الموافقات ج / 2 ص -101-
النوع الثاني: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام
ويتضمن
مسائل1
المسألة الأولى:
إن هذه الشريعة المباركة عربية، لا مدخل فيها للألسن
العجمية، وهذا- وإن كان مبينا في أصول الفقه، وأن القرآن
ليس فيه كلمة أعجمية عند جماعة من الأصوليين2، أو فيه
ألفاظ أعجمية تكلمت بها العرب، وجاء القرآن على وفق ذلك،
فوقع فيه المعرب الذي ليس من أصل كلامها-، فإن هذا البحث
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المسائل الخمس الأولى تحتوي على مبادئ قيمة وضرورية في
فهم القرآن والسنة وتحصيل مقاصدها، وهي ليست من المقاصد،
وإنما هي ضوابط لفهم مقاصد الشارع، وقد بحث المصنف المسألة
الأولى في كتابه "الاعتصام" "2/ 293- 297"، وأفاد أنها من
"الأدوات التي بها تفهم المقاصد".
2 وعلى رأسهم الإمام الشافعي في "الرسالة" "50"، وأبو
عبيدة معمر بن المثنى في "مجاز القرآن"
1/ 17، 28"، والطبري في "تفسيره" "1/ 8"، وابن فارس في
"الصاحبي" "60 - 62"، وابن العربي في "أحكام القرآن" "4/
1652- 1653"، وانظر: "البرهان في علوم القرآن". "1/ 249"،
و"روضة الناظر" "1/ 184- 185"، و"المسودة" "174"، و"مجموع
فتاوى ابن تيمية" "32/ 255"، و"الإتقان" "1/ 136 وما
بعدها"، و"الكتاب والسنة من مصادر الفقه الإسلامي" "ص 41-
43" لمحمد البنا، ط مطابع سجل العرب، ط الثالثة، سنة
1969م، و"من الدراسات القرآنية" لعبد العال سالم مكرم "ص
49- 64".
ج / 2 ص -102-
على
هذا الوجه غير مقصود هنا.
وإنما البحث المقصود هنا أن القرآن نزل بلسان العرب على
الجملة، فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة، لأن الله
تعالى يقول:
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2].
وقال:
{بِلِسَانٍ
عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195].
وقال:
{لِسَانُ
الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ
عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103].
وقال:
{وَلَوْ
جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا
فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44].
إلى غير ذلك مما يدل1 على أنه عربي وبلسان العرب، لا أنه
أعجمي ولا بلسان العجم، فمن أراد تفهمه، فمن جهة لسان
العرب يفهم، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة، هذا
هو المقصود من المسألة.
وأما كونه جاءت فيه ألفاظ من ألفاظ العجم، أو لم يجئ فيه
شيء من ذلك، فلا يحتاج إليه إذا كانت العرب قد تكلمت به،
وجرى في خطابها، وفهمت معناه، فإن العرب إذا تكلمت به صار
من كلامها، ألا ترى أنها لا تدعه على لفظه الذي كان عليه
عند العجم، إلا إذا كانت حروفه في المخارج والصفات كحروف
العرب، وهذا يقل وجوده2، وعند ذلك يكون منسوبا إلى العرب،
فأما إذا3 لم تكن حروفه كحروف العرب، أو كان بعضها كذلك
دون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "دل".
2 قالوا: إن لفظ "تنور" اتفقت فيه اللغة العربية مع اللغات
الأعجمية لفظا ومعنى، وقالوا: إن لفظ "صابون" اشترك فيه مع
العربية جملة من اللغات الأعجمية. "د".
3 في الأصل: "إن".
ج / 2 ص -103-
بعض،
فلا بد لها من أن تردها حروفها، ولا تقبلها على مطابقة
حروف العجم أصلا، ومن أوزان الكلم ما تتركه على حاله في
كلام العجم، ومنها ما تتصرف فيه بالتغيير كما تتصرف في
كلامها، وإذا فعلت ذلك، صارت تلك الكلم مضمومة إلى كلامها
كالألفاظ المرتجلة والأوزان المبتدأة لها، هذا معلوم عند
أهل العربية لا نزاع فيه ولا إشكال.
ومع ذلك، فالخلاف الذي يذكره المتأخرون1 في خصوص المسألة
لا ينبني عليه حكم شرعي، ولا يستفاد منه مسألة فقهية،
وإنما يمكن فيها أن توضع مسألة كلامية ينبني عليها اعتقاد،
وقد كفى الله مؤونة البحث فيها بما استقر عليه كلام أهل
العربية في الأسماء الأعجمية.
فإن2 قلنا: إن القرآن نزل بلسان العرب وإنه عربي وإنه لا
عجمة فيه، فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود العرب في
ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها، وأنها فيما فطرت عليه من
لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام
في وجه والخاص في وجه، وبالعام يراد به الخاص، والظاهر3
يراد به غير الظاهر، وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه
أو آخره، [وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره، أو آخره عن
أوله]4، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة،
وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأشياء الكثيرة باسم
واحد، وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من
تعلق بعلم كلامها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الآمدي: "اختلفوا في اشتمال القرآن على كلمة غير
عربية، فأثبته ابن عباس وعكرمة، ونفاه آخرون"، فالخلاف
قديم، ومحله أسماء الأجناس لا الأعلام. "د".
2 في "ط": "فإذا".
3 في الأصل و"ط": "وظاهر".
4 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
ج / 2 ص -104-
فإذا
كان كذلك، فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب،
فكما أن لسان بعض1 الأعاجم لا يمكن أن يفهم من جهة لسان
العرب، كذلك لا يمكن أن يفهم لسان العرب من جهة فهم لسان
العجم، لاختلاف الأوضاع والأساليب، والذي نبه على هذا
المأخذ في المسألة هو الشافعي الإمام، في "رسالته"2
الموضوعة في أصول الفقه، وكثير ممن أتى بعده لم يأخذها هذا
المأخذ، فيجب التنبه لذلك، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كتب في هامش الأصل ما نصه: "لعل الصواب إسقاط لفظ بعض
لأن "جميع" ألسنة العجم لا تفهم من جهة لسان العرب، والله
أعلم".
2 "ص 50 وما بعدها" بتحقيق الشيخ العلامة أحمد شاكر رحمه
الله تعالى.
ج / 2 ص -105-
المسألة الثانية:
للغة
العربية من حيث هي ألفاظ دالة على معان نظران:
أحدهما:
من جهة كونها ألفاظا وعبارات مطلقة، دالة على معان مطلقة،
وهي الدلالة الأصلية.
والثاني:
من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيدة دالة على معان خادمة،
وهي الدلالة التابعة1.
فالجهة الأولى:
هي التي يشترك فيها جميع الألسنة، وإليها تنتهي مقاصد
المتكلمين، ولا تختص بأمة دون أخرى، فإنه إذا حصل في
الوجود فعل لزيد مثلا كالقيام، ثم أراد كل صاحب لسان
الإخبار عن زيد بالقيام، تأتَّى له ما أراد من غير كلفة،
ومن هذه الجهة يمكن في لسان العرب الإخبار عن أقوال
الأولين -ممن ليسوا من أهل اللغة العربية- وحكاية كلامهم،
ويتأتَّى في لسان العجم حكاية أقوال العرب والإخبار عنها،
وهذا لا إشكال فيه.
وأما الجهة الثانية:
فهي التي يختص2 بها لسان العرب في تلك الحكاية وذلك
الإخبار، فإن كل خبر يقتضي في هذه الجهة أمورا خادمة لذلك
الإخبار، بحسب [الخبر والمخبر و] المخبر عنه والمخبر به،
ونفس الإخبار، في الحال والمساق، ونوع الأسلوب: من
الإيضاح، والإخفاء، والإيجاز، والإطناب، وغير ذلك.
وذلك أنك تقول في ابتداء الإخبار: "قام زيد" إن لم تكن ثم
عناية بالمخبر عنه، بل بالخبر، فإن كانت العناية بالمخبر
عنه قلت: "زيد قام"، وفي جواب السؤال أو ما هو منزل تلك
المنزلة: "إن زيدا قام"، وفي جواب المنكر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتنتقل حيث انتقل المتبوع
2 في نسخة "ماء/ ص 137": "اختص".
ج / 2 ص -106-
لقيامه: "والله إن زيدًا قام"، وفي إخبار من يتوقع قيامه
أو الإخبار بقيامه: "قد قام زيد"، أو: "زيد قد قام"، وفي
التنكيت على من ينكر: "إنما قام زيد".
ثم يتنوع أيضا بحسب تعظيمه أو تحقيره -أعني: المخبر عنه-
وبحسب الكناية عنه والتصريح به، وبحسب ما يقصد في مساق
الأخبار، وما يعطيه مقتضى الحال، إلى غير ذلك من الأمور
التي لا يمكن حصرها، وجميع ذلك دائر حول الإخبار بالقيام
عن زيد.
فمثل هذه التصرفات التي يختلف معنى الكلام الواحد بحسبها
ليست هي المقصود الأصلي، ولكنها من مكملاته ومتمماته،
وبطول الباع في هذا النوع يحسن مساق الكلام إذا لم يكن فيه
منكر، وبهذا النوع الثاني اختلفت العبارات وكثير من أقاصيص
القرآن، لأنه يأتي مساق القصة في بعض السور على وجه، وفي
بعضها على وجه آخر، وفي ثالث على وجه ثالث، وهكذا ما تقرر1
فيه من الإخبارات لا بحسب النوع الأول، إلا إذا سكت عن بعض
التفاصيل في بعض، ونص عليه في بعض، وذلك أيضا لوجه اقتضاه
الحال والوقت2،
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64].
فصل:
وإذا ثبت هذ، فلا يمكن من اعتبر هذا الوجه الأخير أن يترجم
كلاما من الكلام العربي بكلام العجم على حال، فضلا عن أن
يترجم القرآن3 وينقل إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "تكرر".
2 انظر في هذا: رسالة محمد بن إسماعيل الصنعاني "الإيضاح
والبيان في تحقيق عبارات قصص القرآن"، نشر مكتبة الإرشاد-
صنعاء.
3 لا تتيسر ترجمة القرآن بالنظر إلى مستتبعات التراكيب
"أعنى: المباني التي يرتفع بها شأن الكلام، كما أن من
الآيات ما يحتمل معاني متعددة، والمترجم إنما يمكنه نقله
إلى لغة أخرى بإحدى تلك المعاني، كما في قوله تعالى:
{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}، فقد رأيت مترجم القرآن إلى اللسان الألماني سلك في ترجمة لفظ
الإبل معنى السحاب الذي هو أحد الوجهين في تفسيرها. "خ".
ج / 2 ص -107-
لسان
غير عربي، إلا مع فرض استواء اللسانين في اعتباره عينا،
كما إذا استوى اللسانان في استعمال ما تقدم تمثيله ونحوه،
فإذا ثبت ذلك في اللسان المنقول إليه مع لسان العرب، أمكن
أن يترجم أحدهما إلى آخر، وإثبات مثل هذا بوجه بَيِّنٌ
عسيرٌ جدًّا، وربما أشار إلى شيء من ذلك أهل المنطق من
القدماء ومن حذا حذوهم من المتأخرين، ولكنه غير كافٍ ولا
مغنٍ في هذا المقام.
وقد نفى ابن قتيبة1 إمكان الترجمة في القرآن -يعني: على
هذا الوجه الثاني- فأما على الوجه الأول، فهو ممكن، ومن
جهته صح تفسير القرآن وبيان معناه للعامة ومن ليس له فهم
يقوى على تحصيل معانيه، وكان ذلك جائزا باتفاق أهل
الإسلام، فصار هذا الاتفاق حجة في صحة الترجمة على المعنى
الأصلي2.
فصل:
وإذا اعتبرت الجهة الثانية مع الأولى وجدت كوصف من
أوصافها، لأنها كالتكملة للعبارة والمعنى من حيث الوضع
للإفهام، وهل تعد معها كوصف من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في كتابه: "تأويل مشكل القرآن" "ص 21" طبعة الشيخ أحمد
صقر رحمه الله، وتبعه على هذا ابن فارس في كتابه "الصاحبي"
"ص 16- 25"، وبحث فيه موضوع الترجمة بحث خبير، ورد فيه على
الرواية المرجوحة لأبي حنيفة رد بصير، وإلى ابن فارس هذا
كانت تضرب آباط الإبل، وعند جهينة الخبر اليقين، وانظر:
"الكتاب والسنة" لمحمد البنا "ص 45 وما بعدها".
2 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "6/ 542".
ج / 2 ص -108-
الأوصاف الذاتية؟ أو هي كوصف1 غير ذاتي؟ في ذلك نظر وبحث
ينبني عليه من المسائل الفرعية جملة، إلا أن الاقتصار على
ما ذكر فيها كافٍ، فإنه كالأصل لسائر الأنظار المتفرعة،
فالسكوت عن ذلك أولى، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء/ ص 139": "وصف". وفي "ط": "أم هي".
ج / 2 ص -109-
المسألة الثالثة:
هذه الشريعة
المباركة أمية1؛ لأن أهلها كذلك، فهو أجري2 على اعتبار
المصالح، ويدل على ذلك أمور:
أحدها:
النصوص المتواترة اللفظ والمعنى، كقوله تعالى:
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2].
وقوله:
{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ
الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف: 158].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا تحتاج في فهمها وتعرف أوامرها ونواهيها إلى
التغلغل في العلوم الكونية والرياضيات وما إلى ذلك،
والحكمة في ذلك:
أولا:
أن من باشر تلقيها من الرسول صلى الله عليه وسلم أميون على
الفطرة كما سيشرحه المؤلف.
ثانيا:
فإنها لو لم تكن كذلك، لما وسعت جمهور الخلق من عرب
وغيرهم، فإنه كان يصعب على الجمهور الامتثال لأوامرها
ونواهيها المحتاجة إلى وسائل علمية لفهمها أولا، ثم
تطبيقها ثانيا، وكلاهما غير ميسور لجمهور الناس المرسل
إليهم من عرب وغيرهم، وهذا كله فيما يتعلق بأحكام التكليف،
لأنه عام يجب أن يفهمه العرب والجمهور ليمكن الامتثال، أما
الأسرار والحكم والمواعظ والعبر، فمنها ما يدق عن فهم
الجمهور ويتناول بعض الخواص منه شيئا فشيئا بحسب ما يسره
الله لهم وما يلهمهم به، وذلك هو الواقع لمن تتبع الناظرين
في كلام الله تعالى على مر العصور، يفتح على هذا بشيء ولم
يفتح به على الآخر، وإذا عرض على الآخرة أقره على أنه ليست
كل الأحكام التكليفية التي جاءت في الكتاب والسنة مبذولة
ومكشوفة للجمهور، وإلا لما كان هناك خواص مجتهدون وغيرهم
مقلدون حتى في عصر الصحابة، وكل ما يؤخذ من مثل حديث "نحن
أمة أمية" ما ذكرناه على أن التكاليف لا تتوقف في امتثالها
على وسائل علمية وعلوم كونية وهكذا. "د".
قلت: "انظر تفصيلا قويا حول هذا في "السير" "14/ 191- 192"
للذهبي، والمراجع المذكورة في تعليقنا على آخر هذه
المسألة.
2 أي: فإن تنزيل الشريعة على مقتضى حال المنزل عليهم أوفق
برعاية المصالح التي يقصدها الشارع الحكيم. "د".
ج / 2 ص -110-
وفي
الحديث:
"بعثت إلى أمة أمية"1 لأنهم لم يكن لهم علم بعلوم الأقدمين، والأمي منسوب إلى الأم، وهو
الباقي على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابا ولا غيره، فهو
على أصل خلقته التي ولد عليها2.
وفي الحديث:
"نحن أمة أمية
لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا"3،
وقد فسر معنى الأمية في الحديث، أي: ليس لنا علم بالحساب
ولا الكتاب.
ونحوه قوله تعالى:
{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا
تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48].
وما أشبه هذا4 من الأدلة المبثوثة في الكتاب والسنة،
الدالة على أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي نحوه "ص 138".
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "17/ 435 و25/
167".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب قوله صلى
الله عليه وسلم:
"لا نكتب ولا
نحسب"، 4/ 126/ رقم 1913"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب وجوب صوم
رمضان لرؤية الهلال 2/ 761 / رقم 1080 بعد 15" من حديث ابن
عمر رضي الله عنه بلفظ: "إنا أمة....." بتقديم "نكتب" على
"نحسب"، ومضى "1/ 56".
4 أخذ بظاهر حديث البخاري المروي في عمرة القضاء والكتابة
إلى قريش وطائفة من العلماء، ففهموا أن الكتابة مسندة إلى
النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الحقيقة، وممن ذهب إلى
هذا أبو الفتح النيسابوري وأبو ذر وأبو الوليد الباجي، وقد
قام في وجه أبي الوليد فريق من علماء عصره كأبي بكر بن
الصائغ وأبي محمد بن مفوز،ولكن علماء صقلية وافقوا أبا
الوليد على هذه المقالة، والحق أن أبا الوليد لم يأت أمرا
يقدح في المعجزة كما يدعي خصومه، إذ آية
{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ}، إنما نفت عن النبي عليه السلام الكتابة قبل نزول القرآن، وبقي
الحال فيما بعد مسكوتًا عنه، ولكن أبا الوليد تشبث بسندٍ
واهٍ وهو مجرد إسناد الكتابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
في لفظ الحديث، وليس إسناد الأمر إلى الرئيس وقد فعله أحد
أتباعه عن أمره بعزيز "خ".
قلت: وفتوى الباجي مع أجوبة العلماء عليها منشورة بتحقيق
أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، مع دراسة ضافية له في
المقدمة في بيان معاني النصوص الواردة في أمية الرسول صلى
الله عليه وسلم بعنون "تحقيق المذهب"، وفيه "ص 243- 281"
جواب ابن مفوز.
ج / 2 ص -111-
الشريعة موضوعة على وصف الأمية لأن أهلها كذلك.
والثاني:
أن الشريعة التي بعث بها النبي الأمي صلى الله عليه وسلم
إلى العرب خصوصا وإلى من سواهم عموما، إما أن تكون على
نسبة ما هم عليه من وصف الأمية أو لا، فإن كان كذلك، فهو
معنى كونها أمية، أي: منسوبة إلى الأميين، وإن لم تكن
كذلك، لزم أن تكون على غير ما عهدوا، فلم تكن لتتنزل1 من
أنفسهم منزلة ما تعهد، وذلك خلاف ما وضع عليه الأمر فيها،
فلا بد أن تكون على ما يعهدون، والعرب2 لم تعهد إلا ما
وصفها الله به من الأمية، فالشريعة إذا أمية.
والثالث3:
إنه لو لم يكن على ما يعهدون لم يكن عندهم معجزا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخ المطبوعة: "لتنزل".
2 وأما غيرهم، فهو تابع، والتابع لا حكم له.
3 جعل هذا الثالث دليلا على أنه يجب أن تكون على ما عهدوا
حتى تكون حجة عليهم، وقد كان كونها على ما عهدوا دليلا
بنفسه على أنها أمية، وعليه، فليس الدليل الثاني إلا دعوى
محتاجة إلى الدليل الثالث، ولا يصلح أن يكون دليلا بنفسه
إلا أن يبقى الكلام في هذا الدليل الثالث فيقال: هل لو
جاءت الشريعة على طريق يحتاج لعلوم كونية ووسائل فلسفية،
ولكنها صيغت في القالب العربي المعجز لهم عن الإتيان
بمثله، بحيث يفهمون معناه والغرض منه، وإن كانوا في تطبيقه
وتعرف مبنى أحكامه محتاجين إلى تلك الوسائل، كما إذا بنى
أوقات الصلوات الخمس على مواعيد تحتاج إلى الآلات
والتقاويم الفلكية، ولم يكتف بالمشاهدات الحسية كما صنع في
الزوال والغروب والشفق إلخ، أو بنى الصوم لا على رؤية
الهلال بالبصر، بل وضع القاعدة على لزوم معرفة علم الميقات
لمعرفة أول رمضان، لو كان الشارع بدل أن يبني الأحكام على
الأمور الحسية التي تسع جميع الخلق بناها على أمور علمية
كما صورنا، هل كان ذلك يمنع عن فهم القرآن وغرضه، ويكون
الحال مثل ما إذا جاء بلغة أعجمية بالنسبة للعرب؟ الجواب
بالنفي، غايته أنه يكون في تكاليفها مشاق على أكثر الخلق
بإلزامهم بتعرف هذه الوسائل ليطبقوا أوامر الشريعة حسبما
أرادت، أما أنهم يعجزون عن فهم الكتاب حتى لا يكون حجة،
فليس بظاهر لأن حجيته عليهم جاءت من جملة أمور أهمها عندهم
أنه كلام من جنس كلامهم في كل شيء إلا أنه بأسلوب أعجزهم
عن الإتيان بمثله. "د".
ج / 2 ص -112-
ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم: هذا على غير ما
عهدنا، إذ ليس لنا عهد بمثل هذا الكلام، من حيث إن كلامنا
معروف مفهوم عندنا، وهذا ليس بمفهوم ولا معروف، فلم تقم
الحجة عليهم به، ولذلك قال سبحانه:
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا
لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}
[فصلت: 44]، فجعل الحجة1 على فرض كون القرآن أعجميا، ولما
قالوا:
{إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]، رد الله عليهم بقوله:
{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ
عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}
[النحل: 103]، لكنهم أذغنوا لظهور الحجة، فدل على أن ذلك
لعلمهم به وعهدم بمثله، مع العجز عن مماثلته، وأدلة هذا
المعنى كثيرة2.
فصل:
واعلم أن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس3،
وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق، واتصاف بمحاسن
الشيم، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه، وأبطلت
ما هو باطل، وبينت منافع ما ينفع من ذلك، ومضار ما يضر
منه.
فمن هذه العلوم:
علم النجوم:
وما يختص بها من الاهتداء في البر والبحر، واختلاف الأزمان
باختلاف سيرها، وتعرف منازل سير النيرين، وما يتعلق بهذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "فجعل لهم الحجة".
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "5/ 157".
3 تجد تفصيل هذه العلوم على وجه مستوعب في "بلوغ الأرب في
معرفة أحوال العرب" لمحمود شكري الآلوسي، وهو مطبوع، وفي
آخر المجلد الأول من "صبح الأعشى".
ج / 2 ص -113-
المعنى، وهو معنى مقرر في أثناء القرآن في مواضع
كثيرة،كقوله تعالى،
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي
ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97]
وقوله:
{وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}
[النحل: 16].
وقوله:
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ
كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا
أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ
النَّهَارِ} [يس: 39- 40].
وقوله:
{هُوَ
الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا
وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسَابَ}
[يونس: 5].
وقوله:
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ
فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ
مُبْصِرَةً} الآية
[الإسراء: 12].
وقوله:
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ
وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5].
وقوله:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ
لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
وما أشبه ذلك1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لو لم يكن لهم علم بسير النجوم بالمقدار الذي ينسبه لهم،
فهذه الآيات يمكن فهمها لهم بعد لفت نظرهم إليها، إنها لا
تحتاج إلا إلى التدبر في تطبيقها بطريق المشاهدة، على أن
علم النجوم لم يكن لجمهورهم بل للبعض القليل الذي كان
يستعمل غالبا دليلا للقوافي* في سير الليل ومع ذلك، فلم
يتوقف الجمهور في فهمها، ومثله يقال في علوم الأنواء أن
ذلك ليس لجمهورهم، بدليل ما رواه عن عمر وسؤاله للعباس،
فإذا كان مثل عمر ليس عارفا، فما ذلك إلا لأن هذا يختص به
جماعة منهم، كما هو الحال عندنا اليوم، الملاحون يعرفون
كثيرا من هذه الأنواء وشأن الرياح، وهي أسباب عادية غير
مطردة، ولا يعرفها الجمهور الذين عنايتهم بما يتسببون فيه
لمعاشهم يعرفون=
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا في الأصل، ولعل صوابها: "للقوافل".
ج / 2 ص -114-
ومنها: علوم الأنواء1
وأوقات نزول الأمطار، وإنشاء السحاب، وهبوب الرياح المثيرة
لها، فبين الشرع حقها من باطلها، فقال تعالى:
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا
وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ
بِحَمْدِهِ} الآية [الرعد: 12-13].
وقال:
{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ
أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ
الْمُنْزِلُونَ}
[الواقعة: 68-69].
وقال:
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ: 14].
وقال:
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون}
[الواقعة: 82]
خرج الترمذي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون} [الواقعة: 82]، قال:
"شكركم، تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= منه ما لا يعرفه فيه غيرهم، وقد قال في الآية الثانية:
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُون}، ثم قال:
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُون}،
فهل كان للعرب من علوم الزراعة وتكوين المني وخلق الإنسان
ما تفهم فيه مثل هذا ومثل:
{مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِب}، ومثل أدوار الجنين:
{نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} إلخ، ومثل قوله تعالى:
{أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ، بَلَى
قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَه}، فإن معرفة أن تسوية الأصابع على ما هي عليه يعد من أدق تكوين
الإنسان وكمال صنعته، حيث امتازت تقاسيم الجلد الكاسي لها،
فلا يوجد تشابه بين شخص وآخر في هذه التقاسيم، حتى نبه
الله سبحانه إليها وقال:
{بَلَى}،
أي: نجمعها قادرين على جمعها وتسويتها على أدق ما يكون كما
في تسوية البنان، إن هذا لا يعرفه العرب ووجه إليهم الخطاب
به، وقد فهم سره في هذا العصر، وانبنى عليه علم تشبيه
الأشخاص "ببصمة الأصابع"، وجعلت له إدارة تسمى "تحقيق
الشخصية"، الواقع أن هذه وغيرها مما لا يحصى أمور كونية
عامة يفهمها كل من توجه إليه الخطاب بفهمها والاستدلال بها
على الصانع الحكيم القادر. "د".
1 انظر في ذلك كتاب "الأنواء" لابن قتيبة، و"أحكام القرآن"
"3/ 1149-1150" لابن العربي.
ج / 2 ص -115-
وكذا"1.
وفي الحديث:
"أصبح من عبادي
مؤمن بي وكافر [بي]"2 الحديث في
الأنواء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان كفر من
قال مطرنا بالنوء، 1/ 84/ رقم 73"، وأبو عوانة في "مسنده"
"1/ 27"،والبيهقي في "الكبرى" "3/ 358" من حديث ابن عباس،
قال: مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليم وسلم فقال
النبي صلى الله عليه وسلم:
"أصبح من الناس شاكر، ومنهم
كافر"، قالوا هذه رحمة الله. وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا": قال:
نزلت هذه الآية:
{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم}،
حتى بلغ:
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون}.
وأخرج اللفظ الذي أورده المصنف الترمذي في "الجامع" "أبواب
تفسير القرآن، باب ومن سورة الواقعة، 5/ 401-402/ رقم
3295"، وأحمد في "المسند" "1/ 108"، وابنه عبد الله في
"زياداته عليه" "1/ 131" والبزار في "البحر الزخار" "2/
208/ رقم 593"، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" "2/ 1068-
1069/ 775" من حديث علي مرفوعا، وقال الترمذي عقبه: "هذا
حديث حسن غريب صحيح، لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث إسرائيل،
ورواه سفيان الثوري عن عبد الأعلى عن أبي عبد الرحمن
السلمي عن علي نحوه، ولم يرفعه".
قلت: رواية الوقف أشبه وأصح، وما كان ينبغي للمصنف عفا
الله عنا وعنه إهمال تعليق الترمذي على الحديث، وانظر:
"العلل" للدارقطني "رقم 487".
وقد صح كما قال ابن حجر في "الفتح" "2/ 522"، أن ابن عباس
أيضا قرأ الآية:
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون}.
علق عنه ذلك البخاري في "صحيحه" "كتاب الاستسقاء، باب 28"
ووصله بإسناد صحيح ابن جرير في "التفسير" "27/ 208"، وسعيد
بن منصور، ومن طريقه ابن حجر في "التغليق" 2/ 397"، وابن
مردويه في "التفسير المسند" كما في "الفتح" "2/ 522"،
"وعمدة القاري" "6/ 45".
2 سيأتي تخريجه "ص 445" ومضى "1/ 321"، والحديث في
"الصحيحين" وغيرهما، وما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
ج / 2 ص -116-
وفي
"الموطأ" مما انفرد به: "إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت، فتلك
عين غديقة"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 192" بلاغا، والحديث ضعيف.
قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "7/ 161": "وهذا الحديث
لا أعرفه بوجه من الوجوه في غير "الموطأ" ومن ذكره إنما
ذكره عن مالك في "الموطأ"، إلا ما ذكره الشافعي [في "الأم"
"1/ 255"] في كتاب الاستسقاء، [ومن طريقه البيهقي في
"المعرفة" "5/ 200/ رقم 7281- ط قلعجي"] عن إبراهيم بن
محمد بن أبي يحيى عن إسحاق بن عبد الله، أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "إذا أنشأت
بحرية ثم استحالت شامية، فهو أمطر لها" وابن أبي يحيى
مطعون عليه متروك، وإسحاق ابن عبد الله
هو ابن أبي فروة ضعيف أيضا متروك الحديث".
ثم قال: "وهذا الحديث لا يحتج به أحد من أهل العلم
بالحديث؛ لأنه ليس له إسناد".
وقال: "وقال الشافعي في حديثه هذا: "بحرية" بالنصب، كأنه
يقول: "إذا ظهرت السحاب بحرية من ناحية البحر، ومعنى نشأت:
ظهرت وارتفعت" وقال: "وناحية البحر بالمدينة الغرب"، ثم
تشاءمت، أي: أخذت نحو الشام، والشام من المدينة في ناحية
الشمال، يقول: إذا مالت السحابة الظاهرة من جهة الغرب إلى
الشمال -وهو عندنا البحرية- ولا تميل كذلك إلا بالريح
النكباء التي بين الغرب والجنوب هي القبلة، فإنها يكون
ماؤها غدقا، يعني: غزيرًا معينًا؛ لأن الجنوب تسوقها
وتستدرها، وهذا معروف عند العرب وغيرهم".
ونحوه في "التمهيد" "24/ 377" أيضا، واستدرك ابن الصلاح في
"رسالته في وصل بلاغات مالك الأربعة في الموطأ" "ص 11-13"
على ابن عبد البر، فوصله من طريق ابن أبي الدنيا في كتابه
"المطر" عن الواقدي، قال: "وفيه استدراك على الحافظين حمزة
بن محمد وابن عبد البر، وليس إسناده بذاك".
قلت: وأخرجه أبو الشيخ في "العظمة" 4/ 1247-1248/ رقم
722"، والطبراني في "الأوسط" "8/ 370-371/ رقم 7753" من
طريق الواقدي عن عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة عن
عوف بن الحارث عن عائشة به مرفوعا نحوه، قال الطبراني:
"تفرد به الواقدي".
قلت: وهو متروك، وعوف مقبول، وابن أبي فروة فيه كلام،
فالحديث ضعيف جدا وانظر: "المسائل والأجوبة في الحديث
والتفسير" "ص 282-283" لابن قتيبة، و"الأنواء" له ص 170"،
و"كنز العمال" "7/ 838"، و"الهيئة السنية" "ق10/ أ"
للسيوطي، والفائق" "3/ 56"، و"النهاية" "2/ 437 و3/ 346"
و"غريب الحديث" "2/ 147" لابن الجوزي، و"توجيه النظر" "1/
408 و2 / 913- 928".
ج / 2 ص -117-
وقال
عمر بن الخطاب للعباس وهو على المنبر والناس تحته: "كم بقي
من نوء الثريا؟ فقال به العباس: بقي من نوئها كذا وكذا"1.
فمثل هذا مبين للحق من الباطل في أمر الأنواء والأمطار.
وقال تعالى:
{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوه} الآية [الحجر: 22].
وقال:
{وَاللَّهُ
الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا
فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9].
إلى كثير من هذا.
ومنها: علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية
وفي القرآن من ذلك ما هو كثير، وكذلك في السنة، ولكن
القرآن احتفل2 في ذلك، وأكثره من الإخبار بالغيوب التي لم
يكن للعرب بها علم3، لكنها من جنس ما كانوا ينتحلون4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الأصل: "نشأت في".
1 أخرجه الطبري في "تفسيره" "27/ 208" بإسناد فيه مجهول،
وفيه عنعنة ابن إسحاق، وهو مدلس، فالإسناد ضعيف.
وذكره ابن قتيبة في كتابه "الأنواء" "ص14" وابن العربي في
"أحكام القرآن" "3/ 1149" من غير سند.
2 أي: قام بالأمر فيه.
3 هذا يعضد ما قلناه، من أنه ليس بلازم أن يكون القرآن
مجاريا لما عند العرب، فيصحح صحيحه، أو يزيد عليه، أو يبطل
باطله، كل هذا تكلف لا داعي إليه في هذا المقام؛ لأن
الرسول بعث بالكتاب؛ ليخرج الناس كافة من الظلمات إلى
النور بتعليم ما لم يعلموا، وتصحيح ما أخطأوا فيه، وتوجيه
همتهم وعقولهم إلى ما فيه إصلاحهم بالعلم والعمل، سواء
أكان لهذا كله أصل عند العرب أم لم يكن له أصل ولا رابطة
مطلقا بين كون الشريعة أمية وكون كل ما جاءت به منطبقا على
ما عند العرب، وإعجاز العرب شيء آخر لا يتوقف على ما قال،
فتأمل، فالمقام جدير بالتدبر؛ لأنه إذا كان يكتفي بجنس ما
كانوا يعرفون وإن لم يكن هو ولا نوعه، فما الذي يبقى حتى
نحترز عنه، ولا يبعد أن يكون لبعضهم إلمام بهذه الأجناس
والكائنات التي تتعلق بما ورد في الكتاب والسنة. "د".
ج / 2 ص -118-
قال
تعالى:
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ
يَكْفُلُ مَرْيَم} الآية [آل عمران: 44].
وقال تعالى:
{تِلْكَ
مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ
تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا}
[هود: 49].
وفي الحديث قصة أبيهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في
بناء البيت1 وغير ذلك مما جرى.
ومنها: ما كان أكثره باطلا أو جميعه
كعلم العيافة، والزجر، والكهانة، وخط الرمل، والضرب
بالحصى، والطيرة2، فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجها البخاري في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب من رأى
أن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه/ رقم 2368، وكتاب
الأنبياء، باب "يزفون"، النسلان في المشي/ رقم 3362 و3363
و3364 و3365"، وأحمد في "المسند" "1/ 347، 360"، وابنه عبد
الملك في "زوائد المسند" "5/ 121"، وعبد الرزاق في
"المصنف" "5/ 105/ رقم 9107"، والنسائي في "فضائل الصحابة"
رقم 271، 272، 273، 274"، والأزرقي في "أخبار مكة" "1/
59-60" وغيرهم.
وقد جمعت قسما من الأحاديث الصحيحة في الأخبار التى قصها
رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن قبلنا في كتاب بعنوان
"من قصص الماضين"، وذكرت فيه القصة التي أشار إليها المصنف
"ص 89-104"، فانظرها فيه.
2 فائدة في معاني الألفاظ المذكورة:
- العيافة: زجر الطير، وهو أن يرى طائرا أو غرابا فيتطير،
وإن لم ير شيئا، وإن قال بالحدس=
ج / 2 ص -119-
ونهت
عنه كالكهانة والزجر، وخط الرمل، وأقرت الفأل لا من جهة
تطلب الغيب، فإن الكهانة والزجر كذلك، وأكثر هذه الأمور
تخرُّصٌ على علم الغيب من غير دليل، فجاء النبي صلى الله
عليه وسلم بجهةٍ من تعرُّف علم الغيب مما هو حق محض، وهو
الوحي والإلهام، وأبقي للناس من ذلك بعد موته عليه السلام
جزء من النبوة، وهو الرؤيا الصالحة1، وأنموذج2 من غيره
لبعض الخاصة وهو الإلهام3 والفراسة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أي: بالظن والتخمين- كان عيافة أيضا.
- الزجر: أن تزجر طائرا أو ظبيا سانحا أو بارحا، فتطير
منه، وهو ضرب من التكهن، تقول: زجرت أنه يكون كذا وكذا.
- الكاهن: الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل
الزمان، ويدعي معرفة الأسرار.
-خط الرمل: يقال له علم الخط وعلم الرمل، ويقال له:
"الطَرْق" -بفتح فسكون آخره قاف-، وهو علم يعرف به
الاستدلال على أحوال المسألة حين السؤال، وأكثر مسائله
تخمينية مبنية على التجاريب، وذلك لأنهم يقولون: إن البروج
الاثني عشر يقتضي كل منها حرفا معينا، وشكلا معينا من
الأشكال المذكورة، فحين السؤال عن المطلوب يقتفي أوضاع
البروج، وقوى الشكل المعين من الرمال، فتلك الأشكال بسبب
مدلولاتها من البروج تدل على أحكام مخصوصة تناسب أوضاع
البروج، راجع: "مفتاح السعادة" "1/ 336"، و"كشف الظنون""
1/ 912-913".
- الضرب بالحصى: هو ضرب من التكهن والخط في التراب، يأخذ
الكاهن حصيات، فيضرب بها الأرض، وينظر فيها، فيخبر
بالمغيبات.
- الطِيَرَة- بكسر ففتح وبسكون الياء- هي ما يتشاءم به من
الفأل الرديء
1 وسيأتي الحديث وتخريجه "ص419".
2 الأنموذج قال في "المصباح: "بضم الهمزة، ما يدل على صفة
الشيء، وهو معرب، وفي لغة نموذج -بفتح النون والذال معجمة
مفتوحة مطلقا-، قال الصغاني: "النموذج: مثال الشيء الذي
يعمل عليه". "ماء / ص142".
3 كما حصل لعمر وغيره.
قلت: ولا بد من التنبه إلى أن الإلهام لا يصح أن يكون
دليلا كليًّا عامًّا تبنى عليه الأحكام، كما هو عند بعض
أهل البدع، وانظر في ذلك: "القائد لتصحيح العقائد" "ص 37
وما بعدها"، و"مجموع الفتاوى" "5/ 491"، و"الجواب الصحيح"
"2/ 92"، و"تفسير القرطبي" "4/ 21 و7/ 39 و11/ 40-41".
ج / 2 ص -120-
ومنها: علم الطب
فقد كان في العرب منه شيء لا على ما عند الأوائل، بل مأخوذ
من تجاريب الأميين، غير مبني على علوم الطبيعة التي يقررها
الأقدمون، وعلى ذلك المساق جاء في الشريعة، لكن على وجه
جامع شافٍ1 قليلٍ يطلع منه على كثير، فقال تعالى:
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31].
وجاء في الحديث التعريف ببعض الأدوية لبعض الأدواء2، وأبطل
من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن القيم في "زاد المعاد" [4/ 6-7]: "وأصول الطب
ثلاثة: الحمية، وحفظ الصحة، واستفراغ المادة المضرة، وقد
جمعها الله تعالى له ولأمته في ثلاثة مواضع في كتابه، فحمى
المريض من استعمال الماء خشية الضرر، فقال تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ
فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]. فأباح التيمم للمريض حمية له كما أباحه للعادم، وقال
في حفظ الصحة:
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، فأباح للمسافر الفطر في رمضان حفظا لصحته لئلا
يجتمع على قوته الصوم ومشقة السفر، فيضعف القوة والصحة،
وقال في الاستفراغ في حلق الرأس للمحرم:
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ
رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ
نُسُكٍ}
[البقرة: 196]، فأباح للمريض ومن به أذى من رأسه وهو محرم
أن يحلق رأسه ويستفرغ المواد الفاسدة والأبخرة الرديئة
التي تولد عليه القمل كما حصل لكعب بن عجرة، أو تولد عليه
المرض، وهذه الثلاثة هي قواعد الطب وأصوله، فذكر من كل جنس
منها شيئا وصورة تنبيها بها على نعمته على عباده في
أمثالها من حميتهم وحفظ صحتهم واستفراغ مواد أذاهم، رحمة
لعباده ولطفا بهم ورأفة، وهو الرؤوف الرحيم". "د".
قلت: والمنقول بتصرف كبير عن ابن القيم.
2 يشير المصنف في عبارته إلى عدة أحاديث، منها ما أخرجه
البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب الدواء بالعسل، 10/
139/ رقم 5684، وباب دواء المطعون، 10/ 168=
ج / 2 ص -121-
ذلك ما
هو باطل، كالتداوي بالخمر1، والرقى التي اشتملت على ما لا
يجوز شرعا2.
ومنها: التفنن في علم فنون البلاغة
والخوض في وجوه الفصاحة، والتصرف في أساليب الكلام، وهو
أعظم منتحلاتهم، فجاءهم بما أعجزهم من القرآن الكريم، قال
تعالى:
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا
بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ
كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}
[الإسراء: 88].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رقم 5716"،ومسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب التداوي
بسقي العسل، 4/ 1736 - 1737/ رقم 2217" عن أبي سعيد
الخدري، أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أخي
يشتكي بطنه. فقال:
"اسقه عسلا".
ثم آتاه الثانية، فقال
"اسقه عسلا" ثم أتاه الثالثة، فقال:
"اسقه عسلا"،
ثم أتاه، فقال، فعلت. فقال:
"صدق
الله، وكذب بطن أخيك، اسقه عسلا"،
فسقاه، فبرأ.
ويصلح للاستشهاد على ما ذكره المصنف كثيرا من أحاديث الطب
في "صحيح البخاري"، ولا سيما "باب ما أنزل الله داء إلا
أنزل له شفاء، وباب الشفاء في ثلاث، وباب الدواء بألبان
الإبل، وباب الدواء بأبوال الإبل، وباب الحبة السوداء،
وباب التلبينة للمريض، وباب السعوط، وباب السعوط بالقسط
الهندي والبحري"، وكذلك ما جاء في الحجامة، وغير حديث مما
ورد تحت هذه الأبواب في "صحيح مسلم" "كتاب السلام"، ولا
نتوسع في ذكر ذلك، والمذكور يكفي، والله الموفق.
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب
الأشربة، باب تحريم التداوي بالخمر، 3/ 1573/ رقم 1984" عن
طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن
الخمر؟ فنهاه، أو كره أن يصنعها. فقال: إنما أصنعها
للدواء. فقال:
"إنه ليس
بدواء، ولكنه داء".
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب السلام،
باب لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك، 4/ 1727/ رقم 2200"
عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: كنا نرقي في الجاهلية.
فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك؟ فقال:
"اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك".
ج / 2 ص -122-
ومنها: ضرب الأمثال1
[وقد قال تعالى]2:
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا
[لِلنَّاس]2
فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الروم: 58] إلا ضربا واحدا، وهو الشعر، فإن الله نفاه وبرأ
الشريعة منه، قال تعالى في حكايته عن الكفار:
{أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ، بَلْ جَاءَ
بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 36]، أي: لم يأت بشعر، فإنه ليس بحق، ولذلك قال:
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} الآية [يس: 69].
وبين معنى ذلك في قوله تعالى:
{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ
أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 224-226].
فظهر أن الشعر ليس مبنيا3 على أصل، ولكنه هيمان على غير
تحصيل، وقول لا يصدقه فعل، وهذا مضاد لما جاءت به الشريعة
إلا ما استثنى الله تعالى.
فهذا أنموذج ينبهك على4 ما نحن بسبيله بالنسبة إلى علوم
العرب الأمية.
وأما ما يرجع إلى الاتصاف بمكارم الأخلاق وما ينضاف إليها،
فهو أول ما خوطبوا به، وأكثر ما تجد ذلك في السور المكية،
من حيث كان آنس لهم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المثل عند البيانيين هو المركب الذي يفشو استعماله على
سبيل الاستعارة، فإن فشا استعماله وكان من باب الحقيقة
نحو: السعيد من اتعظ بغيره، أو التشبيه نحو: فلان كالخمر
يُشتهى شربها ويُخشى صداعها، فهذا هو الذي يعبرون عنه بما
يجري مجرى المثل، والذين صنفوا في الأمثال، كأبي عبيدة،
والزمخشري، وابن قتيبة، والميداني، وابن الأنباري، وابن
هلال أرادوا من المثل القول السائر مطلقا سواء كان استعارة
أو تشبيها أو حقيقة. "خ".
2 سقط ما بين المعقوفتين من الأصل.
3 في "ط": "بمبني".
4 في الأصل: "فيما".
ج / 2 ص -123-
وأجري
على ما يتمدح به عندهم، كقوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] إلى آخرها1.
وقوله تعالى:
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ
أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا} [الأنعام: 151] إلى انقضاء تلك الخصال.
[وقوله:
{قُلْ
مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ
لِعِبَادِه}]2 [الأعراف: 32]
وقوله:
{قُلْ
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا
وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}
[الأعراف: 33].
إلى غير ذلك من الآيات التي في هذا المعنى.
لكن أدرج فيها ما هو أولى من النهي عن الإشراك والتكذيب
بأمور الآخرة، وشبه ذلك مما هو المقصود الأعظم، وأبطل لهم
ما كانوا يعدونه كرما وأخلاقا حسنة وليس كذلك، أو فيه من
المفاسد ما يربي على المصالح التى توهموها، كما قال تعالى:
{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ
رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90].
ثم بين ما فيها من المفاسد خصوصا في الخمر والميسر، من
إيقاع العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة،
وهذا في الفساد أعظم مما ظنوه فيهما صلاحا، لأن الخمر كانت
عندهم تشجع الجبان، وتبعث البخيل على البذل، وتنشط
الكسالى، والميسر كذلك كان عندهم محمودا لما كانوا يقصدون
به من إطعام الفقراء والمساكين، والعطف على المحتاجين، وقد
قال تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بعدها في نسخة "ماء / ص 147": "فما من شيء يحتاج إليه
الناس في أمر دينهم مما يجب أن يؤتى أو يترك، إلا وقد
اشتملت عليه هذه الآية.
2 سقط ما بين المعقوفتين من الأصل.
ج / 2 ص -124-
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا1
إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ
نَفْعِهِمَا}
[البقرة: 219].
والشريعة [كلها]2 إنما هي تَخَلُّقٌ بمكارمِ الأخلاق،
ولهذا قال عليه السلام:
"بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"3.
إلا أن مكارم الأخلاق إنما كانت على ضربين:
أحدهما:
ما كان مألوفًا وقريبا من المعقول المقبول، كانوا في
ابتداء الإسلام إنما خوطبوا به، ثم لما رسخوا فيه تمم لهم
ما بقي، وهو:
الضرب الثاني:
وكان منه ما لا يعقل معناه من أول وهلة فأُخِّرَ، حتى كان
من آخره تحريم الربا، وما أشبه ذلك، وجميع ذلك راجع إلى
مكارم الأخلاق، وهو الذي كان معهودا4 عندهم على الجملة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ": "فيها".
2 ليست في الأصل.
3 مضى تخريجه "ص 41".
4 لو لم يكن للعرب عهد بالتعرف عن مكارم الأخلاق رأسا، ثم
جاء الرسول ببيان الفضائل والرذائل من الأخلاق، لما وسعهم
بعد التصديق بالرسالة إلا الأخذ بالمكارم، كما هو الحال
فيما أخطئوا فيه من أصولها، كوأد البنات والربا، والخمر،
والسلب والنهب، وغيرها من الرذائل التي تأصلت فيهم، ومع
ذلك، فالإيمان بكتاب الله وسنة رسوله طهرتهم من هذه
الأرجاس تطهيرا، فلا علاقة لأمية الشريعة بهذه المباحث،
ولا توجد أمة من الأمم إلا وفيها شيء من المكارم وشيء من
الرذائل، لا خصوصية لجاهلية العرب، بل هذا في كل جاهلية.
"د".
قلت: خلتان فضلت بهما العرب على سائر الناس: الأولى الصدق،
والثانية الجود، فالصدق بناء العبادات، والجود بناء
المعاملات، ويعبر عن الأصلين بالصلاة والزكاة ألا ترى كيف
كانوا يمدحون بهاتين الصفتين؟ قال صخر أخو الخنساء يرثي
أخا لها:
وطيب نفسي أنني لم أقل له
كذبت ولم أبخل عليه بماليا
أفاده الفراهي في
"القائد" "ص 183".
ج / 2 ص -125-
ألا
ترى أنه كان للعرب أحكام1 عندهم في الجاهلية أقرها
الإسلام، كما قالوا في القراض، وتقدير الدية وضربها على
العاقلة، وإلحاق الولد بالقافة2، والوقوف بالمشعر الحرام،
والحكم في الخنثى، وتوريث الولد للذكر مثل حظ الأنثيين،
والقسامة، وغير ذلك مما ذكره العلماء.
ثم نقول: لم يكتف بذلك حتى خوطبوا3 بدلائل التوحيد فيما
يعرفون من سماء، وأرض، وجبال، وسحاب، ونبات وبدلائل الآخرة
والنبوة كذلك، ولما كان الباقي عندهم من شرائع الأنْبياء
شيء من شريعة إبراهيم عليه السلام أبيهم، خوطبوا من تلك
الجهة ودعوا إليها، وأن ما جاء به محمد صلى الله عليهوسلم
هي تلك بعينها: كقوله تعالى:
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ
قَبْلُ وَفِي هَذَا}
[الحج: 78].
وقوله:
{مَا
كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا} الآية [آل عمران: 67].
غير أنهم غيروا جملة منهم، وزادوا، واختلفوا، فجاء تقويمها
من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، وأخبروا بما أنعم الله
عليهم مما هو لديهم وبين أيديهم، وأخبروا عن نعيم الجنة
وأصنافه بما هو معهود في تنعماتهم في الدنيا، لكن مبرأ من
الغوائل والآفات التي تلازم التنعم4 الدنيوي، كقوله:
{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ
مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 27-30] إلى آخر الآيات.
وبَيَّنَ من مأكولات الجنة ومشروباتها ما هو معلوم عندهم،
كالماء،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعلها بعض ميراثهم من أبيهم إبراهيم، كما يقول بعد. "د".
2 أي: تبع أثره. "قاموس".
3 خوطب الناس كلهم بدلائل التوحيد فيما يعرفون من سماء
وأرض.... إلخ، فليس هذا خاصا بهم، وهو واضح "د".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "التنعيم".
ج / 2 ص -126-
واللبن، والخمر، والعسل، والنخيل، والأعناب، وسائر ما هو
عندهم مألوف دون الجوز، واللوز، والتفاح، والكمثرى، وغير
ذلك من فواكه الأرياف وبلاد العجم، بل أجمل ذلك في لفظ
الفاكهة.
وقال تعالى:
{ادْعُ
إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
[النحل: 125]
فالقرآن كله حكمة، وقد كانوا عارفين بالحكمة، وكان فيهم
حكماء، فأتاهم من الحكمة بما عجزوا عن مثله، وكان فيهم أهل
وعظ وتذكير، كقُسِّ بن ساعدة1 وغيره، ولم يجادلهم إلا على
طريقة ما يعرفون من الجدل، ومن تأمل القرآن وتأمل كلام
العرب في هذه الأمور الثلاثة2، وجد الأمر سواء إلا ما اختص
به كلام الله من الخواص المعروفة.
وسر في جميع ملابسات العرب هذا السير، تجد الأمر كما تقرر،
وإذا ثبت هذا وضح أن الشريعة أمية لم تخرج عما ألفته
العرب3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جاء خبر تذكيره في حديث طويل مشهور على الألسنة، وفي كتب
التاريخ، وروي في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع
منه كلاما لم يحفظه حتى رواه له بعض الصحابة عنه، وقال في
آخره: "رحم الله قُسًّا، إني لأرجو أن يبعثه الله أمة
واحدة" وله طرق ولم يثبت، كما قاله ابن القيم في "الفوائد
الحديثية" "ص101/ 106"، وفصلنا علله في التعليق عليه،
وانظر -غير مأمور: "حديث قُسِّ بن ساعدة الإيادي" لابن
درستويه، وهو مطبوع.
2 الحكمة والوعظ والجدل يتوقف عليها إصابة الدعوة وإرشاد
الخلق، ولو لم يكن عندهم قوة فيها ولا ولع بها؛ لأنها دعوة
إلى هدم عقائد، وتصحيح معارف، وتمهيد طريق جديد للسير عليه
في طريق عبادة الله وحده، وطريق معاملتهم بعضهم لبعض، فلا
بد لها من اجتماع هذه القوى الثلاثة لوصول إلى الغاية من
الرسالة، وعلى كل حال، فليس بلازم في كون الشريعة أمية أن
تكون جاءت مسايرة لهم في شئونهم، بل معنى كونها أمية ما
قدمناه في أول المسألة، وأما كون ما جاءت به كان عندهم منه
شيء أو لم يكن، فهذا لا شأن له بهذا المبحث، ولا يتوقف
عليه. "د".
3 انظر في معنى كون الأمة المحمدية أمة أمية: "مجموع فتاوى
ابن تيمية" "16/ 190، 17/ 434- 436 و25 / 169- 172"،
و"أحكام القرآن" "3/ 443" للجصاص، و"تفسير القرطبي" "7/
298"، و"البحر المحيط" "4/ 403" لأبي حيان، و"روح البيان"
"3/ 255"، والتحرير والتنوير" "9/ 133".
ج / 2 ص -127-
المسألة الرابعة:
ما تقرر من
أمية الشريعة، وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب،
ينبني عليه قواعد:
- منها: أن كثيرًا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن
الحد، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين،
من علوم الطبيعيات، والتعاليم1، والمنطق، وعلم الحروف2،
وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا
إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح، وإلى هذا، فإن3 السلف
الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن
وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في
شيء من هذا المدعى، سوى ما تقدم4، وما ثبت5 فيه من أحكام
التكاليف، وأحكام الآخرة، وما يلي ذلك، ولو كان لهم في ذلك
خوض ونظر، لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الرياضيات من الهندسة وغيرها. "د".
2 يعلم من هذا البحث [أن] تفسير القرآن بالمعاني التي تخطر
على قلوب المتصوفة غير صحيح، كقول بعضهم في قوله تعالى:
{ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي
الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}، هذا خطاب للجوارج حال الدعاء، والمراد من الأخ القلب ومن الأب
الجسم، ومثل هذا النوع لم ينقل عن السلف، وإنما هو وليد
مذهب الباطنية الذين يوجسون في أنفسهم المكيدة للشريعة
بسوء التأويل حتى تتعطل أحكامها وتنطمس أعلام حقائقها.
"خ".
3 في نسخة "ماء / ص 142": "..... لم يصح، وأيضًا، فإن
السلف".
4 في المسألة قبلها. "د".
5 في نسخة ماء / ص 149": "بث".
ج / 2 ص -128-
ذلك لم
يكن، فدل على أنه غير موجود عندهم1، وذلك دليل على أن
القرآن لم يقصد2 فيه تقرير لشيء مما زعموا، نعم، تضمن
علوما هي من جنس علوم العرب، أو ما ينبني3 على معهودها مما
يتعجب4 منه أولو الألباب، ولا تبلغه إدراكات العقول
الراجحة دون الاهتداء بأعلامه والاستنارة بنوره، أما أن
فيه ما ليس من ذلك، فلا5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "لهم".
2 كونه لم يقصد فيه تقرير شيء من هذه العلوم الكونية ظاهر؛
لأنه ليس بصدد ذلك، أما كونه لا يجيء في طريق دلائله على
التوحيد ما ينبني عليه التوسع في إدراكها وإتقان معرفتها
إذا لم يكن معروفا عند العرب، فهو محل نظر. "د".
3 كالجدل المأخوذ فيه مقدمات معهودة للعرب، بل ولغيرهم كما
في قوله تعالى:
{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَات}..... إلخ، فإنه لولا توجيه الأفكار إليه للاستدلال به والمحاجة، ما
بلغته العقول الراجحة. "د".
4 في الأصل: "تعجب".
5 وهل كل ما تضمنه القرآن من أوصاف نعيم الجنة وعذاب النار
من معهود العرب في الدنيا؟ وهل مثل الإسراء والمعراج من
معهوداتهم؟ أما أصل الموضوع، فمسلم أنه لا يصح أن يتكلف في
فهم كتاب الله بتحميله لما لا حاجة بالتشريع والهداية إليه
من أنواع العلوم الكونية، ولكن قصره بطريق القطع على ما
عند العرب في علمها ومألوفها، فهذا ما لا سبيل إليه، ولا
حاجة له: "د".
قلت: تلقى الباحثون والمطلعون كلام المصنف هذا بعناية
فائقة، واستفادوا منه في موضوع "التفسير العلمي للقرآن"،
وقد وقفوا عنده طويلا وناقشوه، وقلبوا النظر فيه بين مؤيد
ومخالف، تجد تفصيل ذلك في "التحرير والتنوير" "1/ 44، 45"،
لابن عاشور، و"القرآن العظيم، هدايته وإعجازه في أقوال
المفسرين" "ص260 وما بعدها" لمحمد صادق عرجون، و"التفسير،
معالم حياته، منهجه اليوم" "ص19-27"، و"مناهج التجديد في
النحو والبلاغة والتفسير والأدب" "ص287-296" كلاهما لأمين
الخولي، وفيه تأييد وتدعيم لكلام الشاطبي هذا بأدلة كثيرة،
ثم ظفرت بكلامه في كتابيه السابقين في مادة "تفسير" في
"دائرة المعارف الإسلامية" "5/ 348-374" له أيضا،
و"اتجاهات التفسير في العصر الراهن" "ص297-302" لعبد
المجيد المحتسب.
وانظر في التفسير العلمي أيضا: "مدخل إلى تفسير القرآن
وعلومه" "ص231-250" لعدنان زرزور، و"التفسير العلمي للقرآن
في الميزان" لأحمد عمر أبو حجر.
ج / 2 ص -129-
وربما
استدلوا على دعواهم بقوله تعالى:
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ
شَيْءٍ} [النحل: 89].
وقوله:
{مَا
فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}
[الأنعام: 38]
ونحو ذلك، وبفواتح السور وهي مما لم يعهد عند العرب، وبما
نقل عن الناس فيها، وربما حكي من ذلك عن علي بن أبي طالب
رضي الله عنه وغيره أشياء1.
فأما الآيات، فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال
التكليف والتعبد، أو2 المراد بالكتاب في قوله:
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء}
[الأنعام: 38] اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي
تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية.
وأما فواتح السور، فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب
بها عهدا، كعدد الجمل الذي تعرفوه من أهل الكتاب، حسبما
ذكره أصحاب السير، أو هي من المتشابهات التي لا يعلم
تأويلها إلا الله تعالى، وغير ذلك، وأما تفسيرها بما لا
عهد به3، فلا يكون، ولم يدَّعِهِ أحد ممن تقدم، فلا دليل
فيها على ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "الدر المنثور" "1/ 56-59"، وسيأتي قريبا تضعيف
المصنف لما ورد عن علي في ذلك.
2 في الأصل: "و".
3 أي: من فهمها على أنها أسرار ورموز لحقائق أو أحداث
حاصلة أو تحصل، من مثل ما يشير إليه الألوسي في مقدمة
"التفسير". "د".
قلت: وأورد الرازي في "تفسيره" "1/ 150-151"، والنيسابوري
في "غرائبه" "1/ 119-120" نصين فيهما نحو ما ذكر المصنف،
انظر مناقشتهما في "براعة الاستهلال في فواتح القصائد
والسور" "ص117 وما بعدها"، وتجد تفسيرا لهذه الحروف بما لا
عهد للسلف به في كتب الصوفية، مثل: "شمس المعارف الكبرى"،
و"خزينة الأسرار الكبرى" "ص108 وما بعدها" وكذا في "رسائل
إخوان الصفا" "4/ 191"، وكذا في الرسالة النيروزية" "ص92"
لابن سينا، وابن أبي الأصبع في كتابه: "الخواطر السوانح في
أسرار الفواتح" وهو مطبوع، وكذا في كتب المستشرقين، انظر
ما نقله زكي مبارك عن أستاذه بلانشو في "النثر الفني في
القرن الرابع" "1/ 40"، وانظر ما سيأتي "3/ 326" مع
تعليقنا عليه.
ج / 2 ص -130-
ادَّعوا، وما ينقل عن علي أو غيره في هذا لا يثبت1؛ فليس
بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصح أن
ينكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه
على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة2،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولم يعرف عن أحد في هذه الأمة كُذِبَ عليه ما كذب على
علي رضوان الله عليه، وأوضح الكذب وأبينه عليه ما زعموه في
"الجفر" على نحو ما بيناه في المجموعة الأولى من كتابنا
"كتب حذر منها العلماء"، والله الموفق.
2 لو قال: جمهور الناس لا خاصتهم لكان أحسن؛ لأن الخطاب به
لكل من بلغه، فقد يفقه بعضه بغير ما يضاف إلى العرب كما
ورد: "بلغوا عني ولو آية، قرب مبلغ أوعى من سامع".
على أنه لم ينقل فيما سبق نسبة علم الحيوان المسمى
بالتاريخ الطبيعي إلى العرب، ولم ينقل أحد أنهم اشتغلوا
به، "وليكن على ذكر منك أنه إذا قال في هذا المقام:
"العرب، فإنما يعني الذين كانوا في عهد الرسول عليه
السلام"، فعلى رأي المؤلف لا يجوز لنا أن نتوصل إلى فهم
مثل آيتي سورة النحل في تكوين اللبن والعسل وما فيهما من
أعاجيب ربنا في صنعه، لا يجوز لنا أن نتوصل إلى ذلك من علم
حياة النحل وحياة الحيوان ذي الدر، مع أنه لا يمكن أن تتم
العظة والاعتبار الذي يشير إليه الكتاب في آخر كل آية
منهما:
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون}،
{يَعْقِلُون} لا يتم ذلك على وجهه إلا بمعرفة تكوين العسل واللبن، في علم حياة
النحل وغيره، وكذا لا يتم فهم:
{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس}
على وجهها إلا بعد معرفة ما يصلح من الأمراض أن يكون العسل
دواء له، وما لا يصلح بل يكون ضارًّا، ويترتب عليه أن تكون
اللام في الناس للجنس أو العموم، وهكذا، والواقع أن كتاب
الله للناس كلهم يأخذ منه كل على قدر استعداده وحاجته،
وإلا لاستوى العرب أنفسهم في الفهم للكتاب، والأمر ليس
كذلك، ألا ترى إلى قول علي: "إلا فهما يعطاه الرجل في كتاب
الله" الحديث. "د".
ج / 2 ص -131-
فبه1
يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغيره
ما هو أداة له، ضل عن فهمه، وتقوَّل على الله ورسوله فيه،
والله أعلم وبه التوفيق.
فصل:
- ومنها: أنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود
الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان
للعرب في لسانهم عرف مستمر، فلا يصح العدول عنه في فهم
الشريعة، وإن لم يكن ثم عرف، فلا يصح أن يجرى في فهمها على
ما لا تعرفه2.
وهذا جارٍ في المعاني والألفاظ والأساليب، مثال ذلك أن
معهود العرب أن لا ترى الألفاظ تعبدا عند محافظتها على
المعاني، وإن كانت تراعيها أيضا، فليس أحد الأمرين عندها
بملتزم، بل قد تبنى على أحدهما مرة، وعلى الآخر أخرى، ولا
يكون ذلك قادحا في صحة كلامها واستقامته.
والدليل على ذلك أشياء:
أحدها:
خروجها3 في كثير من كلامها عن أحكام القوانين المطردة
والضوابط المستمرة، وجريانها في كثير من منثورها على طريق
منظومها4، وإن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فيه".
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "25/ 168"، و
الاعتصام" "2/ 297"، و"تفسير ابن جرير" "1/ 7- المقدمة"،
و"الرسالة" "ص51، 52، 54، 55، 56، 57"، و"مختصر الصواعق
المرسلة" "1/ 15"، و"الإبانة" "ص54- جامعة الإمام".
3 أي: فيصح أن يجري ذلك في القرآن، ولكن بشرط أن لا يكون
شاذًّا ونادرًا يخل بالفصاحة، فإن هذا -وإن كان جاريا في
كلام العرب- لا يصح أن يقال به في الكتاب "د".
4 أي: في تجويز مخالفات للقياس المطرد، كصرف ما لا ينصرف،
ومد المقصور وعكسيه، مع أنه أجيز في الشعر لضرورة الوزن
ولا توجد ضرورة في النثر لمثله، فقوله: "وجريانها" عطف خاص
على عام للبيان. "د".
ج / 2 ص -132-
لم يكن
بها حاجة، وتركها لما هو أولى في مراميها، ولا يعد ذلك
قليلا في كلامها ولا ضعيفا، بل هو كثير قوي، وإن كان غيره
أكثر منه.
والثاني:
أن من شأنها الاستغناء ببعض الألفاظ عما يرادفها أو
يقاربها، ولا يعد ذلك اختلافا ولا اضطرابا إذا كان المعنى
المقصود على استقامة، والكافي من ذلك نزول القرآن على سبعة
أحرف1، كلها شافٍ كافٍ2، وفي هذا المعنى من الأحاديث وكلام
السلف العارفين بالقرآن3 كثير، وقد استمر أهل القراءات على
أن يعملوا بالروايات التي صحت عندهم مما وافق المصحف،
وأنهم في ذلك قارئون للقرآن من غير شك ولا إشكال، وإن كان
بين القرائتين ما يعده الناظر ببادئ الرأي اختلافا في
المعنى؛ لأن معنى الكلام من أوله إلى آخره على استقامة لا
تفاوت فيه بحسب مقصود الخطاب، كـ:
{مَالِكِ}
و "مَلِكِ"
[الفاتحة: 4]. "د".
{وَمَا
يَخْدَعُونَ4
إِلَّا أَنْفُسَهُم}، [البقرة:
9].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومن ذلك تبديل لفظ بآخر، كتبينوا وتثبتوا مثلا. "د".
2 حديث نزول القرآن على سبعة أحرف متواتر، ووردت لفظة:
"كلها شافٍ كافٍ" في حديث أبي بن كعب عند أحمد في "المسند"
"5/ 124"، وابنه عبد الله في "زياداته" "5/ 124، 125"، و
أبي داود "1477"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم
670"، وابن جرير في مقدمة "التفسير" "1/ 15"، والضياء في
"المختارة" "3/ رقم 1173، 1174، 1175، 1176"، وإسناده
صحيح، وجمع طرقه الشيخ عبد الفتاح القاري في جزء مفرد وهو
مطبوع.
وللحديث لفظ آخر يأتي قريبا "ص138".
3 في "خ" زيادة: "على"، والصواب حذفها.
4 انظر ما تقدم: "1/ 537".
ج / 2 ص -133-
{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا}، "لَنُبَوِّينَّهُمْ1 [مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا]2" [العنكبوت: 58].
إلى كثير من هذا3 لأن جميع ذلك لا تفاوت فيه بحسب فهم ما
أريد من الخطاب، وهذا كان عادة العرب.
ألا ترى ما حكى ابن جني4 عن عيسى بن عمر، وحكى عن غيره5
أيضا، قال: سمعت ذا الرمة ينشد:
وظاهر لها من يابس الشخت واستعن
عليها الصبا واجعل يديك لها سترا6
فقلت: أنشدني: "من
بائس"، فقال: "يابس" و"بائس" واحد.
فأنت ترى ذا الرمة لم يعبأ بالاختلاف بين البؤس واليبس،
لما كان معنى البيت قائما على الوجهين، وصوابا على كلتا
الطريقتين، وقد قال في رواية أبي العباس الأحول: "البؤس
واليبس واحد"، يعني: بحسب قصد الكلام لا بحسب تفسير
اللغة7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بالثاء المثلثة على ما قرأها حمزة والكسائي كما في
"السبعة" "502"، وكذا في الأصل و"ط".
2 في "خ": "لنبوينهم"، وما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 كما في قوله تعالى:
{لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}،
بكسر اللام للتعليل أو بفتحها على أنها فارقة. "د".
4 في "الخصائص" "2/ 469- ط العراقية"
5 في "ط": "وحكاه غيره"
6 الشخت: الحطب الدقيق، ولم أر تعليقا على البيت في كتب
الأدب، ويلوح أن الضمائر المؤنثة في البيت كناية عن النار
يذكيها البدوي بالوقود ويستعين على إشعالها بالريح، ثم
يجلس إليها للاصطلاء وتدفئة يديه وأطرافه من البرد. "د".
قلت: والبيت في "ديوانه" "176"،وله رواية أخرى في "اللسان"
"مادة فوت"
7 فمادة البؤس تدور على الشدة من الشجاعة وغيرها، ومادة
اليبس تدور على الجفاف بعد الرطوبة ويلزمها الشدة ضد
اللين، فهما متغايران متلازمان. "د".
ج / 2 ص -134-
وعن
أحمد بن يحيى، قال: أنشدني ابن الأعرابي:
وموضع زبن1 لا أريد مبيته
كأني به من شدة الروع آنس2
فقال له شيخ من أصحابه:
ليس هكذا أنشدتنا، [وإنما أنشدتنا]3: "وموضع ضيق" فقال:
سبحان الله! تصحبنا منذ كذا وكذا ولا تعلم أن الزبن4
والضيق واحد؟!
وقد جاءت أشعارهم على روايات مختلفة، وبألفاظ متباينة،
يعلم من مجموعها أنهم كانوا لا يلتزمون5 لفظا واحدا على
الخصوص، بحيث يعد مرادفه أو مقاربه عيبا أو ضعفا، إلا في
مواضع مخصوصة لا يكون ما سواه من المواضع محمولا عليها،
وإنما معهودها الغالب ما تقدم.
والثالث:
أنها قد تهمل بعض أحكام اللفظ وإن كانت تعتبره على الجملة،
كما استقبحوا العطف على الضمير المرفوع المتصل مطلقا، ولم
يفرقوا بين ما له لفظ وما ليس له لفظ، فقبح "قمت وزيد" كما
قبح "قام وزيد"، وجمعوا في الردف بين "عمود" و"يعود" من
غير استكراه، وواو عمود أقوى في المد،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل، وهو الصواب، وأورده هكذا ابن جني في
"الخصائص" "2/ 469"، وابن منظور في "اللسان" "مادة ز ب ن،
13/ 195"، وقال: "ومقام زبن: إذا كان ضيقا لا يستطيع
الإنسان أن يقوم عليه في ضيقه وزلقه"، وفي "المفضليات"
"225": "ومنزل ضنك"، وتصحف في النسخ المطبوعة من
"الموافقات" إلى "زير" بياء آخر الحروف وراء، ولذا كتب "د"
في الهامش: "المعنى المناسب للضيق في الزير أنه الدن"!!
انتهى.
قلت: ومعنى البيت: قد أنست بهذا المنزل لما نزلت به من شدة
ما بي من الروع، وإن كان ضيقا ليس بموضع نزول.
2 من قصيدة المرقش الأكبر في "المفضليات" "ص225".
3 سقطت من الأصل و"ط" والنسخ المطبوعة كلها، وأثبتناها من
"الخصائص" "2/ 469" لابن جني.
4 سبق في هامش1
5 في "ط": "أنهم ما كانوا يلتزمون".
ج / 2 ص -135-
وجمعوا
بين "سعيد" و"عمود" مع اختلافهما، وأشباه ذلك من الأحكام
اللطيفة التى تقتضيها الألفاظ في قياسها النظري، لكنها
تهملها وتوليها جانب الإعراض، وما ذلك إلا لعدم تعمقها في
تنقيح لسانها.
والرابع:
أن الممدوح من كلام العرب عند أرباب العربية ما كان بعيدا
عن تكلف الاصطناع، ولذلك إذا اشتغل الشاعر العربي بالتنقيح
اختلف في الأخذ عنه، فقد كان الأصمعي يعيب الحطيئة، واعتذر
عن ذلك بأن قال1:
"وجدت شعره كله جيدا" فدلني على أنه كان يصنعه، وليس هكذا
الشاعر المطبوع، إنما الشاعر المطبوع الذي يرمي بالكلام
على عواهنه2، جيده على رديئه"،وما قاله هو الباب المنتهج،
والطريق المهيع عند أهل اللسان، وعلى الجملة، فالأدلة على
هذا المعنى كثيرة، ومن زاول كلام العرب وقف من هذا على
علم.
وإذا كان كذلك، فلا يستقيم للمتكلم في كتاب الله أو سنة
رسول الله أن يتكلف فيهما3 فوق ما يسعه لسان العرب، وليكن
شأنه الاعتناء بما شأنه أن تعتني العرب به، والوقوف عند ما
حدته4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله في "الأغاني" "2/ 43- 44" بنحوه.
2 أي: عواجله وحواضره.
3 هذه النتيجة ليست هي المنتظرة في هذين الوجهين الأخيرين،
بل كان ينتظر أن يأتي من الكتاب أو الحديث بما فيه إهمال
بعض أحكام اللفظ، أو ما رمي به الكلام على عواهنه جيده على
غير جيده، ولعل ذلك لا يكون في الكتاب والسنة أصلا، وإذا
كان هكذا كان المناسب حذف هذين الوجهين من المقام. "د".
4 في الأصل: "حدث"، وانظر في معنى ما ذكره المصنف: "مجاز
القرآن" "1/ 8" لأبي عبيدة، و"الرسالة" "ص42" للشافعي،
و"الصاحبي" "ص47-48" لابن فارس.
ج / 2 ص -136-
فصل:
- ومنها1: أنه إنما يصح في مسلك الأفهام والفهم ما يكون
عاما لجميع العرب، فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه بحسب
الألفاظ والمعاني، فإن الناس في الفهم وتأتي التكليف فيه
ليسوا على وزان واحد ولا متقارب، إلا أنهم يتقاربون في
الأمور الجمهورية وما والاها، وعلى ذلك جرت مصالحهم في
الدنيا، ولم يكونوا بحيث يتعمقون في كلامهم ولا في
أعمالهم، إلا بمقدار ما لا يخل بمقاصدهم، اللهم إلا أن
يقصدوا أمرا خاصا لأناس خاصة، فذاك كالكنايات الغامضة،
والرموز البعيدة، التي تخفى عن الجمهور، ولا تخفى عمن قصد
بها، وإلا كان خارجا عن حكم معهودها.
فكذلك يلزم أن ينزل فهم الكتاب والسنة، بحيث تكون معانيه
مشتركة لجميع العرب، ولذلك أنزل القرآن على سبعة أحرف2،
واشتركت فيه اللغات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: القواعد.
2 أحسن ما رأيته في بيانه ما ذكره النويري في "شرحه
للطيبة" في مقدمات الكتاب، وليس فيما عده الإمالة والترقيق
لا شيء من صفات الحروف، بل هي أنواع سبعة ترجع لحذف لفظ أو
زيادة لفظ كـ "تجري تحتها الأنهار" و"من تحتها"، وإبدال
لفظ بمرادفه، كـ"تبينوا وتثبتوا"، وتقديم لفظ وتأخيره،
وإبدال حركة بأخرى بتغير المعنى بسببها، ولكنه يكون كل
منها صحيحا ومرادان إلى آخر ما ذكره "د".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "حكى القرطبي عن ابن حبان أن
الاختلاف في معنى الأحرف السبعة بلغ خمسة وثلاثين قولا،
وأظهر هذه الأقوال أن يكون المراد منها وجوه تغاير الألفاظ
مع الاتفاق أو التقارب في المعنى، ومن أصحاب هذا القول من
يرى لفظ السبعة مستعملا في الكثرة، ومنهم من يجعل هذا
العدد الخاص مقصودا، ويذكر في بيانه الإبدال واختلاف تصريف
الأفعال، واختلاف وجوه الإعراب والتقديم والتأخير والنقص
والزيادة، والاختلاف بمثل الإمالة والترقيق والإدغام،
واختلاف الأسماء بالإفراد والتثنية والجمع،ومن وجوه هذا
التغاير ما ينشأ عن اختلاف اللغات، ومنها ما يكون في لغة
وحده. "خ".
وانظر في ذلك: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 389" وما
بعدها".
ج / 2 ص -137-
حتى
كانت قبائل العرب تفهمه.
وأيضا، فمقتضاه من التكليف لا يخرج عن هذا النمط، لأن
الضعيف ليس كالقوي، ولا الصغير كالكبير، ولا الأنثى
كالذكر، بل كل له حد ينتهي إليه في العبارة1 الجارية،
فأخذوا بما يشترك الجمهور في القدرة عليه، وألزموا ذلك من
طريقهم: بالحجة القائمة، والموعظة الحسنة، ونحو ذلك، ولو
شاء الله لألزمهم ما لا يطيقون، ولكلفهم بغير قيام حجة،
ولا إتيان ببرهان، ولا وعظ ولا تذكير، ولطوقهم فهم ما لا
يفهم وعلم ما لم يعلم، فلا حجر عليه في ذلك، فإن حجة الملك
قائمة:
{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149].
لكن الله سبحانه خاطبهم من حيث عهدوا، وكلفهم من حيث لهم
القدرة2 على ما به كلفوا، وغذوا في أثناء ذلك بما يستقيم
به منآدهم3، ويقوى به ضعيفهم، وتنتهض به عزائمهم: من الوعد
تارة، والوعيد أخرى، والموعظة الحسنة أخرى، وبيان مجاري
العادات فيمن سلف من الأمم الماضية والقرون الخالية، إلى
غير ذلك مما في معناه، حتى يعلموا أنهم لم ينفردوا بهذا
الأمر دون الخلق الماضيين، بل هم مشتركون في مقتضاه، ولا
يكونون مشتركين إلا فيما لهم منة4 على تحمله، وزادهم
تخفيفا دون الأولين، وأجرى فوقهم فضلا من الله ونعمة،
والله عليم حكيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل و"ط"، وفي "ماء/ ص 153": "العبارات"، وفي
باقي النسخ المطبوعة: "العادة".
2 في "ط": "قدرة" بالتنكير.
3 في الأصل: "متادهم"، وقال في الحاشية: "هو جهة من
الأود"، وفي "خ": "مناديهم"، وفسرها "د" في الهامش بقوله:
"أي: معوجهم".
4 المنة: القوة ".
ج / 2 ص -138-
وقد
خرج الترمذي وصححه عن أبي بن كعب، قال: لقي رسول الله صلى
الله عليه وسلم جبريل، فقال:
"يا جبريل! إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام
والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط". قال: "يا محمد!
إن القرآن أنزل على سبعة أحرف"1.
فالحاصل أن الواجب في هذا المقام إجراء الفهم في الشريعة
على وزان الاشتراك الجمهوري الذي يسع الأميين كما يسع
غيرهم.
فصل:
- ومنها: أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو
المقصود الأعظم، بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها
بالمعاني، وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها، وهذا الأصل معلوم
عند أهل العربية، فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى
المراد، والمعنى هو المقصود، ولا أيضًا كل المعاني، فإن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب القراءات، باب ما جاء
أنزل القرآن على سبعة أحرف، 5/ 194/ رقم 2944"، و الطيالسي
في "المسند" "رقم 543"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/
518"، وأحمد في "المسند" "5/ 132"، والضياء المقدسي في
"الأحاديث المختارة" 3/ رقم 1168، 1169، وابن حبان في
"الصحيح" "3/ 14/ رقم 739- الإحسان، والشاشي في "مسنده"
"3/ 362/ رقم 1480، 1481" من طرق عن عاصم عن زر عن أبي به.
وإسناده حسن، عاصم صدوق له أوهامن حجة في القراءة، وقال
الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه أبي بن
كعب"، وقال قبل ذلك: "وفي الباب عن عمر وحذيفة بين اليمان
وأم أيوب وسمرة وابن عباس وأبي هريرة وأبي جهم بن الحارث
بن الصمة وعمرو بن العاص وأبي بكرة".
قلت: وأقرب ألفاظها للفظ المصنف حديث حذيفة عند أحمد في
"المسند" "5/ 405-406".
ج / 2 ص -139-
المعنى
الإفرادي قد لا يعبأ به، إذا كان المعنى التركيبي مفهوما
دونه، كما لم يعبأ ذو الرمة "ببائس" ولا "يابس" اتكالا منه
على أن حاصل المعنى مفهوم.
وأبين من هذا ما في "جامع الإسماعيلي المخرَّج على صحيح
البخاري" عن أنس بن مالك، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قرأ:
{فَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]، قال: ما الأبّ؟ ثم قال: ما كلفنا هذا. أو قال: ما أمرنا
بهذا1.
وفيه أيضا عن أنس، أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله:
{فَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]: ما الأبّ؟ فقال عمر: نهينا عن التعمق والتكلف2.
ومن المشهور تأديبه لصبيغ3 حين كان يكثر السؤال عن
{الْمُرْسَلاتِ}
[المرسلات: 1]، و
{الْعَاصِفَاتِ} [المرسلات: 2] ونحوهما.
وظاهر هذا كله أنه إنما نهي عنه لأن المعنى التركيبي معلوم
على الجملة، ولا ينبني على فهم هذه الأشياء حكم تكليفي،
فرأى أن الاشتغال به عن غيره مما هو أهم منه تكلُّفٌ،
ولهذا أصل في الشريعة صحيح، نبه عليه قوله تعالى:
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ}
[البقرة: 177] إلى آخر الآية: فلو كان فهم اللفظ الإفرادي
يتوقف عليه فهم التركيبي، لم يكن تكلفا، بل هو مضطر إليه
كما روي عن عمر نفسه في قوله تعالى:
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّف} [النحل: 47]، فإنه سئل عنه على المنبر، فقال له رجل من هذيل:
التخوف عندنا التنقص، ثم أنشده:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 49"، وهو صحيح.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب
والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264- 265".
3 مضى تخريجه "1/ 51"، وهو صحيح، وفي "خ": "ضبيع".
قلت: وفي حاشية الأصل قال: "صبيغ، كأمير، آخره معجمة".
ج / 2 ص -140-
تخوف الرحل منها تامكا قردا
كما تخوف عود النبعة السفن1
فقال عمر:
"أيها الناس! تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم، فإن فيه
تفسير كتابكم"2، فليس بين الخبرين تعارض لأن هذا [قد]3
توقف فهم معنى الآية عليه بخلاف الأول.
فإذا كان الأمر هكذا، فاللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب،
لأنه المقصود والمراد، وعليه ينبني4 الخطاب ابتداء، وكثيرا
ما يغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب5 والسنة، فتلتمس غرائبه
ومعانيه على غير الوجه الذي ينبغي6، فتستبهم على الملتمس،
وتستعجم على من لم يفهم مقاصد العرب، فيكون عمله في غير
معمل، ومشيه على غير طريق، والله الواقي برحمته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التامك: السنام، والقرد: الذي تجعد شعره فكان كأنه وقاية
للسنام، والنبع: شجر للقسي والسهام، والسفن: كل ما ينحت به
غيره. "د".
في حاشية المخطوط ما نصه: "الرحل، بالحاء المهملة: ما يوضع
على الدابة، والضمير في "منها" لناقة، وتامكا، على وزن
فاعل: سنام الناقة، وقرد، بفتح القاف، وكسر الراء: لبد من
السمن، وعود النبعة معروف، والسفن، بفتح السين والفاء: آلة
القطع كالقدوم، يقول: إن الرحل قطع من ناقته سناما سمينا
كما قطع القدوم شجرة النبع".
2 مضى تخريجه "1/ 58"، وهو ضعيف، وتقدم بيان ما في الشعر
من الغريب بتفصيل، ولله الحمد.
3 ليست في الأصل ولا في "ماء".
4 في الأصل: "بني".
5 في الأصل: و"ط": "إلى الكتاب",.
6 ومن أطرف ما يحكى ما عزاه النعيمي في "الدارس في تاريخ
المدارس" "1/ 25" إلى النووي بقوله: "وبقيت أكثر من شهرين
أو أقل، لما قرأت في "التنبيه": يجب الغسل من إيلاج الحشفة
في الفرج"، أعتقد أن ذلك قرقرة البطن، فكنت أستحم بالماء
البارد كلما قرقر بطني".
ونقلها أيضا الذهبي في "تاريخ الإسلام" "ق 574- نسخة
رامبور" والسخاوي في ترجمة الإمام النووي" "ص5، 6"،
والسيوطي في "المنهاج السوي" "ص32" وعقب عليها بعضهم
بقوله: "والظاهر أن الحياء كان يمنعه السؤال عن ذلك".
ج / 2 ص -141-
فصل:
- ومنها: أن
تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقلها،
ليسعه الدخول تحت حكمها.
أما الاعتقادية -بأن تكون من القرب للفهم، والسهولة على
العقل، بحيث يشترك فيها الجمهور من كان منهم ثاقب الفهم أو
بليدًا-، فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص، لم تكن
الشريعة عامة، ولم تكن أمية، وقد ثبت كونها كذلك، فلا بد
أن تكون المعاني المطلوب علمها واعتقادها سهلة المأخذ1.
وأيضا، فلو لم تكن كذلك لزمه بالنسبة إلى الجمهور تكليف ما
لا يطاق وهو غير واقع، كما هو مذكور في الأصول2، ولذلك تجد
الشريعة لم تعرف من الأمور الإلهية إلا بما يسع فهمه،
وأرجت غير ذلك، فعرفته بمقتضى الأسماء والصفات، وحضت على
النظر في المخلوقات، إلى أشباه ذلك، وأحالت3 فيما يقع فيه
الاشتباه على قاعدة عامة، وهو قوله تعالى:
{لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
[الشورى: 11]، وسكتت عن أشياء لا تهتدي إليها العقول، نعم، لا ينكر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "9/ 37".
2 انظر في ذلك: "البرهان" "1/ 105"، و"المستصفى" "1/ 56،
86-88، و"البحر المحيط" "1/ 220 و 388"، و"الإبهاج" "1/
170"، و"سلاسل الذهب" "136"، و"روضة الناظر" "1/ 234- 235-
ط الرشد"، و"المحصول" "1/ 2/ 363"، و"المسودة" "80"،
و"الإحكام" "1/ 137" للآمدي، و"تيسير التحرير" "2/ 135"،
و"إرشاد الفحول" 9، و"رفع الحرج في الشريعة الإسلامية"
"187- 205" ليعقوب الباحسين.
3 في "خ": "وإحالة".
ج / 2 ص -142-
تفاضل
الإدراكات على الجملة، وإنما النظر في القدر المكلف به.
ومما يدل على ذلك أيضا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يبلغنا
عنهم من الخوض في هذه الأمور ما1 يكون أصلا للباحثين
والمتكلفين، كما لم يأت ذلك عن صاحب الشريعة عليه الصلاة
والسلام، وكذلك التابعون المقتدى بهم لم يكونوا إلا على ما
كان عليه الصحابة، بل الذي جاء عن النبي صلى الله عليه
وسلم وعن أصحابه النهي عن الخوض في الأمور الإلهية وغيرها،
حتى قال:
"لن يبرح الناس يتساءلون،حتى يقولوا: هذا الله خالق كل
شيء، فمن خلق الله؟"2.
وثبت النهي عن كثرة السؤال، وعن تكلف ما لا يعني3 عاما في
الاعتقاديات والعمليات، وأخبر مالك أن من تقدم كانوا
يكرهون الكلام إلا فيما تحته عمل4، وإنما يريد ما كان من
الأشياء التي لا تهتدي العقول لفهمها مما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "وما".
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب بدء الخلق، باب صفة
إبليس وجنوده، 6/ 336 / رقم 3276"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب
الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها،
1/ 119- 120م رقم 134" عن أبي هريرة مرفوعا:
"يأتي
الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول:
من خلق ربك؟ فإذا بلغه، فليستعذ بالله، ولينته".
وأورده مسلم بألفاظ مقاربة أخرى، واللفظ الذي عند المصنف
هو من حديث أنس مرفوعا، أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب
الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال ومن
تكلف ما لا يعنيه، 13/ 265/ رقم 7296".
3 أما النهي عن كثرة السؤال، فقد ورد في غير حديث عند
المصنف، منها حديث المغيرة المتقدم "1/ 48"، وأما النهي عن
التكلف، فقد أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الاعتصام
بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264-
265" بسنده إلى أنس، قال: "كنا عند عمر، فقال: نُهِينا عن
التكلف"، ومن المقرر في علم المصطلح أن قول الصحابي:
"نُهِينا"، و"أُمِرنا" له حكم المرفوع.
4 أسند اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "309"،
وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 938/ رقم 1786"
بسند عن مالك، قال: "الكلام في الدين أكرهه، وكان أهل
بلدنا يكرهونه وينهون عنه.... ولا أحب الكلام إلا فيما
تحته عمل".
ج / 2 ص -143-
سكت
عنه، أو مما وقع نادرا من المتشابهات محالا به على آية
التنزيه.
وعلى هذا، فالتعمق في البحث فيها وتطلب ما لا يشترك
الجمهور في فهمه خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية، فإنه
ربما جمحت النفس إلى طلب ما لا يطلب منها فوقعت في ظلمة لا
انفكاك لها منها، ولله در القائل:
وللعقول قوى تستن1 دون مدى
إن تعدها2 ظهرت فيها اضطرابات
ومن طماح النفوس إلى ما
لم تكلف به نشأت الفرق كلها أو أكثرها.
وأما العمليات، فمن مراعاة الأمية فيها أن وقع تكليفهم
بالجلائل في الأعمال والتقريبات3 في الأمور، بحيث يدركها
الجمهور كما عرف أوقات الصلوات بالأمور المشاهدة لهم،
كتعريفها بالظلال، وطلوع الفجر والشمس، وغروبها وغروب
الشفق، وكذلك في الصيام في قوله تعالى:
{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ
الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]، ولما كان فيهم من حمل العبارة على حقيقتها، نزل4:
{مِنَ الْفَجْرِ}.
وفي الحديث:
"إذا أقبل
الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس، فقد
أفطر الصائم"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من استن الفرس قمص وهو أن ترفع يديها وتطرحهما معا وتعجن
برجليهان وهو غاية الاعوجاج في سيرها، فلا تقطع به الطريق،
وتؤذي راكبها. "د".
2 في الأصل: "تعده".
3 لعل الأصل "بالتقريبات"، أي فلم يكلفوا بما يقتضي الضبط
التام للأوقات، بل بأمارات وعلامات تقريبية، مع أنها جعلت
أمارات لجلائل الأعمال كالصلاة والصوم والحج. "د".
4 سيأتي تخريج ذلك "3/ 298".
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم باب متى يحل فطر
الصائم، 4/ 196 رقم 1954"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب
الصيام، باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، 2/ 772/
رقم 1100"، والترمذي في "الجامع "أبواب الصوم، باب وقت
انقضاء الصوم وخروج النهار/ رقم 698"، والنسائي في
"الكبرى"- كما في "تحفة الأشراف" "8/ 34"-، وأحمد في
"المسند" "1/ 28، 35، 48، 54"،والبيهقي في الكبرى "4/ 216،
237، 238" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ج / 2 ص -144-
وقال:
"نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا"1.
وقال: "لا تصوموا
حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم
فأكملوا العدة ثلاثين"2.
ولم يطالبنا بحساب مسير الشمس مع القمر في المنازل، لأن
ذلك لم يكن من معهود العرب ولا من علومها3، ولدقة الأمر
فيه، وصعوبة الطريق إليه4، وأجرى لنا غلبة الظن في الأحكام
مجرى اليقين، وعذر الجاهل فرفع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 56"، والحديث في الصحيحين" بلفظ: "إنا"
بتقديم "نكتب" على "نحسب".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب هل يقال
رمضان أو شهر رمضان، 4/ 113/ رقم 1900، وباب قول النبي صلى
الله عليه وسلم:
"إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا"4 / 119/ رقم 1906"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب وجوب صوم
رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال، 2/ 759/ رقم
1080" عن ابن عمر رضي الله عنهما.
3 كيف يتفق هذا مع ما تقدم له في المسألة الثالثة؟ "د".
4 ذهب قوم منهم ابن شريح* إلى اعتبار منازل القمر والرجوع
إلى المنجمين، وتأولوا على هذا الرأي قوله عليه الصلاة
والسلام:
"فإذا غم عليكم، فاقدروا له"، والمحقق أن المراد من قوله:
"فاقدروا له"
ما بينته رواية: "فإن غم عليكم، فاقدروا ثلاثين"، ورواية:
"فأكملوا العدة ثلاثين"،ويؤيده من جهة النظر ما أومأ إليه
المصنف من أن الصوم عبادة يتوجه الخطاب بها إلى المكلفين
عامة، فلم يكن من اللائق تعليق الحكم فيها بما لا يعرفه
إلا طائفة خاصة من الناس. "خ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا في الأصل، ولعل الصواب: "سريج".
ج / 2 ص -145-
عنه
الإثم، وعفا عن الخطأ، إلى غير ذلك من الأمور المشتركة
للجمهور، فلا يصح الخروج عما حد في الشريعة، ولا تطلب ما
وراء هذه الغاية، فإنها مظنة الضلال، ومزلة الأقدام.
فإن قيل1: هذا مخالف لما نقل عنهم من تدقيق2 النظر في
مواقع الأحكام، ومظان الشبهات، ومجاري الرياء والتصنع
للناس، ومبالغتهم في التحرز من الأمور المهلكات، التي هي
عند الجمهور من الدقائق التي لا يهتدي إلى فهمها والوقوف
عليها إلا الخواص، وقد كانت عندهم عظائم وهي مما لا يصل
إليها الجمهور.
وأيضا، لو كانت كذلك، لم يكن للعلماء مزية على سائر الناس،
وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم خاصة وعامة، وكان
للخاصة من الفهم في الشريعة ما لم يكن للعامة، وإن كان
الجميع عربا وأمة أمية، وهكذا سائر القرون إلى اليوم،
فكيف3 هذَا؟
وأيضا، فإن الشريعة قد اشتملت على ما تعرفه العرب عامة،
وما يعرفه العلماء خاصة، وما لا يعلمه إلا الله تعالى،
وذلك المتشابهات، فهي شاملة لما يوصل إلى فهمه على
الإطلاق، وما لا يوصل إليه على الإطلاق، وما يصل إليه
البعض دون البعض، فأين الاختصاص بما يليق بالجمهور خاصة؟
فالجواب أن يقال: أما المتشابهات، فإنها من قبيل غير ما
نحن فيه لأنها إما راجعة إلى أمور إلهية لم يفتح الشارع
لفهمها بابا غير التسليم والدخول تحت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السؤال وارد على كلامه في الاعتقاديات والعمليات بدليل
قوله: "فإن الشريعة قد اشتملت.... إلخ". "د".
2 في الأصل: "وتدقيق".
3 في الأصل: "وكيف".
ج / 2 ص -146-
آية
التنزيه، وإما راجعة إلى قواعد شرعية، فتتعارض أحكامها1،
وهذا خاص مبني على عام2 هو ما نحن فيه، وذلك أن هذه الأمور
كلها يجاب عنها بأوجه:
أحدها:
أنها أمور إضافية لم يتعبد بها أول الأمر للأدلة المتقدمة،
وإنما هي أمور تعرض لمن تمرن في علم الشريعة وزاول أحكام
التكليف، وامتاز عن الجمهور بمزيد فهم فيها، حتى زايل
الأمية من وجه، فصار تدقيقه في الأمور الجليلة بالنسبة إلى
غيره ممن لم يبلغ درجته، فنسبته إلى ما فهمه نسبة العامي
إلى ما فهمه، والنسبة إذا كانت محفوظة، فلا يبقى تعارض3
بين ما تقدم وما ذكر في السؤال.
والثاني:
أن الله تعالى جعل أهل الشريعة على مراتب ليسوا فيها على
وزان واحد، ورفع بعضهم فوق بعض، كما أنهم في الدنيا كذلك،
فليس من له مزيد في فهم الشريعة كمن لا مزيد له، لكن
الجميع جار على أمر مشترك.
والاختصاصات فيها هبات من الله لا تخرج أهلها عن حكم
الاشتراك، بل يدخلون مع غيرهم فيها، ويمتازون هم بزيادات
في ذلك الأمر المشترك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي أن المسألة تكون محتملة الدخول تحت قواعد شرعية
مختلفة، فتتعارض أحكامها بحسب الظاهر، ويحصل الاشتباه.
"د". وفي "ط": "تتعارض أحكامها".
2 في "خ": "هام".
3 كيف لا يعارض هذا ما قرره في نتيجة هذا الفصل من قوله
آنفا: "وعلى هذا، فالتعمق في البحث في الشريعة وتطلب ما لا
يشترك فيه الجمهور خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية"،
وهنا يقول: "إنها أمور إضافية"، و"إن تدقيق الذي يتمرن على
علم الشريعة في الأمور الجليلة، وإن نسبة ما فهمه إلى ما
يفهمه العامي نسبة محفوظة"، ولا يقال: إن ما قرره كان خاصا
بالاعتقاديات، لأنا نقول: الجواب أصله عام في المتشابهات
الاعتقادية وغيرها، كما يعلم من النظر في الاعتراض، وعلى
كل حال، فهو هنا يثبت أن للخاصة أن تفهم وتدقق في الشريعة
بما لا يناسب الجمهور ولا يشتركون فيه، وهل هذا إلا عين
التسليم بالإشكال على ما سبق؟ "د".
ج / 2 ص -147-
بعينه،
فإن امتازوا بمزيد الفهم لم يخرجهم ذلك عن حكم الاشتراك،
فإن ذلك المزيد أصله الأمر المشترك.
كما نقول: إن الورع مطلوب من كل أحد على الجملة، ومع ذلك،
فمنه ما هو من الجلائل،كالورع عن الحرام البين، والمكروه
البين، ومنه ما ليس من الجلائل عند قوم، وهو منها عند قوم
آخرين، فصار الذين عدوه من الجلائل داخلين في القسم الأول
على الجملة وإن كانوا قد امتازوا عنهم بالورع على بعض ما
لا يتورع عنه القسم الأول، بناء على الشهادة بكون الموضع
متأكدا لبيانه أو غير متأكد لدقته، وهكذا سائر المسائل
التي يمتاز بها الخواص عن العوام لا تخرج عن هذا القانون،
فقد بان أن الجميع جارون على حكم أمر مشترك1 مفهوم للجمهور
على الجملة.
والثالث:
أن ما فيه التفاوت إنما تجده2 في الغالب في الأمور المطلقة
في الشريعة التي لم يوضع لها حد يوقف عنده، بل وكلت إلى
نظر المكلف، فصار كل أحد فيها مطلوبا بإدراكه، فمن مدرك
فيها أمرا قريبا فهو3 المطلوب منه، ومن مدرك فيها أمرا هو4
فوق الأول، فهو المطلوب منه، وربما تفاوت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهل هذه هي الدعوى التي يشتغل في هذه الفصول بإثباتها،
وهي أن الشريعة أمية، وأنه لا يصح أن تفهم إلا بالوجه الذي
يعهده الأميون والجمهور، أما كون الأمر المشترك في التكليف
هو ما يفهمه الجمهور وما يقدر على أدائه الجمهور، فلا مرية
فيه، إنما الكلام فيما أطال فيه النفس في هذه الفصول من
الحجر على الخواص أن يفهموا الكتاب إلا بمقدار الأميين
والجمهور، وبنى على هذه النتائج. "د".
2 على كل حال هو موجود، سواء أكان في هذا النوع فقط أم على
الإطلاق، فلا ينحسم الإشكال. "د".
3 في الأصل: "هو".
4 في الأصل: "فهو".
ج / 2 ص -148-
الأمر
فيها بحسب قدرة المكلف على الدوام فيما1 دخل فيه وعدم
قدرته، فمن لا يقدر على الوفاء بمرتبة من مراتبه لم يؤمر
بها، بل بما هو دونها، ومن كان قادرا على ذلك كان مطلوبا،
وعلى هذا السبيل يعتبر ما جاء مما يظن أنه مخالف لما تقدم،
والله أعلم.
فلهذا المعنى بعينه وضعت العمليات على وجه لا تخرج المكلف
إلى مشقة يمل2 بسببها، أو إلى تعطيل عاداته التي يقوم بها
صلاح دنياه، ويتوسع بسببها في نيل حظوظه، وذلك أن الأمي
الذي لم يزاول شيئا من الأمور3 الشرعية ولا العقلية- وربما
اشمأز قلبه عما يخرجه عن معتاده4- بخلاف من كان له بذلك
عهد، ومن هنا كان نزول القرآن نجوما في عشرين سنة، ووردت
الأحكام التكليفية فيها شيئا فشيئا5 ولم تنزل دفعة واحدة،
وذلك لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة.
وفيما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك قال
له: "ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور
غلت بي وبك في الحق". قال له عمر: "لا تعجل يا بني، فإن
الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني
أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من
ذا فتنة"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ": "فيها".
2 في الأصل: "يقل".
3 في "ط": "العلوم".
4 في "ط": "معتاداته".
5 في الأصل: "شيئا".
6 نحوه في "سيرة عمر بن عبد العزيز" "60" لابن عبد الحكم،
وكتب "خ": من أقوى الدعائم في نجاح السياسة أن يفحص الرئيس
مزاج الأمة ويسير في علاجها وترقية شأنها شيئا فشيئا للوجه
الذي بسطه المصنف في هذا المقام، وقد يتخذ الأجنبي المتغلب
هذه الطريقة محورًا يدير عليها سياسته في الشعوب الغافلة،
فيوجس في نفسه أن يضع عليها من القوانين والتصرفات ما
ينحدر بها إلى هاوية الشقاء والجهالة، ولكنه يحذر أن
تطرحها جملة وتفضل الموت في مواقع الدفاع على الحياة تحت
نير الأسر والاستعباد، فيأخذها بتلك القوانين والتصرفات
رويدا رويدا حتى تألف مرارتها ويتهون عليها المقام تحت
أعبائها".
ج / 2 ص -149-
وهذا
معنى صحيح معتبر في الاستقراء العادي، فكان ما كان أجري
بالمصلحة وأجري على جهة التأنيس1، وكان أكثرها على أسباب
واقعة، فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنزل بحسب الوقائع،
وكانت أقرب إلى التأنيس حين كانت تنزل حكما حكما وجزئية
جزئية؛ لأنها إذا نزلت كذلك، لم ينزل حكم إلا والذي قبله
قد صار عادة، واستأنست به نفس المكلف الصائم عن التكليف
وعن العلم به رأسا، فإذا نزل الثاني كانت النفس أقرب
للانقياد له، ثم كذلك في الثالث والرابع.
ولذلك أُونسوا في الابتداء2 بأن هذه الملة ملة إبراهيم
عليه السلام، كما يؤنس الطفل في العمل بأنه من عمل أبيه،
يقول تعالى:
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78].
{ثُمَّ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ
حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِي} [النحل: 123].
{إِنَّ
أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوه} [آل عمران: 68].
إلى غير ذلك من الآيات: فلو نزلت دفعة واحدة لتكاثرت
التكاليف على المكلف، فلم يكن لينقاد إليها انقياده إلى
الحكم الواحد أو الاثنين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ": "التأنيث".
2 ظاهر فيما كان من ذلك مكيا وسابقا، وأما ما كان مدنيا أو
متأخرا كآية:
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ}، فلا يظهر فيه قوله أونسوا في الابتداء، إلا أن يقال: إن مثله
زيادة في التوكيد والتقرير كما هو شأن ما تكرر من المكيات
في المدينة. "د".
قلت: والجملة في الأصل: "أنسوا في الابتداء"، وفي "ط":
"ولذلك أيضا أُونسوا".
ج / 2 ص -150-
وفي
الحديث:
"الخير عادة"1
وإذا اعتادت النفس فعلا من أفعال الخير حصل له به نور في
قلبه، وانشرح به صدره، فلا يأتي فعل ثانٍ إلا وفي النفس له
القبول؛ هذا في عادة الله في أهل الطاعة، وعادة أخرى جارية
في الناس أن النفس أقرب انقيادا إلى فعل يكون عندها فعل
آخر من نوعه، ومن هنا كان عليه الصلاة والسلام يكره أضداد
هذا ويحب ما يلائمه، فكان يحب الرفق ويكره العنف2، وينهي
عن التعمق والتكلف3 والدخول تحت ما لا يطاق حمله؛ لأن هذا
كله أقرب إلى الانقياد، وأسهل في التشريع للجمهور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن ماجة في "السنن" "المقدمة، باب فضل العلماء
والحث على طلب العلم 1/ 80/ رقم 221"، وابن حبان في
"الصحيح" "2/ 8/ رقم 310 - الإحسان"، والطبراني في
"الكبير" "19/ 385-386/ رقم 904"، و"مسند الشاميين" "رقم
2215"، وابن عدي في الكامل" "3/ 1005"، وأبو الشيخ في
"الأمثال" "رقم 20"، وابن أبي عاصم في "الصمت" "100"، وأبو
نعيم في "الحلية" "5/ 252"، و"تاريخ أصبهان" "1/
345"،والقضاعي في "مسند الشهاب" رقم 22 عن معاوية مرفوعا،
وإسناده حسن، والحديث في "السلسلة الصحيحة" لشيخنا
الألباني "رقم 651".
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب البر
والصلة، باب فضل الرفق 4/ 2003-2004/ رقم 2593" عن عائشة
مرفوعا:
"إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما
لا يعطي على ما سواه".
وأخرج برقم "2594" عنها
رضي الله عنها مرفوعا: "إن الرفق لا
يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه".
3 وقد مضى ذلك في التعليق على "ص142".
ج / 2 ص -151-
المسألة الخامسة:
إذا ثبت أن
للكلام من حيث دلالته على المعنى اعتبارين: [من جهة دلالته
على المعنى الأصلي، و]1 من جهة دلالته على المعنى التبعي
الذي هو خادم للأصلي2، كان من الواجب أن ينظر في الوجه
الذي تستفاد منه الأحكام، وهل يختص بجهة المعنى الأصلي؟ أو
يعم الجهتين معا؟
أما جهة المعنى الأصلي، فلا إشكال في صحة اعتبارها في
الدلالة على الأحكام بإطلاق، ولا يسع فيه خلاف على حال،
ومثال ذلك صيغ الأوامر والنواهي، والعمومات والخصوصات، وما
أشبه ذلك مجردا من القرائن الصارفة لها عن مقتضى الوضع
الأول.
وأما جهة المعنى التبعي، فهل يصح اعتبارها في الدلالة على
الأحكام من حيث يفهم منها معان زائدة على المعنى الأصلي أم
لا؟ هذا محل تردد، ولكل واحد من الطرفين وجه من النظر.
فللمصحح أن يستدل بأوجه:
أحدها:
أن هذا النوع إما أن يكون معتبرا في دلالته على ما دل
عليه، أو لا، ولا يمكن عدم اعتباره؛ لأنه إنما أتي به لذلك
المعنى، [فلا بد من اعتباره فيه، وهو زائد على المعنى]3
الأصلي وإلا لم يصح، فإذا كان هذا المعنى يقتضي حكما
شرعيا، لم يمكن إهماله وإطراحه، كما لا يمكن ذلك بالنسبة
إلى النوع الأول، فهو إذا معتبر، وهو المطلوب.
والثاني:
أن الاستدلال بالشريعة على الأحكام إنما هو من جهة كونها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1و 3" ساقط من الأصل، والمعنى الأصلي: هو لفظ القائل الذي
يقصد به الأشياء أو يعمه، والمعنى التبعي: الذي هو الحال
الذي يفهم منه زائدا على المعنى الأصلي. "ماء / 156".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "للأصل".
ج / 2 ص -152-
بلسان
العرب، لا من جهة كونها كلاما فقط، وهذا الاعتبار يشمل ما
دل بالجهة الأولى، وما دل بالجهة الثانية، هذا وإن قلنا:
إن الثانية مع الأولى كالصفة مع الموصوف كالفصل والخاصة،
فذلك كله غير ضائر، وإذا كان كذلك، فتخصيص الأولى بالدلالة
على الأحكام دون الثانية تخصيص من غير مخصص، وترجيح من غير
مرجح، وذلك كله باطل، فليست1 الأولى إذا ذاك بأولى
للدلالة2 من الثانية، فكان اعتبارهما معا هو المتعين.
والثالث:
أن العلماء قد اعتبروها واستدلوا على الأحكام من جهتها في
مواضع كثيرة، كما استدلوا على أن أكثر مدة الحيض خمسة عشر
يوما بقوله عليه السلام: "تمكث إحداكن شطر دهرها لا
تصلي"3، والمقصود الإخبار بنقصان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ": "ليست"
2 في "ط": "بالدلالة".
3 قال البيهقي في "المعرفة" "1/ 367": "وأما الذي يذكره
بعض فقهائنا في هذه الرواية عن قعودها شطر دهرها لا تصلي،
فقد طلبته كثيرا، فلم أجده في شيء من كتب أصحاب الحديث،
ولم أجد له إسنادًا بحال، والله أعلم".
وقال ابن منده فيما حكاه ابن دقيق العيد في "الإمام" عنه:
"ذكر بعضهم هذا الحديث، ولا يثبت بوجه من ا لوجوه"، كذا في
"التلخيص الحبير" "1/ 162".
وقال ابن الجوزي في "التحقيق": "وهذا لفظ لا أعرفه"، وأقره
محمد بن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" "1/ 615"، ونقل
كلامهما ولم يتعقبهما الزيلعي في "نصب الراية" "1/ 193".
وقال أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب""1/ 46- ط المصرية
القديمة" بعد ذكره: "لم أجده بهذا اللفظ إلا في كتب
الفقه".
وقال النووي في "شرحه" المسمى "المجموع" "2/ 377": و"أما
حديث
"تمكث شطر دهرها"، فحديث باطل لا يعرف"،وقال في "الخلاصة": باطل لا
أصل له"، وقال المنذري: "لم يوجد له إسناد بحال، وأغرب
الفخر ابن تيمية في "شرح الهداية" لأبي الخطاب، فنقل عن
القاضي أبي يعلى أنه قال: ذكر هذا الحديث عبد الرحمن بن
أبي حاتم البستي في كتاب "السنن" له، كذا قال، وابن أبي
حاتم ليس هو بستيا إنما هو رازي، وليس له كتاب يقال له
"السنن".
تنبيه:
في قريب من المعنى ما اتفقا عليه من حديث أبي سعيد، قال:
"أليس إذا حاضت=
ج / 2 ص -153-
الدين،
لا الإخبار بأقصى المدة، ولكن المبالغة1 اقتضت ذكر ذلك،
ولو تصورت الزيادة لتعرض لها.
واستدل الشافعي على تنجيس الماء القليل بنجاسة لا تغيره
بقوله عليه السلام:
"إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغلسها"2 الحديث،
فقال: لولا أن قليل النجاسة ينجس لكان توهمه لا يوجب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=
لم تصل ولم تصم، فذلك من
نقصان دينها؟"،ورواه مسلم من حديث ابن عمر بلفظ:
"تمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في شهر رمضان، فهذا نقصان دينها"، ومن حديث
أبي هريرة كذلك، وفي "المستدرك" من حديث ابن مسعود نحوه،
ولفظه:
"فإن إحداهن تقعد ما شاء الله من يوم وليلة لا تسجد لله سجدة". قلت: وهذا
وإن كان قريبا من معنى الأول، لكنه لا يعطي المراد من
الأول، وهو ظاهر من التفريع، والله أعلم، وإنما أورد
الفقهاء هذا محتجين به على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما،
ولا دلالة في شيء من الأحاديث التي ذكرناها على ذلك، والله
أعلم. قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير" "1/ 162- 163".
ولقد تلقى المتأخرون ما أطلقه ابن منده والبيهقي وغيرهما
من أن الحديث بهذا اللفظ لا أصل له، كما تراه في "المقاصد"
"ص164"، و"مختصر المقاصد" "ص88"، و"التمييز" "ص62"،
و"الكشف" "1/ 39"، و"المصنوع" "ص85"، و"الدرر المنتثرة"
"ص113"، و"الأسرار المرفوعة" "ص177- 178"، و"الغماز على
اللماز" "ص85"و "النخبة البهية" "ص48"، واللؤلؤ المرصوع"
رقم 153".
1 أي: فالمقام يقتضي ذكر أقصى ما يقع لها من الحيض الذي
يمنع الصلاة وينقص به الدين. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب الاستجمار
وترا، 1/ 263/ رقم 162"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الطهارة،
باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في
الإناء قبل غسلها ثلاثا، 1/ 233/ رقم 278" والمذكور لفظه
عن أبي هريرة وقد أسهبت في تخريجه في تعليقي على كتاب
"الطهور" "رقم 279".
قال الشيخ "د":
"وتمامه ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يداه". فقال الأئمة: "إنه مستحب، أي لهذا التوهم، أن تكون يده مست نجاسة
من ذكره أو غيره، فأخذ منه الشافعي الحكم المذكور".
ج / 2 ص -154-
الاستحباب، فهذا الموضع لم يقصد فيه بيان حكم الماء القليل
تحله قليل النجاسة، لكنه لازم مما قصد ذكره.
وكاستدلالهم على تقدير أقل مدة الحمل ستة أشهر أخذا من
قوله تعالى:
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، مع قوله:
{وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]، فالمقصد في1 الآية الأولى بيان مدة الأمرين جميعا من
غير تفصيل، ثم بين في الثانية مدة الفصال قصدًا، وسكت عن
بيان مدة الحمل وحدها قصدًا، فلم يذكر له مدة فلزم من ذلك
أن أقلها ستة أشهر.
وقالوا في قوله تعالى:
{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلى قوله تعالى:
{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ
الْأَسْوَدِ}
الآية [البقرة: 187] إنه يدل على جواز الإصباح جنبا وصحة
الصيام، لأن إباحة المباشرة إلى طلوع الفجر تقتضي2 ذلك،
وإن لم يكن مقصود البيان، لأنه لازم من القصد إلى بيان
إباحة المباشرة والأكل والشرب3.
واستدلوا على أن الولد لا يملك بقوله تعالى:
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ
مُكْرَمُونَ}
[الأنبياء: 26].
وأشباه ذلك من الآيات، فإن المقصود4 بإثبات العبودية لغير
الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "فالقصد".
2 في الأصل: "يقتضي".
3 الدلالة في هذه الآية وما تقدمها من قبيل دلالة الإشارة
التي هي دلالة اللفظ على معنى لازم للمعنى المقصود من
السياق، وهي أحد أقسام المنطوق غير الصريح كدلالة الاقتضاء
ودلالة الإيماء. "خ".
4 أي: الأصلي الذي سيق له التركيب، أما كونه لا يملك، فهو
معنى تبعي ولازم من إثبات كونه عبدا ونفي كونه ولدا، لأنه
لما نفى الولدية بسبب العبودية وهو المقصود الأصلي، دل على
أن هناك تنافيا بين الولدية والعبودية، فالولد لا يملك ولا
يكون عبدا، فقوله: "لكنه" الضمير فيه لقوله لا أن الولد لا
يملك، وقوله: "وأن لا يكون" سقط منه في الأصل حرف العطف
ولا غنى عنه، والمعنى أن كون الولد لا يملك لزم من أمرين
في الآية وهما نفي الولد وإثبات ألا يكون إلا عبدا،
وكلاهما صريح الآية ومنطوقها، وكونه لا يملك لازم لهذين
المعنيين، لأنه إذا كان هناك تنافٍ بين الولدية والعبودية
أي الملكية فالولد لا يملك، حتى صح الاستدلال بتنافيهما.
"د".
ج / 2 ص -155-
وخصوصا
للملائكة نفي اتخاذ الولد، إلا أن الولد لا يملك، لكنه لزم
من نفي الولادة1 أن2 لا يكون المنسوب إليها إلا عبدا، إذ
لا موجود3 إلا رب أو عبد.
واستدلوا على ثبوت الزكاة في قليل الحبوب وكثيرها بقوله
عليه الصلاة والسلام:
"فيما سقت السماء العشر"4 الحديث، مع أن المقصود5 تقدير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بقوله:
{سُبْحَانَهُ}، وبالحصر في قوله:
{بَلْ هُمْ عِبَادٌ}. "د".
2 كذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "وأن" بزيادة
واو، وفي "ط": "المنسوب لها".
3 هذا كلام آخر دليل على الحصر الذي قبله. "د".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب العشر فيما
يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري، 3/ 347/ رقم 1438"،
وأبو داود في "السنن" "كتاب الزكاة، باب صدقة الزرع 2/ 252
/ رقم 1596"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الزكاة" باب ما
جاء في الصدقة فيما يسقى بالأنهار وغيرها 2/ 75/ رقم 635"،
والنسائي في "المجتبى" "كتاب الزكاة، باب ما يوجب العشر
وما يوجب نصف العشر، 5/ 41" وابن ماجه في "السنن": "كتاب
الزكاة، باب صدقة الزروع والثمار 1/ 581/ رقم 1817" من
حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفيه زيادة وتتمة ستأتي عند
المصنف "ص3/ 162".
وأخرجه بنحوه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة" باب ما فيه
العشر أو نصف العشر 2/ 675/ رقم 981"، والنسائي في
"المجتبى" "5/ 41، 42"، من حديث جابر.
وفي الباب عن معاذ وأبي هريرة وعلي رضي الله عنهم جميعًا.
5 من أين للمؤلف هذا؟ ولم لا يكون المقصود إفادة المعنيين
المخرج والمخرج منه قصدًا أصليًّا؟. "د".
ج / 2 ص -156-
الجزء
المخرج لا تعيين المخرج منه، ومثله كل عام نزل على سبب1،
فإن الأكثر على الأخذ بالتعميم اعتبارا بمجرد اللفظ
والمقصود، [وإن]2 كان السبب على الخصوص.
واستدلوا على فساد البيع وقت النداء بقوله تعالى:
{وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] مع أن المقصود إيجاب السعي لا بيان فساد البيع3.
وأثبتوا القياس الجلي 4 قياسا كإلحاق الأمة بالعبد في
سراية العتق، مع5 أن المقصود في قوله عليه السلام:
"من أعتق شركا له في عبد"6 مطلق
الملك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله يريد أنه حينئذ يكون القصد الأصلي الإجابة على قدر
السبب، ويكون الزائد من قبيل ما نحن فيه ليس مقصودا أصليا
بل تبعي، وهو محل تأمل؛ لأن الدلالة عليه في مثل الحديث
بنفس صيغة العموم، وهي ما بأصل الوضع، فليس من باب اللازم
كما يدل عليه قوله: "اعتبارا بمجرد اللفظ"، وقوله: "ومثله"
ليس المراد المماثلة الخاصة وأن الحديث السابق مما ورد على
سبب، فإنهم لم يذكروا أن حديث الزكاة المذكور نزل على سبب
بل المراد المماثلة العامة في أصل الموضوع، وهو الاعتداد
بالمعاني الثانوية في استنباط "الأحكام" الشرعية كبقية
الأمثلة السابقة. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
3 يريد أن الدلالة على فساده لزمته من النهي عنه، وهو
متمشٍ مع ما سبق في الموضوع. "د".
4 وهو ما قُطع فيه بنفي الفارق كمثاله، فإن قصد الشارع
للحرية لا فرق فيه بين الذكر والأنثى قطعا. "د".
5 الظاهر الواو بدل مع، والمعنى أن اللفظ بحسب وضعه دال
على خصوص الذكر، لكنهم حملوا الأنثى عليه في سريان العتق؛
لأنه لا فارق، ولزم من كونه لا فارق أن يكون مقصود الشارع
بالعبد هنا مطلق الملك مجازا، وهو معنى تبعي لا أصلي. "د".
6 تمام الحديث:
"وكان له
مالٌ يبلغ ثمن العبد، قوِّم عليه قيمة العدل، فأعطى شركاءه
حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق".
أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشركة، باب تقويم
الأشياء بين الشركاء، 5/ 132 / رقم 2491"، ومسلم في
"الصحيح" "كتاب العتق، باب منه، 2/ 1139/ رقم 1501"،
والترمذي في "الجامع" "أبواب الأحكام، باب العبد يكون بين
الرجلين... 3/ 629/ رقم 1346"، وأبو داود في "السنن" "كتاب
العتق، باب من روي أنه لا يستسعى، 4/ 256/ رقم 3940"،
والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب الشركة في
الرقيق، 7/ 319"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب العتق، باب
من أعتق شركا له في عبد 2/ 844/ رقم 2527"، من حديث ابن
عمر رضي الله عنهما.
ج / 2 ص -157-
لا
خصوص الذَّكَر...
إلى غير ذلك من المسائل التي لا تحصى كثرة، وجميعها تمسك
بالنوع الثاني لا بالنوع الأول، وإذا كان كذلك، ثبت أن
الاستدلال من جهته صحيح مأخوذ به.
وللمانع أن يستدل أيضا بأوجه:
أحدها: أن هذه الجهة إنما هي بالفرض خادمة للأولى وبالتبع
لها، فدلالتها على معنى إنما يكون من حيث هي مؤكدة للأولى،
ومقوية لها، وموضحة لمعناها، وموقعة لها من الأسماع موقع
القبول، ومن العقول موقع الفهم، كما تقول في الأمر الآتي
للتهديد أو التوبيخ، كقوله:
{اعْمَلُوا مَا شِئْتُم}
[فصلت: 40].
وقوله:
{ذُقْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}
[الدخان: 49].
فإن مثل هذا لم يقصد به الأمر1، وإنما هو مبالغة في
التهديد أو الخزي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فليس المقصود المعنى الأصلي، والتهديد مثلا هو
المعنى التبعي، وأن كلا منهما* يأخذ منه حكم، بل المعنى
المقصود هنا في الحقيقة هو التهديد مثلا، أما طلب الفعل،
فليس مقصودا، وكأن المعنى الأصلي هو المقوي للمعنى التبعي،
وهذا وإن كان عكس ما قرره، إلا أنه يفيد أنهما لا ينفكان
في الدلالة على المعنى المقصود وتقويته ووقوعه الموقع من
الفهم، ولو قال ذلك، لكان أتم، ولعله يقول: إن الصيغة
موضوعة** للتهديد، وأنه معنى أصلي لها أيضا، والأمر هو
المعنى الثانوي مبالغة في التهديد. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "منها".
** في المطبوع: "موضوع".
ج / 2 ص -158-
فلذلك
لم يقبل أن يؤخذ منه حكم في باب الأوامر، ولا يصح أن يؤخذ،
وكما نقول في نحو:
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82]: إن المقصود: سل أهل القرية، ولكن جعلت القرية مسئولة
مبالغة1 في الاستيفاء بالسؤال أو غير ذلك، فلم ينبنِ على
إسناد السؤال للقرية حكم، وكذلك قوله:
{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هود: 107] بناء على القول بأنهما تفنيان ولا تدومان2، لما كان
المقصود به الإخبار بالتأبيد لم يؤخذ منه انقطاع مدة
العذاب للكفار3... إلى أشياء من هذا المعنى لا يؤتى على
حصرها، وإذا كان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فهو تقوية للمعنى المقصود، حتى كأنه لا يدع أحدا من
أهلها بدون سؤال. "د".
2 قال بعضهم: المراد بالسموات والأرض هذه الأرض المشاهدة،
والكواكب والأفلاك الموجودة، وهذه تبدل وتغير قطعا كما في
النصوص، وإن المراد بهذا التعليق التأبيد كما هو معهود
العرب في مثله نحو: ما طلع نجم، وما غنت حمامة، مما يقصد
به التأبيد لا التعليق، فكون السماوات والأرض تفنيان لا
يؤثر في هذا المعنى المقصود وهو التأبيد، ولكن التعليق
يقوي هذا المعنى ويوقعه في الفهم الموقع، أما على القول
بأن المراد بالسموات والأرض جنسهما، وأنه لا بد من أرض
وسماء للجنة والنار غير هذين، وأن التعليق على دائم يقتضي
الدوام، فلا يكون مما نحن فيه، فلذا قال: "بناء على القول
بأنهما تفنيان"، وبهذا تعلم أن كلام بعضهم هنا انتقال نظر،
فإنه ليس الكلام في بقاء الجنة والنار وفنائهما كما هو
واضح، فإن القول بأن الجنة تفن لم يقل به مسلم فضلا عن أن
نبني عليه استدلالا كهذا. "د".
3 القول بأن الجنة والنار تفنيان هو مذهب جهم بن صفوان
إمام الجهمية، وقد تحطمت عقيدتهم الإسلامية على صخرة هذه
المقالة، ودخلوا في زمرة المخالفين لصريح كتاب الله وسنة=
ج / 2 ص -159-
كذلك،
فليس لها من الدلالة على المعنى الذي وضعت له أمر زائد على
الإيضاح والتأكيد والتقوية للجهة الأولى، فإذا ليس لها
خصوص حكم يؤخذ منها زئدا على ذلك بحال.
والثاني: أنه لو كان لها موضع خصوص حكم يقرر شرعا دون
الأولى لكانت هي الأولى1، إذ كان يكون تقرير2 ذلك المعنى
مقصود بحق الأصل فتكون العبارة عنه من الجهة الأولى لا من
الثانية، وقد فرضناه من الثانية، هذا خلف لا يمكن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رسول الله، وما القول بأن الجنة أبدية والنار فانية، فقد
حكاه الشيخ ابن تيمية عن بعض الصحابة والتابعين، وتصدى ابن
القيم في كتاب "حادي الأرواح" إلى ترجيحه وبسط أدلته. "خ".
قلت: كذا قال الشيخ "خ" رحمه الله تعالى، ولم يصب في ذلك،
فقد حكاه ابن تيمية وتبعه ابن القيم، فأسهب في هذا المبحث
في كتابيه "شفاء العليل" "ص528-552"، و"حادي الأرواح"
"ص276-311"، وذكر أدلة القائلين بالفناء، وسكت عليها،
فأوهم أنه يرى فناء النار، مع أنه صرح في كتابه "الوابل
الصيب" "ص29" أن نار الكافرين والمنافقين لا تفنى، وأن نار
عصاة الموحدين هي التي تفنى، وهذا هو الحق الذي لا محيد
عنه، وهذا ما صرح به ابن تيمية في "بيان تلبيس الجهمية"
"1/ 157"، و"درء تعارض العقل والنقل" "1/ 305"، و"مجموع
الفتاوى" "3/ 304"، وله "قاعدة في الرد على من قال بفناء
الجنة والنار" ذكرها يوسف بن عبد الهادي في "فهرسته" "ق
26/ أ"، وانظر في المسألة: "رفع الأستار" للصنعاني مع
مقدمة شيخنا الألباني، و"دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية
وأثرها في الحركات الإسلامية المعاصرة" "ص246-267" لصلاح
مقبول، و"دفع إيهام الاضطراب" "ص122" للشنقيطي، و"دفع
الشبه الغوية عن شيخ الإسلام ابن تيمية" لأخينا مراد شكري
"ص111-119"، و"كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار" لعلي
بن علي جابر الحربي، نشر دار طيبة- مكة المكرمة.
1 أي: لكانت جهة تقصد قصدا أوليا، فتكون العبارة عنه من
الجهة الأولى لا من الجهة الثانية. "د".
2 في الأصل: "تقدير".
ج / 2 ص -160-
لا
يقال: إن كونها دالة بالتبع لا ينفي كونها دالة بالقصد،
وإن كان القصد ثانيا كما نقول في المقاصد الشرعية: إنها
مقاصد أصلية ومقاصد تابعة، والجميع مقصود للشارع، ويصح من
المكلف القصد إلى المقاصد التابعة مع الغفلة عن الأصلية،
وينبني على ذلك1 في أحكام التكليف حسبما يأتي بعد إن شاء
الله، فكذلك نقول هنا: إن دلالة الجهة الثانية لا تمنع2
قصد المكلف إلى فهم الأحكام منها؛ لأن نسبتها من فهم
الشريعة نسبة تلك من الأخذ بها عملا، وإذا اتحدت النسبةكان
التفريق بينهما غير صحيح، ولزم من اعتبار إحداهما اعتبار
الأخرى، كما يلزم من إهمال إحداهما إهمال الأخرى.
لأنا نقول: هذا -إن سلم- من أدل الدليل على ما تقدم، لأنه
إذا كان النكاح بقصد قضاء الوَطَر مثلا صحيحًا، من حيث كان
مؤكدا للمقصود الأصلي من النكاح وهو النسل، فغفلة المكلف
عن كونه مؤكدا لا يقدح في كونه مؤكدا في قصد الشارع، فكذلك
نقول في مسألتنا: إن الجهة الثانية من حيث القصد في اللسان
العربي إنما هي مؤكدة للأولى، في نفس ما دلت عليه الأولى،
وما دلت عليه هو المعنى الأصلي، فالمعني التبعي راجع إلى
المعنى الأصلي، ويلزم من هذا أن لا يكون في المعنى التبعي
زيادة على المعنى الأصلي، وهو المطلوب.
وأيضا، فإن بين المسألتين فرقا، وذلك أن النكاح بقصد قضاء
الوطر إن كان داخلا من وجه تحت المقاصد التابعة للضروريات
فهو داخل من وجه آخر تحت الحاجيات؛ لأنه راجع إلى قصد
التوسعة على العباد في نيل مآربهم، وقضاء أوطارهم، ورفع
الحرج عنهم، وإذا دخل تحت أصل الحاجيات، صح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل استظهر ناسخ الأصل أن هناك كلمة أمور أو أحكام
هنا.
2 في الأصل و"خ" و"ط": "ممتنع".
ج / 2 ص -161-
إفراده
بالقصد من هذه الجهة، ورجع إلى كونه مقصودا لا بالتبعية،
بخلاف مسألتنا، فإن الجهة التابعة لا يصح إفرادها بالدلالة
على معنى غير التأكيد للأولى؛ لأن العرب ما وضعت كلامها
على ذلك إلا بهذا القصد؛ فلا يمكن الخروج عنه إلى غيره.
والثالث: أن وضع هذه الجهة على أن تكون تبعا للأولى يقتضي
أن ما تؤديه من المعنى لا يصح أن يؤخذ إلا من تلك الجهة،
فلو جاز أخذه من غيرها، لكان خروجا بها عن وضعها، وذلك غير
صحيح، ودلالتها على حكم زائد على ما في الأولى خروج لها عن
كونها تبعا للأولى، فيكون استفادة الحكم من جهتها على غير
فهم عربي، وذلك غير صحيح، فما أدى إليه مثله، وما ذكر من
استفادة الأحكام بالجهة الثانية غير مسلم، وإنما هي راجعة
إلى أحد أمرين: إما إلى الجهة الأولى، وإما إلى جهة ثالثة
غير ذلك1.
فأما مدة الحيض، فلا نسلم أن الحديث دال عليها، وفيه
النزاع، ولذلك يقول الحنفية2: إن أكثرها عشرة أيام، وإن
سلم، فليس ذلك من جهة دلالة اللفظ بالوضع3، وفيه الكلام.
ومسألة الشافعي في نجاسة الماء من باب القياس 4 أو غيره،
وأقل مدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وإما لا استفادة أصلا كما في مدة الحيض على الشق
الأول قبل التسليم، فإنه يمنع دلالة الحديث عليها، ويحتمل
أنه يشير بالجهة الثالثة إلى ما سيأتي له في الفصل التالي
من التأسي بالآداب القرآنية. "د".
2 في الأصل و"ط": "الحنفي".
3 أي: بل بدلالة غير وضعية، وكلامنا إنما هو في مستتبعات
التراكيب، أي: دلالة الألفاظ. "د". قلت: انظر المسألة
وأدلتها في "الخلافيات" "3/ رقم 48- وتعليقي عليها".
4 غير واضح؛ لأنه إما أن يكون ما تقدم في الاستدلال من نفس
كلام الشافعي أو لا، فإن كان الأول، فهذا الجواب غير ظاهر؛
لأن صريح الكلام يمنع هذا الجواب، وإن كان الثاني، فكيف
ساغ نسبة هذا الدليل للشافعي من طرف المصحح؟ "د"
ج / 2 ص -162-
الحمل
مأخوذة من الجهة الأولى1 لا من الجهة الثانية، وكذلك مسألة
الإصباح جُنُبًا، إذ لا يمكن غير ذلك2، وأما كون الولد لا
يملك، فالاستدلال عليه بالآية ممنوع وفيه النزاع، وما ذكر
في مسألة الزكاة، فالقائل بالتعميم إنما بنى على أن العموم
مقصود، ولم يبن على أنه غير مقصود، وإلا كان تناقضا، لأن
أدلة الشريعة إنما أخذ منها الأحكام الشرعية بناء على أنه
هو مقصود الشارع، فكيف يصح الاستدلال بالعموم، مع الاعتراف
بأن ظاهره غير مقصود، وهكذا العام الوارد على سبب من غير
فرق، ومن قال بفسخ البيع وقت النداء بناء على قوله تعالى:
{وَذَرُوا الْبَيْعَ}3
[الجمعة: 9]، فهو عنده مقصود لا ملغى، وإلا، لزم التناقض
في الأمر4 كما ذكر، وكذلك شأن القياس الجلي، لم يجعلوا
دخول الأمة في حكم العبد بالقياس إلا بناء على أن العبد هو
المقصود بالذكر بخصوصه، وهكذا سائر ما يفرض في هذا الباب.
فالحاصل أن الاستدلال بالجهة الثانية على الأحكام لا يثبت،
فلا يصح إعماله ألبتة، وكما أمكن الجواب عن الدليل الثالث،
كذلك يمكن في الأول والثاني، فإن في الأول مصادرة على
المطلوب لأنه قال فيه: "فإذا كان المعنى المدلول عليه
يقتضي حكما شرعيا، فلا يمكن إهماله"، وهذا عين مسألة
النزاع، والثاني مسلم، ولكن يبقى النظر في استقلال الجهة
الثانية بالدلالة على حكم شرعي وهو المتنازع فيه، فالصواب
إذا القول بالمنع مطلقا، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليس هنا لفظ وضع للدلالة على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر،
بل إنما أخذ ذلك من عملية جمع وطرح، فكان الباقي هو العدد
المذكور، وهو من باب اللزوم قطعا، "د".
2 أي: فيتوقف صحة الكلام على ثبوت هذا المعنى، وهو ما يسمى
اقتضاء على بعض الاصطلاحات. "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
4 في "ط": "في الاستدلال".
ج / 2 ص -163-
فصل:
قد تبين تعارض الأدلة في المسألة، وظهر أن الأقوى من
الجهتين جهة المانعين، فاقتضى الحال أن الجهة الثانية وهي
الدالة على المعنى التبعي لا دلالة لها على حكم شرعي زائد
ألبتة.
لكن يبقى فيها نظر آخر ربما أخال أن لها دلالة على معانٍ
زائدة على المعنى الأصلي، هي آداب شرعية، وتخلقات حسنة،
يقر بها كل ذي عقل سليم، فيكون لها اعتبار في الشريعة، فلا
تكون الجهة الثانية خالية عن الدلالة جملة، وعند ذلك يشكل
القول بالمنع مطلقا.
وبيان ذلك يحصل بأمثلة سبعة:
أحدها:
أن القرآن أتى بالنداء1 من الله تعالى للعباد، ومن العباد
لله سبحانه، إما حكاية، وإما تعليما، فحين أتى بالنداء من
قبل الله للعباد جاء بحرف النداء المقتضي للبعد، ثابتا غير
محذوف، كقوله تعالى:
{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي
وَاسِعَةٌ} [العنكبوت: 56].
{قُلْ يَا
عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53].
{قُلْ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ
جَمِيعًا} [الأعراف: 158].
{يَا أَيُّهَا
النَّاسُ} [الأعراف: 158]
{يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104].
فإذا أتي بالنداء من العباد إلى الله تعالى، جاء من غير
حرف [فلا تجد فيه نداء بالرب تعالى بحرف] نداء ثابت بناء
على أن حرف النداء للتنبيه في الأصل، والله منزه عن
التنبيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 راجع المسألة السابعة من مباحث الكتاب في هذا الموضوع.
"د".
ج / 2 ص -164-
وأيضا،
فإن أكثر حروف النداء للبعيد، ومنها "يا" التي هي أم
الباب، وقد أخبر الله تعالى أنه قريب من الداعي خصوصا
لقوله تعالى:
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} الآية [البقرة: 186].
ومن الخلق عموما، لقوله:
{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ
رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ}
[المجادلة: 7].
وقوله:
{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}
[ق: 16].
فحصل من هذا التنبيهُ على أدبين:
أحدهما: ترك حرف النداء.
والآخر: استشعار القرب.
كما أن في إثبات الحرف في القسم الآخر التنبيه على معنيين
إثبات التنبيه لمن شأنه الغفلة والإعراض والغيبة، وهو
العبد، والدلالة على ارتفاع شأن المنادي وأنه منزه عن
مداناة العباد، إذ هو في دنوه عالٍ، وفي علوه دانٍ،
سبحانه!
والثاني:
أن نداء العبد للرب نداء رغبة وطلب لما يصلح شأنه، فأتى في
النداء القرآني1 بلفظ: "الرب" في عامة الأمر، تنبيها
وتعليما لأن يأتي العبد في دعائه بالاسم المقتضي للحال
المدعو بها، وذلك أن الرب في اللغة هو القائم بما يصلح
المربوب، فقال تعالى في معرض بيان دعاء العباد:
{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا
وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}
[البقرة: 286] إلى آخرها،
{رَبَّنَا لا
تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}
[آل عمران: 8].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وأما الدعاء في الحديث، فالشائع فيه لفظ الجلالة،
ولكل سرٌّ وحكمة، وسيأتي له التعبير بكثرة بدل "عامة".
"د".
ج / 2 ص -165-
وإنما
أتى قوله تعالى:
{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ
عِنْدِكَ}
[الأنفال: 32] من غير إتيان بلفظ الرب"؛ لأنه لا مناسبة1
بينه وبين ما دعوا به، بل هو مما ينافيه، بخلاف الحكاية عن
عيسى عليه السلام في قوله:
{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا
مَائِدَةً مِنَ السَّمَاء} الآية: [المائدة: 114]، فإن لفظ الرب فيها مناسب جدا.
والثالث:
أنه أتى فيه الكناية في الأمور التي يستحيى من التصريح
بها، كما كنى عن الجماع باللباس والمباشرة، وعن قضاء
الحاجة بالمجيء من الغائط، وكما قال في نحوه:
{كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَام}2 [المائدة: 75] فاستقر ذلك أدبا لنا استنبطناه من هذه المواضع،
وإنما دلالتها على هذه المعاني بحكم التبع لا بالأصل.
والرابع:
أنه أتى فيه بالالتفات الذي ينبئ في القرآن عن أدب الإقبال
من الغيبة إلى الحضور بالنسبة إلى العبد إذا كان مقتضي
الحال يستدعيه، كقوله تعالى:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ،
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
[الفاتحة: 2-4].
ثم قال:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5].
وبالعكس إذا اقتصاه الحال أيضا، كقوله تعالى:
{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ
طَيِّبَة}
[يونس: 22].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومع هذا، فلا حاجة إلى الاعتذار عنه؛ لأنه محكي على لسان
الجحدة الذين لم يصلوا للآداب إنما يحتاج للاعتذار عن مثل
قوله تعالى حكاية عن نوح:
{رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} والجواب أن هلاك هؤلاء رحمة بسائر أولاد آدم، كما قال:
{إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَك}. "د".
قلت: سيأتي إيضاح ذلك في التعليق على "4/ 203، 432" بوجه
أوضح وأوعب.
2 أي: ويلزمه قضاء الحاجة التي لا تليق بالإله. "د".
ج / 2 ص -166-
وتأمل
في هذا المساق معنى قوله تعالى:
{عَبَسَ
وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى}
[عبس: 1-2] حيث عوتب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا
المقدار من [هذا]1 العتاب، لكن على حال2، تقتضي الغيبة
التي شأنها أخف بالنسبة إلى المعاتَب، ثم رجع الكلام إلى
الخطاب، إلا أنه بعتاب أخفَّ من الأول3، ولذلك ختمت الآية
بقوله:
{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَة} [عبس: 11].
والخامس:
الأدب في ترك التنصيص على نسبة الشر إلى الله تعالى4، وإن
كان هو الخالق لكل شيء، كما قال بعد قوله:
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ
مَنْ تَشَاءُ}..... [آل عمران: 26] إلى قوله:
{بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26]، ولم يقل: "بيدك الخير والشر" وإن كان قد ذكر
القسمين معا، لأن نزع الملك والإذلال بالنسبة إلى من لحق
ذلك به شر ظاهر، نعم قال في اثره:
{إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}
[آل عمران: 26] تنبيها في الجملة على أن الجميع خلقه، حتى
جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"والخير في
يديك والشر ليس إليك"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من "ط".
2 في "ط": "حالة".
3 انظر: "روح المعاني" "30/ 39"، و"تفسير القرطبي" "19/
211"، و"فتح القدير" "5/ 382"، و"آيات عتاب المصطفى صلى
الله عليه وسلم في ضوء العصمة والاجتهاد" "ص279-287".
4 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 207-211 و14/
18-28 و299-302"، و"الحسنة والسيئة" "ص190"، و"شفاء
العليل" "ص178"، و"مدارج السالكين" "1/ 194"، و"شرح
الطحاوية" "282".
5 أخرج البخاري في "الصحيح" كتاب الأنبياء، باب قصة يأجوج
ومأجوج 6/ 382/ رقم 3348، وكتاب الرقاق، باب قوله عز وجل:
{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} 11/ 388/ رقم 6530" عن أبي سعيد الخدري مرفوعا:
"يقول الله: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك".
وأخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب
الدعاء في صلاة الليل وقيامه، 1/ 534-535/ رقم 771" عن علي
مرفوعًا، "إنه كان إذا قام إلى الصلاة قال.... والخير كله
في يديك والشر ليس إليك".
ج / 2 ص -167-
وقال
إبراهيم عليه السلام:
{الَّذِي
خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي
وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}
[الشعراء: 78] إلخ، فنسب إلى رب العالمين الخلق، والهداية،
والإطعام، والسقي، والشفاء، والإماتة، والإحياء، وغفران
الخطيئة، دون ما جاء في أثناء ذلك من المرض، فإنه سكت عن
نسبته إليه.
والسادس:
الأدب في المناظرة1 أن لا يفاجئ بالرد كفاحًا دون التقاضي
بالمجاملة والمسامحة، كما في قوله تعالى:
{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ} [سبأ: 24].
وقوله:
{قُلْ
إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ
الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81].
{قُلْ إِنِ
افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي}
[هود: 35].
وقوله:
{قُلْ
أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا
يَعْقِلُونَ} [الزمر: 43].
{أَوَلَوْ
كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا
يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104].
لأن ذلك أدعى إلى القبول وترك العناد وإطفاء نار العصبية.
والسابع:
الأدب في إجراء الأمور على العادات في التسببات وتلقي
الأسباب منها، وإن كان العلم قد أتى من وراء ما يكون أخذا
من مساقات الترجيات العادية، كقوله تعالى:
{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].
{فَعَسَى
اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ
عِنْدِهِ} [المائدة: 52].
{وَعَسَى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}
[البقرة: 216].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "المنهاج" للباجي "ص9-10".
ج / 2 ص -168-
ومن
هذا الباب جاء نحو قوله تعالى:
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة: 21].
{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون}
[الأنعام: 152].
وما أشبه ذلك، فإن الترجي والإشفاق ونحوهما إنما تقع حقيقة
ممن لا يعلم عواقب الأمور والله تعالى عليم بما كان وما
يكون وما لم يكن أن لو كان كيف [كان]1 يكون، ولكن جاءت هذه
الأمور على المجرى المعتاد في أمثالنا، فكذلك ينبغي لمن
كان عالما بعاقبة أمر- بوجه من وجوه العلم الذي هو خارج عن
معتاد الجمهور- أن يحكم فيه عند العبارة عنه بحكم غير
العالم، دخولا في غمار العامة، وإن بان عنهم بخاصية يمتاز
بها وهو من التنزلات الفائقة الحسن في محاسن العادات، وقد
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم بأخبار كثير من
المنافقين2 ويطلعه ربه على أسرار كثير منهم ولكنه كان
يعاملهم في الظاهر معاملة يشترك معهم فيها المؤمنون3؛
لاجتماعهم في عدم انخرام الظاهر4، فما نحن فيه نوع من هذا
الجنس، والأمثلة كثيرة، فإن كان كذلك، ظهر أن الجهة
الثانية يستفاد بها أحكام شرعية، وفوائد عملية ليست داخلة
تحت الدلالة بالجهة الأولى، وهو توهين لما تقدم اختياره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من "خ" و"ط".
2 في "ط": "يعلم بكثير من أخبار المنافقين".
3 وكان يعلل ذلك بقوله: "خوفا أن يقول الناس: إن محمدا
يقتل أصحابه" كما سيأتي "ص467".
4 قبوله عليه الصلاة والسلام لدخول المنافقين في جملة
أتباعه مع معرفته بما تنطوي عليه صدورهم كان من حسن النظر
والبعد في مذاهب السياسة بالمكان الذي ليس وراءه مرمى، حيث
يكثر بهم سواد حزبه رأي العين، ويفصلهم عن أن يكونوا
أعوانا لأعدائه وكان يرجو مع ذلك هدايتهم وخلوص عقيدتهم
لكثرة ما يشاهدونه من آيات نبوته ودلائل صدقه، وقد انقلب
كثير منهم بعدما تخبطتهم وساوس النفاق إلى إيمان كفلق
الصبح، وهذه كلها مصالح لا يظهر بجانبها المفاسد الناجمة
عن بقائهم في جماعة المسلمين ولا سيما مع تتبع خطواتهم
والحذر من مكايدهم. "خ".
ج / 2 ص -169-
والجواب: إن هذه الأمثلة وما جرى مجراها لم يستفد الحكم
فيها من جهة وضع الألفاظ للمعاني، وإنما استفيد من جهة
أخرى، وهي جهة الاقتداء بالأفعال1، [والله أعلم]2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن تيمية في "المسودة" "ص298": "الأصل قول الله
تعالى وفعله وتركه القول، وتركه9 الفعل، وقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم وفعله، وتركه القول، وتركه الفعل، وإن
كانت جرت عادة عامة الأصوليين أنهم لا يذكرون من جهة الله
إلا قوله الذي هو كتابه".
قلت: والاحتجاج بأفعاله سبحانه فيها خلاف، والصواب
التفصيل، واختيار المصنف حسن.
وانظر: "إعلام الموقعين" "3/ 231"، و"شرح تنقيح الفصول"
"ص123"، و"إرشاد الفحول" "173"، و أفعال الرسول صلى الله
عليه وسلم" "2/ 150-154" للأشقر.
2 زيادة من "ط". |