال2 فيما لم ينزل فيه حكم، بناء على حكم البراءة الأصلية؛ إذ هي راجعة إلى هذا المعنى، ومعناها أن الأفعال معها معفو عنها، وقد قال, صلى الله عليه وسلم:
"إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم عليهم فحرم عليهم من أجل مسألته"3.
وقال:
"ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتكم عنه فانتهوا، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 محط الدليل بقية الآية؛ كأنه أذن قبل أن يتبين الذين صدقوا؛ فهو من محل العفو المصدرة به الآية. "د".
2 انظر ما تقدم "ص47".
3 مضى تخريجه "ص48"، وهو في "الصحيحين".
4 أخرجه البخاري "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله, صلى الله عليه وسلم، 13/ 251/ رقم 7288"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، 2/ 975/ رقم 1337"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب مناسك الحج، باب وجوب الحج، 5/ 110-111"، والترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب في الانتهاء عما نهى عنه رسول الله, صلى الله عليه وسلم، 5/ 47/ رقم 2679" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب اتباع سنة رسول الله, صلى الله عليه وسلم، 1/ 3/ رقم 2"، وأحمد في "المسند" "2/ 312، 313، 517"، من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه.

 

ج / 1 ص -257-       وقرأ عليه السلام قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الآية [آل عمران: 97]؛ فقال رجل: يا رسول الله! أكل عام [فرض]؟ فأعرض. ثم قال: يا رسول الله! أكل عام [فرض]1؟ فأعرض. ثم قال: يا رسول الله! أكل عام؟ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده؛ لو قلتها لوجبت، ولو وجبت ما قمتم بها، ولو لم تقوموا بها لكفرتم؛ فذروني ما تركتكم"2، ثم ذكر معنى3 ما تقدم.
وفي مثل هذا نزلت:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
ثم قال:
{عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة: 101].
أي: عن تلك الأشياء؛ فهو إذًا عفو.
وقد كره -عليه السلام- المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال, وقام يوما وهو يعرف في وجهه الغضب؛ فذكر الساعة، وذكر قبلها أمورا عظاما، ثم قال:
"من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، فوالله؛ لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا". قال أنس: فأكثر الناس من البكار حين سمعوا ذلك، وأكثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: "سلوني". فقام عبد الله بن حذافة السهمي؛ فقال: من أبي؟ قال: "أبوك حذافة". فلما أكثر أن يقول: سلوني؛ برك عمر بن الخطاب على ركبتيه، فقال: يا رسول الله! رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا. قال: فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال عمر ذلك،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين في الموضعين زيادة من الأصل.
2 المذكور هنا هو صدر الحديث السابق، وتتمته:
"فإنما هلك...".
3 أي: من قوله: "فإنما هلك" إلخ "د".

 

ج / 1 ص -258-       فنزلت الآية1، وقال أولا: "والذي نفسي بيده؛ لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض [هذا]2 الحائط وأنا أصلي؛ فلم أر كاليوم في الخير والشر"3، وظاهر من هذا المساق أن قوله: "سلوني" في معرض الغضب تنكيل بهم في السؤال، حتى يروا عاقبة السؤال4، ولأجل ذلك جاء قوله تعالى: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101], وقد ظهر من هذه الجملة5 ما يعفى عنه، وهو ما نهي عن السؤال عنه.
فكون الحج لله هو مقتضى الآية كما أن كونه للعام الحاضر تقتضيه6 أيضا، فلما سكت عن التكرار؛ كان الذي ينبغي الحمل على أخف محتملاته, وإن فرض أن الاحتمال الآخر مراد؛ فهو ما يُعفى عنه.
ومثل هذا قصة أصحاب البقرة، لما شددوا بالسؤال -وكانوا متمكنين من ذبح أي بقرة شاءوا- شدد عليهم7 حتى ذبحوها
{وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا لفظ البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، 13/ 265/ رقم 7294"، وأخرجه أيضا مسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب توقيره -صلى الله عليه وسلم- وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورية إليه، 4/ 1832/ رقم 2359" من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- ومضى مختصرا "ص45".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 هو جزء من الحديث المتقدم.
4 التي منها نزول تحريم ما لم يحرم، وغيره مما يكرهونه ويسيئهم؛ كالتعرض للفضيحة، وزيادة التكاليف. "د".
5 وهي من قوله: "وقد كان النبي -عليه السلام- يكره كثرة السؤال إلى هنا". "د".
6 لأن المطلق يتحقق في فرد واحد مما يطلق عليه "د".
7 انظر حول هذا المعنى: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "7/ 105".

 

ج / 1 ص -259-       فهذا كله واضح في أن من أفعال المكلفين ما لا يحسن السؤال عنه وعن حكمه، ويلزم من ذلك أن يكون معفوا عنه؛ فقد ثبت أن مرتبة العفو ثابتة، وأنها ليست من الأحكام الخمسة.
فصل:
ويظهر هذا المعنى في مواضع من الشريعة؛ منها ما يكون متفقا عليه، ومنها ما يختلف فيه.
- فمنها: الخطأ والنسيان؛ فإنه متفق على عدم المؤاخذة به، فكل فعل صدر عن غافل، أو ناس، أو مخطئ؛ فهو مما عفي عنه، وسواء علينا أفرضنا تلك الأفعال مأمورا بها أو منهيا عنها أم لا؛ لأنها إن لم تكن منهيا عنها ولا مأمورا بها ولا مخيرا فيها؛ فقد رجعت إلى قسم ما لا حكم له في الشرع, وهو معنى العفو، وإن تعلق بها الأمر والنهي؛ فمن شرط المؤاخذة به ذكر الأمر والنهي، والقدرة على الامتثال، وذلك في المخطئ والناسي والغافل محال، ومثل ذلك النائم والمجنون والحائض، وأشباه ذلك.
- ومنها: الخطأ في الاجتهاد1، وهو راجع إلى الأول, وقد جاء في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذهب المتقدمون إلى أن المخطئ في أصول الفقه آثم كالمخطئ في أصول الدين، وجنح المتأخرون إلى أنه غير آثم كالمخطئ في الفروع, ووجه ما ذهب إليه المتقدمون؛ أن القواعد الكلية لقلتها وجلاء شواهدها أقرب مأخذا وأيسر على الراسخ في فهم الكتاب والسنة من الأحكام الجزئية التي تتجاوز حد الحصر ويتوقف استنباطها بحق على النظر في أسباب الوقائع وما يترتب عليها من المصالح أو المفاسد ثم الرجوع إلى النصوص والأصول، وهي كثيرا ما تتجاذب الواقعة؛ فلا يهتدي المجتهد لتخليص الحكم مع معاقدها؛ إلا بحذقه في صناعة التطبيق والترجيح, واستثنى بعض القائلين بتأثيم المخطئ في الأصول كالإمام القرافي المسائل التي لم يدل فيها المتنازعون على قاطعة كالإجماع السكوتي وما يجري على شاكلته. "خ".

 

ج / 1 ص -260-       القرآن: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43].
وقال:
{لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية [الأنفال: 68].
- ومنها: الإكراه، كان مما يتفق عليه أو مما يختلف فيه، إذا قلنا بجوازه؛ فهو راجع إلى العفو، كان الأمر1 والنهي باقيين عليه أو لا؛ فإن حاصل ذلك أن تركه لما ترك وفعله لما فعل لا حرج عليه فيه2.
- ومنها: الرخص كلها على اختلافها، فإن النصوص دلت على ذلك حيث نص على رفع الجناح، ورفع الحرج، وحصول المغفرة، ولا فرق في ذلك بين أن تكون الرخصة مباحة أو مطلوبة؛ لأنها إن كانت مباحة فلا إشكال، وإن كانت مطلوبة؛ فيلزمها العفو عن نقيض المطلوب؛ فأكل الميتة -إذا قلنا بإيجابه- فلا بد أن يكون نقيضه وهو الترك معفوا عنه، وإلا لزم اجتماع النقيضين في التكليف بهما، وهو محال ومرفوع عن الأمة.
- ومنها: الترجيح بين الدليلين عند تعارضهما ولم يمكن الجمع، فإذا ترجح أحد الدليلين؛ كان مقتضى المرجوح في حكم العفو، لأنه إن لم يكن كذلك لم يمكن الترجيح، فيؤدي إلى رفع أصله, وهو ثابت بالإجماع؛ ولأنه يؤدي إلى الخطاب بالنقيضين، وهو باطل، وسواء علينا أقلنا3 ببقاء الاقتضاء في الدليل المرجوح وأنه في حكم الثابت، أم قلنا: إنه في حكم العدم؛ لا فرق بينهما في لزوم العفو.
- ومنها: العمل على مخالفة دليل لم يبلغه، أو على موافقة دليل بلغه وهو في نفس الأمر منسوخ أو غير صحيح؛ لأن الحجة لم تقم عليه بعد؛ إذ لا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: على القولين في ذلك. "د".
2 انظر كلاما حسنا حول الإكراه في آخر "الاستقامة" لشيخ الإسلام ابن تيمية.
3 في "م" و"خ": "قلنا".

 

ج / 1 ص -261-       بد من بلوغ الدليل إليه وعلمه به، وحينئذ تحصل المؤاخذة به, وإلا لزم تكليف ما لا يطاق.
- ومنها: الترجيح1 بين الخطابين عند تزاحمهما ولم يمكن الجمع بنهما، لا بد من حصول العفو بالنسبة إلى المؤخر حتى يحصل المقدم؛ لأنه الممكن في التكليف بهما، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق، وهو مرفوع شرعا.
- ومنها: ما سكت عنه؛ فهو عفو؛ لأنه إذا كان مسكوتا عنه مع وجود مظنته؛ فهو دليل على العفو فيه، وما تقدم من الأمثلة في الأدلة السابقة فهو مما يصح التمثيل به، والله أعلم.
فصل:
ولمانع مرتبة العفو أن يستدرك عليه بأوجه:
أحدها:
أن أفعال المكلفين من حيث هم مكلفون؛ إما أن تكون بجملتها داخلة تحت خطاب التكليف وهو الاقتضاء أو التخيير، أو لا تكون بجملتها داخلة، فإن كانت بجملتها داخلة؛ فلا زائد على الأحكام الخمسة، وهو المطلوب، وإن لم تكن داخلة بجملتها؛ لزم أن يكون بعض المكلفين خارجا عن حكم خطاب التكليف، ولو في وقت أو حالة ما، لكن ذلك باطل؛ لأنا فرضناه مكلفا، فلا يصح خروجه، فلا زائد على الأحكام الخمسة.
والثاني:
أن هذا الزائد؛ إما أن يكون حكما شرعيا أو لا، فإن لم يكن حكما شرعيا؛ فلا اعتبار به.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إذا خوطب في وقت واحد بفعل شيئين مما لم يكن إيجادهما معا، كأن خوطب بأن يكلم اثنين بجملتين مختلفتين؛ فيرجح هو تقديم خطاب أحدهما على الآخر، فهذا الترجيح أيضا عفو. "د".

 

ج / 1 ص -262-       والذي يدل على أنه ليس حكما شرعيا أنه مسمى بالعفو, والعفو إنما يتوجه حيث يتوقع للمكلف حكم المخالفة لأمر أو نهي، وذلك يستلزم كون المكلف به قد سبق حكمه؛ فلا يصح أن يتوارد عليه حكم آخر لتضاد الأحكام.
وأيضا؛ فإن العفو إنما هو حكم أخروي لا دنيوي، وكلامنا في الأحكام المتوجهة في الدنيا.
وأما إن كان العفو حكما شرعيا؛ فإما من خطاب التكليف، أو من خطاب الوضع، وأنواع خطاب التكليف محصورة1 في الخمسة، وأنواع خطاب الوضع محصورة أيضا في الخمسة التي ذكرها الأصوليون، وهذا ليس منها؛ فكان لغوا.
والثالث:
أن هذا الزائد إن كان راجعا إلى المسألة الأصولية، وهي أن يقال: هل يصح أن يخلو بعض الوقائع عن حكم الله أم لا؟ فالمسألة مختلف فيها؛ فليس إثباتها أولى من نفيها إلا بدليل2، والأدلة فيها متعارضة؛ فلا يصح إثباتها إلا بالدليل السالم عن المعارض ودعواه.
وأيضا إن كانت اجتهادية؛ فالظاهر نفيها بالأدلة المذكورة في كتب الأصول، وإن لم تكن راجعة إلى تلك المسألة؛ فليست بمفهومة، وما تقدم من الأدلة إلى إثبات مرتبة العفو لا دليل فيه؛ فالأدلة النقلية غير مقتضية للخروج عن الأحكام الخمسة لإمكان الجمع بينهما, ولأن العفو أخروي.
وأيضا، فإن سلم للعفو ثبوت؛ ففي زمانه -عليه السلام- لا في غيره، ولإمكان تأويل تلك الظواهر، وما ذكر من أنواعه فداخلة أيضا تحت الخمسة؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محل النزاع؛ فلا يصح أن يكون دليلا على إلغاء هذه المرتبة. "د".
2 في الأصل: "بالدليل".

 

ج / 1 ص -263-       فإن العفو فيها راجع إلى رفع حكم الخطأ والنسيان والإكراه والحرج، وذلك يقتضي؛ إما الجواز بمعنى الإباحة، وإما رفع ما يترتب على المخالفة من الذم وتسبيب العقاب، وذلك يقتضي إثبات الأمر والنهي مع رفع آثارهما لمعارض، فارتفع الحكم بمرتبة العفو، وأن يكون أمرا زائدا على الخمسة، وفي هذا المجال أبحاث أخر.
فصل:
وللنظر في ضوابط ما يدخل تحت العفو -إن قيل به- نظر؛ فإن الاقتصار به على محال النصوص نزعة ظاهرية، والانحلال في اعتبار ذلك على الإطلاق خرق لا يرقع، والاقتصار فيه على بعض المحال دون بعض تحكم يأباه المعقول والمنقول؛ فلا بد من وجه يقصد نحوه في المسألة حتى تتبين بحول الله، والقول في ذلك1 ينحصر في ثلاثة أنواع:
أحدها: الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض قصد نحوه2 وإن قوي معارضه.
والثاني: الخروج عن مقتضاه عن غير قصد، أو عن قصد لكن بالتأويل.
والثالث: العمل بما هو مسكوت عن حكمه رأسا.
فأما الأول؛ فيدخل تحته العمل بالعزيمة، وإن توجه حكم الرخصة ظاهرا، فإن3 العزيمة لما توخيت على ظاهر العموم أو الإطلاق؛ كان الواقف معها واقفا على دليل مثله معتمد على الجملة، وكذلك العمل بالرخصة وإن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م" زيادة: "أنه".
2 الواو للحال، وأن زائدة. "د".
3 في "د": "إن" بدون الفاء.

 

ج / 1 ص -264-       توجه حكم العزيمة؛ فإن الرخصة مستمدة من قاعدة رفع الحرج، كما أن العزيمة راجعة إلى أصل التكليف، وكلاهما أصل كلي؛ فالرجوع إلى حكم الرخصة وقوف مع ما مثله معتمد.
لكن لما كان أصل رفع الحرج واردا على أصل التكليف ورود المكمل؛ ترجح جانب أصل العزيمة بوجه ما، غير أنه لا يخرم أصل الرجوع لأن بذلك المكمل قيام أصل التكليف.
وقد اعتبر في مذهب مالك هذا1؛ ففيه: إن سافر في رمضان أقل من أربعة برد، فظن أن الفطر مباح به2 فأفطر؛ فلا كفارة عليه، وكذلك من أفطر فيه بتأويل, وإن كان أصله3 غير علمي، بل هذا جار في كل متأول؛ كشارب المسكر ظانا أنه غير مسكر، وقاتل المسلم ظانا أنه كافر، وآكل المال الحرام عليه ظانا أنه حلال له، والمتطهر بماء نجس ظانا أنه طاهر، وأشباه ذلك، ومثله المجتهد المخطئ في اجتهاده.
وقد خرج أبو داود عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه جاء يوم الجمعة والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب، فسمعه يقول:
"اجلسوا". فجلس بباب المسجد، فرآه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال [له]4: "تعال يا عبد الله بن مسعود"5. فظاهر من هذا أنه رأى الوقوف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الوقوف مع دليل معارض بقوي، وإن كان نفس الدليل غير علمي؛ لأنه مجرد ظن غير مبني على شيء من الشرع. "د".
2 في "ط": "له".
3 الذي بني عليه الفطر أو التأويل غير دليل أو مستند علمي؛ أي: لا يلزم فيه ذلك. "د".
4 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"ط".
5 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الطهارة، باب الإمام يكلم الرجل في خطبته، 1/ 286/ رقم 1091" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "3/ 206"- من طريق مخلد بن يزيد عن ابن جريج عن عطاء عن جابر به.
وقال أبو داود عقبه: "هذا يعرف, مرسل، إنما رواه الناس عن عطاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ومخلد =

 

ج / 1 ص -265-       مع مجرد الأمر، وإن قصد غيره؛ مسارعة إلى امتثال أوامره.
وسمع عبد الله بن رواحة وهو بالطريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول:
"اجلسوا". فجلس في الطريق، فمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما شأنك؟". فقال: سمعتك تقول: اجلسوا فجلست. فقال [له]1 النبي, صلى الله عليه وسلم: "زادك الله طاعة"

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= هو شيخ".
قلت: قال ابن حجر عنه في "التقريب": "صدوق له أوهام".
ومن أوهامه وصله لهذا الحديث، وقد خالفه الوليد بن مسلم؛ فرواه عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس لا عن جابر.
أخرجه ابن خزيمة في "الصحيح" "3/ 141-142/ رقم 1780"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 283-284"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 205-206".
وقال ابن خزيمة قبله: "إن كان الوليد بن مسلم ومن دونه حفظ ابن عباس في هذا الإسناد؛ فإن أصحاب ابن جريج أرسلوا هذا الخبر عن عطاء عن النبي, صلى الله عليه وسلم".
وضعفه شيخنا الألباني بقوله في التعليق على "صحيح ابن خزيمة": "قلت: فيه مع الإرسال الذي أشار إليه الحافظ -أي: ابن خزيمة- عنعنة ابن جريج، وكذا الوليد وكان يدلس تدليس التسوية, وهشام بن عمار كان يتلقن".
بقي بعد هذا أمر، وهو أن ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 866/ رقم 1632" أورد هذا الحديث بقوله: "وروي عن ابن مسعود أنه جاء يوم الجمعة..."، ثم قال: "ذكره أبو داود في كتاب الجمعة من "السنن""؛ فأوهم صنيعه هذا المصنف -أي: الشاطبي- أن الحديث من مسند ابن مسعود، وليس هو كذلك، بل هو -عند أبي داود- من مسند جابر، والمصنف ينقل كثير من الأحاديث ويعزوها أو يحكم عليها تقليدا لغيره، وقد أكثر في هذا الكتاب من النقل عن ابن عبد البر, رحمه الله تعالى.
1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"خ" و"ط".
2 أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" "3/ 256-257"، والديلمي في "الفردوس"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" -كما في "الكنز" "رقم 37170، 37171"- بإسناد منقطع؛ فهو ضعيف.

 

ج / 1 ص -266-       وظاهر هذه القصة أنه لم يقصد بالأمر بالجلوس، ولكنه لما سمع ذلك سارع إلى امتثاله، ولذلك سأله النبي -صلى الله عليه وسلم- حين رآه جالسا في غير موضع جلوس.
وقد قال عليه السلام:
"لا يصل أحد العصر إلا في بني قريظة". فأدركهم وقت العصر في الطريق؛ فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها. وقال بعضهم: بل نصلي، ولم يرد منا ذلك. "فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يعنف واحدة من الطائفتين1"2.
ويدخل ههنا كل قضاء قضى به القاضي من مسائل الاجتهاد، ثم يتبين له خطؤه، ما لم يكن قد أخطأ نصا أو إجماعا أو بعض القواطع3، وكذلك الترجيح بين الدليلين؛ فإنه وقوف مع أحدهما وإهمال للآخر، فإذا فرض مهملا للراجح؛ فذلك لأجل وقوفه مع المرجوح، وهو في الظاهر دليل يعتمد مثله، وكذلك العمل بدليل منسوخ أو غير صحيح؛ فإنه وقوف مع ظاهر دليل يعتمد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تحرفت في "م" إلى: "الطائعتين"؛ بالعين بدل الفاء.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء, 2/ 436/ رقم 946، وكتاب المغازي، باب مرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأحزاب، 7/ 407-408/ رقم 4119"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين، 3/ 1391/ رقم 1770" من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- ولفظ مسلم:
"أن لا يصلين أحد الظهر..."!
3 إذا حكم الحاكم في قضية ثم تغير اجتهاده؛ فليس له أن ينقض حكمه بنفسه, ولا يسوغ لغيره نقضه؛ لأنه يؤدي إلى عدم استمرار الأحكام؛ فتفوت المصلحة المقصودة من نصب الحكام وفصل الخصومات قال أبو سفيان للخليفة عثمان بن عفان: "لا ترد على من قبلك فيرد عليك من بعدك", وإنما يمضي حكم الحاكم في القضايا الموكولة إلى الاجتهاد, فإن خالف نصا جليا أو إجماعا أو قاعدة قطعية؛ وجب نقضه كما ينقض حكم القاضي المقلد إذا خالف الراجح المفتى به في مذهب إمامه. "خ".

 

ج / 1 ص -267-       مثله في الجملة، فهذه وأمثالها مما يدخل تحت معنى العفو المذكور.
وإنما قلنا: "الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض"؛ فشرط فيه المعارضة؛ لأنه إن كان غير معارض لم يدخل تحت العفو؛ لأنه أمر أو نهي أو تخيير عُمل على وفقه، فلا عَتبَ يُتوهم فيه، ولا مؤاخذة تلزمه بحكم الظاهر؛ فلا موقع للعفو فيه.
وإنما قيل: "وإن قوي معارضه"؛ لأنه إن لم يقْوَ معارضه لم يكن من هذا النوع، بل1 من النوع الذي يليه على إثر هذا؛ فإنه ترك لدليل2، وإن كان إعمالا لدليل أيضا؛ فإعماله من حيث هو أقوى عند الناظر أو في نفس الأمر كإعمال الدليل غير المعارض؛ فلا عفو فيه.
وأما النوع الثاني وهو الخروج عن مقتضى الدليل عن غير قصد، أو عن قصد لكن بالتأويل، فمنه الرجل يعمل عملا على اعتقاد إباحته لأنه لم يبلغه دليل تحريمه أو كراهيته، أو يتركه معتقدا إباحته إذا3 لم يبلغه دليل وجوبه أو ندبه؛ كقريب العهد بالإسلام، لا يعلم أن الخمر محرمة فيشربها، أو لا يعلم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل الأصل هكذا: "بل ولا من النوع الذي... إلخ"؛ أي: إنه إذا كان المعارض ضعيفا لا يكون أيضا من النوع الثاني؛ لأن الثاني ترك لدليل وخروج عن مقتضاه قصدا بتأويل أو بغير قصد, وما نحن بصدده إعمال لدليل ضعيف معارضه؛ فلا هو من الأول الذي لوحظ فيه قوة معارضه، ولا هو من الثاني الذي لوحظ فيه أنه ترك لدليل وخروج عنه بغير قصد أو بقصد، لكن بتأويل، والحاصل أنه لما كان إعمال المعارض بضعيف كان إعمال* لدليل غير معارض صار لا يتوهم فيه مؤاخذة حتى يكون من مواضع العفو. "د".
2 في "د" بعد كلمة "وهنا" -واستظهر المحقق عدم مناسبتها للسياق- فقال: "يشبه أن يكون هنا سقط، والأصل: "وهذا"".
3 في "ط": "إذ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا في الأصل، والأحسن أن تكون العبارة: "إعمال المعارض بضعيف إعمالا لدليل...".

 

ج / 1 ص -268-       أن غسل الجنابة واجب فيتركه، وكما اتفق في الزمان الأول حين لم تعلم الأنصار طلب الغسل من التقاء الختانين1، ومثل هذا كثير يتبين للمجتهدين، وقد روي عن مالك أنه كان لا يرى تخليل أصابع الرجلين في الوضوء، ويراه من التعمق، حتى بلغه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخلل2؛ فرجع إلى القول به، وكما اتفق لأبي يوسف مع مالك في المد والصاع، حتى رجع إلى القول بذلك3.
ومن ذلك العمل على المخالفة4 خطأ أو نسيانا، ومما يروى من الحديث:
"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"5، فإن صح

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الحيض، باب نسخ "الماء من الماء" ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، 1/ 271-272/ رقم 349" عن أبي موسى الأشعري؛ قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار؛ فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل...
2 ورد ذلك في أحاديث عديدة سردها الزيلعي في "نصب الراية" "1/ 26-27"، منها حديث لقيط بن صبرة؛ قال: قال لي رسول الله, صلى الله عليه وسلم:
"إذا توضأت فأسبغ الوضوء, وخلل بين أصابعك"، وهو حديث صحيح؛ كما قال ابن حجر في "الإصابة" "3/ 329"، وقال في "التلخيص الحبير" "1/ 81": "صححه الترمذي والبغوي وابن القطان".
قلت: وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن السكن؛ كما قال ابن الملقن في "تحفة المحتاج" "1/ 184"، وقد خرجته وتكلمت عليه بتوسع في تحقيقي لكتاب "الطهور" لأبي عبيد "رقم 284".
3 ذكره ابن تيمية في "صحة أصول أهل المدينة" "33"، وابن القيم في "إعلام الموقعين" "2/ 394".
4 أي: يخرج عن مقتضى الدليل خطأ بأن لا يفهم الدليل مثلا على وجهه، أو نسيانا للدليل، أما خطأ المجتهد المعدود سابقا في النوع الأول؛ فقد وقف فيه مع دليل لكن ظهر خطؤه في التمسك به لضعفه بإزاء دليل آخر مثلا؛ فهذا خرج عن الدليل، وذاك وقف مع دليل ظهر خطؤه في الاعتداد به؛ فتنبه لتفرق بين النوعين في جميع الأمثلة فيهما. "د".
5 مضى تخريجه "ص236".

 

ج / 1 ص -269-       فذلك, وإلا فالمعنى متفق عليه.
ومما يجري مجرى الخطأ والنسيان في أنه من غير قصد وإن وجد القصد: الإكراه المضمن في الحديث، وأبين من هذا العفو عن عثرات ذوي الهيئات؛ فإنه ثبت في الشرع إقالتهم1 في الزلات، وأن لا يعاملوا بسببها معاملة غيرهم، جاء في الحديث:
"أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"2. وفي حديث آخر: "تجافوا عن عقوبة ذوي المروءة والصلاح"3، وروي العمل بذلك عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم؛ فإنه قضى به في رجل من آل عمر بن الخطاب شج رجلا وضربه؛ فأرسله وقال: أنت من ذوي الهيئات.
وفي خبر آخر عن عبد العزيز بن عبد الله بن عبيد الله4 بن عمر بن الخطاب؛ أنه قال: استأدى علي مولى لي جرحته يقال له سلام البربري إلى ابن حزم، فأتاني فقال: جرحته؟ قلت: نعم. قال: سمعت خالتي عمرة تقول:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على فرض تسليم أصل الحديث وما بعده؛ فليس هذا من العفو الذي فيه الكلام، وهو أنه لا حرج فيه شرعا، يعني: لا إثم, وفيه المغفرة... إلخ، أما كونه لا يقتص منه لعبده أو لمن شجه؛ فهذا غير موضوع مرتبة العفو التي فيها الكلام من أول المسألة. "د".
2 سيأتي تخريجه قريبا من حديث عائشة -رضي الله عنها- وهو حسن.
3 أخرجه الطحاوي في "المشكل" "3/ 130-ط الهندية، و6/ 150/ رقم 2378-ط المحققة" من حديث ابن عمر مرفوعا بلفظ:
"تجافوا عن عقوبة ذوي المروءة وهم ذوو الصلاح"، وإسناده ضعيف، فيه محمد بن عبد العزيز ضعفوه، كما قال الذهبي، وباقي رجاله ثقات.
وأخرج ابن الأعرابي في "المعجم" "رقم 326"، والسهمي في "تاريخ جرجان" "154" بإسناد جيد عن ابن عمر مرفوعا:
"تجاوزوا في عقوبة ذوي الهيئات"، هذا لفظ ابن الأعرابي، ولفظ السهمي: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم".
والحديث حسن يحتج به، وسيأتي تخريجه من حديث عائشة, رضي الله عنها.
4 في الأصل والنسخ الثلاث: "عبد الله"، والتصويب من مصادر التخريج الآتية.

 

ج / 1 ص -270-       قالت عائشة: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"1 فخلى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أحمد في "المسند" "6/ 181"، والطحاوي في "المشكل" "3/ 129"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 334"، وأبو نعيم في "الحلية" "9/ 43" من طرق عن عبد الملك بن زيد عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عمرة عن عائشة مرفوعا، مع زيادة في آخره:
"إلا الحدود".
وأخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الحدود، باب في الحد يشفع فيه، 4/ 133/ رقم 4375", والبيهقي في "الكبرى" "8/ 267، 334" من طريقين عن ابن أبي فديك عن عبد الملك بن زيد -وهو من ولد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل- عن محمد بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة مثله، بزيادة: "عن أبيه".
وعبد الملك بن زيد ترجمه ابن حبان في "الثقات" "7/ 95"، وقال عنه النسائي: "ليس به بأس"، وضعفه علي بن الجنيد.
ورواه بهذا اللفظ ولكن بإسقاط "عن أبيه" من السند المذكور:
أبو بكر بن نافع العمري عن محمد بن أبي بكر به؛ كما عند البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 465"، وإسحاق بن راهويه في "المسند" "رقم 599"، والطحاوي في "المشكل" "3/ 126"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 94- الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 334".
ولفظ إسحاق وابن حبان:
"أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم".
وأبو بكر بن نافع مولى آل زيد بن الخطاب ضعيف.
وتابع أبو بكر بن نافع وعبد الملك بن زيد, عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر؛ كما عند النسائي في "الكبرى"، كما في "تحفة الأشراف" "12/ 413"، والطحاوي في "المشكل" "3/ 127, 128، 129".
وتابع المذكورين: عبد العزيز بن عبد الله بن عبيد الله؛ كما عند الطحاوي في "المشكل" "3/ 129"، وهو ثقة، وكذا من دونه؛ فإسناده صحيح، وذكر القصة التي أوردها المصنف، وهي سبب إيراده للحديث، لا سبب ورود الحديث.
وللحديث شواهد؛ منها حديث ابن عمر مر قريبا, وحديث ابن مسعود مرفوعا:
"أقيلوا ذوي الهيئة زلاتهم"، رواه الخطيب "10/ 85-86"، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" "2/ 234" بسند حسن في الشواهد، وانظر: "السلسلة الصحيحة" "رقم 638"، وحسنه ابن حجر في "أجوبته على =

 

ج / 1 ص -271-       سبيله ولم يعاقبه.
وهذا أيضا من شئون رب العزة سبحانه؛ فإنه قال:
{وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى، الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} الآية [النجم: 31، 32]، لكنها1 أحكام أخروية، وكلامنا في الأحكام الدنيوية.
ويقرب من هذا المعنى درء الحدود بالشبهات؛ فإن الدليل يقوم هنالك مفيدا للظن في إقامة الحد، ومع ذلك، فإذا عارضه شبهة وإن ضعفت؛ غلب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أحاديث المشكاة" "ص1790"، ومن قبله العلائي في "النقد الصحيح" "رقم 5".
وانظر كذلك: "عون المعبود" "12/ 39"، و"المقاصد الحسنة" "73".
وعلق "خ" في هذا الموطن ما نصه: "هذا الأثر مما نرتاب في صحته، ولا نكاد نفهم كيف يسوغ القاضي أن يعفو من تلقاء نفسه على من اعتدى على شخص بالضرب أو بالجرح، ويخلي سبيله متكئا على أنه من ذوي الهيئات؛ فصورة الواقعة بحسب الوجه الذي حكيت به مخالفة لما جاءت به الشريعة العادلة من التساوي في الحقوق، وأن لا فرق فيها بين شريف ووضيع، ولو كان في يد الحاكم أن يطلق سبيل المعتدي على غيره بضرب أو جرح؛ لكان لعمر بن الخطاب وجه لو أغضى عن لطم جبلة ملك غسان لذلك العامل الضعيف ولم يقل له بملء فمه الطاهر: "الإسلام سوى بينكما"، ولو عفا ابن الخطاب عن جبلة في هذه الواقعة؛ لهدم قاعدة المساواة من أساسها، وتكدرت عليه خواطر الأمة؛ فيضطرب حبل السياسة، ولا يستطيع أن يكون ذلك الرجل الذي مد جناحي خلافته على دول عظيمة في أمد غير بعيد".
قلت: توجيه الطحاوي في "المشكل" "6/ 142-154" هذا الحديث يرد على المزبور، وكلامه قوي ولا سيما وقد صح الحديث, ولله الحمد.
1 والعفو بالمعنى الذي نقرره هو أمر أخروي؛ فراجع أمثلته السابقة، حتى إنه عبر عنه فيما سبق آنفا بحصول المغفرة, وهي حكم أخروي بالقصد الأول، وإن كان قد يتبعها عدم الحد في مثل الشرب مثلا، إلا أن هناك أمورا لا شيء فيها دنيويا، كخطأ الاجتهاد مثلا؛ فإن عفوه أخروي صرف. "د".

 

ج / 1 ص -272-       حكمها، ودخل1 صاحبها في حكم العفو.
وقد يعد هذا المثال2 مما خولف فيه الدليل بالتأويل، وهو من هذا النوع أيضا3، ومثال مخالفته بالتأويل مع المعرفة بالدليل: ما وقع في الحديث في تفسير قوله تعالى:
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية [المائدة: 93] عن قدامة بن مظعون حين قال لعمر بن الخطاب: إن كنت شربتها فليس لك أن تجلدني. قال عمر: ولم؟ قال: لأن الله يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية [المائدة: 93]. فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله4.
قال القاضي إسماعيل: وكأنه أراد أن هذه الحالة تكفر ما كان من شربه؛ لأنه كان ممن اتقى وآمن وعمل الصالحات وأخطأ في التأويل، بخلاف من استحلها، كما في حديث علي -رضي الله عنه- ولم يأت في حديث قدامة أنه حُدَّ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهل هذا لا يسقط الإثم أيضا، وظاهر أنه يسقطه في غالب صور الشبهة، فإذا استقلت الشبهة بإسقاط الحد؛ لا يكون من مرتبة العفو التي هي موضوعنا. "د".
2 في النسخ المطبوعة: "المجال"، والتصحيح من الأصل.
3 لأنه الضرب الثاني من النوع الثاني؛ إلا أنه يقال عليه: كيف يعد خروجا عن مقتضى الدليل بالتأويل مع أنه وقوف مع الدليل الصريح:
"ادرءوا الحدود بالشبهات"؛ فهو لم يخرج عن الدليل العام في الحدود المخصص بها الدليل؛ لأنه بعد تخصصه لا يقال خرج عنه، بل هو إعمال للدليل المخصص الذي أفاد أن دلالة العام لا تشمل هذا الموضع؛ فلا نسلم أن درء الحدود بالشبهات من النوع الثاني بقسميه؛ لأنه لا ترك فيه للدليل* بغير قصد ولا بقصد التأويل. "د".
4 مضى تخريجه "ص158".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "الدليل".

 

ج / 1 ص -273-       ومما وقع في المذهب في المستحاضة تترك الصلاة زمانا جاهلة بالعمل أنه لا قضاء عليها فيما تركت، قال في "مختصر ما ليس في المختصر": لو طال بالمستحاضة والنفساء الدم، فلم تصل النفساء ثلاثة أشهر ولا المستحاضة شهرا؛ لم يقضيا ما مضى -إذا تأولتا في1 ترك الصلاة دوام ما بهما من الدم- وقيل في المستحاضة: إذا تركت بعد أيام أَقْرَائها يسيرا أعادته، وإن كان كثيرا؛ فليس عليها قضاؤه بالواجب، وفي سماع أبي زيد عن مالك: أنها إذا تركت الصلاة بعد الاستظهار جاهلة لا تقضي صلاة تلك الأيام. واستحب ابن القاسم لها القضاء؛ فهذا كله مخالفة للدليل مع الجهل والتأويل؛ فجعلوه من قبيل العفو، ومن ذلك أيضا المسافر يقدم2 قبل الفجر، فيظن أن من لم يدخل قبل غروب الشمس فلا صوم له، أو تطهر الحائض قبل طلوع الفجر؛ فتظن أنه لا يصح صومها حتى تطهر قبل الغروب، فلا كفارة هنا، وإن خالف الدليل؛ لأنه متأول، وإسقاط الكفارة هو3 معنى العفو.
وأما النوع الثالث، وهو العمل بما هو مسكوت عن حكمه فيه نظر، فإن خلو بعض الوقائع عن حكم لله مما اختلف فيه4، فأما على القول بصحة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تصحفت في "د": "تأولنا" بالنون.
2 تأمل لتدرك الفرق بين هذه الأمثلة وما مضى فيمن سافر أقل من أربعة برد، حيث كان من الأول الواقف مع مقتضى الدليل المعارض بقوي، وبين هذا الخارج عن الدليل متأولا؛ فالفرق غير ظاهر. "د".
3 ولِمَ لم نقل: وإسقاط الإثم أيضا، وكأنه بان على ما سبق له آنفا من أن الكلام في الأحكام الدنيوية، وقد علمت أن هذا لا يطرد في أصل المسألة، وأمثلته الكثيرة لها، بل وتصريحه سابقا بقوله: "ورفع الحرج والمغفرة". "د".
4 لا يحق لأحد بعد التفقه في قوله تعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}, وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، أن يذهب إلى أن يكون بعض الوقائع خاليا من الحكم الشرعي على معنى أن الشريعة أهملته إهمالا مطلقا، بحيث لم تصب دليلا أو تضع أمارة تنبه بها المكلف على مقصدها فيه؛ هل هو الإيجاب، أو الحظر، أو رفع الحرج؟ ولم يبق سوى أن من يقول في الوقائع ما يخلو عن الحكم إنما يقصد عدم نصب دليل يخصه أو يخص نوعه، وهو المسكوت عنه الذي عرف بأدلة عامة أن الشريعة تصدت رفع الحرج فيه عن المكلفين، ورأت طائفة إلى أن الأدلة العامة تجعله من قبيل المحظور. "خ".

 

ج / 1 ص -274-       الخلو؛ فيتوجه النظر، وهو مقتضى الحديث: "وما سكت عنه؛ فهو عفو"1، وأشباهه مما تقدم.
وأما على القول الآخر؛ فيشكل الحديث؛ إذ ليس ثم مسكوت عنه بحال، بل هو إما منصوص، وإما مقيس على منصوص، والقياس من جملة الأدلة الشرعية؛ فلا نازلة إلا ولها في الشريعة محل حكم، فانتفى المسكوت عنه إذًا.
ويمكن أن يصرف السكوت على هذا القول إلى ترك الاستفصال مع وجود مظنته، وإلى السكوت عن مجاري العادات مع استصحابها في الوقائع، وإلى السكوت عن أعمال أخذت قبل من شريعة إبراهيم, عليه السلام.
فالأول:
كما في قوله تعالى:
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، فإن هذا العموم يتناول بظاهره ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم، وإذا نظر إلى المعنى [أشكل]2؛ لأن في ذبائح الأعياد زيادة تنافي أحكام الإسلام؛ فكان للنظر هنا مجال، ولكن مكحولا سئل عن المسألة؛ فقال: كله، قد علم الله ما يقولون وأحل ذبائحهم، يريد -والله أعلم- أن الآية لم يخص3 عمومها، وإن وجد هذا الخاص المنافي، وعلم الله مقتضاه ودخوله تحت عموم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص225".
2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
3 في الأصل: "تخص".

 

ج / 1 ص -275-       اللفظ، ومع ذلك فأحل ما ليس فيه عارض وما هو فيه، لكن بحكم العفو عن وجه المنافاة.
وإلى نحو هذا يشير قوله, عليه السلام:
"وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان؛ فلا تبحثوا عنها"1 وحديث الحج أيضا مثل هذا، حين قال: "أحجنا هذا لعامنا أو للأبد؟"2؛ لأن اعتبار اللفظ يعطي أنه للأبد، فكَرِهَ عليه السلام سؤاله، وبين له علة ترك السؤال عن مثله، وكذلك حديث: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما..."3 إلخ يشير إلى هذا المعنى، فإن السؤال عما لم يحرم، ثم يحرم لأجل المسألة، إنما يأتي في الغالب من جهة إبداء وجه4 فيه يقتضي التحريم، مع أن له أصلا يرجع إليه في الحلية، وإن اختلفت فروعه في أنفسها، أو دخلها معنى يخيل الخروج عن حكم ذلك الأصل، ونحو حديث: "ذروني5 ما تركتكم"6 وأشباه ذلك.
والثاني:
كما في الأشياء التي كانت في أول الإسلام على حكم الإقرار، ثم حرمت بعد ذلك بتدريج؛ كالخمر، فإنها كانت معتادة الاستعمال في الجاهلية، ثم جاء الإسلام؛ فتركت على حالها قبل الهجرة وزمانا بعد ذلك،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص253" وهو حديث حسن.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العمرة، باب عمرة التنعيم، 3/ 606/ رقم 1785"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، 2/ 883-884/ رقم 1216" من حديث جابر بن عبد الله, رضي الله عنه.
3 مضى تخريجه "ص48"، وهو في "الصحيحين".
4 أي؛ فهو يسكت عنه؛ أي: يترك الاستفصال فيه مع وجود مظنته. "د".
5 فلا تستقصوا*؛ فيترتب على ذلك تفصيل لا يكون فيه مصلحتكم. "د".
6 مضى تخريجه "ص256"، وهو في "الصحيحين".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "يستقصوا".

 

ج / 1 ص -276-       ولم يتعرض في الشرع للنص على حكمها حتى نزل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219]؛ فبين ما فيها من المنافع والمضار، وأن الأضرار فيها أكبر من المنافع1، وترك الحكم الذي اقتضته المصلحة وهو التحريم؛ لأن القاعدة الشرعية أن المفسدة إذا أربت على المصلحة؛ فالحكم للمفسدة، والمفاسد ممنوعة2؛ فبان وجه المنع فيهما، غير أنه لما لم ينص على المنع -وإن ظهر وجهه- تمسكوا بالبقاء مع الأصل الثابت لهم بمجاري العادات، ودخل لهم تحت العفو، إلى أن نزل ما في سورة المائدة من قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوه}؛ فحينئذ استقر حكم التحريم، وارتفع العفو, وقد دل على ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية [المائدة: 93]؛ فإنه لما حرمت قالوا: كيف بمن مات وهو يشربها؟ فنزلت الآية3، فرفع الجناح هو معنى4 العفو.
ومثال5 ذلك الربا المعمول به في الجاهلية وفي أول الإسلام، وكذلك بيوع الغرر الجارية بينهم؛ كبيع المضامين، والملاقيح، والثمر قبل بدو صلاحه، وأشباه ذلك، كلها كانت مسكوتا عنها، وما سكت عنه؛ فهو في معنى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "النفع".
2 ولذا قال بعضهم: إن التحريم بدأ من هذه الآية؛ لأنه ذكر ما يقتضي الحرمة، لكن لما لم ينص؛ تمسكوا بالأصل بمقتضى العادة، فكان عفوا. "د".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا...}، 8/ 278/ رقم 4620"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر... 3/ 1570/ رقم 1980" عن أنس, رضي الله عنه.
4 تنبه لهذا؛ فهو يؤيد ما قلناه في معنى العفو، وأن الأصل فيه الحكم الأخروي، والأحكام الدنيوية إن وجدت تكون تابعة له. "د".
5 في النسخ المطبوعة: "ومثل".

 

ج / 1 ص -277-       العفو، والنسخ بعد ذلك لا يرفع هذا المعنى؛ لوجود جملة منه باقية إلى الآن على حكم إقرار الإسلام؛ كالقراض، والحكم في الخنثى بالنسبة إلى الميراث وغيره، وما أشبه ذلك مما نبه عليه العلماء.
والثالث:
كما في النكاح والطلاق والحج والعمرة وسائر أفعالهما؛ إلا ما غيروا؛ فقد كانوا يفعلون ذلك قبل الإسلام؛ فيفرقون بين النكاح والسفاح، ويطلقون، ويطوفون بالبيت أسبوعا، ويمسحون الحجر الأسود، ويسعون بين الصفا والمروة، ويلبون، ويقفون بعرفات، ويأتون مزدلفة، ويرمون الجمار، ويعظمون الأشهر الحرم ويحرمونها، ويغتسلون من الجنابة، ويغسلون موتاهم ويكفنونهم، ويصلون عليهم، ويقطعون السارق، ويصلبون قاطع الطريق، إلى غير ذلك مما كان فيهم من بقايا ملة أبيهم إبراهيم؛ فكانوا على ذلك إلى أن جاء الإسلام؛ فبقوا على حكمه حتى أحكم الإسلام منه ما أحكم، وانتسخ ما خالفه؛ فدخل ما كان قبل ذلك1 في حكم العفو مما لم يتجدد فيه خطاب زيادة على التلقي من الأعمال المتقدمة، وقد نسخ منها ما نسخ، وأُبقي منها ما أبقي على المعهود الأول.
فقد ظهر بهذا البسط مواقع العفو في الشريعة وانضبطت والحمد لله على أقرب ما يكون إعمالا لأدلته الدالة على ثبوته؛ إلا أنه بقي النظر في العفو؛ هل هو حكم أم لا؟ وإذا قيل حكم؛ فهل يرجع إلى خطاب التكليف أم خطاب الوضع؟ هذا محتمل كله، ولكن لما لم يكن مما ينبني عليه حكم عملي؛ لم يتأكد البيان فيه، فكان الأولى تركه، والله الموفق للصواب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مما استمروا عليه مدة ثم نسخ."د".

 

ج / 1 ص -278-       المسألة الحادية عشرة: فرض الكفاية
طلب الكفاية, يقول العلماء بالأصول: إنه متوجه على الجميع، لكن إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين, وما قالوه صحيح من جهة كلي1 الطلب، وأما من جهة جزئيه؛ ففيه تفصيل, وينقسم أقساما، وربما تشعب تشعبا طويلا، ولكن الضابط للجملة من ذلك؛ أن الطلب وارد على البعض، ولا على البعض كيف كان، ولكن على من فيه أهلية القيام بذلك الفعل المطلوب، لا على الجميع عموما.
والدليل على ذلك أمور:
أحدها:
النصوص الدالة على ذلك؛ كقوله تعالى:
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الآية [التوبة: 122]؛ فورد التحضيض على طائفة لا على الجميع.
وقوله:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}2 الآية [آل عمران: 104].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: باعتبار مجموعة فروض الكفايات، وإلا؛ فهذا إنما يتوجه على بعض المكلفين المتأهلين للقيام به، ويتفرع على هذا أنه إذا لم يقم به أحد؛ فإن الإثم لا يعم المكلفين، بل يخص المتأهلين فقط، هذا مراده ومحل استدلاله؛ فعليك بتطبيق أدلته على هذا المعنى، وهذا غير الخلاف بين الأصوليين في أنه متوجه على الكلي الإفرادي؛ كما هو التحقيق، أو المجموعي كما هو مقابله؛ لأن خلافهم يجري هنا أيضا بعد تسليم مسألته هنا؛ فيقال: هل البعض المتأهل لهذا الفرض الوارد عليه الطلب المراد به كل البعض الإفرادي أو المجموعي. "د".
2 هذه الآيات لا تدل على أن الطلب متوجه إلى البعض، بل للمانع أن يقول: المعنى يجب عليكم جميعا أن يكون بعضكم المتأهل لذلك داعيا إلى الخير... إلخ مثلا، ومعنى توجه الطلب على الجميع أن ينهضوهم لذلك ويعدوهم له، ويعاونوهم بكل المسائل ليتحقق هذا المهم من المصلحة، فإن لم يحصل هذا المهم من المصلحة؛ أثم جميع المكلفين، المتأهل وغيره، وفي مثله
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا} إلخ. "د".
قلت: انظر حول تفسير الآيات في: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "15/ 165-166"، و"بدائع التفسير" "1/ 508 و2/ 384-385" لابن القيم.

 

ج / 1 ص -279-       وقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [النساء: 102] الآية إلى آخرها.
وفي القرآن من هذا النحو أشياء كثيرة، ورد الطلب فيها نصا على البعض لا على الجميع.
والثاني:
ما ثبت من القواعد الشرعية القطعية في هذا المعنى؛ كالإمامة1 الكبرى أو الصغرى، فإنهما إنما تتعين على من فيه أوصافها المرعية لا على كل الناس، وسائر الولايات بتلك المنزلة إنما يطلب2 بها شرعا باتفاق من كان أهلا للقيام بها والغناء فيها3, وكذلك الجهاد -حيث يكون فرض كفاية- إنما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على رأيه يكون الإثم الآن حيث لا خلافة قائمة على من كان فيه الأوصاف المعتبرة للخلافة لا غير، وليست الأمة بآثمة، فإذا فرض أن الشروط المرعية غير متوفرة الآن؛ فلا إثم على أحد، وهذا ما لا يمكن أن يسلم به، والتعين الذي يقوله شيء آخر غير فرض الكفاية الذي هو موضوعنا. "د".
2 بل الذي يقال: إنما تسند إلى من كان أهلا، ولكن المطالب بذلك الجميع. "د".
3 المستحق للولاية من تحقق فيه أمران: أحدهما: القدرة على القيام بأعبائها، وهذا يرجع إلى العلم وجودة الرأي في تدبير شئونها. ثانيهما: الاستقامة، وهي العمل بما عرف من حق ومصلحة، وإجراؤه بعزم ثابت على الرغم من كل هوى يثور في النفس أو خيال يزين له إيثار مرضاة الوجيه أو الغني على الفوز برضا الأمة الذي هو أمارة رضوان الخالق وسلامة العاقبة، هذان الشرطان هما اللذان يصح لمن تحققا فيه أن يتقلد منصبا أو عملا، ولكن جاء في الحديث الصحيح المصرح بأن يكون الإمام الأكبر قرشيا، وحقق آخرون النظر؛ ففهموا أن ذكر القرشية في الحديث لكون شدة العصبية التي هي ملاك المنعة وعزة الجانب كانت بالغة غايتها في قريش، لو انحلت الرابطة القرشية ونهض رئيس غير قرشي، وقد التفت حوله قوة يمكنها أن تذود عن الأمة كل من يتهافت به الجشع على استعبادها؛ لكان جديرا بالإمامة وحقيقا بأن تمد له الشعوب الإسلامية أيديها بالمبايعة والطاعة. "خ".

 

ج / 1 ص -280-       يتعين1 القيام به على من فيه نجدة وشجاعة، وما أشبه ذلك من الخطط الشرعية؛ إذ لا يصح أن يطلب بها من لا يبدئ فيها ولا يعيد؛ فإنه من باب تكليف ما لا يطاق بالنسبة إلى المكلف، ومن باب العبث بالنسبة إلى المصلحة المجتلبة أو المفسدة المستدفعة، وكلاهما باطل شرعا.
والثالث:
ما وقع من فتاوى2 العلماء، وما وقع أيضا في الشريعة من هذا المعنى؛ فمن ذلك ما روي عن محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد قال لأبي ذر3:
"يا أبا ذر! إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم"3، وكلا الأمرين من فروض الكفاية، ومع ذلك؛ فقد نهاه عنها، فلو فرض إهمال الناس لهما؛ لم يصح4 أن يقال بدخول أبي ذر في حرج

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لسنا في فرض العين، فهذا مسلم أنه إنما يتعين على هؤلاء، ولكن علينا جميعا أن يحصل ذلك، وبالجملة؛ فالقيام فعلا بالمصلحة إنما يسند إلى من يتأهل له، وقد يكون الطلب المتوجه إليه في ذلك طلب عين إذا لم يوجد متأهل خلافه، فإن وجد؛ كان الطلب لا يزال كفائيا، كغيره ممن لم يتأهل، ويكون الفرق بين المتأهل وغيره؛ أن غير المتأهل عليه أن يعمل ليقوم بها المتأهل، والمتأهل عليه ذلك، وعليه إذا تعين لها أن يقوم بها. "د".
2 هل فتاوى العلماء تعتبر دليلا في مثل هذا، وهو أصل كبير في الدين ينبني عليه كما قلنا أحكام تشمل الأمة أو لا تشملها؟ "د".
3 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، 3/ 1457-1458/ رقم 1826", وأبو داود في "السنن" "كتاب الوصايا، باب ما جاء في الدخول في الوصايا/ رقم 2868"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الوصايا، باب النهي عن الولاية على مال اليتيم، 6/ 255"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 129 و6/ 283" من حديث أبي ذر, رضي الله عنه.
4 وهذا صريح فيما قررناه من أنه ينبني على كلامه أن المخاطب بفرض الكفاية خصوص
من فيه أهلية له، فلو أهمل؛ لم تأثم الأمة، حتى لو فرض أن المسلمين كان فيهم واحد فقط أهلا للخلافة ولم يتوسدها؛ كان هو الآثم فقط، وهل ينال الخلافة بغير الأمة التي تعهد إليه بها؟ فإذا لم تنهضه الأمة وتبايعه؛ كانت آثمة قطعا. "د".

 

ج / 1 ص -281-       الإهمال، ولا من كان مثله.
وفي الحديث:
"لا تسأل الإمارة"1، وهذا النهي يقتضي أنها غير عامة الوجوب، ونهى أبو بكر -رضي الله عنه- بعض الناس عن الإمارة، فلما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليها أبو بكر، فجاءه الرجل، فقال: نهيتني عن الإمارة ثم وليت؟ فقال له: "وأنا الآن أنهاك عنها". واعتذر له عن ولايته هو بأنه لم يجد من ذلك بدا2.
وروي أن تميمًا الداري استأذن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- في أن يقص؛ فمنعه من ذلك3، وهو من مطلوبات الكفاية -أعني: هذا النوع من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب قول الله تعالى:
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ}، 11/ 516-517/ رقم 6622، وكتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعده، 11/ 608/ رقم 6722" عن عبد الرحمن بن سمرة -رضي الله عنه- وتتمته: "فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها".
2 أخرجه ابن المبارك في "الزهد" "ص235"، وعبد الرزاق في "المصنف" "11/ 321" مطولا، دون قصة مراجعة الرجل له بذلك بعد توليه الخلافة، وفيه أن اسم الرجل: رافع الطائي.
وزاد نسبته في "الإصابة" "1/ 497"، للطبراني وابن خزيمة.
3 أخرج أحمد في "المسند" "3/ 449", وابن أبي عاصم في "المذكر والتذكير والذكر/ رقم 3"، والطبراني في "الكبير" "7/ 177" عن السائب بن يزيد؛ قال: "لم يقص على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا عهد أبي بكر، ولا عهد عمر -رضي الله عنهما- وأول من قص تميم الداري، استأذن عمر أن يقص؛ فأذن له أن يقص قائما على رجليه".
وفي إسناده بقية بن الوليد، وهو مدلس، وقد عنعن.
وأخرج ابن وهب في "الجامع" "1/ 89"، والطبراني في "الكبير" "2/ 49"؛ أن تميمًا الداري استأذن عمر في القصص فأبى أن يأذن له، ثم استأذنه فأبى أن يأذن له، ثم استأذنه؛ فقال: =

 

ج / 1 ص -282-       القصص الذي طلبه تميم -رضي الله عنه- وروي نحوه عن علي بن أبي طالب, رضي الله عنه1.
وعلى هذا المَهْيَع2 جرى العلماء في تقرير كثير من فروض الكفايات؛ فقد جاء عن مالك أنه سئل عن طلب العلم: أفرض هو؟ فقال: "أما على كل الناس؛ فلا"3، يعني به الزائد على الفرض العيني، وقال أيضا: "أما من كان فيه موضع للإمامة؛ فالاجتهاد في طلب العلم عليه واجب، والأخذ في العناية بالعلم على قدر النية فيه"؛ فقسم كما ترى، فجعل من فيه قبولية للإمامة مما يتعين عليه، ومن لا جعله مندوبا إليه, وفي ذلك بيان أنه ليس على كل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "إن شئت"، وأشار بيده "يعني الذبح".
وإسناده ضعيف؛ لأنه منقطع، عمرو بن دينار لم يسمع عمر، قاله الهيثمي في "المجمع" "1/ 89".
وأخرج ابن أبي عاصم في "المذكر والتذكير والذكر" "رقم 5" عن حميد بن عبد الرحمن؛ قال: "إن تميمًا الداري استأذن عمر -رضي الله عنه- أن يقص، فلم يأذن له، ثم استأذنه؛ فقال له عمر: تقول ماذا؟ فقال: أقرأ عليهم القرآن وأذكرهم وأعظهم. قال: فأذن له في الأسبوع يوما واحدا، ثم استأذن عثمان -رضي الله عنه- فأذن، ثم استزاده؛ فزاده يوما واحدا، وقد كان استزاد عمر يوما واحدا؛ فلم يأذن له".
وحميد بن عبد الرحمن لم يدرك عمر، وفي إسناده أيضا عبد الله بن نافع الصائغ، في حفظه لين؛ فإسناده ضعيف، ولكن أخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "1/ 9-15"، وابن وهب في "الجامع" "1/ 88، 89" من طرق كثيرة عن عمر، تدلل على أن للقصة أصلا.
1 وعن عثمان -رضي الله عنه- كما تقدم، والوارد عن علي أخرجه ابن وهب في "الجامع" "1/ 88".
2 المهيع: الطريق الواسع المنبسط. انظر: "لسان العرب" "هـ ي ع".
3 أخرجه بنحوه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "رقم 32، 34، 35"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 45-46".

 

ج / 1 ص -283-       الناس1، وقال سحنون: من كان أهلا للإمامة وتقليد العلوم؛ ففرض عليه أن يطلبها لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]، ومن لا يعرف المعروف كيف يأمر به؟! أو لا يعرف المنكر كيف ينهى عنه؟!
وبالجملة؛ فالأمر في هذا المعنى واضح، وباقي البحث في المسألة موكول إلى علم الأصول.
لكن قد يصح أن يقال: إنه واجب على الجميع على وجه من التجوز2؛ لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة؛ فهم مطلوبون بسدها على الجملة3؛ فبعضهم هو قادر عليها مباشرة، وذلك من كان أهلا لها، والباقون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: القيام به فعلا، وهذا لا نزاع فيه؛ لأن طبيعة فرض الكفاية أنه يقوم به أحد المتأهلين له. "د".
2 هذا مع قوله سابقا: "فلو فرض إهمال... إلخ" يقتضي أنه ليس وجوبا حقيقيا بحيث يأثم الجميع بالترك؛ لأن هذا معنى "التجوز" الذي يقوله، يعني أنه* ليس واجبا بمعناه الشرعي؛ فلا يتم قوله بعد: "فلا يبقى للمخالفة وجه"، وإن كان يريد أنه فرض على الجميع حقيقة يأثم الكل بتركه؛ لأن عليهم إقامة القادر على الواجب، يعني: فإذا تركوا أثم الكل صح الكلام، لكن يخالف ما تقدم، ويجعل البحث كله والمسألة جميعها غير منتجة ثمرة في الدين، وتدخل المسائل التي لا هي من صلب العلم ولا من ملحه. "د".
3 يمتاز فرض الكفاية عن فرض العين بأن القصد منه وقوع الفعل المأمور به من غير نظر إلى فاعله، فمتى وقع ذلك الفعل على الوجه الصحيح؛ ارتفع الطلب سواء قام به فرد أو الجماعة بأكملها، أما فرض العين؛ فإن قصد الشارع منه يتوجه إلى الفاعل بعينه، حتى إذا عجز عن القيام بالفعل؛ سقط الطلب جملة، ولم ينتقل إلى غيره؛ لأن مصلحة الفعل في صدوره عن المكلف به المعين لا في وجوده كيف اتفق, كما هو الشأن في فرض الكفاية. "خ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "وأنه" بزيادة واو!

 

ج / 1 ص -284-       -وإن لم يقدروا عليها- قادرون على إقامة القادرين، فمن كان قادرا على الولاية؛ فهو مطلوب بإقامتها، ومن لا يقدر عليها؛ مطلوب بأمر آخر، وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام بها؛ فالقادر إذًا مطلوب بإقامة الفرض، وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر؛ إذ لا يتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة من باب ما لا يتم الواجب إلا به، وبهذا الوجه يرتفع مناط الخلاف؛ فلا يبقى للمخالفة وجه ظاهر.
فصل:1
ولا بد من بيان بعض تفاصيل هذه الجملة ليظهر وجهها وتتبين صحتها بحول الله.
وذلك أن الله -عز وجل- خلق الخلق غير عالمين بوجوه مصالحهم، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ألا ترى إلى قول الله تعالى:
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية؛ تارة بالإلهام كما يلهم الطفل التقام الثدي ومصه، وتارة بالتعليم؛ فطلب الناس بالتعلم والتعليم لجميع ما يستجلب به المصالح وكافة ما تدرأ به المفاسد؛ إنهاضا لما جبل فيهم من تلك الغرائز الفطرية، والمطالب الإلهامية؛ لأن ذلك كالأصل للقيام بتفاصيل المصالح -كان ذلك من قبيل الأفعال، أو الأقوال، أو العلوم والاعتقادات، أو الآداب الشرعية أو العادية- وفي أثناء العناية بذلك يقوى في كل واحد من الخلق ما فطر عليه، وما ألهم له من تفاصيل الأحوال والأعمال؛ فيظهر فيه وعليه، ويبرز فيه على أقرانه ممن لم يهيأ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر تحته مبادئ وأسسا مهمة في التربية غاية، قل أن تجدها عند غيره؛ فلله دره ما أفهمه وأبعد غوره وأغزر علمه!
وانظر حول هذه المبادئ: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "16/ 129-151".

 

ج / 1 ص -285-       تلك التهيئة؛ فلا يأتي زمان التعقل إلا وقد نجم1 على ظاهره ما فطر عليه في أوليته، فترى واحدا قد تهيأ لطلب العلم، وآخر لطلب الرياسة، وآخر للتصنع ببعض المهن المحتاج إليها, وآخر للصراع والنطاح، إلى سائر الأمور.
هذا وإن كان كل واحد قد غرز فيه التصرف الكلي؛ فلا بد في غالب العادة من غلبة البعض عليه؛ فيرد التكليف عليه معلما مؤدبا في حالته التي هو عليها فعند ذلك ينتهض الطلب على كل مكلف في نفسه من تلك المطلوبات بما هو ناهض فيه، ويتعين على الناظرين فيهم الالتفات إلى تلك الجهات؛ فيراعونهم بحسبها ويراعونها [إلى]2 أن تخرج في أيديهم على الصراط المستقيم، ويعينونهم على القيام بها، ويحرضونهم على الدوام فيها؛ حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه من تلك الخطط3، ثم يخلى4 بينهم وبين أهلها، فيعاملونهم بما يليق بهم ليكونوا من أهلها، إذا صارت لهم كالأوصاف الفطرية، والمدركات الضرورية؛ فعند ذلك يحصل الانتفاع، وتظهر نتيجة تلك التربية.
فإذا فرض -مثلا- واحد من الصبيان ظهر عليه حسن إدراك، وجودة فهم، ووفور حفظ لما يسمع -وإن كان مشاركا في غير ذلك من الأوصاف- ميل به نحو ذلك القصد, وهذا واجب على الناظر فيه من حيث الجملة مراعاة لما يرجى فيه من القيام بمصلحة التعليم فطلب بالتعلم وأدب بالآداب المشتركة بجميع العلوم، ولا بد أن يمال منها إلى بعض فيؤخذ به، ويعان عليه، ولكن على الترتيب الذي نص عليه ربانيو العلماء، فإذا دخل في ذلك البعض فمال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ظهر. انظر: "لسان العرب" "ن ج م".
2 ما بين المعقوفتين ليست في الأصل.
3 أي: الأمور والأحوال. انظر: "لسان العرب" "خ ط ط".
4 في الأصلي: "تخلي".

 

ج / 1 ص -286-       به طبعه إليه على الخصوص، وأحبه أكثر من غيره؛ ترك وما أحب، وخص بأهله؛ فوجب عليه إنهاضه فيه حتى يأخذ منه ما قدر له، من غير إهمال له ولا ترك لمراعاته، ثم إن وقف هنالك فحسن، وإن طلب الأخذ في غيره أو طلب به؛ فعل معه فيه ما فعل فيما قبله، وهكذا إلى أن ينتهي.
كما لو بدأ بعلم العربية مثلا -فإنه الأحق بالتقديم- فإنه يصرف إلى معلميها؛ فصار من رعيتهم، وصاروا هم رعاة له, فوجب عليهم حفظه فيما طلب بحسب ما يليق به وبهم، فإن انتهض عزمه بعد إلى أن [صار]1 يحذق القرآن؛ صار من رعيتهم، وصاروا هم رعاة له كذلك، ومثله إن طلب الحديث أو التفقه في الدين إلى سائر ما يتعلق بالشريعة من العلوم، وهكذا الترتيب فيمن ظهر عليه وصف الإقدام والشجاعة وتدبير الأمور، فيمال به نحو ذلك، ويعلم آدابه المشتركة، ثم يصار به إلى ما هو الأولى فالأولى من صنائع التدبير؛ كالعرافة، أو النقابة، أو الجندية، أو الهداية، أو الإمامة، أو غير ذلك مما يليق به، وما ظهر له فيه نجابة ونهوض, وبذلك يتربى لكل فعل هو فرض كفاية قوم؛ لأنه سير أولا في طريق مشترك, فحيث وقف السائر وعجز عن السير؛ فقد وقف في مرتبة محتاج إليها في الجملة، وإن كان به قوة زاد في السير إلى أن يصل إلى أقصى الغايات في المفروضات الكفائية، وفي التي يندر من يصل إليها؛ كالاجتهاد في الشريعة، والإمارة؛ فبذلك تستقيم أحوال الدنيا وأعمال الآخرة.
فأنت ترى أن الترقي في طلب الكفاية ليس على ترتيب واحد، ولا هو على الكافة بإطلاق، ولا على البعض بإطلاق، ولا هو مطلوب من حيث المقاصد دون الوسائل، ولا بالعكس، بل لا يصح أن ينظر فيه نظر واحد حتى يفصل بنحو من هذا التفصيل، ويوزع في أهل الإسلام بمثل هذا التوزيع، وإلا؛ لم ينضبط الأول فيه بوجه من الوجوه، والله أعلم [وأحكم]2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين ليست في الأصل.
2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.

 

ج / 1 ص -287-       المسألة الثانية عشرة: للحاجة والضرورة
ما أصله1 الإباحة للحاجة أو الضرورة؛ إلا أنه يتجاذبه العوارض المضادة لأصل الإباحة وقوعا أو توقعا، هل يكر على أصل الإباحة بالنقض, أم2 هذا محل نظر وإشكال؟ والقول فيه أنه لا يخلو؛ إما أن يضطر إلى ذلك المباح، أم لا، وإذا لم يضطر إليه, فإما أن يلحقه بتركه حرج أم لا؛ فهذه أقسام3 ثلاثة:
أحدها:
أن يضطر إلى فعل ذلك المباح؛ فلا بد من الرجوع إلى ذلك الأصل، وعدم اعتبار ذلك العارض؛ لأوجه:
- منها: أن ذلك المباح قد صار واجب الفعل، ولم يبق على أصله من الإباحة، وإذا صار واجبا؛ لم يعارضه إلا ما هو مثله في الطرف الآخر أو أقوى منه، وليس فرض المسألة هكذا؛ فلم يبق إلا أن يكون طرف الواجب أقوى؛ فلا بد من الرجوع إليه، وذلك يستلزم عدم معارضة الطوارئ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ما كان أصله مباحا؛ كالأكل والشرب والبيع والشراء والنكاح، ولكنه اضطر إليه الشخص أو احتاج إليه حاجة يلحقه بسببها ضيق شديد وحرج لو ترك فعله، وهو مع كونه مضطرا إليه أو محتاجا إليه تعرض له مفسدة واقعة بالفعل أو متوقعة؛ فهل يعتبر جانب اللاحق من المفسدة فتنقض حكم الإباحة فيصير ممنوعا مع أنه ضروري أو حاجي، أو لا يعتبر الطارئ ويبقى لا حرج في استعماله؟ وقد مثل الضروري في المسألة الخامسة عشرة من كتاب الأدلة بالبيع والشراء الذي لا يسلم غالبا من لقاء المنكر أو ملابسته بسببه، وسيمثل هنا لما في تركه الحرج بمخالطة الناس.
"د".
2 في النسخ المطبوعة: "أو".
3 وهي ما إذا اضطر إليه، وما إذا لحقه بتركه حرج، وما ليس واحد منها، وسيذكر الثالث أثناء المسألة الثالثة عشرة. "د".

 

ج / 1 ص -288-       والثاني: أن محال الاضطرار مغتفرة في الشرع، أعني أن إقامة الضرورة معتبرة، وما يطرأ عليه من عارضات المفاسد مغتفرة في جنب المصلحة المجتلبة، كما اغتفرت مفاسد أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وأشباه ذلك في جنب الضرورة لإحياء النفس المضطرة، وكذلك النطق بكلمة الكفر أو الكذب حفظا للنفس أو المال حالة الإكراه، فما نحن فيه من ذلك النوع؛ فلا بد فيه من عدم اعتبار العارض للمصلحة الضرورية.
والثالث: أنا لو اعتبرنا العوارض ولم نغتفرها؛ لأدى ذلك إلى رفع الإباحة1 رأسا، وذلك غير صحيح، كما سيأتي في كتاب "المقاصد" من أن المكمل إذا عاد على الأصل بالنقض سقط اعتباره2، واعتبار العوارض هنا إنما هي من ذلك الباب؛ فإن البيع والشراء حلال في الأصل، فإذا اضطر إليه وقد عارضه موانع في طريقه؛ ففقد الموانع من المكملات، كاستجماع الشرائط، وإذا اعتبرت أدى إلى ارتفاع ما اضطر إليه، وكل مكمل عاد على أصله بالنقض فباطل؛ فما نحن فيه مثله.
والقسم الثاني:
أن لا يضطر إليه، ولكن يلحقه بالترك حرج، فالنظر يقتضي الرجوع إلى أصل الإباحة وترك اعتبار الطوارئ؛ إذ الممنوعات قد أبيحت رفعا للحرج، كما سيأتي لابن العربي في دخول الحمام3، وكما إذا كثرت المناكر في الطرق4 والأسواق؛ فلا يمنع ذلك التصرف في الحاجات إذا كان الامتناع من التصرف حرجا بينا،
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإباحة هنا بمعنى الإذن؛ كما هو ظاهر "د".
2 انظر: "2/ 302 وما بعدها".
3 انظر: "3/ 527".
4 في الأصل: "الطريق".

 

ج / 1 ص -289-       وقد أبيح الممنوع رفعا للحرج؛ كالقرض الذي فيه بيع الفضة بالفضة ليس يدا بيد، وإباحة العرايا، وجميع ما ذكره الناس في عوارض النكاح1، وعوارض مخالطة الناس، وما أشبه ذلك، وهو كثير، هذا وإن ظهر ببادئ الرأي2 الخلاف ههنا؛ فإن قوما شددوا فيه على أنفسهم، وهم أهل علم يقتدى بهم، ومنهم من صرح في الفتيا بمقتضى الانكفاف واعتبار العوارض؛ فهؤلاء إنما بتّوا في المسألة على أحد وجهين:
- إما أنهم شهدوا بعدم الحرج لضعفه عندهم، وأنه مما هو معتاد في التكاليف، والحرج المعتاد مثله في التكاليف غير مرفوع، وإلا لزم ارتفاع جميع التكاليف أو أكثرها، وقد تبين ذلك في القسم الثاني من قسمي الأحكام3.
- وإما أنهم عملوا وأفتوا باعتبار الاصطلاح الواقع4 في الرخص، فرأوا أن كون المباح رخصة يقضي برجحان الترك مع الإمكان، وإن لم يطرق في طريقه عارض؛ فما ظنك به إذا طرق العارض؟ والكلام في هذا المجال أيضا مذكور في قسم الرخص5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إذا ترتب على النكاح دخول في كسب الشبهات وارتكاب بعض الممنوعات؛ قالوا: إن هذا لا يمنع النكاح، ويعرض للمخالطة وقوع -أو توقع سماع- المنكرات ورؤيتها، ومع ذلك لم تمنع. "د".
2 وعليه يكون خلافا في حال لا خلافا حقيقيا؛ فلذا قال: "ظهر ببادئ الرأي"؛ أي: إن هؤلاء لو بنوا على أن فيه حرجا لقالوا بعدم اعتبار العوارض. "د".
3 انظر: "2/ 214".
4 في الأصل و"ط": "الرابع" ولا معنى لها.
5 وانظر: "4/ 543".

 

ج / 1 ص -290-       وربما اعترضت1 في طريق المباح عوارض يقضي مجموعها برجحان اعتبارها، ولأن ما يلحق فيها من المفاسد أعظم مما يلحق في ترك ذلك المباح، وأن الحرج فيها أعظم منه في تركه، وهذا أيضا مجال اجتهاد؛ إلا أنه يقال: هل يوازي الحرج اللاحق بترك الأصل الحرج اللاحق بملابسة العوارض أم لا؟ وهي مسألة نرسمها الآن بحول الله تعالى، وهي:
المسألة الثالثة عشرة: سبب فقدان العوارض بالنسبة للأصل
فنقول: لا يخلو أن يكون فقد العوارض بالنسبة إلى هذا الأصل من باب المكمل له في بابه، أو من باب آخر هو أصل في نفسه، فإن كان هذا الثاني؛ فإما أن يكون واقعا أو متوقعا، فإن2 كان متوقعا؛ فلا أثر له مع وجود الحرج؛ لأن الحرج بالترك واقع وهو مفسدة، ومفسدة العارض متوقعة متوهمة؛ فلا تعارض الواقع ألبتة، وأما إن كان واقعا؛ فهو محل الاجتهاد في الحقيقة3، وقد تكون مفسدة العوارض فيه أتم من مفسدة الترك المباح, وقد يكون الأمر بالعكس، والنظر في هذا بابه باب التعارض والترجيح، وإن كان الأول؛ فلا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيذكر القسم الثالث أثناء المسألة الآتية، بعد أن يتكلم في صدرها ما يشرح فيه ما يعترض طريق المباح من مفاسد, قد تكون أرجح من فوت الأصل المحتاج إليه الذي فرض فيه أن يلحقه بالترك له حرج ومشقة، ولكنه صنيع غير مناسب؛ إذ إنه عقد مسألة خاصة ليبين فيها تفاصيل لبعض أحكام القسم الثاني، وأدرج فيها حكم القسم الثالث وتفاصيل أحكامه، وكان الأجدر به أن يسوق ما يتعلق بالقسم الثاني لاحقا لبيانه هنا، دون عقد مسألة خاصة به؛ لأن ما ذكره بالنسبة إلى القسم الثاني في المسألة التالية ليس بأكثر ولا بأهم مما ذكره في بيانه في مسألته الثانية عشرة، وأيضا؛ فإنه مع كونه فرض المسألة في تتميم هذا القسم كما قال هنا جاء فيها بالقسم الثالث برمته في جمل أوسع مما يخص القسم الثاني؛ فالصنيع غير وجيه. "د".
2 في "م": "فإذا".
3 في الأصل: "بالحقيقة".

 

ج / 1 ص -291-       يصح التعارض، ولا تُساوَى المفسدتان، بل مفسدة فقد الأصل أعظم، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: أن المكمل مع مكمله كالصفة مع الموصوف، وقد مر بيان ذلك في موضعه، وإذا كان فقد الصفة لا يعود بفقد الموصوف على الإطلاق1 -بخلاف العكس- كان جانب الموصوف أقوى في الوجود والعدم، وفي المصلحة والمفسدة؛ فكذا ما كان مثل ذلك.
والثاني: أن الأصل مع مكملاته كالكلي مع الجزئي، وقد علم2 أن الكلي إذا عارضه الجزئي فلا أثر للجزئي، فكذلك هنا لا أثر لمفسدة فقد المكمِّل في مقابلة وجود مصلحة المكمَّل.
والثالث: أن المكمِّل من حيث هو مكمِّل إنما هو مقوٍّ لأصل المصلحة ومؤكد لها؛ ففوته إنما هو فوت بعض المكملات، مع أن أصل المصلحة باقٍ، وإذا كان باقيا؛ لم يعارضه ما ليس في مقابلته، كما أن فوت أصل المصلحة لا يعارضه بقاء مصلحة المكمل، وهو ظاهر.
والقسم الثالث من القسم3 الأول:
وهو أن لا يضطر إلى أصل المباح ولا يلحق بتركه حرج- فهو محل اجتهاد، وفيه تدخل قاعدة الذرائع بناء على أصل التعاون على الطاعة أو المعصية؛ فإن هذا الأصل متفق عليه في الاعتبار،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وقد يعود إذا كانت صفة لازمة لتحقيق الماهية. "د".
2 وسيأتي في أول باب الأدلة؛ فراجعه لتعرف معنى عدم أثر الجزئي في مقابلة الكلي. "د".
انظر: "3/ 172 وما بعد".
3 لعله من التقسيم الأول؛ أي: التقسيم في أول المسألة السابقة. "د".
قلت: بل هو كذلك.

 

ج / 1 ص -292-       ومنه1 ما فيه خلاف، كالذرائع في البيوع وأشباهها2، وإن كان أصل الذرائع أيضا متفقا عليه، ويدخل فيه أيضا قاعدة تعارض الأصل والغالب، والخلاف فيه شهير.
ومجال النظر في هذا القسم دائر بين طرفي نفي وإثبات متفق عليهما؛ فإن أصل التعاون على البر والتقوى، أو الإثم والعدوان مكمِّل لما هو عون عليه، وكذلك أصل الذرائع، ويقابله في الطرف الآخر أصل الإذن الذي هو مكمَّل لا مكمِّل.
ولمن يقول باعتبار الأصل من الإباحة أن يحتج بأن أصل الإذن راجع إلى معنى ضروري؛ إذ قد تقرر أن حقيقة الإباحة التي هي تخيير حقيقة تلحق بالضروريات, وهي أصول المصالح؛ فهي في حكم الخادم لها إن لم تكن في الحقيقة إياها؛ فاعتبار المعارض في المباح3 اعتبار لمعارض الضروري في الجملة، وإن لم يظهر في التفصيل كونه ضروريا، وإذا كان كذلك؛ صار جانب المباح أرجح من جانب معارضه الذي لا يكون مثله، وهو خلاف الدليل.
وأيضا، إن فرض عدم اعتبار الأصل لمعارضه4 المكمِّل، وأطلق هذا النظر، أوشك أن يصار فيه إلى الحرج الذي رفعه الشارع لأنه مظنته؛ إذ عوارض

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من فروعه. "د".
2 هي البيوع التي ظاهرها الصحة، ولكن يقصد به التوسل لاستباحة الربا، وقد ذهب إلى منعها فريق من أهل العلم؛ كالمالكية نظرًا إلى أن المنهي عنه كالربا يتضمن مفسدة كان من قصد الشارع درؤها وسد الطريق دونها؛ فالوسيلة الموصلة إلى المنهي عنه تعد عملا مناقضا لقصد الشارع عند هؤلاء، وسيوافيك كتاب المقاصد بتحرير الفرق بين الوسيلة التي تعد حيلة باطلة والوسيلة التي تتخذ مخلصا من الوقوع في محظور. "خ".
3 في الأصل: "للمباح".
4 أي: لأجل معارضه؛ فاللام للتعليل. "د".

 

ج / 1 ص -293-       المباح كثيرة، فإذا اعتبرت فربما ضاق المسلك وتعذر المخرج؛ فيصار إلى القسم الذي قبله، وقد مر ما فيه1.
ولما كان إهمال الأصل من الإباحة هو المؤدي إلى ذلك؛ لم يَسُغِ الميل إليه ولا التعريج عليه.
وأيضا، فإن كان هذا الأصل دائرا بين طرفين متفق عليهما وتعارضا عليه؛ لم يكن الميل إلى أحدهما بأولى من الميل إلى الآخر، ولا دليل في أحدهما إلا ويعارضه مثل ذلك الدليل؛ فيجب الوقوف إذًا، إلا أن لنا فوق ذلك أصلا أعم2، وهو أن أصل الأشياء إما الإباحة وإما العفو، وكلاهما يقتضي الرجوع إلى مقتضى الإذن؛ فكان هو الراجح.
ولمرجح3 جانب العارض أن يحتج بأن مصلحة المباح من حيث هو مباح مخير في تحصيلها وعدم تحصيلها، وهو دليل على أنها لا تبلغ مبلغ الضروريات، وهي كذلك أبدا؛ لأنها متى بلغت ذلك المبلغ لم تبق مخيرا فيها، وقد فرضت كذلك هذا خلف، وإذا تخير المكلف فيها؛ فذلك قاضٍ بعدم المفسدة في تحصيلها, وجانب العارض يقضي بوقوع المفسدة أو توقعها، وكلاهما صادّ عن سبيل التخيير؛ فلا يصح -والحالة هذه- أن تكون مخيرا فيها، وذلك معنى اعتبار العارض المعارض دون أصل الإباحة.
وأيضا؛ فإن أصل المتشابهات داخل تحت هذا الأصل؛ لأن التحقيق فيها أنها راجعة إلى أصل الإباحة، غير أن توقع مجاوزتها إلى غير الإباحة هو الذي اعتبره الشارع؛ فنهى عن ملابستها، وهو أصل قطعي مرجوع إليه في أمثال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو قوله: "وإن كان الأول؛ فلا يصح التعارض... إلخ". "د".
2 لا يتم الدليل الثالث إلا به. "د"
3 حججه متينة، أما الأول؛ فخطابيات لا تثبت عند بحثها. "د".

 

ج / 1 ص -294-       هذه المطالب، وينافي الرجوع إلى أصل الإباحة.
وأيضا؛ فالاحتياط للدين ثابت من الشريعة، مخصص لعموم أصل الإباحة إذا ثبت، فإن المسألة مختلف فيها, فمن قال: إن الأشياء قبل ورود الشرائع على الحظر؛ فلا نظر1 في اعتبار العوارض؛ لأنها ترد الأشياء إلى أصولها، فجانبها أرجح، ومن قال: الأصل2 الإباحة أو العفو؛ فليس ذلك على عمومه باتفاق، بل له مخصصات، ومن جملتها أن لا يعارضه طارئ ولا أصل، وليست مسألتنا بمفقودة المعارض, ولا يقال: إنهما يتعارضان لإمكان تخصيص أحدهما بالآخر، كما لا يصح أن يقال: إن قوله, عليه السلام:
"لا يرث المسلم الكافر"3 معارض لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فلا تحتاج إلى نظر في ذلك، بل لا بد من اعتبارها. "د".
2 في الأصل: "إن أصل".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر، 12/ 50/ رقم 6764", ومسلم في "الصحيح" "كتاب الفرائض باب منه، 3/ 1233/ رقم 1614", وأبو داود في "السنن" "كتاب الفرائض، باب هل يرث المسلم الكافر، 3/ 326/ رقم 2909", والترمذي في "الجامع" "أبواب الفرائض، باب إبطال الميراث بين المسلم والكافر، 4/ 423/ رقم 2107"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفرائض, باب ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك، 2/ 911/ رقم 2729"، وأحمد في "المسند" "5/ 200"، ومالك في "الموطأ" "2/ 519"، وغيرهم من حديث أسامة بن زيد, رضي الله عنه.
قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "3/ 84"، وعزاه للبخاري ومسلم وأصحاب "السنن" الأربعة: "وأغرب ابن تيمية في "المنتقى" فادعى أن مسلما لم يخرجه, وكذلك ابن الأثير في "الجامع" ادعى أن النسائي لم يخرجه".
قلت: نعم، هو ليس في "المجتبى" وهو من الكتب الستة، والحديث في "السنن الكبرى" للنسائي؛ كما في "تحفة الأشراف" "1/ 56، 57, 58"؛ فابن الأثير مصيب، وتعقب ابن حجر للمجد ابن تيمية صحيح، والله الموفق.

 

ج / 1 ص -295-       حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11].
وأوجه الاحتجاج من الجانبين كثيرة، والقصد التنبيه على أنها اجتهادية كما تقدم، والله أعلم.