الموافقات

ج / 2 ص -289-       النوع الرابع: في بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة
ويشتمل على مسائل
المسألة الأولى:
المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف1 عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا2.
والدليل على ذلك أمور:
أحدها:
النص الصريح الدال على أن العباد خلقوا للتعبد لله، والدخول

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا قصد آخر للشارع من وضع الشريعة غير النوع الأول الذي قرره من أن مقصد الشرع إقامة المصالح الدنيوية والأخروية على وجه كلي، ولا تنافي بين القصدين، إنما المطلوب منك معرفة الفرق بين القصدين، حتى تميز المباحث الخاصة بكل منهما، فالنوع الأول معناه وضع نظام كافل للسعادة في الدنيا والآخرة لمن تمسك به، والرابع أن الشارع يطلب من العبد الدخول تحت هذا النظام، والانقياد له لا لهواه، وهكذا تجد مسائل النوع الأول كلها في تفاصيله، وكذلك سائر الأنواع بطريق الاستقراء التام. "د".
قلت: ويتضح الفرق جليا بين النوعين من النظر في مباحث كل منهما، ولكن العبارات التي افتتح بها الكلام في كل من النوعين كافية أيضا في التفريق بينهما.
2 نحوه في "الاعتصام" "1/ 434- ط دار المعرفة و1/ 134-135- ط محمد رشيد رضا" للمصنف، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 346-347، 479"، و"المرآة" "1/ 294- بحاشية الإزميري".

 

ج / 2 ص -290-       تحت أمره ونهيه، كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56-57]
وقوله تعالى:
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132].
وقوله:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].
ثم شرح هذه العبادة في تفاصيل السورة، كقوله تعالى:
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} إلى قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
وهكذا إلى تمام ما ذكر في السورة من الأحكام، وقوله:
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].
إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالعبادة على الإطلاق، وبتفاصيلها على العموم، فذلك كله راجع إلى الرجوع إلى الله في جميع الأحوال، والانقياد إلى أحكامه على كل حال، وهو معنى التعبد لله.
والثاني:
ما دل على ذم مخالفة هذا القصد من النهي أولا عن مخالفة أمر الله، وذم من أعرض عن الله، وإيعادهم بالعذاب العادل من العقوبات الخاصة بكل صنف من أصناف المخالفات، والعذاب الآجل في الدار الآخرة، وأصل ذلك اتباع الهوى والانقياد إلى طاعة الأغراض العاجلة، والشهوات الزائلة، فقد جعل الله اتباع الهوى مضادا للحق، وعده قسيما له، كما في قوله تعالى:
{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}...الآية [ص: 26].

 

ج / 2 ص -291-       وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37-39].
وقال في قسيمه1:
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40-41].
وقال:
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4].
فقد حصر الأمر في شيئين: الوحي وهو الشريعة، والهوى، فلا ثالث لهما، وإذا كان كذلك، فهما متضادان، وحين تعين الحق في الوحي توجَّه للهوى ضده، فاتباع الهوى مضاد للحق.
وقال تعالى:
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23].
وقال:
{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].
وقال:
{الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16].
وقال:
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14].
وتأمل، فكل موضع ذكر الله تعالى فيه الهوى، فإنما جاء به في معرض الذم له ولمتبعيه، وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس، أنه قال: "ما ذكر الله الهوى في كتابه إلا ذمه"1 فهذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن اتباع الهوى والدخول تحت التعبد للمولى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره ابن الجوزي في "ذم الهوى" "ص18"، وعزاه لابن عباس، ولم ينسبه لأحد، ثم وجدته في "الاعتصام" "2/ 688- ط ابن عفان" معزوا لطاوس، قال: "حكى ابن وهب عن طاوس....." "وذكره".
وأخرجه الهروي في "ذم الكلام" "ص123" بسنده إلى سليمان الأحول قوله.

 

ج / 2 ص -292-       والثالث:
ما علم بالتجارب والعادات من أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى، والمشي مع الأغراض؛ لما يلزم في ذلك من التهارج1 والتقاتل والهلاك، الذي هو مضاد لتلك المصالح، وهذا معروف عندهم بالتجارب والعادات المستمرة، ولذلك اتفقوا على ذم من اتبع شهواته، وسار حيث سارت به، حتى إن من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها، أو كان له شريعة درست، كانوا يقتضون المصالح الدنيوية بكف كل من اتبع هواه في النظر العقلي2، وما اتفقوا عليه إلا لصحته عندهم، واطِّراد العوائد باقتضائه ما أرادوا من إقامة صلاح الدنيا، وهي التي يسمونها السياسة المدنية، فهذا أمر قد توارد النقل والعقل على صحته في الجملة، وهو أظهر من أن يُستدَل عليه3.
وإذا كان كذلك، لم يصح لأحد أن يدعي على الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهي العباد وأغراضهم؛ إذ لا تخلو أحكام الشرع من الخمسة، أما الوجوب والتحريم، فظاهر مصادمتها لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار؛ إذ يقال له: "افعل كذا" كان لك فيه غرض أم لا، و"لا تفعل كذا". كان لك فيه غرض أم لا، فإن اتفق للمكلف فيه غرض موافق، وهوىً باعث على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الهَرْج: القتل والفتنة.
2 أي: من يعد متبعا لهواه بحسب ما يؤدي إليه النظر العقلي عندهم، وقد اطردت العوائد عندهم أن هذا الكف يترتب عليه ما أرادوا من إقامة المصالح. "د".
3 يتفق المصنف في كلامه هذا مع أحداث الآراء الفلسفية التي تُرجع انهيار الحضارات إلى الأهواء الجامحة، كما تراه مثلا في كتاب "منبعا الأخلاق والدين" "ص277" لبرقسون، وسبقه إلى هذا ابن القيم؛ قال في "إعلام الموقعين" "1/ 72": "وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، وفي أمة إلا وفسد أمرها أتم الفساد".

 

ج / 2 ص -293-       مقتضى الأمر أو النهى، فبالعرض لا بالأصل، وأما سائر الأقسام -وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف، فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره، فهي راجعة إلى إخراجها عن اختياره، ألا ترى أن المباح قد يكون له فيه اختيار وغرض، وقد لا يكون؟ فعلى تقدير أن ليس له فيه اختيار، بل في رفعه مثلا، كيف يقال: إنه داخل تحت اختياره؟ فكم من صاحب هوى يودُّ لو كان المباح الفلاني ممنوعا، حتى إنه لو وكل إليه مثلا تشريعه لحرمه، كما يطرأ للمتنازعين في حق.
وعلى تقدير أن اختياره وهواه في تحصيله يود لو كان مطلوب الحصول، حتى لو فرض جعل ذلك إليه لأوجبه، ثم قد يصير الأمر في ذلك المباح بعينه على العكس، فيحب الآن ما يكره غدًا، وبالعكس، فلا يستتبُّ في قضية حكم على الإطلاق، وعند ذلك تتوارد الأغراض على الشيء الواحد، فينخرم النظام بسبب فرض اتِّباع الأغراض والهوى، فسبحان الذي أنزل في كتابه:
{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].
فإذن، إباحة المباح مثلا لا توجب دخوله بإطلاق تحت اختيار المكلف، إلا من حيث كان قضاء من الشارع، وإذ ذاك يكون اختياره تابعا لوضع الشارع، وغرضه مأخوذا من تحت الإذن الشرعي لا بالاسترسال الطبيعي، وهذا هو عين إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لله.
فإن قيل: وضع الشرائع، إما أن يكون عبثا، أو لحكمة، فالأول باطل باتفاق، وقد قال تعالى:
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا}1 [المؤمنون: 115].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بل لحكمة تقتضي تكليفكم وبعثكم للجزاء، فهي توبيخ للكفار على تغافلهم، وإرشاد إلى أن الشريعة وضعت لحكمة، ولو زاد كلمة "إلخ"، لكان أحسن؛ لأن ظهور الإشارة تام في قوله:
{وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}. "د".

 

ج / 2 ص -294-       وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا}1 [ص: 27].
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان: 38-39].
وإن كان لحكمة ومصلحة، فالمصلحة إما أن تكون راجعة إلى الله تعالى، أو إلى العباد، ورجوعها إلى الله محال؛ لأنه غني ويستحيل عود المصالح إليه حسبما تبين في علم الكلام، فلم يبقَ إلا رجوعها إلى العباد، وذلك مقتضى أغراضهم؛ لأن كل عاقل إنما يطلب مصلحة نفسه، وما يوافق هواه في دنياه وأخراه، والشريعة تكفلت لهم بهذا المطلب في ضمن التكليف، فكيف ينفي أن توضع الشريعة على وفق أغراض العباد ودواعي أهوائهم؟
وأيضا فقد تقدم بيان أن الشريعة جاءت على وفق أغراض العباد وأثبتت2 لهم حظوظهم تفضلًا من الله تعالى على ما يقوله المحققون، أو وجوبًا على ما يزعمه المعتزلة، وإذا ثبت هذا من مقاصد الشارع حقا، كان ما ينافيه باطلا.
فالجواب أن وضع الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد، فهي عائدة عليهم بحسب أمر الشارع، وعلى الحد الذي حده، لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم، ولذا3 كانت التكاليف الشرعية ثقيلة على النفوس، والحس والعادة والتجربة شاهدة بذلك، فالأوامر والنواهي مخرجة له عن دواعي طبعه واسترسال أغراضه، حتى يأخذها من تحت الحد المشروع، وهذا هو المراد، وهو عين مخالفة الأهواء والأغراض، أما أن مصالح التكليف عائدة على المكلف في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الباطل ما لا حكمة فيه، والآية مقررة لما قبلها من أمر المَعاد والحساب، ولا يكون إلا بعد شرع وبيان، والآية بعدها مثلها، فإن معنى اللعب واللهو ما لا حكمة فيه، وبما ذكرناه ظهر وجه الاستدلال بالآيات، فلا يقال: إن الآيات في أصل الخلق لا في وضع الشريعة. "د".
2 في "د": "ثبَّتت".
3 في الأصل و"ط": "ولذلك".

 

ج / 2 ص -295-       العاجل والآجل، فصحيح1 ولا يلزم من ذلك أن يكون نيله لها خارجا عن حدود الشرع، ولا أن يكون متناولا لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع، وهو ظاهر، وبه يتبين أن لا تعارض بين هذا الكلام وبين ما تقدم؛ لأن ما تقدم نظر في ثبوت الحظ والغرض من حيث أثبته الشارع، لا من حيث اقتضاه الهوى والشهوة، وذلك ما أردنا ههنا.
فصل:
فإذا تقرر هذا انبنى عليه قواعد:
- منها: أن كل عمل كان المتبع فيه الهوى بإطلاق من غير التفات إلى الأمر أو النهى أو التخيير، فهو باطل بإطلاق؛ لأنه لا بد للعمل من حامل يحمل عليه، وداعٍ يدعو إليه، فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل، فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة، وما كان كذلك، فهو باطل بإطلاق؛ لأنه خلاف الحق بإطلاق، فهذا العمل باطل بإطلاق بمقتضى الدلائل المتقدمة، وتأمل حديث ابن مسعود رضي الله عنه في "الموطأ": "إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تُحْفَظُ فيه حدود القرآن، وتُضَيَّع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يُعطِي، يطيلون فيه الصلاة ويُقْصِرُون فيه الخطبة، يبدءون أعمالهم قبل أهوائهم2،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أما المعاملات، فأثرها في المصالح العاجلة بانتظام حياة الاجتماع والتمتع بنعمة الاستقلال وعزة الجانب، وأما العبادات، فلما في إقامتها من الفوز برضا الخالق الذي هو مبدأ فيضان النعم الروحية، من اطمئنان النفس، وراحة الضمير، واحتقار متاع هذه الحياة، وقلة المبالاة بنوائب البأساء والضراء، وهذه النعم التي هي ملاك الحياة الطيبة ملازمة للقيام بالأعمال الصالحة ملازَمة النتائج لمقدماتها الصحيحة، قال تعالى:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}. "خ".
2 فعملهم يبدأ قبل ظهور شهوتهم وهواهم فيه، فإذن عملهم يُحمَل عليه شيء آخر غير الهوى، وهو انقيادهم إلى ما شرعه الله، أما هواهم فمرتبته متأخرة عن البدء في العمل، فليسوا فيه متبعين للهوى، بخلاف الفريق الآخر الذي لا يبدأ في العمل إلا بعد ظهور الهوى فيه؛ فإن المتغلب عليه في العمل هواه، وشتان بين الفريقين. "د".

 

ج / 2 ص -296-       وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة، يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم"1.
فأما العبادات، فكونها باطلة ظاهر، وأما العادات، فذلك2 من حيث عدم ترتب الثواب على مقتضى الأمر والنهي، فوجودها في ذلك وعدمها سواء، وكذلك الإذن في عدم أخذ المأذون فيه من جهة المنعم به، كما تقدم في كتاب الأحكام وفي هذا الكتاب.
وكل فعل كان المتبع فيه بإطلاق الأمر أو النهى أو التخيير، فهو صحيح وحق؛ لأنه قد أتى من طريقة الموضوع له، ووافق فيه صاحبه قصد الشارع،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 173" عن يحيى بن سعيد، أن عبد الله بن مسعود قال لإنسان..... "وذكره".
وإسناده منقطع؛ يحيى بن سعيد لم يسمع من ابن مسعود شيئا، لكن قال ابن عبد البر في "الاستذكار" 6/ 345": "إن هذا الحديث قد روي عن ابن مسعود من وجوه متصلة حسان متواترة".
قلت: نعم، أخرجه أبو خيثمة في "العلم" "109" بإسناد حسن، ولكنه مختصر، وأخرجه من طرق عن ابن مسعود البخاريُّ في "الأدب المفرد" "رقم 789"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 3787"، ومن طريقه وغيره الطبراني في "الكبير" "9/ 345/ رقم 9496، 8567".
وحسنه ابن حجر في "الفتح" "10/ 510"، وشيخنا الألباني في "صحيح الأدب المفرد" "رقم 605".
قلت: ووقع في "خ" محرفا: "فقاؤه" في الموضع الثاني منه.
2 في نسخة "ماء/ ص179": "فكذلك".

 

ج / 2 ص -297-       فكان كله صوابا، وهو ظاهر.
وأما إن امتزج فيه الأمران، فكان معمولا بهما، فالحكم للغالب1 والسابق2، فإن كان السابق أمر الشارع بحيث قصد العامل نيل غرضه من الطريق المشروع، فلا إشكال في إلحاقه3 بالقسم الثاني، وهو ما كان المتبع فيه مقتضى الشرع خاصة؛ لأن طلب الحظوظ والأغراض لا ينافي وضع الشريعة من هذه الجهة؛ لأن الشريعة موضوعة أيضا لمصالح العباد، فإذا جعل الحظ تابعا، فلا ضرر على العامل.
إلا أن هنا شرطا معتبرا، وهو أن يكون ذلك الوجه الذي حصَّلَ أو يُحَصِّل به غرضه مما تبين أن الشارع شرعه لتحصيل مثل ذلك الغرض، وإلا، فليس السابق فيه أمر الشارع، وبيان هذا الشرط مذكور في موضعه.
وإن كان الغالب والسابق هو الهوى وصار أمر الشارع كالتبع، فهو لاحق بالقسم الأول.
وعلامة الفرق بين القسمين تحري قصد الشارع وعدم ذلك، فكل عمل شارك العاملَ فيه هواه، فانظر؛ فإن كف هواه ومقتضى شهوته عند نهي الشارع4، فالغالب والسابق لمثل هذا أمر الشارع، وهواه تَبَع، وإن لم يكفَّ عند ورود النهي عليه، فالغالب والسابق له الهوى والشهوة، وإذن الشارع تبع لا حكم له عنده، فواطئ زوجته وهي طاهر محتمل أن يكون فيه تابعا لهواه، أو لإذن الشارع، فإن حاضت فانكف، دل عل أن هواه تبع، وإلا؛ دل على أنه السابق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1، 2 أي: الأقوى في الحمل على الفعل، والذي سبق إلى النفس منهما. "د".
3 في "د" و"خ" و"ط": "لحاقه".
4 في "ط" زيادة "له".

 

ج / 2 ص -298-       فصل:
- ومنها: أن اتباع الهوى طريق إلى المذموم وإن جاء في ضمن المحمود1؛ لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة، فحيثما زاحم مقتضاها في العمل كان مخوفا.
أما أولا: فإنه سبب تعطيل الأوامر وارتكاب النواهي؛ لأنه مضاد لها.
وأما ثانيا، فإنه إذا اتبع واعتيد، ربما أحدث للنفس ضراوة وأنسا به، حتى يسري معها في أعمالها، ولا سيما وهو مخلوق معها ملصق بها في الأمشاج، فقد يكون مسبوقا بالامتثال الشرعي فيصير سابقا له، وإذا صار سابقا له صار العمل الامتثالي تبعا له وفي حكمه، فبسرعة ما يصير صاحبه إلى المخالفة ودليل التجربة حاكم هنا.
وأما ثالثا: فإن العامل بمقتضى الامتثال من نتائج عمله الالتذاذ بما هو فيه، والنعيم بما يجتنيه من ثمرات الفهوم، وانفتاح مغاليق العلوم، وربما أكرم ببعض الكرامات، أو وضع له القبول في الأرض، فانحاش الناس إليه، وحلَّقوا عليه، وانتفعوا به، وأمُّوه لأغراضهم المتعلقة بدنياهم وأخراهم، إلى غير ذلك مما يدخل على السالكين طرق الأعمال الصالحة، من الصلاة، والصوم، وطلب العلم، والخلوة للعبادة، وسائر الملازمين لطرق الخير، فإذا دخل عليه ذلك، كان للنفس به بهجة وأنس، وغنى ولذة، ونعيم بحيث تصغر الدنيا وما فيها بالنسبة إلى لحظة من ذلك، كما قال بعضهم2: "لو علم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف"، أو كما قال، وإذا كان كذلك، فلعل النفس تنزع3

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بعدها في نسخة "ماء/ ص179": "وذا حقيق".
2 هو إبراهيم بن أدهم، أسنده عنه البيهقي في "الزهد" "رقم 81"، وابن الجوزي في "صفة الصفوة" "4/ 127" و"سلوة الأحزان" "رقم 198"، وأبو نعيم "7/ 370".
3 وتشتد رغبتها في القيام بالصلاة والصيام والخلوة للعبادة؛ ليزداد أنسها وبهجتها، ولذتها ونعيمها، وإكرامها بالكرامات وزيادة القبول في الأرض، وكل هذا هوى خالط المحمود من العمل، لكنه قد يسبق إلى النفس، فيخسر صاحبه مرتبته. "د".

 

ج / 2 ص -299-       إلى مقدمات تلك النتائج، فتكون سابقة للأعمال، وهو باب السقوط عن تلك الرتبة والعياذ بالله، هذا وإن كان الهوى في المحمود ليس بمذموم على الجملة، فقد يصير إلى المذموم على الإطلاق، ودليل هذا المعنى مأخوذ من استقراء أحوال السالكين وأخبار الفضلاء والصالحين، فلا حاجة إلى تقريره ههنا.
فصل:
- ومنها: أن اتباع الهوى في الأحكام الشرعية مظنة لأن يحتال بها على أغراضه، فتصير1 كالآلة المعدة لاقتناص2 أغراضه، كالمرائي يتخذ الأعمال الصالحة سلما لما في أيدي الناس، وبيان هذا ظاهر، ومن تتبع مآلات اتباع الهوى في الشرعيات وجد من المفاسد كثيرًا، وقد تقدم في كتاب الأحكام من هذا المعنى جملة عند الكلام على الالتفات إلى المسببات في أسبابها، ولعل الفرق الضالة المذكورة في الحديث3 أصل ابتداعها اتباع أهوائها، دون توخي مقاصد الشرع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "حتى تصير".
2 في نسخة "ماء/ ص179": "الانتقاص".
3 سيأتي نصه وتخريجه "ص335".

 

ج / 2 ص -300-       المسألة الثانية:
المقاصد الشرعية ضربان: مقاصد أصلية، ومقاصد تابعة1.
فأما المقاصد الأصلية، فهي التي لا حظ فيها للمكلَّف، وهي الضروريات المعتبرة في كل ملة، وإنما قلنا: إنها لا حظ فيها للعبد من حيث هي ضرورية؛ لأنها قيام بمصالح عامة مطلقة، لا تختص بحال دون حال، ولا بصورة دون صورة، ولا بوقت دون وقت، لكنها تنقسم إلى ضرورية عينية، وإلى ضرورية كفائية.
فأما كونها عينية، فعلى كل مكلَّف في نفسه، فهو مأمور بحفظ دينه2 اعتقادا وعملا، وبحفظ نفسه قياما بضروريات حياته، وبحفظ عقله حفظا لمورد الخطاب من ربه إليه، وبحفظ نسله التفاتا إلى بقاء عوضه في عمارة هذه الدار، ورعيًا له عن وضعه في مضيعة اختلاط الأنساب العاطفة3 بالرحمة على المخلوق من مائة، وبحفظ ماله استعانة على إقامة تلك الاوجه الأربعة ويدل على ذلك أنه لو فرض اختيار العبد خلاف هذه الأمور لجر عليه، ولحيل بينه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل وفي نسخة "ماء/ ص 180": "تابعية".
2 يحتاج المقام لبيان القدر الذي لا حظ فيه للنفس من هذه الأمور الخمسة، فحفظ نفسه بألا يعرضها للهلاك كأن يقذف بنفسه في مهواة، ودينه بأن يتعلم ما يدفع عن نفسه به الشُّبَه التي تورد عليه مثلا، وعقله بأن يمتنع عما يكون سببا في ذهابه أو غيبوبته، بأي سبب من الأسباب، ونسله بألا يضع شهوته إلا حيث أحلَّ الله حتى تحفظ، وماله بألا يتلفه بحرق أو نحوه مما يوجب عدم الانتفاع به، وبهذا يظهر قوله: "أنه لو فرض اختياره لغير هذه الأمور لحجر عليه"، أما حفظ نفسه بالتحرف والتسبب لينال ما تقوم به حياته من لباس ومسكن وهكذا، فهذا من النوع الثاني، أي: المقاصد التابعة التي فيها حظه، وإن كان ضروريا أيضا كما سيأتي: "د".
3 صفة للأنساب، وقوله: "الرحمة" متعلق بالعاطفة، أي: الأنساب التي من شأنها أن تتعطف الوالد على والده بالرحمة والإحسان. "د".

 

 

ج / 2 ص -301-       وبين اختياره، فمن هنا صار فيها مسلوب الحظ، محكوما عليه في نفسه، وإن صار له فيها حظ، فمن جهة أخرى تابعة لهذا المقصد الأصلي.
وأما كونها كفائية، فمن حيث كانت منوطة بالغير أن يقوم بها على العموم في جميع المكلفين، لتستقيم الأحوال العامة التي لا تقوم الخاصة إلا بها، إلا أن هذا القسم مكمل للأول، فهو لاحق به في كونه ضروريا؛ إذ لا يقوم العيني إلا بالكفائي، وذلك أن الكفائي قيام بمصالح عامة لجميع الخلق، فالمأمور به من تلك الجهة مأمور بما لا يعود عليه من جهته تخصيص لأنه لم يؤمر إذ ذاك بخاصة نفسه فقط، وإلا صار عينيا1، بل بإقامة الوجود، وحقيقته2 أنه خليفة الله في عباده على حسب قدرته وما هيء له من ذلك؛ فإن الواحد لا يقدر على إصلاح نفسه والقيام بجميع أهله3، فضلا عن أن يقوم بقبيلة، فضلا عن أن يقوم بمصالح أهل الأرض، فجعل الله الخلق خلائف في إقامة الضروريات العامة، حتى قام الملك في الأرض.
ويدلك على أن هذا المطلوب الكفائي معرى من الحظ شرعا أن القائمين به في ظاهر الأمر4 ممنوعون من استجلاب الحظوظ لأنفسهم بما قاموا به من ذلك، فلا يجوز لوالٍ أن يأخذ أجرة ممن تولاهم على ولايته عليهم، ولا لقاضٍ أن يأخذ من المقضي عليه أو له أجرة على قضائه5، ولا لحاكم على حكمه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "عينا".
2 أي: القائم الكفائي
3 في "ط": "بجميع ما يحتاج إليه".
4 وإنما قال في ظاهر الأمر لأنه وإن لم يأخذ الأجر من خصوص من ترافعوا إليه، فإنه يأخذه من بيت المال الذي يأتي دخله ممن ترافعوا ومن غيرهم، إلا أن هذا ليس كالأجر الذي يأخذه من أرباب القضايا مباشرة، فهو لا يؤثر في ذمته ولا يبعثه على أن يغير حكما حقا رآه بين المتخاصمين، كما هو ظاهر. "د".
5 قرر القرافي في "الفرق الخامس عشر والمئة" بين قاعدة الأرزاق وقاعدة الإجارات أن القضاة يجوز أن يكون لهم أرزاق من بيت المال على القضاء إجماعا، ولا يجوز أن يستأجروا على القضاء إجماعا لأن الأرزاق عامة من الإمام لهم على القيام بالمصالح لا أنها عوض عما يجب عليهم من تنفيذ الحكم عند قيام الحِجاج ونهوضها. "خ".

 

ج / 2 ص -302-       ولا لمفت على فتواه، ولا لمحسن على إحسانه، ولا لمقرض على قرضه، ولا ما أشبه ذلك من الأمور العامة التي للناس فيها مصلحة عامة، ولذلك امتنعت الرشا والهدايا المقصود بها نفس الولاية؛ لأن استجلاب المصلحة1 هنا مؤدٍ إلى مفسدة عامة تضاد حكمة الشريعة في نصب هذه الولايات.
وعلى هذا المسلك يجري العدل في جميع الأنام، ويصلح النظام، وعلى خلافه يجري الجور في الأحكام، وهدم قواعد الإسلام، وبالنظر فيه يتبين2 أن العبادات العينية لا تصح الإجارة عليها، ولا قصد المعاوضة فيها، ولا نيل مطلوب دنيوي بها، وأن تركها سبب للعقاب والأدب، وكذلك النظر في المصالح العامة موجب تركها للعقوبة3؛ لأن في تركها أي مفسدة في العالم.
وأما المقاصد التابعة4، فهي التي روعي فيها حظ المكلف، فمن جهتها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بأخذ الرشوة أو القضاء وما أشبه، يؤدي إلى مفسدة عامة هي الجور وعدم الاستقامة في تأدية واجبات الولاية والقضاء، من رعاية العدالة والنصفة بين الناس، والبعد عن تهمة التحيز. "د".
2 لأنه مسلوب الحظ فيها، وليس له الخيرة في التخلي عنها. "د".
3 هذا إذا تعين النظر على الشخص بوجه من وجوه التعين. "د".
4 وهي التسببات المتنوعة التي لا يلزم المكلف أن يأخذ بشيء خاص منها، بل وكل إلى اختياره أن يتعلق بما يميل إليه وتقوى منته عليه، فلم يلزم بالتجارة دون الصناعة، ولا بالتعليم دون الزراعة، وهكذا من ضروب التسببات التي لا يسعها التفصيل، فهذه كلها مكملة للمقاصد الأصلية وخادمة لها؛ لأنها لا تقوم في الخارج إلا بها، ولو عدمت التابعة رأسا لم تتحقق الأصلية لتوقفها عليها، وفرق آخر، وهو أن الأصلية واجبة والتابعة مباحة: "أي: بالجزء كما تقدم في المسألة الثانية من المباح": وسيأتي له في المسألة التالية عدها من الضروريات أيضا كالمقاصد الأصلية. "د".

 

ج / 2 ص -303-       يحصل له مقتضى ما جبل عليه من نيل الشهوات والاستمتاع بالمباحات، وسد الخلات، وذلك أن حكمة الحكيم الخبير حكمت أن قيام الدين والدنيا إنما يصلح ويستمر بدواعٍ من قبل الإنسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره، فخلق له شهوة الطعام والشراب إذا مسه الجوع والعطش؛ ليحركه ذلك الباعث إلى التسبب في سد هذه الخلة بما أمكنه، وكذلك خلق له الشهوة إلى النساء لتحركه إلى اكتساب الأسباب الموصلة إليها، وكذلك خلق له الاستضرار بالحر والبرد والطوارق العارضة، فكان ذلك داعية إلى اكتساب اللباس والمسكن، ثم خلق الجنة والنار، وأرسل [الرسل]1 مبينة أن الاستقرار ليس ههنا، وإنما هذه الدار مزرعة لدار أخرى، وأن السعادة الأبدية والشقاوة الأبدية هنالك، لكنها تكتسب أسبابها هنا بالرجوع إلى ما حده الشارع، أو الخروج عنه، فأخذ2 المكلف في استعمال الأمور الموصلة إلى تلك الأغراض، ولم يجعل له قدرة على القيام بذلك وحده، لضعفه عن مقاومة هذه الأمور، فطلب التعاون بغيره، فصار يسعى في نفع نفسه واستقامة حاله بنفع غيره، فحصل الانتفاع للمجموع بالمجموع، وإن كان كل أحد إنما يسعى في نفع نفسه.
فمن هذه الجهة صارت المقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها، ولو شاء الله لكلف بها مع الإعراض عن الحظوظ، أو لكلف بها مع سلب الدواعي المجبول عليها، لكنه امتن على عباده بما جعله وسيلة إلى ما أراده من عمارة الدنيا للآخرة، وجعل الاكتساب لهذه الحظوظ مباحا لا ممنوعا، لكن على قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة وأجرى على الدوام مما يعده العبد مصلحة
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، ولو شاء لمنعنا في الاكتساب الأخروي القصد إلى الحظوظ، فإنه المالك وله الحجة البالغة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل.
2 في الأصل ونسخة "ماء/ ص183": "مأخذ".

 

ج / 2 ص -304-       ولكنه رغبنا في القيام بحقوقه الواجبة علينا بوعد حظي لنا، وعجل لنا من ذلك حظوظا كثيرة نتمتع بها في طريق ما كلفنا به، فبهذا اللحظ قيل: إن هذه المقاصد توابع، وإن تلك هي الأصول، فالقسم الأول يقتضيه محض العبودية، والثاني يقتضيه لطف المالك بالعبيد.

 

ج / 2 ص -305-       المسألة الثالثة1:
قد تحصَّلَ إذن أن الضروريات ضربان:
أحدهما:
ما كان للمكلف فيه حظ عاجل مقصود، كقيام2 الإنسان بمصالح نفسه وعياله، في الاقتيات، واتخاذ السكن3، والمسكن واللباس، وما يلحق بها من المتممات، كالبيوع، والإجارات، والأنكحة، وغيرها من وجوه الاكتساب التي تقوم بها الهياكل الإنسانية.
والثاني:
ما ليس فيه حظ عاجل مقصود4، كان من فروض الأعيان كالعبادات5 البدنية والمالية، من الطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وما أشبه ذلك، أو من فروض الكفايات، كالولايات العامة، من6 الخلافة، والوزارة، والنقابة، والعرافة7، والقضاء، وإمامة الصلوات، والجهاد، والتعليم وغير ذلك من الأمور التي شرعت عامة لمصالح عامة إذا فرض عدمها أو ترك الناس لها انخرم النظام.
فأما الأول:
فلما كان للإنسان فيه حظ عاجل، وباعث من نفسه يستدعيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كلام المصنف تحتها تعميق لما في "البرهان" "2/ 919، 938"، للجويني.
2 في الأصل: "لقيام".
3 أي: الزوجة "د".
4 إنما قال: "مقصود" لأن في فروض الكفاية كالولاية حظا عاجلا، كعزة الرياسة، وتعظيم المأمورين للآمر، وهكذا مما سيأتي له، إلا أنه غير مقصود شرعا، بل منهي عنه أشد النهي، وسيأتي له تفسير الحظ المقصود بعد. "د".
5 وكغير العبادات، من سائر الضروريات التي ليس فيها حظ عاجل، كما تقدم إيضاحه، "د".
6 في الأصل: "والخلافة".
7 النقابة والعرافة منصب دون الرئاسة، ويطلق على صاحبه "النقيب" و"العريف".

 

ج / 2 ص -306-       إلى طلب ما يحتاج إليه، وكان ذلك الداعي قويا جدا بحيث يحمله قهرا على ذلك، لم يؤكد عليه الطلب بالنسبة إلى نفسه1، بل جعل الاحتراف والتكسب والنكاح على الجملة مطلوبا طلب الندب لا طلب الوجوب، بل كثيرا ما يأتي في معرض الإباحة، كقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275].
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198].
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].
{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172].
وما أشبه ذلك، مع أنا لو فرضنا أخذ الناس له كأخذ المندوب بحيث يسعهم جميعا الترك لأثموا2؛ لأن العالم لا يقوم إلا بالتدبير والاكتساب، فهذا من الشارع كالحوالة على ما في الجبلة من الداعي الباعث على الاكتساب، حتى إذا لم يكن فيه حظ أو جهة نازع طبعي أوجبه الشرع عينا أو كفاية3، كما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أما بالنسبة إلى غيره كالأقارب والزوجات مما لم يكن الداعي للنفس فيه قويا، فسيأتي أن الشارع يوجبه. "د".
2 قد يقال: إذن يكون واجبا كفائيا، وإلا لاختل حد الأحكام الخمسة، إلا أن يقال: إن هذا من المندوب بالجزء الواجب كفاية بالكل كما تقدم في الأحكام، فيصح التأثيم بترك الكل مع كونه مندوبا بالجزء. "د".
3 صرح الإمام الغزالي في كتاب "الوسيط" بأن الحِرف والصنائع لا تندرج في فرض الكفاية، والصواب ما جرى عليه المصنف من دخولها في هذا القبيل، ولا مخلص من إثم الجميع متى تظافروا على ترك حرفة يحتاج إليها في وسائل القوة أو مرافق الحياة، والشعب الذي لا يعني بالصنائع ويعول على أن يستمد حاجاته من أمة أخرى، لا يلبث أن يقع في غمرة بؤس وشقاء، واختلال الحالة الاقتصادية مطية إلى الإفلاس في السياسة، والابتلاء بسيطرة أجنبي يعبث بحقائق الدين وتجول يده في الأموال والثمرات، ويسوق النفوس الشريفة إلى عارٍ خالد أو موتة خاسرة. "خ".
قلت: ورجح ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى" "18/ 82" أن الحرف من باب فرض الكفاية، ومتى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه، لا سيما إن كان غيره عاجزا عنها، وكان الناس محتاجين إليها.

 

ج / 2 ص -307-       لو فرض هذا في نفقة الزوجات والأقارب1، وما أشبه ذلك.
فالحاصل أن هذا الضرب قسمان:
قسم يكون القيام بالمصالح فيه بغير واسطة، كقيامه بمصالح نفسه مباشرة.
وقسم يكون القيام بالمصالح فيه بواسطة الحظ في الغير، كالقيام بوظائف الزوجات والأولاد، والاكتساب بما للغير فيه مصلحة، كالإجارات، والكراء، والتجارة، وسائر وجوه الصنائع والاكتسابات، فالجميع يطلب الإنسان بها حظه فيقوم بذلك حظ الغير، خدمة دائرة بين الخلق، كخدمة بعض أعضاء الإنسان بعضا حتى تحصل المصلحة للجميع.
ويتأكد الطلب فيما فيه حظ الغير على طلب حظ النفس المباشر، وهذه حكمة بالغة، ولما كان النظر هكذا، وكانت جهة الداعي كالمتروكة2 إلى ما يقتضيه، وكان ما يناقض الداعي ليس له خادم3، بل هو على الضد من ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فالتكسب لنفقة هؤلاء واجب. "د".
2 فلم توجب، بل ندب إليها، أو ذكرت في معرض الإباحة. "د".
3 أي: لما كان الداعي هو المتسلط وحده على الإنسان يدعوه إلى طلب المصلحة ودرء المفسدة من أي طريق كان، وكان ما يناقض الداعي وهو ما يقتضي عدم الدخول في طلب مصلحته ودرء مفسدته ليس له من جهة الطبع ما يخدمه ويعين عليه، صار من الحكمة تخفيف وطأة هذا الداعي بالزواجر الشديدة عن السير وراء الداعي في كل شيء ليقف عند حد عدم المساس بحقوق الغير. "د".

 

ج / 2 ص -308-       أكدت جهة الكف هنا بالزجر والتأديب في الدنيا، والإيعاد بالنار في الآخرة، كالنهي عن قتل النفس والزنى، والخمر، وأكل الربا، وأكل أموال اليتامي، وغيرهم من الناس بالباطل والسرقة، وأشباه ذلك، فإن الطبع النازع إلى طلب مصلحة الإنسان ودرء مفسدته يستدعي الدخول في هذه الأشياء.
وعلى هذا الحد جرى الرسم الشرعي في قسم الكفاية من الضرب الثاني أو أكثر أنواعه، فإن عز السلطان، وشرف الولايات، ونخوة الرياسة، وتعظيم المأمورين للآمر مما جبل الإنسان على حبه، فكان الأمر بهم جاريا مجرى الندب لا الإيجاب، بل جاء ذلك مقيدا بالشروط المتوقع خلافها، وأكد النظر في مخالفة الداعي، فجاء كثير من الآيات والأحاديث في النهي عما تنزع إليه النفس فيها، كقوله تعالى:
{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] إلى آخرها.
وفي الحديث:
"لا تطلب الإمارة؛ فإنك إن طلبتها باستشراف نفس وكلت إليها"1، أو كما قال.
وجاء النهي عن غلول الأمراء2، وعن عدم النصح في الإمارة3، لما كان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب قول الله تعالى:
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ}، 11/ 516-517/ رقم 6622، وكتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعده، 11/ 608/ رقم 6722" من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه.
2 من مثل قوله صلى الله عليه وسلم:
"هدايا الأمراء غلول"، وسيأتي تخريجه "3/ 118".
3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأحكام، باب من استرعي رعية فلم ينصح، 13/ 126-127/ رقم 7150/ 7151"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، 1/ 125/ رقم 227، وكتاب الإمارة، باب فضيلة الإم العادل، 3/ 1460" عن معقل بن يسار مرفوعا: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، فلم يحطها بنصحه، لم يجد رائحة الجنة".

 

ج / 2 ص -309-       هذا كله على خلاف الداعي من النفس، ولم يكن هذا كله دليلا على عدم الوجوب في الأصل، بل الشريعة كلها دالة على أنها في مصالح الخلق من أوجب الواجبات.
وأما قسم الأعيان، فلما لم يكن فيه حظ عاجل مقصود، أكد القصد إلى فعله بالإيجاب، ونفيه بالتحريم، وأقيمت عليه العقوبات الدنيوية، وأعني بالحظ المقصود ما كان مقصود الشارع بوضعه السبب [الباعث عليه، وغير المقصود وهو ما لم يكن مقصودا للشارع بوضعه السبب]، فإنا نعلم أن الشارع شرع الصلاة وغيرها من العبادات لا لنحمد عليها، ولا لننال بها في الدنيا شرفا وعزا أو شيئا من حطامها، فإن هذا ضد ما وضعت له العبادات، بل هي خالصة لله رب العالمين،
{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3].
وهكذا شرعت أعمال الكفاية لا لينال بها عز السلطان، ونخوة الولاية، وشرف الأمر والنهي، وإن كان قد يحصل ذلك بالتبع، فإن عز المتقي لله في الدنيا وشرفه على غيره، لا ينكر، وكذلك ظهور العزة في الولايات موجود معلوم ثابت شرعا من حيث يأتي تبعا للعمل المكلف به، وهكذا القيام بمصالح الولاة من حيث لا يقدح في عدالتهم1 حسبما حده الشارع غير منكر ولا ممنوع، بل هو مطلوب متأكد، فكما يجب على الوالي القيام بمصالح العامة، فعلى العامة القيام بوظائفه من بيوت أموالهم إن احتاج إلى ذلك2، وقد قال تعالى:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بأن يكون ذلك من بيت المال لا بالرشوة، ولا بهدايا الخصوم، ولا بأجر منهم. "د".
2 تقوم الأمة بنفقة ولاة الأمور، وهي التي تفرض لهم من بيت المال ما يكفي لسداد حاجاتهم بالمعروف، ولا حق للوالي في أن يعد ما في الخزينة العامة بمنزلة تراث أبيه وجده، فيرمي فيه في سبيل أهوائه الواسعة، وإلى الله المشتكى من ذلك التصرف الذي انطلقت به أيدي كثير من الأمراء والوزراء في بعض الممالك الإسلامية حتى سقطت في بؤس وغرقت دولها في ديون اتخذها الأجنبي في وسائل امتلاك البلاد والقبض على زمام سياستها. "خ". قلت: وقال ابن خلدون في "مقدمته" "ص322": "إن الإمارة ليست بمذهب طبيعي للمعاش"، وانظر: "الإشارة في محاسن التجارة" "38"، و"الأحكام السلطانية" "ص120" للماوردي، و"الأموال" "ص469" لأبي عبيد، و"تحرير المقال" للبلاطنسي.
وكان المصنف رحمه الله ممن يرى رأي من يجيز ضرب الخراج على الناس عند ضعفهم وحاجتهم لضعف بيت المال عن القيام بمصالح الناس، كما تراه في ترجمته انظر على سبيل المثال: "نيل الابتهاج" "49" ونقله عنه الونشريسي في "المعيار المعرب" "11/ 131"، وانظر: "فتاوى الشاطبي" "ص187-188".

 

ج / 2 ص -310-       {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} الآية [طه: 132].
وقال:
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3].
وفي الحديث: "من طلب العلم، تكفل الله برزقه"1.
إلى غير ذلك مما يدل على أن قيام المكلف بحقوق الله سببب لإنجاز ما عند الله من الرزق.
فصل:
فقد تحصل من هذا أن ما ليس فيه للمكلف حظ بالقصد الأول يحصل له فيه حظه بالقصد الثاني من الشارع، وما فيه للمكلف حظ بالقصد الأول

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الخطيب في "تاريخه" "3/ 180"، و"الجامع" "رقم 69" والشجري في "أماليه" "1/ 60" من حديث زياد بن الحارث الصدائي مرفوعا.
قال الخطيب: "غريب من حديث الثوري عن أبيه عن جده، لا أعلم رواه إلا يونس بن عطاء"
قلت: ويونس بن عطاء قال عنه ابن حبان: "يروي العجائب، لا يجوز الاحتجاج به"، وانظر له: "الميزان" "4/ 482" فالحديث مرفوعا ضعيف جدا، ولعله من قول الثوري، والله أعلم.

 

ج / 2 ص -311-       يحصل فيه1 العمل المبرأ من الحظ.
وبيان ذلك في الأول ما ثبت في الشريعة أوَّلًا من حظ نفسه وماله، وما وراء ذلك من احترام أهل التقوى والفضل والعدالة، وجعلهم عمدة في الشريعة في الولايات والشهادات وإقامة المعالم الدينية وغير ذلك زائدا إلى ما جعل لهم من حب الله وحب أهل السماوات لهم، ووضع القبول لهم في الأرض، حتى يحبهم الناس ويكرمونهم ويقدمونهم على أنفسهم، وما يخصون به من انشراح الصدور، وتنوير القلوب، وإجابة الدعوات، والإتحاف بأنواع الكرامات، وأعظم من ذلك ما في الحديث مسندا إلى رب العزة:
"من آذى لي وليًّا، فقد بارزني بالمحاربة"2.
وأيضا، فإذا كان مَن هذا وصفُه قائما بوظيفة عامة لا يتفرغ بسببها لأموره الخاصة به في القيام بمصالحه ونيل حظوظه، وجب على العامة أن يقوموا له بذلك ويتكلفوا له بما يفرغ باله للنظر في مصالحهم، من بيوت أموالهم المرصدة لمصالحهم، إلى ما أشبه ذلك مما هو راجع إلى نيل حظه على الخصوص، فأنت تراه لا يعرى عن نيل حظوظه الدنيوية في طريق تجرده عن حظوظه، وما له في الآخرة من النعيم أعظم.
وأما الثاني:
فإن اكتساب الإنسان لضرورياته في ضمن قصده إلى المباحات التي يتنعم بها ظاهر، فإن أكل المستلذات، ولباس اللينات، وركوب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يحصل بسببه العمل المطلوب منه الذي جعل مما لا حظ فيه كإقامة الحياة بسائر أسبابها من أكل وشرب ولباس ومسكن وغيرها، فالقسم الذي فيه للمكلف حظ يحصل بسبب القسم الذي لا حظ فيه. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب التواضع 11/ 340-341/ رقم 6502".

 

ج / 2 ص -312-       الفارهات، ونكاح الجميلات قد تضمن سد الخلات والقيام بضرورة الحياة، وقد مر أن إقامة الحياة من حيث هو ضروري لا حظ فيه.
وأيضا، فإن في اكتسابه بالتجارات وأنواع البياعات والإجارات وغير ذلك مما هو معاملة بين الخلق قياما بمصالح الغير1، وإن كان في طريق الحظ، فليس فيه من حيث هو حظ له يعود عليه منه غرض إلا من جهة ما هو طريق إلى حظه، وكونه طريقا ووسيلة غير كونه مقصودا في نفسه، وهكذا نفقته على أولاده وزوجته، وسائر من يتعلق به شرعا من حيوان عاقل وغير2 عاقل، وسائر ما يتوسل به إلى الحظ المطلوب، والله أعلم.
فصل:
وإذا نظرنا إلى العموم والخصوص في اعتبار حظوظ المكلف بالنسبة إلى قسم الكفاية، وجدنا الأعمال ثلاثة أقسام:
قسم لم يعتبر فيه حظ المكلف بالقصد الأول على حال، وذلك الولايات العامة والمناصب العامة للمصالح العامة.
وقسم اعتبر فيه ذلك، وهو كل عمل كان فيه مصلحة الغير في طريق مصلحة الإنسان في نفسه، كالصناعات والحرف العادية كلها، وهذا القسم في الحقيقة راجع إلى مصلحة الإنسان واستجلاب3 حظه في خاصة نفسه، وإنما كان استجلاب المصلحة العامة فيه بالعرض.
وقسم يتوسط بينهما، فيتجاذبه قصد الحظ ولحظ4 الأمر الذي لا حظ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فكما أن فيه الضروري العيني، فيه الضروري الكفائي. "د".
2 في "ط": "أو غير".
3 في "د": "واستجلابه".
4 أي: وملاحظة.

 

ج / 2 ص -313-       فيه، وهذا ظاهر في الأمور التي لم تتمحض في العموم وليست خاصة، ويدخل تحت هذا ولاية أموال الأيتام والأحباس والصدقات، والأذان، وما أشبه ذلك، فإنها من حيث العموم يصح فيها التجرد من الحظ، ومن حيث الخصوص وأنها كسائر الصنائع الخاصة بالإنسان في الاكتساب يدخلها الحظ، ولا تناقض في هذا، فإن جهة الأمر بلا حظ غير وجه الحظ؛ فيؤمر انتدابا أن يقوم به لا لِحَظٍّ، ثم يبذل له الحظ في موطن ضرورة أو غير ضرورة، حين لا يكون ثمَّ قائم بالانتداب، وأصل ذلك في والي مال اليتيم قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6].
وانظر ما قاله العلماء في أجرة القسام والناظر في الأحباس والصدقات الجارية، وتعليم العلوم على تنوعها1، ففي ذلك ما يوضح هذا القسم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما يصرف لمن يقوم بمصلحة يتعدي نفعها، كالعلم، أو القسام للعقار بين الخصوم، أو ترجمان الحاكم أو كاتبه، هو من باب المعونة على القيام بهذه المصالح، وتقاضيه لهذه المعونة لا يقطع عنه ثواب الله في الآخرة، بل ينال جزاءه الأخروي لقيامه بذلك العمل النافع موفورا، ولباذل المعونة ثواب التبرع بالمال في سبيل المصالح العامة. "خ".
قلت: ذهب إلى مشروعية أخذ الأجرة على الطاعات المذكورة ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "30/ 202، 206-207"، وانظر في المسألة: "المغني" "6/ 143- مع الشرح الكبير" و"كشاف القناع" "4/ 12"، و"المحلى" "8/ 191"، و"حاشية ابن عابدين" "6/ 56"، و"بدائع الصنائع" "4/ 191"، و"حاشية الدسوقي" "2/ 16"، و"فتح العلي المالك "2/ 229"، و"مغني المحتاج" "2/ 344"، و"نيل الأوطار" "5/ 322".

 

ج / 2 ص -314-       المسألة الرابعة1:
ما فيه حظ العبد محضا -من المأذون فيه- يتأتى تخليصه من الحظ، فيكون العمل فيه لله تعالى خالصا، فإنه من قبيل ما أذن فيه أو أمر به، فإذا تلقى الإذن بالقبول من حيث كان المأذون فيه هدية من الله للعبد، صار مجردا من الحظ، كما أنه إذا لبى الطلب بالامتثال من غير مراعاة لما سواه، تجرد عن الحظ، وإذا تجرد من الحظ ساوى2 ما لا عوض عليه شرعا من القسم الأول الذي لا حظ فيه للمكلف.
وإذا كان كذلك، فهل يلحق به في الحكم لما صار ملحقا به في القصد؟ هذا مما ينظر فيه، ويحتمل وجهين3 من النظر:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إن قلت: إنه كان الأنسب للمؤلف أن يؤخر هذه المسألة ويضمها إلى مسائل القسم الثاني من الكتاب المتعلقة بمقاصد المكلف نفسه، ولا يدرجها في مسائل هذا القسم المتعلقة بمقاصد الشرع بالتكليف؛ لأنها ترجع إلى أن المباح يكون عبادة بقصد المكلف، ثم يكون النظر في أنه حينذاك هل يأخذ الفعل حكم ما كان عبادة ويصير صاحبه كصاحب الولاية فيما ولي عليه، أم يبقى حكمه كصاحب الحظ يتصرف كيف يشاء فيما تحت يده؟ قلنا: بل المقصود من المسألة هذا الأخير، وهو الوجهان من النظر، فإنهما أنسب بمقام النوع الرابع الذي نحن فيه وأولى من عدهما من القسم الثاني الآتي، وأما أول المسألة، فمقدمة فقط. "د".
2 أي: في القصد. "د".
3 ظاهر كلامه هنا أن كلا من الوجهين جارٍ بعد تسليم الخلوص من الحظ، وأن هذا أمر لا نزاع فيه، إنما البحث في أنه هل يحكم لمن هذا شأنه بحكم العمل في قسم ما لا حظ فيه؟ أي: فلا يأخذ عوضا ويكون كقسم ما لا حظ فيه بنوعيه العيني والكفائي؟ هذا هو ظاهر كلامه، وجعله الاستفهام خاصا بمسألة الإلحاق في الحكم، فكأنه سلم جميع ما قبل الاستفهام، مع أنه سيقول في تقرير الوجه الثاني: "فالجميع مبني على إثبات الحظوظ"، وقال أيضا: إذا ثبت هذا، تبين أن هذا القسم لا يساوي الأول في امتناع الحظوظ جملة"، وقد كان هذا مسلما في صدر المسألة، ولم يدخل فيه شكا ولا ستفهاما، مع أنه بمقتضى تقريره الآتي يكون هذا بل وما قبله من قوله تجرد عن الحظ، كل هذا يليق به أن يدرج في موضوع النظر. "د".

 

ج / 2 ص -315-       أحدهما:
أن يقال: إنه يرجع في الحكم ما ساواه في القصد؛ لأن قسم الحظ هنا قد صار عين القسم الأول بالقصد، وهو القيام بعبادة من العبادات مختصة بالخلق في إصلاح أقواتهم ومعايشهم، أو1 صار صاحبه على حظ من منافع الخلق يشبه الخزان على أموال بيوت الأموال والعمال في أموال الخلق، فكما لا ينبغي لصاحب القسم الأول أن يقبل من أحد هدية ولا عوضا على ما ولي عليه ولا على ما تعبد به، كذلك ههنا لا ينبغي له أن يزيد على مقدار حاجته يقتطعه من تحت يده، كما يقتطع الوالي ما يحتاج إليه من تحت يده بالمعروف، وما سوى ذلك يبذله2 من غير عوض، إما بهدية، أو صدقة، أو إرفاق، أو إعراء أو ما أشبه ذلك، أو3 يعد نفسه في الأخذ كالغير يأخذ من حيث يأخذ الغير؛ لأنه لما صار كالوكيل على غيره والقيم بمصالحه عد نفسه مثل ذلك الغير؛ لأنها نفس مطلوب إحياؤها على الجملة.
ومثل هذا محكي التزامه عن كثير من الفضلاء، بل هو محكي عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، فإنهم كانوا في الاكتساب ماهرين ودائبين ومتابعين لأنواع الاكتسابات؛ لكن لا ليدخروا لأنفسهم، ولا ليحتجنوا4

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل التنويع إشارة إلى النوعين السابقين فيما لا حظ فيه، وتقدم أنهما إما عبادة بدنية أو مالية، وإما قيام بولاية عامة على مصالح المسلمين، ويدل عليه قوله: "على ما ولي عليه ولا على ما تعبد به". "د" "استدراك 6".
2 في الأصل و"خ" و"ماء/ ص186": "بذله".
3 لعلها واو عطف على "يقتطعه"؛ إذ هما قسم واحد كما سيجيء له، نعم، قد يؤخذ من جعل نفسه كالغير أنه يصح له الزيادة عن حاجته، ولكن هذا ليس بمراد بدليل السباق واللحاق. "د".
4 في الأصل: "ليحتنوا"!! واحتجان المال: جمعه وضم ما انتشر منه، كما في "اللسان" "مادة ح ج ن 13/ 109".

 

ج / 2 ص -316-       أموالهم؛ بل لينفقوها في سبيل الخيرات، ومكارم الأخلاق، وما ندب الشرع إليه، وما حسنته العوائد الشرعية، فكانوا في أموالهم كالولاة على بيوت الأموال، وهم في كل ذلك على درجات حسبما تنصه أخبارهم، فهذا وجه يقتضي أنهم لما صاروا عاملين لغير حظ، عاملوا هذه الأعمال معاملة ما لا حظ فيه البتة.
ويدل على أن هذا مراعىً على الجملة1 وإن قلنا بثبوت الحظ، أن طلب الإنسان لحظه حيث أذن له لا بد فيه من مراعاة حق الله وحق المخلوقين، فإن طلب الحظ إذا كان مقيدا بوجود الشروط الشرعية، [وانتفاء الموانع الشرعية، ووجود الأسباب الشرعية]2 على الإطلاق والعموم، وهذا كله لا حظ فيه للمكلف من حيث هو مطلوب به، فقد خرج في نفسه عن مقتضى حظه، ثم إن معاملة الغير في طريق حظ النفس تقتضي ما أُمِرَ به من الإحسان إليه في المعاملة، والمسامحة في المكيال والميزان، والنصيحة على الإطلاق، وترك الغش كله، وترك المغابنة غبنا يتجاوز الحد المشروع، وأن لا تكون العاملة عونا له على ما يكره شرعا، فيكون طريقا إلى الإثم والعدوان، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تعود على طالب حظه بحظ أصلا، فقد آل الأمر في طلب الحظ إلى عدم الحظ3.
هذا والإنسان بعدُ في طلب حظه قصدا، فكيف إذا تجرد عن حظه في أعماله؟ فكما لا يجوز له أخذ عوض على تحري4 المشروع في الأعمال، لا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي أن ما فيه حظ عُومل معاملة ما لا حظ فيه على الجملة لا التفصيل؛ لأنه قيد فيه الحظ بقيود كثيرة وشديدة، حتى إن الحظ الباقي له بعدها اضمحل بجانبها وصار مغمورا في ثناياها. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 أي: على الجملة: "د".
4 أي: على فعل ما لا حظ فيه بقسميه. "د".

 

ج / 2 ص -317-       بالنسبة إلى العبادات ولا إلى العادات، وهو مجمَع عليه، فكذلك فيما صار بالقصد كذلك.
وأيضا؛ فإنَّ فرض هذا القصد لا يتصور مع فرض طلب الحظ، وإذا كان كذلك، فهي1 داخلة في حكم ما لا يتم الواجب إلا به، فإن ثبت أنه مطلوب بما يقتضي سلب الحظ2، فهو مطلوب بما لا يتم ذلك المطلوب إلا به، سواء علينا أقلنا: إنه مطلوب به طلبا شرعيا أم لا، فحكمه على الجملة لا يعدو أن يكون حكم ما ليس فيه حظ البتة، وهذا3 ظاهر، فالشارع قد طلب النصيحة مثلا طلبا جازما، بحيث جعله الشارع عمدة الدين بقوله صلى الله عليه وسلم:
"الدين النصيحة"4، وتوعد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المسألة داخلة في نظير "ما لا يتم.... إلخ" يعني: ولا يتم كونه مسلوب الحظ إلا إذا أخذ حكم ما لا حظ فيه. "د".
2 أي: مطلوب بتخليص العمل لله، فلا يتم ذلك إلا إذا أخذ حكم ما لا حظ فيه ابتداء، وهو القسم العبادي وقسم الولاية العامة؛ لأنه إذا كان حرا في تصرفاته المالية وغيرها، فلا يكون مسلوب الحظ، ويبقى الكلام في قوله: "سواء أقلنا: إنه مطلوب شرعا أم لا"، فإنه إذا لم يكن الطلب شرعيا ولو من باب المكارم ومحاسن الشيم، فلا وجه للبحث برمته؛ لأن الغرض أنه إذا خلص الإنسان قصده في الأعمال ذات الحظ، وأخذها على أنها امتثال صرف أو نيل هدية الله، فهل يطلب منه أن يكون كمن يعمل في القسم الثاني وهو ما لا حظ فيه، فلا يأخذ إلا ما يكفيه من ماله، أو أنه مع هذا يبقى حرا في المال وغيره يدخر منه وينفق حسبما يراه، فإذا لم يكن الكلام في الطلب الشرعي، ضاع البحث، وصار مما لا محصل له، وسيأتي له في آخر المسألة أن ذلك بإلزامهم لأنفسهم لا باللزوم الشرعي الواجب ابتداء، أي: فهو حال شرعي ومقبول شرعا وإن لم يكن بتكليف الشارع. "د".
3 راجعٌ للمقيس عليه، وهو ما لا حظ فيه ابتداء، يريد به بيانه وضرب الأمثال له، وليس غرضه بيان المدعي المقيس بضرب الأمثال له، وإن كان هذا هو الذي كان منتظرا تتميمًا للوجه الأول من النظر، ومن ذلك تعلم أنه وجه ضعيف لم يوفق فيه لأكثر من ضرب الأمثال بأعمال بعض الصحابة وسيأتي أنها معارضة بأفعالهم أيضا في نفس باب الأموال وادخارها. "د".
4 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة 1/ 74 =

 

ج / 2 ص -318-       على تركه في مواضع، فلو فرضنا توقفها على العوض أو حظ عاجل، لكانت موقوفة على اختيار الناصح والمنصوح، وذلك يؤدي إلى أن لا يكون طلبها جازما.
وأيضا الإيثار مندوب إليه ممدوح فاعله، فكونه معمولا به على عوض لا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= / رقم 55"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيعة، باب النصيحة للإمام، 7/ 156-157"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في النصيحة، 4/ 286/ رقم 4944"، وأحمد في "المسند" "4/ 102و 102-103"، وأبو عوانة في "المسند" "1/ 36-37"، والحميدي في "المسند" "2/ 369/ رقم 837"، والقضاعي في "المسند" "1/ 44 و45/ رقم 17و 18"، وابن زنجويه في "الأموال" "1/ 61/ رقم 1" وأبو عبيد في "الأموال" "90-10"، ووكيع في "الزهد" "2/ 621-622/ رقم 346"، والبخاري في "التاريخ الصغير" "2/ 35"، و"التاريخ الكبير" "1/ 1/ 459 و3/ 2/ 460"، وابن منده في "الإيمان" "1/ 424/ رقم 271 و272"، وابن حبان في "روضة العقلاء" "ص194"، و"الصحيح" "7/ 49- مع الإحسان"، والبغوي في "شرح السنة" "3/ 93"، ومحمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" "2/ 681-682، 683، 684، 685، 686، 687"، والطبراني في "المعجم الكبير" "2/ 52-54/ رقم 1260-1268"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 163" و"المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 590"، و"شعب الإيمان" "3/ 1/ 14"، وابن الأعرابي في "المعجم" "10/ 194/ أ" مخطوط، والروياني في "المسند" 3/ 263/ أ" مخطوط، وابن خزيمة في "الصحيح" كما في "فتح الباري" "1/ 138"، و"تغليق التعليق" "2/ 56"، وعزاه له في كتاب "السياسة" العيني في "عمدة القاري" "1/ 368" وذكره بسنده.
وذكر الحديث البخاري في "صحيحه" "1/ 137- مع الفتح" دون سند، ولم يخرجه مسندا لكونه على غير شرطه، ووقع فيه اختلاف طويل، ورواه محمد بن عجلان عن سهيل، فأخطأ فيه، فجعله من مسند أبي هريرة. قال البخاري في "التاريخ الأوسط": "لا يصح إلا عن تميم" قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "1/ 138"، "ولهذا الاختلاف على سهيل لم يخرجه البخاري في "صحيحه"، بل لم يحتج فيه بسهيل أيضا، وللحديث طرق دون هذه في القوة". وانظر -غير مأمور: "تغليق التعليق" "2/ 54-61".

 

ج / 2 ص -319-       يتصور أن يكون إيثارا؛ لأن معنى الإيثار تقديم حظ الغير على حظ النفس، وذلك لا يكون مع طلب العوض العاجل، وهكذا سائر المطلوبات العادية والعبادية، فهذا وجه نظري في المسألة يمكن القول بمقتضاه.
والوجه الثاني:
أن يقال: إنه يرجع في الحكم إلى أصله من الحظ؛ لأن الشارع قد أثبت لهذا العامل حظه في عمله، وجعله المقدم على غيره، حتى إنه إن أراد أن يستبد بجميعه كان سائغا، وكان له أن يدخره لنفسه، أو يبذله1 لمصلحة نفسه في الدنيا أو في الآخرة، فهي هدية الله إليه، فكيف2 لا يقبلها؟ وهو وإن أخذها بالإذن وعلى مقتضى حدود الشرع، فإنما أخذ ما جعل له فيه حظ، ومن حيث جعل له، وبالقصد الذي أبيح له القصد إليه.
وأيضا3 فالحدود الشرعية وإن لم يكن له في العمل بمقتضاها حظ، فهي وسيلة وطريق إلى حظه، فكما لم يحكم للمقصد بحكم الوسيلة فيما تقدم قبل هذه المسألة من أخذ الإنسان ماليس له في العمل به حظ لأنه وسيلة4 إلى حظه كالمعاوضات، فكذلك لا يحكم هنا للمأذون فيه من الحظ بحكم ما توسل به إليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"خ" و"ماء/ ص 186" و"ط": ويبذله".
2 الأصل: كيف".
3 رد لقوله في الوجه السابق: "إن طلب ما فيه حظ مقيد بالقيود الشرعية التي لا حظَّ فيها"، فينتفي أن يكون فيه الحظ، فيرد عليه هنا بأن هذه الحدود إن هي إلا وسيلة إلى حصول حظه، وليس بلازم أن يأخذ المقصد حكم الوسيلة، ألا ترى أن ما فيه حظ الشخص بالقصد الأول كأنواع الحرف والتجارات والمعاوضات لا يصل الشخص فيها إلى غرضه إلا بطريق نفع الغير، ومع ذلك لم يأخذ المقصد فيها حكم ما كان في طريقها من مصلحة الغير، وعد مما كان فيه حظ الشخص أصالة وحظ الغير بالعرض. "د".
4 وإن كان مما فيه مصلحة الغير، إلا أنها جاءت بطريق العرض، فلم يأخذ المقصد حكم هذه الوسيلة. "د".

 

ج / 2 ص -320-       وقد وجدنا من السلف الصالح رحمهم الله كثيرا يدخرون الأموال لمصالح أنفسهم، ويأخذون في التجارة وغيرها بمقدار ما يحتاجون إليه في أنفسهم خاصة، ثم يرجعون إلى عبادة ربهم حتى إذا نفد ما اكتسبوه عادوا إلى الاكتساب، ولم يكونوا يتخذون التجارة أو الصناعة عبادة لهم على ذلك الوجه1، بل كانوا يقتصرون على حظوظ أنفسهم، وإن كانوا إنما يفعلون ذلك من حيث التعفف والقيام بالعبادة، فذلك لا يخرجهم عن زمرة الطالبين لحظوظهم.
وما ذكر أولا عن السلف الصالح ليس بمتعين فيما تقدم؛ لصحة حمله على أن المقصود بذلك التصرف حظوظ أنفسهم من حيث أثبتها الشارع لهم، فيعملون في دنياهم على حسب ما يسعهم من الحظوظ، ويعملون في أخراهم كذلك، فالجميع مبني على إثبات الحظوظ، وهو المطلوب، وإنما الغرض أن تكون الحظوظ مأخوذة من جهة ما حد الشارع، من غير تعد يقع في طريقها.
وأيضا، فإنما حدت الحدود في طريق الحظ أن لا يخل الإنسان بمصلحة غيره فيتعدى ذلك إلى مصلحة نفسه2، فإن الشارع لم يضع تلك الحدود إلا لتجري المصالح على أقوم سبيل بالنسبة إلى كل أحد في نفسه3، ولذلك قال تعالى:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46]، وذلك عام في أعمال الدنيا والآخرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الذي شرحه فيما سبق، ودلل عليه بعمل الصحابة. "د".
2 لأن الإخلال بمصلحة الغير يعود بالإخلال على مصلحة النفس، بسبب العقوبات والزواجر وقيم المتلفات، وغيرها من المصائب والنوازل التي تنزل بسبب الارتكابات والمخالفات، وقد أباح الله لمن اعتُدِيَ عليه أن يجازي المعتدي بمثل ما اعتدى، فالإخلال بمصلحة الغير يعود بالإخلال على مصلحة النفس. "د".
3 في نسخة "ماء/ ص 187" زيادة: "وفي غيره".

 

ج / 2 ص -321-       وقال: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10].
وفي أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الظلم وتحريمه:
"يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها"1.
ولا يختص مثل هذا بالآخرة دون الدنيا، ولذلك كانت المصائب النازلة بالإنسان بسبب ذنوبه، لقوله:
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}2 [الشورى: 30].
وقال:
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
والأدلة على هذا تفوت الحصر، فالإنسان لا ينفك عن طلب3 حظه في هذه الأمور التي هي طريق إلى نيل حظه، وإذا ثبت هذا تبين أن هذا القسم لا يساوي الأول في امتناع الحظوظ العاجلة جملة.
وقد يمكن الجمع بين الطريقين، وذلك أن الناس في أخذ حظوظهم على مراتب.
- منهم من لا يأخذها إلا بغير تسببه4، فيعمل العمل أو يكتسب الشيء فيكون فيه وكيلا على التفرقة على خلق الله بحسب ما قدر، ولا يدخر لنفسه من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث إلهي طويل، أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4/ 1994-1995/ رقم 2577" من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وسيأتي "ص480"، وهناك تمام تخريجه.
2 في الأصل: "بما قدمت أيديكم"!!
3 في "د": "طلبه".
4 أي أنه لا يأخذ شيئا جاء بتسببه، بل يجعل ذلك لغيره، فكل ما سيق إليه بالتسبب يجعله للخلق، فهو مع كونه هو المتسبب والمحترف يرى أن ما وصل ليده من ذلك من محض الفضل، وأنه كوكيل على تصريفه فقط، وليس له منه شيء، وهذه أعلى المراتب، وما بعدها يجعل نفسه كالوكيل يأخذ إن احتاج، وهو أقل من هذا. "د".

 

ج / 2 ص -322-       ذلك شيئا، بل لا يجعل من ذلك حظا لنفسه من1 الحظوظ؛ إما لعدم تذكره لنفسه لاطراح حظها حتى يصير من قبيل ما ينسى، وإما قوة يقين بالله؛ لأنه عالم به وبيده ملكوت السموات والأرض2 وهو حسبه فلا يخيبه، أو عدم التفات إلى حظه يقينا بأن رزقه على الله فهو الناظر له بأحسن مما ينظر لنفسه، أو أنفة من الالتفات إلى حظه مع حق الله تعالى، أو لغير ذلك من المقاصد الواردة على أصحاب الأحوال، وفي مثل هؤلاء جاء: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
وقد نقل عن عائشة رضي الله عنها أن ابن الزبير بعث لها بمال في غرارتين -قال الراوي: أراه ثمانين ومائة ألف- فدعت بطبق وهي يومئذ صائمة، فجعلت تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت: "يا جرية هلمي أفطري"، فجاءتها بخبز وزيت. فقيل لها: أما استطعت فيما قسمت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه؟ فقالت: لا تُعَنِّيني، لو كنت ذكرتني لفعلت3.
وخرج مالك أن مسكينا سأل عائشة وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه. فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه. فقالت: أعطيه إياه. قالت: ففعلت. [قالت]: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "في".
2 في "ط": "ملكوت كل شيء".
3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "8/ 67"، والدارقطني في المستجاد" "رقم 36، 37"، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "16/ ق 738"، والحاكم في "المستدرك "4/ 13"، وأبو نعيم في "الحلية" "2/ 47 و49"، والبغوي في "الجعديات" "1673" بإسناد صحيح، بألفاظ مقاربة.
ووقع في بعض طرقه أن معاوية هو الذي بعض إليها بالمال، اشترى به منها دارا، ولا تَعَارُضَ، فهو المرسِلُ، وابنُ الزبيرِ المرسَلُ، إلا إذا حمل على تعدد القصة، والله أعلم.

 

ج / 2 ص -323-       -ما [كان] يهدي لنا- 1 شاة وكفنها2 فدعتني عائشة، فقالت: كلي من هذا؛ هذا خير من قرصك3 وروي عنها أنها قسمت سبعين ألفا وهي ترقع ثوبها4، وباعت ما لها بمائة ألف وقسمته، ثم أفطرت على خبز الشعير5، وهذا يشبه الوالي على بعض المملكة، فلا يأخذ إلى من الملك؛ لأن قام له اليقين بقسم الله وتدبيره مقام تدبيره لنفسه6، ولا اعتراض على هذا المقام بما تقدم، فإن صاحبه يرى تدبير الله له خيرا من تدبيره لنفسه، فإذا دبر لنفسه انحط عن رتبته إلى ما هو دونها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل الأصل: "ما لا يهدي لنا" أي: أهدى لنا شيئا ما جرت العادة أن يهدي لنا مثله في عظمه، وقوله: "شاة" بدل من ما. "د".
قلت صوابه ما أثبتناه، وما بين المعقوفتين، من "الموطأ" وسقط من الأصول كلها.
2 إن العرب- أو بعض وجوههم- كان هذا من طعامهم، يأتون إلى الشاة أو الخروف، فإذا سلخوه غطوه كله بعجين دقيق البر، وكفنوه فيه ثم علقوه في التنور، فلا يخرج من ودكه شيء إلا في ذلك الكفن، وذلك من طيب الطعام عندهم، قاله ابن عبد البر في "الاستذكار" "27/ 407".
3 أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 997- رواية يحيى- ورقم 2105- رواية أبي مصعب" بلاغا عن عائشة.
4 أخرجه أبو نعيم في "الحلية" "2/ 57".
5 أخرجه أبو نعيم في "الحلية" "23/ 47-48"، وفيه أيوب بن سويد، وهو ضعيف.
6 إنفاق الأموال في وجوه الخير عظيم، وهو عنوان الثقة بالله وتفويض الأمر إليه وهذا ما كان السلف الصالح يفعله، وأما السعي في اكتساب الرزق من طرقه المشروعة، فهو مما يحدث عليه الشرع ويستدعيه الاحتفاظ بعزة النفس وشرفها، ولا يحق للرجل أن ينكث يده من العمل وهو قادر عليه بدعوى أن تدبير الله له خير من تدبيره، ومن يفعل ذلك، فليس من الفضيلة في شيء، وليست هذه الدعوى إلا من مظاهر الكسل والإخلاد إلى الرضا مما تجود به أنعم العاملين، فترجع في الحقيقة إلى معنى أن تدبير الخلق له خير من تدبير نفسه. خ".

 

ج / 2 ص -324-       وهؤلاء هم أرباب الأحوال:
- ومنهم من يعد نفسه كالوكيل على مال اليتيم1، إن استغنى استعف، وإن احتاج أكل بالمعروف، وما عدا ذلك صرفه كما يصرف مال اليتيم في منافعه، فقد يكون في الحال غنيا عنه، فينفقه حيث يجب الإنفاق، ويمسكه حيث يجب الإمساك، وإن احتاج أخذ منه مقدار كفايته بحسب ما أذن له من غير إسراف ولا إقتار، وهذا أيضا براءة من الحظوظ في ذلك الاكتساب، فإنه لو أخذ بحظه لحابى نفسه دون غيره، وهو لم يفعل، بل جعل نفسه كآحاد الخلق، فكأنه قسام في الخلق يعد نفسه واحدا منهم.
وفي "الصحيح" عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد، فهم مني وأنا منهم"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "2/ 694-695، 701"، وسعيد بن منصور في "السنن" "4/ 1538/ رقم 788- ط الصميعي"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "12/ 324/ رقم 12690"، وابن جرير في "التفسير" "7/ 582/ رقم 8597"، وابن سعد في "الطبقات" "3/ 276"، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص112"، والبيهقي في "شعب الإيمان" "6/ 4، 5، 354"، وابن الجوزي في "مناقب عمر" "ص105" من طرق عن عمر، قال: "إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة والي مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، ثم قضيت" وهو صحيح بمجموع طرقه إن شاء الله تعالى. وفي رواية أنه قال ذلك لعمار وابن مسعود رضي الله عنهم حين ولاهما أعمال الكوفة، وفيها: "إني وإياكم في مال الله...." وذكر نحوه، وعبارة المصنف للشافعي في "الأم" "4/ 80"، وعنه السيوطي في "الأشباه" "135"، والبلاطنسي في "تحرير المقال" "144".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأشعريين" باب الشركة في الطعام والنهد والعروض 5/ 128/ رقم 2483"، ومسلم في الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأشعريين رضي الله عنهم 4/ 1944-1945/ رقم 2500" من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

 

ج / 2 ص -325-       وفي حديث المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار هذا1، وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل في مغازيه من هذا ما هو مشهور2، فالإيثار بالحظوظ محمود3 غير مضاد لقوله عليه الصلاة والسلام: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول"

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار/ رقم 3782" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قالت الأنصار: اقسم بيننا وبينهم النخيل. قال: لا، قال: تكفوننا المئونة، وتُشركوننا في التمر. قالوا: سمعنا وأطعنا".
وأخرج البخاري في "صحيحه" "رقم 3781"، في الكتاب والباب السابق وفي باب "كيف أخى النبي بين أصحابه" من الكتاب نفسه/ رقم 3937"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النكاح باب منه/ رقم 1427"، وغيرهما من حديث أنس، قال: "قدم عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق، فربح شيئا من أقط وسمن...."
2 قلت: أكتفي هنا بذكر مثال واحد وقع في غزوة تبوك، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، 1/ 55-56/ رقم 27" بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سير، قال: فنفدت أزواد القوم، قال: حتى هم بنحر بعض حمائلهم قال: فقال عمر: يا رسول الله لو جمعت ما بقي من أزواد القوم فدعوت الله عليها. قال: ففعل، قال: فجاء ذو البر ببره، وذو التمر بتمره. قال: وقال مجاهد: وذو النواة بنواه. قلت: وما كانوا يصنعون بالنوى؟ قال: كانوا يمصونه ويشربون عليه الماء، قال: فدعا عليها. قال: حتى ملأ القوم أزودتهم قال: فقال عند ذلك:
"أشهدُ أن لا إله إلا الله وأني رسولُ الله، لا يَلْقَى اللهَ بهما عَبْدٌ غَيْرُ شَاكٍّ فيهِمَا إلا دَخَلَ الجَنَّةَ".
وأخرجه أحمد في "مسنده" "3/ 11"، وقد تكلم بعضهم في صحة هذا الحديث بكلام متعقب، انظر: "شرح النووي على صحيح مسلم" "1/ 221-223".
3 وهو حاصل في أهل المرتبتين المذكورتين كما سيوضحه، وقوله: "ما أخذوا لأنفسهم" هذا في أهل المرتبة الثانية. "د".
4 أخرج البخاري في "صحيحه"كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، 4/ 294/ رقم 1427"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، 2/ 717/ رقم 1034" عن حكيم بن حزام مرفوعا:
"أفضل الصدقة عن ظهر =

 

ج / 2 ص -326-       بل يحمل على الاستقامة في حالتين.
فهؤلاء والذين قبلهم لم يقيدا أنفسهم بالحظوظ العاجلة، وما أخذوا لأنفسهم لا يعد سعيا في حظ؛ إذ للقصد إليه أثر ظاهر، وهو أن يؤثر الإنسان نفسه على غيره، ولم يفعل هنا ذلك، بل آثر غيره على نفسه، أو سوى نفسه مع غيره، وإذا ثبت ذلك كان هؤلاء بُرَءاء من الحظوظ، كأنهم عدوا أنفسهم بمنزلة من لم يجعل له حظ، وتجدهم في الإجارات والتجارات1 لا يأخذون إلا بأقل ما يكون من الربح أو الأجرة، حتى يكون ما حاول أحدهم2، من ذلك كسبا لغيره لا له، ولذلك بالغوا في النصيحة فوق ما يلزمهم؛ لأنهم كانوا وكلاء للناس لا لأنفسهم، فأين الحظ هنا؟ بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم وإن جازت كالغش لغيرهم، فلا شك أن هؤلاء لاحقون حكما بالقسم الأول، بإلزامهم أنفسهم لا باللزوم الشرعي الواجب ابتداء.
- ومنهم من لم يبلغ مبلغ هؤلاء، بل أخذوا ما ما أُذِن لهم فيه من حيث الإذن، وامتنعوا مما مُنِعوا منه، واقتصروا على الإنفاق في كل ما لهم إليه حاجة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=
غنىً، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول".
وأخرجه أبو الشيخ في "الأمثال" "رقم 193"، وابن عدي في "الكامل" "4/ 1586" بلفظ: "ليبدأْ أحدكم بمن يعول"
ويشهد لما ساقه المصنف أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة 2/ 692-693" عن جابر مرفوعا:
"ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء، فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا وهكذا" يقول: "فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك".
1 في الأصل: "في التجارات أو مع الإجارات".
2 في الأصل: "أخذهم".

 

ج / 2 ص -327-       فمثل هؤلاء بالاعتبار المتقدم أهل حظوظ، لكن مأخوذة من حيث يصح أخذها، فإن قيل في مثل هذا: إنه تجرد عن الحظ، فإنما يقال من جهة أنهم لم يأخذوها بمجرد أهوائهم تحرزا ممن يأخذها غير ملاحظ للأمر والنهي، وهذا هو الحظ المذموم؛ إذ1 لم يقف دون ما حد له، بل تجرأ كالبهيمة لا تعرف غير المشي في شهواتها، ولا كلام في هذا، وإنما الكلام في الأول، وهو لم يتصرف إلا لنفسه، فلا يجعل في حكم الوالي على المصالح العامة للمسلمين2، بل هو والٍ على مصلحة نفسه، وهو من هذا الوجه ليس بوالٍ عام، والولاية العامة هي المبرَّأة من الحظوظ، فالصواب والله أعلم أن أهل هذا القسم معاملون حكما بما قصدوا من استيفاء الحظوظ، فيجوز لهم ذلك بخلاف3 القسمين الأولين وهما من لا يأخذ بتسبب أو يأخذ به، لكن على نسبة القسمة ونحوها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "إذا".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "على المسلمين".
3 فلا يجوز لهما بمقتضى ما فرضوه على أنفسهم زهدًا وكمالًا في الأحوال لا بتكليف الشرع. "د".

 

ج / 2 ص -328-       المسألة الخامسة:
العمل إذا وقع على وفق المقاصد الشرعية، فإما على المقاصد الأصلية، أو المقاصد التابعة، وكل قسم من هذين فيه نظر وتفريع، فلنضع في كل قسم مسألة، فإذا وقع على مقتضى المقاصد الأصلية بحيث راعاها في العمل، فلا إشكال في صحته وسلامته مطلقا، فيما كان بريئا من الحظ1 وفيما روعى فيه الحظ؛ لأنه مطابق لقصد الشارع في أصل التشريع؛ إذ تقدم أن المقصود الشرعي في التشريع إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لله، وهذا كافٍ هنا.
وينبني عليه قواعد وفقه كثير:
من ذلك أن المقاصد الأصلية -إذا روعيت- أقرب إلى إخلاص العمل وصيرورته عبادة، وأبعد من مشاركة الحظوظ التي تغير في وجه محض العبودية.
وبيان ذلك أن حظ الإنسان ليس بواجب أن يراعيه من حيث هو حظه، على قولنا، إن إثبات الشرع له وإباحة الالتفات إليه إنما هو مجرد تفضل امتن الله به؛ إذ ليس بواجب على الله مراعاة مصالح العبيد، وهو أيضًا جارٍ على القول بالوجوب العقلي، فمجرد قصد الامتثال للأمر والنهي أو الإذن2 كافٍ في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: رأسا كالعبادات الصرفة، أو كان مما فيه الحظ بالعرض، فلا ينافي أنه عرف المقاصد الأصلية بأجمعها بأنها مما لا حظ فيها للمكلف، ويشير إليه قوله بعد: "ثم يندرج حظه في الجملة"، إلا أن يقال: إن ما فيه الحظ إذا خلصه العامل من الحظ، كان كالمقاصد الأصلية، ويأتي للكلام تتمة. "د".
2 ذكر الإذن بعد ذكر الأمر والنهي يقتضي أنه بمعنى الإباحة، وليس هذا من المقاصد الأصلية؛ لأنها كما تقدم الواجبات عينية أو كفائية، فلو حذفه كان أليق بالمقام، ويدل عليه أيضا قوله: "وفعله واقع على الضروريات وما حولها" إلا أن يقال: إنه تقدم له في المسألة الرابعة أن ما فيه الحظ -يعني: وهو من المقاصد التابعة- يتأتى تخليصه من الحظ، ويساوي ما كان مأمورًا به على ما سبق في تفصيل المسألة المذكورة والوجهين من النظر فيها، وكما يأتي له في الفصل الأول حيث يقول: "إن البناء على المقاصد الأصلية يُصَيِّر تصرفات المكلف كلها عبادات كانت من قبيل العبادات أو العادات" وفي الفصل الثاني يقول: "إن البناء على المقاصد الأصلية ينقل الأعمال إلى أحكام الوجوب". "د".

 

ج / 2 ص -329-       حصول كل غرض، فالمتوجّه إلى مجرد خطاب الشارع، العامل1 على وفقه ملبيًا له بريء من الحظ، وفعله واقع على الضروريات وما حولها ثم يندرج حظه في الجملة، بل هو المقدم شرعا على الغير.
فإذا اكتسب الإنسان امتثالا للأمر، أو اعتبارا بعلة الأمر، وهو القصد إلى إحياء النفوس على الجملة وإماطة الشرور عنها، كان هو2 المقدم شرعا:
"ابدأ بنفسك ثم بمن تعول"3، أو كان قيامه بما قام به قياما بواجب مثلا، ثم نظره في ذلك الواجب قد يقتصر على بعض النفوس دون بعض، كمن يقصد القيام بحياة نفسه من حيث هو مكلف بها، أو بحياة من تحت نظره، وقد يتسع نظره فيكتسب ليحيي به من شاء الله، وهذا أعم الوجوه وأحمدها وأعودها بالأجر؛ لأن الأول قد يفوته فيه أمور كثيرة، وتقع نفقته حيث لم يقصد، ويقصد غير ما كسب4 وإن كان لا يضره5 فإنه6 لم يكلِ التدبير إلى ربه، وأما الثاني، فقد جعل قصده وتصرفه في يد من هو على كل شيء قدير7، وقصد أن ينتفع بيسيره عالم كبير لا يقدر على حصره، وهذا غاية في التحقق بإخلاص العبودية، ولا يفوته من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "في التوجه إلى... فالعامل...".
2 إشارة إلى قوله: "ثم يندرج حظه في الجملة"، وقوله: "أو كان قيامه... إلخ" إشارة إلى قوله: "وفعله واقع على الضروريات وما حولها". "د".
3 مضى تخريجه "ص325".
4 في الأصل و"خ": "كتب".
5 في أنه قام بواجب شرعي، وأنه محمود أيضا. "د".
6 كذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "أنه".
7 في "ط": "وكيل".

 

ج / 2 ص -330-       حظه شيء.
بخلاف مراعاة المقاصد التابعة، فقد يفوته معها جُلُّ هذا أو جميعه؛ لأنه إنما يراعى مثلا زوال الجوع أو العطش أو البرد أو قضاء الشهوة أو التلذذ بالمباح مجردًا عن غير ذلك، وهذا وإن كان جائزا، فليس بعبادة ولا روعي فيه قصد الشارع الأصلي، وهو منجرٌّ1 معه، ولو روعي قصد الشارع لكان العمل امتثالا، فيرجع إلى التعلق بمقتضى الخطاب كما تقدم، فإذا لم يراعَ2، لم يبقَ إلا مراعاة الحظ خاصة، هذا وجه.
ووجه ثانٍ أن المقاصد الأصلية راجعة إما إلى مجرد الأمر والنهي3 من غير نظر في شيء سوى ذلك، وهو بلا شك طاعة للأمر وامتثال لما أمر لا داخلة فيه، وإما إلى ما4 فُهِم من الأمر من أنه عبد استعمله سيده في سخرة عبيده، فجعله وسيلة وسببًا إلى وصول حاجاتهم إليهم كيف يشاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فهو وإن كان عمله موافقا لقصد الشارع ولم يخالفه، إلا أنه لم يراعِ ذلك في عمله حتى يكون خارجا عن داعية هواه، أي أنه لم يعمل التفاتا لمقتضى خطاب الشارع أمرا أو نهيا أو إذنا، بل بمقتضى مجرد حاجته هو وداعية شهوته بقطع النظر عن الخطاب. "د".
2 في الأصل: "يرعَ".
3 لم يذكر هنا ما يتعلق بالمباح، فيقول: "أو توجهه للخطاب بالإذن، وقد ذكر الإذن في الوجه الأول، واحتجنا فيه إلى التكلف لتصحيح الكلام بجعله داخلا في المقاصد الأصلية، على أنه في الأول أيضا عند قوله: "فإذا اكتسب الإنسان امتثالا للأمر... إلخ"، لم يذكر الإذن، ومحصل الفرق بين هذا الوجه وما قبله أنه جعل هناك حكمة الأمر إحياء النفوس وإماطة الشرور عنها، وهنا جعل الحكمة أنه عبد سخره سيده في مصلحة عبيده وجعله وسيلة لإيصال حاجاتهم إليهم، ولم يقل هنا: "إنه يكون مقدما"، بل قال: "فكأن السيد هو القائم له بحظه"، فهل يعتبر هذا وذاك فيما به التغاير بين الوجهين؟ تأمل. "د".
4 في الأصل: "إذا ما فهم".

 

ج / 2 ص -331-       وهذا أيضًا لا يخرج عن اعتبار مجرد الأمر، فهو عامل بمحض العبودية، مسقط لحظه فيها، فكأن السيد هو القائم له بحظه، بخلاف العامل لحظه، فإنه لما لم يقم بذلك من حيث مجرد الأمر، ولا من حيث فهم مقصود الآمر، ولكنه قام به من جهة استجلاب حظه أو حظ من له فيه حظ، فهو إن امتثل1 الأمرَ فمن جهة نفسه، فالإخلاص على كماله مفقود في حقه، والتعبد بذلك العمل منتفٍ، وإن لم يمتثل الأمر، فذلك أوضح في عدم القصد إلى التعبد، فضلا عن أن يكون مخلصا فيه، وقد يتخذ الأمر والنهي عاديين لا عباديين، إذا غلب عليه طلب حظه، وذلك نقص.
ووجه ثالث وهو أن القائم على المقاصد الأُوَل قائم بعبء ثقيل جدا، وحمل كبير من التكليف لا يثبت تحته طالب الحظ في الغالب، بل يطلب حظه بما هو أخف، وسبب ذلك أن هذا الأمر2 حالة داخلة على المكلف شاء أم3 أبى، يهدي الله إليها من اختصه بالتقريب من عباده، ولذلك كانت النبوة أثقل الأحمال وأعظم التكاليف، وقد قال تعالى4:
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5].
فمثل هذا لا يكون إلا مع اختصاص زائد، بخلاف طالب الحظ، فإنه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو بهذا المعنى يكون فعله فعلا لمباح بدون نية لشيء سوى حظه، ومثل هذا لا يقال فيه: إنه امتثل الأمر، بل وافقه؛ لأن الامتثال يحتاج للقصد والنية، ويدل عليه قوله: "والتعبد بذلك منتفٍ". "د".
2 هو القيام على المقاصد الأول، وقوله: "الأول محمول"، أي: له حامل وباعث قوي من جهة سيده، يحفزه على القيام بمشاق الأعمال، فيستريح لها. "د".
3 في "د": "أو".
4 يصح أن يفهم ثقل القول في الآية على الرصانة والامتلاء من الحكمة التي تطمئن إليهما العقول الراجحة، وكذلك القرآن لإنزال حقائقه راسية وأنوار هدايته متدفقة على الرغم من كثرة من يحاول نقده، ويثير غبار الشبه في عين من يؤمن بأنه تنزيل من حكيم حميد. "خ".

 

ج / 2 ص -332-       عامل بنفسه، وغير مستويين فاعل وفاعل بنفسه، فالأول محمول، والثاني عامل بنفسه، فلذلك قلما تجد صاحب حظ يقوم بتكليف شاق، فإن رأيت من يدعي تلك الحال، فاطلبه بمطالب أهل ذلك المقام، فإن أوفى به، فهو ذاك، وإلا، علمت أنه متقول قلما يثبت عند ما ادعى، وإذا ثبت أن صاحب المقاصد الأول محمول، فلذلك أثر من آثار الإخلاص، وصاحب الحظ1 ليس بمحمول ذلك الحمل إلا بمقدار ما نقص عنده حظه، فإذا سقط حظه ثبت قصده في المقاصد الأول، وثبت له الإخلاص، وصارت أعماله عبادات.
فإن قيل: فنحن نرى كثيرا ممن يسعى في حظه وقد بلغ الرتبة العليا في أهل الدين، بل قد جاء عن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب الطيب، والنساء2 والحلواء والعسل3، وكان تعجبه الذراع4، ويستعذب له الماء5، وأشباه ذلك مما هو اتباع لحظ النفس؛ إذ كان لا يمتنع مما يشتهيه من الحلال، بل كان يستعمله إذا وجده، وقد بلغ الرتبة العليا في أهل الدين، وهو أتقى الخلق وأزكاهم، و"كان خلقه القرآن"6، فهذا في هذا الطرف.
ونرى أيضا كثيرا ممن يسقط حظ نفسه ويعمل لغيره أو في مصالح العباد بمقتضى ما قدر عليه صادقا في عمله، ومع ذلك، فليس له في الآخرة من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الذي خلط في عمله بين الحظ وبين الالتفات إلى الامتثال، ليس له من هذا المقام إلا بمقدار قلة مراعاة للحظ، وسيقول في آخر الفصل: "وأن المقاصد التابعة أقرب إلى عدم الإخلاص ولا أنفيه". "د".
2 مضى "ص240": "حُبِّبَ إليَّ من دنياكم الطيب والنساء"، وهو صحيح.
3 مضى "1/ 185".
4 مضى "1/ 185".
5 مضى "1/ 185".
6 كما أخبرت بذلك عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل 1/ 512-513/ رقم 746".

 

ج / 2 ص -333-       خلاق، ككثير من رهبان النصارى وغيرهم ممن تزهد وانقطع عن الدنيا وأهلها، ولم يلتفت إليها ولا أخطرها بباله، واتخذ العبادة والسعي في حوائج الخلق دأبا وعادة، حتى صار في الناس آية، وكل ما يعمله مبني على باطل محض، وبين هذين الطرفين وسائط لا تحصى تقرب من الفريقين.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن ما زعمت ظواهر، وغائبات الأمور قد لا تكون معلومة، فانظر ما قاله الإسكاف في "فوائد الأخبار" في قوله عليه الصلاة والسلام:
"حُبِّبَ إليَّ من دنياكم ثلاثٌ"1 يَلُحْ لك من ذلك المطلع خلافُ ما توهمت من طلب الحظ الصرف إلى طلب الحق الصرف، ويدل عليه أنه جعل من الثلاث الصلاة، وهي أعلى العبادات بعد الإيمان، وهكذا يمكن أن يقال في سواها.
وأيضا، فإنه لا يلزم من حب الشيء أن يكون مطلوبا بحظ لأن الحب أمر باطن لا يملك، وإنما ينظر فيما ينشأ عنه من الأعمال، فمن أين لك أنه كان عليه الصلاة والسلام يتناول تلك الأشياء لمجرد الحظ، دون أن يتناوله من حيث الإذن؟ وهذا هو عين البراءة من الحظ، وإذا تبين هذا في القدوة الأعظم صلى الله عليه وسلم تبين نحوه في كل مقتدىً به ممن اشتهرت ولايته.
وأما الكلام عن الرهبان2، فلا نسلم أنها مجردة من الحظ، بل هي عين الحظ، واستهلاك في هوى النفس؛ لأن الإنسان قد يترك حظه في أمر إلى حظ هو أعلى منه، كما ترى الناس يبذلون المال في طلب الجاه لأن حظ النفس في الجاه أعلى، ويبذلون النفوس في طلب الرياسة حتى يموتوا في طريق ذلك، وهكذا الرهبان قد يتركون لذات الدنيا للذة الرياسة والتعظيم، فإنها أعلى، وحظ الذكر والتعظيم والرياسة والاحترام والجاه القائم في الناس من أعظم الحظوظ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث صحيح دون لفظة: "ثلاث"، وقد خرجناه "ص240".
2 في "ط": "في الرهبان".

 

ج / 2 ص -334-       التي يستحقر متاع الدنيا في جنبها، وذلك أول1 منهي في مسألتنا، فلا كلام فيمن هذا شأنه، ولذلك قالوا: "حب الرياسة آخر ما يخرُج من رءوس الصديقين"، وصدقوا.
والثاني: أن طلب الحظوظ قد يكون مبرءًا من الحظوظ وقد لا يكون كذلك، والفرق بينهما أن الباعث على طلبه أولا إما أن يكون أمر الشارع أولا، فإن كان أمر الشارع، فهو الحظ المبرأ المنزه؛ لأن نفسه عنده تنزلت منزلة غيره، فكما يكون في مصالح غيره مبرءًا عن الحظ، كذلك يكون في مصالح نفسه وذلك بمقتضى القصد الأول، وهذا شأن من ذكر في السؤال، ولا يعد مثل هذا حظا ولا سعيا فيه بحسب القصد؛ لأن القصد التابع إذا كان الباعث عليه القصد الأصلي كان فرعا من فروعه، فله حكمه فأما إن لم يرتبط بالقصد الأول، فإنه سعى في الحظ، وليس ما نحن فيه هكذا.
وأما2 شأن الرهبان ومن أشبههم، فقد يتفق لهم هذه الحالة وإن كانت فاسدة الوضع، فينقطعون في الصوامع والديارات، ويتركون الشهوات واللذات، ويسقطون حظوظهم في التوجه إلى معبودهم، ويعملون في ذلك غاية ما يمكنهم من وجوه التقرب إليه، وما يظنون أنه سبب إليه، ويعاملونه في الخلق وفي أنفسهم حسبما يفعله المحق في الدين حرفا بحرف، ولا أقول: "إنهم غير مخلصين، بل هم مخلصون إلى من عبدوا، ومتوجهون صدقا إلى من عاملوا، إلا أن كل ما يعملون مردود عليهم، لا ينفعهم الله بشيء منه في الآخرة؛ لأنهم بنوا على غير أصل:
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 2-4] والعياذ بالله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه أشد بواعث الهوى الذي وضعت الشريعة لإخراج العبد من ربقته. "د".
2 في الأصل: "وما".

 

ج / 2 ص -335-       ودونهم في ذلك أهل البدع والضلال من أهل هذه الملة، وقد جاء في الخوارج ما علمت من قوله عليه الصلاة والسلام في ذي الخويصرة: "دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم"1 الحديث، فأخبر أن لهم عبادة تستعظم وحالا يستحسن ظاهره2، لكنه مبني على غير أصل، فلذلك قال فيهم: "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"3، وأمر عليه الصلاة والسلام بقتلهم4، ويوجد في أهل الأهواء من هذا كثير.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 6 / 617-618/ رقم 3610، وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب من ترك قتال الخوارج للتألف6 ولئلا ينفر الناس عنه، 12/ 290/ رقم 6933، وكتاب فضائل القرآن، باب إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكل به أو فجر به، 9/ 99/ رقم 5058"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 2/ 744/ رقم 1064 بعد 148" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
2 إن كان المراد من الدين في قوله:
"يمرقون من الدين" أصل الإسلام، كان فساد أعمال هذه الفرقة من جهة أنها لم تكن قائمة على أساس الصحة الذي هو الإيمان، أما إذا أريد من الدين الطاعة وذهبنا إلى أنهم داخلون في حساب المسلمين على ما هم من الابتداع، فإنما يبطل من أعمالهم ما لم يأتِ على وضعه الشرعي أو لم يتوجهوا فيه إلى الله بنية خالصة. "خ".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 6 / 618/ رقم 3611، وكتاب استتابة المرتدين، باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، 12/ 283/ رقم 6930"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج، 2/ 746-747/ رقم 1066" عن علي رضي الله عنه.
4 ورد في آخر الحديث السابق:
"أينما لقيتموهم فاقتلوهم".
قال "د": "هذا دليل على أن معنى مروقهم من الدين خروجهم من أصل الإسلام، لا مطلق المعصية، فلا وجه لتردد بعضهم هنا".
قلت: وكلامه متعقب من وجوه كثيرة، انظرها في: "منهاج السنة النبوية" "3/ 27، 60 وما بعدها"، و"الرد على البكري" "ص256-260"، و"المسائل الماردينية" "ص65-70"،=

 

ج / 2 ص -336-       ...................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= و" مجموعة الرسائل والمسائل" "5/ 199 وما بعدها"، وقد قرر المصنف في كتابه "الاعتصام" "2/ 185-187" عدم التكفير، فقال:
"وقد اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع العظمى، ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر: عدم القطع بتكفيرهم، والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم، ألا ترى صنع علي رضي الله عنه في الخوارج، وكونه عاملهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام، على مقتضى قول الله تعالى:
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الآية؟!
فإنه لما اجتمعت الحرورية وفارقت الجماعة، لم يهاجمهم علي رضي الله عنه ولا قاتلهم، ولو كانوا بخروجهم مرتدين، لم يتركهم لقوله عليه الصلاة والسلام: "من بدل دينه فاقتلوه" ولأن أبا بكر رضي الله عنه خرج لقتال أهل الردة ولم يتركهم، فدل ذلك على اختلاف ما بين المسألتين.
وأيضا، فحين ظهر معبد الجهني وغيره من أهل القدر، لم يكن من السلف الصالح لهم إلا الطرد والإبعادة والعداوة والهجران، ولو كانوا خرجوا إلى كفر محض، لأقاموا عليهم الحد المقام على المرتدين، وعمر بن عبد العزيز أيضا لما خرج في زمانه الحرورية بالموصل، أمر بالكف عنهم على ما أمر به علي رضي الله عنه، ولم يعاملهم معاملة المرتدين.
ومن جهة المعنى إنا وإن قلنا: "إنهم متبعون الهوى ولما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فإنهم ليسوا بمتبعين للهوى بإطلاق، ولا متبعين لما تشابه من الكتاب من كل وجه، ولو فرضنا أنهم كذلك، لكانوا كفارا؛ إذ لا يتأتى ذلك من أحد في الشريعة إلا مع رد محكماتها عنادا، وهو كفر.
وأما من صدق الشريعة ومن جاء بها، وبلغ فيها مبلغا يظن به أنه متبع للدليل بمثله، لا يقال: إنه صاحب هوى بإطلاق، بل متبع للشرع في نظره، لكن بحيث يمازجه الهوى في مطالبه من جهة إدخال الشبه في المحكمات بسبب اعتبار المتشابهات، فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته، وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما دل عليه الدليل على الجملة.
وأيضا، فقد ظهر منهم اتحاد القصد مع أهل السنة والجماعة على مطلب واحد، وهو الانتساب إلى الشريعة.
وأيضا، فقد يعرض الدليل على المخالف منهم، فيرجع إلى الوفاق لظهوره عنده، كما رجع من الحرورية الخارجين على علي رضي الله عنه ألفان، وإن كان الغالب عدم الرجوع"، انتهى كلام الشاطبي، ثم حكى كيف رجع الألفان من الحرورية لما جاءهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وناقشهم فآبوا إلى الحق ورجعوا.

 

ج / 2 ص -337-       وعلى الجملة، فالإخلاص في الأعمال إنما يصح خلوصه من اطراح الحظوظ1، لكنه إن كان مبنيا على أصل صحيح كان منجيا عند الله، وإن كان [مبنيا] على أصل فاسد، فبالضد، ويتفق هذا كثيرا في أهل المحبة، فمن طالع أحوال المحبين رأى اطِّراحَ الحظوظ وإخلاص الأعمال لمن أحبوا على أتم الوجوه التي تتهيأ من الإنسان.
فإذن، قد ظهر أن البناء على المقاصد الأصلية أقرب إلى الإخلاص، وأن المقاصد التابعة أقرب إلى عدمه، ولا أنفيه.
فصل:
ويظهر من هنا أيضا أن البناء على المقاصد الأصلية يُصَيِّرُ تصرفاتِ المكلف كلها عبادات، كانت من قبيل العبادات أو العادات؛ لأن المكلف إذا فهم مراد الشارع من قيام أحوال الدنيا، وأخذ في العمل على مقتضى ما فهم، فهو إنما يعمل من حيث طلب منه العمل، ويترك إذا طلب منه الترك، فهو أبدا في إعانة الخلق على ما هم عليه من إقامة المصالح باليد واللسان والقلب2.
أما باليد، فظاهر في وجوه الإعانات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إنما يصح خلوص الإخلاص وكماله بسبب اطراح الحظوظ، وما بقي للحظ رائحة، فليس الإخلاص كاملا، في أي عمل فرضته. "د".
2 قرر رحمه الله في كتابه "الاعتصام" "1/ 32/ 34- ط محمد رشيد رضا" هذا المعنى بتفصيل، وله رسالة كتبها لبعض أصحابه فيها ضرورة الدعوة إلى الحق وأمانة نشره، تراها في "المعيار المعرب" "11/ 139"، و"فتاوى الشاطبي" "ص182-185"، وله أيضا في "المعيار" "11/ 141" وصية يحمل فيها أصحابه على الصبر على البلاء في بث العلم ونشره.

 

ج / 2 ص -338-       وأما باللسان، فبالوعظ والتذكير بالله أن يكونوا فيما هم عليه مطيعين لا عاصين، وتعليم ما يحتاجون إليه في ذلك من إصلاح المقاصد والأعمال، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالدعاء بالإحسان لمحسنهم والتجاوز عن مسيئهم.
وبالقلب لا يضمر لهم شرا، بل يعتقد لهم الخير، ويعرفهم بأحسن الأوصاف التي اتصفوا بها ولو بمجرد الإسلام، ويعظمهم ويحتقر نفسه بالنسبة إليهم، إلى غير ذلك من الأمور القلبية المتعلقة بالعباد.
بل لا يقتصر في هذا على جنس الإنسان، ولكن تدخل عليه الشفقة على الحيوانات كلها، حتى لا يعاملها إلا بالتي هي أحسن، كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام:
"في كل ذي كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجرٌ"1، وحديث تعذيب المرأة في هرة ربطتها"2، وحديث: "إن الله كتب الإحسان على كل مسلم، فإذا قتلتم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء/ رقم 2363، وكتاب المظالم، باب الآبار التي على الطريق إذا لم يُتأذَّ منها/ رقم 2466، وكتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم/ رقم 6009" و"الأدب المفرد" "378"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب فضل سقي البهائم وإطعامها/ رقم 2244 بعد 153"، ومالك في "الموطأ" "2/ 929-930"، وأحمد في "المسند" "2/ 521"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الجهاد، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم/ رقم 2550"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 537- الإحسان"، والبيهقي في "الآداب" "رقم 46"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "113".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم/ رقم 2318، وكتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء/ رقم 2365، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب 54/ رقم 3482"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب تحريم قتل الهرة، 4/ 1760/ رقم 2242، وكتاب البر والصلة، باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذي، 4/ 2022".
وانظر تفصيل التخريج في كتابنا "من قصص الماضيين" "ص343-345".

 

ج / 2 ص -339-       فأحسنوا القتلة" الحديث1 إلى أشباه ذلك.
فالعامل بالمقاصد الأصلية عامل في هذه الأمور في نفسه امتثالا لأمر ربه، واقتداءً بنبيه عليه الصلاة والسلام، فكيف لا تكون تصاريف مَن هذه سبيله عبادةً كلَّها؟ بخلاف من كان عاملا على حظه2، فإنه إنما يلتفت [إلى]3 حظه أو ما كان طريقا إلى حظه، وهذا ليس بعبادة على الإطلاق، بل هو عامل في مباح إن لم يُخِلَّ بحق الله أو بحق غيره فيه، والمباح لا يُتعبَّد إلى الله به، وإن فرضناه قام على حظه من حيث أمره الشارع، فهو عبادة بالنسبة إليه خاصة، وإن فرضته كذلك، فهو خارج عن داعية حظه بتلك النسبة.
فصل:
ومن ذلك أن البناء على المقاصد الأصلية ينقل الأعمال في الغالب إلى أحكام الوجوب؛ إذ المقاصد الأصلية دائرة على حكم الوجوب، من حيث كانت حفظا للأمور الضرورية في الدين المراعاةِ باتفاق، وإذا كانت كذلك صارت الأعمال الخارجة عن الحظ دائرة على الأمور العامة، وقد تقدم أن غير الواجب بالجزء يصير واجبا بالكل، وهذا عامل بالكل4 فيما هو مندوب بالجزء أو مباح يختل النظام باختلاله، فقد صار عاملا بالوجوب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة 3/ 1548/ رقم 1955"، وغيره عن شداد بن أوس ولكن بلفظ: "شيء" بدل "مسلم" وكذا سيأتي عند المصنف "3/ 396"، ومضى تخريجه "1/ 217".
وانظر سائر الأحاديث الواردة في هذا الباب في كتاب السخاوي "تحرير الجواب في ضرب الدواب" بتحقيقنا.
2 في "ماء/ 189": "حظوظه".
3 سقط من "ط".
4 أي: عامل بقصد الأمر الكلي، وهو إقامة المصالح العامة للناس، لا لخصوص نفسه، سواء أكان الفعل الجزئي مندوبا أم كان مباحا يختل النظام إذا اختل. "د".

 

ج / 2 ص -340-       فأما البناء [على المقاصد التابعة، فهو بناء على الحظ الجزئي، والجزئي لا يستلزم الوجوب، فالبناء]1 على المقاصد التابعة لا يستلزم الوجوب، فقد يكون العمل مباحا، إما بالجزء وإما بالكل والجزء معا، وإما مباحا بالجزء مكروها، أو ممنوعا بالكل، وبيان هذه الجملة في كتاب الأحكام.
فصل:
ومن ذلك أن المقصد2 الأول إذا تحراه المكلف يتضمن القصد إلى كل ما قصده الشارع في العمل من حصول مصلحة أو درء مفسدة، فإن العامل به إنما قصده تلبية أمر الشارع، إما بعد فهم ما قصد3، وإما لمجرد امتثال الأمر، وعلى كل تقدير، فهو قاصد ما قصده الشارع، وإذا ثبت أن قصد الشارع أعم المقاصد وأولها وأولاها، وأنه نور صرف لا يشوبه غرض ولا حظ، كان المتلقي له على هذا الوجه آخذا له زكيا وافيا كاملا، غير مشوب ولا قاصر عن مراد الشارع، فهو حَرٍ أن يترتب الثواب فيه للمكلف على تلك النسبة.
وأما القصد التابع، فلا يترتب عليه ذلك كله؛ لأن أخذ الأمر والنهي بالحظ أو أخذ العمل بالحظ قد قصره قصد الحظ عن إطلاقه، وخص عمومه، فلا ينهض نهوض الأول.
شاهده قاعدة:
"الأعمال بالنيات"4، وقوله عليه الصلاة والسلام: "الخيل لِرَجل أجرٌ، ولرجل سترٌ، وعلى رجل وِزرٌ، فأما الذي هي له أَجْرٌ، فرَجُل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة، فما أصابت في طيلها ذلك من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 في الأصل: "المقصود".
3 في الأصل: "مقصودا".
4 سيأتي تخريجه "ص355"، وهو في الصحيحين".

 

ج / 2 ص -341-       المرج أو الروضة كان له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها ذلك، فاستَنَّت شرفًا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهرٍ، فشربت منه لم يرد أن يسقي به كان ذلك له حَسَنات"1، فهي له أجر في هذا الوجه من الحديث لصاحب القصد الأول؛ لأنه قصد بارتباطها سبيل الله، وهذا عام غير خاص، فكان أجره في تصرفاته عاما أيضا غير خاص، ثم قال عليه الصلاة والسلام: "ورجل ربطها تَغَنِّيًا وتَعَفُّفًا ولم يَنْسَ حقَّ الله في رِقَابِهَا ولا ظهورها، فهي له ستر"2 فهذا في صاحب الحظ المحمود لما قصد وجها خاصا وهو حظه، كان حكمها مقصورا على ما قصد، وهو الستر، وهو صاحب القصد التابع، ثم قال عليه الصلاة والسلام: "ورجُلٌ ربطها فخرًا ورياءً ونواءً لأهل الإسلام فهي على ذلك وزرٌ"4، فهذا في الحظ المذموم المستمد من أصل متابعة الهوى، ولا كلام فيه هنا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب شرب الناس وسقي الدواب من الأنهار 5/ 45-46/ رقم 2371، وكتاب الجهاد، باب الخيل لثلاثة 6/ 63-64/ رقم 2860، وكتاب المناقب، باب منه 6/ 633/ رقم 3646، وكتاب التفسير، باب قوله:
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} 8/ 726/ رقم 4962، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الأحكام التي تعرف بالدلائل 6/ 329/ رقم 7356"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة 2/ 680-683/ رقم 987" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والمرج: مرعى الدواب ومرج الدابة: أرسلها ترعى، وطيلها: حبلها الذي تربط فيه، والشَّرَف، بالتحريك: الشوط، أي الجري مرة إلى الغاية، وهو الطلق.
"2و 4" قطعة من الحديث السابق.
3 اتخاذ أدوات الحرب مناوأة لأهل الإسلام قد يكون فسوقا كمن يتخذ الخيل للإغارة على الأموال المحترمة مثلما يفعل بعض قطاع الطريق، وقد يعد نبذًا للدين جملة، ودخولا في زمرة المخالفين عقيدة وحكما، كمن يركبها منضما إلى جيش العدو والزاحف على بلد إسلامي؛ لتكون كلمته هي العليا ويذيق المسلمين من مرارة سلطته القاهرة عذابا مهينا. "خ".

 

ج / 2 ص -342-       ويجري مجرى العمل بالقصد الأول الاقتداء بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بالصحابة أو التابعين؛ لأن ما قصدوا يشمله قصد المقتدي في الاقتداء، وشاهده الإحالة في النية على نية المقتدى به، كما في قول [بعض]1 الصحابة في إحرامه: "بما أحرم به رسول الله صلى الله عليه وسلم"2، فكان حجة في الحكم كذلك يكون في غيره من الأعمال.
فصل:
ومن ذلك أن العمل على المقاصد الأصلية يصيِّرُ الطاعة أعظم، وإذا خولفت كانت معصيتها أعظم.
أما الأول:
فلأن العامل على وفقها عامل على الإصلاح [العام] لجميع الخلق والدفع عنهم على الإطلاق؛ لأنه إما قاصد لجميع ذلك بالفعل، وإما قاصر نفسه على امتثال الأمر الذي يدخل قصده كل ما قصده الشارع بذلك الأمر، وإذا فعل [ذلك] جوزي على كل نفس أحياها، وعلى كل مصلحة عامة قصدها، ولا شك في عظم هذا العمل، ولذلك كان من أحيا النفس فكأنما أحيا الناس جميعا3، وكان العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء4 بخلاف ما إذا لم يعمل على وفقه، فإنما يبلغ ثوابه مبلغ قصده؛ لأن الأعمال بالنيات، فمتى كان قصده أعم، كان أجره أعظم، ومتى لم يعم قصده، لم يكن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. وفي "ط": "قول الصحابي".
2 هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، روى جابر في حديثه الطويل الذي أخرجه مسلم في "كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 2/ 888/ رقم 1218"، وفيه: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي:
"ماذا قلت حين فرضت الحج؟". قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك..." إلخ.
3 سيأتي النص الوارد في ذلك "ص386" ومضى "1/ 222-223".
4 مضى النص الوارد في ذلك "1/ 363".

 

ج / 2 ص -343-       أجره إلا على وزان ذلك، وهو ظاهر.
وأما الثاني:
فإن العامل على مخالفتها عامل على الإفساد العام، وهو مضاد للعامل على الإصلاح العام، وقد مر أن قصد الإصلاح العام يعظم به الأجر، فالعامل على ضده يعظم به وزره، ولذلك كان ابن آدم الأول كفل من وزر كل من قتل النفس المحرمة؛ لأنه أول من سن القتل1، وكان من قتل النفس فكأنما قتل الناس جميعا، و
"من سن سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها"2.
فصل:
ومن هنا تظهر قاعدة أخرى، وهي أن أصول الطاعات وجوامعها إذا تتبعت وجدت راجعة إلى اعتبار المقاصد الأصلية، وكبائر الذنوب إذا اعتبرت وجدت في مخالفتها، ويتبين لك ذلك بالنظر في الكبائر المنصوص عليها وما ألحق بها قياسا، فإنك تجده مطَّرِدًا إن شاء الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي النص الوارد في ذلك "ص386" ومضى "1/ 222-223".
2 سيأتي تخريجه "ص385"، ومضى "1/ 223".

 

ج / 2 ص -344-       المسألة السادسة:
العمل إذا وقع على وفق المقاصد التابعة، فلا يخلو أن تصاحبه المقاصد الأصلية، أو لا.
فأما الأول؛ فعمل بالامتثال بلا إشكال1، وإن كان سعيا في حظ النفس.
وأما الثاني، فعمل بالحظ والهوى مجردا.
والمصاحبة إما بالفعل، ومثاله أن يقول مثلا: هذا المأكول، أو هذا الملبوس، أو هذا الملموس، أباح لي الشرع الاستمتاع به، فأنا أستمتع2 بالمباح وأعمل باستجلابه؛ لأنه مأذون فيه، وإما بالقوة ومثاله أن يدخل في التسبب إلى ذلك المباح من الوجه المأذون فيه، لكن نفس الإذن لم يخطر بباله، وإنما خطر له أن هذا يتوصل إليه3 من الطريق الفلاني، فإذا توصل إليه منه، فهذا في الحكم الأول، إذا كان الطريق التي توصل إلى المباح من جهته مباحا، إلا أن المصاحبة بالفعل أعلى، ويجري غير4 المباح مجراه في الصورتين.
فإذا تقرر هذا، فبيان كونه عاملا5 بالحظ والامتثال أمران:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي استشكاله، إلا أن يقال: إن هذا منه تنبيه على أن لم يبقَ بعد الجواب أثر للإشكال في نظره. "د".
2 أي: يقضي شهوة نفسه؛ لأنه مأذون فيه، فقد جمع بين الأمرين كما ترى. "د".
3 أي: فتخيره للطريق المباح من بين الطرق، وتحريه عنه ما جاء إلا من جهة التفاته لإذن الشارع، فيكون في قوة القول المذكور. "د".
4 وهو المندوب. "د".
5 أي: في الصورتين، والغرض بيان صحة مصاحبة الحظ والمقاصد التابعة للمقاصد الأصلية، وأن ذلك لا يكون اتباعا للهوى. "د".
قلت: وفي الأصل: "عاملا بالحق".

 

ج / 2 ص -345-       أحدهما:
أنه لو لم يكن كذلك، لم يجز1 لأحد أن يتصرف في أمر عادي حتى يكون القصد في تصرفه مجرد امتثال الأمر، من غير سعي في حظ نفسه ولا قصد في ذلك2، بل كان يمتنع3 للمضطر أن يأكل الميتة حتى يستحضر هذه النية ويعمل على هذا القصد المجرد من الحظ، وهذا غير صحيح باتفاق، ولم يأمر الله تعالى ولا رسوله بشيء من ذلك، ولا نهى عن قصد الحظوظ في الأعمال العادية على حال، مع قصد الشارع للإخلاص في الأعمال وعدم التشريك فيها، وأن لا يلحظ فيها غير الله تعالى، فدل على أن القصد للحظ في الأعمال إذا كانت عادية لا ينافي أصل الأعمال.
فإن قيل: كيف يتأتى قصد الشارع للإخلاص في الأعمال العادية وعدم التشريك فيها؟
قيل: معنى ذلك أن تكون معمولة على مقتضى المشروع، لا يقصد بها عمل جاهلي، ولا اختراع شيطاني، ولا تشبه بغير أهل الملة، كشرب الماء أو العسل في صورة شرب الخمر، وأكل ما صنع لتعظيم أعياد اليهود أو النصارى وإن صنعه المسلم، أو ما ذبح على مضاهاة الجاهلية4، وما أشبه ذلك مما هو نوع من تعظيم الشرك.
كما روى ابن حبيب عن ابن شهاب أنه ذكر له أن إبراهيم بن هشام بن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه يكون انغماسا في اتباع الهوى المنهي عنه؛ لأن صاحبة الحظ إذا كانت مسقطة لما صاحبها من قصد الامتثال كان ما ذكره لازما. "د".
2 في الأصل و"ط": "لذلك".
3 أي: وأكل الميتة للمضطر من باب الواجب المتعلق بأمر عادي وهو إقامة الحياة. "د".
4 بعدها في "ط": "ودعاء الجاهلية".

 

ج / 2 ص -346-       إسماعيل المخزومي أجرى عينا، فقال له المهندسون عند ظهور الماء: لو أهرقت عليها دما كان أحرى أن لا تغيض ولا تهور، فتقتل من يعمل فيها. فنحر جزائر حين أرسل الماء فجرى مختلطا بالدم، وأمر فصنع له ولأصحابه منها طعام، فأكل وأكلوا، وقسم سائرها بين العمال فيها، فقال ابن شهاب: بئس والله ما صنع، ما حل له نحرها ولا الأكل منها، أما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى1 أن يُذبَح للجن"2؛ لأن مثل هذا وإن ذكر اسم الله عليه مضاهٍ لما ذُبِحَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كتب بعض الناظرين هنا أن دعوى رؤية الجن أو التلقي عنهم أو التزوج بهم أو استحقاقهم لأن يتقرب إليهم بالذبائح كلها خرافات ومزاعم سخيفة ابتدعت بعد صدر الإسلام. ا.هـ. [قلت: هذا كلام "خ"، وسيأتي في آخر التعليق الآتي].
وأقول: إن الكلام في رؤية الجن مع كونه نابيًا عن المقام هنا، فهو مخالف لما ورد في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم:
"أن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع صلاتي"، وحديث البخاري عن أبي هريرة في حراسة الزكاة، وأنه علمه أن يقرأ آية الكرسي فلا يقربه شيطان حتى يصبح، إلى غير ذلك. "د" قلت: سيأتي تخريج حديث تفلت الجني "ص441".
2 أخرجه أبو عبيد في "الغريب" "2/ 221"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 314" عن الزهري مرسلا بإسناد فيه عمر بن هارون، وهو متفق على ضعفه، واتهمه ابن معين وصالح جزرة بالكذب.
وأخرجه ابن حبان في "المجروحين" "2/ 19"، وابن الجوزي في "الموضوعات" "2/ 302" من طريق عبد الله بن أذينة عن ثور بن يزيد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعا.
قال ابن حبان عن ابن أذينة: "منكر الحديث جدا، يروي عن ثور ما ليس من حديثه، لا يجوز الاحتجاج به"، وقال الحاكم والنقاش: "روى أحاديث موضوعة". انظر: "اللسان" "3/ 257".
وقال البيهقي عقب الحديث: "قال -أي الزهري: وأما ذبائح الجن أن تشتري الدار، وتستخرج العين، وما أشبه ذلك، فتذبح لها ذبيحة للطيرة، وقال أبو عبيد: وهذا التفسير في الحديث معناه أنهم يتطيرون إلى هذا الفحل مخافة أنهم إن لم يذبحوا فيطعموا أن يصيبهم فيها شيء من =

 

ج / 2 ص -347-       على النصب وسائر ما أهل لغير الله به.
وكذلك جاء النهي عن "معاقرة الأعراب"1، وهي أن يتبارى الرجلان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الجن يؤذيهم، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم هذا، ونهى عنه".
قلت: الحديث موضوع، ومعناه المذكور يدخل فيه الأحاديث الصحيحة التي تنهى عن الطيرة. وفي "ط": "نهى عن ذبائح الجن، يريد، نهى أن يُذبَح للجن".
وكتب "خ": "مضى صدر الإسلام وليس من مدَّعٍ رؤية الجن أو التلقي عنهم أو التزوج بهم أو استحقاقهم لأن يتقرب إليهم بالذبائح والأطعمة، حتى قام من يزعم ذلك كله واتسع خرق هذه الضلالة، فكانت إحدى العلل التي فتكت بعقول كثيرة وألقت بها في تخيلات سخيفة ومزاعم يتبرأ منها الشرع الحكيم قبل أن يتهكم بها النظر الصحيح". وانظر -لزاما- الهامش السابق.
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأضاحي، باب ما جاء في أكل معاقرة الأعراب 3/ 101/ رقم 2820 -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "9/ 313"- عن أبي ريحانة، عن ابن عباس به.
قال أبو داود: "اسم أبي ريحانة عبد الله بن مطر، وغندر أوقفه على ابن عباس".
قلت: يشهد للمرفوع ما أخرجه عبد الرزاق في المصنف" رقم 6690"- ومن طريقه أحمد في "المسند" "3/ 197"، و النسائي في "المجتبى" "كتاب الجنائز" باب النياحة على الميت، 4/ 16"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الجنائز، باب كراهية الذبح عند القبر، 3/ 216/ رقم 3222"، وابن حبان في "الصحيح" "7/ 415-416/ رقم 3146- الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 62و 9/ 314"، والبغوي في "شرح السنة" "5/ 461و 11/ 227 - عن أنس مرفوعا: "لا عقر في الإسلام". وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
قال عبدالرزاق: "كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة"، وقال البيهقي عقبه: "قال أبو زكريا -أي: يحيى بن معين: "العقر" يعني الأعراب عند الماء يعقر هذا، ويعقر هذا، فيأكلون لغير الله ورسوله". وقال: "وقال أبو سليمان الخطابي فيما بلغني عنه: معاقرة الأعراب أن يتبارى الرجلان، كل واحد منهما يجادل صاحبه، فيعقر هذا عددا من إبله، ويعقر صاحبه، فأيهما كان أكثر عقرا غلب صاحبه، وكره لحومها لئلا يكون مما أهل به لغير الله".
وأفاد ابن الأثير في "النهاية" أنهم كان يعقرون الإبل على قبور الموتى، أي: ينحرونها، ويقولون: إن صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته، فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته، وأصل العقر: ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف، وهو قائم.
ونقل كلام المصنف بحروفه السوسي في "الرحلة الحجازية" "1/ 162-163".

 

ج / 2 ص -348-       فيعقر كل واحد منهما، يجاود به صاحبه، فأكثرهما عقرا أجودهما، نهي عن أكله لأنه مما أهل لغير الله به، قال الخطابي: وفي معناه ما جرت به عادة الناس من ذبح الحيوان بحضرة الملوك والرؤساء عند قدومهم البلدان، وأوان1 حوادث يتجدد لهم، وفي نحو ذلك من الأمور.
وخرج أبو داود: "نهى عليه الصلاة والسلام عن طعام المتباريين أن يؤكل"2، وهما المتعارضان ليرى أيهما يغلب صاحبه، فهذا وما كان نحوه إنما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذكريات حوادث الموت الأربعينية والسنوية، وما شاكل ذلك. "د".
قلت: و في "خ" و"ط": "حدوث".
2 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب في طعام المتبارين 3/ 344/ رقم 3754" من طريق زيد بن أبي الزرقاء، عن جرير بن حازم، عن الزبير بن خريت، قال: سمعت عكرمة يقول: كان ابن عباس يقول... "وذكره".
وقال عقبه: "أكثر من رواه عن جرير لا يذكر فيه ابن عباس، وهارون النحوي ذكر فيه ابن عباس، وحماد بن زيد لم يذكر ابن عباس".
قلت: أخرجه الحاكم في "المستدرك" "4/ 128-129"، والطبراني في "الكبير" "11/ 340/ رقم 11942" من طريق هارون بن موسى عن الزبير به.
وأخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 509، 551"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 129/ رقم 6067" من طريق بقية عن ابن المبارك عن جرير بن حازم به موصولا أيضا.
وقال البغوي: "والصحيح أنه عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا".
وقال ابن عدي عقبه في الموطن الأول: "وهذا الحديث الأصل فيه مرسل، وما أقل من أوصله، وممن أوصله بقية عن ابن المبارك عن جرير بن حازم".
قلت: وللموصول طريق أخرى، كما عند ابن عدي في "الكامل" "5/ 1874"، والخطيب في "تاريخه" "3/ 240" من طريق يزيد بن عمر -هو ابن جنزة- عن عاصم بن هلال، عن أيوب، عن =

 

ج / 2 ص -349-       شرع على جهة أن يذبح على المشروع بقصد مجرد الأكل، فإذا زِيدَ فيه هذا القصد، كان تشريكا في المشروع، ولحظا لغير أمر الله تعالى، وعلى هذا وقعت الفيتا من ابن عتاب بنهيه عن أكل اللحوم في النيروز، وقوله فيها: إنها مما أهل لغير الله به، وهو باب واسع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عكرمة عن ابن عباس رفعه.
قال ابن عدي بعد أن ساقه وغيره من الأحاديث: "وهذه الأحاديث عن أيوب بهذا الإسناد ليست هي محفوظة".
وعاصم بن هلال ضعفه ابن معين ووهَّاه النسائي.
وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" "4/ 7-8"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "2/ 123" عن طريق سليمان بن الحجاج، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن طعام المباهاة وطعام المتبارين".
وسليمان بن الحجاج الغالب على حديثه الوهم، كما قال العقيلي، وأورد الذهبي في "الميزان" "2/ 198" هذا الحديث في ترجمته، وقال: "لا يُعرَف، عداده في أهل الطائف".
وقال العقيلي عقبه: "يروي عن الزبير بن خريت، عن عكرمة، عن ابن عباس، رفعه9 بعضهم وأوقفه بعضهم على عكرمة؛ الصحيح الموقوف".
قلت: وهو مما فات أبو حفص الموصلي في "الوقوف على الموقوف"، فدار الحديث من رواية الثقات على الزبير بن خريت، ولذا لما سأل علي ابن المديني أبا داود سليمان بن عمرو النخعي الكذاب عن الحديث، قال له: "عكرمة، إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين". قال: "حدثنا خصيف، عن عكرمة". قال ابن المديني: "فبان أمره، ولم يروِ هذا غير الزبير بن الخريت"، كذا في "تاريخ بغداد" "9/ 17-18"، وتصحف فيه "المتباريين" إلى المتنازين" فلتصحح.
إلا أن الحديث شاهدا بإسناد صحيح، أخرجه ابن السماك في "جزء من حديثه"، "ق 64/ أ" كما في "الصحيحة" "رقم 626"، وابن لال والديلمي كما في "فيض القدير" "6/ 259"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 129/ رقم 6068" من حديث أبي هريرة مرفوعا: "المتباريان لا يجابان ولا يؤكل طعامهما".
وقال الخطابي في "معالم السنن" "4/ 240" في شرح الحديث: "وإنما كره ذلك؛ لما فيه من الرياء والمباهاة، ولأنه داخل في جملة ما نهى عنه من أكل المال بالباطل".

 

ج / 2 ص -350-       والثاني:
أنه لو كان قصد الحظ مما ينافي الأعمال العادية، لكان العمل بالطاعات وسائر العبادات رجاء في دخول الجنة أو خوفا من دخول النار عملا بغير الحق، وذلك باطل قطعا، فيبطل ما يلزم عنه.
أما بيان الملازمة؛ فلأن طلب الجنة أو الهرب من النار سعي في حظ، لا فرق بينه وبين طلب الاستمتاع بما أباحه له الشارع وأذن له فيه من حيث هو حظ، إلا أن أحدهما عاجل والآخر آجل، والتعجيل والتأجيل في المسألة طردي كالتعجيل والتأجيل في الدنيا لا منافسة1 فيه، ولما كان طلب الحظ الآجل سائغا2 كان طلب العاجل أولى بكونه سائغا.
وأما بطلان التالي3، فإن القرآن قد جاء بأن من عمل جوزي، واعملوا يدخلكم الجنة، واتركوا تدخلوا الجنة، ولا تعملوا كذا فتدخلوا النار، ومن يعمل كذا يُجْزَ بكذا، وهذا بلا شَكّ تحريض على العمل بحظوظ النفوس، فلو كان طلب الحظ قادحا في العمل، لكان القرآن مذكرا بما يقدح في العمل، وذلك باطل باتفاق، فكذلك ما يلزم عنه.
وأيضا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُسأَل عن العمل الذي يدخل الجنة ويبعد من النار، فيخبر به من غير احتراز ولا تحذير من طلب الحظ في ذلك، وقد أخبر الله تعالى عمن قال:
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان: 9].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في ط"، وفي غيره: "لا مناسبة".
2 الأولى أن يقول: ولما كان طلب الحظ الآجل بالطاعات سائغا، كان طلب الحظ العاجل بالعادات أولى بالجواز كما سيشير إليه بقوله: "فإذا لم يكن مثله قادحا في العبادات.... إلخ" وهذا في قوة قولنا، لكن التالي باطل، فيثبت نقيض المقدم وهو أن قصد الحظ لا ينافي صحة الأعمال العادية إذا انضم إليه قصد الامتثال ولو حكما. "د".
3 في الأصل و"خ": "الثاني".

 

ج / 2 ص -351-       بقولهم: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 10].
وفي الحديث:
"مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما...." إلى آخر الحديث1، وهو نص في العمل على الحظ
وفي حديث بيعة الأنصار قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: اشترط لربك واشترط لنفسك، فلما اشترط، قالوا: فما لنا؟ قال:
"الجنة" الحديث2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في الصحيح" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل 6/ 495-496/ رقم 3459" عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
"إنما أَجَلُكُم في أَجَلِ من خَلَا من الأمم ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا، فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط، ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين، ألا لكم الأجر مرتين، فغضبت اليهود والنصارى"، فقالوا: "نحن أكثر عملا وأقل عطاء"، قال الله: "هل ظلمتكم من حقكم شيئا"؟ قالوا: لا، قال: "فإنه فضلي أعطيه من شئت".
وأخرجه البخاري في "صحيحه" أيضا "كتاب الإجارة، باب الإجارة إلى نصف النهار، 4/ 445/ رقم 2268" عن ابن عمر مطولا مرفوعا، وفيه:
"مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء...." نحوه.
وأخرجه في "صحيحه" أيضا "كتاب الإجارة، باب الإجارة إلى صلاة العصر 4/ 446-447/ رقم 2269"، وكتاب فضائل القرآن، باب فضل القرآن على سائر الكلام 96/ 66/ رقم 5021" عن ابن عمر نحوه.
وأخرجه في "صحيحه" أيضا "كتاب الإجارة، باب الإجارة من العصر إلى الليل، 4/ 447 / رقم 2271" عن أبي موسى مرفوعا نحوه، وفيه:
"مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما".
2 أخرج ابن شيبة في "المصنف" "14/ 598" -ومن طريقه ابن أبي عاصم في  =

 

ج / 2 ص -352-       وبالجملة، فهذا أكثر من أن يحصى، وجميعه تحريض على العمل بالحظ1، وأن لم يقل: اعمل لكذا، فقد قال: اعمل يكن لك كذا، فإذا لم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الآحاد والمثاني" "3/ 394/ رقم 1818"، والطبراني في "الكبير" "17/ 256/ رقم 710"- وأحمد في المسند" "4/ 120" -ومن طريقه البيهقي في "الدلائل" "2/ 451"- من طريقين عن مجاهد عن عامر عن عقبة بن عمرو وأبي مسعود البدري، قال: "وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصيل العقبة يوم الأضحى ونحن سبعون رجلا، قال عقبة: وإني لأصغرهم سنا، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أوجزوا في الخطبة، فإني أخاف عليكم كفار قريش". فقلنا: يا رسول الله! سلنا لربك، وسلنا لنفسك، وسلنا لأصحابك، وأخبرنا بما لنا من الثواب على الله تعالى وعليك. فقال: "أسأل لربي أن تؤمنوا به ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم أن تطيعوني أهدِكم سبيل الرشاد، وأسألكم لي ولأصحابي أن تواسونا في ذات أيديكم وأن تمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم، فإذا فعلتم ذلك، فلكم على الله عز وجل الجنة وعلي". قال: فمددنا أيدينا فبايعناه.
وإسناده ضعيف، فيه مجالد بن سعيد.
وأخرجه أحمد في "المسند" "4/ 119-120"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 450، 451" من طرق عن زكريا ابن أبي زائدة عن عامر الشعبي به مرسلا، ورجاله رجال الصحيح، كما في "المجمع" "6/ 47"، وقوى إسناده الزرقاني في "شرحه على المواهب"، وأخرجه الطبراني في "الكبير" "2/ 186/ رقم 1757"، و"الصغير" "2/ 110"، و"الأوسط" بنحوه، ورجاله ثقات، كما في المجمع" "6/ 49"، وأخرج ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 389/ رقم 1809"، وأبو يعلى في "المسند" "6/ 410/ رقم 3772"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 234" من طرق عن خالد بن عبد الله الواسطي، عن حميد، عن أنس أن ثابت بن قيس خطب مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا، فما لنا يا رسول الله؟ قال: "لكم الجنة". قالوا: رضينا.
وإسناده ضعيف، خالد بن عبد الله الواسطي ضعيف، إلا أنه توبع، فأخرجه ابن السكن كما في "الإصابة" "2/ 14" من طريق ابن أبي عدي، عن حميد به.
وهذه الطرق تدلل على أن للقصة أصلا، والأشهر فيها أنه وقعت في حديث بيعة الأنصار، كما قال المصنف، واحتمال تعداد الوقوع ضعيف، والله أعلم.
1 في الأصل و"خ" و"ط": "بالحظ على العمل".

 

ج / 2 ص -353-       يكن مثله قادحا في العبادات، فأولى أن لا يكون قادحا في العادات.
فإن قيل: بل مثل هذا قادح في العمل بالنص والمعقول.
أما المعقول، فإن العامل بقصد الحظ قد جعل حظه مقصدا والعمل وسيلة؛ لأنه لو لم يكن مقصدًا لم يكن مطلوبا بالعمل، وقد فرضناه كذلك، هذا خلف، وكذلك العمل1 لو لم يكن وسيلة لم يطلب الحظ من طريقه، وقد فرضناه أنه يعمله؛ ليصل به إلى غيره، وهو حظه، فهو بالنسبة إلى ذلك الحظ وسيلة، وقد تقرر أن الوسائل من حيث هي وسائل غير مقصودة لأنفسها، وإنما هي تبع للمقاصد بحيث لو سقطت المقاصد سقطت الوسائل، وبحيث لو توصل إلى المقاصد دونها لم يتوسل بها، وبحيث لو فرضنا عدم المقاصد جملة لم يكن للوسائل اعتبار، بل كانت تكون كالعبث، وإذا ثبت هذا، فالأعمال المشروعة2 إذا عملت للتوصل بها إلى حظوظ النفوس، فقد صارت غير متعبد بها إلا من حيث الحظ، فالحظ هو المقصود بالعمل لا التعبد، فأشبهت3 العمل بالرياء لأجل حظوظ الدنيا من الرياسة والجاه والمال وما أشبه ذلك، والأعمال المأذون فيها4 كلها يصح التعبد بها إذا أُخذت من حيث أذن فيها، فإذا أخذت من جهة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 طريق آخر يتوصل به إلى أن العمل وسيلة للحظ، وهو أقرب إلى أن يكون طريقا آخر في التقرير والتصوير فقط، ولا يخفى أنه في هذا الإشكال من أوله إلى آخره لم يأخذ فيه سوى العمل والحظ، ولم يذكر المقصد الأصلي المشارك للحظ الذي قال فيه: "فأما الأول "فعمل بالامتثال بلا إشكال" فإن الحظ موضوعنا ليس هو المقصود وحده، بل معه القيام بالمصلحة ودرء المفسدة، الذي هو غاية لإذن الشارع فيه، وأخذ المكلف له من هذه الجهة. "د".
2 وهي ما في التزامها نشر المصالح بإطلاق، وفي مخالفتها نشر المفاسد بإطلاق، يعني ما ليست عبادة بالأصالة لأنها موضوع المسألة هنا. "د".
3 ولم تكن رياء محضا؛ لأنه مع طلب حظه والسعي فيه يضم إلى ذلك غرضه من إقامة المصلحة ودرء المفسدة بدليل أخذه لها من جهة الإذن. "د".
4 هي نفس الأعمال المشروعة في كلامه. "د".

 

ج / 2 ص -354-       الحظوظ سقط كونها متعبدا بها، فكذلك العمل بالأعمال المأمور بها والمتعبد بها كالصلاة والصيام وأشباههما، ينبغي أن يسقط التعبد بها، وكل عمل من عادة أو عبادة مأمور به فحظ النفس متعلق به1، فإذا أخذ من ذلك الوجه لا من جهة كونه متعبدا به سقط كونه عبادة، فصار مهمل الاعتبار في العبادة، فبطل التعبد فيه، وذلك معنى كون العمل غير صحيح.
وأيضا، فهذا المأمور أو المنهي بما فيه حظه، يا ليت شعري ما الذي كان يصنع لو ثبت أنه عري عن الحظوظ؟! هل كان يلزمه التعبد لله بالأمر والنهي أم لا؟ فإذا كان من المعلوم أنه يلزمه، فالمأمور به والمنهي عنه بلا بد مقصود في نفسه لا وسيلة، وعلى هذا نبه القائل بقوله:

هب البعث لم تأتنا رسله            وجاحمة النار لم تضرم

أليس من الواجب المستحَقِّ             ثناء العباد على المنعم

ويعني بالوجوب بالشرع، فإذا جعل وسيلة، أخرج عن مقتضى المشروع، وصار العمل بالأمر والنهي على غير ما قصد الشارع، والقصد المخالف لقصد الشارع باطل، والعمل المبني عليه مثله، فالعمل المبني على الحظ كذلك.
وإلى هذا، فقد ثبت أن العبد ليس له في نفسه مع ربه حق، ولا حجة له عليه، ولا يجب عليه أن يطعمه ولا أن يسقيه ولا أن ينعمه، بل لو عذب أهل السماوات والأرض كان له ذلك بحق الملك
{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149]، فإذا لم يكن له إلا مجرد التعبد، فحقه أن يقوم به من غير طلب حظ، فإن طلب الحظ بالعمل لم يكن قائما بحقوق السيد بل بحظوظ نفسه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا يخلو من حظ للنفس يمكن أن يتعلق به. "د".

 

ج / 2 ص -355-       وأما النصوص الدالة على صحة هذا النظر، فالآيات والأحاديث الدالة على إخلاص الأعمال لله، وعلى أن ما لم يخلص لله منها فلا يقبله الله، كقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} [البينة: 5].
وقوله:
{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
وفي الحديث:
"أنا أغنى الشركاء عن الشرك"1.
وفيه:
"فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه"2، أي: ليس له من التعبد لله بالأمر بالهجرة شيء، فإن كل أمر ونهي عقل معناه أو لم يعقل معناه، ففيه تعبد حسبما يأتي إن شاء الله، فالعامل لحظِّه مسقط لجانب التعبد، ولذلك عد جماعة من السلف المتقدمين العامل للأجر خديم السوء وعبد السوء، وفي الآثار من ذلك أشياء، وقد جمع الأمر كله قوله تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص} [الزمر: 3].
وأيضا: فقد عد الناس من هذا ما هو قادح في الإخلاص ومدخل للشوب في الأعمال، فقال الغزالي3: "كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس، ويميل إليه القلب قل أم كثر إذا تطرق إلى العمل، تكدر به صفوه، وقل4 به

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله / رقم 2985".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي 1/ 9/ رقم 1"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:
"إنما الأعمال بالنيات" 3/ 1515/ رقم 1907" من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتقدم "1/ 459".
3 في "الإحياء" "4/ 380".
4 كذا في جميع النسخ، وفي "الإحياء": "وزال".

 

ج / 2 ص -356-       إخلاصه"1.
قال: "والإنسان منهمك في حظوظه ومنغمس في شهواته، قلما ينفك فعل من أفعاله، وعبادة من عباداته عن حظوظ ما، وأغراض عاجلة [من هذه الأجناس]، ولذلك [قيل]: من سلم له من عمره خطرة واحدة خالصة لوجه الله نجا، وذلك لعز الإخلاص، وعسر تنقية القلب عن هذه الشوائب، بل الخالص هو الذي لا باعث عليه إلا طلب القرب من الله تعالى"2.
ثم قال:"وإنما الإخلاص تخليص العمل عن هذه الشوائب كلها قليلها وكثيرها، حتى يتجرد فيه قصد التقرب، فلا يكون فيه باعث سواه".
قال: "وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستهتَر، مستغرق الهم بالآخرة، بحيث لم يبقَ لـ [حب] الدنيا في قلبه قرار، حتى لا يحب الأكل والشرب أيضا، بل تكون رغبته فيه كرغبته في قضاء الحاجة من حيث إنه ضرورة الجبلة3، فلا يشتهي الطعام لأنه طعام؛ بل لأنه يقويه على العبادة، ويتمنى [أن] لو كفي شر الجوع حتى لا يحتاج إلى الأكل، فلا يبقى في قلبه حظ من الفضول الزائدة على الضرورة، ويكون قدر الضرورة مطلوبا عنده لأنه ضرورة دينية، فلا يكون له همٌّ إلا الله تعالى، فمثل هذا الشخص لو أكل أو شرب أو قضى حاجته، كان خالص العمل صحيح النية في جميع حركاته وسكناته، فلو نام مثلا حتى يريح نفسه ليتقوَّى4 على العبادة بعده؛ كان نومه عبادة وحاز درجة المخلصين، ومَن ليس كذلك؛ فباب الإخلاص في الأعمال كالمسدود عليه إلا على سبيل الندور"، ثم تكلم على باقي المسألة، وله5 في "الإحياء" من هذا المعنى مواضع يعرفها من زواله، فإذا كان كذلك، فالعامل الملتفت إلى حظ نفسه على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أما كونه إذا شارك طلب الحظ قصد الامتثال يضعف الإخلاص، فلا كلام فيه، ولكن يلزم منه المطلوب وهو بطلانه رأسا. "د".
2 الهوامش من "2-5" في الاستدراك: "رقم 7".

 

ج / 2 ص -357-       خلاف1 ما وقع الكلام عليه.
فالجواب أن ما تُعُبِّد العباد به على ضربين:
أحدهما: العبادات المتقرب بها إلى الله بالأصالة، وذلك الإيمان وتوابعه من قواعد الإسلام وسائر العبادات.
والثاني: العادات الجارية بين العباد التي في التزامها نشر المصالح بإطلاق، وفي مخالفتها نشر المفاسد بإطلاق، وهذا هو المشروع لمصالح العباد ودرء المفاسد عنهم، وهو القسم الدنيوي المعقول المعني، والأول هو حق الله من العباد في الدنيا، والمشروع لمصالحهم في الآخرة ودرء المفاسد عنهم.
فأما الأول، فلا يخلو أن يكون الحظ [المطلوب]2 دنيويا أو أخرويا.
فإن كان أخرويا، فهذا حظ قد أثبته الشرع حسبما تقدم، وإذا ثبت شرعا، فطلبه من حيث أثبته صحيح؛ إذ لم يتعدَّ ما حده الشارع، ولا أشرك مع الله في ذلك العمل غيره، ولا قصد مخالفته؛ إذ قد فهم من الشارع حين رتب على الأعمال جزاء أنه قاصد لوقوع الجزاء على الأعمال، فصار العامل ليقع له الجزاء عاملا لله وحده على مقتضى العلم الشرعي، وذلك غير قادح في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يقل: "سقط كونه متعبدا بها" مع أن هذا هو محل الإشكال على أصل المسألة، بل قال كلاما مجملا عاما يمكن حمله على أنه لم يكن الإخلاص تاما، وهو الذي يصح أن يكون نتيجة لقوله: "وأيضا إلى هنا"، ويصح أن يحمل على الاستدلال على ما قاله من الإشكال، وهو أن جهة التعبد ساقطة وملغاة لمشاركة الحظ لها، وهذا هو الذي دلل عليه قبل قوله: "وأيضا"، واستنتج فيه قوله: "فالعامل لحظه مسقط لجانب التعبد"، ولو اقتصر عليه كان أولى؛ لأن ما بعده زائد عن الغرض. "د". وفي "ط": "فالعامل ملتفتا إلى...".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ونسخة "ماء/ ص193".

 

ج / 2 ص -358-       إخلاصه؛ لأنه علم أن العبادة المنجية والعمل الموصل ما قصد به وجه الله، لا ما قصد به غيره؛ لأنه عز وجل يقول: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} إلى قوله: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} الآية [الصافات: 40-43].
فإذا كان قد رتب الجزاء على العمل المخلَج / 2 ص -ومعنى كونه مخلَصا أن لا يشرك معه في العبادة غيره1، فهذا قد عمل على وفق ذلك، وطلب الحظ ليس بشرك؛ إذ لا يعبد الحظ نفسه2، وإنما يعبد من بيده بذل الحظ المطلوب، وهو الله تعالى، لكن لو أشرك مع الله [من ظن بيده بذل حظ ما من العباد، فهذا هو الذي أشرك، حيث جعل مع الله]3 غيره في ذلك الطلب بذلك العمل، والله لا يقبل عملا فيه شرك، ولا يرضى بالشرك وليست مسألتنا من هذا.
فقد ظهر أن قصد الحظ الأخروي في العبادة لا ينافي الإخلاص فيها، بل إذا كان العبد عالما بأنه لا يوصله إلى حظه من الآخرة إلا الله تعالى، فذلك باعث له على الإخلاص، قوي لعلمه أن غيره لا يملك ذلك.
وأيضا، فإن العبد لا ينقطع طلبه للحظ4 لا في الدنيا ولا في الآخرة، على ما نص عليه أبو حامد رحمه الله؛ لأن أقصى حظوظ المحبين التنعم في الآخرة بالنظر إلى محبوبهم والتقرب منه، والتلذذ بمناجاته، وذلك حظ عظيم، بل هو أعظم ما في الدارين، وهو راجع إلى حظ العبد من ذلك، فإن الله تعالى غني عن العالمين، قال تعالى:
{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا أنه لا يقصد مع العبادة شيئا آخر مطلقا حتى ما أثبته الشرع. "د".
2 في نسخة "ماء/ ص194": "بنفسه".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
4 في الأصل و"ط" و"خ": "الحظ.... للعبد".

 

ج / 2 ص -359-       وإلى هذا، فإن كون الإنسان يعمل لمجرد امتثال الأمر نادر قليل إن وجد، والله عز وجل قد أمر الجميع بالإخلاص، والإخلاص البريء عن الحظوظ العاجلة والآجلة عسير جدا لا يصل إليه إلا خواص الخواص، وذلك قليل، فيكون هذا المطلوب قريبا من تكليف ما لا يطاق، وهذا شديد.
وعلى أن بعض الأئمة قال: إن الإنسان لا يتحرك إلا بحظ، والبراءة من الحظوظ صفة إلهية، ومن ادعاه، فهو كافر، قال أبو حامد: "وما قاله حق، ولكن القوم إنما أرادوا به1 "يعني: الصوفية" البراءة عما يسميه الناس حظوظا، وذلك الشهوات الموصوفة في الجنة فقط، فأما التلذذ بمجرد المعرفة والمناجاة، والنظر إلى وجه الله العظيم، فهذا حظ هؤلاء، وهذا لا يعده الناس حظا، بل يتعجبون منه".
قال: "وهؤلاء لو عوضوا عما هم فيه من لذة الطاعة والمناجاة، وملازمة الشهوة للحضرة الإلهية سرا وجهرا نعيم الجنة، لا ستحقروها ولم يلتفتوا إليها، فحركتهم لحظّ2، وطاعتهم لحظّ، ولكن حظهم معبودهم دون غيره". هذا ما قال، وهو إثبات لأعظم الحظوظ3، ولكن هؤلاء على ضربين:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي بقولهم: "إن البراءة عن الحظوظ العاجلة والآجلة عسيرة جدا، لا يصل إليها إلا خواص الخواص" أي: فهي ممكنة، فكيف يقال: من ادعاها كافر؟ فأبو حامد يجمع بينهما بأن براءة خواص الخواص إنما هي من قصد النعيم المذكور لأهل الجنة من أكل وشرب ولباس وتمتع بحور وما أشبه، لا كل حظ، وإلا، فحظ المعرفة والمناجاة والنظر ونحوها حظوظ خواص الخواص، فلم يتبرؤوا من الحظوظ رأسا، حتى يشاركوا الإله في وصفه. "د".
2 في الموضعين من الأصل: "لحظة".
3 ادعى بعض الفلاسفة أن الإنسان قد يعمل لمجرد كونه خيرا، وأن يتقين أنه لا ينال من أثره نفعا، والراسخ في علم أحوال النفس لا يكاد يصدق بأن في طبيعة النفس الناطقة ما يساعدها على أن تقبل على العمل دون أن تشعر بأنها ستنال في عاقبته قسطا من اللذة أو السعادة، غير أن من الغايات ما يكون محمودا وتزداد النفس بالقصد إليه كالفوز برضوان الله، وما يترتب عليه من سعادة باقية، ومنها ما يكون رذيلة كمن يعمل حرصا على منفعة خاصة ولا يبالي أن تجر في أذيالها ضررا يتعدى إلى غيره. "خ".
قلت: سيأتي بسط ذلك في التعليق على "ص364".

 

ج / 2 ص -360-       أحدهما: من يسبق له امتثال أمر الله الحظ، فإذا أُمر أو نُهِي لبَّى قبل حضور الحظ، فهم عاملون بالامتثال لا بالحظ، وأصحاب هذا الضرب على درجات، ولكن الحظ لا يرتفع خطوره على قلوبهم إلا نادرا، ولا مقال في صحة إخلاص هؤلاء.
والثاني: من يسبق له الحظ الامتثال، بمعنى أنه لما سمع الأمر أو النهي خطر له الجزاء، وسبق له الخوف أو الرجاء، فلبى داعي الله، فهو دون الأول، ولكن هؤلاء مخلصون أيضا؛ إذ طلبوا ما أذن لهم في طلبه، وهربوا عما أذن لهم في الهرب عنه، من حيث لا يقدح في الإخلاص كما تقدم.
فصل:
وإن كان الحظ المطلوب بالعبادات ما في الدنيا، فهو قسمان:
قسم يرجع إلى صلاح الهيئة، وحسن الظن عند الناس، واعتقاد الفضيلة للعامل بعمله.
وقسم يرجع إلى نيل حظه من الدنيا، وهذا ضربان:
أحدهما يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه مع الغفلة عن مراءاة الناس بالعمل.
والآخر يرجع إلى المراءاة لينال بذلك مالا أو جاها أو غير ذلك، فهذه ثلاثة أقسام.

 

ج / 2 ص -361-       أحدها:
يرجع إلى تحسين الظن عند الناس واعتقاد الفضيلة.
فإن كان هذا القصد متبوعا، فلا إشكال في أنه رياء؛ لأنه إنما يبعثه على العبادة قصد الحمد وأن يظن به الخير، وينجر مع ذلك كونه يصلي فرضه أو نفله، وهذا بيِّن.
وإن كان تابعًا، فهو محل نظر واجتهاد، واختلف العلماء في هذا الأصل، فوقع في "العتبية"1 في الرجل الذي يصلي لله ثم يقع في نفسه أنه يحب2 أن يعلم، ويحب أن يلقى3 في طريق المسجد، ويكره أن يلقى3 في طريق غيره، فكره ربيعة هذا، وعده مالك من قبيل الوسوسة العارضة للإنسان، أي أن الشيطان يأتي للإنسان إذ سره مرأى الناس له على الخير، فيقول له: إنك لمراءٍ وليس كذلك، وإنما هو أمر يقع في قلبه لا يملك، وقد قال تعالى:
{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39].
وقال عن إبراهيم عليه السلام:
{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]. وفي حديث ابن عمر: "وقع في نفسي أنها النخلة، فأردت أن أقولها، فقال عمر: لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا"4.
وطلب العلم5 عبادة، قال ابن العربي: "سألت شيخنا الإمام أبا منصور الشيرازي الصوفي عن قوله تعالى:
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة: 160]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "1/ 498- مع "البيان والتحصيل"، وكذا في "المقدمات" "ص30" لابن رشد، وفيه زيادة بيان وإيضاح.
2 في "العتبية": "يجب"، بالجيم.
3 في الموطنين: "يلفى"، بالفاء.
4 سيأتي تخريجه "3/ 146"، وهو في الصحيحين".
5 الذي هو موضوع حديث ابن عمر؛ لأنهم كانوا في مجلسه صلى الله عليه وسلم يسألهم في العلم، ومع كونه في مقام عبادة، قال: لأن تكون قلتها.... إلخ الذي يؤول إلى أن عمر لم يخشَ في عبادة ابنه بطلب العلم حظا هو اعتقاد الفضيلة فيه. "د".

 

ج / 2 ص -362-       ما بينوا؟ قال: أظهروا أفعالهم للناس بالصلاح والطاعات. قلت: ويلزم ذلك؟ قال: نعم؛ لتثبت أمانته، وتصح إمامته، وتقبل شهاداته"1.
قال ابن العربي: "ويقتدي به غيره، فهذه الأمور وما كان مثلها تجري هذا المجرى والغزالي يجعل مثل هذا مما لا تتخلص فيه2 العبادة".
والثاني:
ما يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه، مع الغفلة [عن مراءاة الغير]3، وله أمثلة:
أحدها: الصلاة في المسجد للأنس بالجيران، أو الصلاة بالليل لمراقبة، أو مراصدة، أو مطالعة أحوال.
والثاني: الصوم؛ توفيرًا للمال، أو استراحة من عمل الطعام وطبخه، أو احتماء لألم يجده، أو مرض يتوقعه أو بطنة تقدمت له.
والثالث: الصدقة للذة السخاء والتفضل على الناس.
والرابع: الحج؛ لرؤية البلاد، والاستراحة من الأنكاد، أو للتجارة، أو لتبرمه بأهله وولده، أو إلحاح الفقر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا كان كذلك لا يكون هذا الحظ إلا المصلحة العامة ونفع الخلق بالقصد الأول، ويكون ما يرجع إليه هو تابعا صرفا. "د".
وقال "خ": "كان عليه الصلاة والسلام يبين بالقول تارة وبالفعل أخرى، وكذلك العالم لو أوفى البيان بالقول حقه لخلصت ذمته من واجب التبليغ، فتفسير أبي منصور الشيرازي قوله تعالى:
{وَبَيَّنُوا} بإظهار الفعل إنما هو بعض ما يتناوله اللفظ، وليس هو الطريق الوحيد للتبيين، والوجه الذي ينحصر فيه المراد من الآية بحيث لا يكفي التبيين بالأقوال الصريحة".
قلت: وكلام ابن العربي في "أحكام القرآن" "1/ 118، 136 و2/ 511"، وعنه القرطبي في "التفسير" "5/ 423-424" مع تعقب له، فانظره لزامًا.
2 في "ط": "به".
3 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل.

 

ج / 2 ص -363-       والخامس: الهجرة؛ مخافة الضرر في النفس أو الأهل أو المال.
والسادس: تعلُّم العلم؛ ليحتمي به عن الظلم.
والسابع: الوضوء؛ تبردا.
والثامن: الاعتكاف؛ فرارا من الكراء.
والتاسع: عيادة المرضى والصلاة على الجنائز؛ ليُفعَل به ذلك.
والعاشر: تعليم العلم؛ ليتخلص به من كرب الصمت ويتفرج بلذة الحديث.
والحادي عشر: الحج ماشيا؛ ليتوفر له الكراء.
وهذا الموضع أيضا محل اختلاف إذا كان القصد المذكور تابعا لقصد العبادة، وقد التزم الغزالي1 فيها وفي أشباهها أنها خارجة عن الإخلاص، لكن بشرط أن يصير العمل عليه أخف بسبب هذه الأغراض، وأما ابن العربي، فذهب إلى خلاف ذلك، وكأن2 مجال النظر في المسألة يلتفت إلى انفكاك القصدين أو عدم انفكاكهما، فابن العربي يلتفت إلى وجه الانفكاك، فيصحح العبادات، وظاهر الغزالي الالتفات إلى مجرد الاجتماع وجودا، كان القصدان مما يصح انفكاكهما أو لا، وذلك بناء على مسألة الصلاة في الدار المغصوبة، والخلاف فيها واقع، ورأي أصبغ فيها البطلان3، فإذا كان كذلك، اتجه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "الاتجاه الأخلاقي" "ص53 وما بعدها"، وتابع الغزالي في رأيه هذا الحارث المحاسبي في "الرعاية" "ص150"، ونقله عن الحارث وأيده القرطبي في "تفسيره" "5/ 180-181 و9/ 14".
2 في الأصل و"خ": "كان".
3 أي: مع وجود الانفكاك كما هو رأي الغزالي، وقوله: "على أن" تأييد لرأي ابن العربي. "د".

 

ج / 2 ص -364-       النظران، وظهر مغزى المذهبين.
على أن القول بصحة الانفكاك فيما يصح فيه الانفكاك أوجه1، لما جاء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سر المسألة أن القائلين بعدم الانفكاك ظنوا في بداية الأمر أن القصد الذي يتطلع صاحبه إلى ثمرات الأعمال ونتائجها وحظوظه منها مزاحم للقصد المتجه إلى الله، فيكون ذلك تشريكا يجب أن ننزه عنه نياتنا، ومن هنا اندفعوا جاهدين كي ينتزعوا من أعماق نفوسهم تلك الخواطر والمقاصد التي تتطلع إلى محبوباتها من الأعمال المشروعة، فلما وجدوا صعوبة في الأمر تحول دون تحقيق المراد رموا الدنيا وراء ظهورهم، وقصروا تطلعاتهم على الأعمال التي أُمروا بتحقيقها، وجاهدوا النفوس كي لا يبقى لهم مراد غير ذلك المراد.
ولا يفوتنا ونحن نبحث في أصل المسألة أن نقرر ما قرره المحققون من العلماء من أن الشارع قصد في وضعه للشريعة مصالح العباد في العاجل والآجل، وقد قرر المصنف هذه المسألة بما لا مزيد عليها في أول هذا "كتاب المقاصد" فإذا كان هذا مقررا، فكيف يجوز أن نمنع العابد من أن يتطلع إلى المصالح التي قصدها الشارع من أعمال المكلفين؟!
لو ذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى القول بمنع العباد من النظر والتطلع إلى مصالح ونتائج لا يرتضي الشارع أن تُجعل الأعمال المتعبد بها وسيلة إليها، لكان هذا القول مرضيا ومقبولا؛ لأن المكلف مطالب بألا يتوجه ولا يقصد إلا ما قصده الشارع من المصالح، أما أن نرفض جواز التطلع إلى الخير المترتب على أعمالنا المتعبد بها مع أن الشارع ارتضاه وقصده، فهذا في غاية الصعوبة.
ونستطيع هنا أن نتقدم خطوة، فنقول: إن قصد هذه الحظوظ من الأعمال المتعبد بها مقصودة للشارع ومطلوبة من المكلف؛ لأنها تناسب حاله، وعمله على هذا النحو يصلح أمره ويحفظ عليه دنياه وأخراه، ويحسن أن نقرر بوضوح أن التطلع إلى ثمرات الأعمال المتعبد بها سواء أكانت عبادات أصلا أم عاديات متعبد بها، لا يضاد الإخلاص ولا يناقضه، ما دمنا نقصد مقاصد الشارع المترتبة على الأعمال.
ولقد أحدثت هذه النظرية شرخا في نفوس المسلمين؛ لأن هؤلاء حاروا بين هذه النظرية التي تدعوهم إلى المثالية والترفع في مقاصدهم وبين واقع حالهم؛ إذ وجدوا أنفسهم غير مطيقين للانسلاخ من رغباتهم، وصرف أنفسهم عن النظر إلى نتائج الأعمال.
كيف نريد من الذي يريد طهارة وضوء أو غسلا- ألا يقصد مع قصد التقرب إلى الله تعالى التنظف والتطيب؟ وإذا كان الجو حارا كيف نريد من هذا الإنسان ألا يقصد التبرد وإنعاش=

 

ج / 2 ص -365-       .........................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= نفسه؟ فإن قَصَد هذا القصد حكمنا على عمله بالبطلان والفساد، وهب هذا الإنسان راغم نفسه كي تنصرف عما تحسه وتطلبه، فكيف السبيل إلا أن يقصر نفسه على مجرد الامتثال للفعل؟ ومن ذا الذي يتذوق سرور العبادة ولذاتها ثم يطيق ألا يقصد هذا النعيم؟ وهل إذا قصدنا من وراء إخراج الزكاة المتقرب بها سد خلة الفقير وصلة الأرحام وتقديم الخير لبني الإنسان نكون أقمنا مقاصد مضادة للإخلاص؟!
ألم يأمرنا الله بأن نقاتل في سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا؟!
ألم يقرنا الله على أن نحصل بالجهاد أمرا نحبه ونرضاه:
{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيب} [الصف: 13].
وهب أننا استطعنا أن نصرف قصدنا في أمور العبادات عن النظر إلى ثمرات الأعمال في الدنيا، فهل نطيق ذلك في الأمور العادية إذا قصدنا التعبد بها؟ فالزواج والطعام والشراب واللباس إذا قصدت التقرب بها إلى الله تعالى بأن آخذها من الطريق التي شرعها، وأبتعد عما حرم منها، وأقصد الاستعانة بها على طاعة الله، أأستطيع أن أصرف النظر عن الثمرات الناتجة عنها والتي تحبها النفس وتتطلبها منها؟!
إن العاملين بأعمال دنيوية من المسلمين، أطباء، ومهندسين، وباحثين، يستطيعون أن يجعلوا أعمالهم قربات عند إحداث نية صالحة حين القيام بهذه الأعمال، وهذا لا يلزمهم ألا يقصدوا حظوظهم من وراء هذه الأعمال.
لا يجوز أن يحتج في هذا بأن الشارع لم يرتضِ أن يقاتل المسلم شجاعة أو حمية: بل يجب أن يقصر قصده على القتال كي تكون كلمة الله هي العليا، وبدون ذلك لا يكون جهاده في سبيل الله؛ لأننا قررنا من قبل أن الثمرات والنتائج التي نجيز التطلع إليها هي التي أقرها الشارع ورضيها، والقتال بقصد هذه الأمور لم يرتضه الشارع.
نعم؛ نتائج الأعمال المطلوبة والمقصودة للشارع قد تخفى علينا، وقد لا ندركها خاصة في العبادات، ومن هنا قد نظن أمرا ما مقصودا للشارع، فنطلبه مع أنه واقع الأمر ليس بمطلوب ولا مقصود له.
وهذه نظرة وجيهة يجب أن يراعيها العابد، فلا يقصد إلا المصالح التي نص الشارع عليها،=

 

ج / 2 ص -366-       من الأدلة على ذلك، ففي القرآن الكريم: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُم} [البقرة: 198]، يعني: في مواسم الحج.
وقال ابن العربي في الفرار من الأنكاد بالحج أو الهجرة: "إنه دأب المرسلين، فقد قال الخليل عليه السلام:
{إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]، وقال الكليم: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} [الشعراء: 21]، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت قرة عينه في الصلاة1، فكان يستريح إليها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والمصالح التي استنبطناها من النصوص، لا تلك المصالح التي ارتضيناها بأهوائنا. ولا يفوتنا في هذا المقام أن نذكر بأن الشريعة لم توضع لطائفة من الناس، وإنما هي شريعة عامة جعلت لعموم الناس، والناس أصناف شتى، ولذلك رغبهم في العمل بالشريعة بمرغبات مختلفة، كي تصبح مؤثرات ودواعي تحركهم إلى العمل وتدفعهم إليه، لننظر في هذه المرغبات التي يجليها نوح لقومه كي يحققوا مراد الله:
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10-12]. ولننظر إلى موعود الله لهذه الأمة: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]، ولننظر إلى وعد الله للأتقياء: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3]، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4].
هذه الآيات وأمثالها كثير تستثير في النفس الإنسانية آمالها وتطلعاتها، وتحرك جذوتها، فتندفع إلى تحقيق ما يطلب منها، ولكن بإرادة صادقة وعزيمة قوية، تطلب في ذلك خيرها من حيث يريد الله تعالى، وهذه وايم الله العبودية الحقة التي يريدها الله من عباده، وحسبنا أن الله أثنى على الذين يطلبون منه خيري الدنيا والآخرة:
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب}، نعم لو قالوا ما قرره المصنف سابقا بأن قصر النظر على الأعمال وعدم التطلع إلى النتائج أقرب إلى الإخلاص والتفويض والتوكل على الله، لكان قولهم صوابا. انظر: "مقاصد المكلفين" "ص398 وما بعدها".
1 مضى تخريجه "ص240".

 

ج / 2 ص -367-       من تعب الدنيا1، وكان فيها نعيمه ولذته، أفيقال: إن دخوله فيها على هذا الوجه قادح فيها؟ كلا، بل هو كمال فيها وباعث على الإخلاص فيها".
في "الصحيح"2:
"يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم، فإنه لو وجاء"3.
ذكر ابن بشكوال عن أبي على الحداد، قال: حضرت القاضي أبا بكر بن زرب شكا إلى الترجيلي المتطبب ضعف معدته وضعف هضمه، على ما لم يكن يعهد من نفسه، وسأله عن الدواء، فقال: اسرد الصوم تصلح معدتك.
فقال: يا أبا عبد الله! على غير هذا دلني، ما كنت لأعذب نفسي بالصوم إلا لوجهه خالصا، ولي عادة في الصوم الاثنين والخميس لا أنقل نفسي عنها. قال أبو علي: وذكرت في ذلك المجلس حديث الرسول عليه الصلاة والسلام -يعني: هذا الحديث- وجبنت عن إيراد ذلك عليه في [ذلك] المجلس، وأحسبني ذاكراته في ذلك في غير هذا المجلس، فسلم للحديث4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فكان صلى الله عليه وسلم يقول:
"أرحنا بها يا بلال"، ومضى تخريجه "ص240".
2 ومثله حديث:
"إذن تكفى همك" لمن قال له عليه السلام: إني أحب الصلاة عليك أأجعل لك ربع صلاتي، إلى أن قال: أجعل لك صلاتي كلها. فإذا راعى ذلك في صلاته كان من هذا القبيل، ومنه ما ورد في الاستغفار {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} الآية فيها ترتب حظ دنيوي بل حظوظ على الاستغفار، وهو عبادة. "د".
قلت: وحديث
"إذن تكفى همك" خرجته بإسهاب في تعليقي على "جلاء الأفهام" لابن القيم، وفيه تعليق جيد عليه.
3 سيأتي تخريجه "3/ 143"، وهو في "الصحيحين" عن ابن مسعود رضي الله عنه.
4 الفرق بين الواقعة المذكورة والحديث أن الواقعة تشير إلى قصد إصلاح المعدة، وهي معدودة من الحظوظ النفسية، أما الحديث، فيتضمن القصد بالعبادة إلى التعفف الذي هو واجب شرعي، ولكن المصنف سينبه إلى أن العلة في صحة العبادة التي قصد فيها إلى طاعة أخرى كون هذه الطاعة مأذونا فيها فيلحق بها ما كان غير عبادة من المأذون فيه، ومن يرى أن القصد إلى حظ دنيوي يكدر صفو العمل الخالص يذهب إلى أن العلة في صحة القصد إلى طاعة أخرى إنما هي كونها من جنس العبادة في طلب الشارع لها ووعده بالثواب عليها. "خ".
قلت: في الأصل: "أبا بكر بن زنب"، و"..... وذكرت ذلك في....."، وما بين المعقوفتين سقط منه.

 

ج / 2 ص -368-       وقد بعث عليه الصلاة والسلام رجلا ليكون رصدًا في شعب، فقام يصلي ولم يكن قصده بالإقامة في الشعب إلا1 الحراسة والرصد2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا يريد حقيقة الحصر كما هو ظاهر. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر، 1/ 280" معلقا عن جابر، قال: "ويذكر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع، فرمي رجل بسهم فنزفه الدم، فركع وسجد ومضى في صلاته".
وأخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب الوضوء من الدم، 1/ 50-51/ رقم 198"- ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "1/ 140"، وابن بشكوال في "الغوامض" "رقم 143"، والدارقطني في "السنن" "1/ 223-224"، وابن خزيمة في الصحيح "1/ 24-25/ رقم 36" ومن طريقه ابن حجر في "تغليق التعليق" "1/ 114، 115"، وأحمد في "المسند" "3/ 343-344، 359"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 156-157" ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" "2/ رقم 604- بتحقيقي"، و"السنن الكبرى" "1/ 140، 9/ 150"، و"الصغرى" "1/ 31/ رقم 40"-، وابن حبان في "الصحيح" "3/ 375-376/ رقم 1096- الإحسان" من طرق عن ابن إسحاق عن صدقة بن يسار بن جابر وهو عقيل بن جابر، سماه سلمة الأبرش، عن جابر به مطولا جدا، قال الحاكم: "هذا الحديث صحيح الإسناد، فقد احتج مسلم بأحاديث محمد بن إسحاق، وأما عقيل بن جابر الأنصاري، فإنه أحسن حالا من أخويه محمد وعبد الرحمن".
قال ابن حجر في "الفتح": "وعقيل لا أعرف راويا عنه غير صدقة، ولهذا لم يجزم به المصنف- أي: البخاري- إما لكونه اختصره، أو للخلاف في ابن إسحاق"، وقال: "وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم".
قلت: أي بإخراجهم له في "الصحيح"، ونقل ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" "1/  =

 

ج / 2 ص -369-       والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، ويكفي من ذلك ما يراعيه الإمام في صلاته من أمر الجماعة، كانتظار الداخل1 ليدرك الركوع معه على ما جاء في الحديث2، وما لم يعمل به مالك3 فقد عمل به غيره، وكالتخفيف لأجل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 280" عن الدارقطني قوله: "إسناده صالح"، ولا يوجد ذلك في مطبوع "السنن"، وفي المطبوع نقص وتصحيف، أرجو الله أن ييسر له تحقيقا على وجه جيد.
قلت: والحق أن إسناده ضعيف، فعقيل لم يوثقه غير ابن حبان، بذكره له في "الثقات" "5/ 272"، ولم يرو عنه غير صدقة، انظر: "تهذيب الكمال" "20/ 134"، ولعله من أجله علقه البخاري في "صحيحه" بصيغة التمريض، ولم يشر لذلك ابن حجر فيما تقدم من النقل عنه، ولكنه قال في "تغليق التعليق" زيادة للاحتمالين المذكورين، أعني: الاختصار، والاختلاف في ابن إسحاق، قال: "وما انضاف إليه من عدم العلم بعدالة عقيل" وفي طريق أبي داود وغيره تصريح ابن إسحاق بالسماع له من صدقة، وصدقة وثقه ابن معين وأحمد وأبو داود وابن سعد وغيرهم، وروى له مسلم في "الصحيح".
والرجل المذكور هو عباد بن بشر، كما في "الغوامض" "رقم 143"، والمستفاد" "ص80- ط الشيخ حماد الأنصاري"، وسمي في رواية عند البيهقي في "الدلائل" "3/ 378-379" من حديث صالح بن خوات عن أبيه، ولكن بإسناد واهٍ بمرة.
1 هل الانتظار لإدراك الداخل للركوع أمر دنيوي؟ أم هو لتكميل العبادة، ومثله يقال في التخفيف في المسائل بعده بدليل الحديث الآتي: "مخافة أن تفتن أمه" وفتنتها شغلها عن الصلاة. "د".
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب ما جاء في القراءة في الظهر، 1/ 212-213/ رقم 802"، وأحمد في "المسند" "4/ 356"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 337" من طريق محمد بن جحادة عن رجل عن ابن أبي أوفى أنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر في صلاته ما سمع وقع نعل.
قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "1/ 28-29": "والرجل لا يعرف، وسماه بعضهم طرفة الحضرمي، وهو مجهول، أخرجه البزار وسياقه أتم، وقال الأزدي: طرفة مجهول" انتهى، فالحديث ضعيف.
قال المزي في "تحفة الأشراف" "4/ 291" في زياداته: "رواه أبو إسحاق الحميسي عن =

 

ج / 2 ص -370-       الشيخ والضعيف وذي الحاجة، وقوله عليه الصلاة والسلام: "إني لأسمع بكاء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= محمد بن جحادة عن كثير الحضرمي عن ابن أبي أوفى، وطوله".
وقد وصله البيهقي في "الكبرى" "2/ 66"، ولكن وقع عنده "عن طرفة الحضرمي" بدل "كثير" فليتأمل، ويترجح ما عند البيهقي بأن كثير الحضرمي لما ذكره المزي في "تهذيب الكمال" لم يذكر في شيوخه عبد الله بن أبي أوفى، ولا محمد بن جحادة فيمن روى عنه، وقد جزم الحافظ الضياء بأن الذي لم يسمَّ في هذه الرواية هو"طرفة"، وكذا ذكر ابن حبان في "ثقات التابعين" "4/ 398" طرفة، وأنه يروي عن عبد الله بن أبي أوفى، ويروي عنه محمد بن جحادة، أفاده ابن حجر في "النكت الظراف" "4/ 291" و"ترتيب مسند الإمام أحمد" "3/ 330".
واللفظ الذي أوردناه آنفا هو ما ساقه ابن حجر في "التلخيص"، ولفظ أبي داود وأحمد: "كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم"، وهو أيضا يدل على قول المصنف: "انتظار الداخل ليدرك الركوع معه"، فتأمل.
وينظر في فقه المسألة: "مختصر المزني" "1/ 113"، و"المجموع" "4/ 130"، و"تفسير القرطبي" "5/ 180"، و"نيل الأوطار" "3/ 147"- وفيها ما يدل على كراهية هذا الانتظار، وذهب بعض الشافعية إلى بطلان الصلاة بسببه-، و"قواعد الأحكام" "1/ 151"، وفيه: ".... ومن أبطل الصلاة به فقد أبعد، فليت شعري ماذا يقول في الانتظار المشروع في صلاة الخوف، هل كان شركا ورياءً أو عملا صالحا لله تعالى؟!"
قلت: يتأكد قوله بما ثبت في "الصحيحين" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي"، فهل هذا النقصان يناقض النية الخالصة الصحيحة، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلل ذلك بقوله: "ما أعلم من شدة وجد أمه لبكائه".
وهل مقصد مالك بن الحويرث رضي الله عنه كما ثبت عنه في "صحيح البخاري" "2/ 163- الفتح" عندما كان يصلي بالناس ما يريد بصلاته إلا أن يعلمهم الرياء والسمعة؟ وهل في ذلك ما يناقض النية الصحيحة؟
وأخيرا... عقد المجد ابن تيمية في كتابه "المنتقى" "باب إطالة الإمام الركعة الأولى وانتظار من أحس به داخلا ليدرك الركعة"، فانظره.
3 أي: وما يكره عند مالك من انتظار الداخل حال الركوع، فقد قال به غيره. "د".
قلت: وفي "ط": "وإن لم يعمل............"

 

ج / 2 ص -371-       الصبي"1 الحديث.
وكرد السلام2 في الصلاة3، وحكاية المؤذن4، وما أشبه ذلك مما هو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص248".
2 وهل رد السلام وحكاية المؤذن أمر دنيوي؟ نعم، هو خارج عن حقيقة الصلاة إلا أنه ليس دنيويا، بل عبادة، وقوله: "بل لو كان شأن العبادة.... إلخ" يفيد أن ما ذكر قبله ليس عبادة، وأنه مما نحن فيه من مشاركة أمر دنيوي لقصد العبادة، وهو كما ترى. "د".
3 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب رد السلام في الصلاة، 1/ 243-244/ رقم 927"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في الإشارة في الصلاة، 2/ 204/ رقم 368"، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب المصلي يسلم عليه كيف يرد، 1/ 325/ رقم 1017"، و أحمد في "المسند" "2/ 30"، والدارمي في "السنن" "1/ 316" بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن ابن عمر، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فيه، قال: فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو يصلي، قال: فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول هكذا، وبسط كفه.
وبسط جعفر بن عون "أحد الرواة" كفه، و جعل بطنه أسفل، وجعل ظهره إلى فوق.
وقد ذهب إلى الحديث الإمامان أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، فقال المروزي في "المسائل" "ص22": "قلت "يعني لأحمد": يسلم على القوم وهم في الصلاة؟ قال: نعم. فذكر قصة بلال حين سألة ابن عمر، كيف كان يرد؟ قال: كان يشير. قال إسحاق: كما قال".
واختار هذا بعض محققي المالكية، فقال القاضي أبو بكر بن العربي في "العارضة" "2/ 162": "قد تكون الإشارة في الصلاة لرد السلام لأمر ينزل بالصلاة، وقد تكون في الحاجة تعرض للمصلي، فإن كانت لرد السلام، ففيها الآثار الصحيحة كفعل النبي صلى الله عليه وسلم في قباء وغيره، وقد كنت في مجلس الطرطوشي، وتذاكرنا المسألة، وقلنا الحديث واحتججنا به، وعامي في آخر الحلقة، فقام وقال: ولعله كان يرد عليهم نهيا لئلا يشغلوه، فعجبنا من فقهه، ثم رأيت بعد ذلك أن فهم الراوي أنه كان لرد السلام قطعي في الباب، على حسب ما بيناه في أصول الفقه"، أفاده شيخنا الألباني في "الصحيحة" "رقم 185".
4 وحكاية الأذان في الصلاة لا تشرع عند الشافعي، وقالوا: فإذا فرغ منها قال الأذان، وقال ابن قدامة في "المغني" "1/ 443- "الشرح الكبير": "دخل المسجد، فسمع المؤذن استحب له انتظاره ليفرغ ويقول مثل ما يقول جمعا بين الفضيلتين، وإن لم يقل كقوله، وافتتح الصلاة، فلا بأس"، نص عليه أحمد.

 

ج / 2 ص -372-       عمل خارج عن حقيقة الصلاة، مفعول فيها مقصود يشرك قصد الصلاة، ومع ذلك فلا يقدح في حقيقة إخلاصها.
بل لو كان شأن العبادة أن يقدح في قصدها قصد شيء آخر سواها، لقدح فيها مشاركة القصد إلى عبادة أخرى، كما إذا جاء المسجد قاصدا للتنفل فيه، وانتظار الصلاة، والكف عن إذاية الناس، واستغفار الملائكة له، فإن كل قصد منها شاب غيره وأخرجه عن إخلاصه عن غيره، وهذا غير صحيح باتفاق، بل كل قصد منها صحيح في نفسه وإن كان العمل واحدا؛ لأن الجميع محمود شرعا، فكذلك ما كان غير عبادة من المأذون فيه، لاشتراكهما في الإذن الشرعي، فحظوظ النفوس المختصة بالإنسان1 لا يمنع اجتماعها مع العبادات، إلا ما كان بوضعه منافيا لها، كالحديث2، والأكل، والشرب، والنوم، والرياء، وما أشبه ذلك، أما ما لا منافاة فيه، فكيف يقدح القصد إليه في العبادة؟ هذا لا ينبغي أن يقال، غير أنه لا ينازع في أن إفراد قصد العبادة عن قصد الأمور الدنيوية أولى3، ولذلك إذا غلب قصد الدنيا على قصد العبادة كان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي التي ليس فيها مراءاة الآخرين، بل محصورة بينه وبين نفسه، كمن يقصد في صومه "الحمية"، وفي اغتساله "التبرد"، وفي حجه "التفسح".... وهذا مع وجود قصد التعبد أيضا، المهم أنه ليس في عمله مراعاة الآخرين، ولكن له مقاصد مصلحية غير مقاصد التعبد، وهذا ما فصلناه آنفا، وهو الذي قرره العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام" "1/ 151"، والقرافي في "الفروق" "3/ 22".
2 في الأصل و"ط" "كالحدث".
3 ودليله ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "13/ 51- شرح النووي" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم، ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة، تم لهم أجرهم".
وهذا دليل آخر على صحة الانفكاك؛ إذ فيه قصد الغنيمة مع الجهاد، فينقص بذلك الأجر ولم يبطل بالكلية، كما قال ابن رجب. انظر: "الدين الخالص" "2/ 283" لصديق حسن خان، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "26/ 29-30".

 

ج / 2 ص -373-       الحكم للغالب، فلم يعتد بالعبادة، فإن غلب قصد العبادة فالحكم له، ويقع الترجيح في المسائل بحسب ما يظهر للمجتهد.
والثالث:
ما يرجع إلى المراءات، فأصل هذا إذا قصد به نيل المال أو الجاه، فهو الرياء المذموم شرعا، وادعى ما في ذلك فعل المنافقين الداخلين في الإسلام ظاهرا بقصد إحراز دمائهم وأموالهم، ويلي ذلك عمل المرائين العاملين بقصد نيل حطام الدنيا، وحكمه معلوم، فلا فائدة في الإطالة فيه.
فصل:
وأما الثاني، وهو أن يكون العمل إصلاحا للعادات الجارية بين العباد، كالنكاح، والبيع، والإجارة، وما أشبه ذلك من الأمور التي علم قصد الشارع إلى القيام بها لمصالح العباد في العاجلة، فهو حظ أيضا قد أثبته الشارع وراعاه1 في الأوامر والنواهي، وعلم ذلك من قصده بالقوانين الموضوعة [له]2، وإذا علم ذلك بإطلاق، فطلبه من ذلك الوجه غير مخالف لقصد الشارع، فكان حقا وصحيحا، هذا وجه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فلا يأمر إلا بما فيه القيام بالمصلحة، ولا ينهى إلا عما يترتب عليه ضياع المصلحة، والقوانين التي وضعها لسائر المعاملات روعي فيها أنها تقوم بحفظ هذه المصالح والحظوظ العاجلة، وتدرأ المفاسد عنها، والنواهي عما نهى عنه إنما لحكمة أنه يجلب المفاسد ويضر باستقامة هذه الحظوظ. "د".
2 ليست في الأصل.

 

ج / 2 ص -374-       ووجه ثانٍ: أنه لو كان طلب الحظ في ذلك قادحًا في التماسه وطلبه، لاستوى مع العبادات كالصيام والصلاة وغيرهما في اشتراط النية والقصد إلى الامتثال وقد اتفقوا على أن العادات لا تفتقر إلى نية، وهذا كافٍ في كون القصد إلى الحظ لا يقدح في الأعمال التي يتسبب عنها ذلك الحظ، بل لو فرضنا رجلا تزوج ليرائي بتزوجه، أو ليعد من أهل العفاف، أو لغير ذلك، لصح تزوجه، من حيث لم يشرع فيه نية العبادة من حيث هو تزوج فيقدح فيها الرياء والسمعة، بخلاف العبادات المقصود بها تعظيم الله تعالى مجردا.
ووجه ثالث: أنه لو لم يكن طلب الحظ فيها سائغا، لم يصح النص على الامتنان بها في القرآن والسنة، كقوله تعالى:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21].
وقال:
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67].
وقال:
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22].
وقال:
{وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73].
وقال:
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10-11].
إلى آخر الآيات، إلى غيبر ذلك مما لا يحصى.
وذلك أن ما جاء في معرض مجرد التكليف لا يقع النص عليه في معرض الامتنان؛ لأنه في نفسه كلفة وخلاف للعادات1، وقطع للأهواء، كالصلاة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "العادات".

 

ج / 2 ص -375-       والصيام، والحج، والجهاد، إلا ما نحا نحو قوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}1 [البقرة: 216] بعد قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] بخلاف ما تميل إليه النفوس وتقضي به الأوطار، وتفتح به أبواب التمتع واللذات النفسانية، وتسد به الخلات الواقعة من الغذاء والدواء ودفع المضرات، وأضراب ذلك، فإن الإتيان بها في معرض الامتنان مناسب، وإذا كان كذلك اقتضى هذا البساط الأخذ بها من جهة ما وقعت المنة بها، فلا يكون الأخذ على ذلك قدحا في العبودية، ولا نقصا من حق الربوبية، لكنهم مطالبون على أثر ذلك بالشكر الذي امتن بها، وذلك صحيح.
فإن قيل: فيلزم على هذا أن يكون الأخذ لها بقصد التجرد عن الحظ قادحا أيضا؛ إذ كان المقصود المفهوم من الشارع إثبات الحظ والامتنان به، وهذا أيضا لا يقال به على الإطلاق، لما تقدم.
فالجواب أن أخذها من حيث تلبية الأمر أو الإذن قد حصل في ضمنه الحظ وبالتبعية؛ لأنه إذا ندب إلى التزوج مثلا فأخذه من حيث الندب على وجه لو لم يندب إليه لتركه مثلا، فإن أخذه من هنالك قد حصل له به أخذه من حيث الحظ؛ لأن الشارع قصد بالنكاح التناسل، ثم أتبعه آثارًا حسنة من التمتع باللذات، والانغمار في نعم يتنعم بها المكلف كاملة، فالتمتع بالحلال من جملة ما قصده الشارع، فكان قصد هذا القاصد2 بريئا من الحظ، وقد انجر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فهو امتنان عليهم بأن يجعل ما يكرهونه خيرا لهم، وأصل القتال من التكاليف المجردة عن الحظوظ، يعني: وهذا النوع قليل الوقوع أن يمتن في مقام مجرد التكليف، وقد يقال: إن هذا لا يحتاج إلى استثناء؛ لأن الامتنان بشيء آخر غير نفس المكلف به المجرد عن الحظ، فليس امتنانا بنفس القتال، بل بأنه سبحانه وتعالى تفضل علينا بأن يجعل من المكروه لنا أيا كان نوعه خيرا وفائدة عظمى حتى يصير ما نكرهه هو الخير الصرف. "د".
2 في الأصل: "القاصدين".

 

ج / 2 ص -376-       في قصده الحظ، فلا فرق بينه وبين من قصد بالنكاح نفس التمتع، فلا مخالفة للشارع من جهة القصد، بل له موافقتان: موافقة من جهة قبول ما قصد الشارع أن يتلقاه بالقبول، وهو التمتع، وموافقة من جهة أن أمر الشارع في الجملة يقتضي اعتبار المكلف له في حسن الأدب، فكان له تأدب مع الشارع في تلبية الأمر، زيادة إلى حصول ما قصده من نيل حظ المكلف.
وأيضا1 ففي قصد امتثال الأمر القصد إلى المقصد الأصلي من حصول النسل، فهو بامتثال الأمر ملبٍ للشارع في هذا القصد، بخلاف طلب الحظ فقط، فليس له هذه المزية.
فإن قيل: فطالب الحظ على هذا الوجه ملوم؛ إذ أهمل قصد الشارع في الأمر من هذه الجهة.
فالجواب أنه لم يهمله مطلقا، فإنه حين ألقى مقاليده في نيل هذه الحظوظ للشارع على الجملة حصل له بالضمن مقتضى ما قصد الشارع، فلم يكن قصد المكلف في نيل الحظوظ منافيا لقصد الشارع الأصلي.
وأيضا، فالداخل في حكم هذه الحظوظ داخل بحكم الشرط العادي على أنه يلد2، ويتكلف التربية والقيام بمصالح الأهل والولد، كما أنه عالم إذا أتى الأمر من بابه أنه ينفق على الزوجة ويقوم بمصالحها، لكن لا يستوي القصدان: قصد الامتثال ابتداء حتى كان الحظ حاصلا بالضمن، وقصد الحظ ابتداء حتى صار قصد الامتثال بالضمن، فثبت أن قصد الحظ في هذا القسم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 موافقة ثالثة. "د".
2 كذا في "ط" فقط، وفي غيره: "لم يلد"، و كتب "د" بناء عليه: "اللائق بالمقام حذف "لم"، أي: فالذي يقصد التمتع فقط بالنكاح داخل ضمنا وبحسب العادة على أنه سيلد، ويتكلف تربية الأولاد، والإنفاق على الزوجات، فهو قاصد ضمنا لمقصد الشارع الأصلي من النكاح، وهو النسل".

 

ج / 2 ص -377-       غير قادح في العمل.
فإن قيل: فطالب الحظ إذا فرضناه لم يقصد الامتثال على حال، وإنما طلب حظه مجردا، بحيث لو تأتى له على غير الوجه المشروع لأخذ به، لكنه لم يقدر عليه إلا بالوجه المشروع، فهل يكون القصد الأول في حقه موجودا بالقوة أم لا؟
فالجواب أنه موجود له بالقوة أيضا؛ لأنه إذا لم يكن له سبيل إلى الوصول إلى حظه على غير المشروع، فرجوعه إلى الوجه المشروع قصد إليه، وقصد الوجه المشروع يتضمن امتثال الأمر أو العمل بمقتضى الإذن، وهو القصد الأول الأصلي وإن لم يشعر به على التفصيل، وقد مر بيان هذا في موافقة قصد الشارع، وأما العمل بالحظ والهوى بحيث [لو]1 يكون قصد العامل تحصيل مطلوبه وافق الشارع أو خالفه، فليس من الحق في شيء، وهو ظاهر والشواهد عليه أظهر.
فإن قيل: أما كونه عاملا على قصد المخالفة، فظاهر أنه عامل بالهوى لا بالحق، وأما عمله على غير قصد المخالفة فليس عاملا بالهوى بإطلاق، فقد تبين في موضعه أن العامل بالجهل فيخالف أمر الشارع حكمه حكم الناسي، فلا ينسب عمله إلى الهوى هكذا بإطلاق، وإذا وافق أمر الشرع جهلا، فسيأتي أنه يصح عمله على الجملة، فلا يكون عمله بالهوى أيضا، وإلى هذا، فالعامل بالهوى إذا صادف أمر الشارع فلم تقول: إنه عامل بالهوى وقد وافق قصده مع ما مر أنفا أن موافقة أمر الشارع تصير الحظ محمودا.
فالجواب أنه إذا عمل على غير قصد المخالفة، فلا يستلزم أن يكون موافقا له، بل الحالات ثلاث:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة كلها، ومن "ط".

 

ج / 2 ص -378-       حال يكون فيها قاصدا للموافقة، فلا يخلو أن يصيب بإطلاق، كالعالم يعمل على وفق ما علم، فلا إشكال، أو يصيب بحكم الاتفاق أو لا يصيب، فهذان قسمان يدخل فيهما العامل بالجهل، فإن الجاهل إذا ظن في تقديره أن العمل هكذا، وأن العمل مأذون فيه على ذلك الوجه الذي دخل فيه، لم يقصد مخالفة، لكن فرط في الاحتياط لذلك العمل1، فيؤاخذ في الطريق، وقد لا يؤاخذ إذا لم يعد مفرطا2، ويمضي عمله إن كان موافقا.
وأما إذا قصد مخالفة أمر الشارع، فسواء في العبادات وافق أو خالف [فإنه لا اعتبار بموافقته كما] لا اعتبار بما يخالف فيه3 لأنه مخالف القصد بإطلاق، وفي العادات الأصل اعتبار ما وافق4 دون ما خالف؛ لأن ما لا تشترط النية في صحته من الأعمال لا اعتبار بموافقته في القصد الشرعي ولا مخالفته، كمن عقد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "في ذلك"، وفي "ط": "على ذلك".
2 عقد القرافي الفرق الثالث والتسعين بين قاعدة النسيان في العبادات لا يقدح وقاعدة الجهل يقدح، وكلاهما غير عالم بما أقدم عليه وبنى الفرق على قاعدة هي ما حكاه الإمام الشافعي في رسالته والإمام الغزالي في "إحيائه" أن الإجماع على أن المكلف لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه، ثم عقد الفرق الرابع والتسعين بين قاعدة ما لا يكون الجهل عذرا فيه وقاعدة ما يكون عذرا فيه، وخلاصة الفرق بينهما أن الجهل المعفو عنه ما يتعذر الاحتراز عنه.
عادة وغير المعفو عنه ما لا يتعذر الاحتراز عنه في العادة. "خ".
قلت: انظر أيضا في العذر بالجهل وحده: "طريق الهجرتين" "412-414"، و"تفسير الآلوسي" "1/ 154" و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 21و 11/ 406-407 و20/ 59-61 و19/ 23، 219"، و"الإحكام" "5/ 111 -114" لابن حزم.
3 في الأصل: "بما وافق أو خالف فيه"، وفي "خ": "بما يخالف".
4 أي: فما فعله على نية المخالفة، ولكنه صادف موافقة الطريق المشروع كان معتبرا، أي غير باطل، فتنسحب عليه أحكام الصحيح، وأما إذا صادف مخالفة المشروع، فهو باطل لا يأخذ حكم المشروع، وقوله: "لأن ما لا تشترط النية.... إلخ" توجيه لا عتبار ما وافق مع كونه ناويا المخالفة. "د".

 

ج / 2 ص -379-       عقدا يقصد أنه فاسد فكان صحيحا، أو شرب جلابا يظنه خمرا، إلا أن عليه في قصد المخالفة درك الإثم.
وأما إذا لم يقصد موافقة ولا مخالفة، فهو العمل على مجرد الحظ أو الغفلة، كالعامل ولا يدري ما الذي يعمل، أو يدري ولكنه إنما قصد1 مجرد العاجلة، معرضا عن كونه مشروعا أو غير مشروع، وحكمه في العبادات عدم الصحة، لعدم نية الامتثال، ولذلك لم يكلف الناسي ولا الغافل ولا غير العاقل، وفي العادات الصحة إن وافق قصد الشارع، وإلا، فعدم الصحة.
وفي هذا الموضع نظر إذ يقال: إن المقصد2 هنا لما انتفى، فالموافقة غير معتبرة لإمكان الاسترسال بها في المخالفة، وقد يظهر لهذا تأثير في تصرفات المحجور، كالطفل والسفيه الذي لا قصد له إلى موافقة قصد الشارع في إصلاح المال، فلذلك قيل بعدم نفوذ تصرفاته مطلقا، وإن وافقت المصلحة، وقيل بنفوذ ما وافق المصلحة منها لا ما خالفها، على تفصيل أصله هذا النظر، وهو أن مطلق القصد إلى المصلحة غير منتهض، فهو بهذا القصد مخالف للشارع، وقد يقال: القصد إنما يعتبر بما ينشأ عنه، وقد نشأ هنا مع عدم القصد موافقة قصد الشارع، فصح.
فصل:
حيث قلنا بالصحة في التصرفات العادية وإن خالف القصد قصد الشارع، فإن ما مضى الكلام فيه مع اصطلاح الفقهاء، وأما إذا اعتبرنا ما هو مذكور في هذا الكتاب في نوع الصحة والبطلان من كتاب الأحكام، فكل ما خالف قصد الشارع، فهو باطل على الإطلاق، لكن بالتفسير المقدم3، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "قصده".
2 في "ط": "القصد".
3 وهو عدم ترتب الآثار الأخروية عليه من مرجو الثواب. "د".

 

ج / 2 ص -380-       المسألة السابعة:
المطلوب الشرعي ضربان:
أحدهما:
ما كان من قبيل العادات الجارية بين الخلق، في الاكتسابات وسائر المحاولات الدنيوية، التي هي طرق الحظوظ العاجلة، كالعقود على اختلافها، والتصاريف المالية على تنوعها.
والثاني:
ما كان من قبيل العبادات اللازمة للمكلف، من جهة توجهه إلى الواحد المعبود.
فأما الأول:
فالنيابة فيه صحيحة1، فيقوم فيها الإنسان عن غيره وينوب منابه2 فيما لا يختص به منها، فيجوز أن ينوب منابه في استجلاب المصالح له ودرء المفاسد عنه، بالإعانة والوكالة ونحو ذلك مما هو في معناه؛ لأن الحكمة التي يطلب بها المكلف في ذلك كله صالحة أن يأتي بها سواه، كالبيع والشراء، والأخذ والإعطاء، والإجارة والاستئجارة3، والخدمة، والقبض، والدفع، وما أشبه ذلك ما لم يكن مشروعا لحكمة لا تتعدى المكلف عادة أو شرعا، كالأكل والشرب، واللبس، والسكنى، وغير ذلك مما جرت به العادات، وكالنكاح وأحكامه التابعة له من وجوه الاستمتاع التي لا تصح النيابة فيها شرعا، فإن مثل هذا مفروغ من النظر فيه؛ لأن حكمته لا تتعدى صاحبها إلى غيره، ومثل ذلك وجوه العقوبات والازدجار؛ لأن مقصود الزجر لا يتعدى صاحب الجناية ما لم يكن ذلك راجعا إلى المال، فإن النيابة فيه تصح، فإن كان دائرا بين الأمر المالي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء/ ص 196": "تصح".
2 في الأصل: "ويقوم مقامه".
3 في الأصل و"خ" و"ماء/ ص197": "والاستجارة".

 

ج / 2 ص -381-       وغيره، فهو مجال نظر واجتهاد، كالحج1 والكفارات، فالحج بناء على أن المغلب فيه التعبد، فلا تصح النيابة فيه، أو المال، فتصح، والكفارة، بناء على أنها زجر فتختص، أو جبر فلا تختص، وكالتضحية2 في الذبح بناء على ما بنى عليه في الحج، وما أشبه هذه الأشياء.
فالحاصل أن حكمة العاديات إن اختصت بالمكلف، فلا نيابة، وإلا، صحت النيابة، وهذا القسم لا يحتاج إلى إقامة لوضوح الأمر فيه.
وأما الثاني:
فالتعبدات الشرعية لا يقوم فيها أحد عن أحد، ولا يغني فيها عن المكلف غيره، وعمل العامل لا يجتزي به غيره3، ولا ينتقل بالقصد إليه، ولا يثبت إن وهب، ولا يحمل إن تحمل، وذلك بحسب النظر الشرعي القطعي نقلا وتعليلا4.
فالدليل على صحة هذه الدعوى أمور:
أحدها:
النصوص الدالة على ذلك، كقوله تعالى:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التمثيل بالحج هنا غير واضح؛ لأن تقدير كلامه إن كان الأمر العادي دائرا بين المال والعقوبة كالكفارات، فهو مجال نظر، وليس الحج كذلك، بل هو أمر عبادي وفيه نوع ارتباط بالمال، فإذا تغلب أحدهما روعي، ومثله يقال في الضحية، ولو أنه جعل التقسيم إلى ثلاثة أضرب، فأضاف إلى هذين الضربين ضربا يدور بين العبادة والأمور المالية لكان أوجه. "د".
2 في الأصل و"خ" و"ط": "الضحية".
3 فصل هذه المعاني وإن كانت متقاربة أو متلازمة لتأتي الأدلة في الآيات بعدها على طبقها صراحة، فعليك بتطبيق الأدلة على تلك المعاني. "د".
4 انظر في تفصيل ذلك: "المغني" "5/ 92"، و"المجموع" "3/ 15"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "18/ 142-143 و24/ 306-313"، و"الفروق" "3/ 188"، و"بداية المجتهد" "1/ 273"، و"فتاوى ابن رشد" "3/ 1442-1446"، و"فتح القدير" "3/ 144-145"، و"حاشية ابن عابدين" "1/ 355".

 

ج / 2 ص -382-        {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39].
وفي القرآن:
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] في مواضع.
وفي بعضها:
{وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18].
ثم قال:
{وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِه} [فاطر: 18].
وقال تعالى:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت: 12].
[وقال]1:
{وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُم} [القصص: 55].
وقال تعالى:
{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنعام: 52].
وأيضا ما يدل على أن أمور الآخرة لا يملك فيها أحد عن أحد شيئا، كقوله:
{يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار: 19]، فهذا عام في نقل الأجور أو حمل الأوزار ونحوها.
وقال:
{وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: 33].
وقال:
{وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} الآية: [البقرة: 48].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.

 

ج / 2 ص -383-       إلى كثير من هذا المعنى.
وفي الحديث حين أنذر عليه الصلاة والسلام عشيرته الأقربين:
"يا بني فلان! إني لا أملك لكم من الله شيئا"1.
والثاني:
المعنى، وهو أن مقصود العبادات الخضوع لله، والتوجه إليه، والتذلل بين يديه، والانقياد تحت حكمه، وعمارة القلب بذكره، حتى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرا مع الله، ومراقبا له غير غافل عنه، وأن يكون ساعيا في مرضاته وما يقرب إليه على حسب طاقته، والنيابة تنافي هذا المقصود وتضاده2؛ لأن معنى ذلك أن لا يكون العبد عبدا، ولا المطلوب بالخضوع والتوجه خاضعا ولا متوجها، إذا ناب عنه غيره في ذلك، وإذا قام غيره في ذلك مقامه، فذلك الغير هو الخاضع المتوجه، والخضوع والتوجه ونحوهما إنما هو اتصاف بصفات العبودية، والاتصاف لا يعدو المتصف به ولا ينتقل عنه إلى غيره، والنيابة إنما معناها أن يكون المنوب منه بمنزلة النائب، حتى يعد المنوب عنه متصفا بما اتصف به النائب، وذلك لا يصح في العبادات كما يصح في التصرفات، فإن النائب في أداء الدين مثلا لما قام مقام المديان صار المديان متصفا بأنه مؤد لدينه، فلا مطالبة للغريم بعد ذلك به، وهذا في التعبد لا يتصور ما لم يتصف المنوب عنه بمثل ما اتصف به النائب، ولا نيابة إذ ذاك على حال.
والثالث:
أنه لو صحت النيابة في العبادات البدنية3 لصحت في الأعمال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، باب من انتسب إلى آبائه في الإسلام والجاهلية، 6/ 551/ رقم 3527"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى:
{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، 1/ 192-193/ رقم 204، 206" عن أبي هريرة وفيه طول، والمذكور نحوه.
2 نحوه في "الفروق" "2/ 205"، و"قواعد الأحكام" "1/ 135".
3 إنما جعلها هي الملزوم ومناط الاستدلال في هذا الوجه-وإن كان الأصل فيما سبق =

 

ج / 2 ص -384-       القلبية، كالإيمان وغيره من الصبر والشكر، والرضى والتوكل، والخوف والرجاء، وما أشبه ذلك، ولم تكن التكاليف محتومة على المكلف عينا لجواز النيابة، فكان يجوز أمره ابتداء على التخيير بين العمل والاستنابة، ولصح مثل ذلك في المصالح المختصة بالأعيان من العاديات، كالأكل والشرب، والوقاع واللباس وما أشبه ذلك، وفي الحدود والقصاص والتعزيرات وأشباهها من أنواع الزجر، وكل ذلك باطل بلا خلاف، من جهة أن حكم هذه الأحكام مختصة، فكذلك سائر التعبدات.
وما تقدم1 من آيات القرآن كلها عمومات لا تحتمل التخصيص؛ لأنها محكمات نزلت بمكة2 احتجاجا على الكفار، وردا عليهم في اعتقادهم حمل بعضهم عن بعض أو دعواهم ذلك عنادا، ولو كانت تحتمل الخصوص في هذا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عاما- لأنها بقطع النظر عن الأدلة هي التي يتوهم فيها ذلك، ويظهر أثره فيها بالقيام بالنيابة وعدم القيام بها بخلاف القلبية، فلا يظهر ذلك فيها، ولا يعقل فيها النيابة رأسا، فلا يعقل أن يقوم أحد عن أحد بالإيمان مثلا، وقوله: "ولم تكن التكاليف..... إلخ"، أي: مطلقا بدنية أو قلبية، وقوله: "وكل ذلك باطل"، أي: اللوازم الثلاثة باطلة، أي: فالملزوم مثلها، وعليه يكون قوله: "من جهة أن حكم هذه الأحكام مختصة" راجعا لخصوص الدليل الثالث، أي أن التعبدات مختصة بالمكلف بها كما سبق بيانه، فتكون كالعاديات المختصة كالأكل والوقاع مثلا، فلما كانت هذه لا نيابة فيها كانت جميع التعبدات لا نيابة فيها، ويصح أن يعود قوله: "وكل ذلك باطل" إلى ما دخل تحت قوله: "ولصح مثل ذلك في المصالح المختصة وفي الحدود وأشباهها"، ويكون حذف بطلان اللازم من الدليلين الأولين. "د".
قلت: انظر في معنى ما قرر المصنف: "حاشية الدسوقي" "2/ 18".
1 لو قدم هذا على الثاني، وهو المعنى ليكون تكميلا للدليل الأول وهو النصوص، لكان أنسب وإن كان وجه تأخره ارتباطه بالإشكال بعده، حيث يقول فيه: "وتبين أن ما تقدم في الكلية ليست على العموم". "د".
2 أي: ما عدا الآية الأخيرة، فإنها من سورة البقرة. "د".

 

ج / 2 ص -385-       المعنى، لم يكن فيها رد عليهم، ولما قامت عليهم بها حجة، أما على القول بأن العموم إذا خص لا يبقى حجة في الباقي، فظاهر، وأما على قول غيرهم، فلتطرق احتمال التخصيص بالقياس أو غيره، وإذا تأمل الناظر العمومات المكية وجد عامتها1 عرية عن التخصيص والنسخ وغير ذلك من الأمور المعارضة، فينبغي للبيب أن يتخذها عمدة في الكليات الشرعية، ولا ينصرف عنها.
فإن قيل: كيف هذا؟ وقد جاء في النيابة في العبادات واكتساب الأجر والوزر من الغير، وعلى ما لم يعمل أشياء:
أحدها:
الأدلة الدالة على خلاف ما تقدم، وهي جملة منها أن
"الميت يعذب ببكاء الحي عليه"2.
وأن
"من سن سنة حسنة أو سيئة، كان له أجرها أو عليه وزرها"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي لذلك في الأدلة مبحث واسع شاف، وقوله: "الأمور المعارضة"، أي: العشرة المشهورة التي منها الإضمار والحقيقة والمجاز..... إلخ، والكلام يحتاج إلى دقة في وزنه وتطبيقه، وسيأتي في محله. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه، 3/ 152/ رقم 1290"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، 2/ 638/ رقم 927"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الجنائز باب النياحة على الميت، 4/ 16-17"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الجنائز، باب ما جاء في كراهية البكاء على الميت/ رقم 1002"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الجنائز، باب ما جاء في الميت يعذب بما نيح عليه / رقم 1593" عن عمر موقوفا.
وانظر في معنى الحديث وتوجيهه: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "24/ 369-378"، و"عمدة القاري" "4/ 79"، و"تهذيب السنن" "4/ 290-293" لابن القيم، و"مجموعة الرسائل المنيرية" "2/ 209".
3 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة، 2/ 704-705/ رقم 1017" من حديث جرير رضي الله عنه، ومضى "1/ 222". قلت: وفي "خ" كان الحديث:
"كان عليه وزرها وله أجرها".

 

ج / 2 ص -386-       وأن "الرجل إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث"1
وأنه
"ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها"2.
وفي القرآن:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21].
وفسر بأن الأبناء يرفعون إلى منازل الآباء وإن لم يبلغوا ذلك بأعمالهم.
وفي الحديث: إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال:
"نعم"3.
وفي رواية:
"أفرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته، أكان يجزئه"؟ قالت: نعم: قال: "فدين الله أحق أن يقضى"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، 3/ 1255/ رقم 1631"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الوصايا، باب فضل الصدقة عن الميت، 6/ 251"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأحكام، باب في الوقف،3/ 660/ رقم 1376"- وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الوصايا، باب ما جاء في الصدقة عن الميت، 3/ 117/ رقم 2880"، وأحمد في "المسند" "2/ 372"، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 38" عن أبي هريرة مرفوعا، ولفظ مسلم:
"إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا في ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته- 6/ 364/ رقم 3335"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القسامة، باب بيان إثم من سن القتل، 3/ 1303-1304/ رقم 1677" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وتقدم "1/ 222".
3 أخرج الرواية الأولى البخاري في "الصحيح" "كتاب جزاء الصيد، باب الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة، 4/ 66/ رقم 1853، 1854"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت، 2/ 973/ رقم 1334" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وفي "ط": "فريضة الله الحج أدركت...".
وأخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب جزاء الصيد، باب الحج والنذور عن الميت، 4/ 64/ رقم 1852" نحو الرواية الثانية من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضا.

 

ج / 2 ص -387-       "ومن مات وعليه صوم صام عنه وليه"1.
وقيل: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه. قال:
"فاقضه عنها"2.
وقد قال بمقتضى هذه الأحاديث كبراء وعلماء، وجماعة ممن لم يذهب إلى ذلك قالوا بجواز هبة العمل، وأن ذلك ينفع الموهوب له عند الله تعالى، فهذه جملة تدل على ما لم يذكر من نوعها، وتبين أن ما تقدم في الكلية المذكورة ليست على العموم، فلا تكون صحيحة.
والثاني:
أن لنا قاعدة يرجع إليها غير مختلف فيها، وهي قاعدة الصدقة عن الغير، وهي عبادة؛ لأنها إنما تكون صدقة إذا قصد بها وجه الله تعالى وامتثال أمره، فإذا تصدق الرجل عن الرجل، أجزأ ذلك عن المتصدق عنه وانتفع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب من مات وعليه صوم، 4/ 192 / رقم 1952"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، 2/ 803/ رقم 1147"، وأبو داود في "السنن":"كتاب الصوم، باب فيمن مات وعليه صيام، 2/ 791-792/ رقم 2400"، وأحمد في "المسند" "6/ 69" والبيهقي في الكبرى" "4/ 255" وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب من مات وعليه نذر، 11/ 583/ رقم 6698"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النذر، باب الأمر بقضاء النذر، 3/ 1260 / رقم 1638" أن ابن عباس قال: استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه، توفيت قبل أن تقضيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"فاقضه عنها".

 

ج / 2 ص -388-       به، ولا سيما إن كان ميتا، فهذه عبادة حصلت فيها النيابة، ويؤكد ذلك ما كان من الصدقة فرضا كالزكاة، فإن إخراجها عن الغير جائز وجاز عن ذلك الغير، والزكاة أُخَيَّةُ الصلاة1.
والثالث:
أن لنا قاعدة أخرى متفقا عليها أو كالمتفق عليها2، وهي تحمل العاقلة للدية في قتل الخطأ، فإن حاصل الأمر في ذلك أن يتلف زيد فيغرم عمرو، وليس ذلك إلا من باب النيابة في أمر تعبدي لا يعقل معناه، ومنه أيضا نيابة الإمام عن المأموم في القراءة وبعض أركان الصلاة مثل القيام، والنيابة عنه في سجود السهو بمعنى أنه يحمله عنه، وكذلك الدعاء للغير، فإن حقيقته خضوع لله وتوجه إليه، والغير هو المنتفع بمقتضى تلك العبادة، وقد خلق الله ملائكة عبادتهم الاستغفار للمؤمنين خصوصا ولمن في الأرض عموما، وقد استغفر النبي صلى الله عليه وسلم لأبويه3 حتى نزل:
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جملة خطابية، يقوى بها الإشكال ليجري فيما ليس فيه شائبة مالية. "د".
2 المخالف فيها قليل، راجع "إعلام الموقعين" "2/ 16-17" ط محمد عبد الحميد.
3 الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمه، فلم يأذن له ربه عز وجل، وأما سبب النزول، فقيل: نزلت في ذلك كما عند الطبري في "التفسير" "11/ 43" من مرسل قتادة، وعن ابن عباس عنده أيضا "11/ 42" بإسناد ضعيف، فيه عطية العوفي.
والنهي عن الاستغفار ثابت في غير حديث، منها:
ما أخرجه مسلم في "الصحيح" "2/ 672 بعد 977/ 106" -ولم يسبق لفظه- والترمذي في "الجامع" "3/ 370/ رقم 1054" مختصرا، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 117"، وأحمد في "المسند" "5/ 355 و356"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 376"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "4/ 76" و"الدلائل" "1/ 189"، وابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 652 و653 و664"، والجورقاني في الأباطيل" "1/ 229-230"، والطبري في "التفسير" "11/ 42" وابن مردويه عن بريدة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة، أتي رسم قبر فجلس عليه، فجعل =

 

ج / 2 ص -389-       ..........................................

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يخاطب، ثم قام مستعبرا، فقلنا: يا رسول الله! إنا رأينا ما صنعت، قال:
"إني استأذنت ربي في زيارة أمي فأذن لي، وأستأذنته في الاستغفار لها، فلم يأذن لي".
وما أخرجه مسلم "كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، 2/ 671/ رقم 976 و977"، وأبو داود "كتاب الجنائز، باب في زيارة القبور، 3/ 218/ رقم 3235"، والنسائي "كتاب الجنائز، باب زيارة قبر المشرك، 4/ 90"، وعنه الجورقاني في "الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير" "1/ 230"، وابن ماجه "كتاب الجنائز، باب ما جاء في زيارة قبور المشركين، 1/ 501/ رقم 1572"، وأحمد في "المسند" "2/ 441"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "3/ 89"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "4/ 76 و7/ 190"، و"دلائل النبوة" "1/ 190"، والبغوي في "شرح السنة" "5/ 463/ رقم 1554"، و"معالم التنزيل" "3/ 115" من طريقين عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة "أنه صلى الله عليه وسلم استأذن في الاستغفار لأمه، فلم يؤذن له".
والصحيح في سبب النزول أنها نزلت في عمه أبي طالب.
أخرج البخاري "كتاب التفسير، باب
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِين}، 8/ 341/ رقم 4675، وباب {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، 8/ 506/ رقم 4772"، ومسلم "كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع -وهو الغرغرة-ونسخ جواز الاستغفار للمشركين، والدليل على أن من مات على الشرك فهو من أصحاب الجحيم، ولا ينقذه من ذلك شيء من الوسائل، 1/ 54/ رقم 24"، والنسائي في "السنن الكبرى" "كتاب التفسير 1/ 561/ رقم 250 و2/ 144/ رقم 403"، وكما في "تحفة الأشراف" "8/ 387"، و"المجتبى" "4/ 90-91"، وأبو عوانة في "المسند" "1/ 14-15"، وأحمد في "المسند" "5/ 433"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "3/ 187"، وابن منده في "الإيمان" "رقم 37"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 978- الإحسان"، وابن جرير في "التفسير" "11/ 30 و20/ 59"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 342-343"، والبغوي في "شرح السنة" "5/ 55-56"، وابن البناء في "فضل التهليل" "رقم 47"، والواحدي في "أسباب النزول" "177" من طرق عدة عن الزهدي عن سعيد بن المسيب عن أبيه وهو المسيب بن حزن، قال: "لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل وعبد الملك =

 

ج / 2 ص -390-       وقال في ابن أبي: "لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك"1 حتى نزل: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُم} [التوبة: 80]، [ونزل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} الآية]2 [التوبة: 84].
وإن كان قد نهي عنه، فلم يُنه عن الاستغفار لمن كان حيا منهم، وقال عليه الصلاة والسلام:
" اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون"3.
وعلى الجملة، فالدعاء للغير مما علم من دين الأمة ضرورة.
والرابع:
إن النيابة في الأعمال البدنية غير العبادات4 صحيحة، وكذلك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ابن أبي أمية بن المغيرة، فقال:
"أي عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاجَّ لك بها عند الله؟" فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: "أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدانه بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله".
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لأستغفرن لك ما لم أنه عنك". فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِين}، وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء}. وهذا لفظ البخاري في الموطن الثاني.
1 بل قالها في عمه أبو طالب، كما تقدم في الحديث السابق.
2 ما بين المعقوفتين سقط من "ط".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأنبياء، باب منه، 6/ 514/ رقم 3477، وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب: منه 12/ 282/ رقم 6929"، ومسلم في "صحيحه" كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد 3/ 1417/ رقم 1792" عن ابن مسعود رضي الله عنه، والمذكور لفظ البخاري، ولفظ مسلم:
"رب اغفر.....".
4 ليس محل نزاع، ولكنه جاء به لتوسيع المجال في الإشكال، وأنها لكونها مشروعة جازت فيهم النيابة، فإذن كل ما كان مشروعا تجوز فيه النيابة، ومنه العبادات، ولا يخفى عنك أن أهم شيء في هذا الوجه ما يتعلق بالجهاد من جهة كونه عبادة، وأما مجرد مشروعيته التي جاء بها؛ ليجعلها كَعِلَّة للقياس، فهي ضعيفة. "د".

 

ج / 2 ص -391-       بعض العبادات البدنية، وإن كانت واجبة على الإنسان عينا، وكذلك المالية، وأولها الجهاد، فإنه جائز أن يستنيب فيه المكلف به غيره بجعل وبغير جعل، إذا أَذِنَ الإمام، والجهاد عبادة، فإذا جازت النيابة في مثل هذا، فلتجز في باقي الأعمال المشروعة؛ لأن الجميع مشروع.
والخامس:
أن مآل الأعمال التكليفية أن يجازى عليها، وقد يجازى الإنسان على ما لم يعمل، خيرا كان الجزاء أو شرًّا، وهو أصل متفق عليه في الجملة، وذلك ضربان:
أحدهما: المصائب النازلة في نفسه وأهله وولده وعرضه، فإنه إن كانت باكتساب1 كفر بها من سيئاته، وأُخِذ بها من أجر غيره، وحمل غيره وزره، و[لو] لم يعمل بذلك2، فضلا عن أن يجد ألمه، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في المفلس يوم القيامة3، وإن كانت بغير اكتساب، فهي كفارات فقط، أو كفارات وأجور، وكما جاء فيمن
"غرس غرسا أو زرع زرعا يأكل منه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: اكتساب الغير، وقوله: "بغير اكتساب"، أي: بأن كانت من الله محضا. "د".
2 لعل الأصل: "وإن لم يعلم بذلك" ليلتئم مع قوله: "فضلا عن أن يجد ألمه". "د".
3 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم 4/ 1997/ رقم 2581"، والترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص 4/ 613/ رقم 2418"، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وأحمد في المسند" "2/ 334"، والبغوي في "شرح السنة" "14/ 360/ رقم 4164"، وعبد الغني المقدسي في "ذكر النار" "رقم 6" عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"أتدرون ما المفلس"؟. قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: "إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار".

 

ج / 2 ص -392-       إنسان أو حيوان أنه له أجر"1 وفيمن "ارتبط فرسا في سبيل الله فأكل في مرج أو روضة، أو شرب في نهر، أو استنَّ شرفا أو شرفين، ولم يرد أن يكون ذلك، فهي له حسنات"2، وسائر ما جاء في هذا المعنى.
والضرب الثاني: النيات التي تتجاوز الأعمال3 كما جاء:
"إن المرء يكتب له قيام الليل أو الجهاد إذا حبسه عنه عذر"4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الحرث والمزارعة، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه، 5/ 3/ رقم 2320، وكتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم 10/ 438/ رقم 6012"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع 3/ 1189/ رقم 1553" عن أنس مرفوعا بلفظ:
"ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة".
2 مضى تخريجه "ص340"، وهو قطعة من حديث في "الصحيحين"، قال "د": "لعلها رواية بالمعنى، وإلا، فما تقدم له في الفصل الثاني من المسألة الخامسة يقتضي أن قوله: "ولم يرد ذلك" راجع إلى خصوص الشرب، نعم، إن ذلك هو مناط الإشكال؛ لأنه لو قصد شيئا من ذلك لم يكن فيه ما يعترض به هنا".
3 انظر في تحقيق هذا النوع مع أمثلة عليه: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 740-742 و6/ 575 و14/ 123 و35/ 52".
4 قلت: والعذر نصص عليه في حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة 6/ 136/ رقم 2996" من حديث أبي موسى مرفوعا،
"إذا مرض العبد أو سافر، كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا".
والنوم عذر في حق من كان له نصيب من قيام الليل، ودليله ما أخرجه النسائي في "المجتبى" "1/ 255"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 1344"، وابن نصر في "قيام الليل" "ص38"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 311"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 15" بسند صحيح عن أبي الدرداء مرفوعا:
"من نام ونيته أن يقوم، كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه".
وأخرج مالك في "الموطأ" "1/ 117" -ومن طريقه أبو داود في "السنن" "رقم 1314"، والنسائي في "المجتبى" "1/ 255"، وأحمد في "المسند" "6/ 180"، وابن نصر في "قيام الليل"=

 

ج / 2 ص -393-       وكذلك سائر الأعمال، حتى قال عليه الصلاة والسلام في المتمنِّي أن يكون له مال يعمل به مثل عمل فلان: "فهما في الأجر سواء"، وفي الآخر: "فهما في الوزر سواء"1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "ص78"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ 15" من حديث عائشة مرفوعا:
"ما من امرئ تكون له صلاة بليل، يغلبه عليها نوم، إلا كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة".
أما الجهاد، فدليله ما أخرجه الشيخان في "صحيحهما" من حديث جابر مرفوعا:
"إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم، حبسهم المرض"، وفي رواية عند مسلم: "إلا شركوكم في الأجر".
وورد في المرض خاصة حديث عقبة بن عبار مرفوعا:
"ليس من عمل يوم إلا وهو يختم عليه، فإذا مرض المؤمن قالت الملائكة: يا ربنا! عبدك فلان قد حبسته! فيقول الرب عز وجل: اختموا له على مثله عمله حتى يبرأ أو يموت" أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 146" بإسناد صحيح، وأخرج أحمد في "المسند" "4/ 123" من حديث شداد والحاكم في "المستدرك" "4/ 313" من حديث أبي أمامة، وأحمد "3/ 238" من حديث أنس ما يشهد له.
1أخرج وكيع في "الزهد" "رقم 240" -ومن طريقه ابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب النية 2/ 1413/ 4228"، وأحمد في "المسند" "4/ 230"، والفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 106"- بإسناد صحيح عن أبي كبشة الأنماري: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالا وعلما، فهو يعمل بعلمه في ماله، ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا، فهو يقول: لو كان لي مثل هذا، عملت فيه مثل الذي يعمل" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما، فهو يخبط في ماله، ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤتِهِ الله علما ولا مالا، فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهما في الوزر سواء".
وأخرجه من طرق عن أبي كبشة هناد في "الزهد" "رقم 568"، والمروزي في "زياداته على زهد ابن المبارك" "رقم 354"، وأحمد في "المسند" "4/ 230، 231"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب ما جاء في الدنيا مثل أربعة نفر 4/ 562/ رقم 2325" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- والفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 105، 106"، وابن ماجه في "السنن" "2  1413-1414".
وصححه ابن كثير في "فضائل القرآن" "ص63".

 

ج / 2 ص -394-       وحديث: "من هم بحسنة فلم يعملها؛ كتبت له حسنة"1.
"والمسلمان يلتقيان بسيفهما"2 الحديث.
إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على عد المكلف بمجرد النية كالعامل نفسه في الأجر والوزر، فإذا كان كالعامل وليس بعامل ولا عمل عنه غيره، فأولى3 أن يكون كالعامل إذا استناب غيره على العمل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة 11/ 323/ رقم 6491"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب 1/ 117/ رقم 131" من ضمن حديث إلهي رواه ابن عباس رضي الله عنهما.
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}، 1/ 84-85/ رقم 31، وكتاب الديات، باب قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} 12/ 192/ رقم 6875، وكتاب الفتن، باب إذا التقى المسلمان بسيفهما 13/ 31-32/ رقم 7083"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفتن، باب إذا تواجه المسلمان بسيفهما 4 / 2213-2214/ رقم 2888"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب تحريم الدم، باب تحريم القتل 7/ 125"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الفتن، باب في النهي عن القتال في الفتنة 4/ 103/ رقم 4268، 4269"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفتن، باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما 2/ 1311/ رقم 3965" عن أبي بكرة مرفوعا: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار" قال: فقلت "أو قيل": يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه قد أراد قتل صاحبه" وفي رواية: "إذا التقى المسلمان.....".
3 أي: لأن النية حينئذ حاصلة، وقد حصل المنوي بالفعل، وإن كان من غيره وهذا ظاهر إذا رجعنا قوله: "فإذا كان كالعامل.....إلخ" إلى الضرب الثاني فقط، إلا أنه لا يكون قد عمل للأول نتيجة، ولا بين وجه الاستدلال به، أما إذا رجعناه للضربين فيكون قد رتب على الأول أيضا نتيجته، لكن السياق في ذكره للأعمال في الثاني يشهد للتقرير الأول. "د".

 

ج / 2 ص -395-       فالجواب: أن هذه الأشياء وإن كان منها ما قال بعض العلماء فيه بصحة1 النيابة، فإن للنظر فيها متسعا.
أما قاعدة الصدقة عن الغير وإن عددناها عبادة، فليست من هذا الباب، فإن كلامنا في نيابة في عبادة من حيث هي تقرب إلى الله تعالى وتوجه إليه، والصدقة عن الغير من باب التصرفات المالية، ولا كلام فيها.
وأما قاعدة الدعاء، فظاهر أنه ليس في الدعاء نيابة؛ لأنه شفاعة للغير، فليس من هذا الباب.
وأما قاعدة النيابة في الأعمال البدنية والمالية، فإنها مصالح معقولة المعنى، لا يشترط فيها من حيث هي كذلك نية، بل المنوب عنه إن نوى القربة فيما له سبب فيه، فله أجر ذلك، فإن العبادة منه صدرت لا من النائب، والنيابة على مجرد التفرقة أمر خارج عن نفس التقرب بإخراج المال، والجهاد وإن كان من الأعمال المعدودة في العبادات، فهي في الحقيقة معقولة المعنى، كسائر فروض الكفايات التي هي مصالح للدنيا، لكن لا يحصل لصاحبها الأجر الأخروي إلا إذا قصد وجه الله تعالى وإعلاء كلمة الله، فإن قصد الدنيا، فذلك حظه، مع أن المصلحة الجهادية قائمة، كقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد شعبة منها، على أن من أهل العلم من كره النيابة في الجهاد [بالجعل]2، لما فيه من تعريض النفس للهلكة في عرض من أعراض الدنيا، ولو فرض هنا قصد التقرب بالعمل، لم يصح فيه من تلك الجهة نيابة أصلا، فهذا [الأصل]2 لا اعتراض به أيضا.
وأما قاعدة المصائب النازلة، فليست من باب النيابة في التعبد، وإنما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ" و"ط": "في صحة".
2 ما بين المعقوفات في الموضعين ليست في الأصل.

 

ج / 2 ص -396-       الأجر والكفارة في مقابلة ما نيل منه لا لأمر خارج عن ذلك، وكون حسنات الظالم تعطى المظلوم، أو سيئات المظلوم تطرح على الظالم، فمن باب الغرامات، فهي معاوضات؛ لأن1 الأعواض الأخروية إنما تكون في الأجور والأوزار؛ إذ لا دينار هناك ولا درهم، وقد فات القضاء في الدنيا.
ومسألة الغرس والزرع من باب المصائب في المال، ومن باب الإحسان به إن كان باختيار مالكه.
ومسألة العاجز عن الأعمال راجعة إلى الجزاء على الأعمال المختصة بالعامل بلا نيابة؛ إذ عد في الجزاء بسبب نيته كمن عمل تفضلا من الله تعالى، مع أن الأحكام إنما تجري في الدنيا على الظاهر، ولذلك يقال فيمن عجز عن عبادة واجبة وفي نيته أن لو قدر عليها لعملها إن له أجر من عملها، مع أن ذلك لا يسقط القضاء عنه فيما بينه وبين الله إن كانت العبادة مما يقضى، كما أنه لو تمنى2 أن يقتل مسلما أو يسرق أو يفعل شرا إلا أنه لم يقدر، كان له وزر من عمل، ولا يعد في الدنيا كمن عمل، حتى يجب عليه ما يجب على الفاعل حقيقة، فليست من النيابة في شيء، وإن فرضت النيابة، فالنائب هو المكتسب، فعمله عليه أو له، فهذه القواعد لا تنقض ما تأصل3.
ونرجع إلى ما ذكر أول السؤال، فإنه عمدة من خالف في المسألة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "لكن".
2 أي: عزم وصمم، ولكنه فاته غرضه بأمر خارج عن إرادته. "د".
3 وانظر تفصيل ما تقدم في رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية: "التحفة العراقية"، و"مجموع الفتاوى" "6/ 575 و10/ 740-742 و14/ 123 و35/ 52"، و"فتح الباري" "11/ 327-328"، و"الأشباه والنظائر" "ص34" للسيوطي، و"تفسير القرطبي" "18/ 241 و12/ 35 و4 / 294"، و"مقاصد المكلفين" "ص142 وما بعدها" ورسالة الشوكاني "رفع البأس عن حديث النفس والهم والوسواس". وهي مطبوعة.

 

ج / 2 ص -397-       فحديث تعذيب الميت [ببكاء] الحي1 ظاهر حمله على عادة العرب في تحريض المريض -إذا ظن الموت- أهله على البكاء عليه، وأما "من سن سنة...."2، وحديث ابن آدم الأول3 وحديث انقطاع العمل إلا من ثلاث4، وما أشبه ذلك، فإن الجزاء فيها راجع إلى عمل المأجور أو الموزور؛ لأنه الذي تسبب فيه أولا، فعلى جريان سببه تجري المسببات، والكفل الراجع إلى المتسبب "الأول" ناشئ عن عمله، لا عن عمل المتسبب الثاني، وإلى هذا المعنى يرجع قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} الآية [الطور: 21]؛ لأن ولده كسب من كسبه، فما جرى عليه من خير فكأنه منسوب إلى الأب، وبذلك فسر قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَب} [المسد: 2] أن ولده من كسبه، فلا غرو أن يرجع إلى منزلته وتقر عينه به5، كما تقر عينه بسائر أعماله الصالحة، وذلك قوله تعالى: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْء} [الطور: 21].
وإنما يشكل من كل ما أورد ما بقي من الأحاديث، فإنها كالنص في معارضة القاعدة المستدل عليها، وبسببها وقع الخلاف فيما نص فيها خاصة -وذلك الصيام والحج- وأما النذر، فإنما كان صياما فيرجع إلى الصيام.
والذي يجاب به فيها أمور:
أحدها:
أن الأحاديث فيها مضطربة، نبه البخاري ومسلم على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الحديث الوارد في ذلك "ص385" وما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 انظر الحديث الوارد في ذلك "ص385".
3 انظر الحديث الوارد في ذلك "ص386".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان..... / رقم 3631" وغيره عن أبي هريرة.
5 لكن يبقى التوفيق بينه وبين آية:
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} فإن الذرية حازت منزلة عالية لم تستحقها بسعيها وإنما جاءت بسعي الآباء. "د".

 

ج / 2 ص -398-       اضطرابها، فانظره في "الإكمال"، وهو مما يضعف الاحتجاج بها إذا لم تعارض أصلا قطعيا، فكيف إذا عارضته؟
وأيضا، فإن الطحاوي قال في حديث:
"من مات وعليه صوم، صام عنه وليه"1: إنه لم يرو إلا من طريق عائشة، وقد تركته لم تعمل به وأفتت بخلافه، وقال في حديث التي ماتت وعليها نذر: إنه لا يرويه إلا ابن عباس، وقد خالفه وأفتى بأنه لا يصوم أحد عن أحد2.
والثاني:
أن الناس على أقوال3 في هذه الأحاديث: منهم من قبل ما صح منها بإطلاق، كأحمد بن حنبل، ومنهم من قال ببعضها، فأجاز ذلك في الحج دون الصيام، وهو مذهب الشافعي، ومنهم من منع بإطلاق، كمالك بن أنس، فأنت ترى بعضهم لم يأخذ ببعض الأحاديث وإن صح، وذلك دليل على ضعف الأخذ بها في النظر، ويدل على ذلك أنهم اتفقوا في الصلاة على ما حكاه ابن العربي4، وإن كان ذلك لازما في الحج لمكان ركعتي الطواف؛ لأنها تبع، ويجوز في التبع ما لا يجوز في غيره، كبيع الشجرة بثمرة قد أبرت، وبيع العبد بماله، واتفقوا على المنع في الأعمال القلبية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص387".
2 الحديث الذي يعمل راويه على خلافه وظهر أنه بما خالفه عن اجتهاد لا يسقط الاحتجاج به اتفاقا، وجرى الخلاف فيما إذا لم يعلم وجه عمله على خلافه، فذهبت طائفة من أهل العلم إلى سقوط الاحتجاج به؛ مستندة إلى أن الراوي إنما خالفه لدليل يقضي بتعطيله، والراجح القول بأن العبرة بالرواية، وأن مذهب الراوي لا يؤثر عليها شيئا، لاحتمال أن يكون إنما خالفها عن اجتهاد منه. "خ".
قلت: ونقل المصنف عن الطحاوي من كتابه: "شرح مشكل الآثار" 6/ 176- ط المحققة" بتصرف.
3 في "ط": "على قولين".
4 في "أحكام القرآن" "1/ 228، 289".

 

ج / 2 ص -399-       والثالث:
أن من العلماء من تأول الأحاديث على وجه يوجب ترك اعتبارها مطلقا، وذلك أنه قال: سبيل الأنبياء صلوات الله عليهم أن لا يمنعوا أحدا من فعل الخير، يريد أنهم سئلوا عن القضاء في الحج والصوم، فأنفذوا ما سئلوا فيه من جهة كونه خيرا، لا من جهة أنه جازٍ عن المنوب عنه1، وقال هذا القائل: لا يعمل أحد عن أحد شيئا: فإن عمله فهو لنفسه كما قال تعالى:
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39].
والرابع:
أنه يحتمل أن تكون هذه الأحاديث خاصة بمن كان له تسبب في تلك الأعمال، كما إذا أمر بأن يحج عنه أو أوصى بذلك، أو كان له فيه سعي حتى يكون موافقا لقوله تعالى:
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] وهو قول بعض العلماء.
والخامس:
أن قوله:
"صام عنه وليه" محمول على ما تصح فيه النيابة، وهو الصدقة مجازا؛ لأن القضاء تارة يكون بمثل المقضي، وتارة بما يقوم مقامه عند تعذره2، وذلك في الصيام الإطعام، وفي الحج النفقة عمن يحج عنه، أو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لكن هذا يبعده قوله عليه الصلاة والسلام،:
"أرأيت لو كان على أبيك دين...." إلى أن قال: "فدين الله أحق أن يقضى". "د".
قلت: ونحو المذكور عند ابن العربي في "أحكامه" "1/ 289"،والقرطبي في "تفسيره "4/ 152".
ومما يبعده استحالة أن يقر رسول الله صلى الله عليه وسلم السائلين على خلاف الحق، مجاراة لرغبة السائل في عمل الخير، بل كيف يقول للسائلين: حجوا وصوموا، ويجزئ ذلك عمن فعلتموه عنه، وواقع الأمر على خلاف ذلك، هذا ما لا يكون أبدا، ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. انظر: "مقاصد المكلفين" "ص276".
2 مثله في "العناية شرح الهداية" "2/ 360"، والمذكور ضعيف؛ إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، ومكلف بأن يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، فهل يمكن بعد ذلك أن يعبر بالصيام عن الإطعام على سبيل المجاز، ولكل منهما مدلول شرعي ولغوي يغاير الآخر، فهل هذا يناسب الفصاحة، أم يناسب البيان؟ وهو تعبير يوقع المكلفين في حيرة وارتباك، ولذا قال النووي في "المجموع" "6/ 429" عقبه -ونقله عن بعض الشافعية المنتصرين للقول الجديد في مذهبهم: "تأويل باطل".

 

ج / 2 ص -400-       ما أشبه ذلك.
والسادس:
أن هذه الأحاديث على قلتها معارضة لأصل ثابت في الشريعة قطعي، ولم تبلغ مبلغ التواتر اللفظي ولا المعنوي، فلا يعارض الظن القطع، كما تقرر أن خبر الواحد لا يعمل به إلا إذا لم يعارضه أصل قطعي، وهو أصل مالك بن أنس وأبي حنيفة1، وهذا الوجه هو نكتة الموضع، وهو المقصود فيه، وما سواه من الأجوبة تضعيف لمقتضى التمسك بتلك الأحاديث، وقد وضح مأخذ هذا الأصل الحسن2، وبالله التوفيق.
فصل:
ويبقى النظر في مسألة لها تعلق بهذا الموضع، وهي مسألة هبة الثواب، وفيها نظر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روى المدنيون والمغاربة عن الإمام مالك أن الخبر مقدم على القاعدة، وروى عنه البغداديون تقديم القاعدة المقطوع بها إذا تعذر الجمع بينها وبين الحديث وسيأتي للمصنف في أوائل كتاب الأدلة ناقلا عن ابن العربي أن مشهور قول مالك والذي عليه المعول أن الحديث المعارض لقاعدة إن عضدته قاعدة أخرى قال به، وإن كان وحده تركه. "خ".
2 الأحسن منه أن يقال: إن رد الأحاديث ليس بجيد، ويصار إلى ما ذكره المصنف وأبو العباس القرطبي قبله، فيما نقله عنه ابن حجر في "فتح الباري" "4/ 70" إذا لم يمكن التوفيق، وهنا يمكن التوفيق، كما تراه في "تهذيب السنن" "3/ 272" لابن القيم.

 

 

ج / 2 ص -401-       فللمانع1 أن يمنع ذلك من وجهين2:
أحدهما:
أن الهبة إنما صحت في الشريعة في شيء مخصوص، وهو المال، وأما في ثواب الأعمال، فلا، وإذا لم يكن لها3 دليل، فلا يصح القول بها.
والثاني:
أن الثواب والعقاب من جهة وضع الشارع كالمسببات بالنسبة إلى الأسباب، وقد نطق بذلك القرآن، كقوله تعالى:
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النساء: 13].
ثم قال:
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا [وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ]4} [النساء: 14].
وقوله:
{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 14].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المانعون الشافعية والحنابلة، غير أنهم فرقوا بين ما تصح فيه النيابة فيجوز التبرع بثوابها، وما لا تصح فيه النيابة فلا يصح التبرع به، مع ميل متأخريهم إلى جواز التبرع بالكل، انظر في ذلك: "الروح" لابن القيم، و"حاشية قليوبي وعميرة" "3/ 175-176"، و"حاشية الدسوقي" "2/ 10"، و"التذكرة" للقرطبي- مع تعليقنا عليه- و"الفروق" "3/ 194"، و"إفادة الطلاب بأحكام القراءة على الموتى ووصول الثواب"، وذكر فيه الجواز، وانظر المنع وأدلته القوية في "نيل الأوطار" "4/ 79"، و"فتاوى العز بن عبد السلام" "ص95-97"، و"تفسير المنار" "8/ 254-270"، و" أحكام الجنائز" "ص219 وما بعدها - ط المعارف".
2 وهنالك وجه ثالث، وهو قوي جدا، ولا سيما على قواعد المصنف، وهو قول ابن تيمية في "الاختيارات العلمية" "ص54": "ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعا أو صاموا تطوعا أو حجوا تطوعا أو قرءوا القرآن يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف، فإنه أفضل وأكمل".
3 في "ط": "عليها".
4 زيادة من الأصل، وفيه وفي "خ" و"ط": "ندخله" بالنون، أي: المواطنين، وهي قراءة نافع وابن عامر، كما في السبعة في القراءات" "ص228".

 

ج / 2 ص -402-       {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} [النحل: 32].
وهو كثير.
وهذا أيضا كالتوابع بالنسبة إلى المتبوعات، كاستباحة الانتفاع بالمبيع مع عقد البيع، واستباحة البضع مع عقد النكاح، فلا خيرة للمكلف فيه، هذا مع أنه مجرد تفضل من الله تعالى على العامل، وإذا كان كذلك، اقتضى أن الثواب والعقاب ليس للعامل فيه نظر ولا اختيار، ولا في يده منه شيء، فإذن لا يصح فيه تصرف؛ لأن التصرف من توابع الملك الاختياري، وليس في الجزاء ذلك، فلا يصح للعامل تصرف فيما لا يملك، كما لا يصح لغيره.
وللمجيز1 أن يستدل أيضا من وجهين:
أحدهما:
أن أدلته من الشرع هي الأدلة على جواز الهبة في الأموال وتوابعها، إما أن تدخل تحت عمومها أو إطلاقها، وإما بالقياس عليها؛ لأن كل واحد من المال والثواب عوض مقدر، فكما جاز في أحدهما جاز في الآخر، وقد تقدم في الصدقة عن الغير أنها هبة الثواب2، لا يصح فيها غير ذلك، فإذا كان كذلك، صح وجود الدليل، فلم يبق للمنع وجه.
والثاني:
أن كون الجزاء مع الأعمال كالمسببات مع الأسباب، وكالتوابع مع المتبوعات، يقضي بصحة الملك لهذا العامل، كما يصح في الأمور الدنيوية، وإذا ثبت الملك صح التصرف بالهبة.
لا يقال: إن الثواب لا يملك كما يملك المال؛ لأنه إما أن يكون في الدار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا مذهب الحنفية، كما في "فتح القدير" "3/ 142"، والحنابلة، كما في "المغني" "2/ 567".
2 أين هذا؟ فالذي تقدم أنها من باب التصرف المالي، فكأنه أعطى المال للمتصدق عليه، وناب عنه في صرفه فقط، فقد ملكه المال نفسه، والثواب شيء آخر. "د".

 

ج / 2 ص -403-       الآخرة فقط، وهو النعيم الحاصل هنالك والآن لم يملك منه شيئا، وإما أن يملك هنا منه شيئا حسبما اقتضاه قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} الآية [النحل: 97]، فذلك بمعنى1 الجزاء في الآخرة، أي أنه ينال في الدنيا طيب عيش من غير كدر مؤثر في طيب عيشه، كما ينال في الآخرة أيضا النعيم الدائم، فليس له أمر يملكه الآن حتى تصح هبته، وإنما ذلك في الأموال التي يصح حوزها وملكها الآن.
لأنا نقول: هو وإن لم يملك نفس الجزاء، فقد كتب له في غالب الظن عند الله تعالى، واستقر له ملكا بالتمليك، وإن لم يحزه الآن، ولا يلزم من الملك الحوز، وإذا صح مثل هذا المال، وصح التصرف فيه بالهبة وغيرها، صح فيما نحن فيه، فقد يقول القائل، ما ورثته من فلان فقد وهبته لفلان، ويقول: إن اشترى لي وكيلي عبدا، فهو حر أو هبة لأخي، وما أشبه ذلك، وإن لم يحصل شيء من ذلك في حوزه، وكما يصح هذا التصرف فيما بيد الوكيل فعله وإن لم يعلم به الموكل، فضلا عن أن يحوزه من يد الوكيل، يصح أيضا التصرف بمثله فيما هو بيد الله الذي هو على كل شيء وكيل2، فقد وضح إذا مغزى النظر في هبة الثواب، والله الموفق للصواب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي من بابه، وشبيه به. "د".
2 في كلامه هذا نظر؛ لأنه جعل ملك الحسنات كملك الأعيان، ولعل الأولى أن يقال: إن الثواب كما يكون ثمرة عمل الإنسان قد يكون ثمرة عمل غيره، إذا ناب عنه بعد إذن الشرع، على الرغم ما فيه!!

 

ج / 2 ص -404-       المسألة الثامنة:
من مقصود الشارع في الأعمال1 دوام المكلف عليها، والدليل على ذلك واضح، كقوله تعالى: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُون} [المعارج: 22-23].
وقوله:
{وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة: 3].
وإقام الصلاة بمعنى الدوام عليها بهذا فسرت الإقامة حيث ذكرت مضافة إلى الصلاة، وجاء هذا كله في معرض المدح، وهو دليل على قصد الشارع إليه، وجاء الأمر به صريحا في مواضع [كثيرة]2، كقوله:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة} [البقرة: 83].
وفي الحديث:
"أحب العمل إلى الله ما داوم صاحبه وإن قل"3.
وقال:
"خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لن يمل حتى تملوا"4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أعمال العبادات التي تتكرر أسبابها، أما زكاة وجبت هذا العام لحصول النصاب ولم يحصل في العام بعده، فلا، وهكذا يقال في غيرها، فهو ظاهر في العبادات المذكورة. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التهجد، باب من نام عند السحر، 3/ 16/ رقم 1132، وكتاب الرقائق، باب القصد والمداومة على العمل 11/ 294/ رقم 6461، 6462" ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين، باب في صلاة الليل، 1/ 511/ رقم 741" عن عائشة نحوه بألفاظ متقاربة، منها: "كان أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدوم عليه صاحبه".
وأخرج البخاري برقم "6464، 6467" عنها ضمن حديث:
"وأن أحب الأعمال أدومها وإن قل".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم شعبان، 4/ 213/ رقم 1969"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان، 2/ 811/ رقم 782"، وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها.

 

ج / 2 ص -405-       وكان عليه الصلاة والسلام إذا عمل عملا أثبته، وكان عمله ديمة1.
وأيضا، فإن في توقيت الشارع وظائف العبادات، من مفروضات ومسنونات، ومستحبات في أوقات معلومة الأسباب ظاهرة ولغير أسباب، ما يكفي في حصول القطع بقصد الشارع إلى إدامة الأعمال، وقد قيل في قوله تعالى في الذين ترهبوا:
{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]، إن عدم مراعاتهم لها هو تركها بعد الدخول فيها والاستمرار.
فصل:
فمن هنا يؤخذ حكم ما ألزمه الصوفية أنفسهم من الأوراد في الأوقات، وأمروا بالمحافظة عليها بإطلاق، لكنهم قاموا بأمور لا يقوم بها غيرهم، فالمكلف إذا أراد الدخول في عمل غير واجب، فمن حقه أن لا ينظر إلى سهولة الدخول فيه ابتداء حتى ينظر في مآله فيه، وهل يقدر على الوفاء به طول عمره أم لا؟ فإن المشقة التي تدخل على المكلف من وجهين:
أحدهما: من جهة شدة التكليف في نفسه، بكثرته أو ثقله في نفسه.
والثاني: من جهة المداومة عليه وإن كن في نفسه خفيفا.
وحسبك من ذلك الصلاة، فإنها من جهة حقيقتها خفيفة، فإذا انضم إليها معنى المداومة ثقلت، والشاهد لذلك قوله تعالى:
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم شعبان، 4/ 213/ رقم 1969"، وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها ضمن حديث طويل، وفيه: "وكان إذا صلى صلاة داوم عليها" ومضى لفظه في التعليق على "1/ 526".

 

ج / 2 ص -406-       وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، فجعلها كبيرة حتى قرن بها الأمر بالصبر، واستثنى الخاشعين فلم تكن عليهم كبيرة، لأجل ما وصفهم به من الخوف الذي هو سائق، والرجاء الذي هو حاد، وذلك ما تضمنه قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} الآية: [البقرة: 46]، فإن الخوف والرجاء يسهلان الصعب، فإن الخائف من الأسد يسهل عليه تعب الفرار، والراجي لنيل مرغوبة يقصر عليه الطويل من المسافة، ولأجل الدخول في الفعل على قصد الاستمرار وضعت التكاليف على التوسط وأسقط الحرج، ونهى عن التشديد، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى"1، وقال: "من يشاد هذا الدين يغلبه"2، وهذا يشمل التشديد بالدوام، كما يشمل التشديد بأنفس الأعمال، والأدلة على هذا المعنى كثيرة3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه بإسهاب في "ص236".
2 مضى تخريجه 251".
3 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 623".

 

ج / 2 ص -407-       المسألة التاسعة:
الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة، بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية1 بعض دون بعض، ولا يحاشي من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة؛ والدليل على ذلك مع أنه واضح أمور:
أحدها:
النصوص المتضافرة، كقوله تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]2.
وقوله:
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].
وقوله عليه الصلاة والسلام:
"بعثت إلى الأحمر والأسود"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تغليب على الإباحة، وإلا، فهي حكم شرعي لا اختصاص فيه أيضا، ويبقى الكلام فيما يقابل الطلبية، وهو الوضعية، ولا يظهر أنه يقصد الاحتراز عنها؛ إذ كون الزوال سببا في وجوب الظهر عام لا يختص به مكلف دون آخر ما دام شرط التكليف موجودا، ومثله يقال في بقيتها، تراجع المسألة الأولى في خطاب الوضع. "د".
2 لأن المعنى على المشهور: وما أرسلناك بهذه الشريعة إلا للناس كافة، فالشريعة مأمور بتبليغها للناس كافة، وفي آية:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} دلالة على وجوب تبليغ جميع الشريعة، فالجمع بين الآيتين يقتضي المطلوب في المسألة، أما الآيات هنا وحدها، فربما يتوقف في إفادتها للمطلوب؛ لأنه ما المانع من أن يكون مرسلا لجميع الناس، ولكن على توزيع المرسل به، فيكون البعض للبعض، وهذا إنما يمنع منه وجوب تبليغ جميع المرسل به للجميع، وإنما يؤخذ من الآيتين كما أشرنا إليه، فتأمل، وقد يقال: إن حذف المعمول يؤذن بالعموم، والمعمول هو قولنا: "بهذه الشريعة" فتكفي كل واحدة من هذه الآيات هنا في إفادة المطلوب. "د".
3 قطعة من حديث أوله:
"أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي...."، وفيه: "وبعثت إلى كل أحمر وأسود" أخرجه مسلم في "الصحيح "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب منه، 1/ 370-371/ رقم 521" من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

 

ج / 2 ص -408-       وأشباه هذه النصوص مما يدل على أن البعثة عامة لا خاصة، ولو كان بعض الناس مختصا بما لم يخص به غيره1، لم يكن مرسلا للناس جميعا؛ إذ يصدق على من لم يكلف بذلك الحكم الخاص أنه لم يرسل إليه به، فلا يكون مرسلا2 بذلك الحكم الخاص إلى الناس جميعا، وذلك باطل، فما أدى إليه مثله، بخلاف الصبيان والمجانين ونحوهم ممن ليس بمكلف، فإنه لم يرسل إليه بإطلاق، ولا هو داخل تحت الناس المذكورين في القرآن، فلا اعتراض به، وما تعلق بأفعالهم من الأحكام المنسوبة إلى خطاب الوضع، فظاهر الأمر فيه3.
والثاني:
أن الأحكام إذا كانت موضوعة لمصالح العباد، فالعباد بالنسبة إلى ما تقتضيه من المصالح مرآة4، فلو وضعت على الخصوص، لم تكن موضوعة لمصالح العباد بإطلاق، لكنها كذلك حسبما تقدم في موضعه، فثبت أن أحكامها على العموم لا على الخصوص، وإنما يستثنى من هذا ما كان اختصاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله:
{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِي} إلى قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بما لم يخاطب به غيره، أما تعبيره، ففيه نبو عن الغرض. "د".
قلت: انظر في عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم: "إيضاح الدلالة على عموم الرسالة" لابن تيمية، ضمن "مجموع الفتاوى" "19/ 9-65"، و"الرسال المنيرية" "2/ 99-152"، و"الدلالة على عموم الرسالة" للسبكي، مضمن في "فتاويه" "2/ 594-625"، و"غاية السول في خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم" لابن الملقن "ص259".
2 بالتأمل نراه يدخل في الدليل عموم المتعلق، وهو ما أشرنا إليه بقولنا: "بهذه الشريعة"، فدليله متوقف على هذا؛ إذ مجرد كون المرسل إليهم الناس جميعا لا يكفي إلا بمراعاة العموم أيضا فيما هو مرسل به. "د".
3 أي: فما فيه من الأحكام الطلبية متوجه إلى أوليائهم. "د".
4 أي: تنطبع فيهم هذه المصالح على السواء؛ لأنهم مطبوعون بطابع النوع الإنساني المتحد في حاجياته وضرورياته وما يكملها. "د".

 

ج / 2 ص -409-       وقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية [الأحزاب: 51].
وما أشبه ذلك مما ثبت فيه الاختصاص به بالدليل، ويرجع إلى هذا ما خص هو به بعض أصحابه كشهادة خزيمة، فإنه راجع إليه1 عليه الصلاة والسلام أو غير راجع إليه، كاختصاص2 أبي بردة بن نيار بالتضحية بالعناق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه لما شهد للرسول عليه الصلاة والسلام في حادثة الأعرابي في البيع وكان مستنده في الشهادة الإيمان بصدقه صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، فلأن يكون صادقا في هذه الشئون الصغيرة من باب أولى، فاختصاص خزيمة في هذا رجوع إلى اختصاص الرسول عليه السلام بقبول شهادة واحد له في هذا العقد وصحته، يراجع "إعلام الموقعين" في هذا، وبيانه أن خزيمة تنبه لهذه الحكمة قبل أن يتفطن إليها غيره من الصحابة الحاضرين. "د".
قلت: وسيأتي تخريج شهادة خزيمة "ص469"، وهذا نص كلام ابن القيم في "إعلام الموقعين" "2/ 83-84": "وأما قوله: وجعل شهادة خزيمة بن ثابت بشهادتين دون غيره ممن هو أفضل منه، فلا ريب أن هذا من خصائصه، ولو شهد عنده صلى الله عليه وسلم أو عند غيره، لكان بمنزلة شاهدين اثنين، وهذا التخصيص إنما كان لمخصص اقتضاه وهو مبادرته دون من حضر من الصحابة إلى الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بايع الأعرابي، وكان فرض على كل من سمع هذه القصة أن يشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بايع الأعرابي، وذلك من لوازم الإيمان والشهادة بتصديقه صلى الله عليه وسلم، وهذا مستقر عند كل مسلم، ولكن خزيمة تفطن لدخول هذه القضية المعينة تحت عموم الشهادة لصدقه في كل ما يخبر به، فلا فرق بين ما يخبر به عن الله وبين ما يخبر به عن غيره في صدقه في هذا، وهذا لا يتم الإيمان إلا بتصديقه في هذا وهذا، فلما تفطن خزيمة دون من حضر لذلك، استحق أن تجعل شهادته بشهادتين".
2 بين ابن القيم الحكمة من هذا الاختصاص في كتابه" إعلام الموقعين" "2/ 246" بقوله: "وأما تخصيصه أبا بردة بن نيار بإجزاء التضحية بالعناق دون من بعده، فلموجب أيضا، وهو أنه ذبح قبل الصلاة متأولا غير عالم بعدم الإجزاء، فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن تلك ليست بأضحية وإنما هي شاة لحم، أراد إعادة الأضحية، فلم يكن عنده إلا عناق هي أحب إليه من شاتي لحم، فرخص له في التضحية بها لكونه معذورا، وقد تقدم منه ذبح تأول فيه وكان معذورا بتأويله وذلك كله قبل استقرار الحكم، فلما استقر الحكم، لم يكن بعد ذلك يجزئ إلا ما وافق الشرع المستقر، وبالله التوفيق".

 

ج / 2 ص -410-       الجذعة، وخصه بذلك بقوله: "ولن تجزئ عن أحد بعدك"1، فهذا لا نظر فيه؛ إذ هو راجع إلى جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأجله وقع النص على الاختصاص في مواضعه2 إعلاما بأن الأحكام الشرعية خارجة عن قانون الاختصاص.
والثالث:
إجماع العلماء المتقدمين على ذلك من الصحابة والتابعين ومن بعدهم،ولذلك صيروا أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة للجميع في أمثالها، وحاولوا فيما وقع من الأحكام على قضايا معينة وليس لها صيغ عامة أن تجري على العموم، إما بالقياس، أو بالرد إلى الصيغة أن تجري على العموم المعنوي، أو غير ذلك من المحاولات، بحيث لا يكون الحكم على الخصوص في النازلة الأولى مختصا به، وقد قال تعالى:
{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العيدين، باب الأكل يوم النحر، 2/ 447-448/ رقم 955، وباب الخطبة بعد العيد، 2 / 453/ رقم 965، وباب التبكير إلى العيد، 2/ 456/ رقم 968، وباب كلام الإمام والناس في خطبة العيد، 2/ 471/ رقم 983، وكتاب الأضاحي، باب سنة الأضحية، 10/ 3/ رقم 5545، وباب قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة:
"ضح بالجذع من المعز، ولن تجزئ عن أحد بعدك"، 10/ 12/ 5556، 5557، وباب الذبح بعد الصلاة، 10/ 19/ رقم 5560، وباب من ذبح قبل الصلاة أعاد 10/ 20 / رقم 5563"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأضاحي، باب وقتها، 3/ 1552/ رقم 1961"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأضاحي، باب ما جاء في الذبح بعد الصلاة، 4/ 93/ رقم 1508"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأضاحي، باب ما يجوز من السن من الضحايا، 3/ 96/ رقم 2800"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الأضاحي، باب ذبح الضحية قبل الإمام، 7/ 222" عن البراء بن عازب مرفوعا.
2 وهي الآية والحديثان، والنص على التخصيص نفسه دليل على أن سائر الشريعة -مما لم ينص فيه على التخصيص- عام "د".

 

ج / 2 ص -411-       لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الآية [الأحزاب: 37]، فقرر الحكم في مخصوص ليكون1 عاما في الناس، وتقرير2 صحة الإجماع لا يحتاج إلى مزيد لوضوحه عند من زاول أحكام الشريعة3.
والرابع:
أنه لو جاز خطاب البعض4 ببعض الأحكام حتى يخص بالخروج عنه بعض الناس، لجاز مثل ذلك في قواعد الإسلام أن لا يخاطب بها بعض من كملت فيه شروط التكليف بها، وكذلك في الإيمان الذي هو رأس الأمر، وهذا باطل بإجماع، فما لزم عنه مثله، ولا أعني بذلك5 ما كان نحو الولايات وأشباهها، من القضاء، والإمامة، والشهادة، والفتيا في النوازل، والعرافة والنقابة، والكتابة، والتعليم للعلوم وغيرها، فإن هذه الأشياء راجعة إلى النظر في شرط التكليف بها، وجامع الشروط في التكليف القدرة على المكلف به، فالقادر على القيام بهذه الوظائف مكلف بها على الإطلاق والعموم، ومن لا يقدر على ذلك سقط التكليف عنه بإطلاق، كالأطفال والمجانين بالنسبة إلى الطهارة والصلاة ونحوها، فالتكليف عام لا خاص،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إلا أن في الآية النص على أن هذا الخاص أساس لحكم شرعي عام، فالآية وإن كانت صيغتها خاصة لا عامة، إلا أنها أُعْقِبَت بالنص على ما يفيد العموم، حتى تستفاد الحكمة فيما حصل، ولا يتوهم أنها خصوصية. "د".
2 في النسخ المطبوعة: "وتقرر".
3 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "15/ 82 و443 وما بعدها"، والمسألة الخامسة من كتاب "الأدلة الشرعية".
4 في "ط" زيادة بعدها: "دون البعض".
5 أي: ولا أعني بذلك خروج ما كان موهما لتخصيص الخطابات، كالولايات.... إلخ، فإنها داخلة في القاعدة، وهو أنها مكلف بها كل من توفر فيه شرط التكليف بها، كغيرها من سائر التكاليف، فالزكاة مثلا مكلف بها على العموم،ولكن مع مراعاة النصاب مثلا وسائر الشروط كذلك الولايات وفروض الكفايات المتوقفة على شروط، فتعتبر عامة بهذا المعنى، ولو قال: "ولا يخرج عن ذلك ما كان.... إلخ"، لكان أوضح. "د".

 

ج / 2 ص -412-       [وبسقوطه أيضا عام لا خاص] من جهة القدرة أو عدمها لا من جهة أخرى، بناء على منع التكليف بما لا يطاق وكذلك الأمر في كل ما كان موهما للخطاب الخاص، كمراتب1 الإيغال في الأعمال، ومراتب الاحتياط على الدين، وغير ذلك.
فصل:
وهذا الأصل يتضم فوائد عظيمة:
- منها: أنه يعطي قوة عظيمة في إثبات القياس على منكريه، من جهة أن الخطاب الخاص ببعض الناس والحكم الخاص كان واقعا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا، ولم يؤت فيها بدليل عام يعم أمثالها من الوقائع، فلا يصح مع العلم بأن الشريعة موضوعة على العموم والإطلاق- إلا أن يكون الخصوص الواقع غير مراد، وليس في القضية لفظ يستند إليه في إلحاق غير المذكور بالمذكور، فأرشدنا ذلك إلى أنه لا بد في كل واقعة وقعت إذ ذاك أن يلحق بها ما في معناها، وهو معنى القياس، وتأيد بعمل الصحابة رضي الله عنهم، فانشرح الصدر لقبوله، ولعل هذا يبسط في كتاب الأدلة بعد هذا إن شاء الله.
- ومنها: أن كثيرا ممن لم يتحقق بفهم مقاصد الشريعة يظن أن الصوفية جرت على طريقة غير طريقة الجمهور، وأنهم امتازوا بأحكام غير الأحكام المبثوثة في الشريعة، مستدلين على ذلك بأمور من أقوالهم وأفعالهم، ويرشحون ذلك2 بما يحكى عن بعضهم أنه سئل عما يجب في زكاة كذا،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم له أن الناس في ذلك على ضربين: مسقط لحظوظه، وآخذ لها على وجهها الشرعي، أي، فليس الأول مخاطبا بما لم يخاطب به الثاني، حتى يعد من باب تخصيص الخطاب في الشريعة. "د".
2 أي: يصلحونه ويربونه".

 

ج / 2 ص -413-       فقال: على مذهبنا أو على مذهبكم؟ ثم قال: أمَّا على مذهبنا، فالكل لله، وأما على مذهبكم، فكذا وكذا، وعند ذلك افترق الناس فيهم فمن مصدِّق بهذا الظاهر، مصرح بأن الصوفية اختصت بشريعة خاصة هي أعلى مما بث في الجمهور، ومن مكذب ومشنع يحمل عليهم وينسبهم إلى الخروج عن الطريقة المثلى، والمخالفة للسنة، وكلا الفريقين في طرف، وكل مكلف داخل تحت أحكام الشريعة المبثوثة في الخلق، كما تبين آنفا، ولكن روح المسألة الفقه في الشريعة1، حتى يتبين ذلك، والله المستعان.
ومن ذلك أن كثيرا يتوهمون أن الصوفية أبيح لهم أشياء لم تبح لغيرهم؛ لأنهم ترقَّوا عن رتبة العوام المنهمكين في الشهوات، إلى رتبة الملائكة الذين سلبوا الاتصاف بطلبها والميل إليها، فاستجازوا لمن ارتسم في طريقتهم إباحة بعض الممنوعات في الشرع بناء على اختصاصهم عن الجمهور، فقد ذكر نحو هذا في سماع الغناء وإن قلنا بالنهي عنه2، كما أن من الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام من استباح شرب الخمر بناء على قصد التداوي بها، واستجلاب النشاط في الطاعة، لا على قصد التلهي، وهذا باب فتحته الزنادقة بقولهم: إن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وما تقدم له في مراتب الإيغال في الأعمال وأن الناس على ضربين، فيه فقه المسألة، وأنهم كغيرهم داخلون تحت أحكام الشريعة المبثوثة في الخلق. "د".
2 نقل المصنف عن مالك أنه سئل عن قوم يقال لهم: الصوفية يأكلون كثيرا ثم يأخذون في القصائد ثم يقومون فيرقصون. فقال مالك: أصبيان هم؟ قال: لا. أمجانين هم؟ قال: لا، قوم مشايخ عقلاء. فقال مالك: ما سمعت أن أحدا من أهل الإسلام يفعل هذا إلا أن يكون مجنونا أو صبيا. ثم قال المصنف: "إن ذلك من البدع المحرمات الموقعة في الضلالة المؤدية إلى النار والعياذ بالله".
انظر: "المعيار المعرب" "11/ 39 وما بعدها"، و"منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية" "ص188"، و"فتاوى الشاطبي" "ص193"، و"ترتيب المدارك" "2/ 53-54".

 

ج / 2 ص -414-       التكليف خاص بالعوام ساقط عن الخواص1، وأصل هذا كله إهمال النظر في الأصل المتقدم، فليُعتَنَ به، وبالله التوفيق....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 دس هذه المقالة بعض الزنادقة وسعى في ترويجها الفساق من المدعين للولاية، حتى يجدوا مسرح الشهوات واسع المجال بعيد ما بين الجوانب، وانطلت هذه الدسيسة على كثير من الأغبياء، فطرحوا من أيديهم أن يزنوا سيرة المدعي للولاية بميزان الشريعة، ومما ساعد على انتشار هذه الضلالة الهادمة لقانون الشرع أن بعض المنتسبين للعلم يهابون التعرض لكل من ادعى الولاية بحاله أو مقاله، وما هو إلا ضعف البصيرة، وقلة الرسوخ في العلم بحقائق الدين التي يضمحل أمامها كل باطل، وتسقط تجاهها كل دعوى مزيفة. "خ".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 432-446، 11/ 170-171، 225-227"، وتعرض شيخ الإسلام ابن تيمية إلى بسط ما أجمله المصنف في "درء تعارض العقل والنقل" و"منهاج السنة النبوية" و"الصفدية" وغيرها.

 

ج / 2 ص -415-       المسألة العاشرة:
كما أن الأحكام والتكليفات عامة في جميع المكلفين على حسب ما كانت بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما خص به، كذلك المزايا والمناقب1، فما من مزية أعطيها رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى ما وقع استثناؤه إلا وقد أعطيت أمته منها أنموذجا2، فهي عامة كعموم التكاليف، بل قد زعم ابن العربي أن سنة الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المزايا: جمع مزية، وهي في كل شيء التمام والكمال، ويقال: له عندي مزية، أي: فضيلة ومنزلة ليست لغيره، والمناقب: جمع منقبة، وهي المفخرة ضد المثلبة. "ماء/ ص201".
2 ما من نبي إلا وهو سلالة قومه وخلاصة عنصرهم، كما تخرج زهرة من غصن شجرة، أو جوهرة من بطن حجر، فهو جامع لأشتات محاسنهم، طاهر من أدناسهم، فإن لكل قوم محاسن ومساوئ مختلفة كما ترى ذلك في أنواع خلق الله تعالى، وهذا هو أقرب من سنن الفطرة كما هو أولى بالحكمة، ولذلك ترى النبي سبق إليه من قومه أكرمهم وأطهرهم، ومن ههنا فضل السابقين من المؤمنين، كأن الله تعالى أطلع نورا من الأفق، فأشرق أولا على أعلى الشواهق ثم الأقرب فالأقرب، وأنزل ماء من السماء، فاخضرت من الأرض أولا أخصبها، فهكذا تتنبه الأمة في ذات نبيها، ثم في ذوات الصديقين والشهداء والصالحين منهم وأتباعهم، فإذا كمل وتم زمان النماء جمع الحب وأُلقِي العصف في النار.
ومن ههنا تبينت لك حكمة الصبر الشديد للنبي وأصحابه؛ لكيلا يبقى في الكافرين والمنافقين من فيه مثقال حبة من الإيمان، فإذا محَّص الله المؤمنين أهلك الكافرين، وفي هذا التمحيص أيضا يخرج من بين المؤمنين من دخل فيه بغير نور، وصرح بذلك القرآن في غير موضع، وتفصيل منه في باب المعجزات.
فإذا كان النبي سلالة قومه كان هو وقومه كمرآتين على جانبيك، ترى بعضهم في بعض، فإن رأيت أن النبي على غاية علو الهمة وسعة التدبير تيقنت أن قومه أحرارٌ أذكياء، وهكذا إن علمت من قومه أحسن أخلاقه، تيقنت أن نبيهم جامع لها، وهذا يعطيك مفتاحًا لفهم سيرة أمة ونبيها، فتستدل من بعضهما إلى بعض، ثم تستدل بذلك في فهم شريعة أمة؛ لأنها تنزل حسب استعداد الأمة كما قال تعالى في سورة المائدة بعد ما ذكر إنزال التوراة والإنجيل والقرآن:
{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة: 48] حسب عموم سنته كما جاء في آخر سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} [الأنعام: 165]، فلا يبتلي الله الأمة إلا فيما آتاهم، فلذلك جعل شرائع كل أمة حسب حالها، ومن هذه الجهة اختلافهم، وجاءت أكمل الشرائع لأكمل الأمم، أفاده الفراهي في "القائد إلى العقائد" "ص133-134".

 

ج / 2 ص -416-       جرت أنه إذا أعطى الله نبيا شيئا أعطى أمته منه، وأشركهم معه فيه، ثم ذكر من ذلك أمثلة؛
وما قاله يظهر في هذه الملة بالاستقراء.
أما أولا؛ فالوراثة العامة1 في الاستخلاف على الأحكام المستنبطة، وقد كان من الجائز أن تتعبد الأمة بالوقوف عندما حد من غير استنباط، وكانت تكفي العمومات والإطلاق حسبما قاله الأصوليون، ولكن الله منَّ على العباد بالخصوصية التي خص بها نبيه عليه الصلاة والسلام؛ إذ قال تعالى:
{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّه} [النساء: 105].
وقال في الأمة:
{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
وهذا واضح، فلا نطوِّل به.
وأما ثانيا: فقد ظهر ذلك من مواضع كثيرة، نقتصر منها على ثلاثين وجها:
أحدها:
الصلاة من الله تعالى، فقال تعالى في النبي عليه الصلاة والسلام:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي} الآية [الأحزاب: 56].
وقال في الأمة:
{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور} الآية [الأحزاب: 43].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء/ ص202" زيادة بعدها: "في الاستقراء".

 

ج / 2 ص -417-       وقال: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157].
والثاني:
الإعطاء إلى الإرضاء، قال تعالى في النبي:
{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5].
وقال في الأمة:
{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} [الحج: 59].
وقال:
{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119].
والثالث:
غفران ما تقدم وما تأخر، قال تعالى:
{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2].
وفي الأمة ما روي أن الآية لما نزلت قال الصحابة: هنيئا مريئا، فما لنا؟ فنزل1:
{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الفتح: 5]، فعمَّ ما تقدم وما تأخر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية 7/ 450-451/ رقم 4172" ثني أحمد بن إسحاق ثنا عثمان بن عمر أخبرنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه:
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا}، قال: الحديبية. قال أصحابه: هنيئا مريئا، فما لنا؟ فأنزل الله: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار}.
قال شعبة: فقدمت الكوفة فحدثت بهذا كله عن قتادة، ثم رجعت، فذكرت له، فقال: أما
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا} فعن أنس، وأما "هنيئا مريئا" فعن عكرمة.
وأخرجه هكذا من طريق عثمان بن عمر البيهقي في "الدلائل" "4/ 157".
وأخرجه مختصرا دون ذكر سبب النزول الذي أورده المصنف البخاري في "صحيحه"، كتاب التفسير، باب
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} 8/ 583/ رقم 4834"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية 3/ 1413/ رقم 1786" من طرق عن قتادة.
وأخرجه الإسماعيلي من طريق حجاج بن محمد، عن شعبة، وجمع في الحديث بين أنس وعكرمة، وساقه مساقا واحدا، أفاده ابن حجر في "الفتح" "7/ 451". =

 

ج / 2 ص -418-       والرابع:
وفي الآية الأولى إتمام النعمة في قوله: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2].
وقال في الأمة:
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُم} الآية [المائدة: 6].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قلت: وساقه مساقا واحدا عن شعبة خالد الحذاء، كما عند النسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير 2/ 304/ رقم 522"، وحرمي بن عمارة، كما في "المستدرك" "2/ 459"، وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "26/ 70" من طريق محمد بن جعفر غِندر، عن شعبة، وذكره كما عند المصنف عن عكرمة مرسلا، واختلف عليه فيه، فرواه بعضهم عنه بسياقة واحدة دون تفصيل، كما تراه عند ابن جرير "26/ 70"، واختلف على معمر فيه، فرواه ابن ثور عنه عن قتادة مرسلا، كما عند ابن جرير في "التفسير" "26/ 70"، وأخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "3/ 225"، ومن طريقه الترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ومن سورة الفتح، رقم 3263"، وأحمد في "المسند" "3/ 197"، وابن حبان في "الصحيح" "14/ 322/ رقم 6410- الإحسان" عن معمر عن قتادة عن أنس مساقا واحدا، فيه المذكور عند المصنف.
وكذا ساقه مطولا مع سبب النزول المذكور جماعة عن قتادة عن أنس، منهم: سعيد بن أبي عروبة كما عند أحمد في "المسند" "3/ 215"، وابن جرير في "التفسير" "26/ 69"، والواحدي في "أسباب النزول" "256".
والحكم بن عبد الملك، كما عند "المستدرك" "2/ 460".
وهمام بن يحيى، كما عند أحمد في "المسند" "3/ 134، 252"، والواحدي في "الوسيط" "4/ 135-136"، و"أسباب النزول" "256"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 158".
واختلف على هؤلاء فيه، وأخرجه مسلم في "صحيحه" عن بعضهم مختصرا دون ذكر سبب النزول، وما أرى الأمر إلا على النحو الذي فصله الإمام البخاري، وقد قدمناه، والتفصيل في الكتب التي أفردت عن المدرج مثل كتاب الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني، كما ذكر هو في "الفتح" "7/ 451".

 

ج / 2 ص -419-       والخامس:
الوحي وهو النبوة، قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْك} [النساء: 163]، وسائر ما في هذا المعنى، ولا يحتاج إلى شاهد، وفي الأمة: "الرؤيا الصالحة جزء1 من ستة وأربعين جزءًا من النبوة"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا كان معنى الحديث أن الرؤيا كانت له عليه الصلاة والسلام قبل الوحي ستة أشهر، يري فيها رؤيا صادقة كفلق الصبح، ثم جاء الوحي بعدها، ومجموع ذلك مع الوحي ثلاث وعشرون سنة على قول، أو أن الوحي بعد الأشهر الستة ثلاث وعشرون سنة، فتكون نسبة الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءًا من زمن النبوة والوحي، فعليه لا يكون في الحديث ما يدل على مُدَّعَاه؛ إذ ليس الغرض أن النبوة تتجزأ إلى هذه الأجزاء والرؤيا جزء منها، فهو غير معقول في ذاته أن تكون الرؤيا الصادقة جزء من نبوة الوحي مهما صغر هذا الجزء؛ لأن للنبوة ماهية شرعية لا يندرج فيها جزئي بمجرد الرؤيا الصادقة، وزعم ابن خلدون أن حمل الحديث على النسبة الزمانية بعيد عن التحقيق، ولكنه لم يأتِ في ذلك بمقنع، وما رده به من اختلاف العدد في بعض الروايات لا يفيد، فإن كلامنا في شرح هذه الرواية الصحيحة التي عدها بعضهم متواترة، وكونه لم يثبت أن رؤيا الأنبياء كذلك لا يضر؛ لأننا نحمل الحديث على رؤياه صلى الله عليه وسلم التي سبقت الوحي، وكانت كفلق الصبح، ودعواه أن الكلام في الرؤيا العامة التي يستوي فيها سائر الخلق لا يظهر. "د".
قلت: اعتنى الزركشي في بيان مفردات الأجزاء المذكورة من النبوة، فقال في "البحر المحيط" "1/ 62": "وقد اجتهدت في تحصل الستة والأربعين ما هي، فبلغت منها إلى الآن اثنين وأربعين، وقد ذكرتها في كتاب "الوصف والصفة"، وأنا في طلب الباقي"، وهذا يدل على صحة ما ذكره المصنف، فتأمل، وردَّ ابن حجر في "فتح الباري" "12/ 364 وما بعدها"- وذكر فيه "12/ 366-367" الوجوه الستة والأربعين، فراجع كلامه فإنه كلامه فإنه مهم ومفيد- ما اعتمده "د"، فانظر كلامه.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التعبير، باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة 12/ 373/ رقم 6987"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الرؤيا، باب: منه 4/ 1774/ رقم 2264"، وأبو داود في "سننه" "كتاب الأدب، باب في الرؤيا 4/ 304/ رقم 5018"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الرؤيا، باب أن رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة "4/ 532/ رقم 2271"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التعبير، باب الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح 4/ 383"، وأحمد في "المسند" "5/ 316، 319" عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

 

ج / 2 ص -420-       والسادس:
نزول القرآن على وفق المراد، قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} [البقرة: 144]، فقد كان عليه الصلاة والسلام يحب أن يرد إلى الكعبة1، وقال تعالى أيضا: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51]، لما كان قد حبب إليه النساء فلم يوقف2 فيهن على عدد معلوم.
وفي الأمة قال عمر: "وافقت ربي في ثلاث". قلت: يا رسول الله! لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى! فنزلت:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125]،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج نحوه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان 1/ 502/ رقم 399"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة 5 / 207-208/ رقم 2962"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب القبلة 1/ 322-323/ رقم 1010"، وأحمد في "المسند" 4/ 274" عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
2 ليس موضوع الآية الإذن بعدم وقوفه عند الأربع التي أذن بها لسائر الأمة بل الكلام4 في موضوع القسم بين نسائه، وما إلى ذلك من تسريح من يشاء وإمساك من يشاء، كما يعلم من مراجعة كتب التفسير، وقد تابعه بعض الناظرين هنا أن الموضوع ما قاله، ولكنه خالفه فيما زعمه من السبب، وهو مصيب في هذه المخالفة لا في الموافقة على معنى الآية، وإن كانوا نسبوا إلى الحسن أنه قال: "تنكح من تشاء من نساء أمتك، وتترك نكاح من تشاء منهن"، وأنه كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب واحدة لا يخطبها غيره حتى يتركها، هكذا نسبوا إليه، ولكنه على ما ترى في عداد الإكثار من الاحتمالات والنقول. "د".
وقال "خ": "ليس سبب الإذن له عليه الصلاة والسلام في التزوج بما فوق الأربعة هو محبته للنساء، وإنما أذن له بذلك لمقاصد أخرى كتأكيد الصلة بينه وبين أقاربهم وعشائرهن، وإن يتلقين عنه أحكام الشريعة ولا سيما الأحكام العائدة إلى النساء ما لا يطلع عليه إلا الأزواج، وتعدد زوجاته عليه السلام مما يقوم بها شاهد من شواهد صدقه، فإنهن مع كثرتهن لم يشهدن من حاله في السر إلا ما يطابق استقامته وإرشاداته العلنية، ونحن نرى من يدعي الصلاح كاذبا لا يلبث أن تنكشف سريرته ويفتضح أمره في الغالب على أيدي من يلابسه في بيته من الأزواج أو الخادمات".

 

ج / 2 ص -421-       وقلت: يا رسول الله! يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب! فأنزل الله آية الحجاب. قال: وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلت عليهن، فقلت: "إنِ انتَهَيْتُنَّ أو لَيُبَدِّلَنَّ اللهُ رسولَهُ خيرًا منكُنَّ". فأنزل الله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} الآية1 [التحريم: 5].
وحديث التي ظاهر منها زوجها، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم: إن زوجي ظاهر مني، وقد طالت صحبتي معه، وقد ولدت له أولادا، فقال عليه الصلاة والسلام:
"قد حرمت عليه". فرفعت رأسها إلى السماء، فقالت: إلى الله أشكو حاجتي إليه، ثم عادت، فأجابها، ثم ذهبت لتعيد الثالثة، فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}2 الآية: [المجادلة: 1].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة 1/ 504/ رقم 402، وكتاب التفسير باب قوله:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى} 8/ 168/ رقم 4483، وباب في سورة الأحزاب 8/ 527/ رقم 4790، وباب في سورة التحريم 8/ 660 / رقم 4916"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه 4/ 1865/ رقم 2399" مختصرا عن عمر.
2 ذكر هذا البغوي في "معالم التنزيل" "5/ 323"، والواحدي في "الوسيط" "4/ 259" من غير إسناد.
وأصله عند البخاري في "الصحيح" "كتاب التوحيد
{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} 13/ 372" معلقا عن عائشة مختصرا.
ووصله النسائي في "المجتبى" "6/ 168"، وأبو داود في "السنن" "رقم 2063"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2063"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 481"، وابن جرير في "التفسير" "28/ 5-6"، والواحدي في "أسباب النزول" "273" بسياق فيه تفصيل نحو المذكور وليس فيه:
"قد حرمت عليه"، وإسناده صحيح.
ولهذا التفصيل شواهد من حديث خويلة -أو خولة- بنت ثعلبة، أخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 2214، 2215"، وأحمد في "المسند" "6/ 410-411"، وابن حبان في "الصحيح" "10/ 107-108"/ رقم 4279- الإحسان"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 746"، وابن جرير في  =

 

ج / 2 ص -422-       ومن هذا كثير لمن تتبع.
ونزلت براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك على وفق ما أرادت، إذ قالت: وأنا حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما ظننت1 أن الله منزل في شأني وحيًا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "التفسير" "28/ 5"، والطبراني في "الكبير" "1/ رقم 616"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 389، 391" بسند ضعيف، فيه معمر بن عبد الله، وهو مجهول.
وله شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه البزار في "المسند" "رقم 1513- زوائده"، والطبراني في "الكبير" "11/ رقم 11689"، وابن جرير في "التفسير" "28/ 3-4"، والبيهقي في الكبرى" "7/ 392"، وذكره مفصلا، وفيه أبو حمزة الثمالي، وزاد في متن الحديث ما خالف فيه الثقات، وهو لين.
وأخرجه من حديث ابن عباس مختصرا دون تعيين للرجل ولا للمرأة: أبو داود في "السنن" "رقم 2223"، والنسائي في "المجتبى" "6/ 167"، والترمذي في "الجامع" "رقم 1199"، وابن ماجه في "السنن" رقم "2065"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 747"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 204، والبيهقي في الكبرى" "7/ 386"، بسند حسن، وحسنه ابن حجر في "الفتح" "9/ 343"، وليس في هذه الروايات جميعا
"قد حرمت عليه"، وفي بعضها نحو التفصيل الوارد.
وأخرجه باللفظة المذكورة عبد الرازق في "التفسير" "2/ 277" عن عكرمة مرسلا، وأخرجه ابن سعد في "الطبقات "8/ 379"، عن عمران بن أبي أنس مرسلا، ولكن ورده فيه هذه اللفظة على لسان المظاهر، وكذا وردت في حديث ابن عباس من رواية أبي حمزة الثمالي عنه، وهو الأشبه والله أعلم.
1 في "ط": "ما كنت أظن.....".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب
{لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ} 8/ 454/ رقم 4750" في آخر حديث الإفك الطويل، وقد أفرده يوسف بن عبد الهادي في جزء مفرد، وهو مطبوع.

 

ج / 2 ص -423-       وقال هلال بن أمية: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرِّئ ظهري من الحد. فنزل1: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُم} الآية [النور: 6] وهذا خاص بزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لانقطاع الوحي بانقطاعه.
والسابع:
الشفاعة، قال تعالى:
{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].
وقد ثبتت2 شفاعة هذه الأمة، كقوله عليه الصلاة والسلام في أويس:
"يشفع في مثل ربيعة ومضر"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب
{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} 8/ 449/ رقم 4747"، وغيره ضمن حديث طويل عن ابن عباس.
2 في "د": "ثبت".
3 الشفاعة لمثل ربيعة ومضر ثابتة في غير حديث، أحسنها وأصحها ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب: منه 4/ 626/ رقم 2438" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة، 2/ 1443-1444/ رقم 4316"، وأحمد في "المسند" "3/ 469، 470, 5/ 366"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "5/ 26"، والطيالسي في "المسند" "2/ 229- التحفة"، والدارمي في "السنن" "2/ 328"، وابن خزيمة في "التوحيد" "313"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 70، 71"، وابن حبان في "الصحيح" "16/ 376/ رقم 7376- الإحسان"، وابن الأثير في "أسد الغابة" "3/ 196"، والمزي في "تهذيب الكمال" "14/ 359-360" عن عبد الله بن أبي الجدعاء مرفوعا:
"ليدخُلَنَّ الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم"، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
وأخرجه أحمد في "المسند" "5/ 256، 261، 267"، والآجُرِّي في "الشريعة" "351"، والطبراني في "الكبير" "8/ 169"، عن أبي أمامة مرفوعا:
"ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين: ربيعة، ومضر"، ورجاله رجال الصحيح، وفيه عبد الرحمن بن ميسرة، وهو مقبول كما في "التقريب"، وقد توبع، تابعه أبو غالب حزور، أخرجه الطبراني في "الكبير" "8/ 330"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 287"، فإسناد حسن، وكذا قال العراقي فيما نقل عنه المناوي في "فيض القدير" "4/ 130".

 

ج / 2 ص -424-       "أئمتكم شفعاؤكم"1، وغير ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وهذا الرجل المبهم الثابتة له الشفاعة، قيل: إنه عثمان، وقيل: إنه أويس، ويدل على الثاني ما أخرجه علقمة بن مرثد في "زهد الثمانية من التابعين" "ص74" عن عمر مرفوعا: "يدخل الجنة بشفاعة أويس مثل ربيعة ومضر"، وإسناده متقطع.
وما أخرجه ابن عدي في "الكامل" "7/ 2533" عن ابن عباس مرفوعا: "سيكون في أمتي رجل يقال له: أويس بن عبد الله القرني، وإن شفاعته في أمتي مثل ربيعة ومضر"، وإسناده واهٍ، فيه وهب بن حفص، كل أحاديثه مناكير غير محفوظة، وهو متهم بالوضع، انظر: "تاريخ بغداد" "13/ 488، واللسان" "6/ 234".
وما أخرجه أحمد في "الزهد" "343، 344" عن الحسن مرفوعا:
"ليخرجن من النار بشفاعة رجل ما هو بنبي أكثر من ربيعة ومضر": قال الحسن: "وكانوا يرون أنه عثمان رضي الله عنه، أو أويس القرني رضي الله عنه"، وفي رواية أخرى: "قال هشام: فأخبرني حوشب عن الحسن، قال: هو أويس القرني".
وأخرج الترمذي في "الجامع" "رقم 2439" من مرسل الحسن أنه عثمان أيضا، وترى ذلك مبسوطا في ترجمته في "تاريخ دمشق"، والله الموفق.
والخلاصة: الحديث صحيح من غير ذكر تعيين أويس والله أعلم.
1 قال العراقي "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 175- مع شرحه "إتحاف السادة": "أخرجه الدارقطني والبيهقي، وضعف إسناده من حديث ابن عمر، والبغوي وابن قانع والطبراني في "معاجمهم"، والحاكم من حديث مرثد بن أبي مرثد نحوه، وهو منقطع، وفيه يحيى بن يعلى الأسلمي، وهو ضعيف".
قلت: أورد العراقي هذا عند قول الغزالي: "قال صلى الله عليه وسلم: "أئمتكم شفعاؤكم إلى الله....".
وحديث ابن عمر أخرجه الدارقطني في "السنن" "2/ 87-88"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 90" عن ابن عمر مرفوعا: "اجعلوا أئمتكم خياركم؛ فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين الله عز وجل".
قال البيهقي: "إسناده ضعيف"، قلت: فيه حسين بن نصر لا يُعرَف، قاله ابن القطان، كما في "نصب الراية" "2/ 26"، وعمر بن يزيد منكر الحديث، كما في "الكامل" "5/ 1687" لابن عدي، وسلام بن سليمان ضعيف، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه، وانظر: "الأحكام =

 

ج / 2 ص -425-       والثامن:
شرح الصدر، قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك} الآية [الشرح: 1].
وقال في الأمة:
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّه} [الزمر: 22].
والتاسع:
الاختصاص بالمحبة؛ لأن محمدا حبيب الله، ثبت ذلك في الحديث، إذ خرج عليه الصلاة والسلام، ونفر من أصحابه يتذاكرون، فقال بعضهم: عجبا! إن الله اتخذ من خلقه خليلا، وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى، كلمه الله تكليما، وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه، وقال آخر: آدم اصطفاه الله. فخرج عليهم، فسلم، وقال: "قد سمعت كلامكم وعجبكم، إن الله اتخذ إبراهيم خليلا وهو كذلك، وموسى نجي الله وهو كذلك، وعيسى روح الله وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأنا أول مشفَّع ولا فخر،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الوسطى" "1/ 322-323" لابن القطان.
وحديث مرثد أخرجه الدارقطني في "السنن" "2/ 88"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "1/ 244/ رقم 317"-ومن طريقه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" "2/ ق 197/ أ"-والطبراني في "الكبير" "20/ 328/ رقم 777"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 222"، وابن منده في "المعرفة" "2/ ق 174/ ب" عن مرثد بن أبي مرثد الغنوي مرفوعا: "إن سركم أن تُقبَل صلاتكم فليؤمكم خياركم؛ فإنهم وفودكم فيما بينكم وبين ربكم عز وجل".
وإسناده ضعيف، قال الدارقطني: "إسناد غير ثابت، وعبد الله بن موسى ضعيف".
قلت: وكذا من روى عنه وهو يحيى بن يعلى الأسلمى، وبه أعَلَّه العراقي كما تقدم، والهيثمي في "المجمع" "2/ 64"، والقاسم الشامي لم يدرك مرثد، على ما بسطه ابن حجر في "الإصابة"، وإليه أشار العراقي بقوله: "وهو منقطع"، فالحديث ضعيف غير صحيح، وقد تابع المصنف الغزاليَّّ في إيراده باللفظ المذكور، وهذا قصور منه، عفى الله عنا وعنه.

 

ج / 2 ص -426-       وأنا أول من يحرك حِلَق الجنة، فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر"1.
وفي الأمة:
{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} الآية [المائدة: 54].
العاشر:
وجاء في هذا الحديث أنه أول من يدخل الجنة وأن أمته كذلك.
الحادي عشر:
وأنه أكرم الأولين والآخرين، وقد جاء في الأمة:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم 5/ 587-588/ رقم 3616"-وقال: "هذا حديث غريب"، والدارمي في "السنن" "1/ 26"، وابن مردويه -كما في "تفسير ابن كثير" "1/ 573"-عن ابن عباس بإسناد ضعيف، فإنه من طريق زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة به، ورواية زمعة عن سلمة ضعيفة، ضعف زمعةَ أحمدُ ويحيى وأبو حاتم وغيرهم، وقال أبو زرعة: "واهي الحديث"، وقال البخاري: "يخالف في حديثه، تركه ابن مهدي أخيرا".
انظر: "التاريخ الكبير" "3/ 451"، و"الجرح والتعديل" "3/ 624"، و"الضعفاء الكبير" "2/ 94"، و"تاريخ ابن معين" "رقم 301- رواية الدوري"، و"أسئلة ابن طهمان" "رقم 62"، و"الضعفاء والمتروكين" "2/ 759" لأبي زرعة، و"تهذيب الكمال" "9/ 386".
ومع هذا، فقد وثقه ابن معين مرة، فقال في "تاريخه" "رقم 553"-رواية الدوري": "صويلح الحديث"، وقال ابن عدي: "ربما يهم في بعض ما يرويه، وأرجو أن حديثه لا بأس به"، وروى له مسلم مقرونا بمحمد بن أبي حفصة، فهو بيِّن الأمر في الضعفاء، وروايته عن سلمة بن وهرام ضعيفة، قال عبد الله بن أحمد في "العلل" "رقم 3479" عن أبيه: "روى عنه زمعة أحاديث مناكير، أخشى أن يكون حديثه حديثا ضعيفا"، وقال ابن عدي في ترجمة "سلمة": "أرجو أنه لا بأس بروايات الأحاديث التي يرويها عنه غير زمعة". وذكره ابن حبان في "الثقات" "6/ 399"، وقال: "يعتبر بحديثه من غير رواية زمعة بن صالح عنه".
فالحديث ضعيف، ولبعضه شواهد في "الصحيح" وغيره.

 

ج / 2 ص -427-       والثاني عشر:
أنه جُعِل شاهدا على أمته، اختص1 بذلك دون الأنبياء عليهم السلام.
وفي القرآن الكريم:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
والثالث عشر: خوارق العادات معجزات وكرامات للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي حق الأمة كرامات، وقد وقع الخلاف، هل يصح أن يتحدى الولي بالكرامة دليلا على أنه ولي أم لا؟ وهذا الأصل شاهد له، وسيأتي بحول الله [وقدرته]2.
والرابع عشر: الوصف بالحمد في الكتب السالفة وبغيره3 من الفضائل، ففي القرآن:
{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد} [الصف: 6]، وسميت أمته الحمادين.
والخامس عشر: العلم مع الأمية4، قال تعالى:
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2].
وقال:
{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّه} الآية [الأعراف: 158].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 غير ظاهر مع آية:
{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيد} قال المفسرون: هو نبيهم، إلا أن يكون مراده أنه وحده الذي يشهد على أمته بخلاف الأمم السابقة، فيشهد عليهم مع أنبيائهم كما تشهد أمته عليهم، وهو بعيد من كلامه. "د".
2 سقط من "ط".
3 في "ط": "وبغيرها".
4 العلم مع الأمية فيه صلى الله عليه وسلم واضح، وهو إحدى معجزاته، والآيات صريحة فيه، وأمية الأمة تصرح بها الآيات، لكن أين في الآيات والحديث الوصف للأمة بالعلم الذي لا يكون عادة مع الأمية والمدلول عليه في مثل آية:
{فَآمِنُوا بِاللَّهِ.....} إلخ العلم الذي هو الإيمان ولواحقه، التي لا يلزم منها الاتصاف بالعلم على الإطلاق كوصفه عليه السلام. "د".

 

ج / 2 ص -428-       وفي الحديث: "نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب"1.
والسادس عشر2:
مناجاة الملائكة، ففي النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر، وقد روي في بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه كان يكلمه الملك، كعمران بن الحصين3، ونقل عن الأولياء من هذا.
والسابع عشر: العفو قبل السؤال، قال تعالى:
{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُم} [التوبة: 43].
وفي الأمة:
{ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران: 152].
والثامن عشر: رفع الذكر، قال تعالى:
{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك} [الشرح: 4].
وذكر أن معناه قرن اسمه باسمه في عقد الإيمان، وفي كلمة الأذان، فصار ذكره عليه الصلاة والسلام مرفوعا منوها به، وقد جاء من ذكر الأمة ومدحهم والثناء عليهم في القرآن وفي الكتب السالفة كثير.
وجاء في بعض الأحاديث عن موسى عليه الصلاة والسلام، أنه قال:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 56"، والحديث في "الصحيحين" عن ابن عمر بلفظ:
"إنا أمة.... " بتقديم "نكتب" على "نحسب".
2 هذا الوجه كما ترى لم يُقِم عليه دليلا محدودا. "د".
3 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب جواز التمتع 2/ 899/ رقم 1226 بعد 167" عن عمران، قال: "وقد كان يسلم عليَّ حتى اكتويت، فتركت، ثم تركت الكي فعاد".
وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" "9/ 11"، وابن أبي أسامة والدارمي، كما في "الإصابة" "3/ 26-27"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "9/ 146-147/ رقم 103"، وعزاه للبخاري، ولم يعزه له المزي في "تحفة الأشراف" "ورقم 10846".
4 لا يظهر هنا سؤال ولا عفو قبله، وعلى فرض أن هنا موضع سؤال وعتب على انصرافهم عنهم ومخالفتهم لأمره عليه السلام، فمن أين أن العفو كان قبل السؤال؟ "د".

 

ج / 2 ص -429-       "اللهم اجعلني من أمة أحمد"1 لما وجد في التوراة من الإشادة بذكرهم والثناء عليهم2.
والتاسع عشر:
أن معاداتهم معاداة لله، وموالاتهم موالاة لله3، قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّه} [الأحزاب: 57] [هي عند طائفة بمعنى أن الذين يؤذون رسول الله لعنهم الله].
وفي الحديث:
"من آذاني، فقد آذى الله"4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو الفضل الرازي في "فضائل القرآن" "رقم 54"، وأبو نعيم في "الدلائل" "ص30-31" عن الربيع بن النعمان عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مطولا، وفيه المذكور.
قال أبو نعيم عقبه: "وهذا الحديث من غرائب حديث سهيل، لا أعلم أحدا رواه مرفوعا إلا من هذه الوجه، تفرد به الربيع بن النعمان وبغيره من الأحاديث عن سهيل، وفيه لين".
قلت: وله طرق كثيرة كما بينته بإسهاب في تعليقي على رسالة ابن قيم الجوزية "الفوائد الحديثة" وهي مطبوعة، وأصحها ما أخرجه أبو الحسين بن المنادي في "متشابه القرآن العظيم" "ص22" بسند حسن عن ابن عباس، وأخرجه أيضا ابن أبي حاتم في "تفسيره" -كما في "الإتقان" "1/ 185"- بسندهما إلى قتادة، قال: حدثنا رجال من أهل العلم، وذكره. وإسناده صحيح إلى قتادة.
2 كما تراه في "الجواب الصحيح" "3/ 313 وما بعدها"، و"هداية الحيارى" "61 وما بعدها"، و"أعلام النبوة" "ص128 وما بعدها" للماوردي، و"محمد نبي الإسلام" "ص7 وما بعدها" لمحمد عزت الطهطاوي، و"إظهار الحق"، و"نبوة محمد في الكتاب المقدس"، و"محمد في التوراة والإنجيل والقرآن"، و"الأدلة على صدق النبوة المحمدية ورد الشبهات عنها" "الفصل الأول، الباب الأول، ص50-89" لهدى مرعي.
3 لم يذكر الموالاة في الأمة، وذكرها في الرسول عليه السلام، وسيأتي في السابع والعشرين ما يتضمنه، ولو قال: "ومفهوم من آذى لي وليا.... إلخ، أن من والى لي وليا...... إلخ"، لأكمل المطلوب. "د".
4 قطعة من حديث أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب: منه 5/ 696 =

 

ج / 2 ص -430-       وفي الحديث: "من آذى لي وليا، فقد بارزني بالمحاربة"1.
وقال تعالى:
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} [النساء: 80].
ومفهومه من لم يطعِ الرسول لم يطع الله.
وتمام العشرين:
الاجتباء، فقال تعالى في الأنبياء عليهم السلام:
{وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} [الأنعام: 87].
وفي الأمة:
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} [الحج: 78].
وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام مصطفى من الخلق2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= / رقم 3863" -وقال: هذا غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه- وأحمد في "المسند" "4/ 87 و5 / 54، 57"، و"الفضائل" "رقم 1، 3"، وابنه عبد الله في "زياداته على الفضائل" "رقم 2، 4"، وابن أبي عاصم في "السنة "رقم 992"، وابن حبان في "الصحيح" "16م 244/ رقم 7256- الإحسان"، والبيهقي في "الاعتقاد" "ص321"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 287" والخطيب في "تاريخ بغداد" "9/ 123"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 3860"، والضياء المقدسي في "جزء النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب" "رقم 3، 4- بتحقيقي" عن عبيدة بن أبي رائطة، عن عبد الله بن عبد الرحمن -وفي بعض طرق عبد الرحمن بن زياد أو عبد الرحمن بن عبد الله- عن عبد الله بن المغفل مرفوعا، أوله: "اللَّهَ اللَّهَ في أصحابي......".
وإسناده ضعيف، تابعيُّه مجهول، لم يروِ عنه عبيدة بن أبي رائطة، ولم يوثقه غير ابن حبان في "الثقات" "5/ 46".
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب التواضع، 11/ 340-341/ رقم 6502" وغيره ضمن حديث إلهي.
2 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة 4/ 1782/ رقم 2276" وغيره عن واثلة بن الأسقع مرفوعا:
"إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم".
وفي "مسند أحمد" "6/ 25" وغيره:
"وأنا العاقب، وأنا النبي المصطفى".

 

ج / 2 ص -431-       وقال في الأمة: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32].
والحادي والعشرون:
التسليم من الله، ففي أحاديث إقراء السلام من الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام1.
وقال تعالى:
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59].
و:
{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54].
وقال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام في خديجة: "اقرأ عليها السلام من ربها ومنى"2.
والثاني والعشرون:
التثبيت عند توقع التفلت البشري، قال تعالى:
{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد ذلك في حديث عند أبي الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" "رقم 610" عن سعيد المقبري، عن عائشة رفعته: "يا عائشة! لو شئت لسارت معي جبال الذهب؛ جاءني ملك، فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام...".
وإسناده ضعيف، فيه أبو معشر سيئ الحفظ، وسعيد لم يسمع من عائشة.
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها رضي الله عنها 7/ 134/ رقم 3820"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها 4/ 1887/ رقم 2432" عن أبي هريرة، قال:
"أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومنى، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب".
وأخرجه أيضا بنحوه في "كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:
{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّه} 13/ 465/ رقم 7497"، إلا أن فيه: "فأقرئها من ربها السلام".

 

ج / 2 ص -432-       وفي الأمة: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27].
والثالث والعشرون:
العطاء من غير منة1، قال تعالى:
{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُون} [القلم: 3].
وقال في الأمة:
{فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون} [التين: 6].
والرابع والعشرون:
تيسير القرآن عليهم، قال تعالى:
{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه} [القيامة: 17-19]، قال ابن عباس: علينا أن نجمعه في صدرك، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه} [القيامة: 19]، علينا أن نبينه على لسانك.
وفي الأمة:
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر} [القمر: 17].
والخامش والعشرون:
جعل السلام عليكم مشروعا في الصلاة؛ إذ يقال في التشهد: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"2.
والسادس والعشرون:
أنه سمي نبيه عليه السلام بجملة من أسمائه كالرؤوف الرحيم، وللأمة نحو المؤمن والخبير والعليم والحكيم.
والسابع والعشرون:
أمر الله تعالى بالطاعة لهم، قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْر} [النساء: 59].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وعلى التفسير الآخر وهو أن الممنون المقطوع يكون التشريك في هذا المعنى، فيحل وجه بدل وجه. "د".
2 وإن كان يشمل كل عبد لله صالح كما في الحديث، فالصالح من أمته مندرج من باب أولى. "د".

 

ج / 2 ص -433-       وهم الأمراء والعلماء.
وفي الحديث:
"من أطاع أميري، فقد أطاعني"1.
وقال:
"من يطعِ الرسول، فقد أطاع الله"2.
والثامن والعشرون:
الخطاب الوارد ومورد الشفقة والحنان، كقوله تعالى:
{طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1-2].
وقوله:
{فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ} [الأعراف: 2].
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48].
وفي الأمة:
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} الآية [المائدة: 6].
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].
{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
والتاسع والعشرون:
العصمة من الضلال بعد الهدى3، وغير ذلك من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو قطعة من الحديث الآتي.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأحكام، باب قوله تعالى:
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} 13/ 111/ رقم 7137"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية 3/ 1466/ رقم 1835".
3 على هذا يحتاج إلى تأويل الحديث الوارد في "المصابيح" وصححه الترمذي:
"ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه، إلا أوتوا الجدل"، ثم قرأ هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون}، إلا أن أدلته غير واضحة الدلالة على المطلوب، فإن حديث: "لا تجتمع أمتي....." إنما هو في مجموعة الأمة لا في الأفراد ولو جماعة من الأمة، وآية: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين} =

 

ج / 2 ص -434-       وجوه الحفظ العامة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد عصمه الله تعالى من ذلك كله.
وجاء في الأمة:
"لا تجتمع أمتي على ضلالة"1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ليس المخلصون إلا الجزء القليل من المهتدين، وحديث:
"احفظ الله" لا يخرج عن رسم طريق للحفظ من الغواية والضلال وغيرهما من الشرور الدنيوية والأخروية، وحديث: "ما أخاف عليكم أن تشركوا" متوجه لمجموع الأمة وجمهورها، وإلا، فقد ثبت على أشخاص الارتداد بعد الإيمان في عهده صلى الله عليه وسلم ولكنه لا يستدعي خوفا من الجمهور المعني بذلك الحديث، فلعله يعني إثبات العصمة بعد الهدى لمجموع الأمة لا ما يشمل عصمة الإفراد، وعبارته مطلقة ومحتملة، والإفراد في قوله: "احفظ الله" لا يقتضي أن يكون شاملا للأفراد وإن كان الظاهر منه هذا المعنى، وبعيد أن يراد به خصوص المجموع من الأمة وإذا تمَّ ما قلناه، لا يحتاج الحديث إلى الصرف عن ظاهره. "د".
وقال "خ": "هذه حقيقة جلية، ومن نراه يتخبط في ريب الإلحاد وقد نبت في بيت إسلامي؛ فلأنه لم يأخذ عقائد الدين وآدابه على بينة وأسلوب حكيم، وإنما سمى نفسه أو سماه آباؤه مسلما، وليس المقلد في أصل الدين على بصيرة وهدى حتى يكون انحلال عقيدته شكا بعد يقين وضلالا بعد هدى".
1 أخرجه ابن ماجة في "السنن" "كتاب الفتن، باب السواد الأعظم 2/ 1303/ رقم 3950"، وابن أبي عاصم في "السنة" "1/ 41/ رقم 84"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 105/ رقم 153"، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 113"، وأفاد ابن حجر أن الدارقطني أخرجه في "الإفراد عن أنس مرفوعا بلفظ: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة".
وإسناده واهٍ؛ فيه معان بن رفاعة، لين الحديث، كثير الإرسال، وأبو خلف الأعمى البصري متروك، ورماه ابن معين بالكذب.
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "1/ 116-117" من طريق آخر عن أنس، وفيه مبارك بن سحيم، قال الحاكم: "ممن لا يمشي في هذا الكتاب، لكن ذكرته اضطرارا".
وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 83"، من طريق آخر عن أنس بلفظ: "إن الله أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة"، وإسناده ضعيف، فيه مصعب بن إبراهيم، وهو منكر الحديث.
وأخرجه الترمذي في "الجامع" أبواب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة 4/ 466/ رقم 2167"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 80"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 115- =

 

ج / 2 ص -435-       ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 116"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "ص322"، وأبو نعيم في "الحلية" "3/ 37"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 154"، والطبراني في الكبير" "رقم 13623"، وابن حزم في "الإحكام" "4/ 192"، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 109" عن ابن عمر مرفوعا بلفظ:
"إن الله لا يجمع أمتي -أو قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم- على ضلالة"، قال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، وسليمان المدني هو عندي سليمان بن سفيان".
قلت: وكذا قال الدارقطني في "علله"، وزاد: "ليس بالقوي، يتفرد بما لا يتابع عليه".
والراوي عنه هنا المعتمر بن سليمان، وقد اختلف عليه فيه من سبعة أوجه سردها الحاكم، وقال: "لا يسعنا أن نحكم عليها كلها بالخطأ ولا الصواب"، وقال: "وقد كنت أسمع أبا علي الحافظ يحكم بالصواب لقول من قال: عن المعتمر، عن سليمان بن سفيان المدني...." وهذا الذي صوبه البخاري والترمذي والدارقطني، وتبعهم ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 110-111"، وسليمان ضعيف كما قدمنا.
وأخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 4233"، والطبراني في "الكبير" "رقم 3440" -ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 106"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 92"، والداني في "الفتن" "ق 45/ ب" عن أبي مالك الأشعري مرفوعا: "إن الله أجاركم من ثلاث خلال...." آخرها: "وأن لا تجتمعوا على ضلالة".
وإسناده ضعيف؛ لأنه منقطع؛ شريح بن عبيد لم يسمع من أبي مالك الأشعري، وبهذا أعله الزركشي في "المعتبر" "ص58"، وابن كثير في "تحفة الطالب" "رقم 35" بقوله: "في إسناد هذا الحديث نظر"، وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "3/ 141": "وفي إسناده انقطاع"، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 82" من طريق آخر عن أبي مالك واسمه كعب بن عاصم بإسناد فيه سعيد بن زربي وهو منكر الحديث، وفيه عنعنة الحسن البصري، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "1/ 116" عن ابن عباس مرفوعا:
"لا يجمع الله أمتي -أو قال: هذه الأمة- على الضلالة أبدا".
وفيه إبراهيم بن ميمون، قد عدله عبد الرزاق وأثنى عليه، وعبد الرزاق إمام أهل اليمن، وتعديله حجة، ووثق ابن ميمون أيضا ابن معين.
وأخرجه أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" "2/ 208" عن سمرة مرفوعا: "إن أمتي لا تجتمع =

 

ج / 2 ص -436-       .....................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= على ضلالة".
وإسناده ضعيف، فيه أبو عون الأنصاري: مقبول، وعتبة بن أبي حكيم صدوق يخطيء كثيرًا، وبقية مدلس وقد عنعن.
وأخرجه ابن أبي خيثمة في "تاريخه الكبير" -كما قال الزركشي في "المعتبر" "ص61"، وأحمد في "المسند" "6/ 396"، والطبراني في "الكبير" "رقم 2171"، ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 105-106"، وابن عبد البر في "الجامع" "1/ 756/ رقم 1390" عن أبي بصرة الغفاري مرفوعا:
"سألت ربي عز وجل أربعا، فأعطاني ثلاثا، ومنعنى واحدة، سألت الله أن لا يجمع أمتي على ضلالة، فأعطانيها"، وإسناده ضعيف فيه راوٍ مبهم، وسائر رجاله ثقات.
وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "رقم 13373" في سورة الأنعام عن الدورقي عن ابن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري مرسلا.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 85"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "3/ 244-245"، والطبراني في "الكبير" "17/ رقم 647، 648، 649"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 506-507"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 167، واللالكائي في "السنة" رقم 162، 163"، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 114-115" عن أبي مسعود البدري بألفاظ منها: "فإن الله لا يجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالته".
وإسناده صحيح موقوف، رجاله رجال الشيخين، وحسنه ابن حجر، وقال الزركشي في "المعتبر" "ص62": "وحديث أبي مسعود رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وذكرها من طريق وضعفها، والظاهر وقفه على أبي مسعود".
ثم قال: "واعلم أن طرق هذا الحديث كثيرة، ولا يخلو من علة، وإنما أوردت منها ذلك؛ ليتقوى بعضها ببعض"، ثم قال: "ومن شواهده ما في "الصحيحين" -"صحيح البخاري" "رقم 1367، 2642"، و"صحيح مسلم" "رقم 949"- عن أنس، قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال:
"وجبت" ثم مر بأخرى فأثنوا شرا، فقال: "وجبت" فقيل: يا رسول الله! لم قلت لهذا وجبت ولهذا وجبت؟ قال: "شهادة القوم المؤمنون شهداء الله في الأرض"، وفي لفظ لمسلم: "من أثنيتم عليه خيرا، وجبت له الجنة، ومن أثنيتهم عليه شرا، وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض". "ثلاثا".

 

ج / 2 ص -437-       وجاء: "احفظ الله يحفظك"1.
وفي القرآن:
{لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83] تفسيره في قوله: "لا تجتمع أمتي على ضلالة".
وفي قوله:
"وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها"2.
وتمام الثلاثين:
إمامة الأنبياء، ففي حديث الإسراء أنه عليه الصلاة والسلام أمَّ بالأنبياء، قال:
"وقد رأيتني [في] جماعة من الأنبياء....... فحانت الصلاة فأممتهم"3.
وفي حديث نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض في آخر الزمان:
"إن إمام هذه الأمة منها، وإنه يصلي مؤتما بإمامها"4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 315".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس عليها 11/ 243-244/ رقم 6426" من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
3 قطعة من حديث أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال 1/ 156-157/ رقم 172" عن أبي هريرة مرفوعا، وفيه:
"وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم -يعني: نفسه- فحانت الصلاة فأممتهم".
قلت: وما بين المعقوفتين ساقط في الأصل.
4 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأنبياء، باب نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام 6/ 491/ رقم 3449"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم 1/ 136-137/ رقم 155 بعد 244" عن أبي هريرة مرفوعا:
"كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم فيكم؟" لفظ الشيخين. =

 

ج / 2 ص -438-       ومن تتبع الشريعة وجد من هذا كثيرا [مجموعه] يدل على أن أمته تقتبس منه خيرات وبركات، وترث أوصافا وأحوالا موهوبة من الله تعالى ومكتسبة، والحمد لله على ذلك.
فصل:
وهذا الأصل ينبني عليه قواعد:
- منها: أن جميع ما أعطيته هذه الأمة من المزايا والكرامات، والمكاشفات والتأييدات وغيرها من الفضائل إنما هي مقتبسة من مشكاة نبينا صلى الله عليه وسلم، لكن على مقدار الاتباع، فلا يظن ظانٌّ أنه حصل على خير بدون وساطة1 نبوية، كيف وهو السراج المنير الذي يستضيء به الجميع، والعلم الأعلى الذي به يهتدى في سلوك الطريق.
ولعل قائلا يقول: قد ظهرت على أيدي الأمة أمور لم تظهر على يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سيما الخواص التي اختص بها بعضهم، كفرار الشيطان من ظل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفي لفظ لمسلم "برقم 155 بعد 245":
"وأمكم"، وفي لفظ "برقم 155 بعد 246": "فأمكم منكم"، وفيه: قال ابن أبي ذئب -بعض رواته: تدري ما "أمكم منكم"؟ قلت: -الوليد بن مسلم: تخبرني؟. قال: "فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم".
فليس في هذا
"وأنه يصلي مؤتما بإمامها".
نعم، ورد في "صحيح مسلم" "رقم 156" عن جابر مرفوعا:
"لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، فيقول أميرهم: تعال صل بنا. فيقول: لا، لا تكرمة الله هذه الأمة".
وهذا الأمير في هذه الرواية هو الإمام في الرواية الأولى، وهو المهدي بن عبد الله الحسيني، قال أبو ذر ابن سبط ابن العجمي في تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" "رقم 137"، وانظر -لزاما- تعليقنا عليه.
1 في "ماء / ص203: "واسطة" وفي "ط": "وساطة النبوة".

 

ج / 2 ص -439-       عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد نازع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته الشيطان1وقال لعمر: "ما سلكت فجا إلا سلك الشيطان فجًّا غير فجك"2.
وجاء في عثمان بن عفان رضي الله عنه: "أن ملائكة السماء تستحي منه"3 ولم يرد مثل هذا بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وجاء في أسيد بن حضير وعباد بن بشر: "أنهما خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا، فافترق النور معهما"4، ولم يؤثر مثل ذلك عنه عليه الصلاة والسلام.
إلى غير ذلك من المنقولات عن الصحابة ومن بعدهم، مما لم ينقل أنه ظهر مثله على يد النبي صلى الله عليه وسلم.
فيقال: كل ما نقل عن الأولياء أو العلماء5 أو ينقل إلى يوم القيامة من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي لفظه وتخريجه في التعليق على "ص441".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب بدء الخلق 6/ 339/ رقم 3294، وكتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي رضي الله عنه 7/ 40/ رقم 3683، وكتاب الأدب، باب التبسم والضحك 10/ 503/ رقم 6085"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه 4/ 1863-1864/ رقم 2396" عن سعد بن أبي وقاص ضمن حديث طويل في آخره:
"والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك". لفظ مسلم، ولفظ البخاري: "غير ذلك".
3 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه عن عائشة، وذكرت قصته، وفي آخرها، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟"، وأخرجه أحمد في "المسند" بألفاظ "1/ 71 و6/ 62، 155، 288".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب منقبة أسيد بن حضير وعباد ابن بشر رضي الله عنهما 7/ 124-125/ رقم 3805" عن أنس رضي الله عنه بلفظ:
"إن رجلين خرجا من عند.....".
5 في "ط": "والعلماء".

 

ج / 2 ص -440-       الأحوال والخوارق والعلوم والفهوم وغيرها، فهي أفراد وجزئيات داخلة تحت كليات ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، غير أفراد الجنس وجزئيات الكلي قد تختص1 بأوصاف تليق بالجزئي من حيث هو جزئي، وإن لم يتصف بها الكلي من جهة ما هو كلي2، ولا يدل ذلك على أن للجزئي مزية على الكلي، ولا أن ذلك في الجزئي خاص به لا تعلق له بالكلي، كيف والجزئي لا يكون كليا إلا بجزئي3؟ إذ هو من حقيقته وداخل في ماهيته، فكذلك الأوصاف الظاهرة على الأمة لم تظهر إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم فهي كالأنموذج من أوصافه عليه الصلاة والسلام وكراماته.
والدليل على صحة ذلك أن شيئا منها لا يحصل إلا على مقدار الاتِّباع والاقتداء به4، ولو كان ظاهرة للأمة على فرض الاختصاص بها والاستقلال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إن جزئيات الكلى تمتاز بمشخصات تليق بهذه الجزئيات، فالجزئيات التي وجدت لبعض الصحابة من الكرامات -وإن ظهر ببادي الرأي أنها أمور غير داخلة في كلي كرامات الرسول- فالواقع ليس كذلك، بل هي جزئيات من كليته، وكليته أكمل كما سيصوره المؤلف في عصمته عليه الصلاة والسلام العصمة المطلقة من الشيطان، وفي فراره من عمر الذي لا يقتضي تمام العصمة، فكم يفر العدو ممن يراه أقوى منه، ولكنه قد يكر عليه فلا ينجو منه في بعض الغفلات؟ "د".
2 في نسخة "ماء/ ص203": "قلت: وانظر إلى أصل الشجرة وما يتفرع منه، وما يظهر في الفرع من ورق وشوك وثمر".
3 لعل الصواب: "لا يكون جزئيا إلا بكلي". "د".
قلت: المذكور متجه، ولا داعي للتصويب المذكور؛ إذ الكلي يتكون من مجموع الجزئيات، فتأمل.
4 ليس هذا على إطلاقه، قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "11/ 283": "ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها ضعيف الإيمان أو المحتاج أتاه منها ما يقوي إيمانه ويسد حاجته، ويكون من هو أكمل ولاية لله منه مستغنيا عن ذلك، فلا يأتيه مثل ذلك؛ لعلو درجته وغناه عنها لا لنقص ولايته، ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة، بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهدى الخلق ولحاجتهم، فهؤلاء أعظم درجة، وقرر أيضا في "11/ 323" أن عدم الخوارق لا تضر المسلم في دينه، ولا ينقص ذلك من مرتبته عند الله بل قد يكون عدم ذلك أنفع له في دينه. وانظر -غير مأمور: "مجموع الفتاوى" "10/ 29-32 و499-500 و11/ 202، 204-208، 212-215، 275 وبعدها، 322 وما بعدها".

 

ج / 2 ص -441-       لم تكن المتابعة شرطا فيها، ويتبين هذا بالمثال المذكور في شأن عمر.
ألا ترى أن خاصيته المذكورة هي هروب الشيطان منه، وذلك حفظ من الوقوع في حبائله وحمله إياه على المعاصي، وأنت تعلم أن الحفظ التام المطلق العام خاصية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان معصوما عن الكبائر والصغائر على العموم والإطلاق، ولا حاجة إلى تقرير هذا المعنى هنا، فتلك النقطة الخاصة بعمر من هذا البحر.
وأيضا، فإن فرار الشيطان أو بُعده من الإنسان إنما المقصود منه الحفظ من غير زيادة، وقد زادت مزية النبي صلى الله عليه وسلم فيه خواص:
- منها: أنه عليه الصلاة والسلام أقدره الله على تمكنه من الشيطان، حتى هم أن يربطه إلى سارية المسجد، ثم تذكر قول سليمان عليه السلام:
{هَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}1 [ص: 35] ولم يقدر عمر على شيء من ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه "كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:
{وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَان} 6/ 457/ رقم 3423، وكتاب التفسير، باب {هَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} 8/ 546/ رقم 4808"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة 1/ 384/ رقم 541" عن أبي هريرة مرفوعا: "إن عفريتا من الجن تفلَّت عليَّ البارحة -أو كلمة نحوها- ليقطع عليَّ الصلاة، فأمكنني الله منه، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: {هَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}، فردَّه خاسئًا" لفظ البخاري.

 

ج / 2 ص -442-       - ومنها: أن النبي عليه الصلاة والسلام اطَّلع على ذلك من نفسه1 ومن عمر2 ولم يطَّلِع عمر على شيء منه.
- ومنها: أنه عليه الصلاة والسلام كان آمنا من نزعات الشيطان وإن قرب منه، وعمر لم يكن آمنا وإن بعُد عنه.
وأما منقبة عثمان، فلم يرد ما يعارضها بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل نقول: هو أولى بها، وإن لم يذكرها عن نفسه؛ إذ لا يلزم من عدم ذكرها عدمها.
وأيضا، فإن ذلك لعثمان لخاصية كانت فيه وهي شدة حيائه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس حياء، وأشد3 حياء من العذارء في خدرها4، فإذا كان الحياء أصلها، فالنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي حواه على الكمال.
وعلى هذا الترتيب يجري القول في أسيد وصاحبه؛ لأن المقصود بذلك الإضاءة حتى يمكن المشي في الطريق ليلا بلا كلفة، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن الظلام يحجب بصره، بل كان يرى في الظلمة كما يرى في الضوء5، بل كان لا يحجب بصره ما هو أكثف من حجاب الظلمة، فكان يرى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1، 2 أي: في شأنه صلى الله عليه وسلم وفي شأن عمر. "د".
3 في "ط": "أو أشد".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، صفة النبي صلى الله عليه وسلم 6/ 566/ رقم 3562، وكتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب 10/ 513/ رقم 6102، وباب الحياء 10/ 521/ رقم 6119"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم 4/ 1809/ رقم 2320" عن أبي سعيد الخدري مرفوعا.
5 أخرج تمام في "الفوائد" "رقم 1430- تربيته"، وابن عدي في "الكامل" "4/ 1534" -ومن طريقه البيهقي في "الدلائل" "6/ 74-75"، وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 118/ رقم 266"، والخطيب في تاريخ بغداد" "4/ 271-272"، ومكي المؤذن في "حديثه" "1/ 236"، والضياء المقدسي في "المنتقى من حديث أبي علي الأوقي" "1/ 2"-كما في "السلسلة الضعيفة" "رقم 341"- من طريق زهير بن عباد الرواسي عن عبد الله بن المغيرة عن المعلي بن هلال  =

 

ج / 2 ص -443-       من خلفه كما يرى من أمامه1، وهذا أبلغ، حيث كانت الخارقة في نفس البصر لا في المبصر به، على أن ذلك إنما كان من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام وكراماته التي ظهرت في أمته [من]2 بعده وفي زمانه.
فهذا التقرير هو الذي ينبغي الاعتماد عليه3، والأخذ لهذه الأمور من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى في الظلمة كما يرى في الضوء".
وإسناده ضعيف جدا، قال البيهقي: "هذا إسناد فيه ضعف"، وقال ابن الجوزي: "لا يصح".
المعلى بن هلال اتفق النقاد على تكذيبه، كما قال ابن حجر، والراوي عنه عبد الله بن محمد بن المغيرة، قال أبو حاتم: "ليس بقوي" وقال ابن يونس: "منكر الحديث"، وقال العقيلي: "يحدث بما لا أصل له"، كذا في "اللسان" "3/ 332"، وأورد الذهبي في "الميزان "2/ 487-488" في ترجمته جملة من الأحاديث منها المذكور، ثم قال: "قلت: وهذه موضوعات"، وضعف هذا الحديث ابن دحية في كتابه "الآيات البينات"، قاله المناوي في "فيض القدير" "5/ 215".
قلت: ونقل تضعيفه فيه عن ابن بشكوال، كما قال ابن الملقن في "غاية السول في خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم "ص299".
وعزاه السيوطي في "الخصائص الكبرى" "1/ 61" لابن عساكر، وهو في "تاريخه" مرسلا، وفيه بعض المجاهيل، أفاده شيخنا الألباني.
وأخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 75" بسند فيه جماعة مجهولون عن مغيرة بن مسلم، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بالليل في الظلمة كما يرى بالنهار من الضوء". وقال: "ليس بالقوي".
ووردته قصة تدل على وهاء هذا الحديث، ولكنها من القصص التي لا تثبت، كما تراه في هامش "غاية السول" "ص472".
1 سيأتي تخريجه "ص274"، وهذا خاص به صلى الله عليه وسلم في الصلاة فحسب.
2 سقط من "ط".
3 الأحسن من هذا الذي قرره المصنف ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "11/ 398": "ليس كل عمل أورث كشوفا أو تصرفا في الكون يكون أفضل من العمل =

 

ج / 2 ص -444-       جهته لا على الجملة، فربما يقع للناظر فيها ببادئ الرأي إشكال، ولا إشكال فيها بحول الله. وانظر في كلام القرافي في قاعدة الأفضلية والخاصية.
فصل:
ومن الفوائد في هذا الأصل أن ينظر إلى كل خارقة صدرت على يدي أحد، فإن كان لها أصل في كرامات الرسول عليه الصلاة والسلام ومعجزاته، فهي صحيحة، وإن لم يكن لها أصل، فغير صحيحة، وإن ظهر ببادئ الرأي أنها كرامة؛ إذ ليس كل ما يظهر على يدي الإنسان من الخوارق بكرامة1، بل منها ما يكون كذلك، ومنها ما لا يكون كذلك2.
وبيان ذلك بالمثال أن أرباب التصريف بالهمم3 والتقربات بالصناعة الفلكية والأحكام النجومية قد تصدر عنهم أفاعيل خارقة، وهي كلها ظلمات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الذي لا يورث كشفا وتصرفا، فإن الكشف والتصرف إن لم يكن مما يستعان به على دين الله وإلا كان من متاع الحياة الدنيا، وقد يحصل ذلك للكفار من المشركين وأهل الكتاب، وإن لم يحصل لأهل الإيمان الذين هم أهل الجنة، وأولئك أصحاب النار، ففضائل الأعمال ودرجاتها لا تُتَلقى من مثل هذا، وإنما تُتَلقى من دلالة الكتاب والسنة....".
وقال: إن تفضيل العمل على العمل قد يكون مطلقا، مثل تفضيل أصل الدين على فرعه، وقد يكون مقيدا، فقد يكون أحد العملين في حق زيد أفضل من الآخر، والآخر في حق عمرو أفضل، وقد يكونان متماثلين في حق الشخص، وقد يكون المفضول في وقت أفضل من الفاضل، وقد يكون المفضول في حق من يقدر عليه وينتفع به أفضل من الفاضل في حق من ليس كذلك".
1 في الأصل: "كرامة".
2 انظر نحوه في "النبوَّات"، و"الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" "ص62 وما بعدها"، والموطن المذكورة آنفا من المجلد الحادي عشر من "مجموع الفتاوى"، و"مدارج السالكين" "1/ 47-48"، و"قطر الولي" "ص253"، و"التنكيل" "2/ 238-239".
3 في الأصل: "الهمة".

 

ج / 2 ص -445-       بعضها فوق بعض، ليس لها في الصحة مدخل، ولا يوجد لها في كرامات النبي صلى الله عليه وسلم منبع؛ لأنه إن كان ذلك بدعاء مخصوص، فدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على تلك النسبة، ولا تجري فيه تلك الهيئة، ولا اعتمد على قران1 في الكواكب، ولا التمس سعودها أو نحوسها، بل تحرَّى مجرد الاعتماد على من إليه يرجع الأمر كله واللجأ إليه، معرِضا عن الكواكب وناهيا عن الاستناد إليها؛ إذ قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر"2 الحديث، وإن تحرى وقتا أو دعا [إلى تحرِّيه]3، فلسبب بريء من هذا كله، كحديث التنزل4، وحديث اجتماع الملائكة طرفي النهار5، وأشباه ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "قرار".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" في مواطن، منها "كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذ سلم 2/ 333/ رقم 846"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال: مطرنا بالنوء 1/ 83-84/ رقم 71" من حديث زيد بن خالد، ومضى الحديث "1/ 201".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
4 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل 3/ 29/ رقم 1145، وكتاب الدعوات، باب الدعاء نصف الليل 11/ 128-129/ رقم 6321، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:
{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّه} 13/ 464/ رقم 7494"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه 1/ 521/ رقم 758" عن أبي هريرة مرفوعا: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثُلُثُ الليل الآخرُ، فيقول: من يدعوني، فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له".
5 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر 2/ 33/ رقم 55، وكتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة 6/ 306/ رقم 3223، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:
{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْه} 13/ 415/ رقم 7429، وباب كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكةَ 13/ 461/ رقم 7486"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما 1/ 439/ رقم 632" عن أبي هريرة مرفوعا: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم؛ وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون".

 

ج / 2 ص -446-       والدعاء أيضا عبادة لا يزاد فيها ولا ينقص؛ أعني الكيفيات المستفعلة والهيئات المتكلفة التي لم يعهد مثلها فيما تقدم، وكذلك الأدعية التي لا تجد مساقها في متقدم الزمان ولا متأخره، ولا مستعمل النبي عليه الصلاة والسلام والسلف الصالح، والتي روعى فيها طبائع الحروف في زعم أهل الفلسفة ومن نحا نحوهم مما لم يقل به غيرهم، وإن كان بغير دعاء كتسليط الهمم على الأشياء حتى تنفعل، فذلك غير ثابت النقل، ولا تجد له أصلا، بل أصل ذلك حال حكمي وتدبير فلسفي لا شرعي؛ هذا وإن كان الانفعال الخارق حاصلا به، فليس بدليل على الصحة، كما أنه قد يتعدى ظاهرا بالقتل والجرح، بل قد يوصل بالسحر والعين إلى أمثال ذلك، ولا يكون شاهدا على صحته؛ بل هو باطل صرف، وتعدٍ محض، وهذا الموضع مَزَلَّة قدم للعوام ولكثير من الخواص، فلْتُنَبَّهْ له.
فصل:
ومنها أنه لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر وبشر وأنذر، وندب1، وتصرف بمقتضى الخوارق من الفراسة الصادقة، والإلهام الصحيح، والكشف الواضح، والرؤيا الصالحة، كان من فعل مثل ذلك ممن اختص بشيء من هذه الأمور على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إنه صلى الله عليه وسلم رتب على فراسته ورؤياه وإلهاماته بشارة للبعض، ونذارة لآخر، وتصرفات في بعض الشئون، وهكذا؛ فمن فعل مثله صلى الله عليه وسلم كان على صواب في عمله، وقد علمت مما سبق أن صدق ذلك تابع لقوة المتابعة، ولذا قال: "فمن اختص بشيء.... إلخ" وقوله: "شرط ذلك"، أي: الآتي في المسألة التالية. "د".

 

ج / 2 ص -447-       طريق من الصواب1، وعاملا بما ليس بخارج عن المشروع، لكن مع مراعاة شرط ذلك، ومن الدليل على صحته زائدا إلى ما تقدم أمران:
أحدهما:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عمل بمقتضى ذلك أمرا ونهيا، وتحذيرا وتبشيرا وإرشادًا، مع أنه لم يذكر أن ذلك خاص به دون أمته، فدل على أن الأمة حكمهم في ذلك حكمه، شأن كل عمل صدر منه ولم يثبت دليل على الاختصاص به دون غيره، ويكفي من ذلك ما ترك بعده في أمته من المبشرات، وإنما فائدتها البشارة والنذارة التي يترتب عليها الإقدام والإحجام.
وقد قال عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمر في رؤياه الملكين2 وقولهما له:
"نعم الرجل أنت لو تكثر الصلاة"، فلم يزل بعد ذلك يكثر الصلاة3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أسهب ابن القيم في الكلام على حجية "الفراسة"، وذكر أمثلة كثيرة على عمل الصحابة والتابعين بها، وذلك في أول كتابه "الطرق الحكمية"، انظره بتحقيقنا.
2 أي: فقد رتب على رؤيا عبد الله نفسه ما رتب، ويظهر أن مقالة الرسول لأبي ذر وثعلبة وأنس كلها من قبيل الفراسة، ولتراجع رواية البخاري في "كتاب الرؤيا، باب الأمن وذهاب الروع في المنام، ففيها أن ملكا ثالثا قال له:
"لم ترع، نعم الرجل أنت لو تكثر الصلاة"، فليست من كلام الملكين، كما أن لفظ الرسول في هذه الرواية "أن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة في الليل" وهو نص الرواية الأخرى التي رواها المؤلف، فليس بظاهر جعل قوله: "نعم.... إلخ" مقولا لقال ولا لقولهما إلا بتكليف. "د".
قلت: بل الأمر كما ذكر المصنف، كما في الموطنين الثاني والثالث في "صحيح البخاري" من الهامش الآتي.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب فضل قيام الليل 3/ 6/ رقم 1121، 1122، وباب فضل من تعارَّ من الليل، فصلى 3/ 40/ رقم 1157، وكتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما 7 / 89-90/ رقم 3738، 3739"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما 4/ 1927-1928/ رقم 2479" عن حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.

 

ج / 2 ص -448-       وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة من الليل"1.
وقال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر:
"إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرَنَّ على اثنين، ولا تولَّينَّ مال يتيم"2.
وقوله لثعلبة بن حاطب وسأله الدعاء له بكثرة المال:
"قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما 7/ 90/ رقم 3740، 3741، وكتاب التعبيرات، باب الإستبرق ودخول الجنة في المنام 12/ 403/ رقم 7016، وباب الأمن وذهاب الروع في المنام 12/ 418/ رقم 7029، وباب الأخذ على اليمين في النوم 12/ 419/ 7031"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما 4/ 1927/ رقم 2478" عن حفصة مرفوعا.
2 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة 3/ 1457-1458/ رقم 1826"، ومضى تخريجه "1/ 177".
3 أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" "8/ 260/ رقم 7873"، و"الأحاديث الطوال" "25/ 225- في "تفسيره" "2/ 312"، وأبو نعيم في "المعرفة" "3/ 272"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص252"، والبيهقي في "الدلائل" "5/ 289"، وابن عبد البر في "الاستيعاب" "1/ 204"، وابن الأثير في "أسد الغابة" "1/ 284"، وابن حزم في "المحلى" "11/ 208" عن أبي أمامة الباهلي رفعه، فيه معان بن رفاعة لين الحديث، وعلى بن يزيد الألهاني متروك، فإسناده ضعيف جدا، كما قال ابن حجر في "الكافي الشاف" "ص77"، وضعفه العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 372"، وقال ابن حجر في "الفتح" "3/ 266": "حديث ضعيف لا يحتج به"، وقال ابن حزم في "المحلى" "11/ 208": "وهذا باطل بلا شك"، وضعفها البيهقي بقوله: "في إسناده نظر" والقرطبي في "تفسيره" "8/ 210"، والذهبي في "تجريد أسماء الصحابة" "1/ 66"، والهيثمي في "المجمع" "7/ 35"، وغيرهم.

 

ج / 2 ص -449-       وقال لأنس: "اللهم كثر ماله وولده"1.
ودل عليه الصلاة والسلام أناسا شتى على ما هو أفضل الأعمال في حق كل وحد منهم، عملا بالفراسة الصادقة فيهم، وقال2:
"لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه"3، فأعطاها عليا رضي الله عنه، ففتح الله على يديه.
وقال لعثمان بن عفان: إنه
"لعل الله أن يقمصك قميصا: فإن أرادوك على خلعه، فلا تخلعه"4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب من زار قوما فلم يفطر عندهم 4/ 228/ رقم 1982، وكتاب الدعوات، باب قوله الله تبارك وتعالى:
{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} 11/ 136/ رقم 6334، وباب الدعاء بكثرة المال والولد مع البركة 11/ 182/ رقم 6378"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب: منه 4/ 1928/ رقم 2480"، والترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب مناقب لأنس بن مالك 5/ 682/ رقم 3829"، وأحمد في "المسند" "6/ 430" عن أم سليم "والدة أنس" وغيرهم.
2 هذا وما بعده للآخر يدخل تحت الاطلاع الغيبي، وهي عبارة مجملة تشمل ما كان من قبيل الوحي الملكي والإلهام، وأُتي بها كذلك؛ لتصح فيها المشاركة للأمة على ضرب من التسامح "د".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب 7/ 70/ رقم 3701"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه 4/ 1872/ رقم 2406" عن سهل بن سعد مرفوعا.
4 أخرجه أحمد في "المسند" "6/ 114" -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "281، عثمان"- عن عائشة، وفي مسندها خلافا لما قاله ابن حجر في "أطراف مسند الإمام أحمد" =

 

ج / 2 ص -450-       فرتب على الاطلاع الغيبي وصاياه النافعة، وأخبر أنه ستكون لهم أنماط ويغدو أحدهم في حلة ويروح في أخرى، وتوضع بين يديه صحفة وترفع أخرى، ثم قال آخر الحديث: "وأنتم اليوم خير منكم يومئذ"1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "9/ 297/ رقم 12309": "وقع هذا في مسند عثمان"، ثنا محمد بن كناسة الأسدي ثنا إسحاق ابن سعيد عن أبيه، قال: بلغني أن عائشة قالت به، وهذا منقطع.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "12/ 48-49"-ومن طريقه ابن أبي عاصم في "السنة "2/ 558-559/ رقم 1172"،وابن حبان في "الصحيح" "15/ 346/ رقم 6915- الإحسان" -ثنا زيد بن الحباب عن معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد الدمشقي عن عبد الله بن قيس عن النعمان بن بشير عن عائشة.
وأخرجه أحمد في "المسند" "6/ 149" -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "278- ترجمة عثمان"- عن عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية به، وفيه: "عبد الله بن أبي قيس".
وإسناده صحيح، رجاله رجال مسلم غير عبد الله بن قيس وهو اللخمي الشامي، وثقه ابن حبان في "الثقات" "5/ 45"، وروى عنه غير واحد، قال ابن حبان عقبه: "هذا عبد الله بن قيس اللخمي مات سنة أربع وعشرين ومئة، وليس هذا بعبد الله بن أبي قيس صاحب عائشة".
وأخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه، 5/ 628/ رقم 3705"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "277" من طرق عن معاوية بن صالح، وأحمد في "المسند" "6/ 86" -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 276- ترجمة عثمان"- من طريق الوليد بن سليمان، كلاهما عن ربيعة بن يزيد عن عبد الله -وتصحف في مطبوع "جامع الترمذي" إلى عبد الملك" فليصحح- ابن عامر عن النعمان بن بشير به، وإسناده صحيح، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وللحديث طرق أخرى، انظرها في "سنن ابن ماجه" "رقم 112"، و"المستدرك" "3/ 99-100"، و"السنة" لابن أبي عاصم "رقم 1174، 1179، 1180"، و"تاريخ دمشق" "ص276 وما بعدها-ترجمة عثمان".
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام 6/ 629/ رقم 3631، وكتاب النكاح، باب الأنماط ونحوها للنساء، 9/ 225/ رقم 5161"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب اللباس، باب جواز اتخاذ الأنماط، 3/ رقم 3/ 1650/ رقم 2083" عن جابر مرفوعا:
"هل لكم من أنماط؟" قلت: وأنى يكون لنا الأنماط؟ قال: "أما وإنها ستكون لكم الأنماط"، =

 

ج / 2 ص -451-       ......................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والتتمة المذكورة عند المصنف في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 647/ رقم 2476"-وقال: "هذا حديث حسن" من طريق هناد في "الزهد" "رقم 757" وإسناده ضعيف، كما في "الإصابة" "3/ 421"، وهو من طريق ابن إسحاق، وقد صرح بالتحديث، وهو في القطعة المطبوعة من "سيرته" "174"، وعزاه ابن حجر في "المطالب العالية" "3/ 157" لأبي يعلى، وقال الهيثمي في "المجمع" "10/ 314": "وفيه راو لم يسم، وبقية رجاله ثقات".
قلت: إلا أن الحديث صحيح لشواهده الكثيرة، منها: حديث واثلة بن الأسقع، أخرجه أبو نعيم في "الحلية" "2/ 23"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "7/ ق 560"، وفي إسناده سليمان ابن حيان مترجم في الجرح والتعديل" "4/ 106"، و"التاريخ الكبير" "4/ 8"، و"تاريخ دمشق" "7/ ق 650-651"، ولم يذكروا فيه جرحا ولا تعديلا، ووقع في مطبوع "الحلية" تصحيف شنيع أوهم جامع "حديث خيثمة" "ص190" أنه من حديث خيثمة بن سليمان الأطرابلسين وكشفنا عن هذا الوهم في التعليق على "رجحان الكفة" "ص304" للسخاوي".
وحديث طلحة بن عمرو النصري، أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 487"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 6684- الإحسان"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "رقم 1434، 1435"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "1/ 277-278"، وحماد بن إسحاق في "تركة النبي صلى الله عليه وسلم" "ص58"، والحاكم في "المستدرك" 3/ 15"، والبزار في "مسنده" "رقم 3673- زوائده"، والطيراني في "الكبير" "رقم 8160، 8161"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 524"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 374" من طرق كثيرة عن داود بن0 أبي هند به، وإسناده صحيح.
وحديث سعد بن مسعود أخرجه هناد في "الزاهد" "رقم 759" وفيه الإفريقي عبد الرحمن بن أنعم وهو ضعيف،وسعد في صحبته اختلاف.
وحديث عروة بن الزبير أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 116"، ومن حديث أبيه الزبير أخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 628-629"، وفي إسنادهما موسى بن عبيدة الربذين وهو ضعيف.
وآخر من مرسل قتادة أخرجه أحمد في "الزهد" "37"، ومن مرسل سعد بن هشام أخرجه هناد في "الزهد" "رقم 767".
ومن حديث إبراهيم بن محمد العبدري عن أبيه؛ أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 166"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 200"، وفي سنده الواقدي.
قلت: في الأصل: "يوضع".

 

ج / 2 ص -452-       وأخبر بملك معاوية ووصاه1، وأن عمارًا تقتله الفئة الباغية2، وبأمراء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المذكور عبارة القاضي عياض في "الشفا" "1/ 656"، ويعتمد المؤلف عليه كثيرا في نقل الأحاديث، وقال السيوطي في "مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا" "رقم 733": "البيهقي من طرق عن معاوية".
قلت: أخرج أحمد في "المسند" "4/ 101" وابن أبي الدنيا وابن منده -كما في "البداية والنهاية" "8/ 123"- عن سعيد بن عمرو بن العاص يحدث أن معاوية أخذ الإداوة بعد أبي هريرة، فبينا هو يوضِّئ رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع رأسه إليه مرة أو مرتين، فقال: "يا معاوية! إن وليت أمرًا، فاتق الله واعدل".
وهذا إسناد ضعيف؛ لأنه مرسل.
وأخرجه أبو يعلى في "المسند" "13/ 370/ رقم 7380" ثنا سويد بن سعيد، عن عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جده سعيد بن عمرو بن العاص، عن معاوية به.
وهذا موصول، إلا أنه ضعيف؛ لضعف سويد بن سعيد، قال الهيثمي في "المجمع" "9/ 355-356": "رواه أحمد واللفظ له، وهو مرسل، ورواه أبو يعلى، فوصله، فقال فيه: عن معاوية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والباقي بنحوه، ورواه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير"، وقال في "الأوسط" ".... فأقبل، ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح".
قلت: رواية أحمد مرسلة، وقد صرح الهيثمي بذلك "5/ 186"، ورواية أبي يعلى فيها سويد، فهي ضعييفة، وأفاد الهيثمي في "المجمع" "5/ 186" أن رواية الطبراني مختصرة عن عبد الملك بن عمير عن معاوية، وفيه إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، وهو ضعيف، وقد وثق.
قلت: أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "11/ 148- ط الهندوية و7/ 280- ط دار الفكر"، و" المسند" -كما في "المطالب العالية" "رقم 4085"، ومن طريقه قوام السنة في "الحجة" "2/ 376/ رقم 378"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 446" عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عبد الملك بن عمير به.
قال البيهقي عقبه: "إسماعيل بن إبراهيم هذا ضعيف عند أهل المعرفة بالحديث" ثم =

 

ج / 2 ص -453-       ....................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال: "غير أن لهذا الحديث شواهد" وذكر مرسل سعيد بن عمرو بن العاص، وقال: "ومنها حديث راشد بن سعد عن معاوية مرفوعا:
"إنك إن اتبعت عورات الناس أو عثرات الناس أفسدتهم، أو كدت تفسدهم".
قلت: الحديث الأخير أخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 4888، 4889"، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 248"، والطبراني في "الكبير" "19/ 890"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 5760- الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 333"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 118" بإسناد صحيح باللفظ المذكور، وهو بعيد في شهادته للفظ المصنف، ولا يستلزم من عدم تتبع عورات الناس الإمارة عليهم، إلا أن يستشهد بلفظ حديث المقدام بن معدي كرب وأبي أمامة مرفوعا:
"إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم".
أخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 4889"، وأحمد في "المسند" "6/ 4"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 378" بإسناد حسن.
فبمجموع الحديثين يتأيد سياق البيهقي على أن المذكور أخيرا شاهد غير الحديث الذي أورده المصنف وهو صحيح، فتأمل، والله أعلم.
وأخرجه قوَّام السنة في "الحجة" "رقم 379" عن طريق الحسن عن معاوية رفعه: "أما إنك ستلى أمر أمتي من بعدي"، وفيه يحيى بن غلاب، عن أبيه، قال الذهبي في "المغني" "رقم 7030" وتبعه ابن حجر في "اللسان" "6/ 273": "ذكر خبرا موضوعا في فضائل معاوية".
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب التعاون في بناء المسجد 1/ 541/ رقم 447، وكتاب الجهاد، باب مسح الغبار عن الرأس في سبيل الله 6/ 30/ رقم 2812"، وأحمد في "المسند" 3/ 5، 22، 28، 91" عن أبي سعيد الخدري مرفوعا:
"ويح عمار، تقتله الفئة الباغية".
وأخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء 4/ 2235"، وأحمد في "المسند" 5/ 306، 306-307" من طريق أخرى عن أبي سعيد مرفوعا:
"بؤس ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية". والحديث مشهور متواتر، كما نص عليه ابن عبد البر في "الاستيعاب" "2/ 481"، وابن حجر في "الإصابة" "2/ 512". وانظر: "تالي التلخيص" 254" للخطيب، وتعليقنا عليه.

 

ج / 2 ص -454-       يؤخرون الصلاة عن وقتها1 ثم وصاهم كيف يصنعون، وأنهم سيلقون بعده أثرة، ثم أمرهم بالصبر2 إلى سائر ما أخبر به عليه الصلاة والسلام من المغيبات التي حصلت بها فوائد الإيمان والتصديق، والتحذير والتبشير، وغير ذلك وهو أكثر من أن يحصى.
والثاني:
عمل الصحابة رضي الله عنهم بمثل ذلك من الفراسة والكشف والإلهام والوحي النومي، كقول أبي بكر: "إنما هما أخواك وأختاك"3.
وقول عمر: "يا ساريةُ! الجبلَ" 4، فأعمل النصيحة التي أنبأ عنها الكشف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الندب إلى وضع الأيدي على الرُّكَب في الركوع ونسخ التطبيق 1/ 378-379" عن ابن مسعود ضمن حديث طويل فيه:
"إنه ستكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها".
وأخرجه أحمد وابنه في "المسند" "1/ 399-400"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2865" عن ابن مسعود، وصرح برفعه، وإسناده قوي على شرط مسلم.
2 يشير إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:
"اصبروا حتى تلقوني على الحوض" 7/ 117/ رقم 3792"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم 3/ 1474/ رقم 1845" عن أسيد بن حضير مرفوعا: "إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض".
3 قاله رضي الله عنه لابنته عائشة لما أبطل نحلته لها عشرين وسقا. أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 483-484- رواية أبي مصعب و2/ 752/ رقم 468- رواية يحيى الليثي وص236- رواية سويد بن سعيد- ط دار الغرب"، وإسناده صحيح، وانظر: "الاستذكار" "22/ 293-295" لابن عبد البر.
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 370"، وأبو نعيم في "الدلائل" "رقم 525-528"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص286- ترجمة عمر و7/ ق 10-13 ترجمة سارية"، واللالكائي في "شرح اعتقاد أهل السنة" "رقم 2537"، و"كرامات الأولياء" "رقم 67"، وابن  =

 

ج / 2 ص -455-       ونهيه لمن أراد أن يقص على الناس، وقال: "أخاف أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا"1
وقوله لمن قص عليه رؤياه أن الشمس والقمر رآهما يقتتلان، فقال: مع أيهما كنت؟ قال: مع القمر. قال: "كنت مع الآية الممحوة، لا تلى [لي] عملا أبدا"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأعرابي في "كرامات الأولياء"، والديرعاقولي في "فوائده"، وحرملة في "حديث ابن وهب"، والدارقطني والخطيب في "الرواة عن مالك"، وابن مردويه، كما في "الإصابة" "4/ 98"، و"تخريج السخاوي للأربعين السلمية" "ص44-46"، والسلمي في "أربعي الصوفية" "رقم 5" بأسانيد بعضها حسن، كما قال الحافظ ابن حجر والسخاوي، وجود بعضها ابن كثير في "البداية والنهاية" "7/ 131"، وقال بعد أن أورده من طرق: "فهذه طرق يشد بعضها بعضا".
وألف القطب الحلبي في صحته جزء قاله السيوطي في "الدرر المنتثرة" "رقم 461".
1 أخرج أحمد في "المسند" "1/ 18"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "1/ 10" نحوه بسند صحيح"، وصححه السيوطي في "تحذير الخواص" "233"، والهيثمي في "المجمع" "1/ 189"، وأفاد السيوطي أن ابن عساكر أخرج نحوه أيضا "ص239"، والمذكور لفظ الإحياء" "3/ 326".
2 حكاه أبو سعد الواعظ في كتابه "تفسير الأحلام الكبير" "ص262"، وأفاد صاحبه أن القصة وقعت لقاضي حمص مع عمر، وفي آخرها: "وصرفه عن عمل حمص، فقضى أنه خرج مع معاوية إلى صفين، فقتل"، ثم ظفرت به مسندا، فعزاه الحافظ ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 548" إلى أبي يعلى، قال: حدثنا غسان بن الربيع، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن محارب بن دثار، عن عمر به، ثم ظفرت به من طريق حماد عند ابن أبي الدنيا في "الإشراف" "رقم 255". ورجال إسناده ثقات، إلا أن إسناده ضعيف، حماد سمع من عطاء قبل اختلاطه وبعده ولم يتميز حديثه، فترك، وفي سماع محارب من عمر نظر، انظر ترجمة "محارب" في "تهذيب الكمال" "27/ 255"، وتابع حمادا ابنُ فضيل، وعنه ابن أبي شيبة في "المصنف" "7/ 241- ط دار الفكر"، ولكن فيه: "عن عطاء، قال: حدثني غير واحد أن قاضيا من قضاة أهل الشام أتى عمر بن الخطاب، فقال....." وذكر نحوه، ولم يعزه في "كنز العمال" "11/ 349/ رقم 21709" إلا له.
فائدة: طبع كتاب "تفسير الأحلام الكبير" منسوبا لابن سيرين وهو خطأ، وصوابه أنه لأبي سعد الواعظ، وكنت نفيت صحة نسبته لابن سيرين في كتابي: "كتب حذر منها العلماء" "2/ 275 وما بعدها"، وسردت أدلة على ذلك، ووقفت فيما بعد على اسم مؤلفه، وهو ممن يروي عن ابن جميع الصيداوي وطبقته.

 

ج / 2 ص -456-       ويكثر نقل مثل هذا عن السلف الصالح ومن بعدهم من العلماء والأولياء نفع الله بهم ولكن يبقى هنا النظر في شرط العمل على مقتضى هذه الأمور، والكلام فيه يحتمل بسطا، فلنفرده بالكلام عليه، وهي:

 

ج / 2 ص -457-       المسألة الحادية عشرة:
وذلك أن هذه الأمور لا يصح أن تراعى وتُعتبر، إلا بشرط أن لا تخرم حكما شرعيا ولا قاعدة دينية1، فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكما شرعيا ليس بحق في نفسه، بل هو إما خيال أو وهم، وإما من إلقاء الشيطان، وقد يخالطه ما هو حق وقد لا يخالطه، وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابت مشروع، وذلك أن التشريع الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم عام لا خاص، كما تقدم في المسألة قبل هذا، وأصله لا ينخرم، ولا ينكسر له اطِّراد، ولا يحاشى من الدخول تحت حكمه مكلف، وإذا كان كذلك، فكل ما جاء من هذا القبيل الذي نحن بصدده مضادا لما تمهد في الشريعة، فهو فاسد باطل.
ومن أمثلة ذلك مسألة سئل عنها ابن رشد في حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في أمر، فرأى الحاكم في منامه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "لا تحكم بهذه الشهادة، فإنها باطل"، فمثل هذا من الرؤيا لا معتبر بها في أمر ولا نهي، ولا بشارة ولا نذارة؛ لأنها تخرم قاعدة من قواعد الشريعة2، وكذلك سائر ما يأتي من هذا النوع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر تقعيد ذلك والأدلة عليه في: "الاعتصام" "2/ 153، وما بعدها" للمصنف، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "2/ 226، 227، 10/ 473-474 و13/ 73-176 و20/ 45 و11/ 77، 208-210، و20/ 42-47"، و"شرح العقيدة الطحاوية" "ص498، 500" و"مدارج السالكين" "3/ 228"، و"شرح مراقي السعود" "288"، وأضواء البيان" "4/ 159"، و"قطر الولي" "ص252"، و"الجامع لأخلاق الراوي" "1/ 80"، و"الفروق" "4/ 244"، و"فتح الباري" "12/ 388"، و"إرشاد الفحول" "249"، و"قواعد التحديث" "ص149"، و"أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" "2/ 146" للأشقر، و"مشتهى الخارف الجاني" "ص268".
2 انظر نص فتوى ابن رشد في "فتاويه" "1/ 611-612"، ونقله عنه الونشريسي في "المعيار المعرب" "10/ 217-218"، وانظر في المسألة أيضا: "البحر المحيط" "1/ 62-63" للزركشي، و"الاعتصام" للمصنف "1/ 262-263"-ط رشيد رضا و1/ 334-335، ط ابن عفان"، وذكر فيه ما حكاه عن ابن رشد.

 

ج / 2 ص -458-       وما روي "أن أبا بكر رضي الله عنه أنفذ وصية رجل بعد موته برؤيا رؤيت"1، فهي قضية عين لا تقدح في القواعد الكلية لاحتمالها، فلعل الورثة رضوا بذلك، فلا يلزم منها خرم أصل.
وعلى هذا لو حصلت له مكاشفة بأن هذا الماء المعين مغصوب أو نجس، أو أن هذا الشاهد كاذب، أو أن المال لزيد وقد تحصل بالحجة لعمرو، أو ما أشبه ذلك، فلا يصح له العمل على وفق ذلك ما لم يتعين سبب ظاهر، فلا يجوز له الانتقال إلى التيمم، ولا ترك قبول الشاهد، ولا الشهادة2 بالمال لزيد على حال، فإن الظواهر قد تعين فيها بحكم الشريعة أمر آخر، فلا يتركها اعتمادا على مجرد المكاشفة أو الفراسة، كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النومية، ولو جاز ذلك، لجاز نقض الأحكام3 بها، وإن ترتبت في الظاهر موجباتها، وهذا غير صحيح بحال، فكذا ما نحن فيه.
وقد جاء في "الصحيح":
"إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقعت له هذه الرؤيا مع صهيب، كما في "مصنف ابن أبي شيبة" "7/ 240- ط دار الفكر"، وكذا أمضى عمر رؤيا في المنام، كما تراه في "مصنف عبد الرزاق" "9/ 242".
2 لعلها: ولا الحكم. "د".
3 أي: وإبطالها بعد صدورها من القاضي اعتبارا بأن الكشف أظهر الخطأ البين الذي ينقض به الحكم غير صحيح، فكذا ترك موجبات الحكم بحسب الظاهر على مقتضى قواعد الشريعة تعويلا على كشف أو غيره لا يكون صحيحا، وقد يقال: إن نقض الأحكام إنما يكون في جزئيات نادرة مقيدة بقيود كثيرة، فهو أبعد من ترك بعض موجبات الحكم إذا حصل تعارض بينها، فالملازمة ممنوعة؛ أي أنه لا يلزم من التنحي عن الأخذ بالشهادة المعتبرة شرعا إلى الأخذ بالكشف لزوم نقض الحكم الذي صدر بالفعل بناء على هذه الشهادة لحصول الكشف؛ وذلك لأن نقض الأحكام يترتب عليه فساد كبير وتعليل للأحكام، كما أشار إليه المؤلف في موضع آخر. "د".

 

ج / 2 ص -459-       ألحنَ بحجته من بعض، فأحكم له على نحو ما أسمع منه"1 الحديث، فقيد الحكم بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك، وقد كان كثير من الأحكام التي تجري على يديه يُطلع على أصلها وما فيها من حق وباطل، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يحكم إلا على وفق ما سمع، لا على وفق ما علم2، وهو أصل في منع الحاكم أن يحكم بعلمه.
وقد ذهب مالك في القول المشهور عنه أن الحاكم إذا شهدت3 عنده العدول بأمر يعلم خلافه، وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم منهم تعمد الكذب؛ لأنه إذا لم يحكم بشهادتهم كان حاكما بعلمه، هذا مع كون علم الحاكم مستفادا من العادات التي لا ريبة فيها، لا من الخوارق التي تداخلها الأمور، والقائل4 بصحة حكم الحاكم بعلمه، فذلك بالنسبة إلى العلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشهادات، باب من أقام البينة بعد اليمين 5/ 288/ رقم 2680، وكتاب الحيل، باب منه 12/ 339/ رقم 6967"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة 3/ 1337/ رقم 1713" عن أم سلمة مرفوعا.
2 لا يقضي عليه الصلاة والسلام بمقتضى ما عرفه من طريق الباطن كما حكى القرآن عن الخضر عليه السلام حتى يكون للأمة في أخذه بالظاهر أسوة حسنة، والحكم بطريق الباطن غير الحكم بما علمه من طريق الرؤية أو السماع، وهذا هو الذي يعد بعضهم الحكم به من خصائصه عليه السلام، ويرى آخرون أنه طريق مشروع لغيره من القضاة، إما بإطلاق، وإما في مواضع مخصوصة، ولا يعارضه قوله عليه الصلاة والسلام:
"فأقضي له على نحو ما أسمع"، فإن التنصيص على السماع* لا ينفي حكمه [على] بعض الوقائع على حسب ما علم فيها بالطرق المعهودة من رؤية أو سماع، والحكم بالظاهر وإن لم يكن مطابقا للواقع ليس بخطأ؛ لأنه حكم بما أمر الله. "خ".
3 في "ط": "شهد".
4 قال ابن العربي في "كتاب الأحكام" "اتفق العلماء على بكرة أبيهم على أن القاضي لا يَقتُل بعلمه، وإن اختلفوا في سائر الأحكام، هل يحكم بعلمه أم لا؟" "د".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في الأصل: "إسماع".

 

ج / 2 ص -460-       المستفاد من العادات، لا من الخوارق، ولذلك لم يعتبره1 رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحجة العظمى، وحكى ابن العربي عن قاضي القضاة الشاشي المالكي ببغداد أنه كان يحكم بالفراسة في الأحكام، جريا على طريقة إياس بن معاوية أيام كان قاضيا، قال: "ولشيخنا فخر الإسلام أبي بكر الشاشي2 جزء في الرد عليه"، هذا ما قاله، وهو حقيق بالرد إن كان يحكم بالفراسة مطلقا من غير حجة سواها.
فإن قيل: هذا مشكل من وجهين:
أحدهما:
أنه خلاف ما نقل عن أرباب المكاشفات والكرامات، فقد امتنع أقوام عن تناول أشياء كان جائزا لهم في الظاهر تناولها، اعتمادا على كشف أو إخبار غير معهود، ألا ترى إلى ما جاء عن الشبلي حين اعتقد أن لا يأكل إلا من الحلال، فرأى بالبادية شجرة تين، فهمَّ أن يأكل منها فنادته الشجرة: أن لا تأكل مني فإني ليهودي3.
وعن عباس بن المهتدي أنه تزوج امرأة؛ فليلة الدخول وقع عليه ندامة، فلما أراد الدنوَّ منها زُجِرَ عنها، فامتنع وخرج، فبعد ثلاثة أيام ظهر لها زوج4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فقد كان يطلع على ما في الأمر من حق وباطل، ومع ذلك كان يعول في حكمه على القانون الشرعي من اعتبار مقتضى الظواهر. "د".
2 هو محمد بن أحمد رئيس الشافعية في وقته، كان يلقب بالخبير لدينه وورعه وعلمه وزهده، توفي سنة "507هـ"، له ترجمة في "السير" "19/ 393"، وانظر مدح ابن العربي له واستفادته منه في كتابه "قانون التأويل" "ص111-113"، ونقله المزبور في "أحكام القرآن" "3/ 1131"، وعنه القرطبي في "التفسير" "10/ 44-45" "النحل: 75".
3 أي: مملوكة، وليست من أشجار البادية الخالية من الملكية، وأما كونها ليهودي بهذا الوصف، فلا تأثير له في أصل الحكم، ولكنه يفيد زيادة ورع حتى إنه تنحى عنها وهي لكافر. "د".
قلت: القصة في "رسالة القشيري" "ص173-174" -وليس فيها: "فإني ليهودي"- و" الاعتصام" "1/ 271- ط ابن عفان".
4 ذكر هذه القصة القشيري في "رسالته" "ص167"، وعلق عليها بقوله: "هذه هي الكرامة على الحقيقة؛ حيث حفظ عليه العلم.

 

ج / 2 ص -461-       وكذلك من كان له علامة عادية أو غير عادية يعلم بها، هل هذا المتناول حلام أم لا؟ كالحارث المحاسبي حيث كان له عرق في بعض أصابعه إذا مد يده إلى ما فيه شبهة تحرك، فيمتنع منه1.
وأصل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره في قصة الشاة المسمومة، وفيه: فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل القوم. وقال:
"ارفعوا أيديكم؛ فإنها أخبرتني أنها مسمومة" ومات بشر بن البراء2 الحديث، فبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك القول، وانتهى هو ونهى أصحابه عن الأكل بعد الإخبار.
وهذا أيضا موافق لشرع من قبلنا، وهو شرع لنا إلا أن يرد ناسخ، وذلك في قصة بقرة بني إسرائيل إذ أمروا بذبحها وضرب القتيل ببعضها، فأحياه الله وأخبر بقاتله، فرتب عليه الحكم3 بالقصاص، وفي قصة الخضر في خرق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر هذه القصة القشيري في "رسالته" "ص12" والمصنف في "الاعتصام" "1/ 270- ط ابن عفان".
2 هذا لفظ أبي داود في "السنن" "كتاب الديات، باب فيمن سقى رجلا سما أو أطعمه فمات، أيقاد منه؟ 4/ 174-175/ رقم 4512" عن أبي هريرة، ونقله المصنف من "الشفا" للقاضي عياض "1/ 607"؛ فإنه كثير المتابعة له في ذلك.
وأصل الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب ما يذكر في سَم النبي صلى الله عليه وسلم 10/ 244/ رقم 5777، وكتاب الجزية والموادعة، باب إذا غدر المشركون بالمسلمين، هل يعفى عنهم 6/ 272/ رقم 3169، وكتاب المغازي، باب الشاة التي سُمَّت للنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر 7/ 497/ رقم 4249" عن أبي هريرة مطولا ومختصرا.
وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الهبة، باب قبول الهدية من المشركين 5/ 230 / رقم 2617"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب السلام، باب السم 4/ 1721/ رقم 2190" عن أنس رضي الله عنه.
3 في الأصل: "الحكم عليه".

 

ج / 2 ص -462-       السفينة وقتل الغلام1، وهو ظاهر في هذا المعنى، إلى غير ذلك مما يؤثر في معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكرامات الأوليات رضي الله عنهم.
والثاني:
أنه إذا ثبت أن خوارق العادات بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء كالعادات بالنسبة إلينا، فكما لو دلنا أمر عادي على نجاسة الماء أو غصبه لوجب علينا الاجتناب، فكذلك ههنا؛ إذ لا فرق بين إخبار من عالم الغيب أو من عالم الشهادة، كما أنه لا فرق بين رؤية البصر لوقوع النجاسة في الماء، ورؤيتها بعين الكشف الغيبي، فلا بد أن يبنى الحكم على هذا كما يبنى على ذلك2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 546"، وهو في "صحيح البخاري" وغيره.
2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى "11/ 65-66": "وأما خواص الناس، فقد يعلمون عواقب أقوام بما كشف الله لهم، لكن هذا ليس ممن يجب التصديق العام به، فإن كثيرا ممن يظن به أنه حصل له هذا الكشف يكون ظانا في ذلك ظنا لا يغني من الحق شيئا، وأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة ويخطئون أخرى، كأهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد، ولهذا وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يَزِنُوا مواجيدهم ومشاهدتهم وآراءهم ومعقولاتهم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا يكتفوا بمجرد ذلك، فإن سيد المحدثين والمخاطبين الملهمين من هذه الأمة هو عمر بن الخطاب، وقد كانت تقع له وقائع، فيردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو صديقه التابع له الآخذ عنه، الذي هو أكمل من المحدث الذي يحدثه قلبه عن ربه.
ولهذا وجب على جميع الخلق اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وطاعته في جميع أموره الباطنة والظاهرة، ولو كان أحد يأتيه من الله ما لا يحتاج إلى عرضه على الكتاب والسنة، لكان مستغنيا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض دينه، وهذا من أقوال المارقين الذين يظنون أن من الناس من يكون مع الرسول كالخضر مع موسى، ومن قال هذا، فهو كافر".
وأسهب رحمه الله في "مجموع الفتاوى" "13/ 68-70" في ذكر الحجج والأدلة على الاستئناس بالمكاشفات التي لا تضاد الشريعة، وبين أنه لا يجوز الاعتماد عليهم بالكلية، وفي هذا يقول علي القاري رحمه الله تعالى في رسالته "المقدمة السالمة في خوف الخاتمة" "ص16- بتحقيقي: "لا اعتبار لمكاشفات الأولياء ومحاضرات الأصفياء، بحيث يعتمد عليها بالكلية في الأمور الشرعية، أو في الأطوار الحقيقية، فإن الإنسان ما دام في هذه الدار المشوبة بالأكدار لا تصفى له الأسرار، ولا تتجلى له الأنوار، بخلاف الأنبياء الأبرار والرسل الكبار، ولذا قال تعالى:
{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد} [ق: 22].
قلت: سيأتي في القسم الأخير من الكتاب إشارة من المصنف في الفرق بين إلهامات الأنبياء وغيرهم، فانظره هناك، تولى الله هداك.

 

ج / 2 ص -463-       ومن فرق بينهما، فقد أبعد.
فالجواب أن لا نزاع بيننا في أنه قد يكون العمل على وفق ما ذكر صوابا، وعملا بما هو مشروع على الجملة، وذلك من وجهين:
أحدهما:
الاعتبار بما كان من النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فيلحق به في القياس ما كان في معناه، إذا لم يثبت أن مثل هذا من الخوارق مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم [من]1 حيث كان من الأمور الخارقة بدليل الواقع، وإنما يختص به من حيث كان معجزا، وتكون قصة الخضر على هذا مما نسخ2 في شريعتنا، على أن خرق السفينة قد عمل بمقتضاه3 بعض العلماء، بناء على ما ثبت عنده من العادات، أما قتل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من "ط".
2 لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما كانت هذه القصة في معناه، حتى يقاس عليه، فلا نعول إلا على ما كان قد صدر في معناه شيء في شرعنا، فنلحق به بطريق القياس. "د".
قلت: انظر تعليقنا على الهامش الآتي.
3 أي أنه إذا قامت القرائن المؤكدة أن المال لا ينجو من الغصب إلا بهذا العمل، فلا مانع منه، أي: وعليه فلا حاجة إلى دعوى النسخ. "د".
ومن الجدير بالذكر أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثا إلى الخضر، ولا أوجب الله على الخضر متابعته وطاعته، بل قد ثبت في "الصحيحين" وغيرهما كما قدمنا أن الخضر قال له: "يا موسى! إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه". وذلك أن دعوة موسى كانت خاصة.
وقد ثبت في "الصحاح" من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما فضله الله به على الأنبياء، قال:
"كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" فدعوة محمد صلى الله عليه وسلم شاملة لجميع العباد، ليس لأحد الخروج عن متابعته وطاعته، ولا استغناء عن رسالته، كما ساغ للخضر الخروج =

 

ج / 2 ص -464-       ........................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عن متابعة موسى وطاعته مستغنيا عنه بما علمه الله، وليس لأحد ممن أدركه الإسلام أن يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: إنى على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، ومن سوغ هذا أو اعتقد أن أحدا من الخلق الزهاد والعباد أو غيرهم له الخروج عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ومتابعته، فهو كافر باتفاق المسلمين، ودلائل هذا من الكتاب والسنة أكثر من أن تذكر هنا.
وقصة الخضر ليس فيها خروج عن الشريعة، ولهذا لما بين الخضر لموسى الأسباب التي فعل لأجلها ما فعل، وافقه موسى، ولم يختلفا حينئذ، ولو كان ما فعله الخضر مخالفا لشريعة موسى، لما وافقه.
ومثل هذا وأمثاله يقع للمؤمنين بأن يختص أحد الشخصين بالعلم بسبب يبيح له الفعل في الشريعة، والآخر لا يعلم ذلك السبب وإن كان قد يكون أفضل من الأول، مثل شخصين دخلا إلى بيت شخص، وكان أحدهما يعلم طيب نفسه بالتصرف في منزله، إما بإذن لفظي أو غيره، فيتصرف، وذلك مباح في الشريعة، والآخرالذي لم يعلم هذا السبب لا يتصرف.
وخرق السفينة كان من هذا الباب، فإن الخضر كان يعلم أن أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا، وكان من المصلحة التي يختارها أصحاب السفينة إذا علموا ذلك أن يخرقوها؛ لئلا يأخذها الملك؛ لأن بقاءها مع الخرق فيها خير من انتزاعها منه.
وكذلك قتل الغلام كان من باب دفع الصائل على أبويه؛ لعلمه بأنه كان يفتنهما عن دينهما وقتل الصبيان يجوز إذا قاتلوا المسلمين، بل يجوز قتلهم لدفع الصول على الأموال، ولهذا ثبت في "صحيح البخاري" أن نجدة الحروري لما سأل ابن عباس عن قتل الغلمان، قال: "إن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من الغلام، فاقتلهم، وإلا، فلا تقتلهم".
وكذلك في "الصحيحين"، أن عمر لما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل ابن صياد وكان مراهقا لما ظنه الدجال، فقال:
"إن يكنه، فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه، فلا خير لك في قتله"، فلم يقل: إن يكنه، فلا خير لك في قتله، بل قال: "فلن تسلط عليه" وذلك يدل على أنه لو أمكن إعدامه قبل بلوغه؛ لقطع فساده لم يكن ذلك محذورا، وإلا كان التعليل بالصغر كافيا، فإن الأعم إذا كان مستقلا بالحكم، كان الأخص عديم التأثير.
وأما بناء الجدار، فإنما فيه ترك أخذ الجعل مع جوعهم، وقد بيَّن الخضر أن أهله فيهم من الشيم وصلاح الوالد ما يستحقون به التبرع، وإن كان جائعا.=

 

ج / 2 ص -465-       ......................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والمقصود من هذا كله أنه ليس في قصة الخضر ما يسوغ مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من الخلق، أفاده شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" "11/ 420 وما بعدها".
ولله در أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي رحمه الله تعالى، فقد قال فيما نقله عنه تلميذه الإمام القرطبي المفسر في تفسيره: "الجامع لأحكام القرآن" "11/ 40-41" ما نصه: "ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق تلزم منه هدم الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأغبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص، فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم.
وقالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم كما كان عند موسى من تلك الفهوم.
وقد جاء فيما ينقلون: "استفت قلبك وإن أفتاك المفتون".
قال الإمام القرطبي: "قال شيخنا رضي الله عنه: وهذا القول -أي: قول الزنادقة، هذه الأحكام....- زندقة وكفر، يقتل قائله ولا يستتاب؛ لأنه إنكار ما علم من الشرائع، فإن الله تعالى قد أجرى سنته وأنفذ حكمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسالة السفراء بينه وبين خلقه، وهم المبلغون عن رسالته وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك، وخصهم بما هنالك، كما قال تعالى:
{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} [الحج: 75].
وقال تعالى:
{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه} [الأنعام: 124].
وقال تعالى:
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213].... إلى غير ذلك من الآيات.
وعلى الجملة، فقد حصل العلم القطعي واليقين الضروري وإجماع السلف والخلف على أن لا طريقة لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها، إلا من جهة الرسل. فمن قال: إن هناك طريقا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل، بحيث يستغني عن الرسل فهو كافر يُقتَل ولا يستتاب ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب.
ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا عليه الصلاة والسلام الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده ولا رسول.
وبيان ذلك أن من قال: يأخذ عن قلبه، وأن ما يقع فيه هو حكم الله تعالى، وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة" ا.هـ. ونحوه في "7/ 39".

 

ج / 2 ص -466-       الغلام، فلا يمكن القول به، وكذلك قصة البقرة منسوخة على أحد التأويلين، ومحكمة على التأويل الآخر على وفق القول المذهبي في قول المقتول: دمي عند فلان.
والثاني:
على فرض أنه لا يقاس وهو خلاف مقتضى القاعدة الأولى؛ إذ الجاري عليها العمل بالقياس ولكن إن قدرنا عدمه، فنقول: إن هذه الحكايات عن الأولياء مستندة إلى نص شرعي، وهو طلب اجتناب حزاز القلوب الذي1 هو الإثم، وحزاز القلوب يكون بأمور لا تنحصر، فيدخل فيها هذا النمط، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
"البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في صدرك"2، فإذن لم يخرج هذا عن كونه مستندا إلى نصوص شرعية عند

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "إذ هو".
2 أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 193، 194، 194-195" -ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "22/ 219"/ رقم 585"، و"مسند الشاميين" "رقم 782" وأبو نعيم في "الحلية "2/ 30"- وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "19/ ق 10" عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعا،
"البر ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون" وإسناده جيد، كما قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 95"، وورد نحو لفظ المصنف من حديث وابصة بن معبد الجهني، أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 228"، والدارمي في "السنن" "2/ 245-246"، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 1586-1587" والبيهقي في "الدلائل" "6/ 292" -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "17/ ق 703"- وإسناده ضعيف منقطع، فيه الزبير أبو عبد السلام وهو ضعيف، وبينه وبين أيوب بن عبد الله بن مكرز انقطاع، أفاده ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 94"، وأخرجه أحمد في "المسند" "4/ =

 

ج / 2 ص -467-       من فسر حزاز القلوب بالمعنى الأعم الذي لا ينضبط إلى أمر معلوم، ولكن ليس في اعتبار مثل هذه الأمور ما يخل بقاعدة شرعية، وكلامنا إنما هو في مثل مسألة ابن رشد وأشباهها، وقتل الخضر الغلام على هذا لا يمكن القول بمثله في شريعتنا البتة، فهو حكم منسوخ، ووجه ما تقرر أنه إن كان ثم من الحكايات ما يشعر بمقتضى السؤال، فعمدة الشريعة تدل على خلافه، فإن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصا، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما أيضا، فإن سيد البشر صلى الله عليه وسلم مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه.
ولا يقال: إنما كان ذلك من قبيل ما قال:
"خوفا أن يقول الناس: إن محمدا يقتل أصحابه"1، فالعلة أمر آخر لا ما زعمت، فإذا عدم ما علل به، فلا حرج.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 227"، والطبراني في "الكبير" "22/ رقم 402"، والبزار في "مسنده" "رقم 183- زوائده"، والبيهقي في الدلائل" "6/ 292"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "17/ ق 702" بإسناد فيه أبو عبد الله الأسدي، وسماه بعضهم أبو عبد الرحمن السلمي، وهو مجهول، وقيل فيه أشد من ذلك.
قال البزار: أبو عبد الله الأسدي لا نعلم أحدا سماه"، وقال فيه الهيثمي في "المجمع" "1/ 175": "ولم أجد من ترجمه"، وأفاد أن الرواة اختلفوا في كنيته، وهو هو، وقال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 94": "والسلمي هذا قال علي بن المديني: مجهول، وخرجه البزار والطبراني وعندهما أبو عبد الله الأسدي، وقال البزار: لا نعلم أحدا سماه، كذا قال، وقد سمي في بعض الروايات "عند ابن عساكر" محمدا، قال عبد الغني بن سعيد الحافظ: لو قال قائل: إنه محمد بن سعيد المصلوب لما دفعت ذلك، والمصلوب هذا صلبه المنصور في الزندقة، وهو مشهور بالكذب والوضع ولكنه لم يدرك وابصة والله أعلم".
1 أخرج البخاري في "الصحيح" كتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية 6/ 546/ رقم 3518" عن جابر ضمن قصة: "قال: عبد الله بن أبي بن سلول يقول: لئن رجعنا =

 

ج / 2 ص -468-       لأنا نقول: هذا من أدل الدليل على ما تقرر؛ لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن يحفظ ترتيب الظواهر، فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر، فالعذر فيه [ظاهر]1 واضح، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر، وران على الظواهر، وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة، ألا ترى إلى باب الدعاوي المستند إلى أن "البينة على المدعي واليمين على من أنكر"2، ولم يستثن من ذلك أحد، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتاج إلى البينة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فقال عمر: ألا نقتُل يا نبي الله هذا الخبيث؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه".
وأخرجه بنحوه البخاري أيضا "كتاب التفسير، باب قوله:
{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُم} 8/ 648-649/ رقم 4905، وباب: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَة} 8/ 653/ رقم 4905".
1 سقط من "ط".
2 أخرجه البيهقي في "الكبرى" "10/ 252" من طريق أبي القاسم الطبراني، عن الفريابي: ثنا سفيان، عن نافع، عن أبي مليكة، عن ابن عباس رفعه، بلفظ:
"لو يعطى الناس بدعواهم لادَّعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر"، وقال: "قال أبو القاسم: لم يروه عن سفيان إلا الفريابي".
وأخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرهن، باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه، فالبينة على المدَّعِي واليمين على المدَّعَى عليه/ رقم 2514، وكتاب الشهادات، باب اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود/ رقم 2668، وكتاب التفسير، باب
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} رقم 4552"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه / رقم 1711" بلفظ: "واليمين على المدعى عليه" دون "البينة على المدعي".
وذكر "البينة....." من أخطاء سفيان أو الفريابي، فإن الجماهير رووه عن نافع دونها، وانظر: "إرواء الغليل" "8/ 264-265/ رقم 2641".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "35/ 391" في هذا الحديث باللفظ المذكور: ليس إسناده في الصحة والشهرة مثل غيره، ولا رواه عامة أهل السنن المشهورة، ولا قال بعمومه أحد من علماء الملة"، ونحوه عند ابن القيم في "الطرق الحكمية" "87-88، 110-111".

 

ج / 2 ص -469-       في بعض ما أنكر فيه مما كان اشتراه، فقال: "من يشهد لي؟"، حتى شهد له خزيمة بن ثابت، فجعلها الله شهادتين1، فما ظنك بآحاد الآمة؟ فلو ادعى أكفر2 الناس على أصلح الناس لكانت البينة على المدعي واليمين على من أنكر، وهذا من ذلك، والنمط واحد، فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية، ومن هنا لم يعبأ الناس من الأولياء وغيرهم بكل كشف أو خطاب خالف المشروع، بل عدُّوا أنه من الشيطان، وإذا ثبت هذا، فقضايا الأحوال المنقولة عن الأولياء محتملة3.
وما ذكر من تكليم الشجرة، فليس بمانع شرعي، بحيث يكون تناول التين منها حراما على المكلم، كما لو وجد في الفلاة صيدا، فقال له: إني مملوك، وما أشبه ذلك، لكنه تركه لغناه عنه بغيره من يقين بالله، أو ظن طعام بموضع آخر، أو غير ذلك، وكذلك سائر ما في هذا الباب، أو نقول: كان المتناول مباحا له، فتركه لهذه العلامة كما يترك الإنسان أحد الجائزين لمشورة أو رؤيا أو غير

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأقضية، باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز أن يحكم به 3/ 308/ رقم 3607"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب التسهيل في ترك الإشهاد على البيع 7/ 301-302"، وأحمد في "المسند" "5/ 215-216"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "4/ 115، 116/ رقم 2084، 2085"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "1/ 87"، والطبراني في "الكبير" "4/ 101/ رقم 3730"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 17-18"، وإسناده صحيح.
وكتب "خ" هنا ما نصه: "خص الله خزيمة بهذه المزية دون سائر الصحابة؛ مكافأة له؛ حيث بادر إلى الشهادة للنبي عليه الصلاة والسلام على مبايعة الأعرابي مستندا في تصديقه إلى البراهين القائمة على عصمته من أن يقول على الله أو يدعي على مخلوق ما ليس بحق".
2 كذا في الأصل وفي "د"، وفي النسخ المطبوعة: "أكبر" بالباء. قال "د": "لعلها أكذب".
3 أي: لما يأتي بعدُ. "د".

 

ج / 2 ص -470-       ذلك حسبما يذكر بعد بحول الله تعالى، فكذلك نقول في الماء الذي كوشف أنه نجس أو مغصوب، وإذا كان له مندوحة عنها بحيث لا ينخرم له أصل شرعي في الظاهر، بل يصير منتفلا من جائز إلى مثله، فلا حرج عليه مع أنه لو فرضنا مخالفته لمقتضى ذلك الكشف إعمالا للظاهر، واعتمادا على الشرع في معاملته به، فلا حرج عليه ولا لوم؛ إذ ليس القصد بالكرامات والخوارق أن تخرق أمرا شرعيا، ولا أن تعود على شيء منه بالنقض، كيف وهي نتائج عن اتِّباعه، فمحال أن ينتج المشروع ما ليس بمشروع، أو يعود الفرع على أصله بالنقض، هذا لا يكون البتة.
وتأمل ما جاء في شأن المتلاعنين، إذ قال عليه الصلاة والسلام:
"إن جاءت به على صفة كذا، فهو لفلان، وإن جاءت به على صفة كذا، فهو لفلان"1، فجاءت به على إحدى الصفتين وهي المقتضية للمكروه، ومع ذلك، فلم يقم الحد عليها، وقد جاء في الحديث نفسه: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن"2، فدل على أن الأيمان هي المانعة، وامتناعه مما هم به يدل على أن ما تفرس به لا حكم له حين3 شرعية الأيمان، ولو ثبت بالبينة أو بالإقرار بعد الأيمان ما قال الزوج، لم تكن الأيمان دارئة للحد عنها.
والجواب على4 السؤال الثاني: أن الخوارق وإن صارت لهم كغيرها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب تفسير سورة النور 8/ 449/ رقم 4747" من حديث ابن عباس، ولفظ آخره:
"أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء" فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن".
وورد الحديث عن ابن مسعود وسهل بن سعد رضي الله عنهم بألفاظ متعددة.
2 انظر تخريج الحديث السابق.
3 في الأصل: "حينئذ"، وفي "ط": "مع".
4 في "ط": "عن".

 

ج / 2 ص -471-       فليس ذلك بموجب لإعمالها على الإطلاق، إذا1 لم يثبت ذلك شرعا معمولا به، وأيضا، فإن الخوارق إن جاءت تقتضي المخالفة، فهي مدخولة قد شابها ما ليس بحق، كالرؤيا غير الموافقة، كمن يقال له: "لا تفعل كذا"، وهو مأمور شرعا بفعله، أو "افعل كذا"، وهو منهي عنه، وكثيرا ما يقع هذا لمن لم يبن أصل سلوكه على الصواب، أو من سلك وحده بدون شيخ، ومن طالع سير الأولياء وجدهم محافظين على ظواهر الشريعة، غير ملتفتين فيها إلى هذه الأشياء.
فإن قيل: هذا يقتضي أن لا يعمل عليها، وقد بنيت المسألة على أنها يعمل عليها.
قيل: إن المنفي هنا أن يعمل عليها بخرم قاعدة شرعية، فأما العمل عليها مع الموافقة، فليس بمنفي.
فصل:
إذا تقرر اعتبار ذلك الشرط، فأين يسوغ العمل على وفقها؟
فالقول في ذلك أن الأمور الجائزات أو المطلوبات التي فيها سعة يجوز العمل فيها بمقتضى ما تقدم، وذلك على أوجه:
أحدها:
أن يكون في أمر مباح، كأن يرى المكاشف أن فلانا يقصده في الوقت الفلاني، أو يعرف ما قصد إليه في إتيانه من موافقة أو مخالفة، أو يطلع على ما في قلبه من حديث أو اعتقاد حق أو باطل، وما أشبه ذلك، فيعمل على التهيئة له حسبما قصد إليه، أو يتحفظ من مجيئه إن كان قصده الشر، فهذا من الجائز له، كما لو رأى رؤيا تقتضي ذلك، لكن لا يعامله إلا بما هو مشروع كما تقدم.
والثاني:
أن يكون العمل عليها لفائدة يرجو نجاحها، فإن العاقل لا يدخل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "إذ".

 

ج / 2 ص -472-       على نفسه ما لعله يخاف عاقبته، فقد يلحقه بسبب الالتفات إليها عجب أو غيره، والكرامة كما أنها خصوصية، كذلك هي فتنة واختبار، لينظر كيف تعملون، وقد تقدم ذكره، فإذا عرضت حاجة، أو كان لذلك سبب يقتضيه، فلا بأس، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بالمغيبات1 للحاجة إلى ذلك، ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يخبر بكل مغيب اطلع عليه، بل كان ذلك في بعض الأوقات وعلى مقتضى الحاجات، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام المصلين خلفه أنه "يراهم من وراء ظهره" لما لهم في ذلك من الفائدة المذكورة في الحديث2، وكان يمكن أن يأمرهم وينهاهم من غير إخبار بذلك، وهكذا سائر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم شيئا من الغيب، إلا بما أظهره الله عليه، وهذا في نص القرآن، قال الله تعالى:
{فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26-27].
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة 1/ 514/ رقم 418، وكتاب الأذان، باب الخشوع في الصلاة 2/ 225/ رقم 741"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها 1/ 319/ رقم 423"، وأحمد في "المسند" "2/ 303، 375"، وأبو عوانة في "صحيحه" "2/ 152"، جميعهم من طريق مالك في "الموطأ" "1/ 167" عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة بلفظ:
"إني لأراكم من وراء ظهري".
وقد اختُلِف في معنى هذه الرؤية، فقيل: الوحي أو الإلهام، وقيل: تنطبع صور من خلفه في حائط قبلته، وقيل: يرى من عن يمينه ومن عن يساره، وقيل: يراهم من عينين كانا بين كتفيه، أو من وراء ظهره يبصر بهما، لا يحجبهما شيء، وهذا كله تكلف ظاهر، والصواب ما قاله الإمام أحمد فيما نقل عنه ابن عبد البر في "التمهيد" "18/ 346"، قال: "أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد المؤمن، قال: أخبرنا عبد الحميد بن أحمد بن عيسى الوراق، قال: أخبرنا الخضر بن داود، قال: أخبرنا أبو بكر الأثرم، قال: قلت لأبي عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل رحمه الله- قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"إني أراكم من وراء ظهري"؟ فقال: كان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه. قلت له: إن إنسانا قال لي: هو في ذلك مثل غيره، وإنما كان يراهم كما ينظر الإمام من عن يمينه وشماله. فأنكر =

 

ج / 2 ص -473-       كراماته ومعجزاته، فعمل أمته بمثل ذلك في هذا المكان أولى1 منه في الوجه الأول، ولكنه مع ذلك في حكم الجواز، لما تقدم من خوف العوارض كالعجب ونحوه، والإخبار في حق النبي عليه الصلاة والسلام مسلم، ولا يخلو إخباره من فوائد، ومنها تقوية إيمان كل من رأى ذلك أو سمع به، وهي فائدة لا تنقطع مع بقاء الدنيا.
والثالث:
أن يكون فيه تحذير أو تبشير؛ ليستعد لكل عدته، فهذا أيضا جائز، كالإخبار عن أمر ينزل إن لم يكن كذا، أو لا يكون إن فعل كذا، فيعمل على وفق ذلك على وزان الرؤيا الصالحة، فله أن يجري بها مجرى الرؤيا، كما روي عن أبي جعفر بن تركان، قال: كنت أجالس الفقراء، ففتح علي بدينار، فأردت أن أدفعه إليهم، ثم قلت في نفسي: لعلي أحتاج إليه، فهاج بي وجع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ذلك إنكارا شديدا".
قلت: ومن الجدير بالذكر أن هذه الرؤية محصورة وهو صلى الله عليه وسلم في الصلاة، ولم يتم دليل على عمومها، وانظر حولها: "الشفا" "1/ 92"، و"شرح النووي على صحيح مسلم" "4/ 149"، و"فتح الباري" "1/ 514"، و"الخصائص الكبرى" "1/ 61" للسيوطي، و"غاية السول" "ص271-272"، و"الرسالة الناصرية" "ص34" للزاهدي.
قال الشيخ "خ": "هذا ما ذهب إليه أكثر أهل العلم من حمل الرؤية في حديث:
"إني لأراكم من وراء ظهري" على ظاهرها، أعني: الرؤية البصرية، وذهب فريق آخر إلى أنها رؤية القلب، وهي على كلا الوجهين آية صدق وعلم من أعلام النبوة، ولا يطعن في هذا الحديث سؤاله عليه الصلاة والسلام كما ورد في بعض الأحاديث عن أناس صدرت منهم أفعال أو أقوال في حال ائتمامهم به في الصلاة، فإنه كان عليه السلام يترقى في فضائله الخاصة ولا سيما ما كان من نوع المعجزة، فكانت تخلع فيه فضيلة بعد أخرى فيصح أن تكون هذه المزية ما أكرمه الله بها بعد وقائع السؤال".
1 لأن الأول لم ينظر منه إلى الفائدة التي يرجو نجاحها، بل مجرد أمر جائز، أما هنا، فإنه وإن كان جائزا أو في حكمه خشية العوارض، إلا أنه مقيد بأن يكون لفائدة يرجو نجاحها. "د".

 

ج / 2 ص -474-       الضرس فقلعت سنا، فوجعت الأخرى حتى قلعتها، فهتف بي هاتف: إن لم تدفع إليهم الدينار لا يبقى في فيك سن واحدة1.
وعن الروذباري2 قال: فيَّ استقصاء في أمر الطهارة، فضاق صدري ليلة؛ لكثرة ما صببت من الماء ولم يسكن قلبي، فقلت: يا رب! عفوك، فسمعت هاتفا يقول: العفو في العلم، فزال عني ذلك.
وعلى الجملة، فالشرط المتقدم لا محيص من اعتباره في3 العمل بمقتضى الخَوارق، وهو المطلوب، وإنما ذكرت هذه الأوجه الثلاثة؛ لتكون مثالا يحتذى حذوه وينظر في هذا المجال إلى جهته، وقد أشار هذا النحو إلى التنبيه على أصل آخر، وهي:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره القشيري في "رسالته" "ص168" وعلق عليه بقوله: "وهذا في باب الكرامة أتم من أن يضع عليه دنانير كثيرة ينقض العادة".
2 هو أحمد بن عطاء، والمنقول عنه عند القشيري في "رسالته" "ص163"، وفيها عنه: "كان لي استقضاء في أمر الطهارة.....".
3 في الأصل: "وفي"، وفي "ط": "كان بي......".

 

ج / 2 ص -475-       المسألة الثانية عشرة:
إن الشريعة كما أنها عامة في جميع المكلفين، وجارية على مختلفات أحوالهم، فهي عامة أيضا بالنسبة إلى عالم الغيب وعالم الشهادة من جهة كل مكلف، فإليها نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن، كما نرد إليها كل كل ما في الظاهر، والدليل على ذلك أشياء.
- منها: ما تقدم في المسألة قبلها من ترك اعتبار الخوارق إلا مع موافقة ظاهر الشريعة.
- والثاني: أن الشريعة حكامة لا محكوم عليها، فلو كان ما يقع من الخوارق والأمور الغيبية حاكما عليها بتخصيص عموم، أو تقييد إطلاق، أو تأويل ظاهر، أو ما أشبه ذلك، لكان غيرها حاكما عليها، وصارت هي محكوما عليها بغيرها، وذلك باطل باتفاق، فكذلك ما يلزم عنه.
- والثالث: أن مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها، وذلك أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات وليست كذلك، بل أعمالا من أعمال الشيطان، كما حكى عياض1 عن الفقيه أبي ميسرة المالكي2 أنه كان ليلة بمحرابه يصلي ويدعو ويتضرع، وقد وجد رقة، فإذا المحراب قد انشق وخرج منه نور عظيم، ثم بدا له وجه كالقمر، وقال له: "تملأ من وجهي يا أبا ميسرة، فأنا ربك الأعلى"، فبصق فيه وقال له: اذهب يا لعين عليك لعنة الله.
وكما يحكى عن عبد القادر الكيلاني أنه عطش عطشا شديدا، فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت عليه شبه الرذاذ حتى شرب، ثم نودي من سحابة3: "يا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ترتيب المدارك" "3/ 359- ط بيروت".
2 اسمه أحمد بن بزار، يكنى بأبي جعفر، من الفقهاء العباد المتبتلين، وكان مجانبا لأهل الأهواء، توفي سنة 337هـ"، أفاد القاضي عياض.
3 في "ط": "السحابة".

 

ج / 2 ص -476-       فلان! أنا ربك وقد أحللت لك المحرمات". فقال له: اذهب يا لعين. فاضمحلت السحابة. وقيل له: بم عرفت أنه إبليس؟ قال: بقوله: "قد أحللت لك المحرمات"1.
هذا وأشباهه لو لم يكن الشرع حكما فيها لما عرف أنها شيطانية.
وقد نزعت إلى هذا المنزع في ابتداء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خوليد زوجه رضي الله عنها، فإنها قالت له: "أي ابن عم! أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم. قالت: فإذا جاءك فأخبرني به. فلما جاء أخبرها، فقالت: قم يا ابن عم، فاجلس على فخذي اليسرى. فجلس، ثم قالت: هل تراه؟ قال: نعم. ثم حولته إلى فخذها اليمنى، ثم إلى حجرها، وفي كل ذلك تقول: هل تراه؟ فيقول: نعم. قال الراوي: فتحسرت، وألقت خمارها، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها، ثم قالت: هل تراه؟ قال: لا. وفي رواية أنها أدخلته بينها وبين درعها، فذهب عند ذلك فقالت: يا ابن عم! اثبت وأبشر، فوالله إنه لملك، ما هذا بشيطان2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكرها ابن العماد في "شذرات الذهب" "4/ 200"، وانظر: "مشتهى الخارف الجاني" "ص65".
2 أخرجه ابن إسحاق- كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 192" - حدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير أنه حُدِّثَ عن خديجة به، وأخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 151- 152"، وأبو نعيم في "الدلائل" "رقم 172، 174".
وإسناده منقطع، وفي متنه نكرة، إلا أن يقال ما أورده البيهقي عقبه: "قلت: وهذا شيء كانت خديجة رضي الله عنها تصنعه، تستثبت به الأمر احتياطا لدينها وتصديقها، فأما النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان وثق بما قال له جبريل، وأراه من الآيات التي ذكرناها مرة بعد أخرى".
قال ابن إسحاق عقبه: "فحدثت عبد الله بن الحسن هذا الحديث، فقال: قد سمعت فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة، إلا أني سمعتها تقول: "أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها، فذهب عند ذلك جبريل عليه السلام.
قلت: وعبد الله بن الحسن هو ابن حسن بن على بن أبي طالب، وهو ثقة كما قال ابن معين وأبو حاتم: وفاطمة بنت الحسين هي أمه، كما قال الذهبي في "تراجم رجال روى محمد بن إسحاق عنهم" "ص36"، فهذه الرواية إسنادها صحيح.

 

ج / 2 ص -477-       ولا يقال: إن ثم مدارك أخر يختص بها الوالي، لا يفتقر بها إلى النظر الشرعي لأنا نقول: إن كان كما قلت على فرض تسليمه، فتلك المدارك من جملة الكرامات والخوارق؛ إذ لا يختص بها إلا من كان وليا لله، فلا فرق بينها وبين غيرها من الخوارق المشاهدة، فلا بد إذا من حَكَمٍ يحكم بصحتها، وشاهد يشهد لها، وإذ ذاك يلزم التسلسل، وهو محال، ولا يكتفى في ذلك بدعوى الوجدان، "[فإن الوجدان]1 من حيث هو وجدان لا دليل فيه على صحة ولا فساد2؛ لأن الآلام واللذات من المواجد التي لا تنكر، ولا يدل ذلك على صحتها أو فسادها شرعا، وكذلك سائر الأمور التي لا يقدر الإنسان على الانفكاك عنها، فالغضب مثلا إذا هاج بالإنسان أمر لا ينكر كالمواجد من غير فرق، وقد يكون محمودا إذا كان غضبا لله، ومذموما إذا كان لغير الله، ولا يفرق بينهما3 إلا النظر الشرعي؛ إذ لا يصح أن يقال: هذا الغضب قد أدرك صاحبه أنه محمود لا مذموم من غير نظر شرعي؛ لأن الحمد والذم راجعان إلى الشرع لا إلى العقل، فمن أين أدرك أنه محمود شرعا؟ فلا يمكن أن يدركه كذلك بغير الشرع أصلا، ولا يصح أيضا أن ينسب تمييزه إلى المربي والمعلم؛ لأن البحث جارٍ فيه أيضا.
وإنما الذي يشكل في المسألة أن الخوارق لا قدرة للإنسان على كسبها ولا على دفعها؛ إذ هي مواهب من الله تعالى يختص بها من يشاء من عباده،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 كذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "صحته ولا فساده".
3 كذا في "ط"، وفي غيره: "بينها".

 

ج / 2 ص -478-       فإذا وردت على صاحبها، فلا حكم فيها للشرع وإن فرضنا أنها غير موافقة له، كورود الآلام والأوجاع على الإنسان بغتة، أو ورود الأفراح عليه كذلك من غير اكتساب، فكما لا توصف هذه الأشياء بحسن ولا قبح شرعا، ولا يتعلق بها حكم شرعي، كذلك في مسألتنا، بل أشبه شيء بها الإغماء أو الجنون أو ما أشبهه، فلا حكم يتعلق به وإن فرضنا لحوق الضرر به على الغير، كما إذا أتلف المجنون مالا، أو قتل نفسا، أو شرب خمرا في حال جنونه، ألا ترى ما يحكى عن جملة منهم في استغراقهم في الأحوال حتى تمضي عليهم أوقات الصلوات وهم لا يشعرون1، ويقع منهم الوعد فيؤخذون عن أنفسهم في المكاشفات والمنازلات، فلا يفون، ويكاشفون بأحوال الخلق بحيث يطلعون على عوراتهم2 إلى ما أشبه ذلك، فهذا وما كان مثله إذا كان واقعا منهم ومنقولا عنهم، وهو داخل عليهم شاءوا أم أبوا، فكيف ينكر في نفسه أو يعد مما يدخل تحت أحكام الشريعة؟
والجواب أن ما تقدم من الأدلة كاف في إثبات أصل المسألة، وما اعترض به لا اعتراض به، فإن الخوارق وإن كانت لا قدرة للإنسان في كسبها ولا دفعها، فلقدرته تعلق بأسباب هذه المسببات3. وقد مر أن الأسباب هي التي خوطب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما كان لأهل العلم أن يأخذوا مثل هذه الدعوى مسلمة، ويثقوا بأن تكون الغفلة عن بعض الواجبات الشرعية ناشئة عن حال هي أثر من آثار الارتقاء في مقام التقوى والولاية، ويكفي للتوقف في صحتها أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة الذين هم أصفى الناس بصائر، وأشدهم صلة بالله، وأرفعهم لديه منزلة، أنه استغرق في حال من المكاشفات يقظة حتى مضى عليه وقت من أوقات الصلاة. "خ".
2 وهو محرم بحسب الشريعة، لكنهم مقهورون عليه ليس لهم فيه اختيار. "د".
3 ليس هذا على إطلاقه، نعم، عدم تعرض المصنف للذي ليس له تعلق بقدرة المكلف حسن، فقد نقل المقري شيخ المصنف في كتابه "القواعد" "2/ 465-466" في "القاعدة الثالثة  =

 

ج / 2 ص -479-       ................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والعشرين بعد المئتين" عن المازري قوله: "تقدير خوارق العادات ليس من دأب الفقهاء، أي: من عاداتهم لما فيه من تضييع الزمان بما لا يعني أو غيره"، ثم قال: أما الكلام على المحقق من ذلك، فقد سألت الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اليوم الذي كسنة، أتجزئ فيه صلاة يوم؟ فقال: "لا، اقدروا له قدره" [والحديث في "صحيح مسلم" "4/ 2252].
قلت: على حسب الشتاء والصيف معتبرا أوله بالزمان الذي ابتدأ فيه. وقد نزل الشافعي اجتماع عيد وكسوف، واعتذر عن الغزالي بأنه تكلم على ما يقتضيه الشرع غير ملتفت إلى الحساب، أو على ما يقتضيه الفقه لو تأتى، ورده المازري بالقاعدة" انتهى.
ونص كلام الشافعي في "الأم" "1/ 239- 240": وإن كسفت الشمس يوم الجمعة ووافق ذلك يوم الفطر بدأ بصلاة العيد، ثم صلى الكسوف إن لم تنجل الشمس قبل أن يدخل في الصلاة".
وكسوف الشمس لا يمكن أن يقع إلا في اليوم التاسع والعشرين من الشهر، والعيد إنما يكون في اليوم الأول من الشهر في عيد الفطر، أو في عاشره في عيد الأضحى، فمن هنا استحال اجتماع عيد وكسوف.
انظر: "حاشية الدسوقي على شرح الكبير" "1/ 404"، و"التاج والإكليل" "2/ 204".
بقي بعد هذا أن يقال:
هل للمؤمن أن يعمل على حصول الكرامات الخارقة؟
الخارقة فعل اضطراري من الله تعالى، ولكن بيد النبي أو الولي أسباب بعض هذه المسببات، كرميه صلى الله عليه وسلم التراب في وجوه الكفار، فأوصله الله إلى أعينهم، وعندما عطش الجيش طلب النبي صلى الله عليه وسلم بقية ماء في قدح، فوضع يده فيه، فنبع الماء من بين أصابعه حتى ملأ الجيش كل ما عندهم من الآنية، فهذا الرمي منه صلى الله عليه وسلم، ووضع يده فيه، ودعاء الله هو سبب حصول المعجزة.
فهل للمؤمن أن يقتدي بذلك؛ أن يحاول بالرياضة التوصل إلى التمكن من ذلك، وأن يفعل الأسباب الموصلة إلى الخوارق؟
ذهب الجويني في "الإرشاد" "ص316"، وعليش في "هداية المريد"، والسنوسي في "شرح هداية المريد" "ص177" إلى أن كرامة الولي لا تقع بقصد منه، بل تقع دون قصد.
وجوز المصنف وقوعها بالقصد، وتابع القشيري في "رسالته" "ص662- تحقيق عبد الحليم  =

 

ج / 2 ص -480-       المكلف بها أمرا أو نهيا، ومسبباتها خلق لله، فالخوارق من جملتها.
وتقدم أيضا أن ما نشأ عن الأسباب من المسببات، فمنسوب إلى المكلف حكمه من جهة التسبب، لأجل أن عادة الله في المسببات أن تكون على وزان الأسباب في الاستقامة والاعوجاج، والاعتدال والانحراف، فالخوارق مسببات عن الأسباب التكليفية، فبقدر اتباع السنة في الأعمال وتصفيتها من شوائب الأكدار وغيوم الأهواء تكون الخارقة المترتبة1، فكما أن يعرف من نتائج الأعمال العادية صواب تلك الأعمال أو عدم صوابها، كذلك ما نحن فيه، وقد قال تعالى:
{إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16].
وقال:
{هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [يونس: 52].
"إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= محمود" على ذلك، وبنى عليه في الوجه الثالث عشر من "المسألة العاشرة" المتقدمة قريبا جواز تحدي الولي بالخارق لإثبات ولايته، وانظر: "أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" "1/ 258" للأشقر، ونقل ابن تيمية في "قاعدة شريفة في المعجزات والكرامات" "ص25" عن أبي علي الجوزجاني قوله: "كن طالبا للاستقامة، وربك يطلب منك الاستقامة" وعلق عليه بكلام جيد، ثم قسم طالبي الكرامات "ص37" إلى أقسام، وقرر أن بعضهم أعذر من بعض في ذلك، فراجع كلامه إن أردت الاستزادة.
1 ليس هذا على إطلاقه كما سبق بيانه في التعليق على "440-441".
2 قطعة من حديث إلهي طويل أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4/ 1994-1995/ رقم 2577"، والترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 656-657/ رقم 2495"- وقال: "هذا حديث حسن"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، 2/ 1422/ رقم 4257"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 20272"، والخطيب في "تاريخه" "7/ 203-204"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "ص65، 159، 213، 214، 227، 285"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 125-126" من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

 

ج / 2 ص -481-       وهو عام في الجزاء الدنيوي والأخروي، وفروع الفقه في المعاملات شاهدة هنا كشهادة العادات، فالموضع مقطوع به في الجملة.
وإذا ثبت هذا، فما ظهر في الخارقة من استقامة او اعوجاج، فمنسوب إلى الرياضة المتقدمة، والنتائج تتبع المقدمات بلا شك، فصار الحكم التكليفي متعلقا بالخوارق من جهة مقدماتها، فلا تسلم لصاحبها، وإذ ذاك لا تخرج عن النظر الشرعي بخلاف المرض والجنون وأشباههما مما لا سبب له من جهة المكلف، فإنه لا يتعلق به حكم تكليفي، ولو فرضنا أن المكلف تسبب في تحصيله، لكان منسوبا إليه، ولتوجه التكليف إليه، كالشكر1 ونحوه، فحصل من هذا التقرير أن الشرع حاكم على الخوارق وغيرها، لا يخرج عن حكمه شيء منها والله أعلم.
فصل:
ومن هنا يعلم أن كل خارقة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة، فلا يصح ردها ولا قبولها إلا بعد عرضها على أحكام الشريعة، فإن ساغت هناك2، فهي صحيحة مقبولة في موضعها، وإلا لم تقبل إلا الخوارق الصادرة على أيدي الأنبياء عليهم السلام، فإنه لا نظر فيها لأحد لأنها واقعة على الصحة قطعا، فلا يمكن فيها غير ذلك، ولأجل هذا حكم إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده بمقتضى رؤياه، وقال له ابنه:
{يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102]، وإنما النظر فيما انخرق من العادات على يد غير المعصوم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله السكر بالسين يدخله على نفسه بشرب المسكر مثلا فيكون معاملا بنتائجه. "د".
2 في الأصل: "هنالك".

 

ج / 2 ص -482-       وبيان عرضها أن تفرض الخارقة واردة1 من مجاري العادات، فإن ساغ العمل بها عادة وكسبا، ساغت في نفسها، وإلا فلا، كالرجل يكاشف بامرأة أو عورة بحيث اطلع منها على ما لا يجوز له أن يطلع عليه وإن لم يكن مقصودا له، أو رأى أنه يدخل على فلان بيته وهو يجامع زوجته ويراه عليها، أو يكاشف بمولود في بطن امرأة أجنبية بحيث يقع بصره على بشرتها أو شيء من أعضائها التي لا يسوغ النظر إليها في الحس، أو يسمع نداء يحس فيه بالصوت والحرف، وهو يقول: أنا ربك، أو يرى صورة مكيفة مقدرة تقول له: أنا ربك، أو يرى ويسمع من يقول له: قد أحللت لك المحرمات، وما أشبه ذلك من الأمور لا يقبلها الحكم الشرعي على حال، ويقاس على هذا ما سواه، وبالله التوفيق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "وارداة".

 

ج / 2 ص -483-       المسألة الثالثة عشرة
لما كان التكليف مبنيا على استقرار عوائد المكلفين1، وجب أن ينظر في أحكام العوائد لما بنبني عليها بالنسبة إلى دخول المكلف تحت حكم التكليف.
فمن ذلك أن مجاري العادات في الوجود أمر معلوم لا مظنون، وأعني في الكليات لا في خصوص الجزئيات، والدليل على ذلك أمور:
أحدها:
أن الشرائع بالاستقراء إنما جيء بها على ذلك، ولتعتبر2 بشريعتنا، فإن التكاليف الكلية فيها بالنسبة إلى من يكلف من الخلق موضوعة على وزان واحد3، وعلى مقدار واحد، وعلى ترتيب واحد، لا اختلاف فيه بحسب متقدم ولا متأخر، وذلك واضح في الدلالة على أن موضوعات التكاليف وهي أفعال المكلفين كذلك، وأفعال المكلفين إنما تجري على ترتيبها إذا كان الوجود باقيا على ترتيبه، ولو اختلفت العوائد في الموجودات، لاقتضى ذلك اختلاف التشريع واختلاف الترتيب واختلاف الخطاب، فلا تكون الشريعة على ما هي عليه، وذلك باطل.
والثاني:
أن الإخبار الشرعي قد جاء بأحوال هذا الوجود على أنها دائمة غير مختلفة4 إلى قيام الساعة، كالإخبار عن السماوات والأرض وما بينهما وما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سواء أكانت تابعة لفطر وغرائز فيهم، أم كانت تابعة للموجودات الأخرى التي لهم بها علاقة وارتباطا ما في هذه الحياة، كما يؤخذ من تقريره بعد. "د".
2 في "د" ولنعتبر".
3 فمثلا كل مكلف مطلوب بالصلوات الخمس جزما، والصبح ركعتان للجميع، والظهر أربع كذلك، وشرائطها وأركانها واحدة، ومبطلاتها واحدة، وآدابها واحدة، لا اختلاف في ذلك بين عصر متقدم ولا زمان متأخر؛ لأن العوائد التي بنى عليها الشارع تكليفه مستقرة، فلا تكون في قرن من القرون حرجة وفي قرن ميسورة، وقس على ذلك بقية التكاليف. "د".
4 في نسخة "ماء/ ص 208": "مختلة".

 

ج / 2 ص -484-       فيهما من المنافع1 والتصاريف والأحوال، وأن سنة الله لا تبديل لها، وأن لا تبديل لخلق الله، كما جاء بإلزام الشرائع على ذلك الوزان أيضا، والخبر من الصادق لا يكون بخلاف مخبره2 بحال، فإن الخلاف بينهما "محال"3.
والثالث:
أنه لولا أن اطراد العادات معلوم، لما عرف الذين من أصله، فضلا عن تعرف فروعه؛ لأن الدين لا يعرف إلا عند الاعتراف بالنبوة، ولا سبيل إلى الاعتراف بها إلا بواسطة4 المعجزة ولا معنى للمعجزة إلا أنها فعل خارق للعادة، ولا يحصل فعل خارق للعادة إلا بعد تقرير اطراد العادة في الحال والاستقبال كما اطردت في الماضي، ولا معنى للعادة إلا أن الفعل المفروض لو قدر وقوعه غير مقارن للتحدي لم يقع إلا على الوجه المعلوم في أمثاله، فإذا وقع مقترنا بالدعوة خارقا للعادة، علم أنه لم يقع كذلك مخالفا لما اطرد إلا والداعي صادق، فلو كانت العادة غير معلومة، لما حصل العلم بصدقه اضطرارا5 لأن وقوع مثل ذلك الخارق لم يكن يدعى بدون اقتران الدعوة والتحدي، لكن العلم حاصل، فدل على أن ما انبنى عليه العلم معلوم أيضا، وهو المطلوب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كمنافع الشمس والقمر وسائر الكواكب، والماء والنار، والأرض وما عليها، والبحار وما فيها، والتصاريف أي الأسباب والمسببات في هذه الأمور وفي أفعال الإنسان والحيوان، وما ينشأ عن ذلك، والأحوال، أي من الحياة والموت والصحة والمرض والملاذ والشهوات، إلى غير ذلك من السنن الكونية التي ربط بها الخالق هذه الكائنات. "د".
2 في الأصل ونسخة "ماء/ ص 209": "بخلاف غيره".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
4 في "ط": "بوساطة".
5 لأن لا سبب للعلم بالمصدق إلا العلم باستقرار العادة، وأن خرقها لا يكون بدون الدعوة والتحدي، فقوله: لأن وقوع..... إلخ" تكميل لتوجيه الملازمة. "د".
قلت: في الأصل: "حصل العمل العلم" ولا محل لهذه الزيادة.

 

ج / 2 ص -485-       فإن قيل: هذا معارض بما يدل على أن اطِّراد العوائد غير معلوم، بل إن كان فمظنون، والدليل على ذلك أمران:
أحدهما:
أن استمرار أمر في العالم مساوٍ لابتداء وجوده؛ لأن الاستمرار إنما هو بالإمداد المستمر، والإمداد ممكن أن لا يوجد، كما أن استمرار العدم على الموجود في الزمن1 الأول كان ممكنا فلما وجد حصل أحد طرفي الإمكان مع جواز بقائه على أصل العدم، فكذلك وجوده في الزمان الثاني ممكن، وعدمه كذلك، فإذا كان كذلك، فكيف يصح مع إمكان عدم استمرار وجوده العلم باستمرار وجوده، هل هذا إلا عين المحال؟
والثاني:
أن خوارق العادات في الوجود غير قليل، بل ذلك كثير، ولا سيما ما جرى على أيدي الأنبياء عليهم السلام من ذلك، وكذلك ما انخرق للأولياء من هذه الأمة وفي الأمم قبلها من العادات، والوقوع زائد على مجرد الإمكان، فهو أقوى في الدلالة، فإذن لا يصح أن أن يكون مجاري العادات معلومة البتة.
فالجواب عن الأول أن الجواز العقلي غير مندفع عقلا، وإنما اندفع بالسمع القطعي، وإذا اندفع بالسمع وهو جميع ما تقدم من الأدلة، لم يفد حكم الجواز العقلي.
ولا يقال: إن هذا تعارض في القطعيات وهو محال.
لأنا نقول: إنما يكون محالا إذا تعارضا من وجه واحد، وليس كذلك هنا، بل الجواز العقلي هنا باقٍ على حكمه في أصل الإمكان، والامتناع السمعي راجع إلى الوقوع، وكم من جائز غير واقع؟!
وكذلك نقول: "العالم كان قبل وجوده ممكنا أن يبقى على أصله من العدم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "الزمان".

 

ج / 2 ص -486-       ويمكن أن يوجد، فنسبة استمرار العدم عليه أو إخراجه إلى الوجود من جهة نفسه نسبة واحدة، وقد كان من جهة علم الله فيه لا بد أن يوجد، فواجب وجوده، ومحال استمرار عدمه، وإن كان في نفسه ممكن البقاء على أصل العدم، ولذلك1 قالوا: من الجائز تنعيم من مات على الكفر، وتعذيب من مات على الإسلام، ولكن هذا الجائز محال الوقوع من جهة إخبار الله تعالى أن الكفار هم المعذبون، وأن المسلمين هم المنعمون، فلم يتوارد الجواز والامتناع والوجوب2 على مرمى واحد، كذلك ههنا، فالجواز من حيث نفس الجائز، والوجوب أو الامتناع من حيث أمر خارج، فلا يتعارضان.
وعن الثاني أنا قدمنا أن العلم المحكوم3 به على العادات إنما هو في كليات الوجود لا في جزئياته، وما اعترض به من باب الأمور الجزئية التي لا تخرم كلية، ولذلك لم يدخل ذلك على أرباب العوائد شكا ولا توقفا4 في العمل على مقتضى العادات البتة، ولولا استقرار العلم بالعادات، لما ظهرت الخوارق كما تقدم، وهو من أنبل الأدلة على العلم بمجاري العادات، وأصله للفخر الرازي رحمه الله تعالى، فإذا رأينا جزئيا انخرقت فيه العادة على شرط، دلنا على ما تدل عليه الخوارق من نبوة النبي صلى الله عليه وسلم إن اقترنت بالتحدي، أو ولاية الولي إن لم تقترن أو اقترنت بدعوى الولاية على القول بجواز ذلك، ولا يقدح انخراقها في علمنا باستمرار العادات الكلية، كما إذا رأينا عادة جرت في جزئية من هذا العالم في الماضي والحال، غلب على ظنوننا أيضا استمرارها في الاستقبال،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "وكذلك".
2 في "ط": "أو الوجوب".
3 في "ط": "محكوم".
4 وإلا لما عمرت الدنيا؛ لأن عمارتها بأخذ الناس في أسباب ذلك مبنية على أن العوائد في ترتب المسببات مستمرة، وإن كانوا يشاهدون أحيانا شيئا من انخرام العادة. "د".

 

ج / 2 ص -487-       وجاز عندنا خرقها بدليل انخراق ما انخرق منها، ولا يقدح ذلك في علمنا باستمرار العاديات الكلية، وهكذا حكم سائر مسائل الأصول، ألا ترى أن العمل بالقياس قطعي، والعمل بخبر الواحد قطعي، والعمل بالترجيح عند تعارض الدليلين الظنيين قطعي، إلى أشباه ذلك، فإذا جئت إلى قياس معين لتعمل به كان العمل [به] ظنيا، أو أخذت في العمل بخبر واحد معين وجدته ظنيا لا قطعيا، وكذلك سائر المسائل، ولم يكن ذلك قادحا في أصل المسألة الكلية، وهذا كله ظاهر.

 

ج / 2 ص -488-       المسألة الرابعة عشرة:
العوائد المستمرة ضربان:
أحدهما:
العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابا أو ندبا، أو نهى عنها كراهة أو تحريما، أو أذن فيها فعلا وتركا.
والضرب الثاني:
هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي.
فأما الأول، فثابت أبدا كسائر الأمور الشرعية، كما قالوا في سلب العبد أهلية الشهادة، وفي الأمر بإزالة النجاسات، وطهارة التأهب1 للمناجاة، وستر العورات، والنهي عن الطواف بالبيت على العري، وما أشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس، إما حسنة عند الشارع أو قبيحة، فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع، فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين فيها2، فلا يصح أن ينقلب الحسن [فيها]3 قبيحا ولا القبيح حسنا، حتى يقال مثلا: إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن، فلنجزه4، أو إن كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح، فلنجزه، أو غير ذلك؛ إذ لو صح مثل هذا لكان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "وطهارات المتأهب".
2 لأنها نص عليها الشارع بخصوصها، وأثبت لها حكما شرعيا، فتغير عادة الناس فيها من استقباح إلى استحسان لا يغير حكم الشرع عليها، بخلاف الضرب الثاني، فإنه ليس فيه من الشرع دليل على حسنه أو قبحه، لكنه ينبني على عرف الناس فيه حكم شرعي يختلف باختلاف عرفهم. "د". قلت: انظر في هذا "الأشباه والنظائر" "ص93" للسيوطي، و"مفهوم تجديد الدين" "ص263" لبسطامي محمد سعيد.
3 سقط من "ط".
4 في الأصل و"خ" في هذا الموضع والذي يليه: "فليجزه"، وفي "ماء/ ص209": "فليجز".

 

ج / 2 ص -489-       نسخا للأحكام المستقرة المستمرة، والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم باطل، فرفع العوائد الشرعية باطل1.
وأما الثاني، فقد تكون تلك العوائد ثابتة، وقد تتبدل، ومع ذلك، فهي أسباب لأحكام تترتب عليها.
فالثابتة كوجود شهوة الطعام والشراب، والوقاع والنظر، والكلام، والبطش والمشي، وأشباه ذلك، وإذا كانت أسبابا لمسببات حكم بها الشارع، فلا إشكال في اعتبارها والبناء عليها والحكم على وفقها دائما.
والمتبدلة.
- منها: ما يكون متبدلا في العادة من حسن إلى قبح، وبالعكس، مثل كشف الرأس، فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع، فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية، وغير قبيح في البلاد المغربية، فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحا في العدالة2، وعند أهل المغرب غير قادح.
- ومنها ما يختلف في التعبير عن المقاصد، فتنصرف العبارة عن معنى إلى3عبارة أخرى، إما بالنسبة إلى اختلاف الأمم كالعرب مع غيرهم، أو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "الفروق" "1/ 43 وما بعدها"، و"إعلام الموقعين" "1/ 324"، و"العرف والعادة في رأي الفقهاء" "ص83".
2 وذلك بشروط بيناها وتكلمنا عليها في كتابنا "المروءة وخوارمها" "ص143-148- ط الأولى"، وانظر استحباب غطاء الرأس: "تمام المنة" "164-165"، و"الأجوبة النافعة" "110"، والدين الخالص" "3/ 214"، و"الأدلة الشرعية" "34 وما بعدها"، وكتابي: "القول المبين" "58-60".
3 لعل الأصل: "إلى معنى عبارة". "د".

 

ج / 2 ص -499-       بالنسبة إلى الأمة والواحدة كاختلاف العبارات بحسب اصطلاح أرباب الصنائع في صنائعهم مع اصطلاح الجمهور، أو بالنسبة إلى غلبة الاستعمال في بعض المعاني، حتى صار ذلك اللفظ إنما يسبق منه إلى الفهم معنى ما، وقد كان يفهم منه قبل ذلك شيء آخر، أو كان مشتركا فاختص، وما أشبه ذلك، والحكم أيضا يتنزل على ما هو معتاد فيه بالنسبة إلى من اعتاده دون من لم يعتده، وهذا المعنى يجري كثيرا في الأيمان والعقود والطلاق، كناية وتصريحا1.
- ومنها: ما يختلف في الأفعال في المعاملات ونحوها، كما إذا كانت العادة في النكاح قبض الصداق قبل الدخول، أو في البيع الفلاني أن يكون بالنقد لا بالنسيئة، أو بالعكس، أو إلى أجل كذا دون غيره، فالحكم أيضا جارٍ على ذلك حسبما هو مسطور في كتب الفقه2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "الفروق" "1/ 44 و4 / 203"، و"الأشباه والنظائر" "ص83-84"، و"المدخل للفقه الإسلامي" "2/ 889" لمصطفى الزرقاء.
2 قال القرطبي في حديث:
"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف": "في هذا الحديث اعتبار العرف في الشرعيات خلافا للشافعية، ورد الحافظ ابن حجر هذا الاستدلال بأن الشافعية إنما* العمل بالعرف إذا عارضه النص الشرعي أو لم يرشد إليه، والعرف عند من يقول به كالمالكية إنما يؤخذ به تخصيص العام أو تقييد المطلق، وأما أن يؤثر في إبطال واجب أو إباحة حرام يذهب إليه أحد من علماء المسلمين، قال ابن الغرسي عند قول تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} المعنى: اقض بكل ما عرفته مما لا يرده الشرع" "خ".
قلت: النوع الأخير الذي ذكره المصنف هو المعنى في قول الفقهاء "العادة محكمة"، وليس هو بحد ذاته حكما شرعيا، ولكنه متعلق ومناط الحكم الشرعي، فهو من جهة كونه حكما لا يتغير، ولكن الشرع أناطه بالعرف، وجعل الحكم يدور معه، وهذا ما سيذكره المصنف في الفصل الآتي.
وانظر- غير مأمور: "الفروق" "1/ 45 و4/ 203"، و"ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية" "281-292"، و"تغير الفتوى" "ص50-53".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا في الأصل، ولعل سقطا وقع فيه، تقديره: "إنما نفوا العمل.......".

 

ج / 2 ص -500-       خصوص مسألته قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه} [الطلاق: 3].
ووكالة الله أعظم من وكالة غيره، وقد قال هود عليه الصلاة والسلام:
{فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم} الآية [هود: 55]، ولما عقد أبو حمزة عقدا طلب بالوفاء، لقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُم} [النحل: 91].
وأيضا: فإن بعض الأئمة نقل عنه أنه سمع أن أناسا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يسألوا أحدا شيئا، فكان أحدهم إذا وقع سوطه لا يسأل أحدا رفعه إليه1، فقال أبو حمزة: رب! إن هؤلاء عاهدوا نبيك إذ رأوه، وأنا أعاهدك2 أن لا أسأل أحدا شيئا أبدا. قال: فخرج حاجا من الشام يريد مكة...... إلى آخر الحكاية.
وهذا أيضا من قبيل الأخذ بعزائم العلم؛ إذ عقد على نفسه مثل ما عقد من هو أفضل منه، فليس بجارٍ على غير الأصل الشرعي، ولذلك لما حكي ابن العربي3 الحكاية قال: "فهذا رجل عاهد الله، فوجد الوفاء على التمام والكمال، فبه فاقتدوا إن شاء الله تهتدوا".
وكذلك دخول الأرض المسبعة ودخول البرية بلا زاد، فقد تبين في كتاب الأحكام أن من الناس من يكون وجود الأسباب وعدمها عندهم سواء، فإن الله هو مسبب الأسباب وخالق مسبباتها، فمن كان هذا حاله، فالأسباب عنده

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس 2/ 721/ رقم 1042"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الزكاة، باب كراهية المسألة 2/ 121/ رقم 1624"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب البيعة على الصلوات الخمس 1/ 229"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الجهاد، باب البيعة رقم 2867"، وأحمد في "المسند" "6/ 27" عن عوف بن مالك رضي الله عنه.
2 في "ط": "عاهدتك".
3 في "أحكام القرآن" "3/ 1111-1112".

 

 

ج / 2 ص -501-       كعدمها؛ فلم يكن له مخافة من مخوف مخلوق، [ولا رجاء في مرجوِّ مخلوق]1؛ إذ لا مخوف ولا مرجوَّ إلا الله، فليس هذا إلقاء باليد إلى التهلكة، وإنما كان يكون كذلك لو حصل في اعتقاده أنه إن لم يتزود هلك، وإن قارب السبع هلك، وأما إذا لم يحصل ذلك، فلا؛ على أنه قد شرط الغزالي2 في دخول البرية بلا زاد اعتياد3 الصبر والاقتيات بالنبات، وكل هذا راجع إلى حكم عادي.
ولعلك تجد مخرجا في كل ما يظهر على أيدي الأولياء الذين ثبتت ولايتهم، بحيث يرجع إلى الأحكام العادية؛ بل لا تجده إن شاء الله إلا كذلك.
فصل:
وأما إن كان ما بنوا عليه من غير جنس العادي، كالمكاشفة، فهل يكون حكمهم فيه حكم أهل العادات الجارية، بحيث يطلبون بالرجوع إلى ما عليه الناس؟ أم يعاملون معاملة أخرى خارجة عن أحكام أهل العوائد الظاهرة في الناس، وإن كانت مخالفة في الظاهر؛ لأنها في تحقيق الكشف الغيبي موافقة لا مخالفة.
والذي يطرد بحسب ما ثبت في المسالة الثانية عشرة وما قبلها أن لا يكون حكمهم مختصا، بل يردون إلى أحكام أهل العوائد الظاهرة ويطلبهم المربي بذلك حتما، وقد مر ما يستدل به على ذلك، ومن الدليل عليه أيضا أوجه:
أحدها:
أن الأحكام لو وضعت على حكم انخراق العوائد لم تنتظم لها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 في "الإحياء" "4/ 266".
3 في الأصل: "اعتقاد".

 

ج / 2 ص -502-       قاعدة، ولم يرتبط لحكمها مكلف إذ كانت؛ لكون الأفعال كلها داخلة تحت إمكان الموافقة والمخالفة، فلا وجه إلا ويمكن فيه الصحة والفساد، فلا حكم لأحد على فعل من الأفعال بواحد منهما على البت، وعند ذلك لا يحكم بترتب ثواب، ولا عقاب، ولا إكرام ولا إهانة، ولا حقن دم، [ولا إهداره]1، ولا إنفاذ حكم من حاكم، وما كان هكذا، فلا يصح أن يشرع مع فرض اعتبار المصالح2، وهو الذي انبنت الشريعة عليه.
والثاني:
أن الأمور الخارقة لا تطرد أن تصير حكما يبنى عليه؛ لأنها مخصوصة بقوم مخصوصين، وإذا اختصت لم تجر مع غيرهم، فلا تكون قواعد الظواهر شاملة لهم، ولا أيضا3 تجري فيما بينهم وبين غيرهم ممن ليس منهم؛ إذ لا يصح أن يحكم بمقتضى الخوارق على من ليس من أهلها باتفاق من الفريقين، أعني في نصب أحكام العامة4؛ إذ ليس للحاكم أو السلطان أن يحكم للولي بمقتضى كشفه، أو [كشف] السلطان نفسه على من ليس بولي من غير معاملة بالأسباب الظاهرة، ولا أيضا للوليين إذا ترافعا إلى الحاكم في قضية.
الثالث:
وإذا فرض أنها غير شاملة لهم كان على غير ما تقدم5 البرهان عليه من أن الشريعة عامة وأحكامها عامة على جميع الخلق وفي جميع الأحوال، كيف وهو يقولون: إن الولي قد يعصي والمعاصي جائزة عليه، فلا فعل يخالف ظاهره ظاهر الشرع إلا والسابق إلى بادئ الرأي منه أنه عصيان، فلا يصح مع هذا أن يثبت أن هذا الفعل الخارق الذي لا يجري على ظاهر الشرع مشرع؛ لتطرق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 إذ النظر العقلي الصحيح مساند للنظر الشرعي، وهذا ما وضحه بما لا مزيد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في موسوعة "درء تعارض العقل والنقل"، والشيخ مصطفى صبري في كتابه "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين".
3 في "ماء/ ص212": "وأيضا لا....".
4 في "ط": "نصب الأحكام".
5 في "ط": "على خلاف ما تقدم".

 

ج / 2 ص -503-       الاحتمالات.
والرابع:
أن أولى الخلق بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الصحابة رضي الله عنهم، ولم يقع منه عليه الصلاة والسلام شيء من ذلك، إلا ما نصت شريعته عليه مما خص به ولم يعد1 إلى غيره وما سوى ذلك، فقد أنكر على من قال له: "يحل الله لنبيه ما شاء"، ومن قال: "إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر". فغضب وقال:
"إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي"2.
وقد كان عليه الصلاة والسلام يستشفى به وبدعائه3، ولم يثبت أنه مس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب 2/ 781/ رقم 1110" عن عائشة رضي الله عنها، وهذا لفظه، وأخرج نحوه البخاري في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح 9/ 104/ رقم 5063"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لم تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة 2/ 1020/ رقم 1401" عن أنس رضي الله عنه.
2 أما الاستشفاء بدعائه، فقد ثبت في حديث المرأة السوداء التي كانت تصرع، وقد مضى "262"، وأما الاستشفاء به، فأحسن ما يستدل به عليه ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الدعوات، باب: منه 5/ 569/ رقم 3678" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب"- وابن ماجه في السنن" "كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في صلاة الحاجة 1/ 441/ رقم 1385"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 659"، وأحمد في "المسند" "4/ 138"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 313 عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني. قال:
"إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك". قال: فادعه قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه في" لفظ الترمذي. وإسناده حسن، وانظر له: "صحيح الترغيب والترهيب" "رقم 681"، و"التوسل" "68".
3 ضبطها ناسخ "ط": "يعد".

 

ج / 2 ص -504-       بشرة أنثى ممن ليست بزوجة له أو ملك يمين1، وكان النساء يبايعنه ولم تمس يده يد أنثى قط2، ولكن كان يعمل في الأمور على مقتضى الظواهر وإن كان عالما بها، وقد مر من هذا أشياء، وهو الذي قعد القواعد ولم يستثنِ وليا من غيره، وقد كان حقيقا بذلك لو نزل الحكم على استثناء الولي وأصحاب الخوارق3، وكذلك الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو الأولياء حقا، والفضلاء صدقا.
وفي قصة الرُّبَيِّع بيان لهذا، حيث قال وليها أو من كان4: والله لا تكسر ثنيتها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"كتاب الله القصاص"5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الحديث في التعليقة الآتية.
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الشروط، باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة 5/ 312/ رقم 2713، وكتاب الأحكام باب بيعة النساء 13/ 203/ رقم 7214"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب كيفية بيعة النساء 4/ 1489" / رقم 1866" عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية:
{لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتنحة: 12]، قالت: وما مَسَّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها" لفظ البخاري.
وفي لفظ لمسلم: "ما مس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط".
3 من وجب عليه حد أو يتعلق بذمته حق وفر إلى ضريح ولي، فإنه يخرج منه كما يخرج من المسجد، والعامل على إخراج هذا الجاني مثاب على عمله، آمن من أن يلحقه ضرر، وإذا نزل به قضاء عقب هذا العمل، فمن الجهل اعتقاد أن ذلك من أثر غيرة الولي على حرمته كما تتوهم العامة، وإنما هو من بيان الصدفة وموافقة القدر، ومتى كانت العقيدة على أن صاحب الضريح ولي، فمن شرط ولايته عدم الترضي بتعطيل الحكم الشرعي واتخاذ حرمه ملجأ للفاسقين. "خ".
4 القائل هو أنس بن النضر، كما صرح به البخاري في "صحيحه"، أو أم الربيع كما صرح به مسلم في "صحيحه"، وفيه: "إن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنسانا......."، وما عند المصنف رواية البخاري.
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} 8/ 177/ رقم 4500، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القسامة، باب إثبات القصاص في الأسنان 3/ 1302/ رقم 675" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

 

ج / 2 ص -505-       ولم يكتفِ عليه الصلاة والسلام بأن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرَّه، فكان يرجئ الأمر حتى يبرز أثر القسم، بل ألجأ إلى القصاص الذي فيه أشد محنة حتى عفا أهله، فحينئذ قال عليه الصلاة والسلام: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره"1، فبين أن ذلك القسم قد أبره الله، ولكن لم يحكم به حتى ظهر له كرسي2 وهو العفو، والعفو منتهض في ظاهر الحكم سببا لإسقاط القصاص.
والخامس:
أن الخوارق في الغالب إذا جرت أحكامها معارضة للضوابط الشرعية، فلا تنتهض أن تثبت ولو كضرائر الشعر3، فإن ذلك إعمال لمخالفة المشروعات، ونقض لمصالحها الموضوعات، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان عالما بالمنافقين وأعيانهم، وكان يعلم منهم فسادا في أهل الإسلام، ولكن كان يمتنع من قتلهم لمعارض هو أرجح في الاعتبار، فقال:
"لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"4، فمثله يلغي في جريان أحكام الخوارق على أصحابها، حتى5 لا يعتقد من لا خبرة له أن للصوفية شريعة أخرى، ولهذا وقع إنكار الفقهاء لفعل أبي يعزى6 رضي الله عنه، فالقول بجواز انفراد أصحاب الخوارق بأحكام خارجة عن أحكام العادات الجمهورية قول يقدح في القلوب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو قطعة من الحديث السابق، أوله:
"كتاب الله القصاص.....".
2 هكذا الأصل، وهو غير ظاهر، والصواب أثره وهو..... إلخ، ويدل عليه سياق الكلام المتقدم. ا.هـ. مصححة. "خ".
3 لعلها "كضرورة الشعر". "د".
4 مضى تخريجه "ص467".
5 في الأصل ونسخة "ماء/ ص213": "إذ يعتقد".
6 صوابه "أبو يزيد" يعني: النخشبي المتقدمة قصته في حديثه مع خادمه. "د".

 

ج / 2 ص -506-       أمورًا1 يطلب بالتحرز منها شرعا، فلا ينبغي أن يخصوا بزائد على مشروع الجمهور، ولذلك أيضا اعتقد كثير من الغالين فيهم مذهب الإباحة، وعضدوا بما سمعوا منها رأيهم، وهذا [كله] تعريض لهم إلى سوء المقالة.
وحاش لله أن يكون أولياء الله إلا بُرءاء من هذه الخوارق المنخرقة، غير أن الكلام جرى2 إلى الخوص في هذا المعنى، فقد علم منهم المحافظة على حدود الشريعة ظاهرا وباطنا، وهم القائمون بأحكام السنة على ما ينبغي، المحافظون على اتباعها، لكن انحراف الفهم عنهم في هذه الأزمنة وفيما قبلها طرق في أحوالهم ما طرق، ولأجله وقع البحث في هذه المسائل، حتى يتقرر بحول الله ما يُفهم به عنهم مقاصدهم، وما تُوزَن به أحوالهم، حسبما تعطيه حقيقة طريقتهم المثلى، نفعهم الله ونفع بهم.
ثم نرجع إلى تمام المسألة3، فنقول:
وليس الاطِّلاع على المغيبات ولا الكشف الصحيح بالذي يمنع من الجريان على مقتضى الأحكام العادية، والقدوة في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ما جرى عليه السلف الصالح، وكذلك القول في انخراق العادات لا ينبغي أن يبنى عليها في الأحكام الظاهرة، وقد كان عليه الصلاة والسلام معصوما؛ لقوله تعالى:
{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس} [المائدة: 67]، ولا غاية وراء هذا، ثم إنه كان يتحصن بالدرع والمغفر4، ويتوقى ما العادة أن يُتوقَّى، ولم يكن ذلك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 منها الاعتقاد المذكور بعدُ. "د".
2 في "ط": "جر".
3 مرتبط بأول الفصل. "د".
4 كما ثبت في أحاديث كثيرة، تجدها في "صحيح البخاري" "كتاب الجهاد، باب ومن يترس بترسي صاحبه 6/ 93، وباب ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم والقميص في الحرب 6/ 99".

 

ج / 2 ص -507-       نزولا عن رتبته العليا إلى ما دونها، بل هي أعلى.
وما ذكر من استواء العوائد وعدمها بالنسبة إلى قدرة الله، فذلك أيضا غير مانع من إجراء أحكام العوائد على مقتضاها.
وقد تقدم أن الصحابة قد كانوا حازوا رتبة التوكُّل، ورؤية إنعام المنعم من المنعم لا من السبب، ومع ذلك، فلم يتركوا الدخول في الأسباب العادية التي نُدِبوا إليها، ولم يتركهم النبي صلى الله عليه وسلم مع هذه الحالة التي تسقط حكم الأسباب وتقضي بانخرام العوائد، فدل على أنها العزائم التي جاء الشرع بها؛ لأن حال انخراق العوائد ليس بمقام يقام فيه، وإنما محله محل الرخصة كما تقدم ذكره؛ ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام:
"قَيِّدْهَا وتَوَكَّلْ"1.
وقد كان المُكمَّلون من الصوفية يدخلون في الأسباب تأدُّبًا بآداب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ونظرًا إلى أن وضع الله تعالى أحوال الخلق على العوائد الجارية يوضح أن المقصود الشرعي الدخول تحت أحكام العوائد، ولم يكونوا ليتركوا الأفضل إلى غيره، وأما قصة الخضر عليه السلام وقوله:
{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]، فيظهر به أنه نبي2، وذهب إليه جماعة من العلماء استدلالا بهذا القول، ويجوز للنبي أن يحكم بمقتضى الوحي من غير إشكال، وإن سلم؛ فهي قضية عين ولأمر ما3، وليست جارية على شرعنا، والدليل على ذلك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 304"، وهو حديث حسن.
2 قال: ابن حجر في كتابه "الزهر النضر في نبأ الخضر" "2/ 234- مع الرسائل المنيرية"، و"الذي لا يتوقف فيه الجزم بنبوته" وقال أيضا: "وكان بعض أكابر العلماء يقول: أول عقدة تحل من الزندقة، اعتقاد كون الخضر نبيًّا؛ لأن الزنادقة يتذرعون بكونه غير نبي إلى أن الولي أفضل من النبي". وانظر ما قدمناه في التعليق على "ص463 وما بعدها" عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
3 سيشير إليه بقوله: "وعلى مقتضى عتاب موسى.... إلخ".

 

ج / 2 ص -508-       أنه لا يجوز في هذه الملة لولي ولا لغيره ممن ليس بنبي أن يقتل صبيا لم يبلغ الحلم، وإن علم أنه طبع كافرًا، وأنه لا يؤمن أبدًا، وأنه إن عاش أرهق أبويه طغيانا وكفرا وإن أُذِنَ له من عالم الغيب في ذلك؛ لأن الشريعة قد قررت الأمر والنهي، وإنما الظاهر في تلك القصة أنها وقعت على مقتضى شريعة أخرى، وعلى مقتضى عتاب موسى عليه السلام وإعلامه أن ثم علما آخر وقضايا أُخر لا يعلمها هو1.
فليس كل ما اطلع عليه الولي من الغيوب يسوغ له شرعا أن يعمل عليه، بل هو على ضربين:
أحدهما:
ما خالف العمل به ظواهر الشريعة من غير أن يصح رده إليها، فهذا لا يصح العمل عليه البتة.
والثاني:
ما لم يخالف [العمل]2 به شيئا من الظواهر، أو إن ظهر منه خلاف، فيرجع بالنظر الصحيح إليها، فهذا يسوغ العمل عليه، وقد تقدم بيانه، فإذا تقرر هذا الطريق، فهو الصواب، وعليه يربى المربي، وبه يعلق همم السالكين تأسيا بسيد المتبوعين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أقرب إلى الخروج عن مقتضى الحظوظ، وأولى برسوخ القدم، وأحرى بأن يتابع عليه صاحبه ويقتدي به فيه، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر لزاما في تقرير هذا وتأكيده: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "11/ 420 وما بعدها"، و"مدرج السالكين" "2/ 475 و3/ 416، 431-433"، و"فتح الباري" "1/ 221"، و"عجالة المنتظر في شرح حال الخضر" لابن الجوزي، وكتابنا "من قصص الماضين" "ص33 وما بعدها"، و"فوائد حديثية" لابن القيم "ص81" مع تعليقي عليه.
قلت: والعبارة في الأصل: "ثم علماء أخر".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، و"ط".

 

ج / 2 ص -509-       المسألة السادسة عشرة:
العوائد أيضا ضربان بالنسبة إلى وقوعها في الوجود:
أحدهما:
العوائد العامة التي لا تختلف بحسب الأعصار والأمصار والأحوال، كالأكل والشرب والفرح والحزن، والنوم واليقظة، والميل إلى المُلائم والنفور عن المنافر، وتناول الطيبات والمستلذات واجتناب المؤلمات والخبائث، وما أشبه ذلك.
والثاني:
العوائد التي تختلف باختلاف الأعصار والأمصار والأحوال، كهيئات اللباس والمسكن، واللين في الشدة والشدة فيه، والبطء والسرعة في الأمور، والأناة والاستعجال، وما كان نحو ذلك.
فأما الأول: فيقضى به على أهل الأعصار الخالية والقرون الماضية، للقطع بأن مجاري سنة الله تعالى في خلقه على هذا السبيل وعلى سننه لا تختلف عموما كما تقدم، فيكون ما جرى منها في الزمان الحاضر محكوما به على الزمان الماضي والمستقبل مطلقا، كانت العادة وجودية أو شرعية.
وأما الثاني، فلا يصح أن يقضى به على من تقدم البتة، حتى يقوم دليل على الموافقة من خارج، فإذا ذاك يكون قضاء على ما مضى بذلك الدليل لا بمجرى العادة، وكذلك في المستقبل، ويستوي في ذلك أيضا العادة الوجودية والشرعية1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يحتاج إلى توفيق بينه وما سبق في أول المسالة الرابعة عشرة من أن العوائد الشرعية التي أمر بها الشارع أو نهى عنها أو أذن فيها لا تتبدل، بل هي دائمة ثابتة، وأن التي تتبدل إنما هي العوائد غير الشرعية، فإنها قابلة للتبدل في بعض أنواعها، إلا أن يقال: إنها ليست الشرعية بالمعنى المتقدم بل مثل اختلاف الهيئات والملابس، واختلاف التعبير والاصطلاحات بين الناس، فقد تكون في عهد الشرع على حال ثم تتبدل، فتعد شرعية بهذا المعنى بحصول الإذن بها على وجه عام، ثم تتغير العادة ويختلف حكم الشارع عليها لرجوعها إلى أصل شرعي آخر، فلا يتأتى الحكم بها على القرون الماضية؛ فإنها غير مستقرة في ذاتها، على أنها لو كانت من قسم الشرعيات المطلوبة؛ فإنها حيث كانت متبدلة غير مستقرة لا يتأتى الحكم بها على القرون الماضية الذي هو موضوع المسألة. "د".

 

ج / 2 ص -510-       وإنما قلنا ذلك؛ لأن الضرب الأول راجع إلى عادة كلية أبدية، وضعت عليها الدنيا وبها قامت مصالحها في الخلق، حسبما بين ذلك الاستقراء، وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضًا؛ فذلك الحكم الكلي باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ وهي العادة التي تقدم الدليل على أنها معلومة لا مظنونة، وأما الضرب الثاني؛ فراجع إلى عادة جزئية داخلة تحت العادة الكلية1، وهي التي يتعلق بها الظن لا العلم، فإذا كان كذلك؛ لم يصح أن يحكم بالثانية على من2 مضى لاحتمال التبدل والتخلف بخلاف الأولى.
وهذه قاعدة محتاج إليها في القضاء على ما كان عليه الأولون؛ لتكون حجة في الآخرين، ويستعملها الأصوليون كثيرا بالبناء عليها، ورد القضاء بالعلمية3 إليها وليس هذا الاستعمال بصحيح بإطلاق، ولا فاسد بإطلاق؛ بل الأمر فيه يحتمل الانقسام كما تقدم، وينشأ بين القسمين قسم ثالث يشكل الأمر فيه: هل يلحق بالأول فيكون حجة، أم لا فلا يكون حجة؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فالعادة الكلية أنه لا بد للإنسان من الطعام والمسكن والملبس، وتحت كل أنواع وهيئات كثيرة، صالحة لوقوع ذلك الكلي في ضمنها. "د".
2 في الأصل: "ما".
3 كذا في الأصل و"خ" و"ط" و"م"، وفي "د": "بالعامة.

 

ج / 2 ص -511-       المسألة السابعة عشرة1:
المفهوم من وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية تعظم بحسب عظم المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها، وقد علم من الشريعة أن أعظم المصالح جريانُ الأمور الضرورية الخمسة المعتبرة في كل ملة، وأن أعظم المفاسد ما يَكِرُّ2 بالإخلال عليها.
والدليل علي ذلك ما جاء من الوعيد على الإخلال بها؛ كما في الكفر وقتلِ النفس وما يرجع إليه، والزنى والسرقة وشرب الخمر وما يرجع إلى ذلك مما وضع له حد أو وعيد3، بخلاف ما كان راجعا إلى حاجي أو تكميلي؛ فإنه لم يختص بوعيد في نفسه، ولا بحد معلوم يخصه؛ فإن كان كذلك؛ فهو راجع إلى أمر ضروري، والاستقراء يبين ذلك؛ فلا حاجة إلى بسط الدليل عليه.
إلا أن المصالح والمفاسد ضربان:
أحدهما:
ما به صلاح العالم أو فساده، كإحياء النفس في المصالح، وقتلها في المفاسد.
والثاني:
ما به كمال ذلك الصلاح أو ذلك الفساد، وهذا الثاني ليس في مرتبة واحدة بل هو على مراتب، وكذلك الأول على مراتب أيضًا، فإنا إذا نظرنا إلى الأول وجدنا الدين أعظم الأشياء، ولذلك يهمل في جانبه النفس والمال وغيرهما4، ثم النفس، ولذلك يهمل في جانبها اعتبار قوام النسل والعقل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر حولها: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20-48-61".
2 أي: يرجع.
3 في نسخة "ماء/ ص215": "حدًّا ووعيدًا".
4 فالجهاد لحراسة الدين، ولتكون كلمة الله هي العليا تبذل في سبيله الأنفس والأموال والأولاد. "د".

 

ج / 2 ص -512-       والمال؛ فيجوز عند طائفة من العلماء لمن أكره بالقتل على الزنى أن يقي نفسه به1 وللمرأة إذا اضطرت وخافت الموت ولم تجد من يطعمها إلا ببذل بُضعِها؛ جاز لها ذلك؛ وهكذا سائرها.
ثم إذا نظرنا إلى بيع الغرر مثلا وجدنا المفسدة في العمل [به]2 على مراتب؛ فليس مفسدة بيع حبل الحبلة كمفسدة بيع الجنين في بطن أمه الحاضرة الآن ولا بيع الجنين في البطن كبيع الغائب على الصفة، وهو ممكن الرؤية من غير مشقة، وكذلك المصالح في التوقي عن هذه الأمور، فعلى هذا إن كانت الطاعة والمخالفة تنتج من المصالح أو المفاسد أمرا كليا ضروريا؛ كانت الطاعة لاحقة بأركان الدين، والمعصية كبيرة من كبائر الذنوب، وإن لم تنتج إلا أمرا جزئيا؛ فالطاعة3 لاحقة بالنوافل واللواحق الفضلية، والمعصية صغيرة من الصغائر، وليست الكبيرة في نفسها مع كل ما يعد كبيرة على وزان واحد، ولا كل ركن مع ما يعد ركنا على وزان واحد أيضا، كما أن الجزئيات في الطاعة والمخالفة ليست على وزان واحد؛ بل لكل منها مرتبة تليق بها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا القول حكاه بعضهم على إطلاقه وأخذ به سحنون، ولكنه شرط أن يكون المكره به هو المرأة نفسها، وأن لا يكون لها زوج، ومن حجة هذا المذهب أن قوله تعالى:
{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَان} جعل الإكراه على القول عذرا ينبغي أن يلحق به الفعل، ويحكم له بحكمه؛ إما على الإطلاق، أو على شرط أن لا يتعلق به حق لمخلوق. "خ".
قلت: انظر تفصيل المسألة في: "تفسير القرطبي" "10/ 186"، و"أحكام القرآن" "3/ 1074"، لابن العربي، و"الطرق الحكمية" "47-49"و"بدائع الصنائع" "9/ 4484". و"الإكراه في الشريعة الإسلامية" "ص124 وما بعدها".
2 سقطت من "ط".
3 في "د": "فطاعة".

 

ج / 2 ص -513-       المسألة الثامنة عشرة:
الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلَّف التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني1.
أما الأول، فيدل عليه أمور:
منها الاستقراء؛ فإنا وجدنا الطهارة تتعدى محل موجبها2، وكذلك الصلوات خصت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة، إن خرجت عنها لم تكن عبادات، ووجدنا الموجِبَات فيها تتحد مع اختلاف الموجَبَات3، وأن الذكر المخصوص4 في هيئة ما مطلوب، وفي هيئة أخرى غير مطلوب، وأن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في تقرير هذه القاعدة: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "28/ 385 وما بعدها".
وإعلام الموقعين" "1/ 299-301"، والاعتصام للمصنف "2/ 132-133"- ونقله عن مالك- والقواعد" لشيخ المصنف المقري "قاعدة" رقم 73، 74، 296"، ونقله عن الشافعي، ونقل عن أبي حنيفة "الأصل التعليل حتى يتعذر"، وقال: "والحق أن ما لا يعقل معناه تلزم صورته وصفته" و"البرهان" "2/ 926" للجويني، و"تخريج الفروع على الأصول" "ص38-40" للزنجاني، و"مذكرة في أصول الفقه" "ص34".
وقرر المصنف فيما مضى "1/ 334" أن العبادات وضعت لمصالح العباد في الدنيا أو في الآخرة على الجملة وإن لم يعلم ذلك على التفصيل.
2 هذا في الطهارة الحديثة بخلاف الثوب والبدن والمكان من الأخباث؛ فأنها لا تتعدى، بل تقف عند حد من أصيب بالنجاسة. "د".
3 فالحيض والنفاس يسقطان الصلاة، ولا يسقطان الصوم ولا سائر العبادات المفروضة من أركان الإسلام. "د".
4 هذا كثير؛ فالقنوت -وهو ذكر ودعاء- يطلب في بعض الصلوات دون بعض، والدعاء يطلب في السجود لا في الركوع، والنوافل تطلب في أوقات وتمنع فيما بعد صلاة الصبح إلى أن تشرق الشمس مثلا، وهكذا من أوقات النهي، وكل هذا لا يعرف إلا بموقف من قبل الوحي، وليس للعقل فيه مجال الخروج عما حد. "د".

 

ج / 2 ص -514-       طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطهور وإن أمكنت النطافة بغيره، وأن التيمم -وليست فيه نظافة حسية- يقوم1 مقام الطهارة بالماء المطهر، وهكذا سائر العبادات؛ كالصوم والحج2، وغيرهما؛ وإنما فهمنا من حكمة التعبد العامة3 الانقياد لأوامر الله تعالى، وإفراده بالخضوع، والتعظيم لجلاله والتوجه إليه، وهذا المقدار4 لا يعطي علة خاصة يُفهم منها حكم خاص؛ إذ لو كان كذلك؛ لم يحد لنا أمر مخصوص، بل كنا نؤمر بمجرد التعظيم بما حد وما لم يحد، ولكان المخالف لما حد غير ملوم إذا كان التعظيم بفعل العبد المطابق لنيته حاصلا، وليس كذلك باتفاق، فعلمنا قطعا أن المقصود الشرعي الأول التعبد لله بذلك المحدود، وأن غيره غير مقصود شرعًا.
والثاني:
أنه لو كان المقصود التوسعة في وجوه التعبد بما حد وما لم يحد؛ لنصب الشارع عليه دليلا واضحا، كما نصب على التوسعة في وجوه العادات أدلة5 لا يوقف معها على المنصوص عليه دون ما شابهه وقاربه وجامعه في المعنى المفهوم من الأصل المنصوص عليه، ولكان 6 ذلك يتسع في أبواب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: حيث لا يقوم الماء الطاهر غير المطهر الذي هو منقىً من كل أثر. "د".
2 أي: فهما من الأمور المحدودة التي لا يفهم تحديدها من غير الشرع، ولا يستقل العقل بإدراك حدودها وحكمها. "د".
3 في نسخة "ماء/ ص216" بدل "العامة كلمة "بالجميع".
4 في نسخة ماء / ص216": "والتوجه إليه، لا غير ذلك؛ لأن هذا المقدار.....".
5 كما في حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن:
"كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟" إلى أن قال: "أجتهد رأيي ولا آلو"، فأقره على الاجتهاد برأيه في القضاء فيما لا نص فيه إذا جامع ما نص عليه في المعنى المفهوم منه". "د".
قلت: والحديث ضعيف، وسيأتي عند المصنف "4/ 298" وتخريجه هناك.
6 مرتب على قوله: "لنصب"؛ أي: ولو نصب الأدلة لاتسع الأمر في العبادات، وقوله: ولما لم نجد.... إلخ" أي: ولما لم تقم الأدلة على التوسعة فيها، ولا وجدت فيها التوسعة؛ دل على المطلوب. "د".

 

ج / 2 ص -515-       العبادات، ولما لم نجد ذلك كذلك بل على خلافه؛ دل على أن المقصود الوقوف عند ذلك المحدود؛ إلا أن يتبين بنص1 أو إجماع معنى مراد في بعض الصور، فلا لوم على من اتبعه، لكن ذلك قليل، فليس بأصل؛ وإنما الأصل ما عم في الباب وغلب في2 الموضع.
وأيضا؛ فإن المناسب فيها3 معدود عندهم فيما لا نظير له4، كالمشقة في قصر المسافر وإفطاره، والجمع بين الصلاتين، وما أشبه ذلك5.
وإلى هذا؛ فأكثر العلل المفهومة الجنس في أبواب العبادات غير مفهومة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك كما في قوله عليه الصلاة والسلام فيمن وقصته الدابة:
"لا تقربوه طيبا، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" فقد نص على حكمته عدم مسه بالطيب، فإذا حمل عليه كل من مات قبل تمام حجه، وأنه لا يمس بطيب لهذا لمعنى المتبين بالنص؛ فلا مانع منه، وهكذا ما كان من قبيله، وهو كمحترز لقوله: "يتسع"؛ أي: بل هو قليل كهذا. "د".
قلت: الحديث في "صحيح البخاري" "كتاب جزاء الصيد، باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة 4/ 52/ رقم 1839"، وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما.
2 في ط": "وغلب على....."
3 المناسب: هو ما كانت له علة مفهومة وحكمة مناسبة، تدركها العقول، ويقر بها، وفيها؛ أي: في العبادات. وفي "ط": ما هو فيها".
4 أي: إن المناسب وهو الوصف الذي اعتبر علة للحكم في العبادات عدوه من أقسام ما لا نظير له، وهو قسم مما عدل به عن سنن القياس، فالمشقة لم يعتد بها في غير الصوم وقصر الصلاة في السفر، ولو كانت المشقة أضعاف ما يحصل في السفر، وأصل القياس مبني على تعدية حكمة العلة لكل فرع وجدت فيه، فكان ذلك خروجا عن سنن القياس، وسمي هذا النوع لا نظير له، يعني: وهذا مما يضعف معنى التعليل في العبادات، ويرجع بها إلى التعبد؛ لأنه حتى عند فرض وجود النظر للمعنى فيها؛ فإنه يكون بحالة قاصرة. "د".
5 ليكن على بالك ما قدمه في "ص42"؛ ففيه تعليل لبعض الطاعات.

 

ج / 2 ص -516-       الخصوص، كقوله: "سها1 فسجد"2 وقوله: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"3، ونهيه عن الصلاة طرفي النهار"4، وعلل ذلك بأن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الأمثلة من مسالك العلة الصريحة، فالترتيب بالفاء كزنى ماعز فرجم، والشرط في إذا، واللام في قوله: "أنها تطلع...... إلخ"، ولكنها كما يقول: لا يفهم منها الخصوص. "د".
2 ورد سهوه صلى الله عليه وسلم والسجود بسببه في كثير من الأحاديث، منها في "صحيح البخاري" "كتاب السهو 3/ 92 وما بعدها"، و"صحيح مسلم" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له 1/ 398 وما بعدها".
وظفرت بعبارة فيها: "فسها، فسجد" ضمن حديث أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في التشهد في سجدتي السهو 2/ 240-241/ رقم 395"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب سجدتي السهو فيهما تشهد وتسليم 1/ 273/ رقم 1039"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب ذكر الاختلاف على أبي هريرة في السجدتين 3/ 26" عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
ووَهِم من قال: إن مراد المصنف حديث ذي اليدين؛ إذ ليس فيه هذه اللفظة، قاله الزركشي في "المعتبر" "رقم 117".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الوضوء، باب لا تقبل صلاة بغير طهور 1/ 234/ رقم 135، وكتاب الحيل، باب في الصلاة 12/ 329/ رقم 6954"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة 1/ 204/ رقم 225" عن أبي هريرة.
وورد نحوه عن غير واحد من الصحابة، وخرجتها في تعليقي على "الطهور" لأبي عبيد القاسم بن سلام "رقم 54-58".
4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس 2/ 61/ رقم 588"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها 1/ 566/ رقم 825" عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس.
وفي الباب عن غير واحد من الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، منها عن ابن عمر وسيأتي قريبا.

 

ج / 2 ص -517-       الشمس تطلع وتغرب بين قرني الشيطان1.
وكذلك ما يستعمله الخلافيون في قياس الوضوء على التيمم في وجوب النية بأنها طهارة تعدت محل موجبها، فتجب فيها النية قياسا على التيمم، وما أشبه ذلك مما لا يدل على معنى ظاهر منضبط مناسب يصلح لترتيب الحكم عليه من غير نزاع، بل هو من المسمى شبها2، بحيث لا يتفق على القول به القائلون، وإنما يقيس به من يقيس بعد أن لا يجد سواه، فإذا لم تتحقق لنا علة ظاهرة تشهد لها المسالك الظاهرة3؛ فالركن الوثيق الذي ينبغي الالتجاء إليه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد ذلك في عدة أحاديث، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس 2/ 58/ رقم 582، وباب لا يُتحرى الصلاة قبل غروب الشمس 2/ 60/ رقم 585، وكتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب مسجد قباء 3/ 68/ رقم 1192، وكتاب الحج، باب الطواف بعد الصبح والعصر 3/ 488 / رقم 1629، وكتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده 6/ 335/ رقم 3273"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها 2/ 567" عن ابن عمر مرفوعا:
"ولا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بقرني شيطان" لفظ مسلم، ولفظ البخاري في آخر موطن مذكور: "ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان، أو الشيطان".
2 الراجح أن هذا النوع من القياس ليس بحجة؛ فإنه لخلوه من إدراك المناسبة لا يفيد ظن العلية ظنا يعتد به في تقرير أحكام الله، ثم إن المعتمد في إثبات القياس عمل الصحابة ولم يثبت عنهم أنهم تمسكوا به في حال. "خ".
3 هي المناسبة، والنص بأنواعه، والإجماع، والسبر والتقسيم ثم الدوران، أما الشبه، فليس من المسالك عند الشافعية، قال السبكي: "وقد كثر التشاجر في تعريف هذه المنزلة، ولم أجد لأحد تعريفا صحيحا فيها"، ثم قال: "إنه يطلق على معانٍ، والمراد به هنا وصف مناسبته للحكم ليست بذاته، بل بسبب مشابهته للوصف المناسب لذاته شبها خاصا؛ أي: يشبهه فيما يظن كونه علة الحكم أو مستلزما لها، سواء أكانت المشابهة في الصورة أم المعنى، وذلك كالطهارة =

 

ج / 2 ص -518-       الوقوف عند ما حد، دون التعدي إلى غيره؛ لأنا وجدنا الشريعة حين استقريناها تدور على التعبد في باب العبادات، فكان أصلا فيها.
والثالث:
أن وجوه التعبدات في أزمنة الفترات لم يهتدِ إليها العقلاء اهتداءهم لوجوه معاني العادات؛ فقد رأيت الغالب فيهم الضلال فيها1، والمشي على غير طريق، ومن ثم حصل التغيير فيما بقي من الشرائع المتقدمة، وهذا مما يدل دلالة واضحة على أن العقل لا يستقل بدرك معانيها ولا بوضعها، فافتقرنا إلى الشريعة في ذلك، ولما كان الأمر كذلك عذر2 أهل الفترات في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لاشتراط النية؛ فإنها تناسبه بواسطة كونها عبادة بخلاف الإسكار لحرمة الخمر؛ فإنه مناسب لها بذاته، بحيث يدرك العقل مناسبته لها وإن لم يرد به الشرع، وحينئذ؛ فالشبه -أي هذا النوع من المسالك- يحتاج في إثبات عليته إلى دليل مثبت للعلية، ولذلك قيل في تعريفه: وصف لم تثبت مناسبته للحكم إلا بدليل منفصل، مثاله أن يقال في إلحاق إزالة الخبث بإزالة الحدث في تعين الماء لها: طهارة تراد للصلاة، فلا يجزي فيها غير الماء كالوضوء، فكون كل منهما طهارة تراد للصلاة هو الوصف الجامع بينهما لتعين الماء لهما، وهو وصف شبهي لا تظهر مناسبته لتعين الماء في إزالة الخبث، وقالوا: إنه إذا ثبت بأحد مسالك العلة المعتبرة أن وصف كون الطهارة تراد للصلاة يصح علة تعين الماء لإزالة الخبث لزم، وإلا، فلا يوجبه مجرد اعتبار الماء في الحدث"، ومثله أيضا مثال المؤلف، قال ابن الحاجب: "وتثبت عليه الشبه بجميع المسالك"، وفي شرحه: وقد يقال: الشبه للوصف المجامع لآخر إذا تردد به الفرع بين أصلين، فالأشبه فيهما هو الشبه، كالنفسية والمالية في العبد المقتول تردد بين الحر والفرس مثلا، وهو بالحر أشبه؛ لأن مشاركته له في الأوصاف والأحكام أكثر؛ فتتعارض مناسبتان، فترجع إحداهما، ولكنه ليس من الشبه الذي فيه كلام المؤلف بدليل مثاله. "د".
قلت: انظر عن مسالك العلة "3/ 136-137".
1 أي: الفترات، وانظر: "حجة الله البالغة" "2/ 146".
2 هذا مذهب الأشاعرة من أهل الكلام والأصول، كما في "الحاوي" "2/ 353" للسيوطي، و"تعظيم المنة" "ص167"، و"فتاوى ابن رشد" "3/ 652"، ومذهب المعتزلة والماتريدية أنهم في النار؛ إذ عليهم أن يستدلوا بعقولهم؛ انظر: "جمع الجوامع" "1/ 62"=

 

ج / 2 ص -519-       عدم اهتدائهم؛ فقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
وقال تعالى:
{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} [النساء: 165].
والحجة ها هنا هي التي أثبتها الشرع في رفع تكليف ما لا يطاق، والله أعلم، فإذا ثبت هذا؛ لم يكن بد من الرجوع في هذا الباب إلى مجرد ما حده الشارع، وهو معنى التعبد؛ ولذلك كان الواقف مع مجرد الاتباع فيه أولى بالصواب، وأجرى على طريقة السلف الصالح، وهو رأي مالك1 رحمه الله؛ إذ لم يلتفت في رفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتى اشترط النية والماء المطلق، وإن حصلت النظافة بغير ذلك، وامتنع من إقامة غير التكبير مقامه والتسليم كذلك، ومنع من إخراج القيم في الزكاة، واقتصر على مجرد العدد في الكفارات؛ إلى غير ذلك من مبالغاته الشديدة في العبادات التي تقتضي الاقتصار على محض المنصوص عليه أو ما ماثله، فيجب أن يؤخذ في هذا الضرب التعبد دون الالتفات إلى المعاني أصلا يبنى2 عليه، وركنا يُلجأ إليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= السبكي، و"المسامرة" "ص274-275/ مع نتائج المذاكرة"، ومذهب أهل السنة والجماعة أنهم يُمتحنون في عرصات القيامة بنار يأمرهم الله بدخولها، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما، ومن لم يدخلها يدخله الله فيها، وعلى هذا أدلة كثيرة، انظرها في: "الجواب الصحيح" "1/ 312"، والا عتقاد" "ص91-92" للبيهقي -واختار هذا القول- و"طريق الهجرتين" "ص 689 وما بعدها" و"تفسير ابن كثير" "3/ 35"، وفتح الباري" "3/ 45-46"، و"الفصل في الملل والأهواء والنحل" "4/ 74"، و"أضواء البيان" "3/ 483".
1 الفروع المذكورة ليست من انفرادات مالك رحمه الله تعالى، بل قال بأغلبها الشافعي وأحمد أيضا، انظر مثلا: الفرع الأول في "الطهور" لأبي عبيد "ص 201 وما بعدها مع تعليقنا عليه".
2 في "ط": ينبني".

 

ج / 2 ص -520-       فصل:
وأما أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني، فلأمور:
أولها:
الاستقراء، فإنا وجدنا الشارع قاصدا لمصالح العباد، والأحكام العادية1 تدور [معه]2 حيثما دار، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز، كالدرهم بالدرهم إلى أجل، يمتنع في المبايعة3، ويجوز في القرض، وبيع الرطب باليابس، يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة، ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة4، ولم نجد هذا في باب العبادات مفهوما كما فهمناه في العادات، وقال تعالى:
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179].
وقال:
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].
وفي الحديث:
"لا يقضي القاضي وهو غضبان"5.
وقال:
"لا ضرر ولا ضرار"6.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الأحكام المتعلقة بالعادات نظير الأحكام العبادية.
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 لما فيها من المشاحة والمغالبة، وقصد الاستفادة المالية بخلاف القرض الذي هو لوجه الله خاصة، ففيه تزكية نفس المقرض كالصدقة، وفيه تنفيس كُرَب الناس، ويقع* الحرج إذا منع القرض أيضا. "د".
قلت: ويمكن التمثيل على ما ذكره المصنف سابقا بالتسعير.
4 كما في ثمر العرايا توسعة على الخلق، ولرفع الحرج والضرر على المعري، إذا تردد المعرى داخل بستانه ونخله، فكان منع ذلك مؤديا إلى ألا يعري أحد أحدا نخله. "د".
5 مضى تخريجه "ص231".
6 مضى تخريجه "ص72".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "ويرفع".

 

ج / 2 ص -521-       وقال: "القاتل لا يرث"1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج النسائي في "الكبرى" "كتاب الفرائض"-كما في "تحفة الأشراف" "6/ 220"، والدارقطني في "السنن" "4/ 96"، وابن عدي في "الكامل" "1/ 293"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "6/ 220" من طريق إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ليس للقاتل من الميراث شيء".
ثم أخرجه ابن عدي في "الكامل" "1/ 293"، والدارقطني من طريق إسماعيل بن عياش عن ابن جريج ويحيى بن سعيد، وزاد الدارقطني: "والمثنى بن الصباح عن عمرو به، إسناده ضعيف، إسماعيل بن عياش ضعيف في روايته عن غير الشاميين، وهذا منها، إلا أنه توبع، فقد أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الديات، باب ديات الأعضاء، 4/ 189-190/ رقم 4564"، والبيهقي من طريق محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب به، وذكر حديثا طويلا فيه: "ليس للقاتل شيء، وإن لم يكن له وارث، فوارثه أقرب الناس إليه، ولا يرث القاتل شيئا" وإسناده فيه ضعف أيضا، سليمان صدوق، فقيه في حديثه بعض اللين، والراوي عنه ابن راشد صدوق يهم.
ولكن للحديث شواهد عديدة، منها حديث أبي هريرة بلفظ المصنف، أخرجه الترمذي في "الجامع" "2109"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2645، 2735"، والدارقطني في "السنن" "4/ 96"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 220"، وابن عدي في "الكامل" "1/ 322" بسند ضعيف فيه إسحاق بن عبيد الله بن أبي فروة، قال الترمذي عقبه: "هذا حديث لا يصح، لا يعرف إلا من هذا الوجه، وإسحاق بن عبيد الله بن أبي فروة قد تركه بعض أهل الحديث منهم أحمد بن حنبل"، وقال البيهقي: "إسحاق بن عبيد الله لا يحتج به، إلا أن شواهده تقويه".
قلت: نعم هو صحيح بشواهده، منها حديث عمر، أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 49"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2646"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 219"، والدارقطني في "السنن" "4/ 96"، ومنها حديث ابن عباس أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "6/ 404"/ رقم 17787"، ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "6/ 220".
وانظر: "التلخيص الحبير" "3/ 85"، و"نصب الراية" "4/ 428"، و"الإرواء" "رقم 1670-1672".

 

ج / 2 ص -522-       "ونهى عن بيع الغرر"1.
وقال:
"كل مسكر حرام"2.
وفي القرآن:
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والذي فيه غرر، 4/ 1153/ رقم 1513" عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر"، وبيع الحصاة فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها:
أن يقول: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها، أو بعتك من هذه الأرض من هنا إلى ما انتهت إليه هذه الحصاة.
والثاني:
أن يقول: بعتك على أنك بالخيار إلى أن أرمي هذه الحصاة.
والثالث:
أن يجعلا نفس الرمي بالحصاة بيعا، فيقول: إذا رميت هذا الثوب بالحصاة، فهو مبيع منك بكذا.
وبيع الغرر: النهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة، كبيع الآبق والمعدوم والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن..... ونظائر ذلك، وكل هذا بيعه باطل؛ لأنه غرر من غير حاجة، ومعنى الغرر الخطر والغرور والخداع، وعلم أن بيع الملامسة وبيع المنابذة وبيع حبل الحبلة وبيع الحصاة وعسيب الفحل وأشباهها من البيوع التي جاء فيها نصوص خاصة هي داخلة في النهي عن الغرر، ولكن أفردت بالذكر ونهي عنها لكونها من بياعات الجاهلية المشهورة.
2 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام 3/ 1587/ رقم 2002" عن جابر مرفوعا:
"كل مسكر حرام".
وأخرج برقم "2003" عن ابن عمر مرفوعا:
"كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام".
وأخرج البخاري في "صحيحه" كتاب الأشربة، باب الخمر من العسل، 10/ 41/ رقم 5585" ومسلم في "صحيحه" كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، 3/ 1585/ رقم 2001" عن عائشة، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع؟ فقال:
"كل شراب أسكر، فهو حرام".

 

ج / 2 ص -523-       وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91].
إلى غير ذلك مما لا يحصى، وجميعه يشير بل يصرح باعتبار المصالح للعباد، وأن الإذن دائر معها أينما دارت، حسبما بينته مسالك العلة1، فدل ذلك على أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني.
والثاني:
أن الشارع توسع2 في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدم تمثيله، وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول3، ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني، لا الوقوف4 مع النصوص، بخلاف باب العبادات5، فإن المعلوم فيه خلاف ذلك، وقد توسع في هذا القسم مالك رحمه الله، حتى قال فيه بقاعدة المصالح المرسلة6، وقال فيه بالاستحسان7، ونُقِلَ عنه أنه قال: "إنه تسعة أعشار

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وما ذكره من الأمثلة الثانية من باب مسلك التنبيه والإيماء الذي هو ترتيب الحكم على الوصف، فيفهم لغة أنه علة له؛ ولذا جعلوه من مسلك النص غير الصريح "د".
2 كمقابل لقوله في الوجه الثاني في العبادات: "ولكان ذلك يتسع في أبواب العبادات". "د".
3 هذا هو تعريف أبي زيد للمناسب، وعرفه غيره بأنه وصف ظاهر منضبط يحصل عقلا من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء، وهو حصول مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تقليلها، وقالوا: إن تعريف أبي زيد لا يمكن إثباته في المناظرة؛ إذ يقول الخصم لا يتلقاه عقلي بالقبول، وإن كان التعريفان متقاربين في المعنى "د".
4 في نسخة "ماء/ ص217": "بالوقوف".
5 ليكن على بالك ما قرره المصنف "1/ 111" أن تلمس "الحكم" في هذا الباب من ملح العلم لا من متنه عند المحققين، وهذا ما ذكره شيخ المصنف المقري في كتابه "القواعد" "2/ 406".
"6و 7" بيان المقام على وجه يشفي النفس يرجع فيه إلى كتاب "الاعتصام" "2/ 607وما بعدها -ط ابن عفان" للمؤلف في تحديدهما وتمثيلهما. "د".  =

 

ج / 2 ص -524-       العلم"، حسبما يأتي إن شاء الله1.
والثالث:
إن الالتفات إلى المعاني قد كان معلوما في الفترات، واعتمد عليه العقلاء، حتى جرت بذلك مصالحهم، وأعملوا كلياتها على الجملة، فاطردت لهم، سواء في ذلك أهل الحكمة الفلسفية وغيرهم، إلا أنهم قصروا في جملة من التفاصيل، فجاءت الشريعة لتتم مكارم الأخلاق، فدل على أن المشروعات في هذا الباب جاءت متممة لجريان التفاصيل في العادات على أصولها المعهودات، ومن ههنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية، كالدية، والقسامة، والاجتماع2 يوم العروبة -وهي الجمعة- للوعظ والتذكير، والقراض، وكسوة الكعبة، وأشباه ذلك مما كان عند أهل الجاهلية محمودًا، وما كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق التي تقبلها العقول، وهي كثيرة، وإنما كان3 عندهم من التعبدات الصحيحة في الإسلام أمور نادرة مأخوذة عن ملة إبراهيم عليه السلام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقال "خ": "هي مصلحة يتلقاها العقل بالقبول، ولا يشهد أصل خاص من الشريعة بإلغائها أو اعتبارها، وإنما يتمسك بها الإمام مالك على شرط التئامها بالمصالح التي تشهد لها الأصول، وقد اعترض القول بها إمام الحرمين من وجهين: أحدهما أنها تستلزم المفسدة من وجهين، أحدهما تحكيم العوام بحسب آرائهم في ملاءمتهم ومنافرتهم، والثاني اختلاف الأحكام باختلاف الأشخاص والبقاع والأوقات، وأجاب المالكية عن ذلك بأن الحكم في المصلحة منوط بالاجتهاد؛ لأنه دليل حكم لا حكم حتى يعمل بها العامي، وعن الثاني بالتزامه وهو معنى دوام الشريعة ومناسبتها لكل زمان" قلت: مقولة مالك في "العتبية" "4/ 155- مع الشرح"، وانظر: "الذخيرة" "1/ 152-153- ط دار الغرب" للقرافي، و"أساس القياس" "ص 98-99" للغزالي.
1 انظر: "5/ 198".
2 أي: باعتبار ما فيه من المصلحة العامة، حتى يكون مما نحن فيه، لا من جهة كون الصلاة وسماع الخطبة عبادة. "د".
3 من تتمة الدليل الثالث. "د".

 

ج / 2 ص -525-       فصل:
فإذا تقرر هذا، وأن الغالب في العادات الالتفات إلى المعاني، فإذا وجد فيها التعبد، فلا بد من التسليم والوقوف مع المنصوص، كطلب الصداق1 في النكاح، والذبح في [المحل المخصوص2 في] الحيوان المأكول، والفروض المقدرة في المواريث، وعدد الأشهر في العدد الطلاقية والوفوية، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا مجال للعقول في فهم مصالحها الجزئية، حتى يقاس عليها غيرها، فإنا نعلم أن الشروط المعتبرة في النكاح من الولي والصداق وشبه ذلك، لتمييز النكاح عن السفاح، وأن فروض المواريث ترتبت على ترتيب القربى من الميت، وأن العدد والاستبراءات المراد بها استبراء الرحم خوفا من اختلاط المياه، ولكنها أمور جملية، كما أن الخضوع والتعظيم والإجلال علة شرع العبادات، وهذا المقدار لا يقضي بصحة القياس على الأصل فيها، بحيث يقال: إذا حصل الفرق بين النكاح والسفاح بأمور أخر مثلا لم تشترط تلك الشروط، ومتى علم براءة الرحم لم تشرع العدة بالأقراء ولا بالأشهر، ولا ما أشبه ذلك.
فإن قيل: وهل توجد لهذه الأمور التعبديات علة يفهم منها مقصد الشارع. على الخصوص أم لا؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تأمل، فإن فيه المعنى الذي أشارت إليه الآية:
{وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}، أي: فالصداق والنفقة مكملان لحق القيامة والرياسة للأزواج عليهن، وسيأتي للمؤلف تعليله بتمييز النكاح عن السفاح، وإن كان قد يقال: إن الزنا فيه دفع مال من الزاني للبغي. "د".
2 أي: مع أن تطهير الرحم من الدم الذي هو مسكن الجراثيم المرضية غالبا قد لا يتوقف على خروجه من الودجين والحلقوم، وليراجع أهل الذكر في هذا فقد يكون له علة ومعنى مقصود. "د".
قلت: وما بين المعقوفتين سقط من الأصل.

 

ج / 2 ص -526-       فالجواب أن يقال: أما أمور التعبدات، فعلتها المطلوبة مجرد الانقياد، من غير زيادة ولا نقصان، ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة، قالت للسائلة: "أحرورية أنت؟" إنكارا عليها أن يسئل عن مثل هذا؛ إذ لم يوضع التعبد أن تفهم علته الخاصة، ثم قالت: "كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة"1، وهذا يرجح التعبد على التعليل بالمشقة، وقول ابن المسيب في مسألة تسوية الشارع بين دية الأصابع: "هي السنة با ابن أخي"2، وهو كثير، ومعنى هذا التعليل أن لا علة.
وأما العاديات وكثير من العبادات أيضا، فلها معنى مفهوم، وهو ضبط وجوه المصالح؛ إذ لو ترك الناسُ والنظرَ لانتشر3 ولم ينضبط، وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي، والضبط أقرب إلى الانقياد ما وجد إليه سبيل، فجعل الشارع للحدود مقادير معلومة،وأسباب معلومة لا تتعدي، كالثمانين في القذف، والمئة وتغريب العام في الزنا على غير إخصان، وخص قطع اليد بالكوع4 وفي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة 1/ 265/ رقم 335".
وقولها رضي الله عنها: "أحرورية أنت؟" أي: أنت تنتسبين إلى الحروريين، وهم جماعة خالفوا عليا رضي الله عنه من الخوارج، يبالغون في العبادات، ينتسبون إلى حروراء، قرية بالكوفة على ميلين منها. "ماء / ص218".
2 نحوه في "معالم السنن" للخطابي "4/ 28"، و"فقه الإمام سعيد بن المسيب" "4/ 67"، وسيأتي بتمامه في "5/ 387".
3 أي: لتشتت وكثر فيه الخلاف والتفرق.
4 اختلف أهل اللغة فيه على أقوال:
الأول:
هو طرف الزند الذي يلي الإبهام، نقله الجوهري في "الصحاح" "3/ 1278"، وبه قال ابن السكيت، كما في "تهذيب اللغة" "3/ 41"، وكذا في "المحكم" "2/ 200" لابن سيده، و"الكليات" "5/ 124" للكفوي. =

 

ج / 2 ص -527-       النصاب المعين1، وجعل مغيب الحشفة حدًّا في أحكام كثيرة، وكذلك الأشهر والقروء في العدد، والنصاب والحول في الزكوات، وما لا ينضبط رد إلى أمانات المكلفين، وهو المعبر عنه بالسرائر، كالطهارة للصلاة، والصوم، والحيض والطهر، وسائر ما لا يمكن رجوعه إلى أصل معين ظاهر، فهذا مما قد يظن التفات الشارع إلى القصد إليه.
وإلى هذا المعنى2 يشير أصل سد الذارئع، لكن له نظران:
نظر من جهة تشعبه وانتشار وجوهه إذا تتبعناه، كما في مذهب مالك مثلا، مع أن كثيرا من التكليفات ثبت كونها موكولة إلى أمانة المكلف، فعلى هذا لا ينبغي أن يُلتفت منه3 إلا إلى المنصوص عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الثاني:
هو طرف الزند في الذراع مما يلي الرسغ، نقله الليث، وقال: "هكذا زعمه أبو الدفيش الأعرابي، وهما كوعان، كذا في "تاج العروس" "22/ 141-142"، واللسان" "8/ 316، و"تهذيب اللغة" "3/ 41".
والثالث:
من الأقوال: أنه أخفاهما وأشدهما درمة، وهذا نقله الصاغاني في "العباب"، وفسر "الدرم" بالتحريك بأن لا يظهر للعظم حجم، وكذا في "التاج" "22/ 142".
فهذه ثلاثة أقوال في تفسير "الكوع" ذكرها الزبيدي في "القول المسموع في الفرق بين الكوع والكرسوع" "ص19-21"، والمراد والله أعلم من كلام المصنف القول الثاني.
1 يعني: نصاب القطع في السرقة.
2 أي: فقاعدة سد الذرائع -التي هي منع الشارع لأشياء لجرِّها إلى منهي عنه، والتوسل بها إليه- هذه القاعدة تلتئم وتتناسب تمام المناسبة مع المعنى، وهو ضبط وجوه المصالح خشية الانتشار وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي، والضبط في هذا أقرب إلى الانقياد، لكن السد الذرائع نظران..... إلخ، أي: فلا يؤخذ هكذا بطريق كلي بل لا بد فيه من إدخاله تحت هذا الضابط الذي قرره. "د".
3 أي: من المعنى المذكور إلا ما نص عليه من الشارع بذكر ضوابطه؛ لأن كثيرا من التكاليف وَكَّلَها الشارع إلى أمانة المكلف، فلا نتوسع في ضبطها وتقييدها بحجة سد الذرائع وخوف الانتشار، والنظر الآخر أنه وإن انتشرت فروعه؛ لكن له ضوابط سهلة المأخذ يمكن التعويل عليها، فمتى أمكن إجراء الضوابط في مظانها أخذ بها وعول عليها، فيكون هذا توسطا بين الأمرين وإعمالا لكلا النظرين. "د".

 

ج / 2 ص -528-       ونظر من جهة أن له ضوابط قريبة المأخذ وإن انتشرت فروعه، وقد فهم من الشرع الالتفات إلى كليِّه، فليجر بحسب الإمكان في مظانه، وقد منع الشارع من أشياء من جهة جرها إلى منهي عنه والتسول بها إليه، وهو أصل مقطوع به على الجملة قد اعتبره السلف الصالح، فلا بد من اعتباره، ومن الناس من توسط بنظر ثالث، فخص هذا المختلف فيه بالظاهر1، فسلط الحكام على ما اطلعوا عليه منه ضبطا لمصالح العباد، ووكل من لم يطلع عليه إلى أمانته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كان النظرين السابقين لم يفرق فيهما بين الظواهر والسرائر لكن هذا الثالث فرق بينهما بما قاله. "د".

 

ج / 2 ص -529-       المسألة التاسعة عشرة:
كل ما ثبت فيه اعتبار التعبد؛ فلا تفريع فيه1، وكل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد2؛ فلا بد فيه من اعتبار التعبد؛ لأوجه:
أحدها:
أن معنى الاقتضاء أو التخيير لازم للمكلف3 من حيث هو مكلف، عرف المعنى الذي لأجله شرع الحكم أو لم يعرفه، بخلاف اعتبار المصالح فإنه غير لازم، فإنه عبد مكلف، فإذا أمره سيده لزمه امتثال أمره باتفاق العقلاء، بخلاف المصلحة؛ فإن اعتبارها غير لازم له من حيث هو عبد مكلف على رأي المحققين، وإذا كان كذلك؛ فالتعبد لازم لا خيرة فيه، واعتبار المصلحة فيه الخيرة، [وما فيه الخيرة]4 يصح تخلفه عقلا، وإذا وقع الأمر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا يقاس فيه ولما كانت هذه الدعوى الأولى واضحة لم يستدل عليها، وإن كان يؤخذ التنبيه عليها أثناء الاستدلال على الدعوى الثانية، ولم يقل: "ففيه التفريع"؛ لأنه مع كونه متشعب الخلاف بين القائلين بالقياس، فإن الذي يعنيه هو إثبات أن فيه أيضا نوع من التعبد بمعنى من المعاني التي سيقررها. "د".
2 أي: دون أن يثبت التعبد، وليس الغرض أن يثبت اعتبار عدم التعبد، وإلا لتناقض الكلام، وقوله: "فلا بد فيه من اعتبار التعبد" ليس المراد به التعبد بالمعنى الخاص المتقدم الذي يجب ألا يدخله القياس والتفريع، بل المراد به أن يكون لله فيه حق، إذا قصده المكلف بالفعل أثيب، وتكون مخالفته قبيحة يستحق العقاب عليها، وينضم إليه معنى آخر وهو أنه لا بد لنا في كل مصلحة عرفناها من وقفة عندها: هل تعينت هذه العلة للمصلحة بحيث لا يكون للحكم علة ومصلحة إلا هذه؟ فهذا التوقف نوع من التعبد، بمعنى عدم معقولية المعنى تعقلا كاملا، وغير ذلك من المعاني الآتية التي يتقرر بها معنى التعبد في الأوجه المذكورة بعد، فالتعبد هنا بمعنى عام لا ينافي القياس والتفريع إذا وجدت شروطه. "د".
3 أي: فعليه الانقياد ولا يخلص من التكليف إلا بالامتثال بخلاف تحقيق المصلحة وتحصيلها، فغير لازم بل نفس معرفة المصلحة في التكليف غير لازمة فضلا عن قصدها. "د".
4 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.

 

ج / 2 ص -530-       والنهي شرعا لم يصح تخلفهما عقلا1 فإنه محال، فالتعبد بالاقتضاء أو التخيير لازم بإطلاق2، واعتبار المصالح غير لازم بإطلاق؛ خلافا لمن ألزم اللطف والأصلح.
وأيضا؛ فإنه3 لازم على رأي من ألزم الأصلح وقال بالحسن والقبح العقليين؛ فإن السيد إذا أمر عبده لأجل مصلحة هي علة الأمر بالعقل، يلزم الامتثال من حيث مجرد الأمر؛ لأن مخالفته قبيحة، ومن جهة اعتبار المصلحة أيضا، فإن تحصيلها واجب عقلا بالفرض، فالأمران على مذهبهم لازمان، ولا يقول أحد منهم: إن مخالفة العبد أمر سيده مع قطع النظر عن المصلحة غير قبيح، [بل هو قبيح]4 على رأيهم وهو معنى لزوم التعبد.
والثاني:
أنا إذا فهمنا بالاقتضاء أو التخيير حكمة مستقلة في شرع الحكم، فلا يلزم من ذلك أن لا يكون ثم حكمة أخرى ومصلحة ثانية وثالثة وأكثر من ذلك، وغايتنا أنا فهمنا مصلحة دنيوية تصلح أن تستقل بشرعية الحكم، فاعتبرناها بحكم الإذن الشرعي، ولم نعلم حصر المصلحة والحكم بمقتضاها في ذلك الذي ظهر، وإذا لم يحصل لنا بذلك علم ولا ظن، لم يصح لنا القطع بأن لا مصلحة للحكم إلا ما ظهر لنا؛ إذ هو قطع على غيب بلا دليل، وذلك غير جائز، فقد بقي لنا إمكان حكمة أخرى شرع لها الحكم، فصرنا من تلك الجهة واقفين مع التعبد5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: عما يقتضيان من اشتغال ذمة المأمور والمنهي حتى يؤدي. "د".
2 أي: سواء فيما ثبت فيه اعتبار التعبد وما ثبت فيه اعتبار المعاني، وكذا اعتبار المصالح غير لازم فيما ثبت فيه اعتبار التعبد، وهو ظاهر، ولا فيما ثبت فيه اعتبار المعاني كما قال. د"
3 أي: التعبد "د".
4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
5 وهو هنا بمعنى عدم القطع بمعقولية المعنى مستقلا. "د".

 

ج / 2 ص -531-       فإن قيل: لو جاز ذلك لم نقضِ بالتعدي1 على حال، فإنا إذا جوزنا وجود حكمة أو مصلحة أخرى، لم نجزم بأن الحكم لها2؛ فقط لجواز أن تكون جزء علة3، أو لجواز خلو الفرع عن تلك الحكمة التي جهلناها وإن وجدت فيه العلة التي علمناها، فإذا أمكن ذلك، لم يصح الإلحاق والتفريع حتى نتحقق أن لا علة سوى ما ظهر، ولا سبيل إلى ذلك، فكذلك لا سبيل إلى القياس ولا القضاء بأن ذلك الحكم مشروع لتلك العلة.
فالجواب أن القضاء بالتعدي لا ينافي جواز4 التعبد؛ لأن القياس قد صح كونه دليلا شرعيا، ولا يكون شرعيا إلا على وجه نقدر على الوفاء به عادة، وذلك إذا ظهر لنا علة تصلح للاستقلال بشرعية الحكم، ولم نكلف أن ننفي ما عداها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: تعدي الحكم لما ثبت فيه العلة كما هو الشأن في القياس في المسائل التي عرف فيها اعتبار المعاني والعلل. "د".
2 أي: للحكمة الموجودة الظاهرة في الأصل. "د".
3 أي: وجزء العلة لا يعدي الحكم للفرع، ولا يبني عليه قياس، وقوله: "أو لجواز... إلخ" عطف على سابقه تكميل لتعليل قوله: "لم نجزم بأن الحكم لها فقط" الذي يشمل صورتين: أن يكون لها مع غيرها بأن تكون جزء علة، أو يكون الحكم لها أو لغيرها بأن تكون هناك علة أخرى مستقلة، فقوله أولا: "لجواز" توجيه للاحتمال الأول، وقوله: "أو لجواز" توجيه للاحتمال الثاني، وقوله: "خلو النوع عن تلك الحكمة"، أي: المستقلة أيضا كما أن المعلومة مستقلة، وقوله: "فإذا امكن ذلك"، أي: احتمال أن تكون المعلومة جزء علة، واحتمال أن تكون ليست وحدها المعلل بها وإن كانت علة كاملة، وقوله: "سوى ما ظهر"، أي: لا يوجد جزء آخر متمم للعلة المعلومة، ولا علة أخرى كاملة يصح أن يبني عليها الحكم، وقوله في الجواب: "لكن غلبة الظن كافٍ" فيه جواب التجويز الأول، وقوله: "وأيضًا" فيه جواب التجويز الثاني. "د".
4 جعله جوازا، فكأنه لا يلزم المجتهد أن يراعي إمكان حكمة أخرى، ويعتبر كأمر كمالي بخلاف الوجه الأول، وهو امتثال المأمورات على تفصيل في ذلك معروف في الفروع من جهة النية وعدمها. "د".

 

ج / 2 ص -532-       فإن الأصوليين مما يجوزون كون العلة خلاف ما ظهر لهم، أو كون ذلك الظاهر جزء علة لا علة كاملة، لكن غلبة الظن بأن ما ظهر مستقل بالعلِّية، أو صالح لكونه علة، كافٍ في تعدي الحكم به.
وأيضا فقد أجاز الجمهور تعليل الحكم الواحد بأكثر من علة واحدة1 وكل منها مستقل، وجميعها معلوم، فنعلل بإحداها مع الإعراض عن الأخرى وبالعكس، ولا يمنع ذلك القياس وإن أمكن أن تكون الأخرى في الفرع أو لا تكون فيه، وإذا لم يمنع ذلك فيما ظهر، فأولى أن لا يمنع فيما لم يظهر، فإذا ثبت هذا، لم يبقَ للسؤال مورد، فالظاهر هو المبني عليه حتى يتبين خلافه، ولا علينا.
والوجه الثالث2:
أن المصالح في التكليف ظهر لنا من الشارع أنها على ضربين:
أحدهما:
ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة، كالإجماع، والنص، والإشارة، والسبر3، والمناسبة، وغيرها، وهذا القسم هو الظاهر الذي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر تفصيل ذلك في "المستصفى" "2/ 96"، و"الإحكام" "3/ 218" للآمدي، و"البحر المحيط" "3/ 210-211"، و"البرهان" "2/ 832" و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 167"، و"المسودة" "417"، و"صول الفقه وابن تيمية" "1/ 385-388"، و"كشف الأسرار" "4/ 45"، و"جمع الجوامع" "2/ 245-246 مع "شرح المحلي"، و"نشر البنود" "2/ 145-146"، و"إرشاد الفحول" "209".
2 هذا الوجه إنما يثبت اعتبار التعبد في نوع خاص مما اعتبر فيه المعاني دون التعبد، بخلاف الوجهين السابقين، فعامان في سائر فروعه، والوجه الرابع عام أيضا، وكذلك الخامس والسادس. "د".
3 مثاله أن يقول: المستدل في علة ربا الفضل العلة، أما الطعم، أو الاقتيات، أو الادخار، أو التقدير بالكيل، أو الوزن، ثم يستدل على إبطال اثنين منتفين كون الثالث هو العة، والحق مع من أنكر عده في مسالك العلة كان الوصف المبقي أن اشتمل على مصلحة، فإما أن تكون منضبطة للفهم أو كلية لا تنضبط، فالأول المناسبة، والثاني الشبه، وإن لم يشتمل على مصلحة أصلا، فهو الطرد. "خ".

 

ج / 2 ص -533-       نعلل به، ونقول: إن شرعية الأحكام لأجله.
والثاني:
ما لا يمكن الوصول إلى معرفته بتلك1 المسالك المعهودة، ولا يُطَّلع عليه إلا بالوحي، كالأحكام2 التي أخبر الشارع فيها أنها أسباب للخصب والسعة وقيام أبهة الإسلام، وكذلك التي أخبر في مخالفتها أنها أسباب العقوبات وتسليط العدو، وقذف الرعب، والقحط، وسائر أنواع العذاب الدنيوي والأخروي.
وإذا كان معلوما من الشريعة في مواطن كثيرة أن3 ثم مصالح آخر غير ما يدركه المكَلف، لا يقدر على استنباطها ولا على التعدية بها في محل آخر؛ إذ لا يعرف كون المحل الآخر وهو الفرع وجدت فيه تلك العلة البتة، لم يكن إلى اعتبارها في القياس سبيل، فبقيت موقوفة على التعبد المحض؛ لأنها لم يظهر للأصل المعلل بها شبيه إلا ما دخل تحت الإطلاق أو العموم المعلل4، وإذا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "لتلك".
2 فمثلا ورد:
{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِين} الآية، هل يجعل الاستغفار علة أيضا في قوة الأبدان وسعة العلم، وغير ذلك فقياس على الأمداد بالأموال والبنين؟ وقال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم}، وهل يقاس على الفشل وذهاب القوة والعزة ذهاب القوة البدنية والأموال وغيرها؟ فهذه الأسباب ذكرها الشرع عللا لأحكام لكنها لا تعلم إلا من جهته، فهل يدخل فيها القياس والتفريع، يقول المؤلف: إنها مع كونها علل بها الشرع، ولا يصح أن يدخلها القياس والتفريع؛ لأنها وإن كانت أحكاما عادية إلا أن عللها ليست مما تدرك العقول ترتب هذه الأحكام عليها، فلا بد أن تكون تعبدية نقف فيها عند ما أثبت الشارع فقط؛ لأن التشابه الذي ندركه فيما نريد أن نجعله فرعا إنما هو في المطلقات والعمومات المعلل بها، وليس هذا القدر كافيا في صحة العلية حتى يتأتى الإلحاق والقياس. "د".
3 في الأصل و"خ": "وإن".
4 لعل فيه حذف كلمة "به". "د".

 

ج / 2 ص -534-       ذاك يكون أخذ الحكم المعلل بها متعبدا به، ومعنى التعبد به الوقوف عند ما حد الشارع فيه من غير زيادة ولا نقصان.
والرابع:
أن السائل إذا قال للحاكم: لم لا تحكم بين الناس وأنت غضبان؟ فأجاب بأني نهيت عن ذلك، كان مصيبا، كما أنه إذا قال: لأن الغضب يشوش عقلي وهو مظنة عدم التثبت في الحكم، كان مصيبا أيضا، والأول جواب التعبد المحض، والثاني جواب الالتفات إلى المعنى، وإذا جاز اجتماعهما وعدم تنافيهما، جاز القصد إلى التعبد، وإذا جاز القصد إلى التعبد دل على أن هنالك تعبدا، وإلا لم يصح توجه القصد إلا ما لا يصح القصد إليه من معدوم أو ممكن أن يوجد أو لا يوجد، فلما صح القصد مطلقا، صح المقصود له مطلقا، وذلك جهة التعبد، [وهو المطلوب]1.
والخامس:
أن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم، والمفسدة مفسدة كذلك مما يختص بالشارع، لا مجال2 للعقل فيه، بناء على قاعدة نفي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل.
2 هذا ظاهر فيما إذا كان مسلك العلة الإجماع أو النص بقسميه أو المناسبة أيضا؛ لأنه لا بد في المعتبر منها أن يكون مؤثرا أو ملائما، وكل منهما لا بد أن يستند إلى نص أو إجماع؛ أما المؤثر؛ فهو ما اعتبر عينه في عين الحكم بنص كما في الحدث بالمس لقوله عليه السلام:
"من مس ذكره فليتوضأ"* أو إجماع كولاية المال بالصغر، وأما الملائم فهو ما رتب الحكم على وفقه في الأصل مع ثبوت اعتبار عينه في جنس الحكم، أو جنسه في عين الحكم، أو جنسه في جنس الحكم بنص أو إجماع؛ وسمى ملائما لكونه مناسبا لما اعتبره الشارع، ومثاله الصغر في حمل نكاح الثيب الصغيرة على نكاح البكر الصغيرة في أن الولايات للأب عند الحنفية، ويبقى الكلام في السبر والتقسيم والدوران من أنواع المسالك، فعليك بالنظر فيها لتعرف هل يشملها كلامه، وأن المصالح فيها أيضًا بوضع الشرع. "د".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* انظر تخريجه وطرقه في تعليقي على "الخلافيات" للبيهقي "2/ 244، مسألة رقم 20".

 

ج / 2 ص -535-       التحسين والتقبيح1، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما، فهو الواضع لها مصلحة، وإلا، فكان يمكن عقلا أن لا تكون كذلك؛ إِذِ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح؛ فإذن كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس، فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات2، وما انبنى على التعبدي لا يكون إلا تعبديا.
ومن هنا يقول العلماء3: إن من التكاليف "ما هو حق لله خاصة"، وهو راجع إلى التعبد، وما هو حق للعبد" ويقولون في هذا الثاني: إن فيه حقا لله، كما في قاتل العمد إذ عفي عنه ضُرِب مئة وسُجِن عامًا، وفي القاتل غيلة إنه لا عفوَ فيه، وفي الحدود إذا بلغت السلطان فيما سوى القصاص كالقذف والسرقة لا عفو فيه وإن عفا من له الحق، ولا يقبل من بائع الجارية إسقاط المواضعة ولا من مسقط العدة عن مطلق المرأة4، وإن كانت براءة رحمها حقا له وما أشبه ذلك من المسائل الدالة على اعتبار التعبد وإن عقل المعنى الذي لأجله شرع الحكم، فقد صار إذن كل تكليف حقا لله، فإن ما هو لله، فهو لله، وما كان للعبد، فراجع إلى الله من جهة حق الله فيه، ومن جهة كون حق العبد من حقوق الله؛ إذ كان لله أن لا يجعل للعبد حقا أصلا5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ما مضى بهذا الصدد "1/ 125" مع التعليق عليه، وما سيأتي "3/ 28".
2 في الأصل: "تعبدات".
3 المذكور قول القرافي في كتابه "الفروق" "2/ 140، الفرق الثاني والعشرون"، وانظر أيضا: "المنار" "886- مع حواشيه"، و"شرح التلويح على التوضيح" "2/ 155".
4 لعل الأصل: "عن المرأة المطلقة". "د".
5 وعليه، فالشريعة هي أساس الحقوق الخاصة، وليست الحقوق الخاصة هي أساس الشريعة، والحق ليس منحة من المجتمع أو القانون الذي تضعه الأمة، وليس هو حقا طبيعيا لصاحبه، بل هو منحة إلهية وهبها الله سبحانه للإنسان من أجل أن يتحقق بها مصالحه الدنيوية والأخروية.

 

ج / 2 ص -536-       ومن هذا الموضع يقول كثير م العلماء: "إن النهي يقتضي الفساد بإطلاق"1، علمت مفسدة النهي أم لا، انتفي السبب الذي لأجله نهي عن العمل أولا، وقوفا مع نهي الناهي لأنه حقه، والانتهاء هو القصد الشرعي في النهي، فإذا لم يحصل، فالعمل باطل بإطلاق، فقد ثبت أن كل تكليف لا يخلو عن التعبد، وإذا لم يخل، فهو مما يفتقر إلى نية كالطهارات وسائر العبادات.
إلا أن التكاليف التي فيها حق العبد منها ما يصح بدون نية، وهي التي فهمنا من الشارع فيها تغليب جانب العبد، كرد الودائع والمغصوب والنفقات الواجبة، ومنها ما لا يصح إلا بنية، وذلك ما فهمنا فيه تغليب حق الله؛ كالزكاة والذبائح والصيد، والتي تصح بدون نية إذا فُعِلت بغير نية لا يثاب عليها، فإن فعلها بنية الامتثال وهي نية التعبد، أثيب عليها، وكذلك التروك إذا تُرِكت بنية، وهذا متفق عليه، ولو كانت حقوقا للعباد خاصة ولم يكن لله فيها حق، [لما]2 حصل الثواب فيها أصلا؛ لأن حصول الثواب فيها يستلزم كونها طاعة من حيث هي مكتسبة مأمور بها، والمأمور به متقرب إلى الله به، وكل طاعة من حيث هي طاعة لله عبادة، وكل عبادة مفتقرة إلى نية، فهذه الأمور من حيث هي طاعة مفتقرة إلى نية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر تحرير هذه المسألة في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 299، 23/ 25، 29/ 281 وما بعدها، و32/ 88 و33/ 18، 99"، و"إعلام الموقعين" "1/ 108"، و"كشف الأسرار "4/ 134-135"، و"تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد" للعلائي، و"النهي يقتضي الفساد بين العلائي وابن تيمية" لصديقنا رعد عبد العزيز، و"النهي وأثره في الفقه الإسلامي" لمحمد سعود المعيني.
2 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل.

 

ج / 2 ص -537-       فإن قيل: إنما أمر بها من حيث حق العبد خاصة، ومن جهة حق العبد حصل فيها الثواب؛ لا من كونها طاعة متقربا بها.
قيل: هذا غير صحيح؛ إذ لو كان كذلك؛ لصح الثواب بدون النية؛ لأن حق العبد حاصل بمجرد الفعل من غير نية، لكن الثواب مفتقر في حصوله إلى نية.
وأيضًا، فلو حصل الثواب بغير نية، لأثيب الغاصب إذا أُخِذَ منه المغصوب كرها، ليس كذلك باتفاق وإن حصل حق العبد، فالصواب أن النية شرط في كون العمل عبادة، والنية المرادة هنا نية الامتثال لأمر الله ونهيه، وإذا كان هذا جاريا في كل فعل وترك، ثبت أن في الأعمال المكلف بها طلبا تعبديا على الجملة.
وهو دليل سادس في المسألة.
فإن قيل: فيلزم على هذا أن يفتقر كل عمل إلى نية، وأن لا يصح عمل من لم ينوِ، أو يكون عاصيا.
قيل: قد مر أن ما فيه حق العبد تارة يكون هو المغلب، وقد يكون جهة التعبد هي المغلبة، فما كان المغلب فيه التعبد، فمسلَّم ذلك فيه، وما غلب فيه جهة العبد، فحق العبد يحصل بغير نية، فيصح العمل هنا من غير نية ولا يكون عبادة لله، فإن راعى جهة الأمر، فهو من تلك الجهة عبادة، فلا بد فيه من نية، أي: لا يصير عبادة إلا بالنية، لا أنه يلزم فيه النية أو يفتقر إليها، بل بمعنى أن النية في الامتثال صيرته عبادة، كما إذا أقرض امتثالا للأمر بالتوسعة على المسلم، أو اقرض بقصد دنيوي، وكذلك البيع والشراء، والأكل والشرب والنكاح والطلاق وغيرها، ومن هنا كان السلف رضي الله عنهم يثابرون على

 

ج / 2 ص -538-       إحضار النيات في الأعمال، ويتوقفون عن جملة منها حتى تحضرهم1.
فصل:
ويتبين بهذا أمور، منها أن كل حكم شرعي ليس بخالٍ عن حق الله تعالى، وهو جهة التعبد، فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وعبادته امتثال أوامره واجتناب نواهيه بإطلاق2، فإن جاء ما ظاهره أنه حق للعبد مجردا3 فليس كذلك بإطلاق، بل جاء على تغليب حق العبد في الأحكام الدنيوية.
كما أن كل حكم شرعي ففيه حق للعباد إما عاجلا وإما آجلا، بناء على أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد، ولذلك قال في الحديث:
"حق العباد على الله إذا عبدوه ولم يشركوا به شيئا ألا يعذبهم"4 وعادتهم في تفسير "حق"

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في هذا: "قواعد الأحكام" "2/ 66 وما بعدها".
2 هذا هو التحقيق في التعبير عن حق الله خلافا للقرافي، حيث ذهب في الفرق الثاني والعشرين إلى أن حق الله أمره ونهيه لا نفس العبادة، وزعم أن هذا هو المحرر عند العلماء، وقد تعرض أبو القاسم بن الشاط إلى التنبيه على هذا الغلط، وأنكر أن يحرر العلماء ما يخالف قوله عليه الصلاة والسلام:
"حق الله تعالى على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا". "خ".
قلت: وانظر في تعريفه: "قواعد الأحكام" "1/ 103"، و"تيسير التحرير" "2/ 174-181"، و"شرح المنار" "886- مع حواشيه"، و"كشاف اصطلاحات الفنون" "1/ 329-330".
3 كالقصاص، فالعفو عنه حق للعبد، على معنى أنه إن عفا سقط الحق كله. "د".
4 جزء من حديث، وفيه حق الله على العباد أيضا، وسيأتي عند المصنف "ص544"، أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب اسم الفرس والحمار رقم 2856، وكتاب اللباس، باب حمل صاحب الدابة غيره بين يديه رقم 5967، وكتاب الاستئذان، باب من أجاب بلبيك وسعديك رقم 6267، وكتاب الرقاق، باب من جاهد نفسه رقم 6500، وكتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى رقم 7373"، ومسلم في صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا 1/ 58-59/ رقم 30" من حديث معاذ رضي الله عنه.
قلت: وفي الأصل و"خ": "لا".

 

ج / 2 ص -539-       الله" أنه ما فهم من الشرع أنه لا خيرة فيه للمكلف، كان له معنى معقول أو غير معقول، "وحق العبد" ما كان راجعا إلى مصالحه في الدنيا، فإن كان من المصالح الأخروية، فهو من جملة ما يطلق عليه أنه حق لله، ومعنى "التعبد" عندهم أنه ما لا يعقل معناه1 على الخصوص، وأصل العبادات راجعة إلى حق الله، وأصل العادات راجعة إلى حقوق العباد.
فصل:
والأفعال بالنسبة إلى حق الله أو حق الآدمي ثلاثة أقسام2:
أحدها:
ما هو حق لله خالصا كالعبادات، وأصله التعبد كما تقدم، فإذا طابق الفعل الأمر، صح؛ وإلا؛ فلا.
والدليل على ذلك أن التعبد راجع إلى عدم معقولية المعنى، وبحيث لا يصح فيه إجراء القياس، وإذا لم يعقل معناه دل على أن قصد الشارع فيه الوقوف عند ما حده لا يتعدى، فإذا وقع3 طابق قصد الشارع وإن لا؛ خالف4، وقد تقدم أن مخالفة قصد الشارع مبطل للعمل، فعدم مطابقة الأمر مبطل للعمل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ما لا تعقل فيه الحكمة والمصلحة الخاصة التي يصح أن تكون أساسا للقياس، أما العلل العامة، فهي موجودة حتى في التعدي، كما سبقت الإشارة إليه. "د".
2 انظر: "الفروق" "2/ 140-141"، و"المجموع" "6/ 154"، و"المغني" "6/ 63".
3 أي: الوقوف المذكور. "د".
4 في الأصل: "أو خالف"، وفي "د": "أو لا خالف".

 

ج / 2 ص -540-       وأيضًا؛ فلو فرضنا أن عدم معقولية المعنى ليس بدليل على أن قصد الشارع الوقوف عند ما حده الشارع، فيكفي في ذلك عدم تحقيق البراءة منه [وإن لم تحصل البراءة]1 وعدم تحقق البراءة [منه إن لم تحصل المطابقة، وعدم تحقيق البراءة]1 موجب لطلب الخروج عن العهدة بفعل مطابق، لا بفعل غير مطابق.
والنهي في هذا القسم أيضا نظير الأمر، فإن النهي يقتضي عدم صحة الفعل المنهي عنه؛ إما بناء على أن النهي يقتضي الفساد بإطلاق، وإما لأن النهي يقتضي أن الفعل المنهي عنه غير مطابق لقصد الشارع، إما بأصله، كزيادة صلاة سادسة، أو ترك الصلاة، وإما بوصفه، كقراءة القرآن في الركوع والسجود، والصلاة في الأوقات المكروهة؛ إذ لو كان مقصودا لم ينهَ عنه، ولأمر به أو أذن فيه، فإن الإذن هو المعرِّف2 أولًا بقصد الشارع فلا تتعداه.
فعلى هذا إذا رأيت من يصحح المنهي عنه بعد الوقوع، أو المأمور به من غير المطابق؛ فذلك إما لعدم صحة الأمر أو النهي عنده، وإما أنه ليس بأمر حتم ولا نهي حتم، وإما لرجوع جهة المخالفة إلى وصف منفك، كالصلاة في الدار المغصوبة بناء على القول بصحة الانفكاك، وإما لعد النازلة من باب المفهوم [و]3 المعنى المعلل بالمصالح، فيجري على حكمه، وقد مر أن هذا قليل، وأن التعبد هو العمدة.
والثاني:
ما هو مشتمل على حق الله وحق العبد، والمغلب فيه حق الله، وحكمه راجع إلى الأول؛ لأن حق العبد إذا صار مطَّرَحًا شرعا، فهو كغير المعتبر؛ إذ لو اعتبر لكان هو المعتبر، والفرض خلافه كقتل النفس؛ إذ ليس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفات زيادة من الأصل و"ط"، وسقط من النسخ المطبوعة كلها.
2 في "د": "المعروف".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، و"ط".

 

ج / 2 ص -541-       للعبد خيرة في إسلام نفسه للقتل لغير ضرورة شرعية كالفتن ونحوها، فإذا رأيت من يصحح المنهي أو المأمور غير المطابق بعد الوقوع؛ فذلك للأمور الثلاثة الأول1، ولأمر رابع وهو الشهادة بأن حق العبد فيه هو المغلب.
والثالث:
ما اشترك فيه الحقان وحق العبد هو المغلب، وأصله معقولية المعنى، فإذا طابق مقتضى الأمر والنهي فلا إشكال في الصحة؛ لحصول مصلحة العبد بذلك عاجلا أو آجلا حسبما يتهيأ له، وإن وقعت المخالفة فهنا نظر؛ أصله المحافظة على تحصيل مصلحة العبد؛ فإما أن يحصل مع ذلك حق العبد ولو بعد الوقوع على حد ما كان يحصل عند المطابقة أو أبلغ، أو لا؛ فإن فرض غير حاصل؛ فالعمل باطل؛ لأن مقصود الشارع لم يحصل، وإن حصل -ولا يكون2 حصوله إلا مسببا عن سبب آخر غير السبب المخالف- صح وارتفع مقتضى النهي بالنسبة إلى حق العبد3 ولذلك يصحح مالك بيع المدبر إذا أعتقه المشتري؛ لأن النهي لأجل فوت العتق، فإذا حصل4، فلا معنى للفسخ عنده بالنسبة إلى حق المملوك، وكذلك يصح العقد فيما تعلق به حق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر لِمَ لَمْ يعتبر الوجه الرابع السابق هنا؛ وهو عد النازلة من باب المعلل، فيجري على حكمه، مع أنه في هذا أقرب من سابقه؛ لأن سابقه كان في التعبد المحض الذي يبعد فيه الحمل على هذا الوجه، بخلاف هذا النوع الثاني الذي فيه الحقان؛ فإنه حمله على المعلل أقرب من سابقه، إلا أن يقال: إنه أهدر الرابع رأسا حيث قال: "وقد مر أن هذا قليل وأن التعبد هو العمدة" "فلذلك لم يلتفت إليه هنا. "د".
2 لأنه لا يتأتى أن ينهى الشارع عن فعلٍ؛ محافظةً على مصلحة العبد، ثم يكون هذا الفعل المنهي عنه بنفسه محصلا لهذه المصلحة. "د".
3 أي: وأما بالنسبة إلى حق الله وهو الإقدام على المخالفة؛ فلم يرتفع مقتضاه من الإثم، سواء من جهة البائع أو جهة المشتري، وفضل العتق شيء آخر. "د".
4 أي: وقد حصل على وجه أبلغ؛ لأنه نجز عتقه، بخلاف المدبر؛ فإن عتقه مؤجل وقد لا يتم. "د".

 

ج / 2 ص -542-       الغير إذا أسقط ذو الحق حقه؛ لأن النهي قد فرضناه لحق العبد، فإذا رضي بإسقاطه؛ فله ذلك، وأمثلة هذا القسم كثيرة، فإذا رأيت من يصحح العمل المخالف بعد الوقوع؛ فذلك لأحد الأمور الثلاثة1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتطبيقه في مسألة العبد جارٍ على الوجه الثالث، وهو أن المخالفة راجعة إلى وصف منفك؛ فالعتق وقع على ذات العبد الذي يمكن انفكاكه عن كونه مدبرا إلى أن يكون قنًّا صرفًا مثلا، كما قالوه في الدار المغصوبة؛ فالصلاة منفكة عن المكان المغصوب، والمكان المغصوب ينفك عن أن تقع فيه الصلاة؛ لأن الوصف ليس من الأوصاف اللازمة. "د".

 

ج / 2 ص -543-       المسألة العشرون:
لما كانت الدنيا مخلوقة؛ ليظهر فيها أثر القبضتين1، ومبنية على بذل النعم للعباد؛ لينالوها ويتمتعوا بها، وليشكروا2 الله عليها فيجازيهم في الدار الأخرى، حسبما بيَّن لنا الكتاب والسنة، اقتضى ذلك أن تكون الشريعة التي عرفتنا بهذين مبنية على بيان وجه الشكر في كل نعمة3، وبيان وجه الاستمتاع بالنعم المبذولة مطلقا.
وهذان القصدان أظهر في الشريعة من أن يستدل عليهما، ألا ترى إلى قوله تعالى:
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
وقوله:
{هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد في ذلك أحاديث كثيرة جدا عن جمع غفير من الصحابة رضوان الله عليهم، حتى قال الشيخ صالح المقبلي في "الأبحاث المسددة" -كما في "فتح البيان" "3/ 406" لصديق حسن خان: "ولا يبعد دعوى التواتر المعنوي في الأحاديث والروايات في ذلك".
وتجد كثيرا من هذا الأحاديث في تفسير سورة الأعراف "آية 172" عند ابن جرير وابن كثير والسيوطي في "الدر المنثور" و"تفسير النسائي" "1/ 504-507"، والواحدي في "الوسيط" "2/ 424-425"، وفي "السنة" لابن أبي عاصم "باب ذكر أخذ ربنا الميثاق من عباده 1/ 87 وما بعدها، والسلسلة الصحيحة" "الأرقام 47-50، 848، 1623".
2 في الأصل: "ويشكروا".
3 وهو ما يشير إليه فيما بعد بقوله: "والثاني من جهة الوضع التفصيلي..... إلخ"، وقوله: وبيان وجه الاستمتاع بالنعم المبذولة مطلقا "أي: بوجه عام" سيشير إليه بقوله: "من جهة الوضع الكلي..... إلخ" والآيات من هذا النوع الثاني الكلي الإجمالي؛ أما التفصيل؛ فيكون بذكر تفاصيل الأحكام الشرعية وبيان ما يحل تناوله وما لا يحل..... إلخ. "د".

 

ج / 2 ص -544-       وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونَ} [البقرة: 152].
وقوله:
{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114].
وقال:
{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} الآية [إبراهيم: 7].
والشكر هو صرف ما أُنعم عليك في مرضاة المنعم، وهو راجع إلى الانصراف إليه بالكلية، ومعنى بالكلية أن يكون جاريا على مقتضى مرضاته بحسب الاستطاعة في كل حال، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام:
"حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوه به شيئا"1.
ويستوي في هذا ما كان من العبادات أو العادات.
أما العبادات؛ فمن حق الله تعالى الذي لا يحتمل الشركة؛ فهي مصروفة إليه.
وأما العادات؛ فهي أيضا من حق الله تعالى على النظر الكلي، ولذلك لا يجوز تحريم ما أحل الله من الطيبات؛ فقد قال تعالى:
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} الآية [الأعراف: 32].
وقال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآية [المائدة: 87].
فنهى عن التحريم، وجعله تعديا على حق الله تعالى، ولما هم بعض أصحابه بتحريم بعض المحللات قال عليه الصلاة والسلام:
"من رغب عن سنتي، فليس مني"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من حديث أخرجه الشيخان، وقد تقدم تخريجه ص"538".
2 مضى تخريجه "1/ 522".

 

ج / 2 ص -545-       وذم الله تعالى من حرم على نفسه شيئا مما وضعه من الطيبات بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة: 103].
وقوله:
{وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} الآية [الأنعام: 138].
فذمهم على أشياء في الأنعام والحرث اخترعوها، منها مجرد التحريم، وهو المقصود ههنا.
وأيضا؛ ففي العادات حق لله تعالى من جهة وجه الكسب ووجه الانتفاع؛ لأن حق الغير محافظ عليه شرعا ايضا، ولا خيرة فيه للعبد، فهو حق لله تعالى صرفا في حق الغير، حتى يسقط حقه باختياره في بعض الجزئيات1، لا في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نستفيد من هذا أمورا مهمة؛ هي:
أولا:
أن ناحية التعبد موجودة في كل حكم، حتى في الإباحة والحقوق، سواء كان معقول المعنى، بيِّنَةٌ حكمتُهُ أم غير معقول.
ثانيا:
حق الله وحق الفرد متلازمان، إذا وجد أحدهما وُجِد الآخر؛ فهما دائمان مجتمعان.
ثالثا:
بهذا لا ينفصل المعنى الديني عن كل معاملة أو تصرف؛ أداء لحق الله في صدق العبودية.
رابعا:
أن طبيعة الحق الفردي في الإسلام ليس فرديا خالصًا؛ بل هو حق مشترك، وتثبت له صفة مزدوجة هي الفردية والجماعية في وقت معًا.
أما الفردية؛ فلأن الحق ليس بذاته وظيفة، بل هو ميزة تخول صاحبها الاستئثار بثمرات حقه؛ فحق الفرد أصلا شخصي.
وأما الجماعية؛ فتبدو في تقييد هذا الحق بمنع اتخاذه وسيلة إلى الأضرار بغيره فردًا أو جماعة، قصدا أو بدون قصد، بالنظر إلى نتائج استعماله، كما سيأتي مفصلا عند المصنف.
وما يحسن إيراده هنا ما ذكره أستاذنا الشيخ محمد المبارك رحمه الله تعالى في كتابه "ذاتية الإسلام" "ص10"، قال بعد كلام: "فالتشريع الإسلامي بالإضافة إلى موضوعيته وتنظيمه على أسس ظاهرة وضوابط موضوعية له جذور خلقية في النفس، وأصول اعتقادية تغذية وتمده وتدعم  =

 

ج / 2 ص -546-       الأمر الكلي1، ونفس المكلف أيضا داخلة في هذا الحق؛ إذ ليس له التسليط على نفسه ولا على عضو من أعضائه بالإتلاف.
فإذن العاديات يتعلق بها حق الله من وجهين:
أحدهما:
من جهة الوضع الأول الكلي الداخل تحت الضروريات.
والثاني:
من جهة الوضع التفصيلي الذي يقتضيه العدل بين الخلق، وإجراء المصلحة على وفق الحكمة البالغة، فصار الجميع ثلاثة أقسام2

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بناءه، فالتشريع غير منقطع الصلة بالأخلاق، وينفي عن التشريع الإسلامي صفة الفردية"، ويقول أيضا: "والإنسان الذي يؤمن هذا الإيمان ويعمل في الحياة في هذا الطريق ليس هو الإنسان الفرد المنعزل، بل هو الإنسان الموجود في إطار اجتماعي".
خامسا:
قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 108": "والحقوق نوعان: حق الله، وحق الآدمي؛ فحق الله لا مدخل للصلح فيه، كالحدود والزكوات، والكفارات، ونحوها؛ وأما حقوق الآدميين، فهي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعارضة عليها".
1 أيك فليس كل حق للعبد له إسقاطه؛ فالنفس للشخص حق المحافظة عليها ولله ذلك الحق أيضا، ولكنه لا يسقط إذا أسقطه العبد بتعريضها للتلف، بل يؤاخذ المعتدي والمعترض، وهكذا كل الضروريات العادية من عقل ونسل ومال، وهو ما يشير إليه قوله: "من جهة الوضع الكلي الداخل تحت الضروريات". "د".
قلت: انظر في هذا: "الفروق" "2/ 140 وما بعدها، الفرق الثاني والعشرون"، و"أصول الفقه" "ص46" لأبي زهرة.
2 لأن العادات فيها حق الله الصرف؛ وهو النظر الكلي، حتى لا يصح مثل تحريم ما أحل الله؛ وحق لله على العبد بالنسبة لغيره يسقط إذا أسقطه العبد، وحق له كذلك لا يسقط ولو أسقطه، فالأخيران حق لله على العباد يتعلق بهم بالنسبة لأشخاص آخرين كما هو ظاهر في الأمثلة بخلاف القسم الأول؛ فهو حق لله على العبد مباشرة ألا يحرم ما أحله ولا يفسد مال نفسه مثلا بقطع النظر عن عبد آخر. "د".

 

ج / 2 ص -547-       وفيها1 أيضا حق للعبد من وجهين:
أحدهما:
جهة الدار الآخرة، وهو كونه مجازىً عليه بالنعيم2، موقَّىً بسببه عذاب الجحيم.
والثاني:
جهة أخذه للنعمة3 على أقصى كمالها فيما يليق بالدنيا؛ لكن يحسبه في خاصة نفسه، كما قال تعالى:
{قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]، وبالله التوفيق.
[انتهى السفر الأول من كتاب [الموافقات]4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في العادات، والوجه الأول يتحقق إذا سار فيها على مقتضى مرضاته تعالى وأدى شكرها. "د".
2 في الأصل: "بالنعيم".
3 فانتفاع العبد بالطيبات من النعم جعله الله تعالى حقا من حقوقه بحسب ما هيأه له من ذلك كما قال:
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الأعراف: 32]. فجعل ذلك حقا له؛ لكن لا مطلقا بل حسبما سن له ورسم حتى لا يكون فيه اعتداء على حق الغير، وكل شخص بحسب ما قسم له من ذلك؛ فليس الناس في ذلك سواء. "د".
4 زيادة من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة كلها ومن "ط".