الموافقات ج / 3 ص -369-
الفصل الثالث: في الأوامر والنواهي
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
الأمر والنهي يستلزم طلبا وإرادة1 من الآمر؛ فالأمر يتضمن
طلب المأمور به وإرادة إيقاعه، والنهي يتضمن طلبا لترك
المنهي عنه وإرادة لعدم إيقاعه، ومع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليس المراد بها أثر الصفة التي تخصص الممكن ببعض ما يجوز
عليه؛ لأن هذه لا تلازم الأمر عند أهل السنة كما سيقول، بل
ذلك عند المعتزلة؛ حتى اضطروا إلى التزام أنه تعالى يريد
الشيء ولا يقع ويقع وهو لا يريده، وقد استدل السنيون بجملة
أدلة منها إيمان أبي لهب مطلوب بالاتفاق، وهو ممتنع
الوقوع، وإلا؛ لانقلب العلم جهلا، وإذا كان ممتنعا؛ فلا
تصح إرادته بالاتفاق منا ومنهم، وقد اعترف أبو علي وابنه
أبو هاشم بأن الطلب غير الإرادة، قال ابن برهان: "لنا ثلاث
إرادات: إرادة إيجاد الصيغة، وإرادة صرف اللفظ عن غير جهة
الأمر، وإرادة الامتثال"، والأخيرة هي محل النزاع بيننا
وبين أبي علي وابنه، وقد ذكر هذه الثلاث الغزالي والإمام،
واحتج أبو علي بأن الصيغة كما ترد للطلب تأتي للتهديد، ولا
فارق إلا الإرادة، وأجيب بأن التهديد مجاز، والمؤلف ذكر
رابعا. "د".
قلت: انظر في المسألة: "البحر المحيط" "4/ 65"، و"المحصول"
"2/ 19 وما بعدها"، و"التمهيد" "1/ 124"، و"المسودة" "54"،
و"البرهان" "1/ 204"، و"المستصفى" "1/ 415"، و"التبصرة"
"18"، و"روضة الناظر" "2/ 601"، والمقرر فيها جميعا أنه لا
يشترط في كون الأمر أمرا إرادة الآمر، وهذا مذهب أهل
السنة، ونسب إلى الآئمة الأربعة، وهو مذهب الجماهير وقول
الأكثرين، والاشتراط مذهب المعتزلة؛ كما تراه في "المعتمد"
"1/ 50"، و"المغني" "17/ 113-114" لعبد الجبار، والمتأمل
في المسألة يعلم أن المصنف يفصل في المسألة كما سيأتي، وأن
الخلاف من باب "لا مشاحة في الاصطلاح" على حد تعبيره.
ج / 3 ص -370-
هذا؛
ففعل المأمور به وترك المنهي عنه يتضمنان أو يستلزمان
إرادة1، بها يقع الفعل أو الترك أو لا يقع.
ويبان ذلك أن الإرادة جاءت في الشريعة على معنيين2:
أحدهما3:
الإرادة الخَلْقية القدرية المتعلقة بكل مراد؛ فما أراد
الله كونه كان، وما أراد أن لا يكون فلا سبيل إلى كونه،
-أو تقول-4: وما لم يرد أن يكون؛ فلا سبيل إلى كونه.
والثاني:
الإرادة الأمرية المتعلقة5 بطلب إيقاع المأمور به وعدم
إيقاع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من المأمور والمنهي؛ لأنه بإرادته يقع الفعل أو لا
يقع، وإن كانت إرادته لا تكون نافذة إلا بمشيئة الله، وما
تشاءون إلا أن يشاء الله. "د".
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "2/ 412-414 و8/
58-61، 8/ 159-161، 187-190، 197-200، 440-442، 476-478
و10/ 24-27 و11/ 266 و17/ 62-65".
3 في الأصل: "إحداهما".
4 التشقيق في العبارة مبني على أن الأعدام التي لا توجد؛
هل تعلقت الإرادة بألا توجد، أو أنه لم تتعلق الإرادة
بوجودها فقط؟ وليس بلازم تعلقها بعدم الوجود كما قالوه في
المكلف به في النهي الكف أو نفي الفعل، فمن قال: نفي
الفعل؛ قيل عليه: إنه عدم لا يصلح أثرا للقدرة، يعني: ولا
يصلح أثرا للإرادة فيجيب بأنه يصلح؛ إذ يمكنه ألا يفعل
فيستمر العدم، ويمكنه أن يفعل فلا يستمر؛ فيصلح العدم أن
يكون متعلقًا للقدرة والإرادة، وعليه؛ فالعبارة الثانية
أوسع في الشمول من الأولى. "د".
5 ظاهره أن الإرادة تنص على الطلب نفسه، مع أنه لو كان
كذلك؛ لنافى غرضه من تعلقها بنفس المراد على معنى محبته
والعناية بشأنه، ولكان هذا هو الذي أجاب به الفخر عن
استشكال آية:
{وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
كما سيأتي، مع أن جوابه مبني على المعنى الأول في الإرادة،
لذلك يلزم فهمه على معنى أنها ملازمة للطلب، ويدل عليه
قوله: "فتعلقت إرادته بالمعنى الثاني... إلخ"، ولا ينافيه
قوله بعد: "وحاصل الإرادة الأمرية أنها إرادة التشريع"؛
لأنه يجب حمله على ما قرره هنا. "د".
ج / 3 ص -371-
المنهي
عنه، ومعنى هذه الإرادة أنه يجب1 فعل ما أمر به ويرضاه،
[ويحب أن يفعله المأمور ويرضاه]2 منه، من حيث هو مأمور به،
وكذلك3 النهي يحب ترك المنهي عنه ويرضاه.
فالله عز وجل أمر العباد بما أمرهم به؛ فتعلقت إرادته
بالمعنى الثاني بالأمر؛ إذ الأمر يستلزمها لأن حقيقته4
إلزام المكلف الفعل أو الترك5؛ فلا بد أن يكون ذلك الإلزام
مرادا، وإلا لم يكن إلزاما ولا تصور له معنى مفهوم.
وأيضا؛ فلا يمكن مع ذلك أن يريد الإلزام مع العرو عن إرادة
إيقاع الملزم به على المعنى المذكور، لكن الله تعالى أعان
أهل الطاعة؛ فكان أيضا مريدا لوقوع الطاعة منهم، فوقعت على
وفق إرادته بالمعنى الأول وهو القدري، ولم يعن أهل
المعصية؛ فلم يرد وقوع الطاعة منهم؛ فكان الواقع الترك،
وهو مقتضى إرادته بالمعنى الأول، والإرادة بهذا المعنى
الأول لا يستلزمها الأمر؛ فقد يأمر بما لا يريد، وينهى عما
يريد، وأما بالمعنى الثاني؛ فلا يأمر إلا بما يريد، ولا
ينهى إلا عما لا يريد.
والإرادة على المعنيين قد جاءت في الشريعة؛ فقال: تعالى في
الأولى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "يجب" بياء وجيم، وهو تحريف، وصوابه: "يحب"،
وكذا فيما بعده. "ف". قلت: ووقعت على الجادة في جميع
النسخ.
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 هكذا في الأصول و"ط"، قال "ف": "لعله: وكذلك [في] النهي"
ا. هـ.
قلت: وقد أضافها "م" كعادته.
4 في "ط": "حقيقة".
5 في العبارة تسامح لا يخفى؛ فإن الترك ليس حقيقة الأمر.
"ف".
ج / 3 ص -372-
{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ
صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}
الآية [الأنعام: 125].
وفي حكاية نوح عليه السلام:
{وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ
لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}
[هود: 34].
وقال تعالى:
{لَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ
بَعْدِهِمْ...} إلى قوله:
{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}
[البقرة: 253].
وهو كثير جدا.
وقال في الثانية:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ1
بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
{مَا يُرِيدُ
اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ
يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} الآية [المائدة: 6].
{يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ...}
إلى قوله:
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ
ضَعِيفًا}
[النساء: 26-28].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الفخر: استدل به المعتزلة على أنه يقع من العبد ما لا
يريده الله؛ لأنه إذا تكلف المريض وصام يكون قد فعل العسر
الذي لم يرده الله، وأجاب بأنه لم يرد الأمر به وإن كان
يريد نفس العسر، ولم أجد في "الآلوسي" ولا في "البغوي"
أيضا تفسير الإرادة بالرضا والمحبة في هذه الآيات كما قاله
المؤلف، ومتى ثبت له مستند من اللغة؛ كان أفضل حل لإشكالات
المعتزلة في مثل هذه الآيات، أما صاحب "القاموس"؛ فقال:
"الإرادة: المشيئة"، وأما شارحه؛ فلم يزد شيئا، وقال في
"اللسان": "أراد الشيء: شاءه"، ثم قال: "أراد الشيء: أحبه،
وعني به"؛ فتم للمؤلف ما أراد رحمه الله. "د".
قلت: انظر "التفسير الكبير" "5/ 78-79" للرازي.
ج / 3 ص -373-
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ}
[الأحزاب: 33].
وهو كثير جدا أيضا.
ولأجل عدم التنبه للفرق بين الإرادتين وقع الغلط في
المسألة؛ فربما نفى بعض الناس الإرادة عن الأمر والنهي
مطلقا1، [وربما نفاها بعضهم عما لم يؤمر به مطلقًا
وأثبتها2 في الأمر مطلقا]3، ومن عرف الفرق بين الموضعين لم
يلتبس عليه شيء من ذلك.
وحاصل الإرادة الأمرية أنها إرادة التشريع4، ولا بد من
إثباتها بإطلاق، والإرادة القدرية هي إرادة التكوين، فإذا
رأيت في هذا التقييد5 إطلاق لفظ القصد6 وإضافته إلى
الشارع؛ فإلى معنى الإرادة التشريعية أشير، وهي أيضا إرادة
التكليف، وهو شهير7 في عرف8 الأصوليين أن يقولوا: "إرادة
التكوين"، [ويعنون بالمعنى الأول إرادة التكليف] ويعنون
بالمعنى الثاني9 الذي يجري ذكره بلفظ القصد في هذا الكتاب،
ولا مشاحة في الاصطلاح، والله المستعان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخذا بظاهر رأي أهل السنة في عدم التلازم بين الأمر
والإرادة، غافلا عن تعدد معنى الإرادة. "د".
2 أخذا بظاهر رأي المعتزلة في تضمن الأمر الإرادة أو
استلزامه لها. "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "م".
4 أي: التي تقع في مقام التشريع كما في الآيات الأخيرة،
ومثله يقال في قوله: "إرادة التكوين". "د".
5 أي: التصنيف، وهو هذا الكتاب. "ف".
6 وسترى منه في المسألة الثانية الشيء الكثير. "د".
7 لعل في العبارة تحريفا، وتحريرها: "وقد اشتهر في علم
الأصوليين أن يقولوا: إرادة التكوين، ويعنون بها المعنى
الثاني". "ف".
8 كذا في "ط"، وفي غيره: "علم".
9 فيطلقون إرادة التكوين على إرادة التشريع، وهو خلاف
اصطلاح هذا الكتاب، وقد لا تخلوا العبارة من تحريف. "د".
قلت: لا تحريف مع إثبات ما بين المعقوفتين، وهو من انفراد
"ط".
ج / 3 ص -374-
المسألة الثانية:
الأمر بالمطلقات1 يستلزم قصد الشارع إلى إيقاعها، كما أن
النهي يستلزم قصده لترك إيقاعها.
وذلك أن معنى الأمر والنهي اقتضاء الفعل واقتضاء الترك2،
ومعنى الاقتضاء الطلب، والطلب يستلزم3 مطلوبا والقصد4
لإيقاع ذلك المطلوب، ولا معنى للطلب إلا هذا.
ووجه ثان أنه لو تصور طلب لا يستلزم القصد لإيقاع المطلوب
لأمكن5 أن يرد أمر مع القصد لعدم إيقاع المأمور به، وأن
يرد النهي مع القصد لإيقاع المنهي عنه، وبذلك لا يكون
الأمر أمرا ولا النهي نهيًا، هذا خلف، ولصح6 انقلاب الأمر
نهيا وبالعكس، ولأمكن أن يوجد أمر أو نهي من غير قصد إلى
إيقاع فعل أو عدمه7؛ فيكون المأمور به أو المنهي عنه
مباحا8 أو مسكوتا عن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر التقييد بالمطلقات؛ هل سببه أن الأمر دائما لا يكون
إلا بمطلق، فيكون لبيان الواقع؟ "د".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "22/ 529-530".
2 أي: أو الكف، على الخلاف في معنى النهي. "د".
3 أي: لأنه معنى نسبي لا يتحقق إلا بطالب ومطلوب. "د".
4 هو عين الدعوى. "د".
5 لأن فرض ذلك حينئذ لا يكون محالا؛ فيتحقق حينئذ معنى
الإمكان. "د".
6 لازم لقوله: "لأمكن... إلخ"؛ فقد رتب على هذا الفرض في
هذا الوجه ثلاثة لوازم باطلة: ألا يكون الأمر أمرا، وهو
سلب الشيء عن نفسه، وانقلاب كل من الأمر والنهي إلى الآخر،
وهو قلب الحقائق، والثالث أن يكون المأمور به أو المنهي
عنه مباحًا أو مسكوتًا عن حكمه، وهو قلب للحقيقة أيضا.
"د".
7 في "م": "وعدمه".
8 أي: إن اعتبر الأمر المذكور دليلًا شرعيًا لا قصد فيه
لإيقاع الفعل ولا عدمه، وهذا هو حقيقة المباح، وقوله: "أو
مسكوتًا عنه"؛ أي: إذا لم يعتبر دليلًا شرعيا رأسًا، وهذا
الثاني توسيع في الغرض، وإلا؛ فأصل الكلام أن هناك صيغة لم
يقصد بها إيقاع الفعل ولا عدمه، وهذا هو المباح لا غير،
ومحل اللازم المحال قوله: "فيكون المأمور به أو المنهي
عنه... إلخ".
ج / 3 ص -375-
حكمه،
وهذا كله محال.
والثالث أن الأمر والنهي من غير قصد إلى إيقاع المأمور به
وترك المنهي عنه هو كلام الساهي والنائم والمجنون، وذلك
ليس بأمر ولا نهي باتفاق، والأمر في هذا أوضح من أن يستدل
عليه.
فإن قيل: هذا مشكل من أوجه:
أحدها:
أنه يلزم على هذا أن يكون التكليف بما لا يطاق مقصودا إلى
إيقاعه؛ فإن المحققين اتفقوا على جواز ذلك وإن لم يقع، فإن
جوازه يستلزم صحة القصد إلى إيقاعه، والقصد إلى إيقاع ما
لا يمكن1 إيقاعه عبث؛ فيلزم أن يكون القصد2 إلى الأمر بما
لا يطاق عبثا، وتجويز العبث على الله محال؛ فكل ما يلزم
عنه محال وذلك استلزام القصد إلى الإيقاع، بخلاف ما إذا
قلنا: إن الأمر لا يستلزم القصد إلى الإيقاع؛ فإنه لا يلزم
منه محظور عقلي، فوجب القول به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: عادة حتى يتكرر الحد الأوسط؛ فإن هذا هو ما لا يطاق
الذي جوز التكليف به وإن لم يقع، أما ما لا يمكن عقلا؛
فلا، وسيأتي في قوله: "لأن حقيقته إلزام ما لا يقدر على
فعله" ما يفيد ذلك. "د".
2 لو قال: فيلزم أن يكون الأمر الذي يلزمه القصد إلى إيقاع
ما لا يطاق عبثًا؛ لكان أوضح، أو يحذف كلمة القصد ويكتفي
عنها بقوله بعد: "وذلك استلزام القصد إلى الإيقاع"؛ أي:
وسبب المحال استلزام... إلخ، ولكنه في الجواب الآتي يجعل
القصد منصبًا على الأمر نفسه، لا على المأمور به، ويأتي
للكلام بقية هناك؛ فتنبه. "د".
ج / 3 ص -376-
والثاني:
أن مثل1 هذا يلزم في السيد إذا أمر عبده بحضرة ملك قد توعد
السيد على ضرب عبده، زاعما أنه لا يطيعه، وطلب تمهيد عذره
بمشاهدة الملك؛ فإنه يأمر العبد وهو غير قاصد لإيقاع
المأمور به لأن القصد هنا يستلزم قصده لإهلاك نفسه، وذلك2
لا يصدر من العقلاء؛ فلم يصح أن يكون قاصدًا وهو آمر، وإذا
لم يصح؛ لم يلزم أن يكون كل آمر قاصدا للمأمور به، وكذلك
النهي حرفا بحرف3، وهو المطلوب.
والثالث:
أن هذا لازم في أمر التعجيز، نحو
{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15]، وفي أمر التهديد نحو:
{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، وما أشبه ذلك؛ إذ معلوم أن المعجز والمهدد غير قاصد
لإيقاع المأمور به في تلك الصيغة.
فالجواب عن الأول أن القصد إلى إيقاع ما لا يطاق لا بد
منه، ولا يلزم من القصد إلى ذلك حصوله؛ إذ القصد إلى
الأمر4 بالشيء لا يستلزم إرادة الشيء، إلا على قول من
يقول: إن الأمر إرادة الفعل، وهو رأي المعتزلة5،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إنما قال "مثله"؛ لأنه مما يطاق، غاية ما فيه أنه لا
يصدر عن العقلاء وإن أمكن؛ إلا أنه يشارك الأول في أن كلا
لا يصدر عن العاقل. "د".
2 عورض هذا بأنه لا يصدر عن العاقل أيضا طلب تكذيب نفسه
المؤدي لإهلاك نفسه في تصوير هذا، مع أنهم اتفقوا جميعا
على دلالة الأمر على الطلب، وأنه لا ينفك عنه، وإن اختلفوا
في استلزامه الإرادة؛ فما هو جوابهم فهو جوابنا. "د".
3 أي: في الإشكالين جميعا. "د".
4 أي: الذي يستلزم قصد إيقاعه لا يستلزم إرادة حصوله، ولا
يخفى عليك أن لفظ القصد هنا ليس هو محل القصد في موضوع
المسألة؛ لأنه في موضوع المسألة واقع على المطلوب، لا على
نفس الأمر؛ فلا يشتبه عليك، ولو حذفه؛ لكان أظهر، وقد سبق
نظيره. "د".
5 يقولون: إن الإرادة تستلزم الأمر والرضا والمحبة. "د".
ج / 3 ص -377-
وأما
الأشاعرة؛ فالأمر عندهم غير مستلزم للإرادة، وإلا وقعت1
المأمورات كلها.
وأيضا، لو فرض في تكليف ما لا يطاق عدم القصد إلى إيقاعه؛
لم يكن تكليف ما لا يطاق لأن حقيقته إلزام فعل ما لا يقدر
على فعله، وإلزام الفعل هو القصد إلى أن يفعل أو لازم
القصد إلى أن يفعل، فإذا عدم2 ذلك؛ فلا تكليف به؛ فهو طلب
للتحصيل3 لا طلب للحصول، وبينهما فرق واضح.
وهكذا القول في جميع الأسئلة، فإن السيد إذا أمر عبده؛ فقد
طلب منه أن يحصل4 ما أمر به، ولم يطلب حصول ما أمره به،
وفرق بين طلب التحصيل وطلب الحصول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أو لم يقع ما يريده منها؛ فلم يقع مراد الله ووقع
مراد عبده، ولا تخفى شناعته وإن التزمه المعتزلة. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "علم"، وقال "د": "لعل الأصل:
"عدم" بالدال؛ أي: فحيث كان تكليف ما لا يطاق هو إلزام
المكلف به، وإلزام الفعل هو قصد أن يفعل، فحيث يعدم القصد؛
فلا تكليف، وهو خلاف الفرض".
3 وتكون فائدة التكليف ابتلاء الشخص واختباره بتوجهه
لمبادئ الامتثال أو عدم توجهه، وكان حقه أن يذكر هذا؛ لأنه
في الحقيقة هو الجواب عن لزوم العبث، وأما كون حصوله غير
مقصود؛ فهو مما يقوي العبث لا أنه يزيله ويدفعه. "د".
4 لا يخفى عليك ضعف هذا الجواب لأنه لا يطلب تحصيله أيضا؛
لأن العاقل لا يطلب تحصيل ما فيه هلاكه بمقتضى تصويره
المسألة؛ فالأحسن ما قالوه، وهو أن هذا صيغة أمر لا حقيقته
كما في أمر التعجيز والإباحة، ثم وجدت الاعتراض مقررا في
المسألة من جانب المعتزلة بأن العاقل لا يطلب ما فيه مضرته
وتحقيق عقابه؛ فما يكون جواب أصحابنا عند تفسير الأمر
بالطلب يكون جوابًا للمعتزلة عن تفسيره بالإرادة، وإن كانت
الإرادة عندهم يلزم في تخلف مرادها شناعة، انظر تقريره في
"الإحكام" للآمدي [2/ 119]. "د".
ج / 3 ص -378-
وأما
أمر التعجيز والتهديد؛ فليس في الحقيقة1 بأمر، وإن قيل:
إنه أمر بالمجاز؛ فعلى ما تقدم2 إذ الأمر وإن كان مجازيا
فيستلزم قصدا به يكون3 أمرا، فيتصور4 وجه المجاز، وإلا؛
فلا يكون أمرا دون قصد إلى إيقاع المأمور به بوجه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولذلك أخرجوه من تعريف الأمر بظهور أن المراد بالأمر
الصيغة مرادًا منها ما يتبادر عند الإطلاق، وهو الطلب.
"د".
2 أي: يجري على ما تقدم من أن المقصود التحصيل لا الحصول،
وكلامه صريح في أن فرض كونه مجازا لا يفيد بمجرده في دفع
الإشكال؛ لأنه يستلزم أيضًا القصد الذي يكون به أمر...
إلخ، وهذا إنما يظهر فيما لو جعلنا صيغة الخبر طلبًا
ومجازًا؛ فيجيء فيه أنه لا بد من قصد إيقاع المطلوب،
وموضوعنا بالعكس، وهو أن صيغة الأمر إذا أخرجت عما وضع له
الأمر الحقيقي وهو الطلب رأسًا إلى معنى آخر كالإباحة
والتهديد والتعجيز والتسخير... إلخ؛ فليس هنا طلب يحتاج
إلى قصد إيقاع المطلوب؛ فعليك بالتأمل. "د".
3 في "ط": "يكون به".
4 لا يتوقف وجه المجاز على هذا، راجع ما في الإسنوي في هذا
المقام؛ فقد ذكر فيه القرائن والعلاقات بين معنى الأمر
الموضوع له وبين المعاني الأخرى التي استعمل فيها لفظه.
"د".
ج / 3 ص -379-
المسألة الثالثة:
الأمر
بالمطلق1 لا يستلزم الأمر بالمقيد، والدليل على ذلك أمور:
أحدها:
أنه لو استلزم الأمر بالمقيد لانتفى أن يكون أمرًا
بالمطلق، وقد فرضناه كذلك، هذا خلف، فإنه إذا قال الشارع:
"أعتق رقبة"؛ فمعناه أعتق ما يطلق عليه هذا الاسم من غير
تعيين، فلو كان يستلزم الأمر بالمقيد لكان معناه: أعتق
الرقبة المعينة الفلانية؛ فلا يكون أمرًا بمطلق ألبتة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: غير المقيد بقيد خاص اختلفوا فيه، قال في "الإحكام"
"2/ 269": "قال أصحابنا: الأمر إنما تعلق بالماهية الكلية
المشتركة، ولا تعلق له بشيء من جزئياتها، [وذلك] كالأمر
بالبيع؛ فإنه لا يكون أمرا بالبيع بالغبن الفاحش ولا بثمن
المثل؛ إذ هما متفقان في مسمى البيع، ومختلفان بصفتهما،
والأمر إنما تعلق بالقدر المشترك، وهو غير مستلزم لما تخصص
به كل واحد من الأمرين؛ فلا يكون الأمر المتعلق بالأعم
متعلقا بالأخص؛ إلا أن تدل القرينة على إرادة أحد
المعنيين"، ثم قال "2/ 270": "وهو غير صحيح؛ لأن ما به
الاشتراك بين الجزئيات معنى كلي لا تصور لوجوده في
الأعيان، وإلا كان موجودا في جزئياته، ويلزم من ذلك انحصار
ما يصلح اشتراك كثيرين فيه فيما لا يصلح لذلك، وهو محال،
وعلى هذا؛ فليس معنى اشتراك الجزيئات في المعني الكلي هو
أن الحد المطابق للطبيعة الموصوفة بالكلية مطابق للطبيعة
الجزئية، بل إن تصور وجوده؛ فليس في غير الأذهان"، ثم قال:
"وطلب الشيء يستدعي كونه متصورا في نفس الطالب، وإيقاع
المعنى الكلي في الأعيان غير متصور في نفسه؛ فلا يكون
متصورا في نفس الطالب، فلا يكون أمرا به، ولأنه يلزم منه
التكليف بما لا يطاق، ومن أُمر بالفعل مطلقًا لا يقال: إنه
مكلف بما لا يطاق، فإذًا الأمر لا يكون بغير الجزئيات
الواقعة في الأعيان، لا بالمعنى الكلي" ا. هـ.
قال "د": "أما المؤلف؛ فله رأي آخر غير هذين الرأيين؛ كما
سيتبين لك عند الجواب عن الإشكال الأول".
قلت: قرر شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "16/
79" أنه "ليس تقييد المطلق رفعًا لظاهر اللفظ، بل ضم حكم
آخر إليه"، وهذا وما قاله المصنف مسلك حسن؛ فإنه يجب الفرق
بين ما يثبته اللفظ وبين ما ينفيه، وانظر: "المسودة"
"ص149"، و"المحصول" "2/ 254".
ج / 3 ص -380-
والثاني:
أن الأمر من باب الثبوت، وثبوت الأعم لا يستلزم [ثبوت]1
الأخص؛ فالأمر بالأعم لا يستلزم الأمر بالأخص، وهذا على
اصطلاح بعض2 الأصوليين الذين اعتبروا الكليات الذهنية في
الأمور الشرعية.
والثالث:
أنه لو كان أمرًا بالمقيد؛ فإما أن يكون معينًا أو غير3
معين، فإن كان معينًا4؛ لزم تكليف ما لا يطاق وقوعًا؛ فإنه
لم يعين في النص، وللزم أن يكون ذلك المعين بالنسبة إلى كل
مأمور، وهذا محال5، وإن كان غير معين؛ فتكليف ما لا يطاق
لازم أيضا لأنه أمر بمجهول، والمجهول لا يتحصل به امتثال؛
فالتكليف به محال، وإذا ثبت أن الأمر لا يتعلق بالمقيد؛
لزم أن لا يكون قصد الشارع متعلقا بالمقيد من حيث هو
مقيد6؛ فلا يكون مقصودًا له لأنا قد فرضناه أن قصده إيقاع
المطلق، فلو كان له قصد في إيقاع المقيد؛ لم يكن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من "ط".
2 سيأتي له في الجواب أن المعتبر عند العرب غير ذلك، وهو
ما يريد حمل الكلام عليه بعد، يعني: فهذا الدليل مبني على
هذا الاصطلاح الذي لم يكن يبن كلامه عليه، وهو يضعف هذا
الدليل. "د".
3 لا يلزم من كونه مقيدا بقيد مخصوص أن يكون معينا؛ لأن
التعيين إنما يكون بتشخصه تشخصا تامًا لا اشتراك فيه،
ومجرد التقييد بقيد مخصوص كتقييد البيع بثمن المثل لا يفيد
هذا التشخص؛ فصح كلامه، ولا يقال: كيف يكون الفرض أنه أمر
بمقيد، ويشقق فيه بين كونه معينا وغير معين؟ "د".
4 وهو جزئي من جزئيات لا تتناهى، ولم يعينه الشارع بنص؛
فالتكليف به حينئذ تكليف بما ليس في وسع المكلف الوصول إلى
ما يعينه ويحدده ليمتثل بفعله. "د".
5 أي: محال أن يقع الشيء الواحد المعين من كل واحد من
المأمورين؛ لأن الجزئي الذي يفعله زيد غير الذي يقوم به
عمرو، وهكذا، ويكون التكليف به تكليفا بمحال، وإنما يلزم
أن يكون هذا المعين بالنسبة إلى كل المأمورين لأنه المطلوب
الموجه إلى سائرهم بلفظ واحد مطلق أريد منه هذا المعين كما
هو الفرض. "د".
6 أما من حيث إنه فرد تحقق فيه المطلق المقصود إيقاعه
فيتعلق به القصد. "د".
ج / 3 ص -381-
قصده
إيقاع المطلق، هذا خلف لا يمكن.
فإن قيل: هذا معارض بأمرين:
أحدهما1:
أنه لو كان الأمر بالمطلق من حيث هو مطلق لا يستلزم الأمر
بالمقيد؛ لكان التكليف به محالًا أيضًا لأن المطلق لا يوجد
في الخارج، وإنما موجود في الذهن، والمكلف به يقتضي أن
يوجد في الخارج؛ إذ لا يقع به الامتثال إلا عند حصوله في
الخارج، وإذ ذاك يصير مقيدًا [لا مطلقًا]2؛ فلا يكون
بإيقاعه ممتثلًا، والذهني لا يمكن إيقاعه في الخارج؛
فيكون3 التكليف به تكليفًا بما لا يطاق، وهو ممتنع؛ فلا بد
أن يكون الأمر به مستلزمًا للأمر بالمقيد، وحينئذ يمكن
الامتثال؛ فوجب المصير إليه، بل القول4 به.
والثاني:
أن المقيد لو لم يقصد في الأمر بالمطلق لم5 يختلف الثواب
باختلاف الأفراد الواقعة من المكلف؛ لأنها من حيث الأمر
بالمطلق على تساوٍ، فكأن يكون الثواب على تساوٍ أيضًا،
وليس كذلك، بل يقع الثواب على مقادير المقيدات المتضمنة
لذلك المطلق؛ فالمأمور بالعتق إذا أعتق أدون الرقاب كان له
من الثواب بمقدار ذلك، وإذا أعتق الأعلى كان ثوابه أعظم،
وقد سئل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الرقاب؛ فقال:
"أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها"6،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الاعتراض هو بعينه دليل الآمدي على عدم صحة رأس
المسألة هنا كما نقلناه لك، وقد ترك اللازم الأول في
كلامه، واكتفى بلزوم التكليف بما لا يطاق. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من النسخ المطبوعة، وأثبته من
الأصل و"ط".
3 كذا في "ط"، وفي غيره: "فلا يكون"، ولذا كتب "د": "لا
يستقيم المعنى إلا بحذف كلمة "لا".
قلت: سبقة "ف"؛ فقال: "لعله: فيكون، تأمل" ا. هـ.
4 في "ط": "إليه، والقول".
5 في "ط": "يقصد بالأمر لم...".
6 أخرجه البخاري في الصحيح "كتاب العتق، باب أي الرقاب
أفضل، 5/ 148/ رقم 2518"، ومسلم في "الصحيح" "رقم 84" عن
أبي ذر رضي الله عنه مرفوعًا.
ج / 3 ص -382-
وأمر
بالمغالاة في أثمان القربات كالضحايا1، وبإكمال الصلاة
وغيرها2 من العبادات حتى يكون الأمر فيها أعظم، ولا خلاف
في أن قصد الأعلى في أفراد المطلقات المأمور بها أفضل
وأكثر ثوابًا من غيره، فإذا كان التفاوت في أفراد المطلقات
موجبًا للتفاوت في الدرجات؛ لزم من ذلك كون المقيدات
مقصودة للشارع وإن حصل الأمر بالمطلقات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يدل عليه فعله صلى الله عليه وسلم مما أخرجه أبو داود في
"السنن" "كتاب الضحايا، باب ما يستحب من الضحايا/ رقم
2796"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأضاحي، باب ما جاء
فيما يستحب من الأضاحي، 4/ 85/ رقم 1496"، والنسائي في
"المجتبى" "كتاب الضحايا"، باب الكبش، 7/ 221"، وابن ماجه
في "السنن" "كتاب الأضاحي، باب ما يستحب من الأضاحي/ رقم
3128"، والحاكم في المستدرك "4/ 228" عن ابن سعيد الخدري؛
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن فحيل، يأكل
في سواد، وينظر في سواد، ويشرب في سواد، وإسناده صحيح على
شرط مسلم.
و "الأقرن": ذو القرنين، و"الفحيل": الكريم المختار
للفحلة، ويقال: المنجب في ضرابه، وأراد به النبل وعظم
الخلقة، و"يأكل في سواد..." أراد أن فمه وما أحاط بملاحظ
عينه من وجهه وأرجله أسود، وسائر بدنه أبيض.
والأقرب إلى لفظ المصنف ما أخرجه أحمد في "المسند" "3/
424"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 231"، وابن أبي عاصم في
"الآحاد والمثاني" "3/ 69/ رقم 1384"، والبيهقي في
"الكبرى" "9/ 268" عن أبي الأسد -بالسين، وقيل بالشين
المعجمة- السلمي عن أبيه عن جده؛ قال: كنت سابع سبعة مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر فجمع كل رجل منا
درهمًا، فاشترينا أضحية بسبعة رداهم؛ فقلنا: يا رسول الله!
لقد أغلينا بها. قال: "إن أفضل الضحايا أغلاها ثمنًا
وأنفسها".
وإسناده ضعيف، أبو الأسد -أو الأشد- مجهول، وكذا أبوه،
وقيل: إن جده عمرو بن عبس، وفيه أيضًا عثمان بن زفر
الجهني، وهو مجهول أيضا؛ كما في "التقريب"، وممن أشار إلى
ضعفه الهيثمي في "المجمع" "4/ 21"، وانظر: "السلسلة
الضعيفة" "رقم 1678".
2 وهذه كانت صفة صلاته صلى الله عليه وسلم، وكان يقول:
"صلوا كما رأيتموني أصلي"، أخرجه البخاري، ومضى تخريجه.
ج / 3 ص -383-
فالجواب عن الأول أن التكليف بالمطلق عند العرب ليس معناه
التكليف بأمر ذهني، بل معناه التكليف بفرد1 من الأفراد
الموجودة في الخارج، أو التي يصح وجودها في الخارج مطابقًا
لمعنى اللفظ، [بحيث]2 لو أطلق عليه اللفظ صدق وهو الاسم
النكرة عند العرب، فإذا قال: "أعتق رقبة"3؛ فالمراد طلب
إيقاع العتق بفرد مما يصدق عليه لفظ الرقبة فإنها4 لم تضع
لفظ الرقبة إلا على فرد من الأفراد غير مختص بواحد من
الجنس، هذا هو الذي تعرفه العرب، والحاصل أن الأمر به أمر
بواحد مما5 في الخارج، وللمكلف اختياره في الأفراد
الخارجية.
وعن الثاني أن ذلك التفاوت الذي التفت إليه الشارع؛ إما أن
يكون القصد إليه مفهومًا من نفس الأمر بالمطلق أو من دليل
خارجي، والأول ممنوع؛ لما تقدم من الأدلة، ولذلك لم يقع
التفاوت في الوجوب أو الندب الذي اقتضاه الأمر بالمطلق،
وإنما وقع التفاوت في أمر آخر خارج عن مقتضى مفهوم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وبهذا يكون قد قال في المسألة قولًا وسطًا؛ فالأمر عنده
ليس متوجهًا إلى الماهية الذهنية لما ورد عليه من إشكالات،
ولا إلى المقيد لما ورد عليه من إشكالات، بل إلى فرد من
الأفراد الخارجية التي يصدق عليها معنى اللفظ، وللمكلف
اختياره في أحدها، ويؤول هذا إلى أن المكلف به الماهية
المتحققة في فرد ما مما تصدق عليه تلك الماهية؛ فلا ترد
الإشكالات التي تقدمت في هذه المسألة وفي المسألة الرابعة
من كتاب الأدلة، وقد عرفت فيما نقلناه عن الآمدي أن هذه
المسألة كما هي من مسائل الأصول المدونة، وقد خالف
المؤلِّف في البحث عن هذه المسألة طريقته في هذا المؤلَّف؛
ليفيد أن له اختيارًا خاصًا يخلص من الإشكالات فيها. "د".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط".
3 أي معناه: وإلا؛ فلفظ الرقبة لا صدق له، وإذا كان الصادق
هو معناه وصدقه حملة عليه حمل الكلي على جزئيه قطعًا؛
رجعنا إلى أن التكليف بماهية المطلق المتحققة في فرد ما من
أفرادها، وهذا هو المعنى الذي جرى عليه سابقًا في المسألة
الرابعة. "د".
4 في "ط": "فكأنها".
5 كذا في "ط"، وفي غيره: "كما"، وكتب "د": "لعل الأصل: مما
في الخارج".
ج / 3 ص -384-
[المطلق]1، وهذا صحيح، والثاني مسلم؛ فإن التفاوت إنما فهم
من دليل خارجي؛ كالأدلة الدالة على أن أفضل الرقاب
أعلاها2، وأن الصلاة المشتملة على جميع آدابها المطلوبة
أفضل من التي نقص منها بعض ذلك3، وكذا سائر المسائل؛ فمن
هنالك كان مقصودًا للشارع4، ولذلك كان ندبًا لا وجوبًا وإن
كان الأصل واجبًا لأنه زاد على مفهومه؛ فإذًا القصد إلى
تفضيل بعض الأفراد على بعض يستلزم القصد إلى الأفراد، وليس
ذلك من جهة الأمر بالمطلق، بل [بدليل من]5 خارج؛ فثبت أن
القصد إلى المطلق من حيث هو مطلق لا يستلزم القصد إلى
المقيد من حيث هو مقيد.
بخلاف الواجب المخير؛ فإن أنواعه مقصودة للشارع بالإذن،
فإذا أعتق المكلف رقبة، أو ضحى بأضحية، أو صلى صلاة ومثلها
موافق للمطلق؛ فله أجر ذلك من حيث هو داخل تحت المطلق؛ إلا
أن يكون ثَمّ فضل زائد، فيثاب عليه بمقتضى الندب الخارجي،
وهو مطلق أيضًا، وإذا كفر بعتق؛ فله أجر العتق، أو أطعم
فأجر الإطعام، أو كسا فأجر الكسوة بحسب ما فعل، لا لأن6 له
أجر كفارة اليمين فقط من غير تقييد بما كفر [به]7؛ فإن
تعيين الشارع المخير فيه يقتضي قصده إلى ذلك دون غيره،
وعدم تعيينه في المطلقات8 يقتضي عدم قصده إلى ذلك.
وقد اندرج هنا أصل آخر، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من "ط".
2 مضى ما يدل عليه "ص381".
3 مضى ما يدل عليه "ص382".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "مقصود الشارع".
5 كذا في "ط"، وبدل ما بين المعقوفتين في غيره: "من دليل".
6 في "ط": "لا أن له"، وقال "د": "لعله: "لا أن له"، ويكون
محصل الفرق أن ثواب الزائد من دليل خارجي المطلق، ومن نفس
دليل الواجب في المخير".
7 زيادة من "م"، وسقطت من الأصل و"ف" و"د" و"ط".
8 في "م": "المطلق".
ج / 3 ص -385-
المسألة الرابعة:
وترجمتها أن الأمر بالمخير1 يستلزم قصد الشارع إلى أفراده
المطلقة المخير فيها.
المسألة الخامسة:
المطلوب الشرعي ضربان:
أحدهما: ما كان شاهد الطبع خادما له ومعينا على مقتضاه2،
بحيث يكون الطبع الإنساني باعثًا على مقتضى الطلب؛ كالأكل،
والشرب، والوقاع، والبعد3 عن استعمال القاذورات من أكلها
والتضمخ بها، أو كانت العادة الجارية من العقلاء4 في محاسن
الشيم ومكارم الأخلاق موافقة لمقتضى ذلك الطلب من غير
منازع طبيعي؛ كستر العورة5، والحفظ6 على النساء والحرم7،
وما أشبه ذلك، وإنما قيد بعدم المنازع تحرزًا من الزنى
ونحوه8 مما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "المخير".
2 لفظ: "مقتضى" مقتحم، والأصل: "معينًا عليه"؛ كما يدل
عليه قوله: "باعثًا على مقتضى الطلب" الذي هو المطلوب.
"د".
3 جعله فيما يأتي مما يقتضيه الوازع الطبيعي والمحاسن
العادية معًا، وهو ظاهر في الأكل والتضمخ كما هنا، أما
مجرد إصابة الثوب بمثل البول؛ فإنه يظهر رجوعه لمحاسن
العادات" "د".
4 في "ط": "بين العقلاء".
5 في الأصل و"ط": "منازع طبعي؛ كستر العورات".
6 جعله من مقتضى عادة العقلاء في محاسن الشيم، وقد يتوقف
فيه ويجعل من دواعي الطبع المحافظة على النساء والحرم
والأولاد، بل ربما يقال: إنه طبع في الحيوان كله، وما يرى
في بعض أفراد الإنسان من ضعف الغيرة؛ فذلك لعوارض، ونقول:
إنه ضعف فقط لا تجرد منها. "د".
7 حرم الرجل عياله ونساؤه وما يحمي ويقاتل عنه. "ف".
8 من أكل أموال الناس بالباطل كالسرقة والربا... إلخ؛ فإن
محاسن الشيم وإن كانت تقتضي عدم السرقة والتعدي على الغير
في نفسه وماله وعرضه؛ إلا أن هناك منازعًا من الطبع يطلب
الدخول في هذه الأشياء طلبًا لما يراه مصلحة له؛ فشدد فيها
النهي. "د".
ج / 3 ص -386-
يصد
فيه الطبع عن موافقة الطلب.
والثاني: ما لم يكن كذلك؛ كالعبادات من الطهارات،
والصلوات، والصيام، والحج، وسائر المعاملات1 المراعى فيها
العدل الشرعي، والجنايات2، والأنكحة المخصوصة بالولاية
والشهادة، وما أشبه ذلك.
فأما الضرب الأول؛ فقد يكتفي الشارع في طلبه بمقتضى الجبلة
الطبيعية3 والعادات الجارية؛ فلا يتأكد الطلب تأكد غيره،
حوالة على الوازع الباعث على4 الموافقة دون المخالفة وإن
كان في نفس الأمر متأكدًا، ألا ترى أنه لم يوضع في هذه
الأشياء على المخالفة حدود معلومة زيادة على ما أخبر به من
الجزاء5 الأخروي؟
ومن هنا يطلق كثير من العلماء على تلك الأمور أنها سنن، أو
مندوب إليها، أو مباحات على الجملة، مع أنه لو خولف الأمر
والنهي فيها مخالفة ظاهرة؛ لم يقع الحكم على وفق ذلك
المقتضى، كما جاء في قاتل6 نفسه أنه يعذب في جهنم بما قتل
به نفسه7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فإن قواعد المعاملات التي سنها الشارع ليتعامل على
مقتضاها الخلق لا يقال فيها: اقتضاه الطبع ولا محاسن
العادات من العقلاء، بل هي تشريع موازين في المعاملات، علم
الله سبحانه أنها تحقق العدل بين الخلق، وتمنع الجور
والغبن، وتحسم مادة الخصومات والمنازعات بينهم؛ لأنهم
يجدون في هذه القواعد حكمًا يحتكمون إليه في جميع مرافقهم
ومعاوضاتهم. "د".
2 هذا مما احترز عنه بقيد عدم المنازع الطبيعي. "د".
3 في "ط": "بمقتضى الحيلة الطبعية".
4 هكذا في "د" و"ط" و"م"، وفي الأصل: "من"، وفي "ف": "عن"،
وقال: "الأنسب على الموافقة".
5 أي: على المخالفة. "د".
6 كذا في "د"، وفي الأصل و"ف" و"ط" و"م": "قتل"، قال "ف":
"لعله فيمن قتل".
7 يدل عليه ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب
شرب السم والدواء به =
ج / 3 ص -387-
وجاء
في مذهب مالك1 أن من صلى بنجاسة ناسيًا؛ فلا إعادة عليه
إلا استحسانًا، ومن صلى بها عامدًا أعاد أبدًا من حيث خالف
الأمر الحتم؛ فأوقع على إزالة النجاسة لفظ: "السنة"
اعتمادًا على الوازع الطبيعي2 والمحاسن العادية، فإذا
خالف3 ذلك عمدًا رجع إلى الأصل4 من الطلب الجزم؛ فأمر
بالإعادة أبدًا.
وأبين من هذا أنه لم يأتِ نص جازم في طلب الأكل والشرب،
واللباس الواقي من الحر والبرد، والنكاح الذي به بقاء
النسل، وإنما جاء ذكر هذه الأشياء في معرض الإباحة أو
الندب؛ حتى إذا كان المكلف في مظنة مخالفة الطبع أمر5
وأبيح له المحرم، إلى أشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وما يخاف منه والخبيث، 10/ 247/ رقم 5778"، ومسلم في
"صحيحه" "كتاب الإيمان باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، 1/
103/ رقم 109" عن أبي هريرة مرفوعًا:
"من قتل
نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم
خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده
يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا".
وأخرج البخاري في
"صحيحه" "كتاب الإيمان، باب من حلف بملة سوى الإسلام، 11/
537/ رقم 6652"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب غلظ
تحريم قتل الإنسان نفسه، 1/ 104/ رقم 110" عن ثابت بن
الضحاك مرفوعًا، وذكر حديثًا في آخره:
"ومن قتل نفسه بشيء عذبه الله به يوم القيامة".
قال "ف": "فويل لمن يحمله ضعف الدين والهمة على ارتكاب
رذيلة الانتحار الفاشية في هذا العصر".
1 انظر: "المدونة الكبرى" "1/ 22"، و"عقد الجواهر الثمينة"
"1/ 18-19".
2 في "ط": الطبعي.
3 في "ط": "وخولف".
4 أي: مقصود الشارع في الواقع ونفس الأمر، وإن لم يوجه فيه
الخطاب الجزم اعتمادًا على الباعث النفسي عند المكلف. "د".
5 بخطاب النهي عن الضد:
{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} كما هو أحد التفاسير في الآية، وقوله: "وأبيح له المحرم" كأكل
الميتة. "د".
ج / 3 ص -388-
وأما
الضرب الثاني؛ فإن الشارع قرره على مقتضاه من التأكيد في
المؤكدات، والتخفيف في المخففات؛ إذ ليس للإنسان فيه خادم
طبعي باعث على مقتضى الطلب، بل ربما كان مقتضى الجبلة
يمانعه وينازعه؛ كالعبادات لأنها مجرد تكليف.
وكما يكون ذلك1 في الطلب الأمري كذلك يكون في النهي؛ فإن
المنهيات على الضربين؛ فالأول كتحريم الخبائث، وكشف
العورات، وتناول السموم، واقتحام المهالك وأشباهها، ويلحق
بها اقتحام المحرمات لغير شهوة عاجلة، ولا باعث طبعي؛
كالملك الكذاب، والشيخ الزاني، والعائل المستكبر2، فإن مثل
هذا قريب مما تخالفه الطباع ومحاسن العادات؛ فلا تدعو إليه
شهوة، ولا يميل إليه عقل سليم؛ فهذا الضرب لم يؤكد بحد3
معلوم في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: التقسيم إلى الضربين، وقوله: "كتحريم الخبائث...
إلخ"، ذكر فيه أمثلة لصنفي الضرب الأول، ثم أجرى حكم الضرب
الأول الأمري على هذا؛ فقال: "فهذا الضرب... إلخ"؛ إلا أنه
أغفل الضرب الثاني من المنهيات، فلم يمثل له ولم يذكر حكمه
كما فعل في الأوامر. "د".
2 ستأتي الإشارة إلى الحديث الوارد في ذلك قريبًا، قال
"ف": "والعائل: الفقير".
3 أي: بعدد كذبات الملك، وزنيات الشيخ، وكيفية استكبار
العائل، وقوله: "ولا وضعت له عقوبة معينة"؛ أي: باعتبار
هذه الأوصاف زيادة عن حد الزنا مثلًا ممن كان غير شيخ، وقد
يقال: إن هذا جارٍ أيضًا في الكذب والاستكبار لشهوة، فإن
لم يوضع لهما حد معلوم عددًا ولا كيفية ولا وضعت لهما
عقوبة دنيوية خاصة؛ فالمثال ظاهر الأثر في الزنا لا فيهما،
ومما هو داخل في اقتحام المحرمات لغير شهوة ما تواتر عن
أمة الترك في هذه الأيام أنهم يتهافتون على أكل لحم
الخنزير لا لشعوة، ولكن ليفهموا رئيس حكومتهم المدعو مصطفى
كمال كما أنهم شديدو الامتثال له في اطراح الأوامر
الإسلامية، وأنهم صاروا إلى الفرنجة في كل شيء، أما أنه
ليس لشهوة؛ فظاهر من أن القوم لم يألفوه، بل كانوا
يستقذرونه إلى سنة واحدة مضت، وهم يقلدون في هذا شر تقليد؛
لأنهم لا يعرفون أن لحم الخنزير لا يأكله الفرنجة إلا بعد
مباحث خاصة ليتحققوا من سلامته من الجراثيم القتالة التي
يصاب بها هذا الحيوان بالتوارث أو العدوى، وقد أعدوا لذلك
آلات وعددًا بكتريولوجية كما شوهد في بلغاريا الألمانية،
وهذا بالضرورة بعض أسباب منع أكله في الدين الإسلامي. "د".
ج / 3 ص -389-
الغالب، ولا وضعت له عقوبة معينة، بل جاء النهي فيه كما
جاء الأمر في المطلوبات التي لا1 يكون الطبع خادمًا لها؛
إلا أن مرتكب هذا لما كان مخالفًا لوازع الطبع ومقتضى
العادة، [زيادة]2 إلى ما فيه من انتهاك حرمة الشرع، أشبه
بذلك المجاهر بالمعاصي، المعاند فيها، بل هو هو؛ فصار
الأمر في حقه أعظم بسبب أنه لا يستدعي لنفسه حظًا عاجلًا،
ولا يبقى لها في مجال العقلاء بل البهائم مرتبة، ولأجل ذلك
جاء من الوعيد في الثلاثة: "الشيخ الزاني وأخويه"3 ما جاء،
وكذلك فيمن قتل نفسه.
بخلاف العاصي بسبب شهوة عنّت، وطبع غلب، ناسيًا لمقتضى
الأمر، ومغلقًا عنه باب العلم بمآل المعصية، ومقدار ما جنى
بمخالفة الأمر، ولذلك قال تعالى:
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ
بِجَهَالَة}
الآية: [النساء: 17].
أما الذي ليس له داعٍ إليها، ولا باعث عليها؛ فهو في حكم
المعاند المجاهر4، فصار هاتكًا لحرمة النهي والأمر مستهزئا
بالخطاب؛ فكان الأمر فيه أشد، ولكن كل ما كان الباعث فيه
على المخالفة الطبع جعل فيه في الغالب5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إنما ينتظم المعنى على حذف "لا" كما يدل عليه سابق
الكلام ولاحقه. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
3 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب
الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، 1/ 102-103/
رقم 107" عن أبي هريرة مرفوعًا:
"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ
زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر".
4 في "ط": "بالمجاهرة".
5 ومن غير الغالب الغصب؛ فهو مما يقتضيه الطبع، ولم يجعل
له حد مخصوص ولا عقوبة بدنية خاصة لمكان التحرز منه وسهولة
تخليص المغصوب بالترافع للحاكم، والغاصب غالبًا يدعي الحق
في المغصوب؛ فلم يبقَ إلا إثبات الحق لصاحبه بالترافع،
وإنما ورد فيه الخبر ببيان من الجزاء الأخروي؛ كحديث:
"من غصب قيد شبر طوقه من سبع أرضين"* وأمثاله، مع الزجر والأدب في الدنيا بما يراه الحاكم. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب بدء الخلق، باب ما جاء
في سبع أرضين، 6/ 292/ رقم 3195، وكتاب المظالم، باب إثم
من ظلم شيئًا من الأرض، 5/ 103/ رقم 2453"، ومسلم في
"صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض
وغيرها، 3/ 1231-1232/ رقم 1612" بنحوه.
ج / 3 ص -390-
حدود
وعقوبات مرتبة، إبلاغًا في الزجر عما تقتضيه الطباع، بخلاف
ما خالف الطبع أو كان الطبع وازعًا عنه؛ فإنه لم يجعل له
حد محدود.
فصل
هذا الأصل وجد منه بالاستقراء جمل؛ فوقع التنبيه عليه
لأجلها ليكون الناظر في الشريعة ملتفتا إليه، فإنه ربما
وقع الأمر والنهي في الأمور الضرورية على الندب أو الإباحة
والتنزيه1 فيما يفهم من مجاريها؛ فيقع الشك في كونها من
الضروريات كما تقدم تمثيله في الأكل والشرب واللباس
والوقاع.
وكذلك وجوه الاحتراس من المضرات والمهلكات وما أشبه ذلك؛
فيرى أن ذلك لا يلحق بالضروريات، وهو منها في الاعتبار
الاستقرائي شرعًا، وربما وجد الأمر بالعكس2 من هذا؛ فلأجل
ذلك وقع التنبيه عليه ليكون من المجتهد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "أو التنزيه".
2 فستر العورة في الصلاة واجب ولو في خلوة*، وهو من محاسن
العادات ومكارم الأخلاق، أما سترها عن غير الزوج والزوجة،
فهو مكمل للضروري لأنها تثير الشهوة، فكشفها ذريعة للزنا
الداخل تحريمه في قسم الضروريات. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا قال النووي في "شرح مسلم" "4/ 32"، ونازع في ذلك ابن
القطان في "أحكام النظر" "ص112".
ج / 3 ص -391-
على
بالٍ؛ إلا أن ما تقدم هو الحكم المتحكم، والقاعدة التي لا
تنخرم، فكل أحد وما رأى، والله المستعان.
وقد تقدم التنبيه على شيء منه في كتاب1 المقاصد، وهو مقيد
بما تقيد به هنا أيضا، [والله أعلم]2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة الثالثة من النوع الرابع. "2/ 305".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
ج / 3 ص -392-
المسألة السادسة:
كل خصلة أمر
بها أو نهي عنها مطلقًا من غير تحديد ولا تقدير؛ فليس
الأمر أو النهي فيها على وزان واحد في كل فرد من أفرادها؛
كالعدل، والإحسان، والوفاء بالعهد، وأخذ العفو من الأخلاق،
والإعراض عن الجاهل، والصبر، والشكر، ومواساة ذي القربى
والمساكين والفقراء، والاقتصاد في الإنفاق والإمساك،
والدفع بالتي هي أحسن، والخوف، والرجاء، والانقطاع إلى
الله، والتوفية في الكيل والميزان، واتباع الصراط
المستقيم، والذكر لله، وعمل الصالحات، والاستقامة،
والاستجابة لله، والخشية، والصفح، وخفض الجناح للمؤمنين
والدعاء إلى سبيل الله، والدعاء للمؤمنين، والإخلاص،
والتفويض، والإعراض عن اللغو، وحفظ الأمانة، وقيام الليل،
والدعاء والتضرع، والتوكل، والزهد في الدنيا، وابتغاء
الآخرة، والإنابة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،
والتقوى، والتواضع، والافتقار إلى الله، والتزكية1، والحكم
بالحق، واتباع الأحسن، والتوبة، والإشفاق، والقيام
بالشهادة، والاستعاذة عند نزغ الشيطان، والتبتل2، وهجر
الجاهلين، وتعظيم الله، والتذكر، والتحدث بالنعم، وتلاوة
القرآن، والتعاون على الحق، والرهبة، والرغبة، وكذلك
الصدق، والمراقبة، وقول المعروف، والمسارعة إلى الخيرات،
وكظم الغيظ، وصلة الرحم، والرجوع إلى الله ورسوله عند
التنازع، والتسليم لأمر الله، والتثبت في الأمور، والصمت،
والاعتصام بالله، وإصلاح ذات البين، والإخبات3 والمحبة
لله، والشدة على الكفار، والرحمة للمؤمنين، والصدقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 للنفس بمعنى التطهير لها:
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}،
وهي غير التزكية الآتية في المنهيات التي بمعنى الثناء
عليها،
{فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}. "د".
2 التبتل هو الانقطاع إلى الله تعالى والإخلاص إليه. "ف".
3 الخشوع. "د".
ج / 3 ص -393-
هذا
كله في المأمورات1. وأما المنهيات؛ فكالظلم2، والفحش، وأكل
مال اليتيم، واتباع السبل المضلة، والإسراف، والإقتار،
والإثم3، الغفلة، والاستكبار، والرضى بالدنيا من الآخرة،
والأمن من مكر الله، والتفرق في الآهواء4 شيعًا، والبغي
واليأس من روح الله، وكفر النعمة، والفرح بالدنيا، والفخر
بها، والحب لها، ونقص المكيال والميزان، والإفساد في
الأرض، واتباع الآباء من غير نظر، والطغيان، والركون
للظالمين، والإعراض عن الذكرى5، ونقض العهد، والمنكر،
وعقوق الوالدين، والتبذير6، واتباع الظنون، والمشي في
الأرض مرحًا، وطاعة من اتبع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وإن كانت هذه المأمورات يدخل بعضها في البعض الآخر،
وبعضها لازم لبعض آخر؛ إلا أنه أراد أن يذكر الخصال حسبما
وردت بها الأوامر، وهذه كلها واردة في الكتاب والسنة، وكذا
يقال في المنهيات. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "فالظلم".
3 الذنب مطلقًا. "د".
4 سواء أكانت دينية أم غير دينية، مما يؤدي إلى التفرق
واختلاف الكلمة؛ فيغاير اتباع السبل المضلة لأنه خاص
بالدين،
{وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه} [الأنعام: 153]، ولا يلزم في تحققه التفرق شيعًا. "د".
5 كذا في "ط"، وفي غيره: "الذكر".
6 انظر: هل له معنى يغاير به الإسراف المتقدم ولو بالعموم
والخصوص حتى لا يكون تكرارًا محضًا؟ نعم، إنهما وردا في
القرآن:
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 3]،
{وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}
[الإسراء: 26]، ولكنه كان يحسن إذا أراد ذكرهما معًا لهذا
الغرض أن يذكرهما متواليين، ومثله يقال في "المنكر"
و"الإثم" و"الإجرام"؛ إذ الثلاثة بمعنى واحد وإن اختلفت
بالاعتبار، وكذا ينظر في "الظن" الآتي مع "اتباع الظنون"
هنا، وقد يقال: إن اتباع الظن في مقام البرهان والتعويل
عليه حسبما أشير إليه في قوله تعالى:
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] غير نفس الظن السيئ وإن لم يعول عليه صاحبه ولا بنى
عليه حكمًا،
{اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّن}
[الحجرات: 12]، وظاهر أيضًا أن اتباع الهوى يكون في الرأي
والمذهب، وهو غير اتباع الشهوات والانقياد لحكم اللذائذ
الحسية المنهي عنها. "د".
ج / 3 ص -394-
هواه،
والإشراك في العبادة، واتباع الشهوات، والصد عن سبيل الله،
والإجرام، ولهو القلب، والعدوان، وشهادة الزور، والكذب،
والغلو في الدين، والقنوط، والخيلاء، والاغترار بالدنيا،
واتباع الهوى، والتكلف، والاستهزاء بآيات الله،
والاستعجال1، وتزكية النفس، والنميمة، والشح، والهلع2،
والدجر3، والمن، والبخل، والهمز واللمز، والسهو عن الصلاة،
والرياء، ومنع المرافق، وكذلك اشتراء الثمن القليل بآيات
الله، ولبس الحق بالباطل، وكتم العلم، وقساوة4 القلب،
واتباع خطوات الشيطان، والإلقاء باليد إلى التهلكة، واتباع
الصدقة بالمن والأذى، واتباع المتشابه، واتخاذ الكافرين
أولياء، وحب الحمد بما لم يفعل، والحسد، والترفع عن حكم
الله، والرضى بحكم الطاغوت، والوهن للأعداء والخيانة، ورمي
البريء بالذنب وهو البهتان، ومشاقة الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما ورد في الحديث:
"يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت ربي فلم يستجب
لي"، وفي رواية:
"يستعجل"*، وفي
الحديث:
"الإناة من الله والعجلة من الشيطان"**. "د".
2 الهلع: أفحش الجزع، وقد ورد:
"شر ما في المرء شح هالع، وجبن خالع"***. "د".
3 الدجر محركًا: الحيرة، وهي منهي عنها؛ لأنها لازمة لعدم
الصبر والاعتماد على الله. "د". قلت: وفي "ط": "والزجر".
4 في "د": "وقسوة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الدعوات، باب يستجاب
للعبد ما لم يعجل، 8/ 153"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر
والدعاء، باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل، 2735" عن
أبي هريرة مرفوعًا.
** أخرجه الترمذي "2012" عن سهل بن سعد وضعفه، وهو في
"ضعيف سنن الترمذي" "رقم 346" لشيخنا الألباني حفظه الله
تعالى.
*** أخرجه أبو داود "3511"، وابن حبان "808 – موارد"،
وأحمد "2/ 302-303"، وأبو نعيم "9/ 50" عن أبي هريرة،
وإسناده صحيح.
ج / 3 ص -395-
والرسول، واتباع غير سبيل المؤمنين، والميل عن الصراط
المستقيم، والجهر بالسوء من القول، والتعاون على الإثم
والعدوان، والحكم بغير ما أنزل الله، والارتشاء على إبطال
الأحكام، والأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، ونسيان الله،
والنفاق، وعبادة الله على حرف، والظن، والتجسس، والغيبة،
والحلف الكاذب1.
وما أشبه ذلك من الأمور التي وردت مطلقة في الأمر والنهي
لم يؤت فيها بحد محدود إلا أن مجيئها في القرآن2 على
ضربين:
أحدهما:
أن تأتي على العموم والإطلاق في كل شيء3، وعلى كل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "الكاذبة".
2 أي: مثلًا، وإلا؛ ففي السنة كذلك. "ف".
3 أي: من المناطات والأمور التي تتعلق بها، وقوله: "وعلى
كل حال"؛ أي: لم يفرق في النص عليها بين حال المأمور
والمنهي وحال آخر؛ فلم تبين النصوص حينئذ أنها تكون واجبة
إذا كان كذا ومندوبة إذا كان كذا، ولا محرمة إذا كان كذا
ومكروهة إذا كان كذا، بل تجيء في هذا الضرب مطلقة إطلاقًا
تامًا بدون تفريق بين مراتبها الكثيرة وتفاصيلها المختلفة
في قوة الطلب أو النهي حتى يصل إلى الوجوب أو التحريم، وقد
يصل إلى الكفر أو عدم قوته؛ فلا يتجاوز المندوب أو
المكروه، وهذا الضرب هو الغالب في غالب هذه الخصال من نوع
الأوامر الذي ذكر فيه ثلاثًا وسبعين خصلة، وكذا من نوع
النواهي الذي ذكر فيه إحدى وتسعين خصلة، ولا يقال: إن بعض
المنهيات؛ كالإشراك في العبادة، والقنوط من رحمة الله،
والاستهزاء بآيات الله، ونسيان الله وغيرها مما لا تتفاوت
أفراده؛ لأن هذه درجة واحدة هي الكفر؛ لأنا نقول: بل هي
متفاوتة أيضًا، ألا ترى في الإشراك حديث:
"أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيره تركته
وشركه"*؛ فهذا
قد يكون رياء وهو نوع من الشرك، وكذا يقال: إن غفلة القلب
عن تأدية أوامر الله نسيان لله وقد تعد استهزاء بآيات
الله، فهما بذلك من المعاصي التي لا تبلغ درجة الكفر، وقد
تقدم له في تفسير
{وَلا
تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا}
[البقرة: 231] أنها نزلت في مضارة الزوجة بالطلاق ثم
الرجعة ثم الطلاق... إلخ، وهكذا لو تأملت الباقي؛ لوجدت
الأمر على ما قرره. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مضى تخريجه "2/ 355، 3/ 10"، وهو صحيح.
ج / 3 ص -396-
حال،
لكن بحسب كل مقام، وعلى ما تعطيه شواهد الأحوال في كل
موضع، لا على وزان واحد، ولا حكم واحد، ثم وكل ذلك إلى نظر
المكلف؛ فيزن بميزان نظره، ويتهدى لما هو اللائق والأحرى
في كل تصرف، آخذًا ما بين الأدلة الشرعية والمحاسن
العادية؛ كالعدل، والإحسان، والوفاء بالعهد، وإنفاق عفو
المال، وأشباه ذلك؛ ألا ترى إلى قوله في الحديث:
"إن الله كتب الإحسان1
على كل شيء، فإذا قتلتم؛ فأحسنوا القتلة" إلخ2.
فقول3 الله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] ليس الإحسان فيه مأمورًا به أمرًا جازمًا في كل شيء،
ولا غير جازم في كل شيء، بل ينقسم بحسب المناطات؛ ألا ترى
أن إحسان العبادات بتمام أركانها من باب الواجب، وإحسانها
بتمام آدابها من باب المندوب؟
ومنه إحسان القتلة كما نبه عليه الحديث، وإحسان الذبح إنما
هو مندوب لا واجب، وقد يكون في الذبح من باب الواجب إذا
كان هذا الإحسان راجعًا إلى تتميم الأركان والشروط، وكذلك
العدل في عدم المشي بنعل واحدة ليس كالعدل في أحكام الدماء
والأمور وغيرها؛ فلا يصح إذًا إطلاق القول في قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل: 90] أنه أمر إيجاب أو أمر ندب؛ حتى يفصل الأمر فيه، وذلك
راجع إلى نظر المجتهد تارة، وإلى نظر المكلف وإن كان
مقلدًا تارة أخرى، بحسب ظهور المعنى وخفائه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو فعل الحسن ضد القبيح. "د".
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر
بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، 3/ 1548/ رقم 1955" عن
شداد بن أوس مرفوعًا، وتتمته:
"وإذا ذبحتم
فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته".
3 أي: فيؤخذ من هذا الأصل هذا المعنى في الآية. "د".
ج / 3 ص -397-
والضرب الثاني:
أن تأتي في أقصى مراتبها1، ولذلك تجد الوعيد مقرونًا بها
في الغالب، وتجد المأمور به منها أوصافًا لمن مدح الله من
المؤمنين، والمنهي عنها أوصافًا لمن ذم الله من الكافرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: تارة تأتي الأوامر والنواهي مطلقة دون أن تقترن
بعظيم الوعد ولا شديد الوعيد، وتارة يأتي الأمر بالخصلة في
أفضل مرتبته من تأكيد أمره وتفخيم شأنه؛ حتى لا يسع المكلف
التساهل فيه، سواء أكان أمرًا صريحًا أم في معنى الصريح؛
كما في قوله تعالى:
{فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه}
[آل عمران: 31] الآيتين، وقوله:
{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9، التغابن: 16] مع قوله:
{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [التغابن: 17] الآية، وقوله:
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النساء: 13 والفتح: 17] الآيتين، وكما في حديث: "ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حق الله فيها؛ إلا جاءت يوم
القيامة أكثر ما كانت"*
الحديث، وفي طلب الرفق بمخلوقات الله:
"دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها"** الحديث،
"الرحمة شجنة من الرحمن؛ من وصلها وصله الله، ومن قطعها
قطعه الله"***، وهكذا ما لا يحصى من الأوامر والنواهي لقوله تعالى:
{لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّه} الآية [يوسف: 87]،
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ
الْهُدَى}
الآية، والمشاقة أن يكون المرء في شقٍ والشرع في شقٍ آخر؛
فهي المخالفة مطلقًا، ولكن في الآية جاءت على أقصى مرتبة
كما يدل عليه الوعيد، ومنه:
{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِين}
الآية [آل عمران: 28]، والحديث:
"لا تكذبوا علي؛ فإنه من كذب علي متعمدًا يلج النار"، وكأحاديث الرياء وما فيها من التشديد والتهويل في أمره. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب إثم مانع
الزكاة/ رقم 987".
** أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب
منه، 6/ 515/ رقم 3482"، وكتاب المساقاة، باب فضل سقي
الماء/ رقم 2365"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة،
باب تحريم تعذيب الهرة، 4/ 1760/ رقم 2242".
*** أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب من وصلها
وصله الله، 10/ 417/ رقم 5988"، ومسلم في "صحيحه" كتاب
البر والصلة، باب صلة الرحم، 4/ 1981/ رقم 2555".
ج / 3 ص -398-
ويعين
ذلك أيضًا أسباب التنزيل لمن استقرأها؛ فكان القرآن آتيًا1
بالغايات تنصيصًا عليها، من حيث كان الحال والوقت يقتضي
ذلك، ومنبهًا بها على ما هو دائر2 بين الطرفين، حتى يكون
العقل3 ينظر فيما بينهما بحسب ما دله دليل الشرع؛ فيميز
بين المراتب بحسب القرب والبعد من أحد الطرفين؛ كي لا يسكن
إلى حالة هي مظنة الخوف لقربها من الطرف المذموم، أو مظنة
الرجاء لقربها من الطرف المحمود، تربية حكيم خبير.
وقد روي في هذا4 المعنى [عن أبي بكر الصديق] في وصيته لعمر
بن الخطاب عند موته حين قال له: "ألم تر أنه نزلت آية
الرخاء مع آية الشدة، وآية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ف": "آت"، قال "ف": "قوله الأنسب: آتيًا
بالنصب خبر كان الناقصة ونصب قوله: ومنبه، بعده عطفًا
عليه، ويبعد من جهة المعنى جعل كأن حرفًا للتشبيه، ويدل
لذلك ما يأتي عند قوله، وأيضًا؛ فمن حيث كان القرآن آتيًا
بالطرفين... إلخ".
2 لا يقال: إنما يظهر ذلك إذا كانت الغايتان المذكورتان في
الدليل الشرعي متعلقتين بخصلة واحدة، واقترن الأمر بها
بالوعد العظيم، والنهي عن ضدها بالوعيد الشديد؛ فيكون لها
طرف محمود، وطرف مذموم، وبينهما مراتب ينظر العقل في قربها
وبعدها من الطرفين، وهذا غير مطرد في الأوامر والنواهي؛
لأنا نقول: بل الأمر كذلك لأنه بفرض أنه لم يرد في الخصلة
الواحدة إلا الأمر؛ فالطرف الثاني المذموم وهو النهي وإن
لم ينص عليه دليل خاص؛ فدليله هو نفس الأمر الذي يقتضي
النهي عن ضده"، وكذا يقال في عكسه، على أن هذا ليس بلازم
في معنى الطرفين هنا، بل المراد الطرف العام الذي يستوجب
الرجاء بامتثال الأوامر التي فيها الوعد جملة، والطرف
المقابل له وهو الطرف العام الذي يستوجب الخوف من غضب الله
جملة، وإن كان ذلك في عدة خصال لا في خصلة واحدة ينظر بين
طرفيها، وهذا المعنى الثاني هو المناسب؛ لما رواه في قصة
أبي بكر، ولمساق الكلام الآتي إلى قوله: "فيزن المؤمن
أوصافه المحمودة فيخاف ويرجو، ويزن أوصافه المذمومة فيخاف
أيضًا ويرجو". "د". وفي "ط": "ومنبه بها على...".
3 في "ف": "الفعل"، وحشى عليه بقوله: "صوابه العقل، بقاف
معجمة قبلها عين مهملة".
4 في "ط": "من هذا".
ج / 3 ص -399-
الشدة
مع آية الرخاء؛ ليكون المؤمن راغبًا راهبًا؛ فلا يرغب رغبة
يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبة يلقي فيها
بيده إلى التهلكة، أولم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار
بسيئ أعمالهم؛ لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن، فإذا
ذكرتهم قلت: إني أخشى أن أكون منهم، وذكر أهل الجنة بأحسن
أعمالهم؛ لأنه تجاوز لهم عما كان لهم من سيئ، فإذا ذكرتهم؛
قلت: إني مقصر، أين عملي من أعمالهم؟"1، هذا ما نقل، وهو
معنى2 ما تقدم.
فإن صح؛ فذاك، وإلا؛ فالمعنى صحيح يشهد له الاستقراء.
وقد روي:
"أولم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسيئ أعمالهم؛ لأنه رد عليهم
ما كان لهم من حسن، فيقول القائل: أنا خير منهم؛ فيطمع،
وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم؛ لأنه تجاوز لهم عما كان لهم
من سيئ، فيقول قائل: من أين أدركُ درجتهم؟ فيجتهد"3.
والمعنى على هذه الرواية صحيح أيضًا يتنزل على المساق
المذكور، فإذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن زبر في "وصايا العلماء" "ص32-33" بإسناد ضعيف
وفيه انقطاع أيضًا، أبو المليح الهذلي لا يعرف له سماع من
أبي بكر ولا عمر، ورواه عنه عبيد الله بن أبي حميد أبو
الخطاب، قال البخاري: "منكر الحديث"، وقال: "يروي عن أبي
المليح عجائب"، وقال النسائي: "متروك"، وقال دحيم: "ضعيف".
2 هو على هذه الرواية مال إلى الخوف عند ذكر أهل النار؛
لما ذكر أهل الجنة لم تسكن نفسه إلى الرجاء، بل ذكر تقصيره
ليجتهد؛ فلم يرج، بل هو خائف في الحالتين، وليس دائرًا بين
الأمرين الذي هو المعنى المتقدم، أما في الرواية بعد؛
فالمعنى فيها يوافق ما تقدم، والظاهر أن الرواية الأولى
تبين حال أبي بكر نفسه، وهي غلبة الخوف عليه كما هو معروف
عنه، والرواية الثانية يقولها على لسان غيره رضي الله عنه.
"د".
3 أخرجه ابن زبر في "وصايا العلماء" "ص34-35" بإسناد ضعيف
منقطع، قتادة بن دعامة لم يدرك أبا بكر.
ج / 3 ص -400-
كان الطرفان مذكورين؛ كان الخوف والرجاء جائلًا بين هاتين
الأَخِيَّتين1 المنصوصتين، في محل مسكوت عنه لفظًا، منبه
عليه تحت نظر العقل، ليأخذ كل على حسب اجتهاده ودقة نظره،
ويقع التوازن بحسب القرب من أحد الطرفين والبعد من الآخر.
وأيضًا؛ فمن حيث كان القرآن آتيًا بالطرفين الغائبين2
حسبما اقتضاه المساق؛ فإنما أتى بهما في عبارات مطلقة تصدق
على القليل والكثير؛ فكما يدل المساق على أن المراد أقصى3
المحمود أو المذموم في ذلك الإطلاق، كذلك قد يدل اللفظ على
القليل والكثير من مقتضاه، فيزن المؤمن أوصافه المحمودة؛
فيخاف ويرجو، ويزن أوصافه المذمومة فيخاف أيضًا ويرجو.
مثال ذلك أنه إذا نظر في قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَان} [النحل: 90]؛ فوزن نفسه في ميزان العدل، عالمًا أقصى العدل الإقرار
بالنعم لصاحبها وردها إليه ثم شكره عليها، وهذا هو الدخول
في الإيمان والعمل بشرائعه، والخروج عن الكفر واطراح
توابعه، فإن وجد نفسه متصفًا بذلك؛ فهو يرجو أن يكون من
أهله، ويخاف أن لا يكون بلغ4 في هذا المدى غايته؛ لأن
العبد لا يقدر على توفية حق الربوبية في جميع أفراد هذه
الجملة، فإن نظر بالتفصيل؛ فكذلك أيضًا، فإن العدل كما
يطلب في الجملة يطلب في التفصيل؛ كالعدل بين الخلق إن كان
حاكمًا والعدل في أهله وولده ونفسه؛ حتى العدل في البدء
بالميامن5 في لباس النعل ونحوه، كما أن هذا جارٍ في ضده
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تثنية الأخية بفتح الهمزة وكسر الخاء وتشديد الياء، وهي
العروة تشد بها الدابة مثنية في الأرض، وجمعها أخايا أو
أخي مشددًا. "ف".
2 هكذا في الأصول، وفي "ط": "الغائلين"، قال "ف": "لعله
الفائتين بدليل ما تقدم".
3 أي: كما في الضرب الثاني. "د".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "يبلغ".
5 في "ف" في الموضعين: "بالميامن"، وعقب في الموضع الأول
بقوله: "لعله بالمياسر، تأمل".
ج / 3 ص -401-
وهو
الظلم؛ فإن أعلاه الشرك بالله،
{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم}
[لقمان: 13].
ثم في التفاصيل أمور كثيرة، أدناها مثلا البدء بالمياسر1،
وهكذا سائر الأوصاف وأضدادها؛ فلا يزال المؤمن في نظر
واجتهاد في هذه الأمور حتى يلقى الله وهو على ذلك.
فلأجل هذا قيل: إن الأوامر والنواهي المتعلقة بالأمور
المطلقة ليست على وزان واحد بل منها ما يكون من الفرائض أو
من2 النوافل في المأمورات ومنها ما يكون من المحرمات أومن
المكروهات في المنهيات، لكنها3 وكلت إلى أنظار المكلفين
ليجتهدوا في نحو هذه الأمور.
كان الناس من السلف الصالح يتوقفون عن الجزم بالتحريم،
ويتحرجون عن أن يقولوا: حلال أو حرام، هكذا صراحًا، بل
كانوا يقولون في الشيء إذا سئلوا عنه: لا أحب هذا، وأكره
هذا، ولم أكن لأفعل هذا، وما أشبهه4؛ لأنها أمور مطلقة في
مدلولاتها، غير محدودة في الشرع تحديدًا يوقف عنده لا
يُتعدى، وقد قال تعالى:
{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ
وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116].
وقد جاء مما يعضد هذا الأصل زيادة على الاستقراء المقطوع
به فيها قوله تعالى:
{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم}
الآية: [الأنعام: 82]، فإنها لما نزلت قال الصحابة: وأينا لم يظلم؟
فنزلت:
{إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم}
[لقمان: 13].
وفي رواية: لما نزلت هذه الآية؛ شق ذلك على أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الحاشية السابقة.
2 في "ط": "ومن".
3 في الأصل: "لأنها".
4 انظر: "إعلام الموقعين" "1/ 31 - وما بعده".
ج / 3 ص -402-
وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"ليس بذلك، ألا تسمع1
إلى قول لقمان:
{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لقمان: 13]!"2. وفي "الصحيح":
"آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان"3.
فقال ابن عباس وابن عمر -وذكرا لرسول الله صلى الله عليه
وسلم ما أهمهما من هذا الحديث-: فضحك عليه الصلاة والسلام،
فقال:
"ما لكم ولهن؟ إنما خصصت بهن المنافقين، أما قولي: إذا حدث كذب؛ فذلك
فيما أنزل الله علي:
{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ
اللَّه}
الآية: [المنافقين: 1]؛
أفأنتم كذلك؟".
قلنا: لا. قال:
"لا عليكم،
أنتم من ذلك برآء، وأما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فتكون الآية من قبيل:
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ
مُشْرِكُونَ}؛ فلا يقال: كيف يتأتى لبس الإيمان بالشرك ولا يوجد الإيمان معه؟!
وفي قصة الصحابة في الآية والحديث الدلالة الواضحة على أن
هذه المطلقات من النواهي غير الصريحة لم تحدد تحديدًا يوقف
عنده؛ فهي في الآية والحديث في أعلى مراتب النهي، وقد فهم
الصحابة أنها شاملة للمراتب الأخرى. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب ظلم دون
ظلم، 1/ 87/ رقم 32، وكتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى:
{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، 6/ 389/ رقم 3360، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة} 6/ 465/ رقم 3428، 3429، وكتاب التفسير، باب
{وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم}، 8/ 294/ رقم 4629، وباب سورة لقمان، 8/ 513/ رقم 4776، وكتاب
استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب إثم من أشرك
بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة، 12/ 264/ رقم 6918، وباب
ما جاء في المتأولين، 12/ 303/ رقم 6937"، ومسلم في
"صحيحه" "كتاب الإيمان، باب صدق الإيمان وإخلاصه، 1/
114-115/ رقم 124" عن ابن مسعود رضي الله عنه.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب علامة
المنافق، 1/ 89/ رقم 23"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب
الإيمان، باب بيان خصال المنافق، 1/ 78/ رقم 59" عن أبي
هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
ج / 3 ص -403-
قولي: إذا
وعد أخلف؛ فذلك فيما أنزل [الله]1 علي:
{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ
لَنَصَّدَّقَنّ}
الآيات الثلاث [التوبة: 75-78]؛
أفأنتم كذلك؟". قلنا: لا.
قال:
"لا عليكم، أنتم من ذلك برآء، وأما قولي: إذا ائتمن خان؛ فذلك فيما
أنزل الله علي:
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَالْجِبَال}
الآية [الأحزاب: 72]؛
فكل إنسان
مؤتمن على دينه، فالمؤمن يغتسل من الجنابة في السر
والعلانية، ويصوم ويصلي في السر والعلانية، والمنافق لا
يفعل ذلك؛ أفأنتم كذلك؟". قلنا: لا. قال:
"لا عليكم، أنتم من ذلك برآء"2.
ومن تأمل الشريعة وجد من هذا ما يطمئن إليه قلبه في اعتماد
هذا الأصل، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل و"م" و"ف" و"ط"، وسقطت من "د".
2 ذكره سهل بن عبد الله التستري في "تفسيره" "ص48-49" من
غير إسناد، ولا إخاله يصح، ولم يذكره السيوطي في "الدر" في
مواطن الآيات المذكورة.
ج / 3 ص -404-
المسألة السابعة:
الأوامر
والنواهي ضربان1 صريح، وغير صريح، فأما الصريح؛ فله نظران:
أحدهما:
من حيث مجرده لا يعتبر2 فيه علة مصلحية، وهذا3 نظر من يجري
مع مجرد الصيغة4 مجرى التعبد المحض من غير تعليل؛ فلا فرق
عند صاحب هذا النظر بين أمر وأمر، ولا بين نهي ونهي؛
كقوله:
{أَقِيمُوا الصَّلاة}
مع
قوله:
"اكْلَفُوا من العمل ما لكم به طاقة"5.
وقوله:
{فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه}
[الجمعة: 9] مع قوله:
{وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9].
وقوله: "ولا تصوموا
يوم النحر"6 مثلًا مع قوله:
"لا تواصلوا"7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: باعتبار الصيغة. "د".
2 أي: حتى يقال: إنه يفهم الغرض من الأمر والنهي بميزان
تلك المصلحة. "د".
3 هذا طريق الظاهرية. "د".
4 في الأصل: "الصفة".
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب التنكيل لمن
أكثر الوصال، 4/ 206/ رقم 1966"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب
الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم، 2/ 774-775/ رقم
1103" عن أبي هريرة، والمذكور بعض ألفاظ مسلم.
وقال "ف" و"م" في معنى
"اكلفوا":
"هو من كلفت بالأمر إذا أولعت به وأحببته".
6 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب صوم يوم
النحر، 4/ 240/ رقم 1993"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام،
باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، 2/ 799/ رقم
1138" عن أبي هريرة؛ قال: "ينهى عن صيامين وبيعتين: الفطر
والنحر، والملامسة والمنابذة".
ونحوه في الصحيحين" عن أبي سعيد، وسيأتي "ص469". وأخرجه
أحمد في "المسند" "3/ 53" عن أبي سعيد، وفيه: "ولا تصوموا يوم الفطر ولا يوم الأضحى".
وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" "8/ 388" عن أبي سعيد مرفوعًا
بلفظ:
"لا تصوموا
يومين: يوم الفطر، ويوم النحر".
7 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب الوصال، 4/
202/ رقم 1961" عن أنس و"رقم 1963" عن أبي سعيد.
ج / 3 ص -405-
وما
أشبه ذلك مما يفهم1 فيه التفرقة بين الأمرين.
وهذا نحو ما في "الصحيح"؛ أنه عليه الصلاة والسلام خرج على
أبي ابن كعب وهو يصلي؛ فقال عليه الصلاة والسلام:
"يا أبي!"؛ فالتفت
إليه ولم يجبه، وصلى فخفف فخفف ثم انصرف؛ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:
"يا أبي! ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟". فقال: يا رسول الله! كنت أصلي. فقال:
"أفلم تجد فيما أوحي إلي:
{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ
لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]؟". قال: بلى يا رسول الله، ولا أعود إن شاء الله.
وهو في البخاري2 عن أبي سعيد بن المعلى، وأنه صاحب القصة؛
فهذا منه عليه الصلاة والسلام إشارة3 إلى النظر لمجرد
الأمر وإن كان ثم معارض.
وفي أبي داود أن ابن مسعود جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله
عليه وسلم يخطب؛ فسمعه يقول:
"اجلسوا". فجلس بباب المسجد، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له:
"تعال يا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بمقتضى القرائن، وسيأتي في بيان النظر الثاني ما
يتضح به تطبيق وجهة هذا النظر الأول على هذه الآيات
والأحاديث التي مثل بها هنا. "د".
2 مضى تخريجه "ص298".
3 قد يقال: إن الآية مخصصة لآية:
{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} التي أوجبت على المصلي ألا يتكلم؛ فالنبي صلى الله صلى الله عليه
وسلم يرشده إلى التخصيص، وأنه تجب عليه الاستجابة للرسول
-ولو في الصلاة- بمقتضى هذه الآية، على أي وجه نظر إلى
الأمر؛ فلا دلالة فيه على غرض المؤلف. "د".
ج / 3 ص -406-
عبد الله"1.
وسمع عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
بالطريق يقول: "اجلسوا". فجلس بالطريق، فمر به عليه الصلاة
والسلام؛ فقال: "ما شأنك؟". فقال سمعتك تقول اجلسوا. فقال
له: "زادك الله طاعة"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب الإمام
يكلم الرجل في خطبته، 1/ 286/ رقم 1091" -ومن طريقه
البيهقي في "الكبرى" "2/ 206"- من طريق مخلد بن يزيد عن
ابن جريج عن عطاء عن جابر به.
وقال أبو داود عقبه: "هذا يعرف مرسلًا، إنما رواه الناس عن
عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومخلد هو شيخ". قلت:
قال ابن حجر عنه في "التقريب": "صدوق له أوهام".
ومن أوهامه وصله لهذا الحديث، وقد خالفه الوليد بن مسلم؛
فرواه عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس لا عن جابر.
أخرجه ابن خزيمة في "الصحيح" "3/ 141-142/رقم 1780"،
والحاكم في "المستدرك" "1/ 283-284"، والبيهقي في "الكبرى"
"3/ 205-206".
وقال ابن خزيمة قبله: "إن كان الوليد بن مسلم ومن دونه حفظ
ابن عباس في هذا الإسناد؛ فإن أصحاب ابن جريج أرسلوا هذا
الخبر عن عطاء* عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وضعفه شيخنا الألباني بقوله في التعليق على "صحيح ابن
خزيمة": "قلت: فيه مع الإرسال الذي أشار إليه الحافظ -أي:
ابن خزيمة- عنعنة ابن جريج، وكذا الوليد، وكان يدلس تدليس
التسوية، وهشام بن عمار كان يتلقن".
بقي بعد هذا أمر، وهو أن ابن عبد البر في "الجامع" "2/
166/ 1632" أورد هذا الحديث بقوله: "وروي عن ابن مسعود أنه
جاء يوم الجمعة..."، ثم قال: "ذكره أبو داود في "كتاب
الجمعة" من "السنن"؛ فأوهم صنيعه هذا المصنف -الشاطبي- أن
الحديث من مسند ابن مسعود، وليس هو كذلك بل هو -عن أبي
داود- من مسند جابر، والمصنف ينقل كثيرًا من الأحاديث
ويعزوها أو يحكم عليها تقليدًا لغيره، وقد أكثر في هذا
الكتاب من النقل عن ابن عبد البر رحمه الله تعالى.
2 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "3/ 256-257"، والديلمي في
"الفردوس" وابن عساكر في "تاريخ دمشق"، كما في "كنز
العمال" "رقم 37170، 37171" بإسناد منقطع؛ فهو ضعيف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* انظر: "مسند الحارث" "1015 - زوائده"، و"ذم الكلام"
"279".
ج / 3 ص -407-
وفي
البخاري: قال عليه الصلاة والسلام يوم الأحزاب:
"لا يُصَلِّ أحد العصر إلا في بني قريظة"1،
فأدركهم وقت العصر في الطريق؛ فقال بعضهم: لا نصلي حتى
نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلي، ولم يُرِدْ منا ذلك فذكر ذلك
للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فلم يعنف2 واحدة من الطائفتين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الخوف، باب صلاة الطالب
والمطلوب راكبًا وإيماءً، 2/ 436/ رقم 946، وكتاب المغازي،
باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب، 7/
407-408/ رقم 4119"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد
والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين
المتعارضين، 3/ 1391/ رقم 1770" عن ابن عمر رضي الله عنهما
مرفوعًا.
2 عدم التعنيف لا يدل على صواب النظرين؛ لأن المجتهد
المخطئ مأجور، فضلًا عن كونه لا يعنف؛ فليس في الحديث ما
يدل على غرض المؤلف من صحة النظر إلى مجرد الأمر، على أن
المؤخرين للصلاة قد يكونون فهموا من النهي عن الصلاة أن
هناك مصلحة دينية أو دنيوية علمها رسول الله صلى الله عليه
وسلم وإن لم يبادر لبيانها لهم؛ فلا يكونون قد استندوا
لمجرد الأمر. "د".
قلت: وسمعت شيخنا الألباني -حفظه الله- مرارًا يقول عن
الصلاة في بني قريظة: إنها من قضايا الأعيان، ولن تتكرر،
ولذا سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن الفريقين، مع أن أحد
الفريقين مصيب لا كلاهما، قال حفظه الله في التعليق على
حديث "رقم 1981" من "السلسة الضعيفة" ما نصه: "يحتج بعض
الناس اليوم بهذا الحديث على الدعاة من السلفيين، وغيرهم،
الذين يدعون إلى الرجوع فيما اختلف فيه المسلمون إلى
الكتاب والسنة، يحتج أولئك على هؤلاء بأن النبي صلى الله
عليه وسلم أقر خلاف الصحابة في هذه القصة، وهي حجة داحضة
واهية؛ لأنه ليس في الحديث إلا: "أنه لم يعنف واحدًا
منهم"، وهذا يتفق تمامًا مع حديث الاجتهاد المعروف، وفيه
أن من اجتهد فأخطأ فله أجر واحد؛ فكيف يعقل أن يعنف من قد
أجر؟! وأما حمل الحديث على الإقرار للخلاف؛ فهو باطل
لمخالفته للنصوص القاطعة الآمرة بالرجوع إلى الكتاب والسنة
عند التنازع والاختلاف؛ كقوله تعالى:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلًا}،
وقوله:
{وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَة =
ج / 3 ص -408-
......................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=
مِنْ
أَمْرِهِمْ} الآية.
وإن عجبي لا يكاد ينتهي من أناس يزعمون أنهم يدعون إلى
الإسلام، فإذا دعوا إلى التحاكم إليه؛ فقالوا: قال عليه
الصلاة والسلام: "اختلاف أمتي رحمة"، وهو حديث ضعيف لا أصل
له كما تقدم تحقيقه في أول هذه السلسلة، وهم يقرءون قول
الله تعالى في المسلمين حقًا:
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
ووجدت كلامًا جيدًا حول هذا الحديث للحافظ ابن كثير في
كتابه "الفصول في اختصار سيرة الرسول" "ص152-153"، قال
رحمه الله تعالى: "قال ابن حزم [في "جامع السيرة" "ص192"]:
وهؤلاء هم المصيبون وأولئك مخطئون مأجورون، وعلم الله لو
كنا هناك لم نصلِّ العصر إلا في بني قريظة ولو بعد أيام".
قلت: أما ابن حزم؛ فإنه معذور لأنه من كبار الظاهرية، ولا
يمكنه العدول عن هذا النص، ولكن في ترجيح أحد هذين الفعلين
على الآخر نظر، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يعنف أحدًا
من الفريقين، فمن يقول بتصويب كل مجتهد؛ فكل منهما مصيب
ولا ترجيح، ومن يقول بأن المصيب واحد -وهو الحق الذي لا شك
فيه ولا مرية، لدلائل من الكتاب والسنة كثيرة- فلا بد على
قوله من أن أحد الفريقين له أجران بإصابة الحق وللفريق
الآخر أجر؛ فنقول وبالله التوفيق: الذين صلوا العصر في
وقتها حازوا قصب السبق؛ لأنهم امتثلوا أمره صلى الله عليه
وسلم في المبادرة إلى الجهاد وفعل الصلاة في وقتها، ولا
سيما صلاة العصر التي أكد الله سبحانه المحافظة عليها في
كتابه بقوله تعالى:
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}، وهي العصر على الصحيح المقطوع به -إن شاء الله- من بضعة عشر
قولًا، والتي جاءت السنة بالمحافظة عليها، فإن قيل: كان
تأخير الصلاة للجهاد حينئذ جائزًا، كما أنه صلى الله عليه
وسلم أخر العصر والمغرب يوم الخندق واشتغل بالجهاد، والظهر
أيضًا، كما جائ في حديث رواه النسائي [في "المجتبى" "1/
297"، وفيه انقطاع عن ابن مسعود، ورواه عن أبي سعيد بإسناد
صحيح؛ كما في "النيل" "2/ 32"] من طريقين؛ فالجواب أنه
بتقدير تسليم هذا وأنه لم يتركها يومئذ نسيانًا، فقد تأسف
على ذلك حيث يقول لما قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
يا رسول الله! ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب.
فقال:
"والله ما صليتها"، وهذا يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم كان ناسيًا لها لما هو فيه من
الشغل؛ كما جاء في "الصحيحين" عن علي رضي الله عنه؛ قال: =
ج / 3 ص -409-
وكثير
من الناس فسخوا البيع الواقع في وقت النداء؛ لمجرد قوله
تعالى:
{وَذَرُوا الْبَيْع} [الجمعة: 9].
وهذا وجه من الاعتبار يمكن الانصراف إليه والقول به عامًا،
وإن كان غيره أرجح منه، وله مجال في النظر منفسح؛ فمن
وجوهه أن يقال: لا يخلو أن نعتبر في الأوامر والنواهي
المصالح، أولا، فإن لم نعتبرها؛ فذلك أحرى في الوقوف مع
مجردها، وإن اعتبرناها؛ فلم يحصل1 لنا من معقولها أمر
يتحصل2 عندنا دون3 اعتبار الأوامر والنواهي؛ فإن المصلحة
وإن علمناها على الجملة؛ فنحن جاهلون بها على التفصيل فقد
علمنا أن حد الزنى مثلا لمعنى الزجر بكونه4 في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب:
"شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا".
والحاصل أن الذين صلوا العصر في الطريق جمعوا بين الأدلة،
وفهموا المعنى؛ فلهم الأجر مرتين، والآخرين حافظوا على
أمره الخاص؛ فلهم الأجر رضي الله عنهم جميعهم وأرضاهم".
انتهى، وما بين المعقوفتين من إضافاتي، وانظر: "تفسير ابن
كثير "3/ 486 - ط المعرفة"، و"مدارج السالكين" "1/ 386 - ط
الفقي".
1 أي لم يتحقق عندنا فيما نعقله من أنواع المصلحة في
المأمورات والمنهيات ما يصح أن نعتمده ونجري تفهم الأوامر
على مقتضاه، مغفلين النظر إلى صريح الأمر أو النهي، وذلك
لمعنيين: أحدهما أنا قد نعقل الحكمة في أمر كالزجر في رجم
الزاني المحصن، ولكن لا نعقل لماذا تعين هذا طريقًا للزجر،
مع أنه كان يمكن الزجر بضرب العنق أو الجلد حتى يموت
مثلًا، وهكذا؛ فهذا المقدار من العلم الإجمالي بالمصلحة لا
يصح أن يبنى عليه شيء قد يكون فيه إهدار الأمر والنهي،
وسيأتي المعنى الثاني في قوله: "وكثيرًا مما يظهر... إلخ".
"د".
2 أي: حتى يصح أن نفهم بواسطته تجديد المصلحة أو المفسدة
التي يقصدها الشارع بالأمر أو النهي. "د".
3 أي: بأن نجعل تلك المصلحة ميزانًا لتفهم الأمر والنهي،
بحيث تجعل المصلحة هي الحاكمة في توجيه الأوامر والنواهي
الشرعية، وإن أدت إلى عدم اعتبار معناها الأصلي، ويؤول هذا
إلى اعتبار المصلحة دونهما. "د".
4 في "ط": "فكونه".
ج / 3 ص -410-
المحصن
الرجم، دون ضرب العنق، أو الجلد إلى الموت، أو إلى عدد
معلوم، أو السجن، أو الصوم، أو بذل مال كالكفارات، وفي غير
المحصن جلد مائة وتغريب عام دون رجم، أو القتل أو زيادة
عدد الجلد على المائة أو نقصانه عنها، إلى غير ذلك من وجوه
الزجر الممكنة في العقل.
هذا كله لم نقف على تحقيق المصلحة فيما حد فيه على الخصوص
دون غيره، وإذا لم نعقل ذلك -ولا يمكن ذلك للعقول- دل على
أن فيما حد من ذلك مصلحة لا نعلمها، وهكذا يجري الحكم في
سائر ما يعقل معناه، أما التعبدات1؛ فهي أحرى بذلك، فلم
يبق لنا إذًا وزر2 دون الوقوف مع مجرد الأوامر والنواهي.
وكثيرًا3 ما يظهر لنا ببادئ الرأي للأمر أو النهي معنى
مصلحي، ويكون4 في نفس الأمر بخلاف ذلك، يبينه نص آخر
يعارضه؛ فلا بد من الرجوع إلى ذلك النص دون اعتبار ذلك
المعنى.
وأيضًا5؛ فقد مر في كتاب المقاصد أن كل أمر ونهي لا بد فيه
من معنى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: التي مبناها على مجرد التلقي دون النظر إلى المعقول
من المصالح والحكم. "د".
2 بفتحتين: الملجأ والمعتصم. "ف".
3 مقابل لقوله: "وإن علمناها على الجملة، فنحن جاهلون بها
على التفصيل"؛ أي: قد نعلمها إجمالًا، وهذا هو المعنى
الأول، وقد نفهم ببادئ النظر أنا عرفناها ثم يتبين أنها
غير ما فهمناه، بسبب وقوفنا على نص آخر، أو بسبب اكتشاف
قاعدة من أحكام الكون نفهم بها مصلحة للحكم الشرعي غير ما
كنا نفهمها، يعني: وإذا لم نتحقق تعيين الحكمة للأمر؛ فلا
يمكننا الخروج عما تقتضيه الصيغ بحسب ظاهرها. "د".
4 في "ط": "فيكون".
5 انظر: هل يستقل هذا بأن يكون وجهًا ثالثًا مغايرًا لما
سبق، بحيث لا يستغنى عنه بقوله: "أما التعبدات.... إلخ؟
وإن كان في هذا لاحظ التعبد في الجميع. "د".
ج / 3 ص -411-
تعبدي،
وإذا ثبت هذا؛ لم يكن لإهماله سبيل؛ فكل معنى يؤدي إلى عدم
اعتبار مجرد الأمر والنهي لا سبيل إلى الرجوع إليه، فإذًا
المعنى1 المفهوم للأمر والنهي إن كرّ عليه بالإهمال؛ فلا
سبيل إليه، وإلا؛ فالحاصل الرجوع إلى الأمر والنهي دونه؛
فآل الأمر في القول باعتبار المصالح أنه لا سبيل إلى
اعتبارها مع الأمر والنهي، وهو المطلوب.
ولا يقال: إن عدم الالتفات إلى المعاني إعراض عن مقاصد
الشارع المعلومة؛ كما في قول2 القائل: لا يجوز الوضوء
بالماء الذي بال فيه الإنسان، فإن كان قد بال في إناء ثم
صبه في الماء؛ جاز الوضوء به.
لأنا نقول: هذا أيضًا معارض بما يضاده في الطرف الآخر في
تتبع المعاني مع إلغاء الصيغ، كما قيل في قوله عليه الصلاة
والسلام:
"في أربعين شاةً شاةٌ"3: إن المعنى قيمة شاة؛ لأن المقصود سد الخلة، وذلك حاصل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الحكمة المعقولة للأمر والنهي إذا كانت تعارضهما
وتؤدي إلى إهمالهما وإبطال مقتضاهما؛ فلا سبيل للأخذ بهذه
الحكمة والبناء عليها، وسيأتي تمثيله بالشاة في الزكاة،
وإن كانت لا تعارضهما، فمن باب أولى أن العمل إنما هو
بمقتضاهما؛ فالمآل أنهما المرجع ومبنى الأحكام دون المعنى
المصلحي، حتى على اعتبار المصالح. "د".
2 قال الفقهاء: لا فرق بين أن يقع البول في الماء مباشرة
أو في إناء ثم يصب فيه، خلافًا للظاهرية وقوفًا منهم عند
حرفية الدليل في حديث:
"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يتوضأ منه"، أو:
"يغتسل منه"، أو:
"فيه"* على الروايات الثلاث، حتى فرقوا بين البول فيه والتغوط فيه؛ فحرموا
الأول دون الثاني، قال النووي: "وهو أقبح ما نقل عنهم من
الجمود على الظاهر"؛ فقولهم بهذا الفرق إعراض منهم عن
مقاصد الشرع الظاهرة. "د".
3 أخرج البخاري في "صحيحة" "كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم،
4/ 317/ رقم 1454" ضمن حديث طويل فيه:
"وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين
ومائة شاة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* انظر لتخريجه "نصب الراية" "1/ 101، 112".
ج / 3 ص -412-
بقيمة
الشاة؛ فجعل الموجود معدومًا، والمعدوم موجودًا، وأدى ذلك
إلى أن لا تكون الشاة واجبة، وهو عين المخالفة، وأشباه ذلك
من أوجه المخالفة الناشئة عن تتبع المعاني.
وإذا كانت المعاني غير معتبرة بإطلاق، وإنما تعتبر من حيث
هي مقصود الصيغ؛ فاتباع أنفس الصيغ التي هي الأصل واجب
لأنها مع المعاني كالأصل مع الفرع، ولا يصح اتباع الفرع مع
إلغاء الأصل، ويكفي من التنبيه على رجحان هذا النحو ما
ذكر.
والثاني من النظرين: هو من حيث يفهم من الأوامر والنواهي
قصد شرعي بحسب الاستقراء1، وما يقترن بها من القرائن
الحالية أو المقالية الدالة على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: استقراء ما ورد في الكتاب والسنة من الأوامر أو
النواهي في خصوص هذه المأمورات أو المنهيات؛ فإن تنوع
الصيغ في مختلف التراكيب مع الالتفات للقرائن المحتفة بها
يدل على عين المصلحة المقصود للشارع تحصيلها، وفيه إشارة
إلى دفع ما سبق من أنه لا يمكن تحديد المصلحة وتعيينها؛
فيقول هنا: إن ذلك ممكن باستقراء موارد هذه الأوامر
وبالقرائن، وحينذاك تعرف المصلحة عينًا، ويصح أن يبنى
عليها فهم الغرض من الأمر والنهي كما سيمثل له، أما مثاله
هناك في حد الزنا؛ فيمكن أن يقال: نحن لا ندعي أن كل أمر
يفهم منه قصد الشارع في المصلحة قصدًا محدودًا معينًا
بمعرفة حكمته وسره، بل نقول: إذا دل الاستقراء على مقصود
الشارع محدودا معينا، وإن لم تعرف الحكمة الخاصة؛ عول على
المقصد وإن لزمه تأويل لفظ الأمر واستعماله في معنى مجازي،
وإن لم نتحقق بالاستقراء والقرائن مقصوده كذلك؛ كان مما
يحب فيه الوقوف عند الأمر والنهي حسب وضعه الأصلي، وكما أن
فيه دفع الشق الأول وهو عدم تعيين المصلحة وتحديدها، فإن
فيه دفع الشق الثاني السالف، وهو قوله: "وكثيرًا ما يظهر
ببادئ الرأي... إلخ؛ فكأنه يقول له: وما لنا ببادئ الرأي
وأوله؟ إنما نقول بحسب الاستقراء وتتبع القرائن، فإذا كان
كذلك؛ فإنه لا يتبين بنص آخر خلاف المعنى المصلحي الذي
يبنى عليه فهم الأمر على حقيقته، على فرض توقف فهم قصد
الشارع من الأمر على العلم بالمعنى المصلحي تفصيلًا. "د".
ج / 3 ص -413-
أعيان
المصالح في المأمورات، والمفاسد في المنهيات1؛ فإن المفهوم
من قوله:
{أَقِيمُوا الصَّلاة} المحافظة عليها والإدامة2 لها، ومن قوله:
"اكلفوا من العمل ما لكم له طاقة"3 الرفق بالمكلف خوف العنت أو الانقطاع، لا أن المقصود نفس التقليل
من العبادة، أو ترك الدوام على التوجه لله.
وكذلك قوله:
{فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه}
[الجمعة: 9] مقصوده الحفظ على إقامة الجمعة وعدم التفريط
فيها، لا الأمر بالسعي إليها فقط.
وقوله:
{وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] جارٍ مجرى التوكيد لذلك بالنهي عن ملابسة الشاغل عن
السعي، لا أن المقصود النهي عن البيع مطلقًا4 في ذلك
الوقت، على حد النهي عن بيع الغرر5، أو بيع الربا، أو
نحوهما6.
وكذلك إذا قال:
"لا
تصوموا يوم النحر"7 المفهوم
مثلا قصد الشارع إلى ترك إيقاع الصوم فيه خصوصًا، ومن
قوله:
"لا تواصلوا"8، أو قوله:
"لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" 25/ 282-283
و29/281-292".
2 وهذا فُهِم بتتبع الأوامر الواردة في المحافظة على
الصلاة، ومن القرائن المحتفة بهذه الأوامر وهي فعله صلى
الله عليه وسلم وفعل صحابته في إقامه الصلاة مع القرائن
المقالية؛ كقوله تعالى:
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات}
[البقرة: 238]، وهكذا. "د".
3 مضى تخريجه "ص404".
4 أي: بل ذلك لمن تلزمه الجمعة فقط، لأنه يكون معطلًا له
وشاغلًا عنها؛ فليس النهي عنه مقصودًا لذاته، بل هو تبعي
مكمل لطلب إقامة الجمعة؛ فلذلك قال: "جارٍ مجرى التوكيد"؛
لأن الأمر بالسعي متضمن للنهي عما يشغل عنه؛ فكان التصريح
بهذا المنهي كالتأكيد. "د".
5 سيأتي تخريجه "ص416".
6 في الأصل: "نحوها".
7 مضى تخريجه "ص404"، وهو صحيح.
8 مضت الأحاديث التي فيها النهي عن ذلك.
ج / 3 ص -414-
تصوموا
الدهر"1 الرفق بالمكلف أن لا يدخل فيما لا يحصيه ولا يدوم عليه، ولذلك كان
عليه الصلاة والسلام يواصل ويسرد الصوم2، كان يصوم حتى
يقال3: لا يفطر، ويفطر حتى يقال3: لا يصوم4.
وواصل عليه الصلاة والسلام، وواصل السلف الصالح مع علمهم
بالنهي؛ تحققًا بأن مغزى النهي الرفق والرحمة5، لا أن
مقصود النهي عدم إيقاع الصوم ولا تقليله.
وكذلك سائر الأوامر والنواهي التي مغزاها راجع إلى هذا
المعنى؛ كما أنه قد يفهم من مغزى الأمر والنهي الإباحة6،
وإن كانت الصيغة لا تقتضي بوضعها الأصلي ذلك؛ كقوله تعالى:
{وَإِذَا
حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}
[المائدة: 2]،
{فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْض}
[الجمعة: 10]؛ إذ علم قطعًا أن مقصود
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد في النهي عن صيام الدهر أحاديث كثيرة، تراها في
"صحيح البخاري" "كتاب الصوم، باب صوم الدهر، 4/ 220"،
و"صحيح مسلم" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن
تضرر به أو....، 2/ 812-818"، ومنها ما عند مسلم "رقم
1159": "لا صام من صام الأبد".
2 مضى تخريجه "2/ 239"، وفي "ط": "ويسرد الصيام".
قال "ف": "أي: يواليه ويتابعه تعليمًا للأمة كيف تجاهد
نفسها وتصبر عند صدمات الشدائد".
3 في "ط": "يقولوا".
4 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب ما يذكر من
صوم النبي صلى الله عليه وسلم، 4/ 215/ رقم 1971"، ومسلم
في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صيام النبي صلى الله عليه
وسلم في غير رمضان، 2/ 811/ 1157" عن ابن عباس؛ قال: "ما
صام النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا كاملًا قط غير رمضان،
ويصوم حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر، ويفطر حتى يقول
القائل: لا والله لا يصوم".
5 كما جاء النص به، وقد مضى "2/ 240".
6 وقد ذكروا للأمر ستة عشر معنى مجازيًا، وقالوا: يجب أن
تكون الإباحة وغيرها معلومة من غير الصيغة، حتى يكون العلم
قرينة على إرادة غير الطلب. "د".
ج / 3 ص -415-
الشارع
ليس ملابسة الاصطياد عند الإحلال، ولا الانتشار عند انقضاء
الصلاة، وإنما مقصوده أن سبب المنع من هذه الأشياء قد زال،
وهو انقضاء1 الصلاة، وزوال2 حكم الإحرام.
فهذا النظر يعضده الاستقراء أيضًا، وقد مر منه أمثلة.
وأيضًا؛ فقد قام الدليل على اعتبار المصالح شرعًا، وأن
الأوامر والنواهي مشتملة عليها، فلو تركنا اعتبارها على
الإطلاق؛ لكنا قد خالفنا3 الشارع من حيث قصدنا موافقته،
فإن الفرض أن هذا الأمر وقع لهذه المصلحة، فإذا ألغينا
النظر فيها في التكليف بمقتضى الأمر؛ كنا قد أهملنا في
الدخول تحت حكم الأمر ما اعتبره الشارع فيه؛ فيوشك4 أن
نخالفه في بعض موارد ذلك الأمر، وذلك أن الوصال وسرد5
الصيام قد جاء النهي عنه، وقد واصل عليه الصلاة والسلام
بأصحابه حين نهاهم فلم ينتهوا6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1 و2" من إضافة الصفة للموصوف فيهما، والمقصود هو
الموصوف. "د".
وكتب "ف": "أي: السبب بوصف الزوال هو انقضاء الصلاة وزوال
حكم الإحرام، وإلا؛ فالإحرام والصلاة هما السببان
المانعان".
3 أي: قد تحصل المخالفة من حيث قصدنا الموافقة بفعل مقتضى
الصيغة مجردة عن القرائن التي تحدد معناها؛ كما سيقول:
"فيوشك.. إلخ". "د".
4 لأن إهمال اعتبار المصلحة التي ورد الأمر أو النهي
لتحقيقها يجعلنا غير ضابطين لحدود الأمر أو النهي؛ لأنه لا
يكون لنا مرشد إلى مقصد الشارع سوى مجرد الصيغة، وقد لا
تكون كافية في تحديد المقصد، فإذا التزمنا الوقوف معها
فقط؛ فقد ننحرف عن الغرض الذي يرمي إليه الشرع، كما في
مثاله بعد الذي كان يلزمه المحظوران المذكوران. "د".
5 في "ط": "أو سرد".
6 حتى قال لهم:
"لو تأخر
الشهر لزدتكم"؛ كالمنكل
لهم حين أبوا أن ينتهوا، قاله المصنف "1/ 526"، وكان يقول:
"لو مد لنا في الشهر لواصلت وصالًا يدع المتعمقون تعمقهم،
وتخريجه هناك في التعليق عليه، والله الموفق للخيرات،
والهادي للصالحات.
ج / 3 ص -416-
وفي
هذا أمران إن أخذنا بظاهر النهي:
أحدهما:
أنه نهاهم فلم ينتهوا؛ فلوا كان المقصود من النهي ظاهره
لكانوا قد عاندوا نهيه بالمخالفة مشافهة، وقابلوه بالعصيان
صراحًا، وفي القول بهذا ما فيه.
والآخر:
أنه واصل بهم حين لم يمتثلوا نهيه، ولو كان النهي على
ظاهرة؛ لكان تناقضًا1، وحاشى لله من ذلك، وإنما كان ذلك
النهي للرفق بهم خاصة، وإبقاء عليهم، فلما لم يسامحوا
أنفسهم بالراحة، وطلبوا فضيلة احتمال التعب في مرضاة الله؛
أراد عليه الصلاة والسلام أن يريهم بالفعل ما نهاهم لأجله،
وهو دخول المشقة، حتى يعلموا أن نهيه عليه الصلاة والسلام
هو الرفق بهم، والأخلق بالضعفاء الذين لا يصبرون على
احتمال اللأواء2 في مرضاة ربهم.
وأيضًا؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أشياء وأمر
بأشياء، وأطلق القول فيها إطلاقًا ليحملها المكلف في نفسه
وفي غيره على التوسط، لا على مقتضى الإطلاق الذي يقتضيه
لفظ الأمر والنهي؛ فجاء الأمر بمكارم الأخلاق وسائر الأمور
المطلقة، والنهي عن مساوئ الأخلاق وسائر المناهي المطلقة،
وقد تقدم أن المكلف جعل له النظر فيها بحسب ما يقتضيه حاله
ومنته3، ومثل ذلك لا يتأتى مع الحمل على الظاهر مجردًا من
الالتفات إلى المعاني.
وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر4، وذكر منه
أشياء؛ كبيع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه أقرهم على الوصال على أنه عبادة، مع أنه لو أخذ
النهي على ظاهره لكان معصية، ولا يقال: إنه نسخ؛ لأن الحكم
الأول بقي على حاله. "د".
2 أي: المشقة والشدة. "ف".
3 بضم الميم: القوة، وخص بعضهم بها قوة القلب. "ف".
4 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بطلان بيع
الحصاة والذي فيه غرر، 4 /1153/رقم 1513" عن أبي هريرة رضي
الله عنه، قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع
الحصاة، وعن بيع الغرر".
ج / 3 ص -417-
الثمرة
قبل أن تزهى1، وبيع حبل الحبلة2، والحصاة3 وغيرها.
وإذا أخذنا بمقتضى مجرد الصيغة امتنع علينا بيع كثير مما
هو جائز بيعه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع النخل
قبل أن يبدو صلاحها، 4/ 397/ رقم 2167" عن أنس أن النبي
صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها،
وعن النخل حتى يزهو. قيل: وما يزهو؟ قال:
"يحمار أو يصفار".
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب إذا باع
الثمار قبل أن يبدو صلاحها، 4/ 398/ رقم 2199"، ومسلم في
"صحيحه" "كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو
صلاحها، 3/ 1166/ رقم 1534" عن ابن عمر مرفوعًا:
"لا تتبايعوا
الثمرة حتى يبدو صلاحها".
وكتب "ف" هنا ما نصه: "هي مضارع أزهى النبت يزهى إذا احمر
أو اصفر، ويقال: زها النبت يزهو إذ
ا نبت ثمره، وقيل: هما بمعنى الاحمرار والاصفرار، قال أبو
الخطاب: لا يقال للنخل إلا يزهي، ولا يقال فيه يزهو. اهـ
بتصرف".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع الغرر
وحبل الحبلة، 4/ 356"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب
تحريم بيع حبل الحبلة، 3/ 1153-1154/ رقم 1514"، عن ابن
عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل
الحبلة، وكان بيعًا يتبايعه أهل الجاهلية: "كان الرجل
يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها"،
فالمحتصل من معنى "بيع حبل الحبلة"، أي: بيع نتاج النتاج،
أو أن يجعلوه أجلًا يتبايعون إليه.
3 مضى في التعليق على "2/ 522" حديث أبي هريرة: "نهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر"،
وتقدم هناك معنى بيع الحصاة، وقد فسر بعدة تفاسير، وكلها
فيها الخطر والغرر الذي يجعلها كالقمار.
وقال "ف": "في الحديث نهي عن بيع الحصاة، وهو أن يقول
المشتري أو البائع: إذا نبذت الحصاة إليك؛ فقد وجب البيع،
وقيل: هو أن يقول: بعتك من السلع ما تقع عليه حصاتك إذا
رميت بها، أو بعتك من الأرض إلى حيث تنتهي حصاتك، والكل
فاسد من بيوع الجاهلية، وغرر لما فيها من الجهالة".
قلت: انظر فيه أيضًا "المعلم بفوائد مسلم" "2/ 160".
ج / 3 ص -418-
وشراؤه؛ كبيع الجوز واللوز والقسطل1 في قشرها، وبيع الخشبة2
والمغيبات في الأرض، والمقاثي كلها، بل كان يمتنع كل ما
فيه وجه مغيب؛ كالديار، والحوانيت المغيبة الأسس،
والأنقاض3، وما أشبه ذلك مما لا يحصى ولم يأت فيه نص
بالجواز، ومثل هذا لا يصح4 فيه القول بالمنع أصلًا؛ لأن
الغرر المنهي عنه محمول على ما هو معدود عند العقلاء غررًا
مترددًا5 بين السلامة والعطب؛ فهو مما خص بالمعنى6
المصلحي، ولا يتبع فيه اللفظ بمجرده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "التذكرة": هو عند أهل مصر اسم للنبت المسمى شاه
بلوط، وهو المعروف الآن بأبي فروة. "ف".
2 في "ط": "الخشب".
3 جمع نقض -بكسر النون- وهو اسم البناء المنقوض إذا هدم،
وفي الاستعمال هنا توسع لا يخفى. "ف".
4 قال شراح الحديث: يستثنى من بيع الغرر أمران: الأول ما
يدخل في المبيع تبعًا بحيث لو أفرد لم يصح بيعه، والثاني
ما يتسامح فيه؛ إما لحقارته، أو للمشقة في تمييزه وتعيينه،
ومما يدخل تحت ما ذكر بيع أساس البناء، واللبن في الضرع،
والحمل في بطن الدابة، والقطن المحشو في الجبة، إذا كانت
تبعًا. "د".
5 أليس الجوز واللوز وأمثالهما مما تردد بين السلامة
والعطب عند العقلاء؟ فالأفضل الرجوع إلى ما قلناه عن شراح
الحديث من أن مثل هذا يتسامح فيه عادة للمشقة في معرفته،
وكان يلزم إذا منع شرعًا دخوله في المعاوضات أن يحصل حرج
ومشقة؛ فاقتضى التوسعة والرخصة. "د".
قلت: انظر "إعلام الموقعين" "1/ 360 وما بعده - ط دار
الحديث"، و"المعلم بفوائد مسلم" "2/ 159-160" للمازري.
6 ألم يرد من الشارع في ذلك شيء من القول أو الفعل أو
التقرير لبيع الدور ذات الأسس المغيبة في الأرض، والمقاثئ
كالبطيخ، والجوز واللوز ونحوهما مما لا يعرف طعمه وموافقته
إلا بكسره؟ يبعد جدًا أن ينقضي عهده صلى الله عليه وسلم
ولا يكون في هذه الأشياء معاملة، حتى نضطر إلى أن القول
بأنها إنما خصصت من الغرر بالمعنى المصلحي؛ أي: من المصالح
المرسلة، على أنه قد يقال: كيف أنها تعد مرسلة مع أن اللفظ
الوارد يشملها؟ إلا أن يقال: بل مراده الاستحسان، نعود
للسؤال فنقول: ألم يكن البطيخ في عهده صلى الله عليه وسلم
يباع ويشترى في السوق جهارًا؟ ففي "زاد المعاد" "4/ 353"
أنه صح في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام يأكل البطيخ
بالرطب، ويقول: "يدفع حر هذا برد هذا". "د".
قلت: أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأطعمة، باب
القثاء، 9/ 572/ رقم 5447"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب
الأشربة، باب أكل القثاء بالرطب/رقم 2043" عن عبد الله بن
جعفر؛ قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل
القثاء بالرطب"، والزيادة المذكورة عند أبي داود "رقم
3835"، والترمذي "رقم 1845"، وابن ماجه "رقم 3225"،
وإسنادها صحيح.
ج / 3 ص -419-
وأيضًا؛ فالأوامر والنواهي من جهة اللفظ على تساوٍ في
دلالة الاقتضاء، والتفرقة بين ما هو منها أمر وجوب أو ندب
وما هو نهي تحريم أو كراهة لا تعلم من النصوص، وإن علم
منها بعض؛ فالأكثر منها غير معلوم، وما حصل لنا الفرق
بينها إلا باتباع المعاني، والنظر إلى المصالح، وفي أي
مرتبة1 تقع، وبالاستقراء2 المعنوي، ولم نستند فيه لمجرد
الصيغة، وإلا لزم في الأمر أن لا يكون في الشريعة إلا على
قسم واحد، لا على أقسام متعددة، والنهي كذلك أيضًا، بل
نقول: كلام العرب على الإطلاق لا بد فيه من اعتبار معنى3
المساق في دلالة الصيغ، وإلا صار ضحكة وهزءة4، ألا ترى إلى
قولهم: فلان أسد أو حمار، أو عظيم الرماد، أو جبان الكلب،
وفلانة بعيدة مهوى القرط5، وما لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أمن الضروريات هي، أم من الحاجيات، أم من التحسينات؟
"د".
2 أي: في موارد الأوامر وما يحتف بها من القرائن الحالية
والمقالية كما سبق. "د".
3 ليكون قرينة ضابطة لغرض المتكلم، وصارفة له إلى حيث يريد
وإن لم يكن هو المعنى الأصلي؛ كما مثله بعد. "د".
4 في "اللسان": "رجل ضحكة؛ بالتسكين: يضحك منه، وعن الليث:
الضحكة؛ بفتح الحاء: الرجل الكثير الضحكة، يعاب عليه" ا.
هـ. ورجل هزأة؛ بالتسكين: يهزأ به، وقيل: يهزأ منه. ا. هـ.
"ف".
5 كناية عن لازمه وهو طول الجيد، وقد عدوه من الكناية
القريبة، كما في قول عمر بن أبي ربيعة:
بعيدة مهوى القرط إما لنوفل
أبوها وإما عبد شمس وهاشم "د"
أما "ف"؛ فقال: "بضم
فسكون: نوع من الحلي يعلق في الأذن يعرف بالحلق، ويقال له
لغة أيضًا: الشنف؛ بفتح فسكون".
ج / 3 ص -420-
ينحصر
من الأمثلة، لو اعتبر اللفظ بمجرده لم يكن له معنى معقول؛
فما ظنك بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؟
وعلى هذا المساق يجري التفريق1 بين البول في الماء الدائم
وصبه من الإناء فيه.
وقد حكى إمام الحرمين2 عن ابن سريج3 أنه ناظر أبا بكر بن
داود الأصبهاني في القول بالظاهر، فقال له ابن سريج3: "أنت
تلتزم الظواهر، وقد قال تعالى:
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة: 7]؛ فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين؟ فقال مجيبًا:
الذرتان ذرة وذرة. فقال ابن سريج3: فلو عمل مثقال ذرة
ونصف؟ فتبلد وانقطع"4.
وقد نقل عياض عن بعض العلماء أن مذهب داود بدعة ظهرت بعد
المائتين5، وهذا وإن كان تغاليًا في رد العمل بالظاهر؛
فالعمل بالظواهر أيضًا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فلو اعتبر اللفظ بمجرده فيه كما اعتبره الظاهرية؛ لم
يكن له معنى معقول، بل المعقول مما سيق له الحديث أنه لا
فرق بين الأمرين؛ لأن كلا منهما قد يكون سببًا في تنجيس
الماء وإفساده. "د".
2 في كتابه "البرهان في أصول الفقه" "2/ 881".
3 في "ط" في المواضع كلها: "ابن شريح"، وهو خطأ.
4 في "البرهان" "2/ 881": "فتبلد وظهر خزيه".
5 انظر آراء شديدة تهاجم الظاهرية في: "عارضة الأحوذي"
لابن العربي "10/ 108-112"، و"طبقات الشافعية الكبرى" "2/
45"، و"لسان الميزان" "2/422-424"، وكتابنا هذا "5/ 149".
ومن أحسن ما قيل في أهل الظاهر وأكثره موضوعية نقد ابن
القيم الجوزية في "إعلام الموقعين" "2/ 26-40" الذي ذكر
فيه أن لأهل الظاهر حسنات يقابلها سيئات؛ فقد أحسنوا في
اعتنائهم بالنصوص ونصرها والمحافظة عليها.
وانظر: "الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه الإسلامي"
"ص143 وما بعدها".
ج / 3 ص -421-
على
تتبع وتغالٍ بعيد عن مقصود الشارع، كما أن إهمالها إسراف
أيضًا، كما تقدم [تقريره] في آخر كتاب المقاصد، وسيذكر بعد
إن شاء الله تعالى.
فصل
فإذا ثبت هذا وعمل العامل على مقتضى المفهوم من علة الأمر
والنهي؛ فهو جارٍ على السنن القويم، موافق لقصد الشارع في
ورده وصدره، ولذلك أخذ السلف الصالح أنفسهم بالاجتهاد في
العبادة، والتحري في الأخذ بالعزائم، وقهروها تحت مشقات
التعبد؛ فإنهم فهموا أن الأوامر والنواهي واردة مقصودة من
جهة الآمر والناهي
{لِنَنْظُرَ1 كَيْفَ تَعْمَلُون} [يونس: 14]، و{لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}
[الملك: 2].
لكن لما كان المكلف ضعيفًا في نفسه، ضعيفًا في عزمه ضعيفًا
في صبره؛ عذره ربه الذي علمه كذلك وخلقه عليه؛ فجعل2 له من
جهة ضعفه رفقًا يستند إليه في الدخول في الأعمال، وأدخل في
قلبه حب الطاعة وقوّاه عليها، وكان معه عند صبره على بعض
الزعازع المشوشة، والخواطر المشغبة3، وكان من جملة الرفق
به أن جعل له مجالًا في رفع الحرج عن صدماته، وتهيئة له في
أول العمل بالتخفيف، استقبالًا بذلك ثقل المداومة، حتى لا
يصعب عليه البقاء فيه والاستمرار عليه، فإذا دخل العبد حب
الخير، وانفتح له يسر المشقة؛ صار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المطبوع: "لينظر" بلام وياء، وفي [الأعراف: 129] {فَيَنْظُر}،
وفي [يونس: 14]:
{لِنَنْظُر} بنون.
2 وقال:
"اكفلوا من
العمل ما لكم به طاقة"، ونحوه من
موجبات الرفق. "د".
3 في "اللسان": "قال الجوهري: التشويش التخليط، وقال أبو
منصور: لا أصل له في العربية، وإنما هو من كلام المولدين،
وأصله التهويش وهو التخليط. "المشغبة"؛ أي: الموقعة في
الشغبة بسكون الغين، وهو الفتنة والعامة تفتحها". "ف".
ج / 3 ص -422-
الثقيل
عليه خفيفًا، فتوخى مطلق الأمر بالعبادة بقوله:
{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا}
[المزمل: 8]،
{وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} [الذاريات: 56].
فكأن المشقة وضدها إضافيان لا حقيقيتان1 كما تقدم في مسائل
الرخص فالأمر متوجه، وكل أحد فقيه نفسه، فإذا كان الأمر
والنهي المراد بهما الرفق والتوسعة على العبد؛ اشتركت
الرخص معهما في هذا القصد، فكان الأمر والنهي في العزائم
مقصودًا أن يمتثل على الجملة، وفي الرفق راجعًا إلى جهة
العبد: إذا اختار مقتضى الرفق؛ فمثل الرخصة، وإذا اختار
خلافه؛ فعلى مقتضى العزيمة التي اقتضاها قوله:
{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] وأشباهه.
فصل
وأما الأوامر والنواهي غير الصريحة؛ فضروب:
أحدها:
ما جاء مجيء الإخبار عن تقرير الحكم؛ كقوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام} [البقرة: 183].
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنّ}
[البقرة: 233].
{وَلَنْ
يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلًا}2 [النساء: 141].
{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِين}
[المائدة: 89].
وأشباه ذلك مما فيه معنى الأمر؛ فهذا ظاهر الحكم، وهو جارٍ
مجرى الصريح من الأمر والنهي.
والثاني:
ما جاء مجيء مدحه أو مدح فاعله في الأوامر، أو ذمه أو ذم
فاعله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "حقيقتان".
2 فالمراد النهي عن جعل المؤمنين أنفسهم تحت سلطة الكافرين
بأي طريق كان، وليس هذا خبرًا محضًا، وإلا؛ لكان بخلاف
مخبره، وهو محال. "د".
ج / 3 ص -423-
في
النواهي، وترتيب الثواب على الفعل في الأوامر وترتيب
العقاب في النواهي أو الإخبار1 بمحبة الله في الأوامر
والبغض والكراهية أو عدم الحب في النواهي.
وأمثلة هذا الضرب؛ كقوله:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ
الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19].
وقوله:
{بَلْ
أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُون}
[الأعراف: 81].
وقوله: {وَمَنْ
يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النساء: 13].
وقوله:
{وَمَنْ
يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ
يُدْخِلْهُ نَارًا} [النساء: 14].
وقوله:
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين}
[آل عمران: 134].
وقوله:
{إِنَّهُ
لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين}
[الأعراف: 31].
{وَلا يَرْضَى
لِعِبَادِهِ الْكُفْر}
[الزمر: 7].
{وَإِنْ
تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}
[الزمر: 7].
وما أشبه ذلك.
فإن هذه الأشياء الدالة على طلب الفعل في المحمود، وطلب
الترك في المذموم، من غير إشكال.
والثالث: ما يتوقف عليه المطلوب؛ كالمفروض في مسألة "ما
لا2 يتم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "والإخبار".
2 كغسل جزء من الرأس لاستيفاء غسل الوجه؛ فهذا لا يتم عادة
غسل الوجه بدونه؛ فهل يجب غسل هذا الجزء وجوبًا تابعًا
لإيجاب غسل الوجه، أم لا يجب شرعًا وإن كان لا بد منه
عادة؟ وإذا لم يفعله المكلف؛ فهل يأثم بتركه غير إثمه بترك
غسل الوجه، أم لا إثم إلا بالأخير فقط؟ والمختار كما عند
ابن الحاجب أن ما لا يتم الواجب إلا به ليس بواجب شرعًا
إلا إذا كان شرطًا شرعيًا، وأما الشرط العقلي أو العادي؛
فالمختار أنه لا يجب تبعًا، وليس هنا إلا وجوب واحد لغسل
الوجه، وقيل: الشروط كلها واجبة، وقيل: كلها غير واجبة،
وهذا الخلاف في غير الأسباب، أما =
ج / 3 ص -424-
الواجب
إلا به"، وفي مسألة "الأمر بالشيء هل هو نهي1 عن ضده؟"،
و"كون المباح مأمورًا به"2 بناء على قول الكعبي، وما أشبه
ذلك من الأوامر والنواهي التي هي لزومية للأعمال، لا
مقصودة لأنفسها.
وقد اختلف الناس فيها وفي اعتبارها، وذلك مذكور في الأصول،
ولكن إذا بنينا على اعتبارها؛ فعلى القصد الثاني لا على
القصد الأول، بل هي أضعف3 في الاعتبار من الأوامر والنواهي
الصريحة التبعية؛ كقوله: {وَذَرُوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأسباب؛ فقد نقل الإجماع على وجوبها، بل قالوا: إن
التكليف في المسببات إنما هو في الحقيقة بأسبابها كالحز
بالسكين بالنسبة للقتل؛ لأن المسببات غير مقدورة، والمقدور
هو السبب كما تقدم. "د".
قلت: انظر في القاعدة: "البحر المحيط" "1/ 223"، و"مذكرة
في أصول الفقه" "ص26"، و"البرهان" "1/ 257"، و"الإحكام"
"1/ 110" للآمدي، و"المسودة" "60"، و"المستصفى" "1/ 71".
و"التمهيد" "1/ 322"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص160"،
و"القواعد" للمقري "2/ 393، القاعدة الرابعة والأربعون بعد
المائة"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 159".
1 والمختار أنه ليس نهيًا عن ضده، بل ولا يتضمنه، والكلام
فيه يرجع في كثير من مباحثه إلى الكلام في مسألة ما لا يتم
الواجب إلا به، وفي كل منهما لا يوجد تعلق لخطاب شرعي، مع
أنه لا تكليف بغير تعلق الخطاب. "د".
قلت: انظر في القاعدة: "المحصول" "2/ 199"، و"البحر
المحيط" "2/ 416"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "7/ 174-178
و10/ 531-532 و11/ 673-675 و16/ 37، 20/ 118-119،
159-160".
2 انظر في هذه القاعدة: "المستصفى" "1/ 74"، و"إحكام
الفصول" "ص193" للباجي، و"المسودة" "ص65"، و"البرهان" "1/
102"، و"البحر المحيط" "1/ 241، 279"، و"مجموع فتاوى ابن
تيمية" "10/ 161 وما بعدها"، وما مضى "1/ 175 و3/ 220".
3 ولذلك اختلف في أنها أوامر ونواهي شرعية بخلاف الصريحة
التبعية؛ فلا يتأتى فيها الاختلاف في هذا وإن اختلف في
ترتب أحكام خاصة عليها؛ كنسخ البيع وقت النداء. "د".
ج / 3 ص -425-
الْبَيْع} [الجمعة: 9]؛ لأن رتبة الصريح ليست كرتبة الضمني في الاعتبار
أصلًا.
وقد مر في كتاب المقاصد أن المقاصد الشرعية ضربان: مقاصد
أصلية ومقاصد تابعة؛ فهذا القسم في الأوامر والنواهي مستمد
من ذلك، وفي الفرق بينهما فقه كثير1، ولا بد من ذكر مسألة2
تقررها في فصل يبين ذلك، حتى تتخذ دستورًا لأمثالها في فقه
الشريعة بحول الله.
فصل
"الغضب" عند الفقهاء هو التعدي على الرقاب، و"التعدي" مختص
بالتعدي على المنافع دون الرقاب3.
فإذا قصد الغاصب تملك رقبة المغصوب؛ فهو منهي عن ذلك، آثم4
فيما فعل من جهة ما قصد، وهو لم يقصد إلا الرقبة؛ فكان
النهي أولًا عن الاستيلاء على الرقبة، وأما التعدي على
المنافع؛ فالقصد فيه تملك المنافع دون الرقبة؛ فهو منهي عن
ذلك الانتفاع من جهة ما قصد، وهو لم يقصد إلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يترتب على تمييز المقاصد الأصلية عن المقاصد التابعة
فقه كثير لمسائل الشريعة، وإدراك لأحكام تفاريع كثيرة مما
ينبني على كل منهما. "د".
2 أي: من مسائل المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة المناسبة
لهذا المقام بخصوصه مقام الأمر والنهي الأصلي والتبعي، وما
يترتب على كل منهما من حيث اعتباره وعدمه؛ ليستفاد منها
حكم أمثالها في الأوامر والنواهي الأصلية والتبعية في غير
مسألة الغصب والتعدي التي عقد لها الفصل. "د".
3 انظر: "المدونة الكبرى" "4/ 184-185"، و"عدة البروق في
جمع ما في المذهب من الجموع والفروق" "ص926 وما بعدها"
للونشريسي.
4 ويؤدب وجوبًا بما يراه الحاكم. "د".
ج / 3 ص -426-
المنافع، لكن كل واحد منهما يلزمه1 الآخر بالحكم التبعي،
وبالقصد الثاني لا بالقصد الأول.
فإذا كان غاصبًا؛ فهو ضامن للرقاب لا للمنافع، وإنما يضمن
قيمة الرقبة يوم الغصب، لا بأرفع2 القيم؛ لأن الانتفاع
تابع، فإذا كان تابعًا؛ صار النهي عن الانتفاع تابعًا
للنهي عن الاستيلاء على الرقبة، فلذلك لا يضمن قيمة
المنافع؛ إلا على قول بعض3 العلماء، بناء على أن المنافع
مشاركة4 في القصد الأول، والأظهر أن لا ضمان عليه؛ لعموم
قوله عليه الصلاة والسلام:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن غصب الرقبة يتبعه الاستيلاء على المنفعة، وعدم تمكين
المالك منها، كذلك التعدي على المنفعة لا يكون إلا إذا
استولى على الرقبة، وحال بينها وبين مالكها؛ فهما عمليًّا
متلازمان، ولا يفرق بينهما إلا بالقصد، ومتى قصد أحدهما
كان الثاني تابعًا له، وهناك يجيء الكلام في اختلاف
الأحكام، وظاهر أنه بالاعتراف أو بالقرائن يعرف قصده من
الغصب أو التعدي حتى يرتب الحاكم حكمه، والتلازم في هذا
غير التلازم الذي أشار إليه فيما لا يتم الواجب إلا به،
وفي مسألة الأمر بالشيء وما معهما؛ فلذلك قال بعد أن قرر
ما يتعلق بالغصب: "وهذا البحث جارٍ... إلخ"؛ فمسألة الغصب
والتعدي صنف آخر مما يندرج في المقاصد الأصلية والتابعة
غير صنف ما لا يتم الواجب إلا به، وما معه كما هو ظاهر.
"د".
2 أي: من حين الغصب إلى وقت الحكم. "د".
3 قال ابن القاسم: "وأعتمد أن ربه إذا أخذ القيمة؛ فلا غلة
له"، وقال بعضهم: إن غلة المغصوب لمالكه إذا كان أرضًا أو
عقارًا استعملا في السكنى أو الزرع أو الكراء مثلا، وكذا
غلة الحيوان التي لا تحتاج إلى تحريك؛ كالصوف، واللبن،
وأما غلة الحيوان الحاصلة من التحريك؛ كالركوب، والإجارة،
والحرث وما أشبه ذلك؛ فللغاصب في مقابلة الإنفاق عليه لأن
الخراج بالضمان، وأما ما عطل ولم يستغل كمن غصب أرضًا
بورًا؛ فلا كراء عليه، وإذا قصد غصب المنفقة؛ فعليه
الكراء. "د".
4 أي: فالغاضب يقصد الرقبة والمنافع معًا قصدًا أصليًا.
"د".
ج / 3 ص -427-
"الخراج1
بالضمان"2،
وسبب ذلك ما ذكر من أن النهي عن الانتفاع غير مقصود لنفسه،
بل هو تابع للنهي عن الغصب، وإنما هو شبيه بالبيع وقت
النداء، فإذا كان البيع مع التصريح بالنهي صحيحًا عند
جماعة من العلماء لكونه غير مقصود في نفسه؛ فأولى أن يصح3
مع النهي الضمني.
وهذا البحث جارٍ في مسألة "ما لا يتم الواجب إلا به؛ هل هو
واجب أم لا؟"، فإن قلنا: "غير واجب"؛ فلا إشكال، وإن قلنا:
"واجب"؛ فليس وجوبه مقصودًا في نفسه، وكذلك مسألة "الأمر
بالشيء هل هو نهي عن ضده؟"، و"النهي عن الشيء هل هو أمر
بأحد أضداده"، فإن قلنا بذلك؛ فليس بمقصود لنفسه، فلا يكون
للأمر والنهي حكم منحتم إلا عند فرضه بالقصد الأول، وليس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وقد دخل المغضوب في ضمان الغاصب من وقت الاستيلاء
عليه. "د".
2 مضى تخريجه "ص204"، وهو صحيح، كتب "ف" هنا ما نصه:
"الخراج غلة العابد والأمة، قال ابن الأثير -في تفسير
الحديث-: يريد بالخراج ما يحصل من غلة العين المبتاعة
عبدًا كان أو أمة أو ملكًا، وذلك أن يشتريه فيستغله زمانًا
ثم يعثر على عيب قديم؛ فله رد العين المبيعة وأخذ الثمن،
ويكون للمشتري ما استغله؛ لأن المبيع لو كان تلف في يده
لكان من ضمانه، ولم يكن على البائع شيء، و"باء" الضمان
متعلقة بمحذوف تقديره الخراج مستحق بالضمان؛ أي: بسببه" ا.
هـ. ولأبي عبيد وغيره من أهل العلم ما يشبه هذا".
وقال "ماء": "أي غلة المشتري للمشتري، بسبب أنه في ضمانه،
وذلك بأن يشتري شيئًا ويستغله زمانًا ثم يعثر -أي: يطلع
منه- على عيب دلسه البائع ولم يطلع عليه؛ فله رده -أي
الشيء المشترى- على البائع، والرجوع عليه بالثمن جميعه،
وأن الغلة التي استغلها المشترى؛ فهي له لأنه كان في
ضمانه، ولو هلك من ماله".
3 أي: البيع إذا فرض أنه لم ينه عنه صراحة، بل اكتفى
باندراجه ضمن الأمر في قوله:
{فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]؛ فيكون شبيهه وهو النهي التبعي عن الاستيلاء على منافع
المغصوب كذلك؛ أي: لا يرتب عليه حكم النهي؛ فلا يعتد بقيمة
المنافع ولا تضمن، لأن النهي عنها حينئذ ليس أصليًا بل
تبعي، وقد عرفنا أن التبعي حتى الصريح كما ورد في
{وَذَرُوا الْبَيْع} [الجمعة: 9] لم يرتب عليه حكمه؛ فهذا أولى. "د".
ج / 3 ص -428-
كذلك.
أما إذا كان متعديًا؛ فضمانه ضمان1 التعدي لا ضمان الغصب؛
فإن الرقبة تابعة، فإذا كان كذلك؛ صار النهي عن إمساك
الرقبة تابعًا للنهي عن الاستيلاء على المنافع، فلذلك يضمن
بأرفع2 القيم مطلقًا، ويضمن ما قل وما كثر، وأما ضمان
الرقبة في التعدي؛ فعند التلف3 خاصة، من حيث كان تلفها
عائدًا على المنافع بالتلف بخلاف الغصب في هذه الأشياء.
ولو كان أمرهما واحدًا؛ لما فرق بينهما مالك ولا غيره، قال
مالك في الغاصب والسارق: "إذا حبس المغصوب أو المسروق عن
أسواقه ومنافعه ثم رده بحاله لم يكن لربه أن يُضَمِّنَهُ4
وإن كان مستعيرًا5 أو متكاريًا ضمن قيمته"6
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فرقوا بين ضمان الغصب وضمان التعدي بأمور: منها أن التلف
بسماوي يضمنه في الغصب لا التعدي، ومنها أن تغير السوق في
الغصب لا يعتبر، وفي التعدي يعتبر مفوتًا فيضمن أعلى
القيم، والسرقة كالغصب، ومنها أن الفساد اليسير من الغاصب
يوجب للمالك أخذ قيمة المغصوب إن شاء واليسير من المتعدي
يستوجب أخذ أرش النقص الحاصل فقط مع نفس المتعدى عليه،
ومنها أنه إذا تعيب المغصوب بغير تعدي الغاصب خير ربه بين
أخذه معيبًا ولا شيء له في نظير العيب وبين أخذ القيمة يوم
الغصب، ومن صور التعدي زيادة المكتري والمستعير على
المسافة المشترطة أو المدة المشترطة أو الحمل المشترط بغير
إذن ربه ورضاه؛ فواضح أن المقصود فيهما المنافع، والذات
تابعة. "د".
2 لأن من منافعها قيمتها؛ فأرفع القيم لها داخل في
منافعها، فيضمنه مطلقًا سواء أكان الأرفع سابقًا ثم رخصت،
أم لاحقًا بعدما كانت رخيصة، وسواء أكان للمتعدي دخل في
علو القيمة أم لم يكن، كما يضمن غلتها قليلة كانت أو
كثيرة. "د".
3 أي: التلف بتعديه هو؛ لأن التلف بتعديه لا فرق فيه بين
الغصب والتعدي. "د".
4 أي: لا أعلى القيم ولا المنافع. "د".
قلت: في "د" و"ف": "ربه أن".
5 أي: وزاد على ما اشترط، كما أسلفنا؛ فيكون تعدي
بالزيادة. "د".
6 انظر: "المدونة الكبرى" "4/ 182 - ط دار الكتب العلمية".
ج / 3 ص -429-
وهذا
التفريع إنما هو على المشهور في مذهب مالك وأصحابه، وإلا
فإذا بنينا على غيره؛ فالمأخذ آخر، والأصل المبني عليه1
ثابت.
فالقائل2 باستواء البابين ينبني قوله على مآخذ:
- منها: القاعدة التي يذكرها أهل المذهب، وهي: "هل الدوام
كالابتداء؟"3، فإن قلنا: ليس الدوام كالابتداء؛ فذلك جار
على المشهور في الغصب؛ فالضمان يوم الغصب، والمنافع تابعة،
وإن قلنا: إنه كالابتداء؛ فالغاصب في كل حين كالمبتدئ
للغصب، فهو ضامن في كل وقت ضمانًا جديدًا: فيجب أن يضمن
المغصوب بأرفع4 القيم كما قال ابن وهب وأشهب وعبد الملك،
قال ابن شعبان: "لأن عليه أن يرده في كل وقت، ومتى لم
يرده؛ كان كمغتصبه حينئذ".
- ومنها: القاعدة المتقررة، وهي "أن الأعيان لا يملكها في
الحقيقة إلا باريها تعالى، وإنما للعبد منها المنافع"5،
وإذا كان كذلك؛ فهل القصد إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: هنا وهو أن الأمر والنهي التبعيين غير منحتمين،
وإنما المنحتم المقصود الأصلي ثابت، والمخالف للمشهور لا
يفرع على ما ينافيه، بل على مآخذ أخرى لا تخرم هذا الأصل،
أي: فمع بقاء اعتبار هذا الأصل يتأتى للمخالف مخالفة
المشهور بناء على تلك المآخذ التي سيذكر منها أربعة؛ لأن
كونه غير منحتم بمجرده لا ينافي أن ينضم إليه ما يجعله
قويًا متأكدًا ينبني عليه ما ينبني على المقصد الأصلي،
وبهذا يتضح معنى قوله بعد: "فإذا نظر في هذه الوجوه
بالقاعدة المذكورة؛ ظهر وجه الخلاف"، وذلك لأنه لولا ثبوت
هذه القاعدة وكان التبعي منحتمًا؛ لكان الواجب في الغصب
ضمان المنافع قطعًا، ولم يكن للخلاف وجه. "د".
2 كالشافعية. "د".
3 انظر عنها: "إيضاح المسالك" "ص163" للونشريسي، و"قواعد
المقري" "رقم 56".
4 أي: فيعتبر تغير الأسواق ويكون مفتونًا. "د".
5 انظر عنها: "المعيار المعرب" "5/ 334"، و"المعلم"
للمازري "2/ 210"، و"الملكية ونظرية العقد في الفقه
الإسلامي" "ص72" لمحمد أبو زهرة.
ج / 3 ص -430-
ملك
الرقاب منصرف إلى ملك المنافع أم لا؟ فإن قلنا: هو منصرف
إليها إذ أعيان الرقاب لا منفعة فيها من حيث هي أعيان، بل
من حيث اشتمالها على المنافع المقصودة؛ فهذا مقتضى قول من
لم يفرق بين الغصب والتعدي في1 ضمان المنافع، وإن قلنا:
ليس بمنصرف؛ فهو مقتضى2 التفرقة.
- ومنها: أن الغاصب إذا قصد تملك الرقبة؛ فهل يتقرر له
عليها شبهة ملك بسبب ضمانه لها أم لا؟ فإن قلنا: إنه يتقرر
عليها [شبهة مالك]3، كالذي في أيدي الكفار من أموال
المسلمين؛ كان داخلا تحت قوله عليه الصلاة والسلام:
"الخراج بالضمان"4،
فكانت كل غلة، وثمن يعلو أو يسفل، أو حادث يحدث للغاصب
وعليه بمقتضى الضمان؛ كالاستحقاق والبيوع الفاسدة، وإن
قلنا: إنه لا يتقرر له عليها شبهة ملك، بل المغضوب على ملك
صاحبه؛ فكل ما يحدث من غلة ومنفعة فعلى ملكه فهي له؛ فلا
بد للغاصب من غرمها لأنه قد غصبها أيضًا.
وأما5 ما يحدث من نقص؛ فعلى الغاصب بعدائه6 لأن نقص الشيء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "لا ضمان".
2 في "د": "بمقتضى".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
4 مضى تخريجه "ص204".
5 تكميل لقوله: "وإن قلنا: إنه لا يتقرر.... إلخ" يريد به
دفع ما يقال إذا كان كذلك؛ فالمعقول إذا حدث نقص بسماوي
ألا يضمن في الغصب أيضًا، فأجاب بأنه ضمن لتعديه بالغصب؛
لأن النقص يرجع للذات، وهو ضامن لها، فيضمن أبعاضها،
وقوله: "كما يضمن التعدي على المنافع" علمت أن ذلك إنما
يكون في النقص الحاصل بتعديه لا بسماوي، وأن الغاصب يضمن
مطلقًا. "د".
6 بفتح المهملتين، مصدر "عدا"؛ أي: ظلم. "ف".
ج / 3 ص -431-
المغضوب إتلاف لبعض ذاته، فيضمنه كما يضمن المتعدي على
المنافع؛ لأن قيام الذات من جملة المنافع، هذا أيضا ً مما
يصح أن يبنى عليه الخلاف.
- ومنها: أن يقال: هل المغضوب إذا رد بحاله إلى يد صاحبه
يعد كالمتعدي فيه لأن الصورة فيهما معًا واحدة، ولا أثر
لقصد الغصب إذا كان الغاصب قد رد ما غصب استرواحًا من
قاعدة مالك في اعتبار الأفعال دون النظر إلى المقاصد،
وإلغائه الوسائط، أم لا يعد كذلك؟ فالذي يشير إليه قول
مالك هنا أن للقصد أثرًا، وظاهر كلام ابن القاسم أن لا أثر
له، ولذلك لما قال مالك في الغاصب أو السارق إذا حبس الشيء
المأخوذ عن أسواقه ثم رده بحاله لم يكن لربه أن
يُضَمِّنَهُ، وإن كان مستعيرًا أو متكاريًا ضمن قيمته، قال
ابن القاسم1: "لولا ما قاله مالك؛ لجعلت على السارق مثل ما
جعل على المتكاري".
فهذه أوجه يمكن إجراء الخلاف في مذهب مالك وغيره عليها، مع
بقاء القاعدة المتقدمة على حالها، وهي أن ما كان من
الأوامر أو النواهي بالقصد الأول؛ فحكمه منحتم، بخلاف ما
كان منه بالقصد الثاني، فإذا نظر في هذه الوجوه بالقاعدة
المذكورة ظهر وجه الخلاف، وربما2 خرجت عن ذلك أشياء ترجع
إلى الاستحسان، ولا تنقض أصل القاعدة، والله أعلم.
واعلم أن مسألة الصلاة في الدار المغصوبة إذا عرضت على هذا
الأصل تبين3 منه وجه صحة مذهب الجمهور القائلين بعدم
بطلانها، ووجه مذهب ابن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "المدونة الكبرى" "4/ 182 - ط دار الكتب العلمية".
2 يريد أخذ الحيطة لتثبيت هذا الأصل بأنه لا تضره مخالفة
بعض الفروع له؛ لأن ذلك إنما جاء من مراعاة دليل شرعي آخر،
وهو الاستحسان. "د".
3 لأن إقامة الصلاة فيها استيلاء على بعض منافعها، والنهي
عنه تابع للنهي عن الاستيلاء على الذات؛ فيعود الكلام
السابق برمته، بما في ذلك من الوجوه الأربعة التي ينبني
عليها الخلاف في الصحة والبطلان. "د".
ج / 3 ص -432-
حنبل
وأصبغ وسائر القائلين ببطلانها.
وقد أذكرت هذه المسألة مسألة أخرى ترجع1 إلى هذا المعنى،
وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من جهة أن المعتبر هو المتبوع، هذا هو المقدار الذي
تشترك فيه المسألتان، وما عداه يختلفان فيه؛ فموضوعها
مختلف، وكون الاعتبار للمتبوع مختلف من حيث إنه في هذه
يكون التابع ملغى وساقط الاعتبار شرعًا لأن اعتباره ينافي
اعتبار المتبوع، بخلافه في المسألة السابقة؛ فإنه فقط غير
منحتم بمجرده، وقد يعتبر إذا انضم إليه ما يقويه، واعتباره
لا ينافي اعتبار المتبوع، وسيأتي له أن التابع لا يتعلق به
أمر ولا نهي، مع أنه في المسألة السابقة تعلق به الأمر
والنهي، لكن لا على وجه الانحتام. "د".
ج / 3 ص -433-
المسألة الثامنة:
الأمر والنهي إذا تواردا على متلازمين، فكان أحدهما
مأمورًا1 به والآخر منهيًا عنه عند فرض الانفراد، وكان
أحدهما في حكم التبع للآخر وجودًا أو عدمًا2 فإن المعتبر3
من الاقتضاءين ما انصرف إلى جهة المتبوع، وأما ما انصرف
إلى جهة التابع؛ فملغى وساقط الاعتبار شرعًا، والدليل على
ذلك أمور:
أحدها:
ما تقدم4 تقريره في المسألة قبلها، هذا5 وإن كان الأمر
والنهي هنالك غير صريح وهنا صريح؛ فلا فرق بينهما إذا ثبت
حكم التبعية، ولذلك نقول: إن القائل ببطلان البيع وقت
النداء لم يبنَ على كون النهي تبعيًّا6، وإنما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني: مأذونا فيه؛ ليعم المباح كما سيأتي في الأمثلة.
"د".
2 في "ط": "عرفًا".
3 أي: عند الاجتماع "د".
قلت: انظر في المسألة: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/
295-305".
4 أي: في الفرق بين القصد الأصلي والتابع، واعتبار الأول
دون الثاني، وبيان ذلك في الغصب والتعدي، وإن كان التابع
هناك، كان الاقتضاء المتعلق به غير صريح بخلافه هنا؛ لأنه
لا فرق بينهما متى ثبت حكم التبعية، إنما الفرق آتٍ من جهة
القصد الأصلي والتبعي لا غير، والدليل كما ترى استئناس لا
يصلح وحده أن يكون دليلًا في مسألة أصولية، مع العلم
باختلاف موضوعي المسألتين، أما باقي الأدلة؛ فجيد. "د".
5 كلمة "هذا" للفصل بين الكلامين، وهي تقع قليلًا في كلام
المؤلفين. "ف".
6 يعني: أن النهي مع كونه صريحًا لم يلتفت للبناء على
الصراحة، ويرتب الحكم بالبطلان عليه في هذه الجهة، بل بناه
على كونه مقصودًا قصدًا أصليًا؛ كالسعي سواء بسواء في أن
كلا مقصود لذاته، وقد ذكر هذا تأييدًا لقوله: "فلا فرق
بينهما إذا ثبت حكم التبعية"، ولكن يقال له: من أين لك
هذا، ولم لا يجوز أن يكون مبناه على النهي الصريح وإن كان
تبعيًا؟ فهذه دعوى محتاجة لدليل، ولا يفيد فيه ما يأتي من
الدليلين بعده؛ لأنهما ليسا متلازمين كما هو موضوع الأدلة
الآتية، بل موضوع المسألة هنا. "د".
ج / 3 ص -434-
بنى
البطلان على كونه مقصودًا.
والثاني:
أنه لا يخلو إذا تواردا على المتلازمين؛ إما أن يردا معًا
عليهما1، أو لا يردا ألبتة، أو يرد أحدهما دون الآخر،
والأول غير صحيح؛ إذ قد فرضناهما متلازمين؛ فلا يمكن
الامتثال في التلبس بهما لاجتماع الأمر والنهي، فمن حيث
أخذ في العمل صادمه النهي عنه، ومن حيث تركه صادمه الأمر؛
فيؤدي إلى اجتماع الأمر والنهي على المكلف فَعَلَ أو
تَرَكَ2، وهو تكليف بما لا يطاق وهو غير واقع3؛ فما أدى
إليه غير صحيح.
والثاني كذلك أيضًا؛ لأن الفرض أن الطلبين توجها فلا يمكن
ارتفاعهما معًا؛ فلم يبقَ إلا أن يتوجه أحدهما دون الثاني،
وقد فرضنا أحدهما متبوعًا وهو المقصود أولًا، والآخر
تابعًا وهو المقصود ثانيًا؛ فتعين توجه ما تعلق بالمتبوع
دون ما تعلق بالتابع، ولا يصح العكس لأنه خلاف المعقول.
والثالث:
الاستقراء من الشريعة؛ كالعقد على الأصول مع منافعها4
وغلاتها، والعقد على الرقاب مع منافعها وغلاتها؛ فإن كل
واحد منهما مما يقصد في نفسه؛ فللإنسان أن يتملك الرقاب
ويتبعها منافعها، وله أيضًا أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بحيث يعتبر كل من الاقتضاءين في محله فقط؛ فيكون أحدهما
مأمورًا به والآخر منهيًّا عنه، لا أن كل من الاقتضاءين
متوجه إلى كل من المحلين كما هو ظاهر العبارة. "د".
2 أي: أن فعل أو ترك؛ فكل منهما إذا أخذ به صادمه الآخر
فيجتمع عليه الأمر والنهي معًا. "د".
قال "ف": "الأنسب العطف بالواو".
3 أي: وموضوع المسألة ليس فرضيًّا وعقليًّا فقط، بل هو
واقع كالأمثلة. "د".
4 أي: التي قد لا تكون موجودة وقت العقد، بل قد لا توجد
أصلًا وذلك مما كان يقتضي فساد العقد لو انفردت، لكنها لما
كانت تابعة للمقصود الأصلي؛ جاز العقد عليها مع المتبوع؛
فلم تعتبر جهة النهي وهي ما فيها من الغرر والجهالة. "د".
ج / 3 ص -435-
يتملك
أنفس المنافع خاصة، وتتبعها الرقاب من جهة استيفاء
المنافع، ويصح القصد إلى كل واحد منهما.
فمثل هذه الأمثلة يتبين فيها وجه التبعية بصور لا خلاف
فيها، وذلك أن العقد في شراء الدار أو الفدان1 أو الجنة2
أو العبد أو الدابة أو الثوب وأشباه ذلك جائز بلا خلاف،
وهو عقد على الرقاب لا على المنافع التابعة لها؛ لأن
المنافع قد تكون موجودة3، والغالب أن تكون وقت العقد
معدومة، وإذا كانت معدومة؛ امتنع العقد عليها للجهل بها من
كل جهة ومن كل طريق؛ إذ لا يدري مقدارها ولا صفتها ولا
مدتها ولا غير ذلك، بل لا يدري هل توجد من أصل أم لا؛ فلا
يصح العقد عليها على فرض انفرادها4 للنهي عن بيع الغرر
والمجهول، بل العقد على الأبضاع5 لمنافعها جائز، ولو انفرد
العقد على منفعة البضع6؛ لامتنع مطلقًا إن كان وطئًا،
ولامتنع فيما سوى البضع أيضًا إلا بضابط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "اللسان": "الفدان بتشديد الدال: المزرعة" ا. هـ.
"ف".
2 الجنة: البستان والحديقة، وقيل: لا تكون الجنة في كلام
العرب إلا وفيها نخل، فإن لم يكن فيها ذلك وكانت ذات شجر؛
فهي حديقة، وليست بجنة. "ف".
3 وسيأتي أن هذه قسمان أحدهما حكمه حكم المعدومة أيضا.
"د".
4 أي: ولكن مع تبعيتها للرقاب يكون النهي ساقط الاعتبار
شرعًا. "د".
5 جمع بضع بالضم: وهو الفرج؛ فالكلام على تقدير مضاف، أي
ذوات الفرج، والواقع أن العقد على الرقيق مطلقًا إنما هو
لمنافعه، وليس لمالكه التصرف في ذاته كسائر مملوكاته. "د".
ونحوه عند "م" مختصرًا.
6 على تقدير مضاف كسابقه، أما في قوله "سوى البضع"؛ فلا
يحتاج لتقدير، سواء أكان بالمعنى السابق أم كان بمعنى
الوطء، أي: فالعقد على ذات الرقيق ورقبته جعل منافعه من
الوطء وغيره مباحة مطلقًا لكونها تابعة للذات، ولو كانت
وحدها؛ لامتنعت إما مطلقًا كالوطء، وإما إذا لم تستوفِ
شرطها من تعينها بضابط يميزها، وهذا الموضع هو الذي سيقول
فيه في الجواب عن الإشكال الثاني: "وظهر لك حكمة الشارع في
إجازة ملك الرقاب... إلخ".
ج / 3 ص -436-
يخرج
المعقود عليه من الجهل إلى العلم؛ كالخدمة، والصنعة، وسائر
منافع الرقاب المعقود عليها على الانفراد. والعكس كذلك1
أيضًا كمنافع الأحرار، يجوز العقد عليها في الإجارات على
الجملة2 باتفاق، ولا يجوز العقد على الرقاب باتفاق3، ومع
ذلك؛ فالعقد على المنافع فيه يستتبع العقد على الرقبة؛ إذ
الحر محجور عليه زمن استيفاء المنفعة من رقبته بسبب العقد،
وذلك أثر كون الرقبة معقودًا عليها، لكن بالقصد الثاني،
وهذا المعنى أوضح من أن يستدل عليه، وهو على الجملة يعطي
أن التوابع مع المتبوعات لا يتعلق بها من حيث هي توابع أمر
ولا نهي، وإنما يتعلق بها الأمر والنهي إذا قصدت ابتداء،
وهي إذ ذاك متبوعة لا تابعة.
فإن قيل: هذا مشكل بأمور:
أحدها:
أن العلماء4 قالوا: إن الرقاب -وبالجملة الذوات5- لا
يملكها إلا الله تعالى، وإنما المقصود6 في التملك شرعًا
منافع الرقاب؛ لأن المنافع هي التي تعود على العباد
[بالمصالح]7، لا أنفس الذوات؛ فذات الأرض أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فيصح العقد على ذات الرقيق وتتبعه المنافع التي منها
البضع، ولو انفرد هذا لمنع، والحر يصح العقد على منافعه
وتتبعه ذاته، ولو انفردت ذاته؛ لم يصح العقد عليها، والبضع
في الأول تابع، والرقبة في الثاني تابعة؛ فلم يؤخذ فيهما
بدليل النهي. "د".
2 أي: إذا وجد الضابط المذكور. "د".
3 لأنه تملك والحر لا يملك. "د".
4 نحو المذكور عند المازري في "المعلم" "2/ 210-211".
5 أعم لأن الرقاب جمع رقبة، وهي لغة المملوك من الرقيق.
"د".
6 هذه المقابلة كانت تقتضي أن يقال: إن الذوات لا يملكها
إلا الله، ولا يقصد شرعًا تمليكها للخلق، يعني: والمنافع
وإن كانت لا يملكها إلا الله،
{وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا}
[الزخرف: 85]؛ إلا أن الشارع يقصد تمليكها للعبيد حسبما
يناسبهم في ذلك، أما التقابل في عبارته؛! فليس بجيد. "د".
7 سقط من "ط".
ج / 3 ص -437-
الدار
أو الثواب أو الدرهم مثلًا لا نفع فيها ولا ضر من حيث هي
ذوات، وإنما يحصل1 المقصود بها من حيث إن الأرض تزرع مثلا،
والدار تسكن، والثواب يلبس، والدرهم2 يشترى به ما يعود
عليه بالمنفعة؛ فهذا ظاهر حسبما نصوا عليه، وإذا كان كذلك؛
فالعقد أولا إنما وقع على المنافع خاصة، والرقاب لا تدخل
تحت الملك؛ فلا تابع ولا متبوع، وإذا لم يتصور فيما تقدم
وأشباهه تابع ومتبوع بطل، فكل ما فرض3 من المسائل خارج عن
تمثيل الأصل المستدل عليه؛ فلا بد من إثباته أولًا واقعًا
في الشريعة، ثم الاستدلال عليه ثانيًا.
والثاني:
إن سلمنا أن الذوات هي المعقود4 عليها؛ فالمنافع هي
المقصود [أولًا]5 منها لما تقدم من أن الذوات لا نفع فيها
ولا ضر من حيث هي ذوات؛ فصار المقصود أولًا هي المنافع،
وحين كانت المنافع لا تحصل على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومثله يقال فيما يؤكل ويشرب مثلًا، فإنما حصل المقصود به
من حيث منفعته من التغذية والإرواء وهكذا؛ فلا يقال: إن
هذا ينتفع به ذاته، ولكنه اختار التمثيل بما هو واضح القصد
إلى منفعته لا إلى ذاته، وترك النوع الذي ذكرناه لأنه
يشتبه أمره في بادئ النظر، وغرضه المهم ترويج الإشكال؛ فلا
يأتي فيه إلا بما هو أقرب توصيلًا إلى هذا الغرض؛ فهو رحمه
الله في طريقة الجدل صناع. "د".
2 في "ط": "أو الدار... أو الثوب.... أو الدرهم".
3 أي: أن جميع الصور التي ذكرتها لتحقيق هذا الأصل فيها
إنما فرضتها في ملك الذوات؛ فتكون المنافع تابعة، أو في
ملك المنافع فقط؛ فتكون الذوات تابعة، وحيث إن ملك الذوات
بطل ولا يوجد إلا ملك المنافع؛ فحقق أولًا متلازمين في
الوجود، أحدهما تابع والآخر متبوع في صور لا يفرض فيها ملك
الذوات، ثم استدل على الحكم الذي تدعيه فيه من إلغاء حكم
التابع، أما ما صنعت؛ فإنه بناء فروض على فروض، ومثل هذا
ليس من العلم في شيء على ما سبق من المقدمات. "د".
4 أي: مقصودة بالتملك شرعًا؛ ليكون تسليمًا لما منعه
أولًا، أما كون المعقود عليه والذي تجري عليه الصيغ هو
الذوات؛ فلم يكن محل المنع هناك، بل كان المنع لقصد تملكها
رأسًا؛ فهنا يقول: سلمنا قصد تملكها، لكن ليس قصدًا
أوليًّا؛ فإنها إنما حصلت واستولى عليها لمنافعها. "د"
5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
ج / 3 ص -438-
الجملة
إلا عند تحصيل الذوات؛ سعى العقلاء في تحصيلها؛ فالتابع
إذًا في القصد هي الذوات والمتبوع هو1 المنافع فاقتضى هذا
بحكم ما تحصل2 أولًا أن تكون الذوات مع المنافع في حكم3
المعدوم، وذلك باطل؛ إذ لا تكون ذات الحر تابعة لحكم
منافعه باتفاق، بل لا تكون الإجارة ولا الكراء في شيء
يتبعه ذات ذلك الشيء؛ فاكتراء الدار يُمَلِّك منفعتها ولا
يتبعه ملك الرقبة، وكذلك كل مستأجر من أرض أو حيوان أو عرض
أو غير ذلك؛ فهذا أصل منخرم إن كان مبنيًا4 على أمثال هذه
الأمثلة.
والثالث:
أنا وجدنا الشارع نص على خلاف ذلك؛ فإنه قال:
"من باع نخلًا قد أبرت فثمرها للبائع؛ إلا أن يشترطها المبتاع"5، وقال: "من باع عبدًا وله مال؛ فماله لسيده إلا أن يشترطه المبتاع"6؛ فهذان
حديثان لم يجعلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "هي".
2 في "ط": "تأصل"، وقال "د": "أي: القاعدة والأصل الذي
ذكرته".
3 أي: دائمًا، وفي كل صورة فرضت، وهو خلاف ما أصلت. "د".
4 لأن تصويره فيها أدى إلى هذا الباطل، وهو تبعية الذوات
في كل مادة للمنافع؛ فحاصل هذا الإشكال الثاني نقض إجمالي،
ومآل ما بعده إلى المعارضة بإثبات أن كلًّا من الذوات
والمنافع منفصل عن الآخر؛ فلا تبعية بينهما، والمعارضة
مبنية على ما اعتبره الشرع في مسألتي النخل والعبد، ومآل
الرابع معارضة مبنية على الجاري بين العقلاء في المعاملة
التي أقرها الشرع من اعتبار كل منهما وعدم إلغاء المنافع
في جانب الأصل. "د".
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب الرجل
يكون له ممرًا أو شرب في حائط أو نخل، 5/ 49/ رقم 2379،
وكتاب الشروط، باب إذا باع نخلا قد أبرت، 5/ 313/ رقم
2716"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب من باع نخلا
عليها ثمر، 3/ 1172/ رقم 1543" عن ابن عمر مرفوعًا، وفي
آخره: "إلا أن يشترط المبتاع".
قال "ف": "أبرت؛ بضم أوله وكسر الباء المشددة؛ أي: أصلحت
ولقحت" ا. هـ.
6 هو قطعة من الحديث السابق، أخرجه البخاري في "صحيحه"
"رقم 2379"، ومسلم في "صحيحه" "رقم 1543 بعد80"، ولفظه:
"..... ومن ابتاع عبدًا؛ فماله للذي باعه؛ إلا أن يشترط المبتاع"، ولفظ
البخاري: "ومن ابتاع عبدًا وله مال؛ فماله للذي باعه؛ إلا أن يشترط المبتاع".
ج / 3 ص -439-
المنفعة للمبتاع بنفس العقد، مع أنها عندكم1 تابعة للأصول
كسائر منافع الأعيان، بل جعل فيهما التابع للبائع، ولا
يكون كذلك إلا عند انفصال الثمرة عن الأصل حكمًا، وهو يعطى
في الشرع انفصال التابع من المتبوع، وهو معارض لما تقدم؛
فلا يكون صحيحًا.
والرابع:
أن المنافع مقصودة بلا خلاف بين العقلاء وأرباب العوائد،
وإن فرض الأصل مقصودا؛ فكلاهما مقصود، ولذلك يزاد في ثمن
الأصل بحسب زيادة المنافع، وينقص منه2 بحسب نقصانها، وإذا
ثبت هذا؛ فكيف تكون المنافع ملغاة وهي مثمونة3، معتد بها
في أصل العقد، مقصودة؟ فهذا4 يقتضي القصد إليها عدم القصد
إليها معًا، وهو محال.
ولا يقال: إن القصد إليها عادي وعدم القصد إليها شرعي،
فانفصلا فلا تناقض؛ لأنا نقول: كون الشارع غير قاصد لها في
الحكم مبني على عدم القصد إليها عرفًا وعادة؛ لأن من أصول
الشرع إجراء5 الأحكام على العوائد،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بمقتضى الأصل المستدل عليه. "د".
2 في "ف": "منها"، وقال: "الأنسب "منه"؛ أي: من ثمن
الأصل".
3 في "القاموس" و"شرحه": "أثمنه سلعته وأثمن له: أعطاه
ثمنها، وأثمن المتاع فهو مثمن: صار ذا ثمن، وأثمن البيع:
سمى له ثمنًا، وليس في المادة مثمون". "د".
وقال "م": "صوابه "وهي مثمّنة"؛ لأن الفعل من مثال أكرم".
4 أي: ما أورد في مادة هذه المعارضة منضمًا إلى أصل
القاعدة بإلغاء المنافع في جانب الأصل، هذا والاعتراض بهذا
المحال يمكن ترتيبه على الثالث أيضًا، زيادة عن مخالفته
لما يقضي به حكم الشارع. "د".
5 كما تقدم في المسألة الخامسة عشرة من النوع الرابع من
كتاب المقاصد "العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعًا".
"د".
ج / 3 ص -440-
ومن
أصوله مراعاة1 المصالح ومقاصد المكلفين فيها، أعني: في غير
العبادات المحضة، وإذا تقرر أن مصالح الأصول هي المنافع،
وأن المنافع مقصودة عادة وعرفًا للعقلاء؛ ثبت2 أن حكم
الشرع بحسب ذلك، وقد قلتم: إن المنافع ملغاة شرعًا مع
الأصول؛ فهي إذًا ملغاة في عادات العقلاء، لكن تقرر أنها
مقصودة في عادات العقلاء، هذا خلف محال.
فالجواب عن الأول: أن ما أصلوه3 صحيح ولا يقدح في مقصودنا؛
لأن الأفعال4 أيضًا ليس5 للعبد فيها ملك حقيقي إلا مثل ما
له في الصفات والذوات؛ فكما تضاف الأفعال إلى العباد كذلك
تضاف إليهم الصفات والذوات، ولا فرق بينهما إلا أن من
الأفعال ما هو لنا مكتسب، وليس لنا من الصفات ولا الذوات
شيء مكتسب لنا، وما أضيف لنا من الأفعال كسبًا؛ فإنما هي
أسباب لمسببات هي أنفس6 المنافع والمضار أو طريق إليها،
ومن جهتها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي تقتضي مراعاة العوائد، وقوله: "مصالح الأصول"؛ أي:
المصالح المقصودة عادة للعقلاء من هذه الأصول. "د".
2 لأن قصد الشارع يلزم أن يكون مبنيًّا على قصد العقلاء
وعرفهم؛ فتكون مقصودة للشارع بمقتضى هذا، غير مقصودة له
بمقتضى القاعدة؛ فبقي الاعتراض بالمعارضة الأخيرة كما هو،
وهذا المقدار كافٍ في تثبيت الاعتراض المذكور، ولكنه زاد
عليه قوله: "وقد قلتم... إلخ" ليرتب عليه محظورًا وهو أن
تكون مقصودة في عادات العقلاء، غير مقصودة فيها. "د".
3 وهو أن الذوات لا يملكها إلا الله؛ لأنه خالقها مدها
بأسباب بقائها؛ فهو المالك الحقيقي. "د".
4 ورد في الأصل و"ف" و"ط": "لأن الصفات أيضا والأفعال
ليس".
قلت: وصوب "ف" ما أثبتناه.
5 أي: على مذهب الأشاعرة؛ لأنه ليس خالقًا لفعل من الأفعال
المنسوبة إليه. "د".
6 فتناول الماء سبب للري الذي هو المنفعة، والحرث سبب
للنبات، وليس النبات هو المنفعة، بل طريق إليه قريب أو
بعيد؟ أي: فالأفعال المنسوبة إلينا نسبة ضعيفة بالكسب ليست
هي المنافع، بل هي أسباب لها قريبة أو بعيدة؛ فآل الأمر
إلى أنه لا فرق بين المنافع والذوات في أنها ليست مقدورة
لنا، فليس ملكنا لها ملكًا حقيقيًّا ولا كسبيًّا، وقد
سلمتم نسبة المنافع لنا؛ فسلموا نسبة ما كان مثلها وهو
الذوات إلينا بلا فارق، على المعنى الذي يليق بنا في
الأمرين معًا. "د".
ج / 3 ص -441-
كلفنا
في الأسباب بالأمر والنهي، وأما أنفس المسببات من حيث هي
مسببات؛ فمخلوقة لله تعالى، حسبما تقرر في كتاب الأحكام،
فكما يجوز إضافة المنافع والمضار إلينا وإن كانت غير داخلة
تحت قدرتنا؛ كذلك الذوات يصح إضافتها إلينا على ما يليق
بنا.
ويدلك على ذلك أن منها ما يجوز التصرف فيه بالإتلاف
والتغيير؛ كذبح الحيوان وقتله للمأكلة، وإتلاف المطاعم
والمشارب والملابس بالأكل والشرب واللباس وما أشبه ذلك،
وأبيح لنا إتلاف ما لا ينتفع به إذا كان مؤذيًا، أو لم يكن
مؤذيًا وكان إتلافه تكملة لما1 ليس بضروري ولا حاجي من
المنافع؛ كإزالة الشجرة المانعة للشمس عنك، وما أشبه ذلك؛
فجواز التصرف في أنفس الذوات بالإتلاف والتغير وغيرهما
دليل على صحة تملكها شرعًا، ولا يبقى بيننا وبين من أطلق
تلك العبارة -أن الذوات لا يملكها إلا الله- سوى الخلاف في
اصطلاح، وأما حقيقة المعنى؛ فمتفق عليها، وإذا ثبت ملك
الذوات وكانت المنافع ناشئة عنها؛ صح كون المنافع تابعة،
وتصور2 معنى القاعدة.
والجواب عن الثاني: أنه إن سلم على الجملة؛ فهو في التفصيل
غير مسلم، أما أن المقصود المنافع؛ فكذلك نقول، إلا أن
المنافع لا ضابط لها إلا ذواتها التي نشأت عنها، وذلك أن
منافع الأعيان لا تنحصر، وإن انحصرت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قيد به لأنه لو كان إتلافه تكملة لضروري من المنافع؛
لكان مطلوبًا لا مباحًا؛ فلا يتوقف على كونه مملوكًا
للمتلف، فلا يدل على مدعاه، كإتلاف جدار لغيرك لتسد
بأنقاضه ثلمة في جسر ماء انطلق ويخشى منه على البلد إن لم
تسرع بهدم الجدار مثلًا. "د".
2 أي: واقعًا في الشريعة؛ فصح أن تستدل عليه. "د".
ج / 3 ص -442-
الأعيان فإن العبد مثلًا قد هُيّئ في أصل خلقته إلى كل ما
يصلح له الآدمي من الخِدم، والحرف، والصنائع، والعلوم،
والتعبدات، وكل واحد من هذه الخمسة جنس تحته أنواع تكاد
تفوت الحصر، وكل نوع تحته أشخاص من المنافع لا تتناهى، هذا
وإن كان في العادة لا يقدر على جميع هذه الأمور؛ فدخوله في
جنس واحد معرقًا فيه أو في بعض أصنافه يكفي1 في حصر ما لا
يتناهى من المنافع، بحيث يكون كل شخص منها تصح مؤاجرته
عليه من الغير بأجرة ينتفع بها عمره2، وكذلك كل رقبة من
الرقاب وعين من الأعيان المملوكة للانتفاع بها؛ فالنظر إلى
الأعيان نظر إلى كليات المنافع.
وأما إذا نظرنا إلى المنافع فلا يمكن حصرها في حيّز واحد
وإنما يحصر3 منها بعض إليه يتوجه القصد بحسب الوقت والحال
والإمكان، فحصل القصد من جهتها جزئيًا لا كليًا، ولم تنضبط
المنافع من جهتها4 قصدًا، لا في الوقوع وجودًا ولا في
العقد عليها شرعًا؛ لحصول الجهالة حتى يضبط منها بعض إلى
حد محدود، وشيء معلوم، وذلك كله جزئي لا كلي، فإذًا النظر
إلى المنافع خصوصًا5 نظر إلى جزئيات المنافع، والكلي مقدم
على الجزئي طبعًا وعقلًا، وهو أيضا مقدم شرعًا كما مر6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أن ما لا يتناهى في المنافع وجزئيات الصنعة يمكن
ضبطه وحصره بنسبته إلى هذا العبد. "د".
2 متعلق بمحذوف؛ أي: ويستمر هكذا في طول حياته، ولا يصح
تعلقه بقوله: "ينتفع"، ولا بقوله: "تصح"؛ كما هو ظاهر.
"د".
3 في "ط": "حصر".
4 أي: من جهة نفس النافع، وقوله: "لا في الوقوع وجودًا"؛
كما أشار إليه بقوله: "وكل نوع تحته... إلخ"، وقوله: "ولا
في العقد... إلخ" تابع للوجود، وقوله: "حتى يضبط منها...
إلخ"؛ أي: فتنضبط قصدًا فيهما، ولكنه نظر جزئي. "د".
5 أي: والنظر إليها من جهة الذات التي لها تلك المنافع نظر
كلي. "د".
6 أي: في صدر المسألة الأولى من كتاب الأدلة. "د".
ج / 3 ص -443-
فقد
تبين من هذا -على تسليم أن المقصود المنافع- أن الذوات هي
المقدمة المقصودة أولا، المتبوعة، وأن المنافع هي التابعة،
وظهر لك حكمة الشارع في إجازة ملك الرقاب لأجل المنافع وإن
كانت غير معلومة ولا محصورة، ومنع ملك المنافع خصوصًا1 إلا
على الحصر والضبط والعلم المقيد المحاط به بحسب الإمكان؛
لأن أنفس الرقاب ضابط كلي لجملة المنافع؛ فهو معلوم من جهة
الكلية الحاصلة، بخلاف أنفس المنافع مستقلة بالنظر فيها؛
فإنها غير منضبطة في أنفسها، ولا معلومة أمدًا ولا حدًّا
ولا قصدًا ولا ثمنًا ولا مثمونًا، فإذا ردت2 إلى ضابط يليق
بها يحصل العلم من تلك الجهات أمكن العقد عليها، والقصد في
العادة إليها؛ فإن أجازه3 الشارع جاز، وإلا امتنع.
وما ذكر في السؤال من المنافع إذا كانت هي المقصودة؛
فالرقاب تابعة؛ إذ هي الوسائل إلى المقصود، فإن أراد أنها
تابعة لها مطلقًا؛ فممنوع بما تقدم4، وإن أراد تبعية ما
فمسلم، ولا يلزم من ذلك محظور؛ فإن الأمور5 الكلية قد تتبع
جزئياتها بوجه ما، ولا يلزم من ذلك تبعيتها لها مطلقًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: دون الرقاب. "د".
قلت: في "ف" و"م": "ومنع مالك"، والأصل لا يرجح شيئًا؛ لأن
مالك وملك تكتب فيه: "ملك".
2 في الأصل: "أردنا"، وهو خطأ.
3 بأن كان مستوفيًا للشروط الأخرى غير العلم. "د".
4 من هذا البيان، وأن النظر إلى الأعيان نظر كلي، وأنه
المقدم طبعًا وشرعًا.... إلخ "د".
5 أي: والأصول مع منافعها كذلك؛ لأنه اعتبر في المنافع
انضباطها بالأعيان كانضباط الجزئيات بكليها، وقوله: "أولا
ترى" يقوى به التشبيه الذي جاء به ليوضح المقام. "د".
ج / 3 ص -444-
وأيضًا؛ فالإيمان1 أصل الدين، ثم إنك تجده وسيلة وشرطًا في
صحة العبادات، حسبما نصوا عليه، والشرط من توابع المشروط؛
فيلزم إذًا على مقتضى السؤال أن تكون الأعمال هي الأصول
والإيمان تابع لها، أولا ترى أنه يزيد بزيادة الأعمال،
وينقص بنقصانها؟ لكن ذلك باطل؛ فلا بد أن تكون التبعية إن
ظهرت في الأصل جزئية لا كلية.
وكذلك نقول: إن العقد على المنافع بانفرادها يتبعها
الأصول، من حيث2 إن المنافع لا تستوفى إلا من الأصول؛ فلا
تخلو الأصول من إبقاء يد المنتفع عليها وتحجيرها عن انتفاع
صاحبها بها، كالعقد على الأصول سواء، وهي معنى الملك؛ إلا
أنه مقصور على الانتفاع بالمنافع المعقود عليها، ومنقضٍ
بانقضائها؛ فلم يُسَمَّ في الشرع ولا في العرف ملكًا، وإن
كان كذلك في المعنى؛ لأن العرف العادي والشرعي قد جرى بأن
التملك في الرقاب هو التملك المطلق الأبدي، الذي لا ينقطع
إلا بالموت، أو بانتفاع صاحبها بها أو المعاوضة عليها.
وقد كره مالك للمسلم أن يستأجر نفسه من الذمي3 لأنه لما
ملك منفعة المسلم صار كأنه قد ملك رقبته، وامتنع4 شراء
الشيء على شرط فيه تحجير؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثال شرعي للأصل وتوابعه يحقق فيه تبعية الأصل لهذه
اللواحق باعتبار من الاعتبارات، وإن لم يكن مما نحن فيه.
"د".
2 أي: من جهة هذه التبعية الجزئية التي تقتضي بعض أحكام
التبعية الكلية، وهي هنا إبقاء يد المنتفع عليها، وقوله:
"كالعقد على الأصول سواء"؛ أي: في خصوص هذا. "د".
3 قال ابن القاسم في "المدونة الكبرى" "3/ 444": "وقد
بلغني أن مالكًا كره أن يؤاجر المسلم نفسه من النصراني".
4 في م: "ومنع".
ج / 3 ص -445-
كشراء
الأمة على أن يتخذها أم ولد، أو على أن لا يبيع1 ولا يهب،
وما أشبه ذلك، لأنه لما حجر عليه بعض منافع الرقبة؛ فكأنه
لم يملكها ملكًا تامًا، وليس بشركة؛ لأن الشركة على
الشياع، وهذا ليس كذلك، وانظر في تعليل2 مالك المسألة3 في
باب ما يفعل بالوليدة إذا بيعت في "الموطأ"4؛ فقد تبين أن
هذا الأصل المستدل عليه مؤسس لا منخرم، والحمد لله.
والجواب عن الثالث: أن ما ذكر فيه شاهد5 على صحة المسألة،
وذلك أن الثمرة لما برزت في الأصل برزت على ملك البائع؛
فهو المستحق لها أولا بسبب سبق استحقاقه لأصلها، على حكم
التبعية للأصل، فلما صار الأصل للمشتري ولم يكن ثم اشتراط،
وكانت قد أبرزت وتميزت بنفسها عن أصلها؛ لم تنتقل المنفعة
إليه بانتقال الأصل، إذ كانت قد تعينت منفعة لمن كان الأصل
إليه، فلو صارت للمشتري إعمالًا للتبعية؛ لكان هذا العمل
بعينه قطعًا وإهمالًا للتبعية بالنسبة إلى البائع، وهو
السابق في استحقاق التبعية؛ فثبتت أنها [له]6 دون المشتري.
وكذلك مال العبد لما برز في يد العبد ولم ينفصل7 عنه أشبه
الثمرة مع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أو: لا يبيع إلا له مثلًا، ولذا قالت السيدة عائشة لأم
ولد زيد بن أرقم: "بئسما شريت" لما اشترت منه الجارية،
وتشارطا على أنها لا تبيعها إلا له. "د".
2 هو بمعنى التعليل المذكور؛ فما هنا محصله. "د".
3 في "ط": "للمسألة".
4 قال مالك في "الموطأ" "2/ 616 رواية يحيى": "فيمن اشترى
جارية على شرط أن يبيعها ولا يهبها أو ما أشبه ذلك من
الشروط؛ فإنه لا ينبغي للمشتري أن يطأها، وذلك أنه لا يجوز
له أن يبيعها ولا أن يهبها، فإذا كان لا يملك ذلك منها؛
فلم يملكها ملكًا تامًا لأنه قد استثني عليه فيها ما ملكه
بيد غيره، فإذا دخل هذا الشرط؛ لم يصح، وكان بيعًا
مكروهًا".
5 فهو لنا لا علينا، قلب المعارضة؛ فجعلها دليلًا للمعارض.
"د".
6 ما بين المعقوفتين سقط من "د"، وفي "ط": "فثبت أنها له".
7 أي: بانتزاع السيد له. "د".
ج / 3 ص -446-
الأصل؛
فاستحقه الأول بحكم التبعية قبل استحقاق الثاني له، فإن
اشترطه المشتري؛ فلا إشكال، وإنما جاز اشتراطه وإن تعلق به
المانع1 من أجل بقاء التبعية أيضا؛ فإن الثمرة قبل الطيب
مضطرة إلى أصلها لا يحصل الانتفاع بها إلا مع استصحابه؛
فأشبهت وصفًا من أوصاف الأصل.
وكذلك مال العبد يجوز اشتراطه وإن لم يجز2 شراؤه وحده؛
لأنه ملك العبد وفي حوزه، لا يملكه السيد إلا بحكم
الانتزاع؛ كالثمرة التي لم تطب.
فالحاصل أن التبعية للأصل ثابتة على الإطلاق3، غير أن
مسألة ظهور الثمرة ومال العبد تعارض فيها جهتان للتبعية:
جهة البائع وجهة المشتري؟ فكان البائع أولى لأنه المستحق
الأول، فإن اشترطه المبتاع انتقلت التبعية، وهذا واضح
جدًا. والجواب عن الرابع: أن القصد إلى المنافع لا إشكال
في حصوله على الجملة، ولكن إذا أضيفت إلى الأصل يبقى
النظر: هل [هي]4 مقصودة من حيث أنفسها على الاستقلال، أم
هي مقصودة من حيث رجوعها إلى الأصل كوصف من أوصافه؟
فإن قلت: إنها مقصودة على حكم الاستقلال: فغير صحيح لأن
المنافع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو الغرر والجهالة. "د".
2 أي: ما لم يرد إلى ضابط يميزه حدًا وقصدًا وثمنًا....
إلخ، أما مع العبد؛ فلا حاجة إلى شيء من هذا، وهو روح
المسألة. "د".
3 في جميع الأصول ولواحقها، أي: حتى في مسألتي الحديث؛
فدعوى أن الحديث يعطي انفصال التابع عن المتبوع غير صحيح،
بل هو يؤيد التبعية. "د".
4 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"ط"، وكتب "ف":
"الأنسب: "هل هي مقصودة؟" بذكر الضمير العائد على
المنافع".
ج / 3 ص -447-
التي1
لم تبرز إلى الوجود بعد مقصودة، ويجوز العقد عليها مع
الأصل، ولكنها ليست بمقصودة إلا من جهة الأصل؛ فالقصد راجح
إلى الأصل، فالشجرة إذا اشتريت أو العبد قبل أن يتعلم خدمة
أو صناعة ولم يستفد مالًا، والأرض قبل أن تكرى أو تزدرع،
وكذلك سائر الأشياء مقصود فيها هذه المنافع وغيرها؛ لكن من
جهة الأعيان والرقاب، لا من جهة أنفس المنافع إذ هي غير2
موجودة بعد؛ فليست بمقصودة إذًا قصد الاستقلال، وهو المراد
بأنها غير مقصودة، وإنما المقصود الأصل.
فالمنافع إنما هي كالأوصاف في الأصل؛ كشراء العبد الكاتب3
لمنفعة الكتابة، أو العالم4 للانتفاع بعلمه، أو لغير ذلك
من أوصافه التي لا تستقل في أنفسها، ولا يمكن أن تستقل؛
لأن أوصاف الذات لا يمكن استقلالها دون الذات قد5 زيد في
أثمان الرقاب لأجلها؛ فحصل لجهتها6 قسط من الثمن؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قصر الكلام عليها -مع أن القاعدة التي فيها المناقشة
أوسع من ذلك- ليتأتى له في هذا الفرض إلزامه بأنها غير
مقصودة على حكم الاستقلال؛ فيثبت به أنه لا تنافي بين
القصد وعدم الاستقلال. "د".
2 ومع ذلك؛ فإنه يزيد الثمن وينقص بسببها، ألا ترى أن
الشجرة المعتاد إثمارها وإن لم يكن فيها ثمر يزيد ثمنها عن
الشجرة مثلها التي اعتيد عدم إثمارها؟ فالمنافع مقصودة،
ويزيد وينقص الثمن للأصل بسببها، وإن لم تكن المنافع
موجودة بالفعل. "د".
3 في الأصل و"ف": "المكاتب"، وهو خطأ، يرده السياق؛ فتأمل.
4 إلا أن المثالين وإن كانت المنفعة فيهما غير مستقلة
لأنها وصف للذات؛ إلا أن التهيئة حاصلة في المثالين
للانتفاع بالعلم والكتابة، فهما من القسم الثالث الآتي في
الفصل بعده، وفرضه كان في القسم الأول ولا مانع؛ فستعرف أن
حكم الأول والثالث واحد على الجملة، وغرضه تحقيق القصد مع
عدم الاستقلال، وهو واضح في المثالين لكون المنفعة فيهما
وصف ذات، ولو مثل بما ذكرناه من الشجرة المعتادة الإثمار؛
لكان أوفق مما فرضه أولًا. "د".
5 الجملة حال من ضمير لا تستقل أو معطوفة عليها بإسقاط
الواو، أو استئناف لتطبيق المثال في قوله: "كشراء"،
والمعنى أنها مع كونها أوصافًا صرفة غير مستقلة زيدت أثمار
الرقاب لأجلها، وقوله: "بالكلية"؛ أي: بطريق كلي كما قال
سابقًا: إنه يكفي لحصر ما لا يتناهى من المنافع نوطها
بالذات الخاصة. "د".
قلت: ولعل هذا رد على "ف"، حيث قال: "لعله ولهذا قد زيد"،
ووقع في "ط": "وقد".
6 أي: بسببها وإن لم تكن مقصودة على الاستقلال، وهذا حسم
لروح الاعتراض. "د".
ج / 3 ص -448-
لا من
حيث الاستقلال، بل من حيث الرقاب، وقد مر أن الرقاب هي
ضوابط المنافع بالكلية، وإذا ثبت1؛ اندفع التنافي
والتناقض، وصح الأصل المقرر، والحمد لله، وحاصل الأمر2 أن
الطلبين لم يتواردا على هذا المجموع في الحقيقة، وإنما
توجه الطلب إلى المتبوع خاصة.
فصل
وبقي هنا تقسيم ملائم لما تقدم، وهو أن منافع الرقاب وهي
التي قلنا إنها تابعة لها على الجملة تنقسم ثلاثة أقسام:
أحدها:
ما كان في أصله بالقوة لم يبرز إلى الفعل لا حكمًا ولا
وجودًا؛ كثمرة الشجر قبل الخروج، وولد الحيوان قبل الحمل،
وخدمة العبد، ووطء قبل3 حصول التهيئة وما أشبه ذلك؛ فلا
خلاف في هذا القسم أن المنافع هنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كون المنافع مقصودة غير مستقلة. "د".
2 أي: حاصل هذا الأصل أنه لم يحصل توارد الطلبين
المتنافيين أمرًا ونهيًا على الأصل وتابعه، بل توجه الطلب
دائما إنما هو إلى المتبوع، وهذا هو المراد بكون الطلب
المتوجه إلى التابع ملغى وساقط الاعتبار، أي: ما كان
متوجها إليه عند انفراده لا يتوجه إليه عند كونه تابعا.
"د".
3 لا يحتاج إليه في المثالين الأولين؛ فإنه قيدهما بما
يناسبهما، فهو قيد في خدمة العبد وما بعده، فإن المنفعة
فيهما لم تبرز وجودا وهو واضح؛ لأن وجود الأمثلة الأربعة
في أصلها بالقوة والاستعداد فقط، ولا حكمًا لأنها لم تعطِ
حكم البارز المحسوس كما سيأتي في القسم الثالث. "د". وقال
"ف": "هو قيد فيما تقدمه من الأمثلة"، وفي الأصل: "ووطئ
قبل التهيئة".
قلت: في "ط": "ووطء الجارية قبل....".
ج / 3 ص -449-
غير
مستقلة في الحكم؛ إذ لم تبرز إلى الوجود فضلًا عن أن
تستقل؛ فلا قصد إليها هنا ألبتة، وحكمها التبعية كما1 لو
انفردت فيه الرقبة بالاعتبار.
والثاني:
ما ظهر فيه حكم الاستقلال وجودًا وحكمًا أو حكمًا عاديًا
أو شرعيًا؛ كالثمرة بعد اليبس، وولد الحيوان بعد استغنائه
عن أمه، ومال العبد بعد الانتزاع، وما أشبه ذلك؛ فلا خلاف
أيضًا أن حكم التبعية منقطع عنه، وحكمه2 مع الأصل حكم غير
المتلازمين إذا اجتمعا قصدا، لا بد من اعتبار كل واحد
منهما على القصد الأول مطلقًا.
والثالث:
ما فيه الشائبتان؛ فمباينة الأصل فيه ظاهرة، لكن على غير
الاستقلال؛ فلا هو منتظم في سلك الأول ولا في الثاني، وهو
ضربان:الأول: ما كان هذا المعنى فيه محسوسًا؛ كالثمرة
الظاهرة قبل مزايلة3 الأصل، والعبد ذي المال الحاضر تحت
ملكه، وولد الحيوان قبل الاستغاء عن أمه، ونحو ذلك.
والآخر: ما كان في حكم المحسوس؛ كمنافع العروض والحيوان
والعقار، وأشباه ذلك مما حصلت فيه التهيئة للتصرفات
الفعلية؛ كاللبس، والركوب، والوطء، والخدمة، والاستصناع،
والازدراع، والسكنى، وأشباه ذلك؛ فكل واحد من الضربين قد
اجتمع مع صاحبه من وجه، وانفرد عنه من وجه، ولكن الحكم
فيهما واحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فلا فرق بين أن يقول: بعت الشجرة بمنافعها التي تحدث
مثلا، وبعت الشجرة، بدون ذكر المنافع، أما القسم الثاني؛
فتعتبر المنافع شيئًا آخر منفصلا تمام الانفصال عن الأصل،
ويجري على كل حكمه الخاص به. "د".
2 في "ف": "وحكم"، وقد استظهر "ف" و"م" المثبت.
3 أي: وقبل اليبس والاستغناء عن أصلها. "د".
ج / 3 ص -450-
فالطرفان1 يتجاذبان في كل مسألة من هذا القسم، ولكن لما
ثبتت التبعية على الجملة؛ ارتفع توارد الطلبين عنه2، وصار
المعتبر ما يتعلق بجهة المتبوع كما مر بيانه، ومن جهة أخرى
لما برز التابع وصار مما يقصد؛ تعلق الغرض في المعاوضة
عليه، أو في غير ذلك من وجوه المقاصد التابعة على الجملة.
ولا ينازع في هذا أيضًا؛ إذ لا يصح أن تكون الشجرة المثمرة
في قيمتها لو لم تكن مثمرة، وكذلك العبد دون مال لا تكون
قيمته كقيمته مع المال، ولا العبد الكاتب3 كالعبد غير
الكاتب، فصار هذا القسم من هذه الجهة محل نظر واجتهاد بسبب
تجاذب الطرفين فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الطرفان هما القسم الأول والقسم الثاني؛ لأنهما طرفان من
جهة المعنى في الاستقلال وعدمه لا من جهة الوضع في عبارة
الكتاب كما فهم بعضهم، وقوله: "صاحبه" تحريف بدل "سابقيه"؛
أي: أن كل واحد من ضربي القسم الثالث اجتمع مع كل واحد من
القسمين السابقين في وصف وخالفه في وصف كما أوضحه سابق
الكلام، "والحكم فيهما"؛ أي: الضربين المذكورين، "واحد" لا
فرق بين المحسوس وما كان في حكمه، وقوله: "يتجاذبان" حقه
"يتجاذبانهما"؛ أي: الضربين، أي أن الأول والثاني يطلبان
أن يأخذ الضربان حكمهما. "د".
أما "ف"؛ فقال: "هما القسم الأول والثالث من هذا
التقسيم"!!
2 أي: ارتفع عن القسم تعلق الطلبين به أمرًا ونهيًا، ولم
يبقَ إلا ما يتعلق بالمتبوع فقط، شأن المتلازمين كما هو
الأصل الذي تقرر، ولكن بقي لتجاذب الطرفين اعتبار آخر من
جهة الجوائح وكلفة السبق وغير ذلك مما يترتب اختلاف حكمه
على اختلاف النظر والاجتهاد، بناء على قوة جذب أحد الطرفين
لصور هذا القسم الثالث بضربيه؛ فبين ذلك بقوله: "ومن جهة
أخرى لما برز" إلى آخر الفصل. "د".
3 جاء في الأمثلة المذكورة باثنين للمحسوس، وواحد لغير
المحسوس، وهما الضربان المشار إليهما في كلامه؛ فالكلام
متسق جميعه. "د".
قلت: ورد في الأصل: "المكاتب" بدل "الكاتب".
ج / 3 ص -451-
وأيضًا؛ فليس تجاذب الطرفين [فيه]1 على حدّ واحد، بل يقوى
الميل إلى أحد الطرفين في حال، ولا يقوى في حال أخرى، وأنت
تعلم أن الثمرة حين بروزها [وقبل]2 الإبار3 ليست في القصد
ولا في الحكم كما بعد الإبار وقبل بدو الصلاح، ولا هي قبل
بدو الصلاح كما بعد بدو الصلاح وقبل اليبس؛ فإنها قبل
الإبار للمشتري، فإذا أبرت؛ فهي عند أكثر العلماء للبائع
إلا أن يشترطها المبتاع، فتكون له عند الأكثر، فإذا بدا
صلاحها؛ فقد قربت من الاستقلال وبعدت من التبعية؛ فجاز
بيعها بانفرادها، ولكن مَن اعتبر الاستقلال قال: هي مبيعة
على حكم الجذ4 كما لو يبست على رءوس الشجر؛ فلا جائحة
فيها.
ومن اعتبر عدم الاستقلال وأبقى حكم التبعية؛ قال: حكمها
على التبعية لما5 بقي من مقاصد الأصل6 فيها ووضع7 فيها
الجوائح اعتبارًا بأنها لما افترقت إلى الأصل كانت
كالمضمومة إليه التابعة له؛ فكأنها على ملك صاحب الأصل،
وحين8 تعين وجه الانتفاع بها على المعتاد صارت كالمستقلة؛
فكانت الجائحة اليسيرة مغتفرة فيها؛ لأن اليسير في الكثير
كالتبع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د"، وأثبته من الأصل و"ف"
و"م" و"ط".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"د"، وأثبته من "ف"
و"م" و"ط".
3 هو مصدر أبر النخل والزرع، يأبُره ويأبِره -بضم الباء
وكسرها-: إذا أصلحه. "ف".
4 بالذال المعجمة؛ أي: الصرم والقطع، يقال: جَذّ النخل
يجذّه جذًّا، كما يقال: جَدَّ النخل جدًّا -بالمهملة-: إذا
صرمه. "ف" قلت: هي في "ط": "الجد....، يبست في...".
5 يؤخذ من قوله بعد: "ولم يبق لها ما تضطر إلى الأصل فيه"
أن اللام لتعليل قوله: "وحكمه... إلخ". "د".
6 أي: لا المقاصد التكميلية؛ كبقاء النضارة، وحفظ المائية.
"د".
7 أي: وضعها عن المشتري وتكون خسارتها على البائع؛ لأنها
لم تستقل عن أصلها، فما يصيبها على حسابه، وهذا هو فائدة
جذب الطرف الأوّل لها. "د".
8 هذا هو فائدة جذب الطرف الثاني لها.
ج / 3 ص -452-
ومن
هنا اختلفوا في السقي بعد بدو الصلاح: هل هو على البائع،
أم على المبتاع؟ فإذا انتهى الطيب من الثمرة ولم يبق لها
ما تضطر إلى الأصل فيه، وإنما بقي ما يحتاج إليه فيه على
جهة التكملة مِن بقاء النضارة وحفظ المائية؛ اختلف: هل بقي
فيها حكم الجائحة، أم لا؟ بناء1 على أنها استقلت بنفسها
وخرجت عن تبعية الأصل مطلقًا أم لا، فإذا انقطعت المائية
والنضارة؛ اتفق الجميع على حكم الاستقلال، فانقطعت
التبعية، وعلى نحو من هذا التقرير يجري الحكم في كل ما
يدخل تحت هذه الترجمة.
فصل
وعلى هذا الأصل تتركب فوائد:
- منها: أن كل شيء بينه وبين الآخر تبعية جارٍ2 في الحكم
مجرى التابع والمتبوع المتفق3 عليه، ما لم يعارضه أصل
آخر4، كمسألة الإجارة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مرتب على النفي قبله، وقوله: "مطلقًا" أي: يسيرة كانت
الجائحة أو كثيرة. "د".
2 ومنه ما قاله أبو حنيفة من جواز الشرب في الإناء المفضض،
والجلوس على السرج والكرسي المفضضين، إذا كان يتقي موضع
الفضة، وعلل الجواز بأن ذلك تابع له ولا عبرة بالتوابع.
"د".
قلت: انظر المسألة في "الخلافيات" "1/ مسألة رقم 6"
للبيهقي، وتعليقي عليها.
3 هو القسم الأول في الفصل قبله، فمن اكترى دارًا أو أرضًا
فيها شجر مثمرٌ لم يبد صلاحه، وكانت قيمة الثمر ثلث مجموع
الأجرة فأقل، وكانت الإجارة إلية مدة محدودة يطيب فيها
الثمر لا مشاهرة، وكان الغرض منع التضرر من دخول غير
المستأجر الأرض أو الدار لأجل الشجر؛ فإنه يجوز إدخال
الشجر المثمر في الإجارة لأنه لما كانت قيمته الثلث فأقل
كان تابعًا للأصل، وهو الدار والأرض؛ فجاز، وإن كانت
الثمرة قبل بدو صلاحها لا يجوز اشتراؤها منفردة؛ فعوملت
معاملة اشتراء الثمرة التي لم يبد صلاحها تبعًا لأصلها.
"د".
4 كسد الذرائع، وتقديم درء المفاسد وقاعدة التعاون، وغيرها
مما يأتي في مسألة الصباغة آخر المسألة. "د".
ج / 3 ص -453-
على
الإمامة، مع1 الأذان أو خدمة المسجد، ومسألة اكتراء الدار
تكون فيها الشجرة، أو مساقاة الشجر يكون بينها البياض
اليسير2، ومسألة الصرف3 والبيع إذا كان أحدهما يسيرًا، وما
أشبه ذلك من المسائل التي تتلازم في الحس4 أو في القصد أو
في المعنى، ويكون بينها قلَّة وكثرة؛ فإن للقليل مع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تكره الأجرة على الإمامة من المصلين، أما من الوقف؛
فكإعانة، قال ابن عرفة في جوازها على إمامة الفرض:
"ثالثها: تجوز إن كانت تبعًا للأذان"، أي: ومثله -بل أولى-
خدمة المسجد؛ لأن مشقتها أشد من مشقة الإمامة، فلما كانت
تابعة لما هو جائز جازت، ومعلوم جواز الأجرة على الأذان
وخدمة المسجد؛ فقد كان يعطي عمر أجرًا على الأذان، لكن قال
ابن حبيب: "إنما كان يعطي من بيت المال إعانة كأعطية
الولاة والقضاة، ولا يجوز لهؤلاء أن يأخذوا ممن يقضون
لهم". "د".
قلت: انظر "الفروق" "3/ 2"، و"القواعد" للمقري "2/
432-433، القاعدة السابعة والثمانون بعد المائة".
2 أي بحيث يكون كراؤه الثلث فأقل من مجموع كرائه مع قيمة
ثمرة الشجر عادة بعد إسقاط كلفة الثمر، بشرط أن يكو البذر
من طرف العامل، كما أن جميع عمل المساقاة من طرقه، وأن
يكون الجزء الذي يخصه منه كالجزء المشترط له في المساقاة
على الشجر؛ إن كان ربعًا فربع، أو ثلثًا فثلث، وهكذا حتى
تتحقق التبعية للشجر، ومثل ذلك في المساقاة على الزرع إذا
كان فيه شجر تابع له بأن كان الثلث قيمة فأقل؛ فيدخل في
المساقاة تبعًا، ويكون الحكم للمتبوع هو الشجر أو الزرع
ساريًا على التابع، وإن لم يكن الحكم كذلك إذا انفرد
التابع؛ فإن الأحكام مختلفة بين مساقاة الزرع ومساقاة
الشجر؛ وبين مساقاة الشجر والمزارعة التي منها مثال
المؤلف. "د".
3 يحرم اجتماع البيع والصرف في عقد واحد لتنافي لوازمهما
لجواز الأجل والخيار في البيع دون الصرف، إلا أن يكونا
بدينار واحد، كأن يشتري شاة وخمسة دراهم بدينار، أو يجتمع
البيع والصرف فيه، كأن يشتري عشرة أثواب وعشرة دراهم بأحد
عشر دينارًا وكان الدينار بعشرين درهمًا؛ فجعل الصرف
تابعًا للبيع. "د".
4 كالمثال الثاني والثالث، وقوله: "أو القصد" كمثال الأول،
وقوله: "أو المعنى"؛ أي: كالبيع والصرف؛ فدفع الحاجة اقتضى
البيع، وهو نفسه اقتضى هذا الصرف ليتم التبادل في هذه
الصفقة. "د".
قلت: انظر أيضا: "عدة البروق" "ص: 550 وما بعدها".
ج / 3 ص -454-
الكثير
حكم التبيعة، ثبت ذلك في كثير من مسائل الشريعة، وإن لم
يكن بينهما تلازم في الوجود، ولكن العادة جارية بأن القليل
إذا انضم إلى الكثير في حكم الملغى قصدًا؛ فكان كالملغى
حكمًا.
- ومنها1 أن كل تابع قصد؛ فهل تكون زيادة الثمن لأجله
مقصودة على الجملة لا على التفصيل، أم هي مقصودة على
الجملة والتفصيل؟ والحق الذي تقتضيه التبيعة أن يكون القصد
جمليًّا لا تفصيليًّا؛ إذ لو كان تفصيليًّا لصار إلى حكم
الاستقلال؛ فكان النهي واردًا عليه فامتنع، وكذلك يكون إذا
فرض هذا القصد، فإن كان جمليا؛ صح بحكم التبعية، وإذا ثبت
حكم التبعية؛ فله جهتان:
جهة زيادة الثمن لأجله.
وجهة عدم القصد إلى التفصيل فيه.
فإذا فات ذلك التابع؛ فهل يرجع بقيمته أم لا؟ يختلف في
ذلك، ولأجله اختلفوا في مسائل داخلة تحت هذا الضابط،
كالعبد إذا رُد بعيب وقد كان أتلف ماله؛ فهل يرجع على
البائع بالثمن كله، أو لا2 وكذلك ثمرة الشجرة، وصوف الغنم،
وأشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الفائدة مكونة من فائدتين ترتبت إحداهما على الأخرى؛
فحكم التبعية استفيد منه أولًا أن القصد جملي لا تفصيلي،
وإلا؛ لكان مستقلًا فامتنع، وهو لم يمتنع؛ فليس مستقلًا،
فليس تفصيليًّا، وترتبت فائدة أخرى على هذه التبعية، وهي
وجود جهتين له تقضي كل منهما بحكم كان سببًا في اختلاف
الفقهاء في التفريع في هذا المقام على ما ذكره. "د".
2 فإن راعينا زيادة الثمن لأجل المال رجع على البائع بما
عدا قيمة مال العبد، وإن راعينا عدم القصد إلى التفصيل فيه
رجع بالثمن كله، وكان المال لاحظ له في الثمن. "د".
ج / 3 ص -455-
- ومنها: قاعدة: الخراج بالضمان؛ فالخراج تابع للأصل، فإذا
كان الملك حاصلًا فيه شرعًا؛ فمنافعه تابعة، سواء طرأ بعد
ذلك استحقاق أم لا، فإن طرأ الاستحقاق بعد ذلك؛ كان
كانتقال الملك على الاستئناف1 وتأمل مسائل الرجوع2
بالغلَّات في الاستحقاق أو عدم الرجوع؛ تجدها جارية على
هذا الأصل.
- ومنها: في تضمين الصناع ما كان تابعًا للشيء المستصنع
فيه، هل3 يضمنه الصناع؛ كجفن السيف، ومنديل [الثوب]4، وطبق
الخبز، ونسخة الكتاب المستنسخ، ووعاء القمح، ونحو ذلك بناء
على أنه تابع؛ كما يضمن نفس المستصنع أم لا؟ فلا يضمن؛
لأنه وديعة عند الصانع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كأن الملك استؤنف الآن عند طرو الاستحقاق؛ فليس
للمستحق شيء من الغلة التي حصلت قبل ثبوت الاستحقاق. "د".
2 كما قال خليل: "والغلة لذي الشبهة للحكم"؛ أي: من يوم
وضع يده إلى يوم الحكم؛ كوارث من غير غاصب، وموهوب من غير
غاصب، ومشترٍ كذلك، إن لم يعلموا بأنها مستحقة لغير من
انتقلت منه إليهم؛ فلا رجوع عليهم بالغلة التابعة للملك
الحاصل شرعًا بهذه الأسباب، بخلاف ما إذا علموا؛ فإنه لا
تبعية حينئذ لملك صحيح فترد الغلة للمستحق، فكل من الرد
وعدمه مبني على القاعدة المشار إليها، وهي إعطاء التابع
حكم المتبوع. "د".
3 في المسألة أقوال ثلاثة: قيل: لا يضمن غير ما يصنعه
نفسه، سواء أكان عمل المصنوع يحتاج له كالكتاب المستنسخ
منه، أم لا؛ كعلبة وضع فيها القماش ليوصله فيها للخياط،
وقيل يضمن التابع مطلقًا احتاج له المصنوع في صناعته أم
لا، وقيل: إنما يضمن التابع إذا كان يحتاج إليه المصنوع؛
كالكتاب الذي يستنسخ منه، والمؤلف جمع من الأمثلة ما يحتاج
إليه وما لا يحتاج. "د".
قلت: لابن رحال المعداني كتاب "تضمين الصناع"، وهو مطبوع،
وفيه تفصيل وتقعيد لهذه المسألة.
4 سقط من "ط".
ج / 3 ص -456-
- ومنها: في الصرف ما كان من حلية1 السيف والمصحف ونحوهما
تابعًا أو غير2 تابع.
ومسائل هذا الباب كثيرة3.
فصل4
ومن الفوائد في ذلك أن كل ما لا5 منفعة فيه من المعقود
عليه في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المحلى بأحد النقدين يجوز بيعه بأحد النقدين إن أبيحت
التحلية؛ كسيف ومصحف، وكان في نزع الحلية فساد أو غرم،
وعجل المعقود عليه، لا بد من هذه الشروط سواء كانت الحلية
تابعة أم لا، بيع بصنفه أو غير صنفه، ويزاد في البيع بصنفه
رابع، وهو أن تكون الحلية الثلث فأقل؛ فيكون تابعًا، وهذا
ما يعنيه المؤلف؛ إلا أنه يبقى الكلام حينئذ في تسميته
صرفًا، مع أن الصرف في عرفهم بيع النقد بنقد من غير صنفه،
وأما بصنفه عددًا؛ فهو مبادلة وبه وزنًا مراطلة، فمسألتنا
من المبادلة أو المراطلة؛ لأنها فيما كان من صنفه، أما ما
كان غير صنفه؛ فلا يلزم فيه الشرط الرابع الذي يحقق موضوع
التبعية كما عرفت. "د".
2 في "د": "وغيره".
3 ومنها جواز حمل المحدث المصحف إذا كان تابعًا لحمله
أمتعته، ومنها ما إذا اشترى جملة أشياء ثم ظهر أن بعضها لا
يجوز بيعه؛ فإنه يرد الكل وليس له التمسك بالباقي الحلال
بما يخصه من الثمن إلا إذا كان وجه الصفقة؛ فيعد متبوعًا،
ومثله ما قالوه في العيوب وجواز التمسك بالجزء الذي ليس
فيه عيب بما يقابله من الثمن إذا كان وجه الصفقة، وهكذا من
المسائل المتفرعة على هذا الأصل. "د".
4 ما تحته وكثير من أمثلة تقعيد وعميق وتفريع لما عند
المازري في "المعلم بفوائد مسلم" "2/ 157 وما بعدها".
5 اشترطوا في المعقود عليه أن يكون منتفعًا به انتفاعًا
شرعيًا، واحترزوا به عن الحيوان محرم الأكل إذا أشرف على
الموت بحيث لم يبلغ حد السياق؛ لأنه لا ينتفع به، عن آلة
اللهو، وهذا ظاهر في ذاته، ولكن على أي شيء في المسألة
السابقة يتفرع هذا؟ نعم، إن الذي يظهر تفريعه عليها القسم
الثالث بتفاصيله الآتية وما ذكر قبله تمهيد وتوطئة
للمقصود. "د".
ج / 3 ص -457-
المعاوضات لا يصح العقد عليه، وما فيه منفعة أو منافع لا
يخلو من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون جميعها حرامًا أن ينتفع به؛ فلا إشكال في
أن جارٍ مجرى ما لا منفعة فيه ألبتة.
والثاني: أن يكون جميعها حلالًا؛ فلا إشكال في صحة العقد
به وعليه.
وهذان القسمان وإن تصورا في الذهن بعيدٌ أن يوجدا في
الخارج؛ إذ ما من عين موجودة يمكن الانتفاع بها والتصرف
فيها إلا وفيها جهة مصلحة وجهة مفسدة؛ وقد تقدمت الإشارة
إلى هذا في كتاب1 المقاصد؛ فلا بد من هذا الاعتبار، وهو
ظاهر بالاستقراء؛ فيرجع القسمان إذًا إلى القسم الثالث،
وهو أن يكون بعض المنافع حلالًا وبعضها حرامًا؛ فههنا معظم
نظر المسألة، وهو أولًا ضربان:
أحدهما: أن يكون أحد الجانبين هو المقصود بالأصالة عرفًا،
والجانب الآخر تابع غير مقصود بالعادة؛ إلا أن يقصد2 على
الخصوص وعلى خلاف العادة؛ فلا إشكال في أن الحكم لما هو
مقصود بالأصالة والعرف، والآخر لا حكم له؛ لأنا لو اعتبرنا
الجانب التابع لم يصح3 لنا تملك عين من الأعيان، ولا عقد
عليه لأجل منافعه؛ لأن فيه منافع محرمة، وهو من الأدلة4
على سقوط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة الخامسة من النوع الأول، حيث قرر أنه لا يوجد
شيء من الأمور المبثوثة في هذه الدنيا متمحضًا للمصلحة ولا
للمفسدة، ولكن إذا رجحت المصلحة، قيل: إنه مصلحة وكان
مطلوبًا، وبالعكس، وقوله: "هذا الاعتبار"؛ أي: عدم التمحض
وبناء المبحث عليه. "د".
2 الاستثناء منقطع، وسيأتي حكم هذه الصورة في قوله:
"اللهم... إلخ". "د".
3 لما عرفت من تمحض عين ما للمصلحة؛ فإذًا كل عين فيها جهة
مفسدة ولو تابعة، فلو اعتبر الجانب التابع أيضًا؛ لم تبقَ
عين يمكن تملكها. "د".
4 لأنه يترتب عليه نهاية الضيق والحرج، بل قد يكون التبادل
من مرتبة الضروري، ويترتب على منعه الإخلال بالضروري، وهذا
الدليل المتين لم يسبق له إقامته على مسألة إلغاء التابع؛
فلذا قال: "وهو من الأدلة... إلخ"؛ أي: فليضم إلى الأدلة
الثلاثة التي قدمها في صدر المسألة. "د".
ج / 3 ص -458-
الطلب
في جهة التابع، وقد تقدم بيان هذا المعنى في المسألة
السابقة، وأن جهة التبعية يلغى فيها ما تعلق بها من الطلب؛
فكذلك ههنا اللهم إلا أن يكون للعاقد قصد إلى المحرم على
الخصوص؛ فإن هذا يحتمل وجهين:
الأول: اعتبار القصد الأصيل وإلغاء التابع1 وإن كان
مقصودًا؛ فيرجع إلى الضرب الأول.
والآخر: اعتبار القصد الطارئ؛ إذ صار بطريانه2 سابقًا أو
كالسابق، وما سواه كالتابع؛ فيكون الحكم له، ومثاله في
أصالة المنافع المحللة3 شراء الأمة بقصد4 إسلامها للبغاء
كسبًا به، وشراء الغلام للفجور به، وشراء العنب ليعصر
خمرًا، والسلاح لقطع الطريق، وبعض الأشياء للتدليس بها،
وفي أصالة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي له حكاية الاتفاق على حرمة شراء العنب ليعصر
خمرًا. "د".
قلت: وبما وقع في هذا النوع مسائل تُشكل على العالِم؛
فيلحظ المسألة بعين فكرته، فيرى المنفعة المحرَّمة ملتبسًا
أمرُها: هل هي مقصودة أم لا، ويرى ما سواها منافع مقصودة
محللة؛ فيمتنع من التحريم لأجل كون المقصود من المنافع
محللًا، ولا ينشط لإطلاق الإباحة لأجل الإشكال في تلك
المنفعة المحرَّمة؛ هل هي مقصودة أم لا؟ فيقف ههنا
المتورِّع، ويتساهل آخر فيقول بالكراهة ولا يمنع ولا يحرم،
ولكنه يكره لأجل الالتباس، فاحتفظ بهذا الأصل؛ فإنه من
مُذْهَبَات العلم، ومن قتله علمًا هان عليه جميع مسائل
الخلاف الورادة في هذا الباب، وأفتى وهو على بصيرة في دين
الله تعالى، قاله المازري في "المعلم" "2/ 158".
2 لو قال: إذ صار بسبب قصده على الخصوص سابقًا... إلخ؛
لكان ظاهرًا. "د".
3 أي: مثال ما كان القصد فيه إلى الطارئ بالخصوص، وكان
المقصد الأصلي فيه الحل شراء الأمة... إلخ؛ فإن شراء
الجارية يقصد به عرفًا قصدًا أوليًّا الخدمة والتسري
مثلًا، وعكسه يقال في أصالة المنافع المحرمة؛ فإن شراء
الخمر مثلًا الأصل فيه الشرب المحرم. "د".
4 وسيأتي حكاية الاتفاق على تحريم هذه الأمثلة "د".
ج / 3 ص -459-
المنافع المحرمة شراء الكلب للصيد والضرع والزرع على رأي
من منع1 ذلك، وشراء2 السِّرقين لتدمين المزارع، وشراء
الخمر للتخليل، وشراء شحم الميتة لتطلى به السفن أو يستصبح
به الناس، وما أشبه ذلك.
والمنضبط هو الأول3، والشواهد عليه أكثر؛ لأن اعتبار ما
يقصد بالأصالة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اختلفوا في جواز بيع كلب الصيد والحراسة، مع اتفاقهم على
جواز قنيته؛ فبعضهم أجازه وحمل النهي عن ثمن الكلب الوارد
في الحديث على ما ليس للصيد والحراسة، ويكون اعتبر القصد
الطارئ لما فيه من المصلحة متبوعًا وما سواه تابعًا،
وبعضهم منعه حملًا للحديث على العموم؛ فيكون اعتبر المتبوع
ما كان غالبًا، وهو عدم قصد الحراسة والصيد، وإن كان هذا
يختلف فيه الأغلب عرفًا باختلاف البلاد؛ إلا أنه الآن في
مقام التمثيل لما كان في الأصل محرمًا باعتبار القصد
الأصلي عرفًا، ولكنه قصد فيه اعتبار طارئ جعله سابقًا أو
كالسابق مما يقتضي خروجه عن التحريم إلى الحل؛ فكان مقتضاه
أن يقول: على رأي من أجازه؛ لأنا إذا جرينا على رأي من منع
بيع كلب الصيد كنا ألغينا التابع، وإن كان مقصودًا على
الخصوص ورجعنا به للضرب الأول، ولم نكن اعتبرنا القصد
الطارئ الذي هو بصدد تمثيله. "د".
قلت: انظر في مسألة "بيع كلب الصيد والحراسة": "المعلم"
"2/ 158"، و"القبس" "2/ 798-799"، و"المنتقى" "5/ 28"
للباجي، و"المجموع" "9/ 228"، و"المغني" "4/ 189". وفي
"ط": "...أو للضرع أو الزرع...".
2 التدمين: هو بفتح أوله وكسر: الدمال أو الدمان الذي يوضع
في الأرض لإصلاحها، وهو ما توطأته الدواب من البعر
والتراب، ويقال له السرجين أيضًا. "ف".
قلت: وفي الأصل: "الزبل"، وكتب "د" ما نصه: "اختلفوا فيه
على ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع مطلقًا فيهما، والجواز
لضرورة إصلاح الأرض به، وكان يناسب أن يؤخر قوله: "على
رأي... إلخ" عن هذه الأمثلة مع ملاحظة إبدال منع بأجاز".
قلت: انظر "المعلم" "2/ 158".
3 أي: الوجه الأول من الوجهين المذكورين، وهو اعتبار القصد
الأصلي وإلغاء القصد الطارئ ولو قصد على الخصوص، وقوله:
"المنضبط"؛ أي: المطرد حكمه، أي: وأما اعتبار الطارىء؛ فإن
وجد في بعض الفروع ما يمكن تطبيقها عليه؛ إلا أنه لا يطرد.
"د".
ج / 3 ص -460-
والعادة هو الذي جاء في الشَّريعة القصد إليه بالتحريم
والتحليل؛ فإن شراء الأمة للانتفاع بها في التسري إنْ كانت
مِنْ عليِّ1 الرقيق، أو الخدمة إن كانت من الوخش2، وشراء
الخمر للشرب، والميتة والدم والخنزير للأكل، هو الغالب
المعتاد عند العرب الذين نزل القرآن عليهم، ولذلك حذف
متعلق التحريم والتحليل في نحو:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ...} إلى قوله:
{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}
[النساء: 23]، فوجّه التحليل والتحريم عل أنفس الأعيان لأن
المقصود مفهوم.
وكذلك قال:
{وَلا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].
{إِنَّ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10]، وأشباهه.
وإن كان ذلك محرمًا في غير الأكل لأن أول المقاصد وأعظمها
هو الأكل، وما سوى ذلك ما يقصد بالتبع، ولا3 يقصد في نفسه
عادة إلا بالتبعية لا حكم له.
وقد ورد تحريم الميتة وأخواتها، وقيل للنبي عليه الصلاة
والسلام في شحم الميتة: إنه تطلى به السفن، ويستصبح به
الناس؛ فأوردَ ما دل على منع البيع، ولم يعذرهم بحاجتهم
إليه في بعض الأوقات؛ لأن المقصود وهو الأكل محرَّم، وقال:
"لعن الله اليهود، حُرِّمَتْ عليهم الشُّحومُ فجَملوها؛ فباعوها وأكلوا
أثمانها"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "على".
2 بفتح الواو وسكون الخاء والمعجمة: الدّنيء. "ف".
3 في "د": "وما لا".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع الميتة
والأصنام، 4/ 424/ رقم 2236، وكتاب التفسير، باب
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُر}، 8/ 295/ رقم 4633"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم
بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، 3/ 1207/ رقم 1581"
عن جابر عن عبد الله رضي الله عنه.
وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما سيأتي قريبًا.
قال "ف": "حرم الله عليهم من الشحوم ما يكون على الأمعاء
والكرش والكلى من البقر والغنم، قال تعالى:
{وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا
إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ
مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ
وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 164]، وجملوها: أي: أذابوها، يقال: جمل الشحم: أذابه
كأجمله واجتمله" ا. هـ.
ج / 3 ص -461-
وقال
في الخمر:
"إن الذي حرم شربها حرم بيعها"1.
و"إن الله إذا حرم شيئًا حرم
ثمنه"2 لأجل أن المقصود من المحرم في العادة هو الذي توجه إليه التحريم
وما سواه تبع لا حكم له.
ولأجل ذلك أجازوا نكاح الرجل ليبر يمينه إذا حلف أن يتزوج
على امرأته ولم يكن قصده البقاء؛ لأن هذا من توابع النكاح
التي ليست بمقصودة في أصل النكاح، ولا تعتبر3 في أنفسها،
وإنما تعتبر من حيث هي توابع، ولو كانت التوابع مقصودة
شرعًا حتى يتوجه عليها مقتضاها من الطلب؛ لم يجز كثير من
العقود للجهالة بتلك المنافع المقصودة، بل لم يجز النكاح
لأن الرجل إذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم الخمر،
3/ 1206/ رقم 1579"، ومالك في "الموطأ" "2/ 846"، والنسائي
في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب بيع الخمر، 7/ 307-308" عن
ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا.
2 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب البيوع، باب في ثمن
الخمر والميتة، 3/ 280/ رقم 3488"، وأحمد في "المسند" "1/
242، 293، 322"، والطبراني في "الكبير" "رقم 12887"، وابن
حبان في "الصحيح" "11/ 313/ رقم 4938 - الإحسان"، والبيهقي
في "الكبرى" "6/ 13-14" عن ابن عباس ضمن حديث أوله:
"قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم..."، وصنيع المصنف هنا موهم أن هذه القطعة جزء من الحديث السابق، وهو
ليس كذلك، فلو فصل الحديثين بقوله: "وقال"؛ لكان أليق.
3 راجع الفصل اللاحق للمسألة الثالثة عشرة في الأسباب.
"د".
قلت: في "ط": "ولا تعتبر بأنفسها".
ج / 3 ص -462-
نكح
لزمه القيام على زوجته بالإنفاق وسائر ما تحتاج إليه زيادة
إلى بذل الصداق، وذلك كله كالعوض من الانتفاع بالبضع، وهذا
ثمن مجهول؛ فالمنافع التابعة للرقبة1 المعقود عليها أو
للمنافع التي هي سابقة في المقاصد العادية، هي المعتبرة،
وما سواها مما هو تبع لا ينبني عليه حكم؛ إلا أن يقصد
قصدًا فيكون فيه نظر.
والظاهر أن لا حكم له في2 ظاهر الشرع؛ لعموم ما تقدم من
الأدلة3، ولخصوص الحديث في سؤالهم عن شحم الميتة، وأنه مما
يقصد لطلاء السفن وللاستصباح، وكلا الأمرين مما يصح
الانتفاع بالشحم فيه على الجملة، ولكن هذا القصد الخاص لا
يعارض4 القصد العام.
فإن5 صار التابع غالبًا في القصد، وسابقًا في عرف بعض
الأزمنة حتى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المنافع المقصودة قصدًا أوليًّا التابعة للرقبة
مباشرة، وكذا المنافع التابعة لهذا النوع من المنافع، هذان
هما المعتبران، أما ما سواهما من التوابع؛ فلا، ففي النكاح
المقصود الأول النسل مثلًا، ويتبعه الاستمتاع، أما بقاء
ذلك ودوامه؛ فليس واحدًا منهما، فلذلك جاز النكاح للبر
باليمين، هذا إذا قلنا: إن غرضه من النكاح المشار إليه
سابقًا، ويصح أن يكون المراد لم يجز عقد النكاح مطلقًا لأن
المنافع التابعة مجهولة؛ فما صح إلا بعد طرح النظر في
التوابع. "د". وفي "ط": "الرقبة المعقود عليه".
2 في الأصل: "وفي".
3 أي: على عدم اعتبار حكم التابع في مخالفة حكم المتبوع؛
فبعد ما تردد وقال: "المنضبط هو الأول والشواهد عليه
كثيرة... إلخ"، عاد فتوى عنده ذلك، واستظهر أنه لا حكم
للتابع ولو قصد إليه بالخصوص، وهذا لا ينافي ما لاحظناه
عليه من أنه كان الموافق للمقام هناك أن يقول: "على رأي من
أجاز" لا "من منع"؛ لأن الكلام كان في فرض وتقدير لا في
إعطاء أحكام متفرعة قطعًا. "د".
4 أي: فيبقى الحكم كما هو حلًّا أو حرمة. "د".
5 هذا هو النتيجة الأصولية، وإن كانت المباحث السابقة
والترديدات والاستظهارات لا تخلو من فوائد وتثقيف في سبيل
فقه الدين وطريقة التوصل إلى قواعده. "د".
ج / 3 ص -463-
يعود
ما كان بالأصالة كالمعدوم المطرح1؛ فحينئذ ينقلب الحكم،
وما أظن هذا يتفق هكذا بإطلاق، ولكن إن فرض اتفاقه انقلب
الحكم، والقاعدة مع ذلك ثابتة2 كما وضعت في الشرع وإن لم
يتفق3، ولكن القصد إلى التابع كثير؛ فالأصل اعتبار ما يقصد
مثله عرفًا، والمسألة مختلف فيها على الجملة اعتبارًا
بالاحتمالين، وقاعدة الذرائع أيضًا مبنية على سبق4 القصد
إلى الممنوع، وكثرة ذلك في ضم العقدين، ومن لا يراها بنى
على أصل القصد في انفكاك العقدين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "المطروح".
2 لأن القاعدة "اعتبار ما قصد غالبًا عرفًا"، فلو تغير
المقصود عرفًا؛ فالتغير فيه لا فيها. "د".
3 أي: وإن لم يتفق صيرورة التابع متبوعًا في القصد عرفًا،
ولكنه صار يقصد كثيرًا كثرة لا تصيره متبوعًا؛ فهل يعتبر؟
قال: إذا بنى على القاعدة من اعتبار ما يقصد مثله عرفًا؛
فإنه يعتبر لأنهم لم يشترطوا في هذه القاعدة كونه بحيث
يصير متبوعًا، بل مجرد قصد مثله عرفًا، وهو متحقق في هذا
الفرض، وقوله: "الاحتمالين"؛ أي: المعبر عنهما سابقًا
بالوجهين: اعتبار القصد الأصيل، واعتبار الطارئ؛ إلا أن
هذا يكون ههنا أقوى لكون القصد إلى التابع قيد هنا
بالكثرة، وفي الكلام السابق لم يقيد بها، ولعل هذا هو
الفارق، حيث حكم آنفًا على ذي الوجهين بأنه لا اعتبار له
في ظاهر الشرع، وهنا قال: "المسألة مختلف فيها" مما يؤخذ
منه الفرق بين ما كثر القصد إليه وغيره. "د".
4 بدون مراعاة لكونه تابعًا، بل يكفي كثرة حصول ذلك كما
قال: "وكثرة ذلك في ضم العقدين"؛ أي: في ضم بعضهما إلى بعض
في عقدة واحدة كبيع أدى إلى بيع وسلف كما قال خليل وشراحه:
"ومنع عند مالك -للتهمة لأجل ظن قصد ما منع شرعًا سدًا
للذريعة- بيع كثر قصد الناس له للتوصل إلى الربا الممنوع
كبيع وسلف"؛ أي: كبيع جائز في الظاهر يؤدي إلى بيع وسلف،
كأن يبيع سلعتين بدينارين لشهر ثم يشتري إحداهما بدينار
نقدًا؛ فآل الأمر إلى بيع للسلعة بأحد الدينارين وسلف
الدينار الآخر يدفعهما بعد شهر، ومثله سلف بمنفعة؛ كبيعه
سلعة بعشرة لأجل ويشتريها بخمسة نقدًا، وإنما قال: "عند
مالك"؛ لأنه لا خلاف في منع صريح البيع والسلف، وليس من
الذريعة، إنما الذريعة مثل ما ذكره خليل. "د".
ج / 3 ص -464-
عرفًا،
وأن القصد الأصلي خلاف1 ذلك.
والضرب الثاني: أن لا يكون أحد الجانبين تبعًا في القصد
العادي، بل كل واحد منهما مما يسبق القصد إليه عادة
بالأصالة؛ كالحلي والأواني المحرمة إذا فرضنا العين
والصياغة2 مقصودتين معًا عرفًا أو يسبق كل واحد منهما على
الانفراد عرفًا؛ فهذا بمقتضى القاعدة المتقدمة لا يمكن
القضاء فيه باجتماع الأمر والنهي لأن متعلقيهما متلازمان؛
فلا بد من انفراد أحدهما واطراح الآخر حكمًا، أما على
اعتبار التبعية كما مر فيسقط الطلب المتوجه إلى التابع،
وأما على عدم اعتبارها؛ فيصير التابع عفوًا3، ويبقى
التعيين4؛ فهو محل اجتهاد، وموضع إشكال، ويقل وقوع مثل هذا
في الشريعة، وإذا فرض وقوعه؛ فكل أحد وما أداه إليه
اجتهاده.
وقد قال المازري5 في نحو هذا القسم في البيوع: "ينبغي أن
يلحق بالممنوع؛ لأن كون المنفعة المحرمة مقصودة يقتضي أن
لها حصة من الثمن،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فلا تعتبر هذه الكثرة ما دامت على خلاف الأصل في
المقاصد، والأصل في مسألة العقدين انفكاكهما هذا، ولكن قد
يدعي أن الأصل عند اجتماع العقدين سبق القصد إلى الممنوع.
"د".
2 قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 601": "وأنت ترى مذهب مالك
المعروف في بلادنا أن الحلي المصنوع من الذهب والفضة لا
يجوز بيعه بجنسه إلا وزنًا بوزن، ولا اعتبار بقيمة الصياغة
أصلًا، والصاغة عندنا كلهم -أو غالبهم- إنما يتبايعون على
ذلك: أن يستفضلوا قيمة الصياغة أو إجارتها، ويعتقدون أن
ذلك جائز لهم!".
3 أي: لم يتعلق به طلب، فضلًا عن سقوطه. "د".
4 أي: هل التابع هو صوغها حليًا لمن لا يجوز له استعماله
-والأصل هو تملك الذهب والفضة- أم الأمر العكس؟ فعلى الأول
يجوز البيع والشراء، وعلى الثاني لا يجوز. "د".
5 في "المعلم بفوائد مسلم" "2/ 157-158 - ط دار الغرب".
ج / 3 ص -465-
والعقد
واحد1 على شيء واحد لا سبيل إلى تبعيضه، والمعاوضة على
المحرم منه ممنوعة؛ فمنع الكل لاستحالة التمييز، وإن2 سائر
المنافع المباحة يصير ثمنها مجهولًا لو قدر انفراده
بالعقد"3، هذا ما قال، وهو متوجه4.
وأيضا؛ فقاعدة الذرائع تقوى ههنا، إذًا قد ثبت القصد5 إلى
الممنوع.
وأيضًا فقاعدة "معارضة درء المفاسد لجلب المصالح" جارية
هنا؛ لأن درء المفاسد مقدم، ولأن قاعدة التعاون6 تقضي بأن
المعاملة على مثل هذا تعاون على الإثم والعدوان، ولذلك
يمنع باتفاق شراء العنب للخمر قصدًا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العبارة في "المعلم": "... كون هذه المنفعة المحرمة
مقصودة تؤذن بأن لها حصة من الثمن، وأن العقد اشتمل عليها
كما اشتمل على سائر المنافع سواها، وهو عقد واحد...".
2 أي: ووجه ثانٍ لمنعه وهو لزوم الجهالة في ثمن ما عدا
المنافع المحرمة. "د".
قلت: عبارة المازري في "المعلم": "وأن الباقي من
المنافع...".
3 في "المعلم": "انفراده بالتعاوض".
4 وانظر لِمَ لَمْ يجرِ هنا ما جرى في مساقاة الشجر يكون
بينه البياض اليسير، واجتماع البيع والصرف في دينار، وهكذا
مما جعل فيه القليل الممنوع تابعًا للكثير الجائز؛ فكان
يفصل هنا فيما إذا كانت قيمة الصياغة الثلث فأقل فتكون
تابعة، وما إذا كانت قيمة العين الثلث فأقل فتكون تابعة،
ويترتب على ذلك الجواز وعدمه، ويكون تفريعًا على الفائدة
الأولى من الفصل الثاني، ولا فرق إلا أنه فيما سبق كان أصل
المنع للغرر والجهالة، وهذا المنع لنفس الانتفاع بالمبيع؛
فلعل لهذا دخلًا في التفرقة، وسيأتي توجيهه. "د". وفي "ط":
"متجه".
5 أما فيما ذكره من سبق القصد إلى الممنوع وكثرته في ضم
العقدين كأمثلة خليل السابقة؛ فإنه كان فيها تهمة القصد
إلى الممنوع فقط، بسبب كثرة ذلك في مثله؛ فما هنا أقوى.
"د". وفي "ط": "إذ قد".
6 أي: التعاون بالجائز على الممنوع الذي هو ممنوع شرعًا،
يعني: ولما وجدت أصول أخرى كثيرة معارضة لقاعدة التبعية
ألغي جانب اعتبار التبعية، كما أشار إليه أول الفصل الثاني
بقوله: "ما لم يعارضه أصل آخر". "د". وفي "ط": "التعاون
هنا تقتضي".
ج / 3 ص -466-
وشراء
السلاح لقطع الطريق، وشراء الغلام للفجور، وأشباه ذلك وإن
كان ذلك القصد تبعيًا؛ فهذا أولى1 أن يكون متفقًا على
الحكم بالمنع فيه لكنه2 من باب سد الذرائع، وإنما وقع3
النظر الخلافي في هذا الباب بالنسبة إلى مقطع الحكم، وكون
المعارضة فاسة [أو غير فاسدة]4، وقد تقدم لذلك بسط في كتاب
المقاصد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه ليس أحد الجانبين تبعًا للآخر، بل كل منهما يسبق
القصد إليه كما هو الفرض في هذا الضرب، بخلاف شراء العنب
وما معه. "د".
2 لعل الأصل: "لكونه"، وهذا التعليل إنما ينتج لو كان
الغرض قصد الخلاف والوفاق على المالكية القائلين بسد
الذرائع ومن يشاركهم في ذلك الأصل. "د".
3 جواب سؤال تقديره أنه كان مقتضى هذه القواعد الأصولية أن
يتفقوا على منع هذا الضرب، مع أنهم اختلفوا فيه، فقال: بل
هم متفقون على المنع والحرمة، والخلاف إنما هو في فساد
المعاوضة وصحتها، ومعلوم أنه لا يلزم من القول بالحرمة
القول بالفساد، والشافعية والمالكية يقولون: إن لم يدل
دليل على الصحة كان فاسدا، سواء أكان الدليل متصلًا أو
منفصلًا، وعند الحنفية خلاف فيه بالنسبة لبعض صوره. "د".
4 سقط من "ط".
ج / 3 ص -467-
المسألة التاسعة:
ورود1 الأمر والنهي على شيئين كل واحد منهما ليس بتابع2
للآخر، ولا هما متلازمان في الوجود ولا في العرف الجاري؛
إلا أن المكلف ذهب قصده إلى جمعهما معًا في عمل واحد، وفي
غرض واحد؛ كجمع الحلال والحرام في صفقة واحدة، ولنصطلح في
هذا المكان على وضع الأمر في موضع الإباحة3؛ لأن الحكم
فيهما واحد، ولأن4 الأمر قد يكون للإباحة؛ كقوله تعالى:
{فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ
اللَّه} [الجمعة: 10].
وإنما5 قصد هنا الاختصار بهذا الاصطلاح، والمعنى في المساق
المفهوم؛ فمعلوم أن كل واحد منهما غير تابع في القصد
بالفرض، ولا يمكن حملهما على حكم الانفراد؛ لأن القصد
يأباه، والمقاصد معتبرة في التصرفات،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ف" و"م" و"د": "ورد"، ولذا علق "د" بقوله: "لعل فيه
سقط كلمة "إذا"، ويكون جوابها قوله: "فمعلوم... إلخ"،
ويكون قوله: "ولنصطلح... إلخ" معترضًا.
قلت: والمثبت من الأصل و"ط"، وعليه؛ فلا حاجة للتعليق
السابق.
2 أي: بأي نوع من أنواع التبعية التي تقدمت في المسألة
السابقة وفصولها؛ فقوله: "متلازمان... إلخ" بيان للتبعية
المنفية.
3 أي: في موضع ما يشمل الإباحة، بحيث يكون المراد به ما
يكون طلبًا أو تخييرًا، وسيأتي في الأمثلة الجمع بين
الأختين، وكل منهما مباح عند الانفراد، والجمع بين بيع
وسلف، والبيع مباح والسلف مندوب مأمور به، وقوله: "الحكم
فيهما واحد"؛ أي: في هذا المقام لأنهما يقابلان النهى هنا؛
فما يثبت للمأمور به إذا اجتمع مع المنهي عنه؟ وقد يثبت
للمباح إذا اجتمع مع المنهي عنه، وقوله: "لأن الأمر" لعل
الأصل: "ولأن الأمر"؛ فهو تعليل ثان لاختياره هذا
الاصطلاح، لا أنه تعليل لكون حكمهما واحدًا لأنه لا يظهر،
وكان يمكنه أن يضع بدل كلمة "المأمور" كلمة "المأذون فيه"،
وهي تشملها في الاصطلاح العام؛ إلا أن عبارته أخصر. "د".
4 في الأصل و"ف" و"د": "لأن"، وزيادة الواو من "م" و"ط".
5 في "ف": "وإذا".
ج / 3 ص -468-
ولأن
الاستقراء من الشرع عرف أن للاجتماع تأثيرًا في أحكام لا
تكون حالة الانفراد.
ويستوي في ذلك الاجتماع بين مأمور ومنهي مع الاجتماع بين
مأمورين أو منهيين؛ فقد نهى عليه الصلاة والسلام: "عن بيع
وسلف"1، وكل
منهما لو انفرد لجاز.
ونهى الله تعالى عن الجمع بين الأختين في النكاح مع جواز
العقد على كل واحدة بانفرادها، وفي الحديث النهي عن الجمع
بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، وقال:
"إذا فعلتم ذلك؛ قطعتم أرحامكم"2، وهو داخل بالمعنى في مسألتنا من حيث كان للجمع حكم ليس للانفراد؛
فكان الاجتماع مؤثرًا، وهو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج أحمد في "المسند: "2/ 174، 178-179، 205"،
والطيالسي في "المسند" "2257"، وأبو داود في "السنن" "كتاب
البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده/رقم 3504"،
والترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب كراهية بيع ما
ليس عندك/رقم 1234"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع،
باب بيع ما ليس عند البائع، 7/ 288"، وابن ماجه في "السنن"
"كتاب التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك، 2/
737-738/رقم 2188"، والدارمي في السنن "2/ 253"، وابن
الجارود في "المنتقى" "رقم 601"، والدارقطني في "السنن"
"3/ 15"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 17"، والبيهقي في
"الكبرى" "5/ 339-340، 348" بإسناد صحيح عن عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا بلفظ:
"لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن،
ولا بيع ما ليس عندك".
وصححه الحاكم، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، ولفظ الطيالسي:
"نهى عن سلف وبيع...".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب لا تنكح
المرأة على عمتها، 9/ 160/ رقم 5109"، ومسلم في "الصحيح"
"كتاب ا لنكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو
خالتها في النكاح، 2/ 1028/ رقم 1408" عن أبي هريرة رضي
الله عنه.
ج / 3 ص -469-
دليل،
وكان تأثيره في قطع1 الأرحام وهو رفع الاجتماع، [وهو دليل
أيضًا على تأثير الاجتماع]2.
وفي الحديث النهي عن إفراد يوم3 الجمعة بالصوم حتى يضم
إليه ما قبله أو ما بعده4.
وكذلك نهى عن تقدم شهر رمضان بيوم أو يومين5 وعن صيام يوم
الفطر6 لمثل ذلك أيضًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ففي عبارة الحديث نفسها -بقطع النظر عن عبارة النهي
الواردة فيه- ما يفيد أن الجمع ينشأ عنه ما لم يكن عند
الانفراد، كما أن نفس النهي عن الجمع يفيد ذلك، ولو لم
يقل:
"إذا فعلتم..." إلخ؛ فقوله:
"قطعتم أرحامكم"؛ أي: قطعتم هذه الصلة، وهذا الاجتماع المعنوي بينكم بهذا الجمع.
"د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 وهذا من اجتماع مأمور به ومنهي عنه؛ فأثر ذلك الجمع
الأمر بهما معًا، وقوله: "وكذلك نهى عن تقدم... إلخ"
بالعكس؛ فرمضان وحده مطلوب"، وجمع يوم من شعبان إليه منهي
عنه، وكذا يقال في يوم الفطر. "د".
4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب صوم يوم
الجمعة، 4/ 232/رقم 1985"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام،
باب كراهة صيام يوم الجمعة منفردًا، 2/ 801/ رقم 1144" عن
أبي هريرة مرفوعًا:
"لا يصم أحدكم يوم الجمعة؛ إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده"، لفظ مسلم، ولفظ البخاري:
"لا يصوم أحدكم يوم الجمعة؛ إلا يومًا قبله أو بعده".
5 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب لا يتقدم
رمضان بصوم يوم ولا يومين، 4/ 127، 128/ رقم 1914"، ومسلم
في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم
ولا يومين؛ 2/ 762/ رقم 1082" عن ابن عباس مرفوعا:
"لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين؛ إلا رجل كان يصوم
صومًا فليصمه".
6 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة
والمدينة، باب مسجد بيت المقدس، 3/ 70/ رقم 1197، وكتاب
الصيام، باب صوم يوم الفطر، 4/ 239/ رقم 1991"، ومسلم في
"صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم
الأضحى، 2/ 779-800/ رقم 827" عن أبي سعيد الخدري: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر
ويوم النحر".
ج / 3 ص -470-
ونهى
عن جمع المفترق وتفريق المجتمع1 خشية الصدقة، وذلك يقتضي
أن للاجتماع2 تأثيرًا ليس للانفراد، واقتضاؤه أن للانفراد
حكمًا ليس للاجتماع يبين أن للاجتماع حكمًا ليس للانفراد،
ولو في سلب3 الانفراد.
ونهى عن الخليطين في الأشربة4؛ لأن لاجتماعهما تأثيرًا في
تعجيل صفة الإسكار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب لا يجمع بين
متفرق ولا يفرق بين مجتمع، 3/ 314/ رقم 1450" عن أنس بن
مالك رضي الله عنه.
وفي الباب عن ابن عمر رضي الله عنهما، مضى تخريجه "1/ 423"
وعن سعد وغيرهما.
قال "د": "وهو يفيد أن للاجتماع والافتراق حكمًا يعول عليه
ما لم تكن له نية سيئة، فيعامل بنقيض قصده؛ فالأصل ثابت في
الحديث".
2 اقتصر على هذا، والحديث فيه الأمران لأن الذي يعنيه الآن
أن يكون للاجتماع حكم ليس للانفراد، ولذلك لما أخذ الثاني
أخذه مع تغيير الأسلوب ليجعله راجعًا إلى غرضه في الاجتماع
أيضًا، وهو أنه يؤثر في الانفراد بسلبه؛ لأنه لا انفراد مع
الاجتماع، ويكفيه هذا في غرضه، وسيأتي مقابل ذلك في قوله:
"وللافتراق أيضًا تأثير... إلخ". "د".
3 إلا أن سلب صفة الانفراد عند الاجتماع لم يفقد الأجزاء
خاصتها؛ لما سيجيء في توجيه مقابله، فإزالة هذه الصفة لا
تفيد عدم الاعتداد بكل من الأجزاء على حدة، وإعطاءه ما
يناسبه من الحكم. "د".
4 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر
وبيان أنها تكون من عصير العنب ومن التمر والبسر والزبيب
وغيرهما مما يسكر، 3/ 1572/ رقم 1981" عن أنس؛ قال: "إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط التمر والزهو،
ثم يشرب، وإن ذلك عامة خمورهم يوم حرمت الخمر".
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب من رأى أن لا
يخلط البسر والتمر إذا كان مسكرًا، 10/ 67/ رقم 5601"،
ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب كراهة انتباذ التمر
والزبيب مخلوطين، 3/ 1574" عن جابر بن عبد الله، أن النبي
نهى أن يخلط الزبيب والتمر، والبسر والتمر".
ج / 3 ص -471-
وعن التفرقة1 بين الأم وولدها2، وهو في "الصحيح".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه يفوت مصلحة الاجتماع برعايتها لابنها سكون نفسها
برؤيته، ولذلك يفسخ العقد عند مالك إذا كان العقد المتضمن
لذلك عقد معاوضة. "د".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب ما جاء في
كراهية الفرق بين الأخوين أو بين الوالدة وولدها في البيع،
3/ 580/ رقم 1283"، وأحمد في "المسند" "5/ 414"، والدارمي
في "السنن" "2/ 228"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 55-56"،
والدارقطني في "السنن" "3/ 67"، والطبراني في "الكبير" "4/
217"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 126" بإسناد حسن عن أبي
أيوب الأنصاري مرفوعًا: "من فرق بين الوالدة وولدها؛ فرق
الله بينه وبين أحبته يوم القيامة".
وفي الباب عن أبي موسى، أخرج ابن ماجه في "السنن" "رقم
2250"، والدارقطني في "السنن" "3/ 67" عنه؛ قال: "لعن رسول
الله صلى الله عليه وسلم من فرق بين الوالدة وولدها، وبين
الأخ وأخيه"، وإسناده ضعيف، فيه إبراهيم بن إسماعيل.
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 55"، والدارقطني في
"السنن" "3/ 67" عن عمران بن حصين بلفظ:
"ملعون من فرق..."، وهو منقطع، طليق بن محمد -مع ما قيل فيه- لم يسمع من عمران، قاله
المنذري في "الترغيب والترهيب" "5/ 51".
وفي الباب عن عبادة بن الصامت وعلي كما سيأتي في الحديث
الآتي، وانظر: "التلخيص الحبير" "3/ 15-16"، و"سنن سعيد بن
منصور" "رقم 2654-2661 - ط الأعظمي"، وقول المصنف عن
الحديث: "وهو في "الصحيح" غير صحيح، بل الثابت في "صحيح
مسلم" "كتاب الجهاد والسير، باب التنفيل وفداء المسلمين
بالأسارى، 3/ 1375-1376/ رقم 1755" من حديث سلمة بن الأكوع
في الحديث الطويل، الذي أوله: "غزونا فزارة وعلينا أبو
بكر..."، وفيه: "وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع من
أدم، معها ابنة لها من أحسن العرب، فسقتهم حتى أتيت بهم
أبا بكر؛ فنفلني أبو بكر ابنتها".
وأخرجه أبو داود في "سننه" "كتاب الجهاد"، وبوب عليه "باب
الرخصة في المدركين يفرق بينهم، 3/ 64/ رقم 2697"، وأحمد
في "المسند" "4/ 46، 51".
وانظر في تحديد اسم المرأة وابنتها في: "تنبيه المعلم
بمبهمات صحيح مسلم" "رقم 703" مع تعليقنا عليه.
وقال ابن العربي في "القبس" "2/ 800" في فقه المسألة:
"اختلف العلماء على ثلاثة أقوال؛ فمنهم من قال: إن ذلك لحق
الأم في التولية، وقيل: لحق الطفل، وقيل: لحق الله؛ فالبيع
فاسد في ذلك؛ إلا على القول بأنه حق للأم فيقف على
إجازتها".
ج / 3 ص -472-
وعن
التفرقة بين الأخوين1، وهو حديث حسن وهو كثير في الشريعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج الترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب ما جاء في
كراهية الفرق بين الأخوين أو بين الوالدة وولدها في البيع،
3/ 581/ رقم 1284"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات،
باب النهي عن التفريق بين السبي، 2/ 755-756/ رقم 2249"،
وأحمد في "المسند" "1/ 97-98، 102، 126-127"، والدارقطني
في "السنن" "3/ 66"، والمخلص في "فوائده" "ق28/ ب"،
والبزار في "البحر الزخار" "2/ 227/ رقم 624" من طرق عن
علي رضي الله عنه؛ قال: وهب لي رسول الله صلى الله عليه
وسلم غلامين أخوين، فبعت أحدهما، فقال لي رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"يا علي! ما
فعل غلامك؟". فأخبرته؛ فقال:
"رده، رده". لفظ
الترمذي وغيره.
ولفظ البزار وغيره: "كان عندي غلامان أخوان، فأردت بيع
أحدهما؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"بعهما
جميعًا، أو أمسكهما جميعًا".
والحديث ورد بألفاظ مختلفة، وبطرق متعددة، وضعفه شيخنا
الألباني في تعليقه على "المشكاة" "رقم 3362".
اختلف فيه على بعض الرواة كما بسطه الدارقطني في "العلل"
"رقم 401"، ورجح البيهقي صحة الحديث لشواهده، ولكن بلفظ:
"إنه باع جارية وولدها ففرق بينهما؛ فنهاه رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن ذلك"، وليس فيه ما يدل على ما ذكره
المصنف، أخرجه بهذا اللفظ أبو داود في "السنن" "3/ 63-64/
رقم 2696" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "9/ 126"-
والدارقطني في "السنن" "3/ 66"، والحاكم في "المستدرك" "2/
55"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 375-376"، وإسناده منقطع؛
لأن ميمون بن أبي شبيب لم يدرك عليًا، كما قال أبو داود،
وانظر: "التلخيص الحبير" "3/ 16".
قلت: ويشهد له ما تقدم في الحديث السابق، والله الموفق.
ج / 3 ص -473-
وأيضًا، فإذا أخذ الدليل في الاجتماع أعم1 من هذا؛ تكاثرت
الأدلة على اعتباره في الجملة، كالأمر بالاجتماع والنهي عن
التفرقة2؛ لما في الاجتماع من المعاني التي ليست في
الانفراد؛ كالتعاون [والتظاهر، وإظهار أبهة الإسلام
وشعائره، وإخماد كلمة الكفر، ولذلك شرعت الجماعات والجمعات
والأعياد، وشرعت المواصلات]3 بين ذوي الأرحام خصوصًا وبين
سائر أهل الإسلام عمومًا، وقد مدح الاجتماع وذم الافتراق،
وأمر بإصلاح ذات البين وذم ضدها وما يؤدي إليها، إلى غير
ذلك مما في هذا المعنى.
وأيضًا؛ فالاعتبار النظري يقضي أن للاجتماع أمرًا زائدًا
لا يوجد مع الافتراق، هذا وجه تأثير الاجتماع.
وللافتراق أيضًا تأثير من جهة أخرى، فإنه إذا كان للاجتماع
معانٍ لا تكون في الافتراق؛ فللافتراق4 أيضًا معانٍ لا
تزيلها5 حالة الاجتماع؛ فالنهي عن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بقطع النظر عما قيد به أولًا من الجمع بين مأمورين
أو مأمور ومنهي عنه... إلخ، فإن الأمر بالاجتماع لا يقال
فيه: إنه واحد مما صور فيه الكلام أولًا. "د".
2 في الأصل و"ط": "الفرقة".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "ط".
4 أي: للمفترقات أيضًا "ف"، وكتب "د": "وانظر لِمَ لم يذكر
من آثاره ما أشار له في الحديث المتقدم من أن لتفريق
الخليطين نعمهما أثرًا في الزكاة بزيادتها أو نقصها ما لم
يفعلا ذلك خشية الصدقة".
5 لم يقل: ليست توجد عن الاجتماع، بل اقتصر في كل المحاولة
الآتية على أن يثبت أن الأمور المتعددة عند اجتماعها لا
تفقد كل واحد منها خواصها؛ أي: فمعاني المجتمعات التي تثبت
لها عند الانفراد لا تزال متحققة عند الاجتماع، وهذا هو
الذي يعنيه، وسيرتب عليه التعارض واختلاف النظر؛ فلا يصح
أن تكون المقابلة بين الانفراد والاجتماع إلا على هذا
الوجه، لا بأن تكون على أن معاني الافتراق لا توجد عند
الاجتماع، وقوله: "وللانفراد في الاجتماع خواص لا تبطل
به"؛ أي: لا يصح ولا يعقل أن تبطل بالاجتماع؛ لأن بطلانها
يبطل المعنى الذي في الاجتماع كما مثل، فإن الأعضاء عند
الاجتماع حافظة لخاصتها ولو لم يكن كذلك، بل صار المجموع
بمنزلة اليد أو الرجل أو العين فقط لم يكن هو الإنسان؛
فاحتفاظ كل واحد بخاصته حفظ للإنسان المكون من هذه
المجتمعات؛ فهذا كالترقي على ما قبله؛ كأنه يقول: ليس فقط
أن الاجتماع لا يهدم خاصة كل واحد على انفراده، بل إن
الاجتماع نفسه لا يتحقق إلا بهذا الحفظ. "د".
ج / 3 ص -474-
البيع
والسلف مجتمعين قضى بأن لافتراقهما1 معنى هو2 موجود حالة
الاجتماع وهو الانتفاع بكل واحد منهما؛ إذ لم يبطل ذلك
المعنى بالاجتماع، ولكنهما نشأ بينهما معنى زائد لأجله وقع
النهي، وزيادة المعنى في الاجتماع لا يلزم أن يعدم معاني
الانفراد بالكلية، ومثله3 الجمع بين الأختين وما4 في معناه
مما ذكر من الأدلة.
وأيضًا؛ فإن كان للاجتماع معانٍ لا تكون في الانفراد؛
فللأفراد5 في الاجتماع خواص لا تبطل به، فإن لكل واحد من
المجتمعين معاني لو بطلت لبطلت معاني الاجتماع بمنزلة
الأعضاء مع الإنسان، فإن مجموعها هو الإنسان، ولكن لو فرض
اجتماعها من وجه واحد وعلى6 تحصيل معنى واحد؛ لبطل
الإنسان، بل الرأس يفيد ما لا تفيده اليد، واليد تفيد ما
لا تفيده الرجل، وهكذا الأعضاء المتشابهة كالعظام والعصب
والعروق وغيرها، فإذا ثبت هذا؛ فافهم مثله في سائر7
الاجتماعات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بأن لهما عند الافتراق. "د".
2 سقط من "ط".
3 فمنافع الزوجية موجودة في كل من الأختين عند اجتماعهما
أيضا، ولكن النهي ورد للمعنى الزائد في الاجتماع. "د".
4 في "ط": "ومما".
5 في "ط" كذا، وفي غيره: "فللانفراد".
6 كذا في "ط"، وفي غيره: "أو على".
7 لكن هذا ليس جمعًا اعتباريًا كاجتماع الشيئين المتباينين
في عقدة وصيغة واحدة مثلًا؛ فهناك لأعضاء الإنسان نظام
طبيعي يجعل الحياة مشتركة والعمل موزعًا كما يقول، وأين من
هذا مجرد جمع الشيئين في صيغة أو قصد واحد؟ فلعل المراد
بهذا التشبيه التقريب، وإلا؛ فكيف يبني على مجرد هذا قاعدة
أصولية في الشريعة تبنى عليها أحكام وتفاريع؟ نعم، إن
الأحكام مبنية كما سبق على مجرى العادة في الإنسان، سواء
كانت طبيعية أو غيرها، ولكنها تكون حقيقة لا تشبيهًا
واعتبارًا. "د".
ج / 3 ص -475-
فالأمر1 بالاجتماع والنهي عن الفرقة غير مبطل لفوائد2
الأفراد حالة الاجتماع، فمن حيث حصلت الفائدة بالاجتماع؛
فهي حاصلة من جهة الافتراق أيضًا حالة الاجتماع، وأيضًا؛
فمن حيث كان الاجتماع في شيئين يصح استقلال كل واحد منهما
بحكم يصح أن يعتبرا من ذلك الوجه أيضًا؛ فيتعارضان في مثل
مسألتنا حتى ينظر فيها؛ فليس اعتبار الاجتماع وحده بأولى
من اعتبار الانفراد. ولكل وجه تتجاذبه أنظار المجتهدين.
وإذا كان كذلك؛ فحين امتزج الأمران في المقصد3 صارا في
الحكم كالمتلازمين في الوجود اللذين حكمهما حكم الشيء
الواحد فلا يمكن اجتماع الأمر والنهي [معًا]4 فيهما كما
تقدم في المتلازمين، ولا بد من حكم شرعي يتوجه عليهما
بالأمر أو بالنهي أو لا5؛ فإن من العلماء من يجري عليهما
حكم الانفكاك والاستقلال اعتبارًا بالعرف الوجودي
والاستعمال، إذا كان الشأن في كل واحد منهما الانفراد عن
صاحبه، والخلاف موجود بين العلماء في مسألة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو الدليل على تأثير الاجتماع بالمعنى الأعم السالف:
"غير مبطل"؛ أي: بالدليلين السابقين، وهذا منه شروع في
استغلال المقامات السالفة من أول المسألة إلى هنا لتأصيل
القاعدة الآتية. "د".
2 بل كل واحد من أفراد الإنسان المندمجين في هذا الاجتماع
حافظ لسائر خواصه كما هو واضح، وقوله: "فمن حيث حصلت
الفائدة... إلخ"، هذا مرتب على مجموع ما قرره من أن لكل من
الاجتماع وأجزائه تأثيرًا حاصلًا عند الاجتماع، وقوله:
"وأيضًا" هذا إشارة إلى فرض المسألة، وأنه ليس أحد
المجتمعين تابعًا للآخر، بل بحيث يصح استقلال كل منهما
بالحكم؛ فهل يعتبر تأثير الاجتماع أم يعتبر بقاء أثر
الانفراد؟ يعني: فيكون هناك مدركًا لأصحاب النظر
والاجتهاد، أحدهما مبني على تأثير الاجتماع، والآخر مبني
على حفظ المفترقات خواصها عند الاجتماع. "د".
3 في "ط": "القصد".
4 سقط من "ط".
5 أي: لا يتوجه عليهما معا حكم واحد بالأمر أو النهي، بل
لكل حكمه، وهذا نظر من يلتفت لبقاء الخواص للمنفردات عند
الاجتماع، وما قبله لما قبله؛ فقوله: "فإن من العلماء...
إلخ" بيان لقوله: "أولًا". "د".
ج / 3 ص -476-
"الصفقة تجمع بين حرام وحلال"1، ووجه كل قول منهما قد ظهر.
ولا يقال: إن الذي يساعد عليه الدليل هو الأول، فإنه إذا
ثبت تأثير الاجتماع وأن له حكمًا لا يكون حالة الانفراد؛
فقد صار كل واحد من الأمرين بالنسبة إلى المجموع كالتابع2
مع المتبوع؛ فإنه صار جزءًا من الجملة، وبعض الجملة تابع
للجملة.
ومن الدليل على ذلك ما مر في كتاب الأحكام من كون الشيء
مباحًا بالجزء مطلوبًا بالكل، أو مندوبًا بالجزء واجبًا
بالكل، وسائر الأقسام التي يختلف3 فيها حكم الجزء مع الكل،
وعند ذلك لا يتصور أن يرد الأمر والنهي معًا، فإذا نظرنا
إلى الجملة وجدنا محل النهي موجودًا في الجملة، فتوجه4
النهي لما تعلق به من ذلك، ووجه ما تقدم في تعليل المازري
[وما ذكر معه]5.
لأنا نقول: إن صار كل واحد من الجزأين كالتابع مع المتبوع؛
فليس جزء6 الحرام بأن يكون متبوعًا أولى من أن يكون
تابعًا، وما ذكر في كتاب الأحكام لا ينكر، وله معارض وهو
اعتبار الأفراد كما مر، وأما توجيه المازري؛ فاعتباره
مختلف7 فيه، وليس من الأمر المتفق عليه في مذهب مالك ولا
غيره؛ فهو مما يمكن أن يذهب إليه مجتهد، ويمكن أن لا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر عنها: "معالم السنن" "5/ 24" للخطابي.
2 أي: وقد تقدم أنه لا حكم للتابع غير حكم المتبوع. "د".
3 في "ط": "وسائر الأحكام التي تختلف...".
4 في "ط": "فيتوجه".
5 سقط من "ط".
6 في الحقيقة لم يجعل المتبوع هو الجزء الحرام، بل الهيئة
المكونة منه ومن غيره التي اقتضت المفسدة والنهي يعتمد
المفسدة. "د".
7 بقي عليه أن يجيب عن القواعد التي ذكرها من درء المفاسد
وسد الذرائع والتعاون، وليس من السهل على المجتهد الإغضاء
عن ثلاث قواعد أصولية مهمة كهذه، في مقابلة قاعدة تأثير
الانفراد وبقاء خواصه التي لم تثبت في نفسها إلا بمجرد
التشبيه البعيد بأعضاء الإنسان... إلخ. "د".
ج / 3 ص -477-
المسألة العاشرة:
الأمران1 يتواردان على شيئين كل واحد منهما غير تابع
لصاحبه، إذا ذهب قصد المكلف إلى جمعهما2 في عمل واحد أو
في3 غرض واحد؛ فقد تقدم أن للجميع تأثير، وأن في الجمع
معنى ليس في الانفراد، كما أن معنى الانفراد لا يبطل
بالاجتماع.
ولكن لا يخلو أن يكون كل منهما منافي الأحكام لأحكام
الآخر، أو لا؛ فإن كان كذلك4 رجع في الحكم إلى اجتماع
الأمر والنهي على الشيئين يجتمعان5 قصدًا وذلك مقتضى
المسألة قبلها، ومعنى ذلك أن الشيء إذا كان له أحكام شرعية
تقترن به؛ فهي منوطة به على مقتضى المصالح الموضوعة في ذلك
الشيء، وكذلك كل عمل من أعمال المكلفين، كان ذلك العمل
عادة أو عبادة، فإن اقترن عملان وكانت أحكام كل واحد منهما
تنافي أحكام الآخر، فمن حيث صارا كالشيء الواحد في القصد
الاجتماعي اجتمعت الأحكام المتنافية التي وضعت المصالح؛
فتنافت وجوه المصالح وتدافعت، وإذا تنافت؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تشترك هذه المسألة مع ما قبلها في أن الشيئين اللذين قصد
المكلف جمعهما في عمل واحد ليس أحدهما تابعًا لآخر بوجه من
أوجه التبعية المتقدمة، وتخالفها في أن تلك ورد الأمر فيها
على أحد الشيئين، والنهي على الآخر عند الانفراد، أما هذه؛
فلم يتوجه فيها نهي لأحد الشيئين، ولكن لكل منهما لوازم
معتبرة شرعًا، وهذه اللوازم متنافية، فهل يعتبر تنافي
اللوازم موجبا لعدم صحة اجتماعهما في عمل واحد وغرض واحد
فيبطل العقد، أم لا؟ "د".
2 في "د": "جمعها"، وفي "ط": "جمعهما معًا".
3 هكذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "وفي".
4 راجعة للصورة الأولى، وهي ما كان بين أحكامهما تنافٍ.
"ف".
5 في الأصل و"ف" و"ط": "الشيء مجتمعان، وكتب "ف": "لعله
"الشيئين يجتمعان قصدًا".
ج / 3 ص -478-
لم
تبقَ مصالح على ما كانت عليه حالة الانفراد، فاستقرت الحال
فيها على وجه استقرارها في اجتماع المأمور به مع المنهي
عنه؛ فاستويا في تنافي الأحكام لأن النهي يعتمد المفاسد،
والأمر يعتمد المصالح، واجتماعهما يؤدي إلى الامتناع كما
مر؛ فامتنع ما كان مثله.
وأصل هذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والسلف1؛
لأن باب البيع يقتضي المغابنة والمكايسة، وباب السلف يقتضي
المكارمة والسماح والإحسان، فإذا اجتمعا داخل السلف المعنى
الذي في البيع؛ فخرج السلف عن أصله؛ إذ كان مستثنى من بيع
الفضة بالفضة أو الذهب بالذهب نسيئة، فرجع إلى أصله
المستثنى2 منه من حيث كان ما استثنى منه وهو الصرف3 أصله
المغابنة والمكايسة، والمكايسة فيه وطلب الربح ممنوعة،
فإذا رجع السلف إلى أصله بمقارنة البيع؛ امتنع من وجهتين4:
إحداهما: الأجل الذي في السلف.
والأخرى: طلب الربح الذي تقتضيه المكايسة أنه لم يضم إلى
البيع إلا وقد داخله في قصد الاجتماع ذلك المعنى.
وعلى هذا يجري المعنى في إشراك المكلف في العبادة غيرها
مما هو مأمور به؛ إما وجوبًا، أو ندبا، أو إباحة5 إذا لم
يكن أحدهما تبعا6 للآخر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص468".
2 في "ط": "مستثنى منه".
3 صوابه البيع، وقوله: "والمكايسة فيه"؛ أي: في السلف.
"د".
4 في "د": "جهتين".
5 لا يظهر عطفه على ما قبله إلا على اصطلاحه في المسألة
قبلها. "د".
6 كالتبرد والنظافة وإيقاظ الحواس مع رفع الحدث بالوضوء
والغسل، وكالحمية مع العبادة بالصوم، والصحة مع تأدية
الفريضة في السفر للحج، وهكذا مما كان شأنه التبعية
للعبادة في القصد، وقد تقدم له الخلاف بين ابن العربي
والغزالي في خروج العبادة عن الإخلاص وعدمه، بناء =
ج / 3 ص -479-
وكانت
أحكامهما متنافية مثل الأكل والشرب والذبح والكلام
المنافي1 في الصلاة، وجمع2 النية الفرض والنفل في الصلاة
والعبادة لأداء الفرض والندب معًا، وجمع3 فرضين معًا في
فعل واحد؛ كظهرين، أو عصرين، أو ظهر وعصر، أو صوم رمضان
أداء وقضاء معًا، إلى أشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= على صحة انفكاك القصدين كما هو نظر ابن العربي، أو على
مجرد الاجتماع وجودًا ولو صح الانفكاك كما هو رأي الغزالي،
راجع الفصل التالي للمسألة السادسة من النوع الرابع في
المقاصد، وقد تقدم آنفًا أنه إذا كان أحدهما تبعًا للآخر،
وكانت أحكامهما متنافية كاجتماع البيع والصرف في دينار
واحد؛ فلا يضر لإلغاء التابع، فإذا حمل كلامه في التابع
على مثل صورة الصرف والبيع المذكورة يظهر كلامه، ولا
يتعارض مع ما سبق، ولا مع ما يأتي بعد من جعل التبرد وما
معه مما فيه الخلاف؛ فيتعين أن يحمل قوله هنا: "إذا لم يكن
تبعًا" على ما يماثل الصورة المذكورة وإن كانت في
المعاملات، وكلامه فيما يجتمع مع العبادات. "د".
1 في "ط": "المتنافي".
2 كمن يعيد صلاته مع الجماعة مثلًا، فينوي بها أنها فرض
ونفل معًا؛ فقد جمع بين متنافيين في الأحكام، فالفرض يأثم
بتركه والنفل لا يأثم، والفرض تسن فيه الجماعة والنفل لا،
والفرض تقام له الصلاة والنفل لا، والفرض يجب فيه القيام
على القادر والنفل لا، وهكذا، وكمن ينوي بالظهر الفرض
والركعات المطلوبة قبله أو بعده ندبًا؛ فإن هناك تنافيًا
ظاهرًا بين كونها معتبرة قبلًا أو بعدًا وبين تأديتها بها
الآن، ولذلك لم يجز مثل هذا أحد، أما إذا نوى الظهر وتحية
المسجد مثلا؛ فقالوا: إنه بذلك يثاب ويسقط عنه طلب التحية،
وإن لم ينو سقطت التحية ولا ثواب، وقالوا: إن من عليه قضاء
رمضان له أن ينوي معه مثل نفل صوم عاشوراء والأيام البيض
ويوم عرفة، والواقع أن النفل أعم من الفرض من جهة شروطه
وما يطلب فيه؛ فيمكن أن يجتمع معه النفل بدون منافاة إذا
لم يكن مانع آخر يقتضي المنافاة مثل الصورتين اللتين
ذكرناهما، ولم نر خلافًا في نية تحية المسجد مع الفرض،
وقوله: "والعبادة"؛ أي: مطلقًا ولو غير صلاة، وقد عرفت
مسألة الصيام، ومثلها الحج مع العمرة النافلة مع أنهما
صحيحان. "د".
قلت: انظر في بيان الجمع بين عبادتين بأكثر من نية:
"الأشباه والنظائر" "39" لابن نجيم، ط دار الفكر - دمشق،
و"قواعد ابن رجب" "ق18 - بتحقيقي".
3 لأنهما متنافيان من جهة أن أحدهما عن واجب لوقت خاص،
والآخر عن واجب لوقت آخر، ولذلك لم تجز كفارة واحدة عن
مقتضى كفارات مثلًا. "د".
ج / 3 ص -480-
ولأجل
هذا منع مالك من جمع عقود بعضها إلى بعض، وإن كان في بعضها
خلاف، فالجواز ينبني على الشهادة بعدم المنافاة بين
الأحكام اعتبارًا بمعنى الانفراد1 حالة الاجتماع؛ فمنع من
اجتماع الصرف والبيع، والنكاح والبيع، والقراض والبيع،
والمساقاة والبيع، والشركة والبيع، والجُعْل والبيع
-والإجازة في الاجتماع مع هذه الأشياء كالبيع- ومنع من
اجتماع2 الجزاف والمكيل، واختلف العلماء في اجتماع الإجارة
والبيع.
وهذا كله لأجل اجتماع الأحكام3 المختلفة في العقد الواحد
فالصرف مبني على غاية التضييف حتى شرط فيه التماثل الحقيقي
في الجنس4 والتقابض الذي لا تردد فيه ولا تأخير5، ولا بقاء
علقة6، وليس البيع كذلك.
والنكاح مبني على المكارمة والمسامحة وعدم المشاحة، ولذلك
سمى الله الصداق نحلة، وهي العطية لا في مقابلة عوض، وأجيز
فيه نكاح التفويض بخلاف البيع والقراض والمساقاة مبنيان
على التوسعة؛ إذ هما مستثنيان من أصل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما قال أشهب: لا يحرم الصرف والبيع، وأنكر أن يكون مالك
حرمه نظرًا إلى أن العقد احتوى على أمرين كل منها جائز على
الانفراد، قال: "وإنما حرم مالك الذهب بالذهب على أن يكون
مع كل منهما سلعة، قال ابن عرفة: وهو أوجه في النظر، وإن
كان خلاف المشهور" "د".
2 الممنوع اجتماع جزاف من حب مع مكيل منه في عقد واحد،
وكذا جزاف من أرض مع مكيل منها، وكذا اجتماع جزاف من حب مع
مكيل من أرض؛ لأن في ذلك خروج أحدهما عن أصله أو خروجهما
معًا عن أصلهما؛ إذ الأصل في الحب الكيل، وأصل الأرض أن
تباع جزافًا، أما إذا اشترى أرضًا جزافًا مع مكيل حب؛ فلا
مانع لأنهما جاءا على أصلهما. "د".
3 في "ط": "كله لاجتماع الأحكام".
4 فلا يجوز الصرف بتصديق في الجنس، وكذا في العدد أو
الوزن، بل لا بد من التحقق من هذا كله قبل البت في الصرف.
"د".
5 قالوا: إنه أضيق ما يطلب فيه المناجزة. "د". وفي "ط":
"التي لا تردد...".
6 ولو بأن يوكل غيره في القبض بغير حضوره. "د".
ج / 3 ص -481-
ممنوع،
وهو الإجارة المجهولة؛ فصارا1 كالرخصة، بخلاف البيع، فإنه
مبني على رفع الجهالة في الثمن والمثمون والأجل وغير ذلك؛
فأحكامه تنافي أحكامهما.
والشركة مبناها على المعروف والتعاون على إقامة المعاش
للجانبين بالنسبة إلى كل واحد من الشريكين، والبيع يضاد
ذلك، والجعل مبني على الجهالة بالعمل، وعلى أن العامل
بالخيار2، والبيع يأبى هذين، واعتبار الكيل في المكيل3 قصد
إلى غاية الممكن في العلم بالمكيل، والجزاف مبني على
المسامحة في العلم بالمبلغ للاجتزاء فيه بالتخمين الذي لا
يوصل إلى علم، والإجارة عقد على منافع لم توجد؛ فهو4 على
أصل الجهالة، وإنما جازت لحاجة التعاون كالشركة، والبيع
ليس5 كذلك.
وقد اختلفوا أيضا في عقد على بت في سلعة وخيار في أخرى،
والمنع بناء على تضاد البت والخيار.
وكما اختلفوا في جمع العاديين في عمل واحد بناء على
الشهادة بتضاد الأحكام فيهما أو عدم تضادها6؛ كذلك اختلفوا
أيضًا في جمع العبادي مع العادي؛ كالتجارة7 في الحج أو
الجهاد، وكقصد التبرد مع الوضوء، وقصد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فصار".
2 لأن الجعل لا يلزم بالعقد، بخلاف البيع ما لم يكن على
الخيار. "د".
3 في "ط": "بالمكيل".
4 في "ط": "فهي".
5 أي: فلا يجوز اجتماعهما، لكن المعروف في المذهب غير هذا،
ونص خليل عدم فسادها مع البيع، قال الشراح: فلا تفسد مع
البيع لعدم منافاتهما، سواء أكانت الإجارة في نفس المبيع
أم في غيره؛ إلا أنها إذا كانت في غير المبيع لا يشترط
فيها شيء، وإذا كانت فيه كما إذا اشترى منه قماشًا ليخيطه
له ثوبًا اشترط لها شروط كعدم تأخير العمل... إلخ. "د".
6 في "ط": "تضادهما".
7 التجارة في الحج ورد الإذن فيها بقوله تعالى:
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ
رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، وإن خالف أبو مسلم وادعى المنع وحمل الآية على ما
بعد الفراغ من أعمال الحج؛ فهو محجوج بالآثار الصحيحة،
فضلًا عن كونه يبعد بالآيه عن سبب النزول. "د".
ج / 3 ص -482-
الحمية
مع الصوم، وفي بعض العبادتين كالغسل بنية الجنابة
والجمعة1، وقد مر هنا وفي كتاب المقاصد بيان هذا المعنى في
الكلام على المقاصد الأصلية مع المقاصد التابعة، وبالله
التوفيق.
وإن كانا غير متنافيي الأحكام؛ فلا بد أيضا من اعتبار قصد
الاجتماع، وقد تقدم الدليل عليه قبل؛ فلا يخلو أن يحدث
الاجتماع حكمًا يقتضي النهي، أو لا.
فإن أحدث ذلك صارت الجملة منهيًا عنها واتحدت جهة2 الطلب،
فإن الاجتماع ألغى الطلب المتعلق بالأجزاء، وصارت الجملة
شيئًا واحدًا يتعلق به إما الأمر وإما النهي؛ فيتعلق به
الأمر إن اقتضى المصلحة، ويتعلق به النهي إن3 اقتضى مفسدة؛
فالفرض هنا أنه اقتضى مفسدة؛ فلا بد أن يتعلق به النهي؛
كالجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها أو خالتها، والجمع
بين صوم أطراف رمضان مع ما قبله وما بعده، والخليطين في
الأشربة، وجمع الرجلين في البيع سلعتيهما على رأي من رآه
في مذهب مالك4 فإن الجمع يقتضي عدم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا مذهب الجمهور خلافًا لابن حزم في "المحلى" "2/ 43"،
ونقل عدم الإجزاء عن جماعة من السلف، وساق آثارًا كثيرة
تدل عليه، وفاته ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" "1/ 282"
بإسناد حسن عن عبد الله بن أبي قتادة؛ قال: "دخل علي أبي
وأنا أغتسل يوم الجمعة؛ فقال: غسل من جنابة أو للجمعة؟
قلت: من جنابة. قال: أعد غسلًا آخر؛ فإني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول:
"من اغتسل يوم
الجمعة كان في طهارة إلى الجمعة الأخرى".
وانظر تبويب البيهقي في "الكبرى" عليه.
2 في "ط": "والحدث جهة....".
3 في "د": "إذا".
4 انظر: "شرح الزرقاني على مختصر خليل" "6/ 43".
ج / 3 ص -483-
اعتبار
الإفراد بالقصد الأول؛ فيؤدي ذلك إلى الجهالة1 في الثمن
بالنسبة إلى كل واحد من البائعين، وإن كانت الجملة معلومة؛
فامتنع لحدوث هذه المفسدة المنهي عنها.
وأما المجيز؛ فيمكن أن يكون اعتبر أمرًا آخر، وهو أن صاحبي
السلعتين لما قصدا إلى جمع سلعتيهما في البيع صار ذلك
[في]2 معنى الشركة فيهما3، فكأنهما قصدا الشركة أولًا، ثم
بيعهما والاشتراك في الثمن، وإذا كانا في حكم الشريكين،
فلم يقصدا إلى مقدار ثمن كل واحدة من السلعتين؛ لأن كل
واحدة كجزء السلعة الواحدة؛ فهو قصد تابع لقصد الجملة؛ فلا
أثر له، ثم الثمن يفض على4 رءوس المالين إذا أرادا القسمة،
ولا امتناع في ذلك؛ إذ لا جهالة5 فيه، فلم يكن في الاجتماع
حدوث فساد.
وإذا لم يكن فيه شيء مما يقتضي النهي؛ فالأمر متوجه؛ إذ
ليس إلا أمر أو نهي على الاصطلاح المنبه عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المؤدية إلى التنازع والشحناء، على خلاف المصلحة
الاجتماعية بين الناس. "د".
2 سقطت إلا من "ط"، وكتب "ف": "ولعله "في المعنى".
3 وقع خلاف بين الفقهاء في المحل في الشركة؛ فاتفقوا على
جوازها في النقدين، واختلفوا في العروض قيميًّاكان أو
مثليًّا أو عدديًّا متقاربًا وغير متقارب، والراجح الجواز،
وهو ما أومأ إليه المصنف، وانظر في المسألة: "فتح القدير"
"5/ 16"، و"بدائع الفوائد" "6/ 59"، و"المغني" 5/ 14"،
و"حاشية الشرقاوي" على التحرير" "2/ 11"، و"كشاف القناع"
"2/ 254"، و"الإقناع" "1/ 292"، و"الشركات في الفقة
الإسلامي" "ص37" للخفيف، و"الشركات في الشريعة الإسلامية"
"1/ 108-115" للخياط.
4 أي: يفرق على حسب رءوس الأموال. "ف". قلت: في "ط": "يقبض
على".
5 لأن رأس مال كل منهما هو ما دفعه ثمنًا لسلعته، وهو
معلوم. "د".
ج / 3 ص -484-
المسألة الحادية عشرة
الأمران1 يتواردان على الشيء الواحد باعتبارين إذا كان
أحدهما راجعًا إلى الجملة2، والآخر راجع إلى بعض تفاصيلها
أو إلى بعض أوصافها، أو إلى بعض جزئياتها؛ فاجتماعهما جائز
حسبما ثبت في الأصول.
والذي يذكر هنا أن أحدهما تابع والآخر متبوع وهو3 الأمر
الراجع إلى الجملة، وما سواه تابع؛ لأن ما يرجع إلى
التفاصيل أو الأوصاف أو الجزئيات كالتكملة للجملة والتتمة
لها، وما كان هذا شأنه فطلبه إنما هو من تلك الجهة لا
مطلقا، وهذا [معنى كونه تابعًا، وأيضًا4، فإن هذا الطلب لا
يستقل بنفسه بحيث يتصور وقوع مقتضاه دون]5 مقتضى الأمر
بالجملة، بل إن فرض فقد الأمر بالجملة لم يمكن6 إيقاع
التفاصيل؛ لأن التفاصيل لا تتصور إلا في مفصل، والأوصاف لا
تتصور إلا في موصوف، والجزئي لا يتصور إلا من حيث الكلي،
وإذا كان كذلك؛ فطلبه إنما هو على جهة التبعية لطلب
الجملة.
ولذلك أمثلة كالصلاة -بالنسبة إلى طلب الطهارة الحدثية
والخبثية، وأخذ الزينة، والخشوع، والذكر، والقراءة،
والدعاء، واستقبال القبلة، وأشباه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأمر هنا على حقيقته لا على الاصطلاح في المسألتين
السابقتين. "د".
2 أي: إلى نفس المطلق، وقوله: "بعض تفاصيلها"؛ أي:
أجزائها؛ كالقراءة، والذكر في الصلاة، وقوله: "بعض
أوصافها؛ أي: كتطويل الركوع والسجود فيها وكونها بخشوع،
وقوله: "بعض جزئياتها"؛ كصلاة الظهر أو التهجد أو الوتر،
وهكذا من الجزئيات الداخلة تحت كل صلاة. "د".
3 في "ط": "فالمتبوع هو...".
4 دليل ثانٍ على أن ما سوى الأمر بالجملة تابع للأمر بها
وليس مستقلًّا. "د".
5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
6 أي: من حيث كونها تفاصيل مع فرض فقدان الأمر بالجملة.
"ف". وعنده بدل "يمكن": "لكن"، وقال: "وهكذا بالأصل، ولعله
يمكن".
ج / 3 ص -485-
ذلك،
ومثل الزكاة مع انتقاء أطيب1 الكسب [فيها] وإخراجها في
وقتها وتنويع2 المخرج ومقداره، وكذلك الصيام، مع تعجيل
الإفطار وتأخير السحور، وترك الرفث3، وعدم التغرير4،
وكالحج مع مطلوباته التي هي له كالتفاصيل والجزئيات
والأوصاف التكميليات، وكذلك القصاص مع العدل واعتبار
الكفاءة5، والبيع مع توفية المكيال والميزان، وحسن القضاء
والاقتضاء والنصيحة6، وأشباه ذلك؛ فهذه الأمور مبنية في
الطلب على طلب ما رجعت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو وما يليه للوصف، وتنويع المخرج ومقداره للجزئي. "د".
وفي "ف": "انتقاء" بالفاء، ولعله بالقاف كما يقتضيه
المعنى.
2 كونه من النقدين أو الزروع أو الأنعام، ومقداره كون
الواجب في الأول ربع العشر مثلًا، وهكذا؛ فكل هذه الأوامر
تابعة لـ{آتُوا الزَّكَاة}، وقوله: "مع تعجيل الإفطار"، هذا وما بعده في الصوم وكلها من
الأوصاف الكمالية فيه. "د".
3 السحور هو بضم السين: الفعل، وبفتحها: ما يؤكل آخر
الليل، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخره حتى
يبقى على الفجر قدر ما يقرأ القارئ خمسين آية.
والرفث: الفحش. "ف"، وقال "ماء": "الجماع".
4 التغرير: التعرض للهلكة والأذى، وقد ورد النهي عن تعرض
الصائم لما يفسد صومه من المباشر ومقدمات الجماع والمبالغة
في المضمضة والاستنشاق؛ لأن ذلك كله مظنة لإفساد الصوم،
ومثله الحجامة للحاجم والمحتجم. "د".
قال "ف": "كذا بالأصل؛ فليتأمل". ا. هـ.
5 المماثلة في الحرية والإسلام مثلًا، بحيث لا يقتل الحر
بالعبد ولا المسلم بالكافر؛ فهذان مكملان لهذا الضروري.
"د".
6 الأمثلة الأربعة متعلقة بالبيع من باب الأوصاف؛ إلا أنه
يقال: إن البيع من المباح، وهذه الأمور الأربعة الأوامر
فيها بين واجب ومندوب، وكيف يقال فيه: تواردت الأوامر على
المتبوع باعتباره في نفسه وباعتبار تفاصيله؛ إلا أن يقال:
إن البيع من الضروريات أو الحاجيات على ما سبق؛ فهو إذا
مطلوب تتوجه إليه الأوامر باعتبار ذاته كما تتوجه إليه
باعتبار توابعه، على أنه وإن كان أصله الإباحة بالجزء؛
فإنه مطلوب بالكل. "د".
ج / 3 ص -486-
إليه،
وانبنت عليه؛ فلا يمكن أن تفرض1 إلا وهي مستندة إلى الأمور
المطلوبة الجمل، وكذلك سائر التوابع مع المتبوعات.
بخلاف2 الأمر والنهي إذا تواردا على التابع والمتبوع
كالشجرة المثمرة قبل الطيب؛ فإن النهي لم يرد على بيع
الثمرة إلا على حكم الاستقلال، [فلو فرضنا عدم الاستقلال]3
فيها؛ فذلك راجع إلى صيروة الثمرة كالجزء التابع للشجرة4،
وذلك يستلزم قصد الاجتماع في الجملة، وهو معنى القصد إلى
العقد عليهما معًا؛ فارتفع النهي بإطلاق على ما تقدم،
وحصل5 من ذلك اتحاد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "تعرض" بالعين.
2 أي: فالأمر فيهما بالعكس؛ ففي توارد الأمرين لم يرد
الأمر بالتابع إلا مستندًا للأمر بالمتبوع، بحيث لا يتأتى
الأمر بالتابع وحده مقطوعًا فيه النظر عما جعل تابعًا له،
بخلاف توارد الأمر والنهي؛ فإنه ما توجه النهي على التابع
مثلا إلا مع قطع النظر عن المتبوع، حتى إذا نظر إلى
المتبوع سقط النهي وأُلغي، هذا في ذاته ظاهر، ولكن الكلام
في فائدة هذه المسألة عمليًّا، ولا يخفى أن معنى الاتحاد
الذي ذكره بعد هو اتحاد في مورد الأوامر، على معنى أن ما
يرد على التفاصيل والأوصاف وارد على الجملة باعتبار هذه
الأوصاف، وإن كان هذا لا يقتضي ألا يكون للأمر بالأوصاف
أثر جديد زائد على الأمر الوارد على المتبوع باعتبار
التابع أقوى من الوارد على نفس المتبوع، وذلك كالتوفية في
الكيل والميزان بالنسبة للبيع، وقد يكون بالعكس كما في
الأمر بتأخير السحور، وقد يكون آتيًا ببيان أن هذا التفصيل
تتوقف عليه الجملة كجزء أصلي منها أو كشرط، وهكذا، وسيأتي
له في المسألة الثالثة عشرة بيان أوفى تعلم منه فائدة
جليلة عملية لمسألتنا هذه، وقد أشار إليه هنا إشارة
إجمالية بقوله: "وعلى هذا الترتيب جرت الضروريات مع
الحاجيات... إلخ"؛ أي: فالضروريات تعتبر هي الجملة، وهي
المتبوع والأصل، وما عداها من الحاجيات والتحسينات تفاصيل
تابعة بين مؤكدة وغير مؤكدة. "د".
3 سقط من "ط".
4 في "ف": "الشجرة"، واستظهر المحقق الصواب.
5 رجوع إلى أصل المسألة وتلخيصها. "د".
ج / 3 ص -487-
الأمر
إذ ذاك، بمعنى توارد الأمرين على الجملة الواحدة باعتبارها
في نفسها واعتبار تفاصيلها وجزئياتها وأوصافها.
وعلى هذا الترتيب جرت الضروريات مع الحاجيات والتحسينات؛
فإن التوسعة ورفع الحرج يقتضي شيئا يمكن فيه التضييق
والحرج، وهو الضروريات بلا شك1، والتحسينات مكملات
ومتممات؛ فلا بد أن تستلزم أمورًا تكون مكملات لها؛ لأن
التحسين والتكميل والتوسيع لا بد له من موضوع إذا فقد فيه
ذلك عد غير حسن ولا كامل ولا موسع، بل قبيحًا مثلا أو
ناقصًا أو ضيقًا أو حرجا؛ فلا بد من رجوعها إلى أمر آخر
مطلوب أن يكون تحسينًا وتوسيعًا تابع في الطلب للمحسن
والموسع، وهو معنى ما تقدم من طلب التبعية وطلب المتبوعية،
وإذا ثبت هذا؛ تصور في الموضع قسم آخر، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "بالشك".
ج / 3 ص -488-
المسألة الثانية عشرة:
فنقول: الأمر والنهي إذا تواردا على شيء واحد وأحدهما راجع
إلى [الجملة، والآخر راجع إلى] بعض أوصافها أو جزئياتها1
أو نحو ذلك؛ فقد مر في المسألة قبلها ما يبين جواز
اجتماعهما، وله صورتان:
إحداهما: أن يرجع الأمر إلى الجملة والنهي إلى أوصافها،
وهذا كثير؛ كالصلاة بحضرة الطعام، والصلاة مع مدافعة
الأخبثين، والصلاة في الأوقات المكروهة، وصيام أيام العيد،
والبيع المقترن بالغرر والجهالة، والإسراف في القتل،
ومجاوزة الحد في العدل فيه، والغش والخديعة في البيوع
ونحوها، إلى ما كان من هذا القبيل.
والثانية: أن يرجع النهي إلى الجملة والأمر إلى أوصافها،
وله أمثلة كالتستر بالمعصية في قوله عليه الصلاة والسلام:
"من ابتلي منكم من هذه القاذورات بشيء؛ فليستتر بستر الله"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الضمير راجع إلى الجملة المفهومة من السياق. "ف". وفي
"ط": "وجزئياتها".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 295-305".
2 أخرج الطحاوي في "المشكل" "1/ 20"، والحاكم في
"المستدرك" "4/ 244"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 330" عن
ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بعد أن رجم
الأسلمي؛ فقال:
"اجتنبوا
هذه القاذورة التي نهى الله عنها، فمن ألم؛ فليستتر بستر
الله تعالى، وليتب إلى الله؛ فإنه من يبد لنا صفحته يقم
عليه كتاب الله".
قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، وقال
شيخنا الألباني في "الصحيحة" "رقم 663": "وهو كما قالا"،
وعزاه أيضًا إلى أبي عبد الله القطان في "حديثه" "56/ 1"،
والعقيلي في "الضعفاء" "203"، وأبي القاسم الحنائي في
"المنتقى من حديث الجصاص وأبي بكر الحنائي" "160/ 2"، وابن
سمعون في "الأمالي" "2/ 183/ 2".
قلت: إسناده حسن من أجل أسد بن موسى، صدوق، وباقي إسناد
المتقدمين على =
ج / 3 ص -489-
وإتباع
السيئة الحسنة لقوله تعالى:
{ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}
[النساء: 17].
وروي:
"من مشى منكم
إلى طمع فليمش رويدًا"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= شرطهما، وأسد لم يخرجا له، ولا أحدهما، ولذا قال ابن حجر
في "الفتح" "1/ 487": "ليس على شرط البخاري"، وحسن إسناده
العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 135".
وأخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 825 - رواية يحيى، ورقم 6769
- رواية أبي مصعب، و698 - رواية محمد بن الحسن الشيباني"
ومن طريقه الشافعي في "الأم" "6/ 145"، والبيهقي في
"الكبرى" "8/ 326"، و"المعرفة" "13/ رقم 17484، 17509" -
عن زيد بن أسلم مرسلًا بلفظ:
"من أصاب
من هذه القاذورات شيئًا؛ فليستتر بستر الله، فإنه من...".
قال ابن عبد البر في "التمهيد" "5/ 321" و"الاستذكار" "24/
85": "لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث، ولا أعلمه
يستند بهذا اللفظ من وجه من الوجوه"، ومراده من حديث مالك،
وإلا؛ فقد ذكر أن ابن وهب قد وصله في "موطئه" عن ابن عباس
من طريق آخر، وبلفظ آخر، وقد ورد موصولًا -كما رأيت- من
حديث ابن عمر، والعجب من إمام الحرمين؛ فإنه قال في
النهاية عن هذا الحديث: "حديث متفق على صحته"، وقد تعجب
منه ابن الصلاح وقال: "أوقعه فيه عدم إلمامه بصناعة الحديث
التي يفتقر إليها كل عالم"؛ لأن في اصطلاحهم أن المتفق
عليه ما رواه الشيخان معًا، انظر: "شرح الزرقاني على موطأ
مالك" "4/ 147".
1 أخرجه الطبراني في "الكبير" "10/ 170-171/ رقم 10239"،
و"الأوسط" -كما في "المجمع" "10/ 286"، وأبو نعيم في
"الحلية" "4/ 188 و8/ 340"، وابن الجوزي في "الموضوعات"
"2/ 158-159" مختصرًا دون ذكر ما عند المصنف- والقضاعي في
"مسند الشهاب" "1/ 146-147، 261/ رقم 199، 422"، وابن
الأعرابي، ومن طريقه الخطابي في "العزلة" "ص36 - ط القديمة
وص106 - ط المحققة"، ووقع في الطبعتين إسناد هذا الحديث
للحديث الآتي بعده فيه، وهو خطأ؛ إذ سرد الخطابي الحديث،
ثم قال: "أخبرنا" على أنه للمتن السابق"، وفي الطبعتين:
"أخبرنا"، جميعهم من طريق إبراهيم بن زياد العجلي ثنا أبو
بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن ابن مسعود مرفوعًا:
"الغنى اليأس عما في أيدي الناس، ومن مشى منكم إلى طمع فليمش رويدًا". قال أبو
نعيم: "غريب من حديث عاصم، تفرد به عنه أبو بكر فيما أرى"،
=
ج / 3 ص -490-
وأشباه
ذلك.
فأما الأول؛ فقد تكلم عليه1 الأصوليون، فلا معنى لإعادته
هنا.
وأما الثاني؛ فيؤخذ الحكم فيه من معنى2 كلامهم في الأول،
فإليك النظر في التفريع، والله أعلم.
وينجر هنا الكلام إلى معنى آخر، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقال في الموطن الأول: "تفرد به إبراهيم عن أبي بكر".
قلت: وإبراهيم بن زياد متروك، ولذا قال الحضرمي محمد بن
عبد الله: "قلت لإبراهيم بن زياد: هذا -أي: روايته الحديث-
رأيتَه في المنام؟". فغضب، وقال: "تقول هذا؟". قال أبو
الفتح الأزدي: "إبراهيم بن زياد متروك الحديث". قال ابن
الجوزي، وضعفه الصغاني في "الدر الملتقط" "رقم 11"،
والشوكاني في "الفوائد المجموعة" "260"، وعزاه السيوطي في
"الجامع الصغير" للعسكري في "المواعظ"، وأشار إلى ضعفه،
وكذا شيخنا الألباني في "ضعيفه" "رقم 3939". وانظر عن
معناه: "تفسير القرطبي" "13/ 69".
1 وأن له أثرًا بفساد ما تعلق به النهي إذا كان للتحريم في
العبادات خاصة، أو فيها وفي غيرها، والتفصيل بين ما تعلق
النهي لعين الفعل وما تعلق بوصف ملازم، وما تعلق بوصف
منفك، والخلاف في ذلك كله. "د".
2 المقام يحتاج إلى فضل تأمل، فإن مثل اتباع السيئة الحسنة
كل منهما أمر منفصل عن الآخر عملًا ووقتًا، وكأنه قال: إذا
صدرت منك سيئة؛ فالمطلوب منك أن تتدارك الأمر بفعل حسنة،
هل هذا إلا طلب واحد بخلاف المثالين اللذين معه؟ فإنه توجه
النهي للجملة والطلب للتابع ظاهر فيهما. "د".
ج / 3 ص -491-
المسألة الثالثة عشرة1:
وذلك تفاوت الطلب فيما كان متبوعًا مع التابع له، وأن
الطلب المتوجه للجملة أعلا رتبة وآكد في الاعتبار من الطلب
المتوجه إلى التفاصيل أو الأوصاف أو خصوص الجزئيات.
والدليل على ذلك ما تقدم من أن [المتبوع بالقصد الأول،
وأن] التابع2 مقصود بالقصد الثاني، [وما قصد بالقصد الأول
آكد في الشَّرع والعقل مما يقصد الثاني]، ولأجل ذلك يلغى
جانب التابع في جنب المتبوع، فلا يعتبر التابع إذا كان
اعتباره يعود على المتبوع بالإخلال3، أو يصير منه كالجزء
أو كالصفة أو التكملة.
وبالجملة؛ فهذا المعنى مبسوط فيما تقدم وكلّه دليل على قوة
المتبوع في الاعتبار وضعف التابع؛ فالأمر المتعلق بالمتبوع
آكد4 في الاعتبار من الأمر المتعلق بالتابع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المسألة مرتبطة بالمسألة الحادية عشرة ارتباط الفرع
بأصله؛ فهي مبنية عليها، وهي الفائدة العملية لها. "د".
2 في "ف": "المتبوع"، وقال: "كذا بالأصل، والصواب أن
التابع…إلخ لأنه هو الذي يقصد ثانيًا بالعرض"، وما بين
المعقوفتين فقط من "ط"، وفيه "التابع إنما يقصد بالقصد…".
3 كما سبق في المسألة الثامنة، وقوله: "أو يصير منه
كالصفة"؛ كما في المسألة الحادية عشرة، ومعنى عدم اعتباره
ظاهر في الأول؛ لأن النهي مثلًا يرد على التابع كثمرة
الشجرة قبل بدو صلاحها، فإذا بيعت تابعة للأصل ألغي النهي،
أما إلغاء التابع في الثاني؛ فليس على معنى إهداره، بل
معناه أنه متوجه إلى المكمل والموصوف باعتبار الوصف
والتكملة، وليس هذا إلغاء حقيقة بل اعتبارًا فقط، ويحتمل
أن يقرأ قوله: "أو يصير" بالنصب وأو بمعنى إلا. "د".
4 تقدم النظر في هذا بأنه قد لا يطرد؛ كما في مثال البيع
وصفته من التوفية في الكيل مثلًا، وبالتتبع تجد في الشريعة
من هذا أمثلة كثيرة؛ كصفات الصلاة النافلة المعتبرة من
أركانها، وكأجزائها من القراءة والركعات فعلًا، وسيأتي
يقول في الضابط: "فإن لم يصح؛ فذلك المطلوب قائم مقام
الركن، والجزء من الضروري المقام، وبه يقيد الكلام هنا"،
يعني: إلا إذا كان قصده ثانويًّا، ولكنه صار كجزء المتبوع؛
فلا يكون أضعف من المتبوع. "د".
ج / 3 ص -492-
وبهذا
الترتيب يعلم أن الأوامر في الشريعة لا تجري في التأكيد
مجرى واحدًا، وأنها لا تدخل تحت قصد واحد؛ فإن الأوامر
المتعلقة بالأمور الضرورية ليست كالأوامر المتعلقة بالأمور
الحاجية ولا التحسينية، ولا الأمور المكملة1 للضروريات
كالضروريات أنفسها، بل بينهما تفاوت معلوم، بل الأمور
الضرورية ليست في الطلب على وزانٍ واحد؛ كالطلب المتعلق
بأصل الدين ليس في التأكيد كالنفس ولا النفس كالعقل، إلى
سائر أصناف الضروريات.
والحاجيات كذلك فليس الطلب بالنسبة إلى التمتعات المتاحة2
التي لا معارض لها كالطلب بالنسبة إلى ما له معارض؛
كالتمتع بالذات المباحة مع استعمال القرض3، والسَّلم،
والمساقاة، وأشباه ذلك، ولا أيضًا طلب هذه كطلب الرخص التي
يلزم في تركها حرج على الجملة، ولا طلب هذه كطلب ما يلزم
في تركه تكليف ما لا يطاق، وكذلك التحسينيات4 حرفًا بحرف.
فإطلاق القول في الشريعة بأن الأمر للوجوب5، أو للندب، أو
للإباحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كحرمة النظر المكملة لحرمة الزنا، وحرمة شرب القليل من
الخمر التي من شأنها عدم الإسكار مكملة لحرمة شرب الكمية
المسكرة شأنًا. "د".
2 كذا في "ط" فقط، وفي غيره: "الممتعات المباحة".
3 لما فيه من النسيئة؛ فهو مستثنى من المحرم للتوسعة ودفع
الحرج، ومثله القراض والسلم وما معه، كلها دخلها نوع من
الترخيص لدفع الحرج؛ فليست تستوي مع المباحات التي لا
تعارضها كليات أخرى في الشريعة، فطلب هذه أقل من طلب
المباحات التي لا معارض لها، وما في تركه حرج على الجملة
كالتيمم في بعض أحواله، وما يلزم في تركه تكليف ما لا يطاق
كأكل الميتة للمضطر آكد؛ لأنه واجب إذا خشي الهلاك، وهي
درجة تكليف ما لا يطاق لو كلف بالصبر. "د". وفي "ط":
القراض... وما أشبه ذلك".
4 أي: فليس طلب ستر العورة للمرأة الحرة كطلب إكرام الضيف،
ومنع الربا ليس كطلب الورع في المتشابهات، وليس طلب
مندوبات الطهارة كطلب أصل الطهارة، وكل هذه الأمثلة من
مرتبة التحسينيات. "د".
5 أي: كما هو رأي الجمهور، وقال الرازي: "إنه الحق"، وقال
أبو هاشم وعامة المعتزلة =
ج / 3 ص -493-
أو
مشترك، أو لغير ذلك مما يعد1 في تقرير الخلاف في المسألة
إلى هذا المعنى يرجع الأمر فيه؛ فإنهم يقولون: إنه للوجوب
ما لم يدل دليل على خلاف ذلك، فكأن المعنى يرجع2 إلى
اتَّباع الدليل في كل أمر، وإذا كان كذلك؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= حقيقة في الندب، وتوقف الأشعري والقاضي في أنه موضوع
لأيهما، وقيل: توقفا فيه بمعنى أنه لا يدرى مفهومه؛ فيحتمل
أن يكون مشتركًا بينهما وبين التهديد والتكوين والتعجيز،
إلى آخر المعاني التي تذكر للأمر، وقيل: مشترك بين الوجوب
والندب، وقيل: مشترك بينهما وبين الإباحة أيضًا، وقيل: هو
للإباحة لأن الجواز محقق ولكل دليل في كتب الأصول، وقوله:
"إلى هذا المعنى يرجع... إلخ" لعله يعني أنه ينبغي رجوع
إلى هذا وإن كان بعيدًا من كلامه، أما ظاهر كلامه من أن في
تقريرهم ما يؤخذ منه الرجوع لهذا؛ فلا يظهر، وقولهم: "إنه
للوجوب ما لم يدل دليل... إلخ" لا يفيد مدعاه؛ لأن الخلاف
في وضعه لغة أو شرعًا لأي معنى من هذا المعاني، فمن يقول
بوضع لواحد منها يقول إنه مجاز في غيره، ومعلوم أن المجاز
لا بد له من قرين؛ فهي الدليل الذي ينقله المؤلف عنهم
بقوله: "ما لم يدل دليل" وشتان بين هذا وبين أن ما ذهب
إليه من أن الأمر لم يوضع لواحد من هذا المعاني بخصوصه،
وكيف يتأتى هذا ممن يقول إنه حقيقة في الوجوب أو حقيقة في
الندب مثلًا، إنما كان يصح تقريبه ممن قال بالاشتراك الذي
لا بد له من قرينة، أو ممن قال بالوقف كما قال المؤلف: إنه
أقرب المذاهب إلى القبول!! "د".
قلت: الراجح أنه للوجوب، وهو مذهب الجماهير واختيار كثير
من المحققين، وانظر في المسألة: "المحصول" "2/ 44 وما
بعدها"، و"البحر المحيط" "2/ 423" و"التمهيد" "1/ 145"
و"المستصفى" "1/ 423"، و"البرهان" "1/ 216"، و"الإحكام"
"1/ 329" لابن حزم و"الإحكام" "2/ 144" للآمدي، و"روضة
الناظر" "2/ 604"، وأصول السرخسي" "1/ 14"، و"إحكام
الفصول" "ص195"، و"ميزان الأصول" "1/ 220"، و"التلويح" "1/
150 – مع التوضيح"، و"المرآة" "1/ 28 – مع حاشية
الإزميري"، و"جمع الجوامع" "1/ 291 – مع شرح المحلّي"،
و"المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي" "ص704–706".
1 أي: يذكر وهو بيان لقوله غير ذلك، وقوله إلى هذا المعنى
لا متعلق بقوله: "يرجع" الواقع خبرًا عن قوله: "فإطلاق"؛
فافهم. "ف".
2 بعيد من معنى قولهم: "مالم يدل... إلخ"؛ فإنه يفيد أن
القائل بالوجوب مثلا يطلق القول فيه بدون دليل، ولا يخرج
عنه إلا إذا وجد دليل على خلافه، وشتان بين المعنيين،
وانظر قوله: "لكن إطلاق القول فيما لم يظهر دليله صعب"
الذي يفيد أنهم يطلقونه مع عدم الدليل؛ فلا يتم رجوع
كلامهم إلى ما ذكره. "د".
ج / 3 ص -494-
رجع
إلى ما ذكر، لكن إطلاق القول فيما لم يظهر دليله صعب،
وأقرب المذاهب في المسألة مذهب الواقفية، وليس في كلام
العرب ما يرشد إلى اعتبار جهة من تلك الجهات دون صاحبتها.
فالضابط في ذلك أن ينتظر في كل أمر: هل هو مطلوب [طلب
الضروريات، أو الحاجيات، أو التكميليات، فإذا كان من قسم
الضروريات -مثلا- نظر هل هو مطلوب] فيها1 بالقصد الأول، أم
بالقصد الثاني؟ فإن كان مطلوبًا بالقصد الأول؛ فهو في أعلى
المراتب في ذلك النوع2، وإن كان من المطلوب بالقصد الثاني
نظر؛ هل يصح إقامة أصل الضروري في الوجود بدونه حتى يطلق3
على العمل اسم ذلك الضروري، أم لا؟ فإن لم يصح؛ فذلك
المطلوب قائم مقام الركن والجزء المقوِّم4 لأصل الضروري،
وإن صح أن يطلق عليه الاسم بدونه؛ فذلك المطلوب ليس بركن،
ولكنه مكمل5 ومتمم؛ إما من الحاجيات، وإما من التحسينيات،
فينظر في مراتبه على الترتيب المذكور أو نحوه، بحسب ما
يؤدي إليه الاستقراء في الشرع في كل جزء منها6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأوضح أن يقول: "هل هو مطلوب فيه... إلخ". "م".
2 أي: الذي فرض توجه الطلب إليه. "د".
3 أي: بحيث يبقى الضروري المذكور قائمًا، ولا ينهدم
بانهدام هذا التابع كصلاة مثلا لم يستعمل لها السواك، أو
لم يفعل سنة من سننها؛ فإنها لا تزال يطلق عليها شرعًا اسم
الصلاة. "د".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "المقام"، وكتب "د": "لعل الأصل
هكذا: "والجزء لأصل الضروري المقام" بضم الميم: صفة
للضروري".
5 يعني: وهذا هو الذي يقال فيه: إنه أضعف في الطلب من
المتبوع، أما ما يعتبر جزءًا ينهدم الأصل بانهدامه؛ فلا
يقال فيه ذلك. "د".
6 في "ط": "الاستقرار في كل جزء منه".
ج / 3 ص -495-
المسألة الرابعة عشرة:
الأمر
بالشيء، على القصد الأول ليس أمرًا بالتوابع1، بل التوابعُ
إذا كانت مأمورًا بها مفتقرةٌ إلى استئناف أمر آخر،
والدليل على ذلك ما تقدم من أن الأمر بالمطلقات لا يستلزم
الأمر بالمقيدات؛ فالتوابع هنا راجعة إلى تأدية المتبوعات
على وجه مخصوص، والأمرُ إنما تعلق بها مطلقًا لا مقيدًا،
فيكفي فيها إيقاع مقتضى2 الألفاظ المطلقة؛ فلا يستلزم
إيقاعها على وجه مخصوص دون وجه، ولا على صفة دون صفة؛ فلا
بد من تعيين وجه أو صفة على الخصوص، واللفظُ لا يشعر به
على الخصوص؛ فهو مفتقر إلى تجديد أمر يقتضي الخصوص، وهو
المطلوب.
[فصل]
وينبني على هذا أن المكلف مفتقر في أداء مقتضى المطلقات
على وجه واحد دون غيره إلى دليل، فإنا إذا فرضناه مأمورًا
بإيقاع عمل من العبادات مثلا، من غير تعيين وجه مخصوص؛
فالمشروع فيه على هذا الفرض لا يكون مخصوصًا بوجه ولا
بصفة3 بل أن يقع على حسب ما تقع الأعمال الاتفاقية الداخلة
تحت الإطلاق؛ فالمأمور بالعتق مثلا أُمِر بالإعتاق مطلقًا
من غير تقييد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المراد بالتوابع هنا ما هو أخص مما سبق له في معناها كما
قال بعد: "فالتوابع هنا راجعة... إلخ" يعني: ليس أمرًا
بجزئي خاص من جزئيات المأمور به معتبر من توابعه، وليس
المراد أنه ليس أمرًا بأي تابع؛ فذلك لا يصح لأنه فيما سبق
اعتبر الأجزاء مثلًا من توابع الكل كما قال في القراءة
والذكر والخشوع بالنسبة للصلاة، ولا يعقل أن يقال: إن
الأمر بالصلاة مثلا ليس أمرًا بالركعات والقراءات
والسجدات، وفائدة المسألة قوله: "وينبني على هذا... إلخ".
"د".
2 كما تقدم أن المطلوب بالمطلق فرد مما يصدق عليه اللفظ لا
فرض خاص، أي: فإذا أريد ذلك الخاص كان لا بد له من دليل
يخصه، والمقيدات معتبرة توابع كما تقدم في المسألة الحادية
عشرة؛ فإنها جزئيات، والمراد مما قصد بالقصد الأول ما عبر
عنه فيها بالجملة، وقوله: "فلا بد من تعيين....إلخ"؛ أي:
حيث كانت مأمورًا بها كما هو الفرض. "د".
3 في "ط": "صفة".
ج / 3 ص -496-
مثلا
بكونه ذكر دون أنثى، ولا أسود دون أبيض ولا كاتبًا دون
صانع1، ولا ما أشبه ذلك.
فإذا التزم هو في الإعتاق نوعًا من هذه الأنوع دون غيره؛
احتاج في هذا الالتزام إلى دليل، وإلا؛ كان التزامُه غيرَ
مشروع، وكذلك إذا التزم في صلاة الظهر مثلا أن يقرأ
بالسورة الفلانية دون غيرها دائمًا2، أو أن يتطهر من ماء
[البئر دون ماء]3 الساقية، أو غير ذلك من الالتزامات التي
هي توابع لمقتضى الأمر في المتبوعات؛ فلا بد من طلب دليل
على ذلك، وإلا، لم يصح في التشريع، وهو عرضة4 لأن يكُرّ5
على المتبوع بالإبطال.
وبيانه أن الأمر إذا تعلق بالمأمور المتبوع من حيث
الإطلاق، ولم يرد عليه أمر آخر يقتضي بعض الصفات أو
الكيفيات التوابع؛ فقد عرفنا من قصد الشارع أن المشروع عمل
مطلق، لا يختص في مدلول اللفظ بوجه دون وجه، ولا وصف دون
وصف؛ فالمخصص6 له بوجه دون وجه أو وصف دون وصف لم يوقعه
على مقتضى الإطلاق؛ فافتقر إلى دليل [يدل] على ذلك
التقييد، أو صار مخالفًا لمقصود الشارع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أراد بالصانع من له حرفة أخرى غير صنع لكتابة بدليل
المقابلة، أو لعله صائغ بالغين المعجمة. "ف".
2 كما في الأذكار الخلوتية، ومثلها صلوات الأسبوع لياليه
وأيامه؛ كما في "قوت القلوب" "1/ 58" وما بعدها"،
و"الإحياء" "1/ 197"، وانظر: "فوائد حديثية" "ص111" لابن
القيم وتعليقي عليه.
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وأشار لذلك ناسخُه.
4 أي: لأن هذا المقيد متى وقف عنده، فقد لا يتيسر له فعله،
كما في مثال التزام الوضوء من البئر، وقد يبطل ثوابه
بمخالفة قصد الشارع في التزام ما لم يشرعه، وعده مشروعًا.
"د".
5 مضارع كر من باب قتل. "ف".
6 أي: فالملتزم تخصيصه، وإلا؛ فهو لا يقع في الوجود إلا
مخصصًا. "د".
ج / 3 ص -497-
وقد
سئل مالك عن القراءة1 في المسجد؛ فقال: "لم يكن بالأمر
القديم وإنما هو شيء أحدث"، قال: "ولن يأتي آخر هذه الأمة
بأهدى مما كان عليه أولها والقرآن حسن"، وقال أيضًا: "أترى
الناس اليوم أرغب في الخير ممن مضى؟".
قال ابن رشد2: [يريد أن] التزام القراءة في المسجد بإثر
صلاة من الصلوات، أو على وجه ما مخصوص حتى يصير ذلك كأنه
سنة مثل ما [يفعل] بجامع قرطبة إثر صلاة الصبح؛ فرأى ذلك
بدعة".
قال: "وأما القراءة على غير هذا الوجه؛ فلا بأس بها في
المسجد، ولا وجه لكراهيتها" والذي أشار إليه مالك هو الذي
صرح به في موضع آخر؛ فإنه قال في القوم يجتمعون جميعًا
فيقرءون3 في السورة الواحدة مثل ما يفعل أهل الإسكندرية؛
فكره ذلك، وأنكر أن يكون من عمل الناس.
وسئل مالك عن الجلوس في المسجد يوم عرفة بعد العصر للدعاء؛
فكرهه، فقيل له: فالرجل يكون في مجلسه فيجتمع الناس إليه
ويكبرون4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي تقييده في كلام ابن رشد. "د". والنقل من "العتبية"
"1/ 242- مع شرحها".
2 في "البيان والتحصيل" "1/ 242"
3 وهو ما تقدم له تسميته بطريق الإدارة، أي: يديرون
الكلمات بينهم على صوت واحد كما ذكره في "الاعتصام" "2/
30-31 و2/ 58-59 - ط ابن عفان"، وهو المسمى في عرف زماننا
بالقراءة الليثية، وهي مع كونها ليست من عمل السلف فيها
ضرر أنه قد يبني بعضهم على قراءة بعض مما يؤدي إلى سقوط
بعض الكلمات من بعض القارئين، ومن ذلك حسنت تسميتها
بالإدارة، كما يدير الشركاء مال الشركة بينهم ويبني بعضهم
عمله على عمل شريكه. "د".
قلت: انظر أيضًا: "الحوادث والبدع" "ص161"، و"البيان
والتحصيل" "1/ 298".
4 لعلها "ويكثرون" بالمثلثة، فإن كان بالباء؛ فيكون من
كبُر بالضم في الماضي والمضارع أي عظم، لا أنه من كبَّر
بالتشديد من التكبير؛ أي قول: الله أكبر؛ لأنه غير الدعاء
الذي جعله سببًا للاجتماع أولًا وآخرًا. "د".
ج / 3 ص -498-
قال:
"ينصرف، ولو أقام في منزله كان خيرًا له"1.
قال ابن رشد2: "كره هذا وإن3 كان الدعاء حسنًا وأفضله يوم
عرفة لأن الاجتماع لذلك بدعة4 وقد رُوي عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال:
"أفضلُ الهدْي هدْيُ محمد، وشرُّ الأمور مُحدَثاتُها، وكلُّ بدعة
ضلالة"5" وكره
مالك في سجود القرآن أن يقصد6 القارئ مواضع السجود فقط
ليسجد فيها7، وكره في "المدونة"8 أن يجلس9 الرجل لمن سمعه
يقرأ السجدة لا يريد بذلك تعلمًا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نقل نحوه عنه مالك: الطرطوشي في "الحوادث والبدع" "ص115
- ط المغربية".
وأبو شامة في "الباعث" "29 - بتحقيقي"، والسيوطي في "الأمر
بالاتباع" "ص181–182 – بتحقيقي"، وهو في "العتبية" "1/ 274
– مع شرحها".
2 في "البيان والتحصيل" "1/ 274".
3 في "م": "لو".
4 انظر في بدعية ذلك: "الاعتصام" "1/ 463" – ط ابن عفان"،
و"الباعث" "117-123 – بتحقيقي"، و"الحوادث والبدع"
"ص115-116" للطرطوشي، و"البدع والنهي عنها" "ص46" لابن
وضّاح، و"السنن الكبرى" "5/ 118"، و"تاريخ دمشق" "16/
ق660-661 – المخطوط المصوّر"، و"المغني" "2/ 259 - مع
الشرح الكبير"، و"المجموع" "8/ 277" و"اقتضاء الصراط
المستقيم" "ص309-310"، و"الأمر بالاتباع" "ص181-185 –
بتحقيقي".
5 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة
والخطبة، 2/ 592/ رقم 867" عن جابر بن عبد الله رضي الله
عنه مرفوعًا، ولكن بلفظ:
"وخير الهدي..."
إلخ. "خطبة الحاجة" لشيخنا الألباني.
6 أي: فالقصد إليها للسجود وصف واعتبار زائد يحتاج إى
دليل. "د".
7 انظر في بدعية ذلك: "المدونة الكبرى" "1/ 200"، و"الباعث
على إنكار البدع والحوادث" "261" لأبي شامة، و"الأمر
بالاتباع" "ص192" للسيوطي، كلاهما بتحقيقي.
8 "1/ 201" ونحوه في "العتبية" "1/ 278".
9 أي: ليسجد السجدة تبعًا له؛ لأنه لا يطلب بها إلا إذا
جلس عند القارئ يتعلم منه، أي ليستفيد حفظًا أو تجويدًا
كما هو مذهبه، ويبقى النظر في إدخال هذا في سلك الالتزامات
التي يعيبها ويقول: إنها محتاجة لدليل لا وجود له. "د".
ج / 3 ص -499-
وأنكر
على من يقرأ1 في المساجد ويجتمع عليه، ورأى أن يقام.
وفيها2: "ومن قعد إليه فعلم أنه يريد قراءة سجدة قام عنه
ولم يجلس معه".
وقال ابن القاسم3: "سمعت مالكًا يقول: إن أول من أحدث
الاعتماد في الصلاة حتى لا يحرّك رجليه قد عرف وسمي؛ إلا
أني لا أحب أن أذكره، وكان مساءً4 يعني يُساء الثناء
عليه".
قال ابن رشد: "جائز عند مالك أن يروّح الرجل قدميه في
الصلاة، وإنما كره أن يقرنهما5 حتى لا يعتمد على إحداهما
دون الأخرى؛ لأن ذلك ليس من حدود الصلاة؛ إذ لم يأت ذلك عن
النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف والصحابة
المرضيين الكرام، وهو من محدثات الأمور"6.
وعن مالك نحو هذا في القيام للدعاء، وفي الدعاء عند ختم
القرآن7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا كان ملتزمًا لذلك؛ كان من موضوعه. "د".
2 أي: في "المدونة" "1/ 201".
3 نحو في "المدونة الكبرى":1/ 196"، والمذكور لفظ
"العتبية"؛ كما في "الاعتصام" "2/ 542 – ط ابن عفان".
4 بفتح الميم: مصدر ساء يسوء، والثناء: الذكر بوصف حسن أو
قبيح، والمعنى: أن هذا الرجل كان إذا ذكر يذكر بما يسوء،
ولذلك كره الإمام أن يذكره. "ف".
5 أي: فالمكروه هو التزام أن يجعل رجليه متقارنين، بحيث
يكون الاعتماد في كل الصلاة عليهما معًا بحالة متساوية،
يقول: إن هذا التضييق بالتزام هذا القيد لم يأت فيه دليل؛
فهو بدعة. "د".
6 "البيان والتحصيل" "1/ 296"، ونقله المصنف عن ابن رشد في
"الاعتصام" "2/ 542" بحروفه.
7 انظر: "الباعث" "ص261".
ج / 3 ص -500-
وفي
الاجتماع للدعاء عند الانصراف من الصلاة1، والتثويب
للصلاة2، والزيادة في الذبح على التسمية المعلومة، أو
القراءة في الطواف دائمًا3، والصلاة على النبي صلى الله
عليه وسلم عند التعجب4، وأشباه ذلك مما هو كثير في الناس،
يكون الأمر واردًا على الإطلاق؛ فيقيد بتقييدات تلتزم، من
غير دليل دل على ذلك، وعليه أكثر البدع المحدثات.
وفي الحديث: "لا يجعلن
أحدكم للشيطان حظًّا من صلاته، يرى أن حقًّا عليه أن لا
ينصرف5 إلا عن
يمينه"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر كلامًا مسهبًا، وتحريرا بديعا غاية للمصنف في بدعية
ذلك في: "الاعتصام" "1/ 452-479 - ط ابن عفان"، و"الفتاوى"
له "ص127-129"، وقد أثارت هذه المسألة على المصنف بعض
معاصريه، وأثر هو في بعض تلاميذه ومحبيه؛ فنزعوا مثله
للمنع، انظر التفصيل ذلك في: "المعيار المعرب" "1/
280-284، 286"، و"نفح الطيب" "5/ 512"، و"أزهار الرياض"
"2/ 7".
2 انظر: "الاعتصام" "1/ 327، 328 - ط ابن عفان"،
و"الفتاوى" "ص207" للشاطبي، و"المعيار المعرب" "2/ 467".
3 انظر: "المدونة الكبرى" "1/ 426".
4 انظر في تقرير الكراهة: "الحاوي" "1/ 392" للسيوطي،
و"تفسير القاسمي" "12/ 147-148، النور: 16"، و"نفحة
الريحانة" "4/ 429" للمحبي، و"معجم المناهي اللفظية"
"ص214".
5 أي: بحيث يكون يمينه إلى المصلين، ويساره إلى القبلة وقت
التسبيح والتحميد أو عند مفارقة مكان صلاته، أي: فذلك بدعة
ليست من الدين؛ فهي من حظ الشيطان ونصيبه، أما الانصراف
منها بالسلام؛ فيندب فيه التيامن بتسليمة التحليل. "د".
6 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب الانفتال
والانصراف عن اليمين والشمال، 2/ 337/ رقم 852"، ومسلم في
"صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز الانصراف
من الصلاة عن اليمين، 2/ 492/ رقم 707" عن ابن مسعود؛ قال:
"لا يجعل =
ج / 3 ص -501-
وعن
ابن عمر وغيره1 أنه سئل عن الالتفات في الصلاة يمينًا
وشمالًا؛ فقال: [بل] نلتفت هكذا وهكذا، ونفعل ما يفعل
الناس" كأنه [كره]2 التزام عدم الالتفات، ورآه من الأمور
التي لم يرد3 التزامها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثل أنس، أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب
الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال، 2/ 337" تعليقًا:
"كان أنس ينفتل عن يمينه وعن يساره، ويعيب على من يتوخى
-أو من يعمد- الانفتال عن يمينه"، ووصله مسدد في "مسنده
الكبير"؛ كما في "الفتح" "2/ 338".
وأخرج مسلم في "صحيحه" "رقم 708" بسنده إلى السدي قال:
"سألت أنسًا: كيف أنصرف إذا صليت؛ عن يمين، أو عن يساري؟
قال: أما أنا فأكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ينصرف عن يمينه".
قال ابن حجر في "تغليق التعليق" "2/ 341": "والجمع بين
هذين الأثرين أن أنسًا كان ينكر على من يرى الانصراف عن
اليمين حتمًا واجبًا، أما كونه يفعل على سبيل الاستحباب؛
فلعله كان لا ينكره إن شاء الله جمعًا بين روايته ورأيه،
والله أعلم.
وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 339-340/ ط دار
الفكر"، وعبد الرزاق في "المصنف" "2/ 241/ رقم 3212" عن
واسع بن حبان؛ قال: "كنت أصلي وابن عمر يسند ظهره إلى جدار
القبلة، فانصرفت عن يساري؛ فقال: ما يمنعك أن تنصرف عن
يمينك؟ قلت: لا؛ إلا أني رأيتك فانصرفت إليك. فقال: أصبت،
إن ناسًا يقولون: تنصرف عن يمينك، وإذا كنت تصلي فانصرف إن
أحببت عن يمينك أو عن يسارك".
وأخرج عبد الرزاق في "المصنف" "2/ 241/ رقم 3211" عن نافع؛
قال: "ما كان ابن عمر يبالي على أي ذلك انصرف، عن يمينه أو
عن شماله. قال: وذلك أني سألته عن ذلك".
2 ما بين المعقوفتين سقط من "د" والأصل، وأثبته من "م"
و"ف" و"ط".
3 كيف هذا وقد ورد النهي الشديد عن الالتفات في الصلاة
بجملة أحاديث، خرج بعضها الشيخان والنسائي، وبعضها أبو
داود والبخاري والنسائي، وقد نص المالكية على كراهته بغير
حاجة مهمة، وعند الشافعية والحنفية أيضًا كراهته.
"د". قلت: الصواب "سئل عن الانفتال" وليس "الالتفات"،
وإلا؛ فقد كان ابن عمر يكره الالتفات كما في "مصنف ابن أبي
شيبة" "2/ 41"، وكان يتغيظ منه غيظًا شديدًاكما في
"الأوسط" "3/ 96" لابن المنذر، ولم يكن يلتفت في صلاته كما
في "الموطأ" "1/ 137".
ج / 3 ص -502-
وقال
عمر: "واعجبًا لك يابن العاص، لئن كنت تجد ثيابًا؛ أفكل
الناس يجد ثيابًا؟ والله لو فعلت لكانت سنة، بل أغسل ما
رأيت وأنضح ما لم أره"1.
هذا فيما لم يظهر2 الدوام فيه؛ فكيف مع الالتزام؟
والأحاديث في هذا والأخبار كثيرة، جميعها يدل على أن
التزام الخصوصات في الأوامر المطلقة مفتقر إلى دليل، وإلا
كان قولًا بالرأي واستنانًا بغير مشروع، وهذه الفائدة
انبنت على هذه المسألة مع مسألة أن الأمر بالمطلق لا
يستلزم الأمر بالمقيد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج مالك في "الموطأ" "1/ 50 - رواية يحيى و1/ 56/ رقم
137 - رواية أبي مصعب" عن هشام بن عروة عن أبيه عن يحيى بن
عبد الرحمن بن حاطب "أنه اعتمر مع عمر بن الخطاب في ركب
فيهم عمرو بن العاص، وأن عمر بن الخطاب عرس ببعض الطريق
قريبًا من بعض المياه، فاحتلم عمر وقد كاد أن يصبح، فلم
يجد مع الركب ماء؛ فركب حتى جاء الماء، فجعل يغسل ما رأى
من ذلك الاحتلام حتى أسفر، فقال له عمرو بن العاص: أصبحت
ومعنا ثياب، فدع ثوبك يغسل. فقال له عمر بن الخطاب: واعجبا
لك يا عمرو بن العاص... إلخ". وإسناده صحيح. وأخرجه
البيهقي "1/ 170" وفي "المعرفة" "1/ 265"، والخطيب في
"التالي" "رقم 203 - بتحقيقي"، وانظر: "الاستذكار" "3/
116". وفي "ط": "لو فعلتها لم أره".
2 أي: ومع ذلك خشي أن يداوم عليه، كما قال: "لكانت سنة".
"د".
ج / 3 ص -503-
المسألة الخامسة عشرة:
المطلوب الفعل1 بالكل هو المطلوب بالقصد الأول2، وقد يصير
مطلوب الترك بالقصد الثاني، كما أن المطلوب الترك بالكل هو
المطلوب الترك بالقصد الأول، وقد يصير مطلوب الفعل بالقصد
الثاني3 وكل واحد منهما لا يخرج4 عن أصله من القصد الأول.
أما الأول؛ فيتبين من أوجه:
أحدها: أنه قد يؤخذ من حيث قصد الشارع فيه، وهذا هو الأصل؛
فيتناول على الوجه5 المشروع، وينتفع به كذلك، ولا ينسى حق
الله فيه لا في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سواء أكان من المباحات أو من المندوبات أو من الواجبات
المطلوبة طلب العزائم؛ كما سيشير إليه بعد في قوله: "وهكذا
الحكم في المطلوب طلب الندب... إلخ"، وإن كان المهم الذي
سيفرع عليه فوائد المسألة هو بيان الفرق في أولية القصد
وثانويته بين نوعي المباح المطلوب الفعل بالكل والمطلوب
الترك بالكل، والذي سماه فيما تقدم ما لا حرج فيه، وعالج
إخراجه من المخير فيه بين الفعل والترك، راجع المسألة
الثالثة والمسألة الرابعة من المباح. "د".
2 قال "ماء": "أعني مقصد الشارع".
3 سيأتي تمثيله بالغناء المتضمن لراحة النفس والبدن،
والراحة منشطة على الخير والعبادة... إلخ؛ فالشارع لم يقصد
إلى الغناء مباشرة، بل باعتبار ما تضمنه من الراحة المعينة
على الخير؛ فقصده إليه بالتبع لتضمنه الراحة المنشطة التي
تكون به وبالمطلوب بالكل وغير ذلك. "د".
4 يأتي بيانه في الوجوه بعد، من مثل قوله: "وجدت المذموم
تصرف المكلف في النعم، لا أنفس النعم"، ومثله قوله: "إن
جهة الامتنان لا تزول أصلًا"، ومثل قوله: "وأيضًا؛ فإن وجه
الذم قد تضمن النعمة، واندرجت تحته لكنه غطى عليها هواه"؛
أي: فهي حتى عند كونها انتقلت إلى القصد الثاني لا يزال ما
يتعلق به القصد الأول باقيًا فيها، كما قال: "ولم يهدم أصل
المصلحة، وإلا؛ لانهدم أصل المباح"، وكذا يقال في المطلوب
الترك بالكل. "د".
5 يأتي شرحه وما بعده في مثال الرغيف الآتي. "د".
ج / 3 ص -504-
سوابقه
ولا في لواحقه ولا في قرائنه، فإذا أخذ على ذلك الوزان؛
كان مباحًا بالجزء مطلوبًا بالكل، فإن المباحات إنما وضعها
الشارع للانتفاع بها على وفق المصالح على الإطلاق، بحيث لا
تقدح في دنيا ولا في دين، وهو الاقتصاد فيها، ومن هذه
الجهة جعلت نعمًا، وعدت مننًا، وسميت خيرًا وفضلًا.
فإذا خرج المكلف بها عن ذلك الحد [إلى] أن تكون1 ضرارًا
عليه في الدنيا أو في الدين؛ كانت من هذه الجهة مذمومة
لأنها صدت عن مراعاة وجوه الحقوق السابقة واللاحقة
والمقارنة أو عن بعضها؛ فدخلت المفاسد بدلًا عن المصالح في
الدنيا وفي الدين، وإنما سبب ذلك تحمل المكلف منها ما لا
يحتمله؛ فإنه إذا كان يكتفي منها بوجه ما2، أو بنوع ما، أو
بقدر ما، وكانت مصالحه تجري على ذلك، ثم زاد على نفسه منها
فوق ما يطيقه تدبيره وقوته البدنية والقلبية؛ كان مسرفًا،
وضعفت قوته عن حمل الجميع؛ فوقع الاختلال وظهر الفساد؛
كالرجل يكفيه لغذائه مثلًا رغيف، وكسبه المستقيم إنما يحمل
ذلك المقدار لأن تهيئته لا تقوى على غيره؛ فزاد على الرغيف
مثله؛ فذلك إسراف منه في جهة اكتسابه أولًا من حيث كان
يتكلف كلفة ما يكفيه مع التقوى، فصار يتكلف كلفة اثنين وهو
مما لا يسعه ذلك إلا مع المخالفة، وفي جهة تناوله؛ فإنه
يحمل نفسه من الغذاء فوق ما تقوى عليه الطباع فصار [ذلك]
شاقًّا عليه وربما ضاق نفسه واشتد كربه، وشغله عن التفرغ
للعبادة المطلوب فيها الحضور مع الله تعالى،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط" والأصل، وفي "د" و"ف" و"م": "بأن تكون"، وصوب
"ف" المثبت.
2 أي: من وجوه الكسب مثلًا في صنعة لها فروع متعددة،
وقوله: "أو بنوع" كتجارة مثلًا، وقوله: "بقدر" بأن كان
يكفيه من الأول أو الثاني حد فيتعلق في كل منهما بما هو
خارج عن كفايته، مع كونه لا يحتمله استعداده، ومثله تعدد
الزوجات وتنوع المآكل والملابس والمساكن ومقادير ذلك
وهكذا. "د".
ج / 3 ص -505-
وفي جهة عاقبته؛ فإن أصل كل داء البردة1، وهذا قد عمل على وفق الداء
فيوشك أن يقع به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هي بفتحات: التخمة وثقل الطعام على المعدة، وفي حديث ابن
مسعود: "كل داء أصله البردة". "ف".
قلت: الحديث ضعيف بمفرداته كلها، كما أفاده السخاوي في
"المقاصد الحسنة" "ص62".
فورد مرفوعًا عن ثلاثة من الصحابة، هم:
أنس بن مالك: أخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 513"، وابن
حبان في "المجروحين" "1/ 204"، وأبو نعيم في "الطب النبوي"
"ق27"، وابن السني -كما في "المنهج السوي" "رقم 96"-
والمستغفري في "الطب النبوي" -وهو مطبوع قديمًا في طهران،
لم أظفر به للآن- والداقطني في "العلل" -كما في "إتحاف
السادة المتقين" "7/ 400"- وفي إسناده تمام بن نجيح، وهو
هالك، يروي أشياء موضوعة عن الثقات، كأنه المتعمد لها.
عبد الله بن عباس: أخرجه ابن عيد في "الكامل" "6/ 2318"،
وأبو نعيم في "الطب النبوي" "ق27"، وفيه مسلمة بن علي، قال
البخاري وأبو زرعة: "منكر الحديث"، وقال ابن معين ودحيم:
"ليس بشيء"، وقال النسائي والدارقطني والبرقاني: "متروك".
أبو سعيد الخدري: أخرجه ابن عيد في "الكامل" "3/ 981"،
وأبو نعيم في "الطب النبوي" "ق27-28"، وابن السني -كما في
"المنهج السوي" "رقم 97"-.
قال ابن عدي: "والحديث بهذا الإسناد باطل".
قلت: هو من طريق دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد، ورواية
دراج عن أبي الهيثم مشهور ضعفها.
وورد عن ابن مسعود قوله، يرويه الأعمش عن خيثمة عنه، قاله
ابن قتيبة في "غريبه" "2/ 225"، والخطابي في "غريبه" "3/
263" و"إصلاح خطأ المحدثين" "ص33 - ط لجنة الشبيبة السورية
بالقاهرة، سنة 1355هـ -1936م"، وقال: "البرَدة؛ مفتوحة
الراء: التخمة، أصحاب الحديث يقولوا: البُرْدَة "البَرْد"،
وهو غلط.
وقال ابن قتيبة: "وسميت التخمة بردة، لأنها تبرد حرارة
الجوع والشهوة وتذهب بها، وما أكثر ما تأتي "فعلة" في
الأدواء والعاهات". وذكر الزمخشري في "الفائق" "1/ 102"
أنه من كلام ابن مسعود رضي الله عنه.
ورجح الدارقطني أنه من قول الحسن، وقال: "وهو أشبه
بالصواب".
وانظر: "تذكرة الحفاظ" "رقم 119" لابن ظاهر المقدسي،
و"الميزان" "1341"، و"إتحاف السادة المتقين" "7/ 400"،
و"الدرر المنتثرة" "15".
ج / 3 ص -506-
وهكذا
حكم سائر أحواله الظاهرة والباطنة في حين الإسراف؛ فهو في
الحقيقة الجالب على نفسه المفسدة، لا نفس الشيء المتناول
من حيث هو غذاء تقوم به الحياة.
فإذا تأملت الحالة1؛ وجدت المذموم تصرف المكلف في النعم،
لا أنفس2 النعم إلا أنها لما كانت آلة للحالة المذمومة ذمت
من تلك الجهة وهو القصد الثاني؛ لأنه مبني على قصد المكلف
المذموم، وإلا؛ فالرب تعالى قد تعرف إلى عبده بنعمه، وامتن
بها قبل النظر في فعل المكلف فيها على الإطلاق، وهذا دليل
على أنها محمودة بالقصد الأول على الإطلاق، وإنما ذُمت حين
صدت من صدت عن سبيل الله3، وهو ظاهر لمن تأمله.
والثاني: أن جهة الامتنان لا تزول4 أصلًا، وقد يزول
الإسراف رأسًا، وما هو دائم لا يزول على حال هو الظاهر في
القصد الأول، بخلاف ما قد يزول؛ فإن المكلف إذا أخذ المباح
كما حد5 له لم يكن فيه من وجوه الذم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "الحاجة".
2 في "ط": "نفس".
3 في الأصل و"ط": "حين صدت عن سبيل الله من صدت".
4 وحيث إنها لا تزول رأسًا، فتجيء مع جهة الإسراف المذموم
ويغطي عليها؛ فهذا قريب من قوله: "وأيضًا؛ فإن وجه الذم...
إلخ"؛ فهما متلازمان شديدا القرب، إلا أنه لوحظ في الأول
مجرد عدم الزوال، ولوحظ في الثاني الاندراج تحت وجه الذم
وتغطيته عليه؛ فلذلك جعلهما في معنى دليل واحد، وترجم لما
بعدهما بالثالث لا بالرابع" "د".
5 في "ف": "كما حاله"، واستظهر المحقق المثبت، وهو الصواب.
ج / 3 ص -507-
شيء،
وإذا أخذه من داعي هواه ولم يراع ما حد له، صار مذمومًا في
الوجه الذي اتبع فيه هواه، وغير مذموم في الوجه الآخر.
وأيضًا؛ فإن وجه الذم قد تضمن النعمة واندرجت تحته، لكن
غطى عليها هواه، ومثاله أنه إذا تناول مباحًا على غير
الجهة المشروعة؛ فقد1 حصل له في ضمنه جريان مصالحه على
الجملة، وإن كانت مشوبة؛ فبمتبوع هواه2، والأصل هو النعمة،
لكن هواه أكسبها بعض أوصاف الفساد، ولم يهدم أصل المصلحة،
وإلا؛ فلو انهدم أصل المصلحة لانعدم أصل المباح لأن البناء
إنما كان عليه، فلم يزل أصل المباح وإن كان مغمورًا تحت
أوصاف الاكتساب والاستعمال المذموم3؛ فهذا أيضًا مما يدل4
على أن كون المباح مذمومًا ومطلوب الترك إنما هو بالقصد
الثاني لا بقصد الأول.
والثالث: أن الشريعة مصرحة بهذا المعنى؛ كقوله تعالى: {أَفَبِالْبَاطِلِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في "م"، وفي الأصل و"ف" و"د" و"ط": "قد".
2 ولعله: "فبمتبوعيته هواه"؛ أي: بسبب جعله هواه متبوعًا؛
فتأمل. "ف".
3 الاستعمال المذموم هو التعسف بعينه؛ لأن أصل المباح
مشروع وغير مذموم، ومأتى الذم هو كيفية هذا الاستعمال
وتوجيهه؛ إذ فيه الخروج عن الاعتدال والاقتصاد في التصرف،
وقد وردت في الاقتصاد والاعتدال والإنصاف وذم الغلو
والإجحاف نصوص كثيرة، ذكر بعضًا منها السخاوي في "الجواب
الذي انضبط"، انظره بتحقيقنا، وانظر "الوسيطة في الإسلام"
لمحمد مدني، و"نظرية التعسف في استعمال الحق" "254-257"
للأستاذ فتحي الدريني.
4 أي: كما يدل على صحة قوله هناك: "وكل واحد منهما لا يخرج
عن أصله من القصد الأول"؛ كما أشرنا لذلك، وهو ظاهر
باعتبار أحدهما الذي شرحه هنا وهو المطلوب الفعل، وإنما
اقتصر على إفادة دلالته على ما قال؛ لأنه الذي جعله رأس
المسألة، ثم ينظر في المطلوب الترك: هل يؤخذ من كلامه
الآتي ما يدل على أنه أيضًا عندما صار مطلوبًا بالقصد
الثاني بقي ما يتعلق به القصد الأول؟ فعليك بالتأمل؛ لأن
قوله: "وكل منهما لا يخرج عن أصله" دعوى أخرى غير أصل
المسألة، تحتاج إلى بيان ودليل. "د".
ج / 3 ص -508-
يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72].
[وقوله:
{قُلْ
أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ
فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا}، وقوله:
{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ]
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243، يوسف: 38].
وقوله:
{وَهُوَ
الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا
طَرِيًّا...} إلى قوله:
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
[النحل: 14].
فهذه الآيات وأشباهها تدل على أن ما بث في الأرض من النعم
والمنافع على أصل ما بث؛ إلا أن المكلف لما وضع له فيها
اختيار به يناط1 التكليف داخلتها من تلك الجهة الشوائب، لا
من جهة ما وضعت له أولًا؛ فإنها من الوضع الأول خالصة،
فإذا جرت في التكليف بحسب المشروع؛ فذلك هو الشكر، وهو
جريها على ما وضعت له أولًا، وإن جرت على غير ذلك؛ فهو
الكفران، ومن ثم انجرت المفاسد وأحاطت بالمكلف، وكل بقضاء
الله وقدره،
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}
[الصافات: 96].
وفي الحديث: "إن أخوف ما
أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا".
فقيل: أيأتي الخير بالشر؟ فقال:
"لا يأتي الخير إلا2
بالخير، وإن مما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ف": "نياط"، واستظهر المثبت، وهو الصواب.
2 أي: إذا سار في طريقه واستعمله في حدود، فإذا انحرف به
عن حده؛ جر إلى المفاسد، ولكن ليس هذا من طبيعة الخير،
وإنما هو مما دخل عليه، كما أشار إليه الحديث؛ فإن الربيع
به حياة الإنسان والحيوان، ومع ذلك؛ فقد تستعمل الماشية من
آثاره النابتة ما يقتلها أو يقرب من قتلها، وذلك من تصرفها
هي، فإذا كان ما أكلته ضارًا بطبعه؛ فيكون ذلك من تركها
النافع وتناولها الضار، وإذا كان ما أكلته في ذاته نافعًا
ولكنها زادت عن حاجتها منه؛ يكون المثل أظهر، ورواية
البخاري وبعض روايات مسلم هكذا:
"مما بنبت
الربيع"، وفي بعض روايات مسلم:
"كل ما ينبت الربيع"،
والمعنى عليه متعين في الوجه الثاني، وأن جميع ما ينبته
المطر يضر إذا استعمل على غير وجهه، أما إذا استعمل على
وجهه وبالمقدار المناسب كعمل آكلة الخضر؛ فإنه لا يضر،
والحبط انتفاخ بطن البعير من المرعى الوخيم، يقال: حبط
بطنه إذا انتفخ فمات. "د".
ج / 3 ص -509-
ينبت
الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم"1 الحديث.
وأيضًا؛ فباب سد الذرائع مع هذا القبيل؛ فإنه راجع إلى طلب
ترك ما ثبت طلب2 فعله لعارض يعرض، وهو أصل متفق عليه في
الجملة، وإن اختلف العلماء في تفاصيله؛ فليس الخلاف في بعض
الفروع مما يبطل دعوى الإجماع في الجملة؛ لأنهم اتفقوا على
مثل قول الله تعالى:
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104].
وقوله:
{وَلا
تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}
[الأنعام: 108].
وشبه ذلك، والشواهد فيه كثيرة.
وهكذا3 الحكم في المطلوب طلب الندب، قد يصير بالقصد الثاني
مطلوب الترك، حسبما تناولته أدلة التعمق والتشديد4، والنهي
عن الوصال5،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب ما يحذر من
زهرة الدنيا والتنافس فيها، 11/ 244/ رقم 6427" عن أبي
سعيد الخدري رضي الله عنه، ومضى "1/ 177".
وفي الأصل: "للربيع".
والحَبَط، بفتحتين: وجع يأخذ الإبل في بطونها من كلأ
تستوبله، والمرض الحُباط -بالضم-، وقوله: "يُلِم" -بضم
فكسر- أي: يقرب من القتل، وهو مثل المفرط في جمع الدنيا،
مع منع ما جمعه من حقه. "ف".
2 المراد بالطلب الإذن وسيأتي في المسألة الثامنة عشرة،
يقول في "سد الذرائع": "هو منع الجائز لئلا يتوسل به إلى
الممنوع"، وقد أولنا الجائز هناك بهذا أيضًا. "د".
3 تكميل لبقية أنواع ما دخل في القسم الأول من المسألة،
ولما كان كون طلب المندوب والواجب بالقصد الأول لا يحتاج
إلى بيان كما احتاج المباح، وإنما الحاجة فيهما إلى بيان
أنهما قد يصيران مطلوبي الترك بالقصد الثاني اقتصر عليه.
"د". وفي "ط": "وهذا".
4 انظر ما مضى "1/ 527 و2/ 208، 228".
5 انظر ما مضى "1/ 526، 2/ 208".
ج / 3 ص -510-
وسرد
الصيام1، والتبتل2، وقد تقدم من ذلك كثير.
ومثله المطلوب طلب الوجوب عزيمة، قد يصير بالقصد الثاني
مطلوب الترك، إذا كان مقتضى العزيمة فيه مشوشًا3 وعائدًا
على الواجب بالنقصان؛ كقوله:
"ليس من البر الصيام في السفر"4، وأشباه ذلك.
فالحاصل أن المطلوب بالقصد الأول على الإطلاق قد يصير
مطلوب الترك بالقصد الثاني، وهو المطلوب.
فإن قيل: هذا معارض بما يدل على خلافه، وأن المدح والذم
راجع إلى ما بث في الأرض وعلى ما وضع فيها من المنافع على
سواء5؛ فإن الله عز وجل قال:
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:
7].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ما مضى "2/ 240"، وفي "ط": "أو سرد".
2 انظر ما مضى "1/ 522، 2/ 228".
3 وهو ما تبلغ المشقة فيه حالة لا طاقة للمكلف بالصبر
عليها طبعًا؛ كالمرض الذي يعجز فيه عن استيفاء أركان
الصلاة على وجهها مثلًا، أو عن الصوم خوف فوت النفس، أو
شرعًا؛ كالصوم المؤدي إلى عدم القدرة على الحضور في الصلاة
أو على إتمام أركانها؛ فهذا الضرب راجع إلى حق الله،
فالترخص فيه مطلوب، وقد جاء في مثله:
"ليس من البر..."
الحديث كما تقدم له في المسألة الخامسة من مبحث الرخص؛ فقد
صار المطلوب واجبًا بالقصد الأول، مطلوب الترك بالقصد
الثاني عند هذه العوارض. "د".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب قول النبي
صلى الله عليه وسلم لمن ظلِّل عليه واشتد الحر:
"ليس من البر الصوم في السفر"،
4/ 183/ رقم 1946"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب
جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، 2/ 786/ رقم
1115" عن جابر رضي الله عنه، ومضى تخريجه مفصلًا "1/ 517".
5 راجع إلى المدح والذم؛ أي: فليس القصد الأول للشارع فيها
أنها ممدوحة كما هي الدعوى. "د".
ج / 3 ص -511-
وقال:
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلًا}
[الملك: 2].
وقوله:
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ
مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].
وقد مر أن التكاليف وضعت للابتلاء والاختبار ليظهر في
الشاهد ما سبق العلم به في الغائب، وقد سبق العلم بأن
هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، لكن بحسب ذلك الابتلاء،
والابتلاء إنما يكون بما له1 جهتان، لا بما هو ذو جهة
واحدة، ولذلك ترى النعم المبثوثة في الأرض للعباد لا يتعلق
بها من حيث هي مدح ولا ذم، ولا أمر ولا نهي، وإنما يتعلق
بها من حيث تصرفات المكلفين فيها، وتصرفات المكلفين
بالنسبة إليها على سواء، فإذا عدت نعمًا ومصالح من حيث
تصرفات المكلف؛ فهي معدودة فتنًا ونقمًا بالنسبة إلى
تصرفاتهم أيضًا، ويوضح ذلك أن الأمور المبثوثة للانتفاع
ممكنة في جهتي المصلحة والمفسدة ومهيئة للتصرفين معًا،
فإذا كانت الأمور المبثوثة في الأرض للتكليف بهذا القصد
وعلى هذا الوجه؛ فكيف يترجح أحد الجانبين على الآخر؟ حتى
يعد القصد الأول هو بثها نعمًا فقط؟ وكونها نقمًا وفتنًا
إنما هو على القصد الثاني.
فالجواب أن لا معارضة في ذلك من وجهين:
أحدهما: أن هذه الظواهر التي نصت على أنها نعم مجردة من
الشوائب؛ إما أن يكون المراد بها ما هو ظاهرها، وهو
المطلوب الأول، أو يراد بها أنها في الحقيقة على غير ذلك،
وهذا الثاني لا يصح؛ إذ لا يمكن2 في العقل ولا يوجد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في غير "د": "يكون له"، وكتب "د": "لعله: "بما له جهتان"
كما يدل عليه لاحقه".
2 هذا الوجه الأول لإثبات أنه لا تصح المعارضة، وذلك بنقض
دليلها نقضًا إجماليًّا بأنه لو صح لما صحت جهة امتنان
الله بها المقتضية أنها نعم خالصة، وأيضًا؛ فإننا باستقراء
أنواع النعم نتحقق أنها نعم خالصة قطعًا كما صنع، والوجه
الثاني بإزالة سبب الشبهة التي انبنت عليها المعارضة، وذلك
أن ما يرى من كون هذه الأشياء نقمًا على البعض ليس آتيًا
من جهتها، بل من جهة سوء التصرف فيها من المكلف كما
سيوضحه؛ فتغاير الوجهان. "د".
ج / 3 ص -512-
في
السمع أن يخبر الله تعالى عن أمر بخلاف ما هو عليه؛ فإنا
إن فرضنا أن هذه المبثوثات ليست بنعم خالصة، كما أنها ليست
بنقم خالصة؛ فإخبار الله عنها بأنها نعم وأنه امتن بها
وجعلها حجة على الخلق ومظنة لحصول الشكر مخالف للمعقول، ثم
إذا نظرنا في تفاصيل النعم؛ كقوله:
{أَلَمْ
نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا، وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ: 6-7] إلى آخر الآيات.
وقوله:
{هُوَ
الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ
شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ} [النحل: 10].
إلى آخر ما ذكر فيها وفي غيرها؛ أفيصح في واحدة منها أن
يقال: إنها ليست كذلك بإطلاق، أو يقال: إنها نعم بالنسبة
إلى قوم ونقم بالنسبة إلى قوم آخرين؟ هذا كله خارج عن حكم
المعقول [والمنقول]1.
والشواهد2 لهذا أن القرآن أنزل هدى ورحمة وشفاء لما في
الصدور، وأنه النور الأعظم، وطريقه هو الطريق المستقيم،
وأنه لا يصح أن ينسب إليه خلاف ذلك، مع أنه قد جاء فيه:
{يُضِلُّ بِهِ
كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ
إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26].
وأنه:
{هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] لا لغيرهم.
وأنه:
{هُدًى
وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ}
[لقمان: 3]. إلى أشباه ذلك.
ولا يصح أن يقال: أُنزل القرآن ليكون هدًى لقوم وضلالًا
لآخرين، أو: هو محتمل لأن يكون هدًى أو ضلالًا، نعوذ بالله
من هذا التوهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 في "ط": "والشاهد".
ج / 3 ص -513-
لا
يقال: إن ذلك قد يصح بالاعتبارين المذكورين1 في أن الحياة
الدنيا لعب ولهو، وأنها سلم إلى السعادة، وجد لا هزل،
{وَمَا
خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا
لاعِبِينَ} [الدخان: 38].
لأنا نقول: هذا حق2 إذا حملنا التعرف3 بالنعم على ظاهر ما
دلت عليه النصوص، كما يصح في كون القرآن هدى وشفاء ونورًا
كما دل عليه الإجماع، وما سوى ذلك؛ فمحمول على وجه لا يخل
بالقصد الأول في بث النعم.
والوجه الثاني: أن كون النعم تئول بأصحابها إلى النقم إنما
ذلك من جهة وضع المكلف4؛ لأنها لم تصر نقمًا في أنفسها، بل
استعمالها على غير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحدهما الاعتبار المجرد عن الحكمة التي وضعت لها الدنيا،
من كونها متعرفًا للحق ومستحقًا لشكر الواضع لها، والثاني:
الاعتبار المنظور فيه لهذه الحكمة، وسيأتي للمؤلف في
المسألة الثالثة من تعارض الأدلة بيان مسهب حسن جدًّا في
توجيه الاعتبارين، يعني: وعليه، فيصح توجه المدح والذم إلى
النعم بهذين الاعتبارين. "د".
2 أي: صحيح توجيه الأمرين إلى النعم بهذين الاعتبارين،
ولكن على أنهما ليسا مستويين، بل الأصل هو الوجه الممدوح
وهو التعرف بالنعم؛ كما يدل عليه ظاهر الآيات، وما عداه من
الفتن واللهو والغرور ليس بالقصد الأول، بل باعتبار
العوارض الخارجة عما قصد منها قصدًا أوليًّا، كما يقال في
هداية القرآن: هي الأصل الذي لا شك فيه، وقد عرض لأصحاب
النفوس الفاسدة ما جعله يزيدهم غيًّا وضلالًا بالطعن فيه
بأنه سحر وكذب إلى آخر إفكهم، وعند التأمل لا يجد أنه
ضللهم في شيء من الحقائق كانوا عرفوها وبسببه انحرفوا
عنها، وإنما كل ما يتعلق بإضلالهم به زيادتهم في الكفر
بجحده والطعن فيه وفيمن جاء به، فلم يكن أحد على هدى ثم ضل
بسبب القرآن؛ فاعرف هذه السانحة، وهي تؤيد ما يريده
المؤلف، وأن ذلك ليس من القصد الأول بالقرآن، وفي قوله
تعالى:
{وَمَا
يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}
[البقرة: 26] إشارة إلى هذا كما يأتي. "د".
3 في "م": "التعريف".
4 في الأصل و"ف" و"ط": "التكليف"، واستظهر "ف" الصواب
وقال: "أي: استعماله المكلف لها وأخذه إياها على غير
وجهها" ا. هـ.
ج / 3 ص -514-
الوجه
المقصود فيها هو الذي صيرها كذلك؛ فإن كون الأرض مهادًا
والجبال أوتادًا وجميع ما أشبهه نعم ظاهرة لم تتغير1؛ فلما
صارت تقابل بالكفران بأخذها على غير ما حد2 صارت عليهم
وبالًا، وفعلهم فيها هو الوبال في الحقيقة، لا هي؛ لأنهم
استعانوا بنعم الله على معاصيه.
وعلى هذا الترتيب جرى شأن القرآن، فإنهم لما مثلت أصنامهم
التي اتخذوها من دون الله ببيت العنكبوت في ضعفه، تركوا
التأمل والاعتبار فيما قيل لهم حتى يتحققوا أن الأمر كذلك،
وأخذوا في ظاهر التمثيل بالعنكبوت من غير التفات إلى
المقصود3، وقالوا:
{مَاذَا
أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا}
[البقرة: 26]؛ فأخبر الله تعالى عن الحقيقة السابقة فيمن
شأنه هذا بقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "لا تتغير".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "غير مأخذ".
3 أخرج الواحدي في "أسباب النزول" "ص14" من طريق عبد الغني
بن سعيد الثقفي عن موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج عن
عطاء عن ابن عباس في قوله:
{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} [البقرة: 26]، قال: وذلك أن الله ذكر آلهة المشركين، فقال:
{وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا} [الحج: 73]، وذكر كيد الآلهة، فجعله كبيت العنكبوت، فقالوا: أرأيتم
حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على
محمد، أي شيء يصنع بهذا؟ فأنزل الله:
{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا...}.
وإسناده ضعيف جدًّا، فيه عبد الغني، وهو واهٍ جدًّا، وذكر
المشركين لا يلائم كون الآية مدنية، قاله السيوطي في "لباب
النقول" "ص16".
وأخرج عبد الرزاق "1/ 41"، وابن جرير "1/ 177"، وابن أبي
حاتم "1/ 93/ رقم 274"، كلهم في "التفسير" عن معمر عن
قتادة، قال: لما ذكر الله العنكبوت والذباب، قال المشركون:
ما بال العنكبوت والذباب يذكران!! فأنزل الله الآية، وحكاه
الواحدي في "أسباب النزول" "ص14" نحوه عن الحسن وقتادة بلا
إسناد بلفظ:
"قالت اليهود".
وأخرجه ابن أبي حاتم "برقم 273"، وابن جرير "1/ 177" عن
السدي بلفظ:
"قال
المنافقون"، وهو أنسب. وانظر: "4/ 212".
ج / 3 ص -515-
ثم
استدرك البيان المنتظر بقوله:
{وَمَا
يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}
[البقرة: 26] نفيًا لتوهم من يتوهم أنه أنزل بقصد الإضلال
لقوم والهداية لقوم، أي: هو هدي كما قال أولًا
{هُدىً
لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، لكن الفاسقين1 يضلون بنظرهم إلى غيرهم المقصود من
إنزال القرآن، كذلك هو هدى للمتقين الذين ينظرون إلى صوب
الحقيقة فيه، وهو الذي أنزل من أجله، وهذا المكان يستمد من
المسألة الأولى2، فإذا تقرر هذا؛ صارت النعم نعمًا بالقصد
الأول، وكونها بالنسبة إلى قوم آخرين بخلاف ذلك من جهة
أخذهم لها على غير الصوب الموضوع فيها، وذلك معنى القصد
الثاني، والله أعلم.
وأما الثاني، وهو أن المطلوب الترك بالكل هو بالقصد
الأول3؛ فكذلك أيضًا؛ لأنه لما تبين أنه خادم لما يضاد
المطلوب الفعل؛ صار مطلوب الترك؛ لأنه ليس فيه إلا قطع
الزمان في غير فائدة، وليس له قصد ينتظر حصوله منه على
الخصوص؛ فسماع4 الغناء المباح مثلا ليس بخادم لأمر ضروري
ولا حاجي ولا تكميلي، بل قطع الزمان به صد عما هو خادم5
لذلك؛ فصار خادمًا لضده.
ووجه ثان: أنه من قبيل اللهو الذي سماه الشارع باطلًا؛
كقوله تعالى:
{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} [الجمعة: 11]، يعني: الطبل أو المزمار أو الغناء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "الفاسقون".
2 حيث تقرر فيها أن الإرادة جاءت على معنيين: قدرية،
وأمرية، وأنه تعالى أعان أهل الطاعة؛ فجاء فعلهم على وفق
الإرادتين، ولم يعن أهل المعصية؛ فجاء فعلهم على وفق
الأولى فقط، وتقدم له إشارة إليه آنفًا في قوله: "وكل
بقضاء الله وقدره". "د".
3 أي: وإن كان لا حرج في جزئيه بالقصد الثاني، بل قد يكون
مطلوبًا بهذا القصد. "د".
4 هكذا في الأصل، وفي غيره: "فصار".
5 لم يقل: "صد عن هذه الأمور الثلاثة"؛ لأنه لو كان كذلك
لكان منهيًّا عنه بالجزء أيضًا لا بالكل فقط، وإنما هو
معطل للمباحات الأخرى من طريق الكسب وغيرها، الخادمة
للمراتب الثلاثة، فيكون خادمًا لضد هذه المراتب، فكان
مذمومًا بالقصد الأول. "د".
ج / 3 ص -516-
[أو اللعب على حسب اختلاف المفسرين، وقوله:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6]، وهو الغناء]، وقال في معرض الذم للدنيا:
{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}1 الآية [محمد: 36]. وفي الحديث: "كل لهو باطل إلا ثلاثة2"3. فعده
مما لا فائدة فيه؛ إلا الثلاثة، فإنها4 لما كانت تخدم
أصلًا ضروريًّا أو لاحقًا به؛ استثناها، ولم يجعلها
باطلًا.
ووجه ثالث: وهو أن هذا الضرب لم يقع الامتنان به، ولا جاء
في معرض تقرير النعم كما جاء القسم الأول؛ فلم يقع امتنان
باللهو من حيث [هو]5 لهو، ولا بالطرب ولا بسببه6 من جهة ما
يسببه، بل من جهة ما فيه من الفائدة العائدة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فاللهو ذكر في هذه الآية في معرض الذم، وقد جعل الطبل
وما معه في الآية السابقة من اللهو، فيكون الطبل وما معه
مما هو في معرض الذم في نظر الشارع بالقصد الأول. "د".
2 تقدم أنها الزوجة والفرس وآلات الرمي.
3 الحديث صحيح بشواهده، كما بينته فيما مضى "1/ 202"، ولله
الحمد.
4 في الأصل: "لأنها".
5 زيادة من الأصل و"م" و"ط".
6 أي: والامتنان بالثلاثة المذكورة وأمثالها ليس من جهة
أنها لهو، بل من جهة ما فيها من الفائدة الخادمة للنسل كما
في الأول، أو للدين كما في غيره، فانظر إلى قوله تعالى:
{وَمِنْ
آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} الآية [الروم: 21]، وقوله:
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ
الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ
وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، وقد فسرت القوة ببعض ما تنطلق عليه من رمي النبل،
وما وقع فيه من الفائدة، وإن كان ظاهره من اللهو، لكنه لما
جرت به محاسن العادات، ففيها التزاوج، وتأديب الخيل، وتعلم
الرماية، أما قسم الغناء وما معه، فإنه خارج عن العادات
المستحسنة، ويمكن أن يعتبر قوله: "وهو على وفق... إلخ"
وجهًا آخر مستأنفًا؛ كأنه يقول: وأيضًا؛ فإن ما فيه
الفائدة المذكورة جارٍ على وفق محاسن العادات، بخلاف هذا
القسم فخارج عنها، وهذا دليل على ذمه بالقصد الأول، وإن
كان ظاهر كلامه أنه من الوجه الثالث؛ إلا أنه يبقى الكلام
في ضابط محاسن العادات وسيئاتها: هل ما يتفق على كونه حسنا
في كل أمة وكل وقت، أم ما هو؟ "د".
ج / 3 ص -517-
لخدمة
ما هو مطلوب، وهو على وفق ما جرى في محاسن العادات؛ فإن
هذا القسم خارج عنها بالجملة.
ويتحقق ذلك أيضًا أن وجوه التمتعات هيئت للعباد أسبابها
خلقًا واختراعًا؛ فحصلت المنة بها من تلك الجهة، ولا تجد
للهو أو اللعب تهيئة تختص1 به في أصل الخلق، وإنما هي
مبثوثة لم يحصل من جهتها تعرف بمنة، ألا ترى إلى قوله:
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ
وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].
وقال:
{وَالْأَرْضَ
وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ...}
إلى قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 10-22].
وقوله: {وَالْخَيْلَ
وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8].
إلى أشباه ذلك2، ولا تجد في القرآن ولا في السنة تعرف الله
إلينا بشيء خلق للهو واللعب.
فإن قيل: إن حصول اللذة وراحة النفس والنشاط للإنسان
مقصود، ولذلك كان مبثوثًا في القسم الأول، كلذة الطعام،
والشراب، والوقاع،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لم يخلق شيء ليكون بأصل الخلقة للهو واللعب، ولكن
هذين يصرف إليهما ما خلق للفوائد مما يكون قابلًا للتلهي
به، ولذلك لم يحصل من جهة اللهو تعرف بالنعم وامتنان بها
كما أشار إليه في الآيات، فالأولى جعل الامتنان فيها
بإخراج وخلق ما يعدونه زينة لهم، والثانية بذكر الأرض وما
فيها من المنافع الغذائية للإنسان، وبالبحرين وأنه يخرج
منهما ما به الزينة، ولم يمتن بالتزين بهما، وكذا الآية
الثالثة، وقد جعل الزينة فيها تابعة لمنافع الركوب، وهذا
كله مما يحقق الوجه الثالث الذي يقول فيه: إنه لم يقع
الامتنان باللهو، أي: لأنه إذا لم يخلق شيء يختص بأصل
خلقته للهو، فلا يتأتى الامتنان به كذلك. "د".
2 تتميم لقوله: "ولا تجد للهو أو اللعب تهيئة تختص به في
أصل الخلق". "د".
ج / 3 ص -518-
والركوب، وغير ذلك، وطلب هذه اللذات بمجردها من موضوعاتها
جائز، وإن لم يطلب1 ما وراءها من خدمة الأمور ونحوها،
فليكن جائزًا أيضًا في اللهو واللعب بالتفرج في البساتين،
وسماع الغناء، وأشباهها مما هو مقصود للشارع فعله.
والدليل على ذلك أمور:
- منها: بثها2 في القسم الأول.
- ومنها3: أنه جاء في القرآن ما يدل على القصد إليها،
كقوله تعالى:
{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6].
وقال:
{وَالْخَيْلَ
وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8].
وقال:
{وَمِنْ
ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ
سَكَرًا4
وَرِزْقًا حَسَنًا}
[النحل: 67].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وحيث سلمتم أن هذه اللذات ومروحات النفس تقصد وإن لم
يقصد معها ما يخدم الضروري، وهي حينما تتجرد عن قصده لا
يكون فرق بينها وبين السماع وأنواع اللهو، يلزم أن تسلموا
بجوازها وقصدها قصدًا أوليًّا، وبهذا يعلم أنه يصلح دليلًا
معارضًا، فانظر لِمَ لَمْ يعده رابعًا مع الثلاثة بعده؟
"د".
2 أي: انتشارها ومصاحبيتها لأنواعه، حتى كأنها ملازمة لها،
أي: فحكم الجواز في القسم الأول يكون منصبا عليها أيضًا.
"د".
3 معارضة للوجه الثالث. "د".
4 سيأتي له الكلام عليه بما يفيد أن اتخاذهم منه سكرًا ليس
من مواضع الامتنان، فلا شأن له بإفادة الحل حتى نحتاج إلى
القول بالنسخ كما صنعه بعض المفسرين. "د".
وقال "ف": "السكر: الخمر، وإليه ذهب الجمهور، والآية نزلت
بمكة والخمر إذ ذاك كانت حلالًا وتحريمها إنما كان
بالمدينة اتفاقا؛ فالآية منسوخة بآية المائدة".
وروي عن ابن عباس أن السكر هو الخل بلغة الحبشة. وعن أبي
عبيدة أنه المطعوم المتفكه به.
وعن علماء الحنفية أنه ما لا يسكر من الأنبذة؛ فلا نسخ في
الآية.
والرزق الحسن التمر والزبيب وغير ذلك" ا. هـ.
ج / 3 ص -519-
وما
كان نحو ذلك، وهذا كله في معرض الامتنان بالنعم والتجمل
بالأموال والتزين1 لها، واتخاذ السكر راجع2 إلى معنى اللهو
واللعب؛ فينبغي أن يدخل في القسم الأول.
- ومنها: أن هذه الأشياء إن كانت خادمة لضد المطلوب بالكل،
فهي خادمة للمأمور به أيضًا3؛ لأنها مما فيه تنشيط وعون
على العبادة أو الخير، كما كان المطلوب بالكل كذلك،
فالقسمان متحدان؛ فلا ينبغي أن يفرق بينهما.
فالجواب: أن استدعاء النشاط واللذات4 إن كان مبثوثا5 في
المطلوب بالكل؛ فهو فيه خادم للمطلوب بالفعل، وأما إذا
تجرد عن ذلك؛ فلا نسلم أنه مقصود، وهي مسألة النزاع ولكن
المقصود أن تكون اللذة والنشاط فيما هو خادم لضروري أو
نحوه.
ومما يدل على ذلك قوله في الحديث:
"كل لهوٍ باطل إلا ثلاثة"6؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "التزين".
2 بل لا شيء أدخل في باب اللهو من تناول المسكر. "د".
3 أي: وإن كانت خادمةً لضد بعض المطلوب بالكل، فهي خادمة
لبعض آخر منه كالعبادة وفعل الخير؛ لما فيها من تنشيط
البدن، وراحة النفس من الأتعاب والهموم الموجبة للفتور
والكسل عن الأعمال، عبادة وغيرها. "د".
4 في الأصل و"ط": "واللذة".
5 ففرق بين ما يكون استدعاء النشاط تابعًا لخدمة ضروري كما
هو القسم الأول وبين ما يكون مجرد لهو، والثاني محل
النزاع، والذي يدل لنا الحديثان بعد، ولا يخفى عليك صلاحية
هذا الجواب لرد الأدلة الثلاثة المعارضة، بل الأربعة على
ما قررناه. "د".
6 الحديث صحيح بشواهده، كما بينته فيما مضى "1/ 202"، ولله
الحمد والمنة.
ج / 3 ص -520-
فاستثنى ما فيه خدمة لمطلوب مؤكد، وأبطل البواقي.
وفي الحديث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا
ملة؛ فقالوا: يا رسول الله! حدثنا "يعنون بما ينشط
النفوس". فأنزل الله عز وجل:
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا}1 الآية [الزمر: 23].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "رقم 13" ثنا حجاج،
وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 248" من طريق وكيع بن الجراح،
كلاهما عن المسعودي عن عون بن عبد الله به.
وسماع وكيع من المسعودي -وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن
عتبة- بالكوفة قديم قبل اختلاطه، بخلاف سماع حجاج بن محمد
الأعور، نص على ذينك الإمام أحمد، كما في "الكواكب
النيرات" "ص288، 293".
إلا أن عون بن عبد الله روايته عن الصحابة مرسلة فيما قيل
كما في "تهذيب الكمال" "22/ 454"؛ فكيف روايته سبب النزول؟
فهو مرسل، بل معضل بلا شك.
وقد ذكره الواحدي في "أسباب النزول" "ص182-183" من غير
سند.
وأخرج ابن جرير في "التفسير" "23/ 211" بسند ضعيف عن ابن
عباس؛ قال: قالوا: يا رسول الله! لو حدثتنا؟ قال: فنزلت:
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}.
وأخرج إسحاق بن راهويه في "المسند" -كما في "المطالب
العالية" "3/ 343 وق136/ ب -المسندة"- ومن طريقه الحاكم في
"المستدرك" "2/ 345"، وابن حبان في "الصحيح" "14/ 92/ رقم
6209 - الإحسان"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص182-183":
أخبرنا عمرو بن محمد القرشي ثنا خلاد الصفار عن عمرو بن
قيس الملائي عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن أبيه؛ قال:
أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا عليهم
زمانًا، فقالوا: يا رسول الله! لو قصصت علينا. فأنزل الله:
{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} إلى قوله:
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ...} [يوسف: 1-3]؛ فتلاها عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمانًا،
فقالوا: يا رسول الله! لو حدثتنا. فأنزل الله:
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23]، كل ذلك يؤمرون بالقرآن. قال خلاد: وزاد فيه حين
قالوا: يا رسول الله! ذكرنا. فأنزل الله:
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ
لِذِكْرِ اللَّهِ}
[الحديد: 16].
وأخرجه بنحوه ابن جرير في "التفسير" "12/ 90" مختصرًا من
طريق محمد بن سعيد =
ج / 3 ص -521-
فذلك1
في معنى أن الرجوع إلى كتاب الله بالجد فيه غاية ما طلبتم2
وذلك ما بث فيه من الأحكام، والحكم، والمواعظ، والتحذيرات،
والتبشيرات الحاملة على الاعتبار، والأخذ بالاجتهاد فيما
فيه النجاة والفوز بالنعيم المقيم، وهذا خلاف ما طلبوه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= العطار، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 740" عن الحسين بن
عمرو العنقري، والبزار في "المسند" "رقم 86 - مسند سعد و3/
352-353/ رقم 1153" عن الحسين بن عمرو والحسين بن الأسود
وإسماعيل بن حفص، جميعهم عن عمرو بن محمد به.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "المذكر والتذكير" "رقم 24": ثنا
حسين بن الأسود به.
قال البزار عقبه: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن سعد [إلا]
بهذا الإسناد، ولا نعلم رواه عن سعد إلا مصعب، ولا عن مصعب
إلا عمرو بن مرة، ولا عن عمرو بن مرة إلا عمرو بن قيس، ولا
عمر بن قيس إلا خلاد بن مسلم".
قلت: إسناده جيد، رجاله ثقات رجال مسلم، غير خلاد وهو ثقة،
وثقة ابن معين في رواية الدوري، وقال في رواية عثمان بن
سعيد الدارمي: "لا بأس به"، وذكره ابن حبان في "الثقات"،
وقال أبو حاتم: "حديث مقارب".
وأعله الهيثمي في "المجمع" "10/ 219" بالحسين بن عمرو،
وقال عنه: "وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله ثقات".
والحسين بن عمرو توبع؛ كما يظهر لك من التخريج السابق.
وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "4/ 496" لابن المنذر،
وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وصححه الحاكم/
ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في "المطالب": "هذا حديث
حسن"، وفي "ف": "فقال: يا رسول الله!"، والصحيح: "فقالوا"،
كما أثبتناه.
1 في "ط": "فكان ذلك".
2 انظره مع قوله: "وهذا خلاف ما طلبوه" لتوقف بينهما، ولعل
الفرض بهذا أنه أولى ما يقع طلبكم له؛ كقوله تعالى:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ}
[البقرة: 189]، فأجيبوا إلى خير مما طلبوا، يعني: ولو كان ما طلبوه
مما فيه اللهو واللعب مما يقصد شرعًا لأجابهم إليه، ولما
ازدادت رغبتهم في طلبهم الأول لم يجبهم إليه مباشرة، بل
بما يكون مبثوثًا فيه فقط مع كونه خادمًا لأصل ضروري، وهو
الدين. "د".
ج / 3 ص -522-
قال
الراوي: "ثم ملوا ملة، فقالوا: حدثنا شيئًا فوق الحديث
ودون القرآن! فنزلت سورة يوسف1" فيها آيات ومواعظ،
وتذكيرات وغرائب تحثهم على الجد في طاعة الله، وتروح من
تعب أعباء التكاليف مع ذلك؛ فدلوا على ما تضمن قصدهم مما
هو2 خادم للضروريات، لا ما هو خادم لضد ذلك.
وفي الحديث أيضًا:
"إن لكل
عابد شرة، ولكل شرة فترة؛ فإما إلى سنة، وإما إلى بدعة،
فمن كانت فترته إلى سنة؛ فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى
غير ذلك3؛ فقد هلك"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه في الحديث السابق.
2 كذا في "ط"، وفي الأصل: "هما"، وفي غيرهما: "بما هو".
3 إنما يظهر الشاهد في الحديث على وراية: "ومن كانت فترته إلى غير ذلك"، وهو يشمل اللهو واللعب، وذلك كما هو الواقع أن كثيرًا ممن تشددوا
في العبادة حصل لهم بعدها فترة وارتخاء عنها، ثم مالوا إلى
اللهو واللعب وملاذ النفوس، والبدعة بالمعنى الذي يحدده
لها المؤلف، وهو أنها لا تكون إلا في عبادة ليس لها أصل
فيما ورد عن الشارع، إذا أخذ بها في معنى الحديث يبعد أن
يكون حكمها حكم اللهو واللعب الذي يقصده كالغناء وما معه
الذي هو موضوع كلامنا. "د".
4 أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 158، 165، 188، 210"،
والطحاوي في "المشكل" "2/ 88"، وابن أبي عاصم في "السنة"
"رقم 51"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 11 - الإحسان"،
والقضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 126/ رقم 1026"، وابن عبد
البر في "التمهيد" "1/ 196" عن عبد الله بن عمرو بن العاص
مرفوعًا، وإسناده صحيح.
وأخرجوه بألفاظ، الأول منها في "مسند أحمد":
"إن لكل عابد"،
وعند غيره
"[إن] لكل
عامل"، أو
"إن لكل
عمل"، وعندهم جميعهم: "شرة" بالراء، وفي الأصول كلها: "شدة" بالدال، وهو
خطأ، و"الشرة" هي الحرص على الشيء والرغبة والنشاط، قال
الطحاوي: "فوقفنا بذلك على أنها هي الحدة في الأمور التي
يريدها المسلمون من أنفسهم في أعمالهم التي يتقربون بها
إلى ربهم عز وجل، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب
منهم فيها ما دون الحدة التي لا بد من القصر عنها والخروج
منها إلى غيرها، وأمرهم بالتمسك من الأعمال الصالحة بما قد
يجوز دوامهم عليه ولزومهم إياه، حتى يلقوا ربهم عز وجل". =
ج / 3 ص -523-
وأما
آيات الزينة والجمال والسكر؛ فإنما ذكرت فيها1 لتبعيتها
لأصول تلك النعم، لا أنها [هي] المقصود الأول في تلك
النعم.
وأيضًا فإن الجمال والزينة مما يدخل تحت القسم الأول؛ لأنه
خادم2 له، ويدل عليه قوله تعالى:
{قُلْ
مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ
لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم
2453"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 349"، والطحاوي في
"المشكل" "2/ 89"، وتمام في "الفوائد" "5/ 61-62/ رقم 1669
- ترتيبه" بإسناد جيد.
وعن ابن عباس أخرجه الطحاوي في "المشكل" "2/ 88"، والقضاعي
في "مسند الشهاب" "رقم 1027"، والبزار، ورجاله رجال
الصحيح، كما في "مجمع الزوائد" "2/ 258-259".
1 أي: ذكرت الزينة وما معها في الآيات المذكورة تبعًا لما
ذكر فيها من أصول النعم المعتد بها، كالدفء، وحمل الأثقال
إلى الجهات البعيدة، وغيرها من المنافع التي أشار إليها
هنا إجمالًا، وفصلها في آيات أخرى، كاللبن، والجلود تتخذ
منها البيوت، وغير ذلك كما قال فيه:
{وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ}
[المؤمنون: 21]، ومما يحقق غرضه أنه مع تكرير ذكر النعم
إجمالًا وتفصيلًا لم يذكر الجمال والزينة في الآيات
الأخرى، أعني: التي في معرض الامتنان، لا التي مثل آية:
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ} [الكهف: 46]؛ فإن هذه من باب آية:
{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، وعدم ذكره في الآيات الأخرى يدل على أنها إنما ذكرت
فيما ذكرت فيه تبعًا، وقد عرفت منزلة التابع في المسائل
السابقة، هذا ومتى كان نائب فاعل "ذكرت" عائدًا على نفس
الزينة وما معها كما قررنا لا على لفظ آيات، فالعبارة
مستقيمة لا تحتاج إلى تصحيح. "د".
قلت: يرد "د" في كلامه هذا على "ف"، حيث قال: "لعله فيه
-أي: في كتاب الله تعالى-" ا. هـ.
وتابعه "م"، فأثبتها في المتن: "ذكرت فيه"، وقال في
الهامش: في "د" ذكرت فيها".
2 أي: وتقدم أن ما كان مبثوثًا فيه، فهو خادم للمطلوب
بالفعل. "د".
ج / 3 ص -524-
وقوله
عليه الصلاة:
"إن الله جميل يجب الجمال"1.
"إن الله يحب أن يرى2 أثر
نعمته على عبده"3.
وأما السكر؛ فإنه قال فيه:
{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا}
[النحل: 67]؛ فنسب إليهم اتخاذ السكر ولم يحسنه، وقال:
{وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67]؛ فحسنه.
فالامتنان بالأصل الذي وقع فيه التصرف لا بنفس التصرف؛
كالامتنان بالنعم الأخرى الواقع فيها التصرف؛ فإنهم تصرفوا
بمشروع وغير مشروع، ولم يؤت بغير المشروع قط على طريق
الامتنان به كسائر النعم، بل قال تعالى:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ
فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا} الآية [يونس: 59]؛ فتفهم هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر
وبيانه، 1/ 93/ رقم 91" عن ابن مسعود رضي الله عنه.
2 أي: فرؤية أثر النعمة مما يخدمها، وقد جعل هذا الحديث
وما قبله شاهدًا للمباح بالجزء المطلوب بالكل على جهة
الندب، وأنه لو تركه الناس كلهم لكان مكروها، راجع المسألة
الثانية في المباح، ومثله هناك بالتمتع بالطيبات من مأكل
وملبس... إلخ". "د".
3 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الأدب، باب ما جاء أن
الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، 5/ 123-124/
رقم 2819" -وقال: "هذا حديث حسن"- والطيالسي في "المسند"
"رقم 2261"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 135"، وابن أبي
الدنيا في "الشكر" "رقم 51" عن عبد الله بن عمرو بن العاص،
والحديث حسن، وله شواهد كثيرة، منها:
حديث عمران بن حصين أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 438"، وابن
سعد في "الطبقات الكبرى" "4/ 291 و7/ 10"، والطحاوي في
"المشكل" "4/ 151"، والحاكم في "المعرفة" "ص161"،
والطبراني في "الكبير" "18/ 135"، وابن أبي الدنيا في
"الشكر" "رقم 50" بلفظ:
"إذا أنعم الله عز وجل على عبده نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"، وإسناده
صحيح.
وانظر سائر الشواهد في: "المجمع" "5/ 132-133"، و"غاية
المرام" "رقم 75".
ج / 3 ص -525-
وأما
الوجه الثالث؛ فإنها إن فرض كونها خادمة للمأمور به فهي من
القسم الأول؛ كملاعبة الزوجة، وتأديب الفرس، وغيرهما،
وإلا؛ فخدمتهما للمأمور به بالقصد الثاني لا بالقصد الأول،
إذ1 كان ذلك الوقت الذي لعب فيه يمكنه فيه عمل ما ينشطه
مما هو مطلوب الفعل بالكل كملاعبة الزوجة، ويكفي من ذلك أن
يستريح بترك الأشياء كلها، والاستراحة من الأعمال بالنوم
وغيره ريثما يزول عنه كلال العمل لا دائمًا كل هذه الأشياء
مباحة؛ لأنها خادمة للمطلوب بالقصد الأول.
أما الاستراحة إلى اللهو واللعب من غير ما تقدم؛ فهو أمر
زائد على ذلك كله، فإن جاء به من غير مداومة؛ فقد أتى بأمر
يتضمن ما هو2 خادم للمطلوب الفعل؛ فصارت خدمته له بالقصد
الثاني لا بالقصد الأول، فباين القسم الأول إذ جيء فيه
بالخادم له ابتداء، وهذا إنما جيء فيه بما هو خادم للمطلوب
الترك، لكنه تضمن خدمة المطلوب الفعل إذا3 لم يداوم عليه،
وهذا ظاهر لمن تأمله.
فصل
فإن قيل: هذا البحث كله تدقيق من غير فائدة فقهية تترتب
عليه؛ لأن كلا القسمين قد تضمن4 ضد ما اقتضاه في وضعه
الأول؛ فالواجب العمل على ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "إذا"، وكتب "د": "لعل الأصل:
"إذ"؛ فهو تعليل لسابقه".
2 أي: النشاط والراحة التي هي خادم لما يطلب فعله من ضروري
أو حاجي مثلا؛ أي: فليس خادما للمطلوب الفعل مباشرة، بل
بواسطة، ولكنه يخدم مطلوب الترك مباشرة، أما القسم الأول؛
كالأكل، والشرب وتأديب الفرس مثلا؛ فهو خادم لأصل من
الأصول مباشرة، فلذلك اختلف حكمهما. "د".
3 فإذا داوم عليه وضيع الوقت فيه؛ لم يكن خدم به شيئًا من
المصالح، بل كان مضيعًا لها؛ فلهذا نهي عن الدوام. "د".
4 كما هي عبارته أول المسألة حيث قال فيهما: "وقد يصير
مطلوب... إلخ"، وقوله: "على ما يقتضيه الحال... إلخ"؛ أي:
فإن أدى استعماله إلى تفويت مصلحة نهي عنه، وإلا فلا. "د".
ج / 3 ص -526-
يقتضيه
الحال في الاستعمال للمباح أو ترك الاستعمال، وما زاد على
ذلك لا فائدة فيه فيما يظهر، إلا تعليق الفكر بأمر صناعي،
وليس هذا من شأن أهل الحزم من العلماء.
فالجواب: أنه ينبني عليه أمور1 فقهية، وأصول عملية.
- منها: الفرق بين ما يطلب الخروج عنه من المباحات عند
اعتراض العوارض المقتضية للفاسد، وما لا يطلب الخروج عنه،
وإن اعترضت العوارض، وذلك أن القواعد المشروعة بالأصل إذا
داخلتها المناكر؛ كالبيع، والشراء، والمخالطة، والمساكنة
إذا كثر الفساد في الأرض واشتهرت المناكر، بحيث صار المكلف
عند أخذه في حاجاته وتصرفه في أحواله لا يسلم في الغالب من
لقاء المنكر أو ملابسته؛ فالظاهر يقتضي الكف عن كل ما
يؤديه إلى هذا، ولكن الحق يقتضي أن لا بد له من اقتضاء
حاجاته، كانت مطلوبة بالجزء أو بالكل، وهى إما مطلوب
بالأصل2، وإما خادم للمطلوب بالأصل؛ لأنه إن فرض الكف عن
ذلك أدى إلى التضييق والحرج3، أو تكليف ما لا يطاق، وذلك
مرفوع عن هذه الأمة؛ فلا بد للإنسان من ذلك، لكن مع الكف
عما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فروع في مسائل متنوعة، وقوله: "وأصول عملية"؛ أي:
قواعد كلية تفيد عملا كما سيقول: "فإذا أخذ قضية عامة
استمر واطرد". "د".
2 يرجع إلى قوله: "مطلوبة بالجزء"، وما بعده يرجع إلى ما
بعده. "د".
3 يرجع إلى قوله: "خادم"، وقوله: "أو تكليف" راجع إلى
قوله: "إما مطلوب بالأصل" فإن الحاجي خادم للضروري الذي هو
حفظ الحياة في البيع والشراء والمساكنة مثلا، فإن كانت
الحاجة إليه لا تصل إلى حفظ الحياة الذي هو ضروري، وكان
يتحرج فقط بتركه؛ كان خادمًا للمطلوب الأول. "د".
ج / 3 ص -527-
يستطاع
الكف عنه، وما سواه؛ فمعفو عنه لأنه بحكم التبعية1 لا بحكم
الأصل.
وقد بسطه2 الغزالي في كتاب الحلال والحرام من "الأحياء"
على وجه أخص3 من هذا، فإذا أخذ قضية عامة استمر واطرد.
[وقد]4 قال ابن العربي5 في مسألة دخول الحمام بعد ما ذكر
جوازه: "فإن قيل: فالحمام دار يغلب فيها المنكر؛ فدخلوها
إلى أن يكون [حرامًا]4 أقرب منه إلى أن يكون مكروهًا؛ فكيف
أن يكون جائزًا؟ قلنا: الحمام موضع تداوٍ وتطهر؛ فصار
بمنزلة النهر، فإن المنكر قد غلب فيه بكشف العورات،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لضروريه أو حاجيه فقط، ولو كان بحكم الأصل مباحًا
لما ألزم بالوقوف عند حد، وقد سماه عفوًا كما سبق له في
ذكر مرتبة العفو، وأنها مرتبة غير الأحكام الخمسة، وليست
داخلة في المباح.
2 في "ف": "بسط"، واستظهر المثبت، وهو الصواب.
3 لأنه بناه على أن المناكر تأتي من طبيعة المباحات إذا
استرسل فيها دون حد، أما هنا؛ فالمناكر التي مثل بها
المؤلف عارضة، خارجة عن نفس المباحات، لا دخل للمؤلف في
جلبها؛ فهو يقول: "إذا أخذ الموضوع عاما أدخل على المباحات
مطلقا ما يقتضي حظرها، سواء أكان من جهتها هي أم كان من
عوارض خارجة عنها؛ فإنها تؤخذ بقدر الحاجة في وقت الحاجة،
مع التحرز بقدر الاستطاعة من الوقوع في المحظورات دفعا
للحرج ولتكليف ما لا يطاق، ويكون ما لابسها من المحظورات
من باب العفو". "د".
قلت: قال الغزالي في "إحياء علوم الدين" "2/ 97": "إن أكثر
المباحات داعية إلى المحظورات حتى استكثار الأكل واستعمال
الطيب للمتعزب؛ فإنه يحرك الشهوة، ثم الشهوة تدعو إلى
الفكر، والفكر يدعو إلى النظر، والنظر يدعو إلى غيره..."
إلى أن قال: "وهكذا المباحات كلها، إذا لم تؤخذ بقدر
الحاجة في وقت الحاجة مع التحرز من غوائلها بالمعرفة أولا،
ثم بالحذر ثانيا؛ فقلما تخلو عاقبتها عن خطر، وكذا كل ما
أخذ بالشهوة؛ فقلما يخلو عن خطر" ا. هـ.
4 سقط من "ط".
5 انظر كلامًا له عن الحمام في "عارضة الأحوذي" "10/
244-246".
ج / 3 ص -528-
وتظاهر
المنكرات، فإذا احتاج إليه المرء دخله، ودفع المنكر عن
بصره وسمعه ما أمكنه، والمنكر اليوم في المساجد والبلدان؛
فالحمام كالبلد عموما، وكالنهر خصوصا. هذا ما قاله، وهو
ظاهر في هذا المعنى1.
وهكذا النظر في الأمور المشروعة بالأصل كلها، وهذا إذا أدى
الاحتراز من العارض للحرج، وأما إذا لم يؤد إليه وكان في
الأمر المفروض مع ورود النهي [سعة]2 كسد الذرائع؛ ففي
المسألة نظر، ويتجاذبها طرفان3؛ فمن اعتبر العارض سد في
بيوع الآجال وأشباهها من الحيل، ومن اعتبر الأصل لم يسد ما
لم يبد الممنوع صراحًا4.
ويدخل أيضًا في المسألة النظر في تعارض الأصل والغالب5؛
فإن لاعتبار الأصل6 رسوخًا حقيقيًّا، واعتبار غيره تكميلي
من باب التعاون، وهو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد عقد لهذا المعنى المسألة الثانية عشرة من المباح [1/
287]، وفصله هناك تفصيلًا وافيًا. "د".
2 سقط من "ط".
3 إلا أنه في "5/ 199" تمسك بأصل الإباحة، ولم يلتفت إلى
التفريق بين المراتب؛ فقال: "... الأمور الضرورية أو غيرها
من الحاجية أو التكميلية، إذا اكتنفها من خارج أمور لا
ترضى شرعا؛ فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح، على شرط
التحفظ، بحسب الاستطاعة من غير حرج"، وذكر أمثلة مختلطة،
منها ما هو ضروري، ومنها ما هو حاجي، ومنها ما قد يكون من
المرتبة الثالثة كشهود الجنائز.
4 فإن ظهر أنه يقع في الممنوع غالبًا أو قطعا، مع فرض
المسألة وهو أنه في سعة ليس فيها حرج ولا تكليف ما لا
يطاق؛ فإنه لا خلاف في اعتبار المحظور وتقرير حرمة الدخول
في هذا المباح. "د".
5 كما في جادة الطريق ونحوها يغلب عليها أن تصيبها
النجاسة، لكن الأصل في الأشياء الطهارة؛ فهل تصح الصلاة
فيها مع الشك؟ ينبني الحكم بالصحة أو البطلان على الخلاف
في ترجيح الأصل على الغالب كما هو رأي مالك، أو العكس كما
هو رأي ابن حبيب. "د".
6 في الأصل: "الاعتبار بالأصل".
ج / 3 ص -529-
ظاهر.
أما إذا1 كان المباح مطلوب الترك بالكل؛ فعلى خلاف ذلك،
[إذ] لا يجوز لأحد أن يستمع إلى الغناء وإن قلنا إنه مباح
إذا حضره منكر أو كان في طريقه؛ لأنه غير مطلوب الفعل في
نفسه، ولا هو خادم لمطلوب الفعل؛ فلا يمكن2 والحالة هذه أن
يستوفي المكلف حظه منه؛ فلا بد من تركه جملة، وكذلك اللعب
وغيره.
وفي كتاب "الأحكام" بيان لهذا المعنى في فصل الرخص، وإليه
يرجع وجه الجمع بين التحذير من فتنة الدنيا مع عدم التحذير
من اجتنابها أو اكتسابها.
فإن قيل: فقد حذر السلف من التلبس بما يجر إلى المفاسد وإن
كان أصله مطلوبا بالكل أو كان خادما للمطلوب؛ فقد تركوا
الجماعات واتباع الجنائز وأشباهها مما هو مطلوب شرعا، وحض
كثير من الناس على ترك التزوج وكسب العيال؛ لما داخل هذه
الأشياء واتبعها3 من المنكرات والمحرمات.
وقد ذكر عن مالك أنه ترك4 الجمعات، والجماعات، وتعليم
العلم، واتباع الجنائز، وما أشبه ذلك مما هو مطلوب لا يحصل
إلا مع مخالطة الناس،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا مقابل قوله: "وذلك أن القواعد المشروعة بالأصل"،
وبها ينجلي الفرق. "د".
2 تفريع على النفي، وبيانه أنه لو كان مطلوب الفعل أو
خادما له وحضره المنكر وعولنا على المنع منه بسبب ذلك لحصل
الحرج بعدم استيفاء المكلف حظه من ذلك المباح؛ فلذا أبيح
له الدخول فيه غير مبالٍ بما يلحقه، أما هنا؛ فليس كذلك،
فحظه منه كالعدم؛ فلا بد من تركه جملة لما اتصل به من
المنكر، فقوله: "فلا بد من تركه" تفريع على قوله: "لأنه
غير مطلوب... إلخ"، ومعنى "لا يمكن" لا يجوز. "د".
3 في "ط": "واستبعها".
4 التحقيق في سبب الترك أنه اعتراه سلس لازمه، وكان لا يحب
أن يذكر ذلك للناس؛ لما فيه من رائحة الشكوى من قضاء الله
تعالى؛ فليس مما نحن فيه. "د".
ج / 3 ص -530-
وهكذا
غيره، وكانوا [علماء، وفقهاء، وأولياء، ومثابرين على تحصيل
الخيرات وطلب المثوبات، وهذا كله له دليل في الشريعة؛
كقوله عليه الصلاة والسلام]1:
"يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر،
يفر بدينه من الفتن"2،
وسائر ما جاء في طلب العزلة3، وهى متضمنة لترك كثير مما هو
مطلوب بالكل أو بالجزء ندبا أو وجوبا، خادما لمطلوب أو
مقصودا لنفسه؛ فكيف بالمباح؟
فالجواب: أن هذا المعنى لا يرد من وجهين:
أحدهما: أنا إنما تكلمنا في جواز المخالطة في طلب الحاجات
الضرورية وغيرها4، فمن عمل على أحد الجائزين؛ فلا حرج
عليه، ولا يرد علينا ما هو مطلوب بالجزء؛ لأنا لم نتعرض5
في هذه المسألة للنظر فيه.
والثاني: أن ما وقع التحذير فيه وما فعل السلف من ذلك إنما
هو بناء على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من "ط".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب من الدين
الفرار من الفتن، 1/ 69/ رقم 19" عن أبي سعيد الخدري
مرفوعًا، وفيه: "... أن يكون خير مال المسلم غنم...".
قال "ف": "شعف الجبال؛ أي: رءوسها، والمراد بمواقع القطر:
الأودية والصحاري".
3 كما تراه في كتاب "العزلة" للخطابي، و"الرسالة المغنية
في السكون ولزوم البيوت" لابن البناء البغدادي "ت471هـ"،
و"الأمر بالعزلة في آخر الزمان" لابن الوزير "ت 840هـ"،
وكلها مطبوعة.
4 أي: من الحاجية، وهي التي يؤدي الكف عنها إلى ضيق وحرج.
"د".
قال "ف": "ولعله: لا عن غيرها، فتأمل".
5 انظره في قوله: "لا بد له من اقتضاء حاجاته كانت مطلوبة
بالجزء أو بالكل"، قوله: "وهكذا النظر في الأمور المشروعة
بالأصل كلها"، وجعله ما فيه السعة محل نظر، يجري فيه
الخلاف في سد الذرائع ومسألة تعارض الأصل والغالب، وهل
يقال: إن الحاجات الضرورية ليست مما يطلب بالجزء، وكذلك
الحاجية المؤدية إلى الضيق والحرج الفادح. "د".
ج / 3 ص -531-
معارض
أقوى في اجتهادهم مما تركوه، كالفرار من الفتن، فإنها في
الغالب قادحة في أصول1 الضروريات، كفتن سفك الدماء بين
المسلمين في الباطل، [أو ما أشبه ذلك]، أو للإشكال الواقع
عند التعارض بين المصلحة الحاصلة بالتلبس، مع المفسدة
المنجرة بسببه، أو ترك2 ورع المتورع يحمل على نفسه مشقة
يحتملها، والمشقات تختلف كما مر في كتاب الأحكام؛ فكل هذا
لا يقدح في مقصودنا على حال.
فصل
- ومنها: الفرق بين ما ينقلب بالنية من المباحات طاعة
وما لا ينقلب، وذلك أن ما كان منها خادمًا لمأمور به تصور
فيه أن ينقلب إليه؛ فإن الأكل والشرب والوقاع وغيرها تسبب
في إقامة ما هو ضروري، لا فرق في ذلك بين كون المتناول في
الرتبة العليا من اللذة والطيب، وبين ما ليس كذلك؛ وليس
بينهما تفاوت يعتد به إلا في أخذه من جهة الحظ، أو من جهة
الخطاب الشرعي؛ فإذا أخذ من جهة الحظ؛ فهو المباح بعينه،
وإذا اخذ من جهة الإذن الشرعي؛ فهو المطلوب بالكل3 لأنه في
القصد الشرعي خادم للمطلوب،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أما الجمعة والجماعات؛ فمن مكملات إقامة الدين، لما فيها
من إظهار أبهة الإسلام وقوة أهله إلى آخر ما سبق. "د".
2 عطف في المعنى على قوله: "للإشكال"؛ أي: أو كان الترك
لورع المتورع يحمل نفسه مشقة يطيقها هو وإن لم يطقها كثير
من الناس، لا أن ذلك بسبب أنهم لا يقولون بجواز الدخول في
المباحات المذكورة؛ فيصح أن يكون "ترك" فعلا مبنيًّا
للمجهول؛ أي: ترك ما ذكر لأجل ورع المتورع من هؤلاء. "د".
وفي "ط": "ترك ورع لمتورع".
3 بمراجعة المسألتين الثانية والثالثة من المباح يتضح
المقام، ويعلم أن كون المباح مطلوبًا بالكل لا يتوقف على
أخذه من جهة الإذن كما هو ظاهر العبارة، وأن المباح
المطلوب بالكل لا بد أن يكون خادمًا لمطلوب، وأنه يوصف
الفعل بكونه مباحًا إذا اعتبر فيه حظ المكلف فقط؛ حتى يكون
أخذًا له من جهة اختياره وإرادته لا غير، وأن الحظ على
ضربين: فما كان داخلا تحت الطلب؛ فللعبد أخذه من جهة الطلب
ولا يفوته حظه، والثاني غير داخل تحت الطلب كالسماع وأنواع
اللهو؛ فلا يتأتى أخذه إلا من جهة اختياره وحظه، ويعلم
أيضا أن قوله: "فهو مطلوب بالكل" ليس حمل موطأة يقصد منه
التعريف، بل المراد أنه لا يتأتى أن يؤخذ من جهة الإذن إلا
إذا كان مما يدخل تحت الطلب بالكل، يعني: ومتى أخذ كذلك
بريء من الحظ وخرج عن كونه مباحًا إلى كونه طاعة. "د".
ج / 3 ص -532-
وطلبه
بالقصد الأول، وهذا التقسيم قد مر بيانه في كتاب الأحكام.
فإذا ثبت هذا؛ صح في المباح الذي هو خادم المطلوب1 الفعل
انقلابه طاعة؛ إذ ليس بينهما إلا قصد الأخذ من جهة الحظ أو
من جهة الإذن، وأما ما كان خادمًا لمطلوب الترك، فلما كان
مطلوب الترك بالكل؛ لم يصح2 انصرافه إلى جهة المطلوب الفعل
لأنه إنما ينصرف إليه من جهة الإذن وقد فرض عدم الإذن فيه
بالقصد الأول، وإذا أخذ من جهة الحظ؛ فليس بطاعة، فلم يصح
فيه أن ينقلب طاعة؛ فاللعب مثلًا ليس في خدمة المطلوبات
كأكل الطيبات وشربها؛ فإن هذا داخل بالمعنى في جنس
الضروريات وما دار بها، بخلاف اللعب، فإنه داخل بالمعنى في
جنس ما هو ضد لها، وحاصل هذا المباح أنه مما لا حرج فيه
خاصة، لا أنه مخير فيه كالمباح حقيقة، وقد مر3 بيان ذلك.
وعلى هذا الأصل تخرج مسألة السماع المباح؛ فإن من الناس من
يقول: إنه ينقلب بالقصد طاعة، وإذا عرض على هذا الأصل تبين
الحق4 فيه إن شاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "للمطلوب".
2 لأنه إنما كان يصح انصرافه إليه لو كان يخدمه، مع أنه
إنما يخدم ضده، وأيضا إنما ينصرف إليه لو كان داخلًا تحت
الطلب "أي الكلي"، ومعلوم أنه مطلوب الترك بالكل، وحينئذ؛
فلا يتأتى أخذه من جهة الإذن حتى يبرأ من الحظ؛ فينقلب
طاعة. "د".
3 أي: في المسألة الرابعة من المباح. "د".
4 أي: وأنه غير معقول انقلابه طاعة؛ لأنه من قسم المنهي
عنه بالكل؛ فلا يتأتى أن ينظر إليها بأخذ المكلف له من حيث
طلب الشارع له لأنه لم يطلبه جزئيًّا، وهو ظاهر، ولا
كليًّا؛ لأنه منهي عنه. "د".
ج / 3 ص -533-
الله
تعالى.
فإن قيل: إذا سلمنا أن الخادم لمطلوب الترك مطلوب الترك
بالقصد الأول؛ فقد مر أنه يصير مطلوب الفعل بالقصد الثاني،
فاللعب والغناء ونحوهما إذا قصد باستعمالها التنشيط على
وظائف الخدمة والقيام بالطاعة؛ فقد صارت على هذا الوجه
طاعة؛ فكيف يقال: إن مثل هذا لا ينقلب بالنية طاعة؟
فالجواب: أن اعتبار وجه النشاط على الطاعة ليس من جهة ما
هو لعب أو غناء، بل من جهة ما تضمن من ذلك، لا1 بالقصد
الأول؛ فإنه استوى مع النوم مثلا، والاستلقاء على القفا،
واللعب مع الزوجة، في مطلق الاستراحة، وبقي اختيار كونه
لعبًا على الجملة أو غناء تحت حكم اختيار المستريح فإذا
أخذه من اختياره فهو سعي في حظه؛ فلا طلب، وإن أخذه من جهة
الطلب؛ فلا طلب2 في هذا القسم كما تبين.
ولو اعتبر3 فيه ما تضمنه بالقصد الثاني؛ لم يضر الإكثار
منه والدوام عليه، ولا كان منهيًّا عنه بالكل؛ لأنه قد
تضمن خدمة المطلوب الفعل، فكأن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لم يكن اعتبار للغناء بالقصد الأول، بل باعتبار ما
تضمنه من الراحة المعينة على فعل الخير، أما هو نفسه؛ فليس
معينًا بل صادًّا عن المطلوب. "د".
2 أي: بالقصد الأول المعتد به، يعني: ولا طاعة بدون طلب
شرعي؛ لأنها امتثال أمر الشارع. "د".
3 أي: لو اعتبر ما تضمنه بالقصد الثاني، واعتد به في نظر
الشارع حتى يكون مطلوبًا؛ فيؤخذ من جهة الطلب فينقلب طاعة،
لو كان كذلك ما نهى الشارع عن استدامته؛ لأنه يكون حينئذ
خادمًا لمطلوب الشارع، والواقع والفرض أنه خادم لضده
مباشرة، ومطلوب الترك بالكل؛ فهذا يدل على أن ما تضمنه
بالقصد الثاني لا ينقله إلى الطاعة. "د". وفيه سقط من "ط".
ج / 3 ص -534-
يكون
مطلوب الفعل بالكل وقد فرضناه على خلاف ذلك، هذا خلف،
وإنما يصير هذا شبيها بفعل المكروه طلبًا لتنشيط النفس على
الطاعة؛ فكما أن المكروه بهذا القصد لا ينقلب طاعة كذلك
[ما كان]1 في معناه أو شبيهًا به.
فصل
- ومنها: بيان وجه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأناس
بكثرة المال، مع علمه بسوء عاقبتهم فيه؛ كقوله لثعلبة بن
حاطب:
"قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه"2،
ثم دعا له بعد ذلك؛ فيقول القائل: لو كان عنده أن كثرة
المال يضر به فلمَ دعا له؟ وجواب هذا راجع إلى ما تقدم من
أن دعاءه له إنما كان من جهة أصل الإباحة في الاكتساب أو
أصل3 الطلب؛ فلا إشكال في دعائه عليه الصلاة والسلام له.
ومثله التحذير من فتنة المال مع أصل مشروعية الاكتساب له4
كقوله:
"إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض". قيل5 وما بركات الأرض؟ قال:
"زهرة الدنيا".
فقيل: هل يأتي الخير بالشر؟ فقال:
"لا يأتي الخير إلا بالخير، وإن هذا المال حلوة خضرة"6 الحديث.
وقال حكيم بن حزام: سألت النبي صلى الله عليه وسلم
فأعطاني، ثم سألته فأعطاني،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من "ط".
2 الحديث ضعيف جدًّا؛ كما بينته بإسهاب في التعليق على "2/
448".
3 في "ط": "وأصل".
4 في "ط": "مشروعية اكتسابه".
5 في "ط": "قال".
6 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب ما يحذر من
زهرة الدنيا والتنافس عليها، 11/ 244/ رقم 6427" عن أبي
سعيد الخدري رضي الله عنه.
قال "ف": "أي أنه في نضارته كثمرة حلوة المذاق خضرة
اللون".
ج / 3 ص -535-
[ثم سألته فأعطاني]، ثم قال:
"إن هذا المال خضرة حلوة"1 الحديث، وقال:
"المكثرون هم الأقلون يوم القيامة"2
الحديث.
وما أشبه ذلك مما أشار به إلى التحذير من الفتنة، ولم ينه
عن أصل الاكتساب المؤدي إلى ذلك، ولا عن الزائد على ما فوق
الكفاية، بناء على أن الأصل المقصود في المال شرعا مطلوب،
وإنما الاكتساب خادم لذلك المطلوب؛ فلذلك كان الاكتساب من
أصله حلالا إذا روعيت فيه شروطه، كان صاحبه مليا أو غير
ملي، فلم يخرجه النهي عن الإسراف فيه عن كونه مطلوبا في
الأصل؛ لأن الطلب أصلي، والنهي تبعي؛ فلم يتعارضا، ولأجل
هذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يعملون في جميع
ما يحتاجون إليه في دنياهم ليستعينوا به، وهو ظاهر من هذه
القاعدة.
والفوائد المبنية عليها كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب الاستعفاف
عن المسألة، 3/ 335/ رقم 1472"، ومسلم في "صحيحه" كتاب
الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، 2/
717/ رقم 1035" عن حكيم بن حزام رضي الله عنه مرفوعًا.
وما بين المعقوفتين سقط من "م"، وفي "د" تكرر مرة رابعة.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاستقراض، باب أداء
الديون، 5/ 54-55/ رقم 2388" عن أبي ذر مرفوعا بلفظ: "إن
الأكثرين هم الأقلون؛ إلا من قال بالمال هكذا وهكذا...".
وأخرجه أحمد في "المسند" "2/ 391" باللفظ الذي أورده
المصنف عن أبي هريرة مرفوعًا. وفي "ط":
"هم المقلون".
ج / 3 ص -536-
المسألة السادسة عشرة:
قد تقدم أن الأوامر والنواهي في التأكيد ليست على رتبة
واحدة في الطلب الفعلي أو التركي، وإنما ذلك بحسب تفاوت
المصالح الناشئة عن امتثال الأوامر واجتناب النواهي،
والمفاسد الناشئة عن مخالفة ذلك.
وعلى ذلك التقدير يتصور انقسام الاقتضاء إلى أربعة أقسام،
وهي: الوجوب، والندب، والكراهة، والتحريم.
وثم اعتبار آخر لا ينقسم فيه ذلك الانقسام، بل يبقى الحكم
تابعا لمجرد الاقتضاء، وليس للاقتضاء إلا وجهان:
أحدهما: اقتضاء الفعل.
والآخر: اقتضاء الترك.
فلا فرق في مقتضى الطلب بين واجب ومندوب، ولا بين مكروه
ومحرم، وهذا الاعتبار جرى عليه أرباب الأحوال من الصوفية،
ومن حذا حذوهم ممن اطرح مطالب الدنيا جملة، وأخذ بالحزم
والعزم في سلوك طريق الآخرة؛ إذ لم يفرقوا بين واجب ومندوب
في العمل بهما، ولا بين مكروه ومحرم في ترك العمل بهما، بل
ربما أطلق بعضهم على المندوب أنه واجب على السالك، وعلى
المكروه أنه محرم، وهؤلاء هم الذين عدوا المباحات من قبيل
الرخص كما مر1 في أحكام الرخص، وإنما أخذوا هذا المأخذ من
طريقين:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الإطلاق الرابع للرخصة، وهو أن كل ما كان توسعة على
العباد مطلقًا؛ فهو رخصة، والعزيمة هي الأولى التي نبه
عليها بقوله:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ فالأصل أنهم ملك، وليس لهم عليه من حق ولا حظ، بل
عليهم التوجه الكلي لعبادته، وترك كل ما يشغل عنها حتى من
المباحات؛ فالإذن لهم في نيل حظوظهم رخصة وتوسعة. "د".
ج / 3 ص -537-
أحدهما: من جهة الآمر، وهو رأي من1 لم يعتبر في الأوامر
والنواهي إلا مجرد الاقتضاء، وهو2 شامل للأقسام كلها،
والمخالفة فيها كلها مخالفة للآمر والناهي، وذلك قبيح
شرعا، دع القبيح عادة، وليس3 النظر هنا فيما يترتب على
المخالفة من ذم أو عقاب، بل النظر إلى مواجهة الآمر
بالمخالفة، ومن هؤلاء من بالغ في الحكم بهذا الاعتبار؛ حتى
لم يفرق بين الكبائر والصغائر من المخالفات، وعد كل مخالفة
كبيرة، وهذا رأي أبي المعالي في "الإرشاد"؛ فإنه لم ير
الانقسام إلى الصغائر والكبائر بالنسبة إلى مخالفة الآمر
والناهي، وإنما صح عنده الانقسام بالنسبة إلى المخالفات في
أنفسها، مع قطع النظر عن الآمر والناهي، وما رآه يصح في
الاعتبار4.
والثاني: من جهة معنى الأمر والنهي، وله اعتبارات:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أبو منصور الماتريدي، قال: إن صيغة الأمر للطلب أي
ترجيح الفعل على الترك، وعزاه في "الميزان" [1/ 207] إلى
شيوخ سمرقند، وقالوا في النهي ما قالوه في الأمر؛ فيكون
معناه طلب الكف أي ترجيح الترك على الفعل، وقوله: "الآمر"
بصيغة اسم الفاعل كما يدل عليه تقريره بعد ومقابلته في
الطريق الثاني بقوله: "من جهة معنى الأمر"؛ إلا أن قوله:
"وهو رأي... إلخ" يتوقف على أن أبا منصور إنما ذهب إلى أنه
موضوع للطلب بناء على اعتباره جهة الأمر، وهو يحتاج إلى نص
منه؛ إلا أن يقال: معناه أنه يوافق هذا الرأي. "د".
2 أي: الاقتضاء؛ لأنه الطلب بلا شرط شيء. "د".
3 أي: وإلا لجاء الفرق بين المكروه والحرام، وعدنا إلى
التقسيم باعتبار تفاوت المفسدة الناشئة عن المخالفة،
وقوله: "بهذا الاعتبار"؛ أي: مواجهة الآمر بالعصيان
والمخالفة، والمعقول أنه باعتبار الآمر لا فرق. "د".
قلت: وفي "ف": "... عادة وشرعًا، وليس..."، وقال: "كذا
بالأصل ولعل كلمة "وشرعًا" زائدة، والمعنى: اترك القبح
العادي ولا تنظمه في سلك البيان؛ فإنه مفروغ منه ومسلم" ا.
هـ.
4 انظر تعليق ابن القيم وبيانه مراد أبي المعالي في "مدارج
السالكين" "1/ 315 - ط الفقي". وكلام أبي المعالي في
"الإرشاد" "ص328 - ط أسعد تميم".
ج / 3 ص -538-
أحدها:
النظر إلى قصد التقرب بمقتضاها؛ فإن امتثال الأوامر
واجتناب النواهي من حيث هي تقتضي التقرب من المتوجه إليه،
كما أن المخالفة تقتضي ضد ذلك؛ فطالب القرب لا فرق عنده
بين ما هو واجب وبين ما هو مندوب؛ لأن الجميع يقتضيه حسبما
دلت1 عليه الشريعة، كما أنه لا فرق بين المكروه والمحرم
عنده؛ لأن الجميع يقتضي نقيض القرب، وهو إما البعد، وإما
الوقوف عن زيادة القرب، والتمادي في القرب هو المطلوب؛
فحصل من تلك2 أن الجميع على وزان واحد في قصد التقرب
والهرب عن البعد.
والثاني: النظر إلى ما تضمنته الأوامر والنواهي من جلب
المصالح ودرء المفاسد [عند الامتثال، وضد ذلك عند
المخالفة، فإنه قد مر أن الشريعة وضعت لجلب المصالح ودرء
المفاسد]3؛ فالباني على مقتضى ذلك لا يفترق عنده طلب من
طلب، كالأول4 في القصد إلى التقرب.
وأيضا5؛ فإذا كان التفاوت في مراتب الأوامر والنواهي راجعا
إلى تكميل6 خادم، ومكمل مخدوم، وما هو كالصفة والموصوف؛
فمتى حصلت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما سيأتي في الحديث بعد التقرب بهما معًا، وقد أخر
المكروه والحرام عن قوله: "حسبما دلت عليه الشريعة"، مع
أنه سيأتي له في الأحاديث التي يذكرها بعد ما يدل عليه،
فلو قدمه عليه ليكون راجعا للجميع؛ لكان أظهر. "د".
2 في "ط": "ذلك".
3 سقط من "ط".
4 أي: كالتقرير الذي قرر به الاعتبار الأول؛ فالكل إما طلب
مصلحة أو درء مفسدة. "د".
5 وجه ثانٍ مبني على الاعتبار الثاني، ومحصله أن المندوب
مآله إلى أنه خادم مكمل للواجب، وهذا مخدوم مكمل به، وأنه
معه كالصفة للموصوف، ولا تكمل الواجبات إلا بالمندوبات؛
فالحكم على الموصوف يسري على الوصف بلا تمييز بينهما. "د".
6 في "م": "مكمل".
ج / 3 ص -539-
المندوبات كملت الواجبات، وبالضد، فالأمر1 راجع إلى كون
الضروريات آتية على أكمل وجوهها؛ فكان الافتقار إلى
المندوبات كالمضطر إليه في أداء الواجبات، فزاحمت
المندوبات الواجبات في هذا الوجه من الافتقار؛ فحكم عليها
بحكم واحد.
وعلى هذا الترتيب ينظر في المكروهات مع المحرمات من حيث
كانت رائدا لها2 وأنسا بها؛ فإن الأنس بمخالفة ما يوجب3
بمقتضى العادة الأنس بما فوقها؛ حتى قيل4: "المعاصي بريد
الكفر".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المسمى في عرف غير هؤلاء طلبًا غير جازم أو مندوبًا
هو منصب في الحقيقة على الواجب معتبرًا فيه الكمال، ويصح
أن يكون مراده أن الأمر مطلقًا سواء تعلق في ظاهر اللفظ
بالواجب أو بالمندوب مآله قصد تأدية الواجبات على وجهها
الأكمل، وهو لا يتحقق إلا بالواجب والمندوب معًا. "د".
2 تمهد لها وتسهل على النفس حصولها، كما يمهد الرائد لمن
وراءه، ومتى تمرنت النفس على المخالفة الخفيفة جرؤت على
أكبر منها؛ كما في حديث البخاري:
"لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده"؛ أي: فلا
يزال يترقى من سرقة أمثال هذه الأمور التافهة حتى يسرق
الأمور التي يتقطع فيها يده. "د".
قلت: والحديث الذي أورده الشارح أخرجه البخاري في "صحيحه"
"12/ 81/ رقم 6783، 6799"، ومسلم في "صحيحه" "3/ 1314/ رقم
1687" عن أبي هريرة، ومضى تخريحه "2/ 39".
وفي "ط": "رائدًا إليها"، وفي الأصل و"ف": "رائدًا عليها"،
وقال "ف": "الأنسب رائدًا لهم من راد لهم الكلأ يروده
رودًا، وهو رائد؛ أي: طالب به لأجلهم؛ فكذا المكروهات هنا
كأنها تطلب المحرمات وتسعى إليها".
3 في الأصل: "فإن الإنسان بمخالفة توجب"، وهو خطأ، والصواب
ما أثبتناه.
4 أسنده البيهقي في "الشعب" "5/ 44/ رقم 7223" إلى أبي
جعفر بن حمدان عن أبي حفص به، ونسبها ابن القيم في "مدارج
السالكين" "1/ 425 - ط الفقي" إلى بعض السلف، وتكلم عليها
بما يشفي ويغني.
ج / 3 ص -540-
ودل
على ذلك قوله تعالى:
{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].
وتفسيره في الحديث1.
وحديث: "الحلال بين
والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات...."2...
إلخ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب
التفسير، باب ومن سورة
{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}، رقم 3334، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 418"، و"التفسير"
"2/ 505/ رقم 678"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب
ذكر الذنوب، رقم 4244"، وأحمد في "المسند" "2/ 297"، وابن
جرير في "التفسير" "1/ 87 و30/ 62"، والحاكم في "المستدرك"
"2/ 517"، وابن حبان في "الصحيح" "3/ 210/ رقم 930 -
الإحسان"، والبيهقي في "الشعب" "5/ رقم 7203"، وعبد بن
حميد وابن المنذر وابن مردويه في "تفاسيرهم" -كما في "الدر
المنثور" "6/ 325"- بإسناد حسن عن أبي هريرة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم؛ قال:
"إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت نكته سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب؛
صقلت قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه؛ فهو الران
الذي ذكره الله
{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ}".
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الذهبي في "المهذب"
-فيما نقل المناوي في "فيض القدير"-: "إسناده صالح".
قال "د": "ومعنى ران على قلبه: غطاه، أي: فالمعاصي الرائنة
على قلوبهم كانت سببا في شقائهم بالكفر، وهذا وإن كان غير
ما نحن فيه إلا أنه تقريب للموضوع، وهو أن الأنس بالمخالفة
يعد النفس لما فوقها، وإن كانت الآية في الحرام المؤدي إلى
الكفر، لا في المكروه المؤدي إلى الحرام، أما الحديثان
بعد؛ فدليلان على كلا النظرين السابقين برمتهما، فالقرب
والمصلحة وتكميل الواجب في حديث:
"ما تقرب إليَّ عبدي"، والبعد والمفسدة وخدمة الحرام في حديث: "الحلال بين"؛ فعليك
بالتأمل حتى لا تحتاج إلى الإطالة.
2 مضى تخريجه "ص306"، وهو في "الصحيحين".
ج / 3 ص -541-
فقوله1:
"كالراعي حول الحمى يوشك2 أن يقع
فيه"3
وفي قسم الامتثال قوله:
"وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه"4 الحديث.
والثالث: النظر إلى مقابلة النعمة بالشكران أو بالكفران،
من حيث كان امتثال الأوامر واجتناب النواهي شكرانا على
الإطلاق، وكان خلاف ذلك كفرانا على الإطلاق، فإذا كانت
النعمة على العبد ممدودة من العرش إلى الفرش بحسب الارتباط
الحكمي وما دل عليه قوله تعالى:
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13].
وقوله:
{اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ
رِزْقًا لَكُمْ...} إلى قوله:
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ
الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32-34].
وأشباه ذلك.
فتصريف النعمة في مقتضى الأمر شكران لكل نعمة وصلت إليك،
أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إما أن يكون خبره محذوفًا يدل عليه سابق الكلام كما
أشرنا إليه، وإما أن يكون الأصل هكذا: "إلى آخر قوله"،
والأول غير مألوف في تأليفه". "د".
2 أي: فكثيرًا ما يكون عدم الورع بارتكاب المشتبه فيه سببا
للوقوع في محرم، حيث يكون المشتبه فيه؛ إما مكروهًا، أو
خلاف الأولى فقط. "د".
3 قطعة من حديث النعمان بن بشير، المتقدم "ص306"، وهو في
"الصحيحين".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب التواضع،
11/ 340-341/ رقم 6502"، وغيره عن أبي هريرة ضمن حديث
إلهي.
قال "د": "فأنت ترى النوافل كملت الفرائض حتى أوصلت العبد
إلى هذه الدرجة محبة الله وما تفرع عليها".
ج / 3 ص -542-
كانت
سببًا في وصولها إليك، والأسباب الموصلة ذلك إليك لا تختص
بسبب دون سبب ولا خادم دون خادم؛ فحصل شكر النعم التي في
السماوات والأرض وما بينهما وتصريفها في مخالفة الأمر
كفران لكل نعمة وصلت إليك أو كانت سببًا فيها كذلك أيضًا.
وهذا النظر ذكره الغزالي في "الإحياء"1، وهو يقتضي أن لا
فرق بين أمر وأمر ولا [بين] نهي ونهي؛ فامتثال كل أمر
شكران على الإطلاق، ومخالفة كل أمر كفران على الإطلاق، ثم
أوجه أخر يكفي منها ما2 ذكر، وهذا النظر3 راجع إلى مجرد
اصطلاح لا إلى معنى يختلف فيه؛ إذ لا ينكر أصحاب هذا النظر
انقسام الأوامر والنواهي كما يقوله4 الجمهور بحسب التصور5
النظري، وإنما أخذوا في نمط آخر، وهو أنه لا يليق بمن يقال
له:
{وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] أن يقوم بغير التعبد وبذل المجهود في التوجه إلى
الواحد المعبود، وإنما النظر في مراتب الأوامر والنواهي
يشبه الميل إلى مساحة العبد لسيده في طلب حقوقه، وهذا غير
لائق بمن لا يملك لنفسه شيئًا في6 الدنيا ولا في الآخرة؛
إذ ليس للعبد حق على السيد من حيث هو عبد، بل عليه بذل
المجهود، والرب يفعل ما يريد.
فصل
ويقتضي هذا النظر التوبة عن كل مخالفة تحصل بترك المأمور
به أو فعل المنهي عنه، فإنه إذا ثبت أن مخالفة الشارع
قبيحة شرعًا؛ ثبت أن المخالف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "4/ 88".
2 في "ط": "لما".
3 أي: الذي بنى عليه هذه المسألة كلها وهو الاعتبار
الصوفي. "د".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "يقول".
5 أو كما قال في صدر المسألة: "بحسب تفاوت المصالح الناشئة
عن امتثال الأوامر". "د".
6 في "د": "لا في...".
ج / 3 ص -543-
مطلوب
بالتوبة عن تلك المخالفة، من حيث هي مخالفة الأمر1 أو
النهي، أو من حيث ناقضت التقرب، أو من حيث ناقضت وضع
المصالح، أو من حيث كانت كفرانًا للنعمة.
ويندرج هنا المباح على طريقة هؤلاء من حيث جرى عندهم مجرى
الرخص، ومذهبهم الأخذ بالعزائم، وقد تقدم أن الأولى ترك
الرخص فيما استطاع المكلف؛ فيحصل من ذلك أن العمل بالمباح
مرجوح على ذلك الوجه، وإذا كان مرجوحا؛ فالراجح الأخذ بما
يضاده من المأمورات، وترك شيء من المأمورات مع الاستطاعة
مخالفة؛ فالنزول إلى المباح على هذا الوجه مخالفة2 في
الجملة، وإن لم تكن مخالفة في الحقيقة.
وبهذا التقرير يتبين معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم سبعين
مرة".3
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المناسب للطريق الأول في كلامه أن يقول: "مخالفة الأمر
والنهي"، كما يناسب أن يزيد بعد قوله: "ناقضت وضع
المصالح"؛ فيقول: "أو من حيث لم يأتِ بالفرائض على كمالها
المطلوب" ليكون تفريعًا على الشق الثاني من الاعتبار
الثاني من الطريق الثاني". "د".
2 أي: فيحتاج هذا المباح إلى التوبة. "د". وفي "ط": "الوجه
مخالف".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الدعوات: باب استغفار
النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة، 11/ 101/ رقم
6307" عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ:
"والله؛ إني
لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".
وأخرجه بلفظ المصنف النسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم
431" عن أبي هريرة مرفوعًا، وفي آخره
"مائة مرة".
وأخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب استحباب
الاستغفار والاستكثار منه، 4/ 2075-2076" عن ابن عمر
مرفوعًا بلفظ:
"يا أيها الناس! توبوا إلى الله؛ فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة".
ج / 3 ص -544-
وقوله: "إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله" الحديث1.
ويشمله عموم قوله تعالى:
{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا
الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31].
ولأجله أيضًا جعل الصوفية بعض مراتب الكمال إذا اقتصر
السالك عليها دون ما فوقها نقصًا وحرمانًا؛ فإن ما تقتضيه
المرتبة العليا فوق ما تقضيه المرتبة التي دونها، والعاقل
لا يرضى بالدون، ولذلك أمر بالاستباق إلى الخيرات مطلقًا،
وقسم المكلفون إلى أصحاب اليمين [وأصحاب الشمال والسابقين،
وإن كان السابقون من أصحاب اليمين]2، وقال تعالى:
{فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ3،
فَرَوْحٌ
وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ
أَصْحَابِ الْيَمِينِ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب استحباب
الاستغفار والاستكثار منة، 4/ 2075" عن الأغر المزني
مرفوعًا: "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم
مائة مرة".
وأخرجه من حديثه أيضًا أحمد في "المسند" "4/ 260"، وأبو
داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب في الاستغفار، رقم
1515"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 442"،
والطبراني في "الكبير" "رقم 888، 889".
ومعنى "ليغان" ما قاله "ف": "أي: ليغطى عليه، من قولهم:
غين على الرجل كذا أي: غطى عليه".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من "ف" و"ط" و"م"، وسقط من
الأصل و"د".
3 أي: وهم السابقون كما قال في أول السورة:
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10-11]؛ فالمقربون لهم روح وريحان وجنة نعيم، ولم نضف
مثل ذلك لأصحاب اليمين، وإنما اضاف إليهم السلامة من
العذاب من جهة أنهم من أصحاب اليمين؛ فدل على تفاوت مراتب
الكمال وفضل السابقين المقربين مع أن الكل من أصحاب
اليمين، هذا بالنظر للآية التي جمع فيها أصحاب اليمين مع
السابقين الذين هم المقربون، وإن كان أسند في أول السورة
إلى أصحاب اليمين أنهم:
{فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة: 28-29] إلى آخر النعم التي أعدها لهم. "د".
ج / 3 ص -545-
الآية:
[الواقعة: 88-89]؛ فكان من شأنهم أن يتجاروا في ميدان1
الفضائل، حتى يعدوا من لم يكن في ازدياد ناقصًا، ومن لم
يعمر أنفاسه بطالًا2.
وهذا مجال لا مقال فيه، وعليه أيضًا نبه حديث الندامة يوم
القيامة3،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "ميزان"، وفي "ط": "يتجاوزوا في الميدان".
2 في الأصل: "باطلًا".
3 أخرج الترمذي في "جامعه" "أبواب الزهد، باب منه، 4/
603-604/ رقم 2403"، وابن عدي في "الكامل" "7/ 2660"،
والدارمي في "السنن" "رقم 11"، وابن الشجري في "الأمالي"
"2/ 35"، والبغوي في "التفسير" "4/ 247"، وأبو نعيم في
"الحلية" "8/ 178" بإسناد ضعيف فيه يحيى بن عبيد الله عن
أبي هريرة مرفوعًا:
"ما من
أحد يموت إلا ندم؛ إن كان محسنًا ندم ألا يكون ازداد، وإن
كان مسيئًا ندم ألا يكون نزع"، قال "د": "وبتطبيقه على عبارته تجد تفاوتا في المعنى؛ فالحديث فيه
الندم لكل شخص عند موته، وأما كون ذلك يوم القيامة للجميع
دفعة؛ فيحتاج إلى دليل غير هذا الحديث، وأيضًا معنى "نزع"
غير معنى "أحسن"؛ فلعله اطلع على غير هذا الحديث، أما
الأخذ بالمعنى في هذا؛ فلا يصح الجواب به لأنه يشترط فيه
اتحاد المعنى وإن لم يكن مستوفيًا لجميع مضمون الحديث، ومع
ذلك؛ فحديث الترمذي بنفسه كاف في غرضه".
قلت: حسرة أهل النار يوم القيامة ثابتة واردة في القرآن،
أما أهل الجنة؛ فورد في ذلك أحاديث مرفوعة، أصرحها ما
أخرجه الخطيب البغدادي في "تالي التلخيص" "رقم 164 –
بتحقيقي" بسنده إلى معاذ بن جبل رفعه: "ما يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت لم يذكروا الله فيها".
وإسناده ساقط، فيه عبد الله بن الحسين المصيصي، قال ابن
حبان: "يسرق الأخبار ويقلبها، لا يحتج بما انفرد به".
وأصحها ما أخرجه أحمد "2/ 463"، وابن حبان "2322 – موارد"
عن أبي هريرة مرفوعًا:
"ما قعد
قوم مقعدًا لا يذكرون الله عز وجل ويصلون على النبي صلى
الله عليه وسلم؛ إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة، وإن
دخلوا الجنة للثواب"،
وإسناده صحيح.
وأخرج نحوه أبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" "321"،
والنسائي في "الكبرى" –كما في "تحفة الأشراف" "3/ 349"،
والقاضي إسماعيل في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه
وسلم" "55" عن أبي سعيد الخدري، وتمام التخريج تجده في
تعليقي على "جلاء الأفهام" لابن القيم.
ج / 3 ص -546-
حيث
تعم الخلائق كلهم؛ فيندم المسيء أن لا يكون قد أحسن،
والمحسن أن لا يكون قد ازداد إحسانًا.
فإن قيل: هذا إثبات للنقص في مراتب الكمال، وقد تقدم أن
مراتب الكمال لا نقص فيها.
فالجواب: أنه ليس بإثبات نقص على الإطلاق، وإنما هو إثبات
راجح وأرجح، وهذا موجود.
وقد ثبت أن الجنة مائة درجة1، ولا شك في تفاوتها2 في
الأكملية والأرجحية، وقال الله تعالى:
{تِلْكَ
الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُم}
[البقرة: 253].
[وقال:
{فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْض}
[الإسراء: 55]3.
ومعلوم أن لا نقص في مراتب النبوة؛ إلا أن المسارعة في
الخيرات تقتضي المطالبة بأقصى المراتب بحسب الإمكان عادة،
فلا يليق بصاحبها الاقتصار على مرتبة دون ما فوقها؛ فلذلك
قد تستنقص النفوس الإقامة ببعض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الجهاد، باب درجات
المجاهدين في سبيل الله، 6/ 11/ رقم 2790، وكتاب التوحيد،
باب
{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}، 13/ 404/ رقم 7423" ضمن حديث طويل عن أبي هريرة، فيه: "إن في
الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما
بين الدرجتين كما بين السماء والأرض...".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في
صفة الجنة وأنها مخلوقة، 6/ 320/ رقم 3256"، ومسلم في
"صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب ترائي أهل
الجنة أهل الغرف كما يُرى الكوكب في السماء، 4/ 2177/ رقم
2831" عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا:
"إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من
الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم".
3 سقط من "ط".
ج / 3 ص -547-
المراتب مع إمكان الرقي، وتتحسر إذا رأت شفوف1 ما فوقها
عليها، كما يتحسر أصحاب النقص حقيقة إذا رأوا مراتب
الكمال؛ كالكفار، وأصحاب الكبائر من المسلمين، وما أشبه
ذلك.
ولما فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين دور الأنصار
وقال:
"في كل دور الأنصار خير"2. قال سعد بن عبادة: يا رسول الله! خُيِّر دور الأنصار فجُعِلنا3
آخرًا. فقال:
"أو ليس بحسبكم
أن تكونوا من الخيار؟"4.
وفي حديث آخر:
"قد فضلكم على
كثير"5.
فهذا يشير إلى رتب الكمال تجتمع في مطلق الكمال، وإن كان
لها مراتب أيضًا؛ فلا تعارض بينهما، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فضل ما فوقها عليها زيادة ما هو فيه من نعمة وخير.
"ف".
2 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" في مواطن كثيرة،
منها "كتاب مناقب الأنصار، باب فضل دور الأنصار، 7/ 115/
رقم 3789، 3790"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة،
باب في خير دور الأنصار رضي الله عنهم، 4/ 1949-1950/ رقم
2511" عن أبي سعيد الساعدي رضي الله عنه مرفوعًا.
وفي الباب عن أبي حميد كما سيأتي قريبًا. وفي "ط": "وفي
كل...".
3 الرواية كما في البخاري في مناقب الأنصار بصيغة المبني
للمجهول في خير وجعل، وهذا هو ما يقتضيه سياق الكلام، لا
بصيغة الأمر كما في أصل النسخة؛ أي: فمع أنهم من الخيار لم
يقنعوا بذلك، ولم يرضوا بمرتبة دون ما فوقها، وبهذا صح
الاستدلال به على فضل تطلب المراتب العالية. "د". وفي هذا
رد على "ف" حيث قال: "ولعله واجعلنا" طلب المفاضلة، ولو
بجعله آخرًا". وضبط ناسخ "ط": "خير" بفتح الخاء المعجمة،
وسكون الياء آخر الحروف.
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب فضل
دور الأنصار، 7/ 115/ رقم 3791"عن أبي حميد الساعدي به.
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مناقب الأنصار، باب فضل
دور الأنصار، 7/ 115/ رقم 3789" عن أبي أسيد مرفوعًا، وهو
قطعة من الحديث قبل السابق.
ج / 3 ص -548-
وقد
يقال: إن قول من قال: "حسنات الأبرار سيئات المقربين"1
راجع2 إلى هذا المعنى، وهو ظاهر [فيه]3، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته "التوبة" "ص45" بعد
كلام: "وبهذا يعرف قول من قال: "حسنات الأبرار سيئات
المقربين"، مع أن هذا اللفظ ليس محفوظًا عمن قوله حجة؛ لا
عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من سلف الأمة
وأئمتها، وإنما هو كلام وله معنى صحيح، وقد يحمل على معنى
فاسد.
أما معناه الصحيح؛ فوجهان:
أحدهما: أن الأبرار يقتصرون على أداء الواجبات وترك
المحرمات، وهذا الاقتصار سيئة في طريق المقربين، ومعنى
كونه سيئة أن يخرج صاحبه عن مقام المقربين؛ فيحرم درجاتهم،
وذلك مما يسوء من يريد أن يكون من المقربين؛ فكل من أحب
شيئًا وطلبه إذا فاته محبوبه ومطلوبه ساءه ذلك؛ فالمقربون
يتوبون من الاقتصار على الواجبات، لا يتوبون من نفس
الحسنات التي يعمل مثلها الأبرار، بل يتوبون من الاقتصار
عليها، وفرق بين التوبة من فعل الحسن وبين التوبة من ترك
الأحسن والاقتصار على الحسن.
الثاني: أن العبد قد يؤمر بفعل يكون حسنًا منه؛ إما
واجبًا، وإما مستحبًّا لأن ذلك مبلغ علمه وقدرته، ومن يكون
أعلم منه وأقدر لا يؤمر بذلك، بل يؤمر بما هو أعلى منه،
فلو فعل هذا ما فعله الأول كان ذلك سيئة"، ثم قال بعد أن
ذكر أمثلة:
"وأما المعنى الفاسد؛ فأن يظن الظان أن الحسنات التي أمر
الله بها أمرًا عاما يدخل فيه الأبرار ويكون سيئات
للمقربين، مثل من يظن أن الصلوات الخمس ومحبة الله ورسوله
والتوكل على الله وإخلاص الدين لله ونحو ذلك هي سيئات في
حق المقربين؛ فهذا قول فاسد غلا فيه قوم من الزنادقة
المنافقين المنتسبين إلى العلماء والعباد؛ فزعموا أنهم
يصلون إلى مقام المقربين الذي لا يؤمرون فيه بما يؤمر به
عموم المؤمنين من الواجبات، ولا يحرم عليهم ما يحرم على
عموم المؤمنين من المحرمات؛ كالزنا، والخمر، والميسر،
وكذلك زعم قوم في أحوال القلوب التي يؤمر بها جميع
المؤمنين أن المقربين لا تكون هذه حسنات في حقهم، وكلا
هذين من أخبث الأقوال وأفسدها".
2 أي: يعتبرها المقربون سيئات لنقص رتبتها عن مراتب فوقها،
وهو من هذا الباب. "د".
3 سقط من "ط".
ج / 3 ص -549-
المسألة السابعة عشرة:
تقدم أن من
الحقوق المطلوبة ما هو حق1 لله [وما هو حق للعباد وأن ما
هو حق للعباد ففيه حق لله]2 كما أن ما هو حق لله فهو راجع
إلى العباد وعلى ذلك يقع التفريع هنا بحول الله؛ فنقول:
الأوامر والنواهي يمكن أخذها امتثالا من جهة ما هي حق لله
تعالى مجردا3 عن النظر في غير ذلك، ويمكن أخذها من جهة ما
تعلقت بها حقوق العباد، ومعنى ذلك أن المكلف إذا سمع مثلًا
بقول الله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]؛ فلامتثاله هذا الأمر مأخذان:
أحدهما: وهو المشهور المتداول أن ينظر في نفسه بالنسبة إلى
[قدرته على] قطع الطريق، وإلى زاد يبلغه، وإلى مركوب
يستعين به، وإلى الطريق إن كان مخوفا أو مأمونا، وإلى
استعانته بالرفقة والصحبة لمشقة الوحدة وغررها4، وإلى غير
ذلك من الأمور التي تعود عليه في قصده بالمصلحة الدنيوية
أو بالمفسدة، فإذا حصلت له أسباب السفر وشروطه العاديات؛
انتهض للامتثال،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: صرف، والله غني عنه؛ فهو راجع إلى مصلحة العباد دنيا
أو أخرى، وهو العبادات والتحليل والتحريم وحفظ الضروريات
الخمس وغير ذلك، ومنها ما كان حقا لله والعبد، ولكن حق
الله مغلب؛ كحفظ النفس؛ إذ ليس للعبد إسلام نفسه للقتل،
والثالث ما اشترك فيه الحقان، وحق العبد مغلب؛ كالعتق
للعبد مثلا، هذا ولكنه في التفريع أجمل، ومع كونه أطلق في
العبادات أنها حق الله؛ فإنه هنا جعل شروط الوجوب من حق
المكلف، وهذا معقول. "د".
2 سقط من "ط".
3 أي: فلا يعتبر حق العبد مطلقًا بجانب حق الله، بل كأنه
ليس للعبد حق أصلًا، ولا يقال: إنه تتعارض الأوامر التعلقة
بحق الله تعالى حينئذ مع الأوامر المتعلقة بحق العبد؛ لأن
هذه تعتبر رخصًا والأولى عزائم، ولا تعارض بينهما. "د".
4 في "د": "وغرورها".
ج / 3 ص -550-
وإن
تعذر عليه ذلك؛ علم أن الخطاب لم ينحتم1 عليه.
والثاني: أن ينظر في نفس ورود الخطاب عليه من الله تعالى،
غافلا ومعرضا2 عما سوى ذلك فينتهض إلى الامتثال كيف أمكنه،
لا يثنه عنه إلا العجز الحالي3 أو الموت آخذا للاستطاعة4
أنها باقية ما بقي من رمقه بقية، وأن الطوارق5 العارضة
والأسباب المخوفة لا توازي عظمة أمر الله فتسقط، أو ليست
بطوارق ولا عوارض في محصول العقد الإيماني، حسبما تقدم في
فصل الأسباب والمسببات من كتاب الأحكام.
وهكذا سائر الأوامر والنواهي.
فأما المأخذ الأول: فجارٍ على اعتبار حقوق العباد؛ لأن ما
يذكره الفقهاء في الاستطاعة المشروطة راجع إليها6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إذا نظر في تحقق شروط الوجوب في نفسه وعدم تحققها
ولم يجدها متحققة، أو بعضها عرف أن الطلب لم ينحتم، يعني:
ولكنه لا يزال متوجهًا بدليل أنه إذا عالج الذهاب للحج
مثلًا حتى أداه صح وكان طاعة، ولا يكون كذلك إلا والطلب
الأصلي متوجه، ويكون عدم إثمه بعدم الفعل رخصة، وإن كانت
بالمعنى الأعم؛ لأن قيام السبب لحكم الوجوب ليس كاملًا.
"د".
2 في "ط": "أو معرضًا".
3 أي: الحاصل بالفعل، لا ما يطرأ في تقديره باعتبار؛ فقد
بعض الشروط والأسباب العادية. "د".
4 هو حال من فاعل ينتهض والمعنى معتبرًا وملاحظا أن
الاستطاعة باقية ما بقي فيه رمق. "ف".
5 لعلها: "الطوارئ" بالهمز؛ فإنها بالقاف من الطرق أو
الطروق وهو القدوم ليلًا مثلًا لا تناسب، وكثيرًا ما تقدمت
في كلامه بالهمز لا بالقاف، وقوله: "أو ليست بطوارئ" نظر
أرقى مما قبله. "د".
6 فكأن الحق لله في هذه العبادة يثبت حتما عند استيفاء
شروطها، فإذا لم تستوفِ؛ كان من حق العباد التخلي عنها.
"د". وفي "ط": "في الاستطاعة راجع في الاستطاعة المشروعة
راجع إليها".
ج / 3 ص -551-
وأما
الثاني؛ فجارٍ على إسقاط اعتبارها، وقد تقدم1 ما يدل على
صحة ذلك الإسقاط، ومن الدليل أيضًا على صحة هذا المأخذ
أشياء:
أحدها: ما جاء في القرآن من الآيات الدالة على أن المطلوب
من العبد التعبد بإطلاق، وأن على الله ضمان الرزق، كان ذلك
مع تعاطي الأسباب أو لا2؛ كقوله تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا
أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ
يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56-57].
[وقوله]3:
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا
نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ
لِلتَّقْوَى}
[طه: 132].
فهذا واضح في أنه إذا تعارض حق الله وحق العباد؛ فالمقدم
حق الله، فإن حقوق العباد مضمونة على الله تعالى، والرزق
من أعظم حقوق العباد؛ فاقتضى الكلام أن من اشتغل4 بعبادة
الله كفاه الله مؤنة الرزق، وإذا ثبت هذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة السابعة من الأسباب، وأن ذلك لصاحب الحال
الذي يغلب عليه أن الأسباب والمسببات بيد الله، وأنه لا
أثر مطلقا لهذه الأسباب، ويغفل عن العادة الموضوعة في
الأسباب. "د".
2 تقدم في المسألة الثانية من الأسباب أن قوله تعالى:
{لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه: 132]، وأمثاله مما ضمن فيه الرزق ليس راجعًا إلى التسبب، بل
إلى الرزق المتسبب فيه، ولو كان المراد التسبب؛ لما طلب
المكلف بتكسب على حال، ولو بجعل اللقمة في الفم أو ازدراع
الحب... إلخ، لكن ذلك باطل باتفاق، وقوله: "فهذا واضح...
إلخ" هو من الخفاء بمكان؛ لأنه أين التعارض في الآيتين،
وأين الترجيح بعد ما قال سابقا: إن ضمان الرزق لا شأن له
بالتسبب كما عرفت؟ وكما سيأتي لنا في الدليل الثالث في
آية:
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ} [طه: 132].
3 سقط من "ط".
4 يعني: دون أن يدخل في الأسباب الموضوعة لذلك، لكن أين
هذا من الآيات ولم يكن في الآيات تعليق؟ ولو ضمنيًّا يقتضي
أن تترك الأسباب رأسًا؛ فيأتي الرزق بمجرد الاشتغال
بالعبادة والواقع والذي تدل عليه الأدلة الشرعية أنه لا
رابطة بين الرزق والإيمان، فضلًا عن سائر الطاعات، =
ج / 3 ص -552-
في
الرزق؛ ثبت في غيره من سائر المصالح المجتلبة والمفاسد
المتوقاة، وذلك لأن الله قادر على الجميع.
وقال تعالى:
{وَإِنْ
يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ
لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ}1 [يونس: 107].
وفي الآية الأخرى:
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ} [الأنعام: 71].
وقال:
{وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}2
[الطلاق: 3] بعد قوله:
{وَمَنْ
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ
مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3].
فمن اشتغل بتقوى الله تعالى؛ فالله كافيه، والآيات في هذا
المعنى كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بل ربما كان الآمر بالعكس، وأن سعة الرزق لغير المؤمنين،
ويدل عليه حديث عمر: "ادع الله أن يوسع على أمتك"، فقال
له:
"أفي شك أنت يابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم..." إلخ، وأما آيه:
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ
حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}
[الطلاق: 2-3]؛ فمحل الجزاء قوله:
{مِنْ حَيْثُ} كما يدل عليه الحديث في قصة رجل أشجع المتقدمة في المسألة الثانية
في الرخص، وسيأتي لنا كلام آخر في الدليل الثالث يتعلق
بهذا المبحث. "د".
1 أي: أيُّ ضر وأيُّ خير أراده لك؟! فليس لغيره دفعه عنك
ولا جلبه إليك، لا يغالبه أحد، هذا ظاهر، ولكنه كلفنا فيما
وضع له أسبابًا بالأخذ فيها وإن لم يكن لها تأثير في
الفعل. "د".
2 نعم، وقد ورد "اعقلها وتوكل"*، و:
"لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح
بطانا"**؛
فالطير التي شبه بها من يتوكل نهاية التوكل تأخذ في
الأسباب فتغدو وتروح؛ فلا منافاة بين التوكل واعتقاد أن
الأسباب لا أثر لها رأسا، وأنه تعالى خالق السبب والمسبب
معًا مع امتثال الأمر بالأخذ في السبب. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* انظر تخريجه "1/ 304".
** انظر تخريجه "1/ 303".
ج / 3 ص -553-
والثاني: ما جاء في السنة من ذلك؛ كقوله صلى الله عليه
وسلم:
"احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إليه في
الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت
فاستعن بالله، جف القلم بما هو كائن، فلو اجتمع الخلق على
أن يعطوك شيئًا لم يكتبه الله لك؛ لم يقدروا عليه، وعلى أن
يمنعوك شيئًا كتبه الله لك؛ لم يقدروا عليه"1
الحديث؛ فهو كله نص في ترك الاعتماد2 على الأسباب، وفي
الاعتماد على الله والأمر بطاعة الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في "الكبير" "11/ 223/ رقم
11560"، والبيهقي في "الأسماء" "رقم 126" من حديث ابن عباس
رضي الله عنه.
وأخرجه من حديث ابن عباس أيضًا بلفظ مقارب: الترمذي في
"الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 667/ 2516"
–قال: "حسن صحيح"- وأحمد في "المسند" "1/ 293، 307"، وأبو
يعلى في "المسند" "4/ 430/ رقم 2556"، والطبراني في
"الدعاء" "رقم 41-43" و"الكبير" "11/ 123/ رقم 11243"،
والحاكم في "المستدرك" "3/ 541، 542"، والآجري في
"الشريعة" "198"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 634"،
وابن السني في "عمل اليوم الليلة" "رقم 427"، والبيهقي في
"الشعب" "1/ 148" و"الآداب" "رقم 1073"، وأبو نعيم في
"الحلية" "1/ 314" من طرق عن ابن عباس، وبعضها فيه ضعف.
قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "1/ 460-461": "وقد
رُوي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه
علي، ومولاه عكرمة، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار،
وعبيد الله بن عبد الله، وعمر مولى غفرة، وابن أبي مليكة،
وغيرهم، وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها
الترمذي، كذا قاله ابن منده وغيره". وانظر: "فتح الباري"
"11/ 492"؛ ففيه شواهد أخرى للحديث، وهو صحيح.
2 ترك الاعتماد على الأسباب ليس تركًا للأسباب؛ لأن
الاعتماد عليها عند المؤمن معناه النظر إليها بأنها إن لم
تكن لا يوجد الله المسبب، كما هو مجرى العادة، وعدم
الاعتماد عليها بهذا المعنى لا ينافي الأخذ بها امتثالًا
للأمر مع إغفال مجرى العادة، كما هو دأب من يغلب عليهم
شهود التوحيد في الأفعال. "د".
ج / 3 ص -554-
وأحاديث الرزق والأجل1؛ كقوله:
"اللهم لا مانع
لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَد منك
الجد"2.
وقال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب في ابن صياد:
"إن يَكُنْهُ؛ فلا تطيقه"3.
وقال:
"جف القلم بما
أنت لاقٍ"4.
وقال:
"لا تسأل
المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها، ولتنكح فإن لها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وغيرهما؛ فالحديثان الأولان فيهما، والباقي في أمور
أخرى تتعلق بالقدر أيضًا. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب الذكر بعد
الصلاة، 2/ 325/ رقم 844، وكتاب الرقاق، باب ما يكره من
قيل وقال، 11/ 306/ رقم 6473" مختصرًا و"كتاب الاعتصام،
باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264/ رقم 7292"، ومسلم في
"صحيحه" "كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة
وبيان صفته، 1/ 414-415/ رقم 593" عن المغيرة بن شعبة رضي
الله عنه مرفوعًا.
قال "ف": "الجَد؛ بالفتح: الغنى والحظ، ومنك معناه عندك،
أي لا ينفع ذا الغنى عندك غناه، وإنما ينفعه عمله بالطاعات
كما قال الله تعالى:
{يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ
بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}
[الشعراء: 89]" ا. هـ.
3 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب
ذكر ابن صياد، 4/ 2240/ رقم 2924" عن عبد الله بن مسعود
بلفظ:
"إن يكن الذي ترى؛ فلن تستطيع قتله".
وأخرجه "4/ 2244/ رقم 2930" عن عمر بلفظ:
"إن يكنه فلن تسلط عليه".
قال "د": "أي: إنه مهما كان لديك من قوة السبب والقدرة على
قتل مثله فلن تقتله؛ لأن ما في قدر الله ليس كذلك".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب ما يكره من
التبتل والخصاء، 9/ 117/ رقم 5076" عن أبي هريرة؛ قال:
قلت: يا رسول الله! إني رجل شاب، وأنا أخاف على نفسي
العنت، ولا أجد ما أتزوج به النساء، فسكت عني، ثم قلت مثل
ذلك، فسكت عني، ثم قلت له مثل ذلك؛ فسكت عني، ثم قلت مثل
ذلك؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"يا أبا
هريرة!..." وذكره.
ج / 3 ص -555-
ما قدر
لها"1.
وقال في العزل:
"ولا
عليكم أن لا تفعلوا؛ فإنه ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا
هي كائنة"2.
وفي الحديث:
"المعصوم من
عصم [الله]3.
وقال:
"إن الله كتب
على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب القدر، باب
{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}، 11/ 494/ رقم 6601"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب تحريم
الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك، 2/ 1033/ رقم
1413" عن أبي هريرة مرفوعًا.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العتق، باب من ملك من
الأعراب رقيقا... 5/ 170/ رقم 2542، وكتاب النكاح، باب
العزل، 9/ 305/ رقم 5210"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النكاح،
باب حكم العزل، 2/ 1061/ رقم 1438" عن أبي سعيد الخدري رضي
الله عنه مرفوعًا".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب القدر، باب المعصوم من
عصم الله، 11-501/ رقم 6611، وكتاب الأحكام، باب بطانة
الإمام وأهل مشورته، 13/ 189/ رقم 7198" عن أبي سعيد
مرفوعًا، ونصه: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفته؛
إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمر بالمعروف وتخضه عليه،
وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه؛ فالمعصوم من عصم الله
تعالي". وأخرجه أحمد في "المسند" "3/ 29، 88" وغيره. وما
بين المعقوفتين سقط من "ط".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الاستئذان، باب زنى
الجوارح دون الفرج، رقم 6243، وكتاب القدر، باب
{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ}، رقم 6612"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القدر القدر، باب قدر على ابن
آدم حظه من الزنى وغيره، 4/ 2046/ رقم 2657" عن أبي هريرة
رضي الله عنه.
قال "د": "وهو وما قبله من الأحاديث التي تذكر في باب
القدر، وهو مقام آخر غير طلب التسبب المطلوب في العبادات
والعادات، ولذلك لما ورد معناها على الصحابة فهموا منها
ترك الأسباب، وقالوا: أفلا نتكل؟ قال عليه الصلاة والسلام:
"اعملوا؛ فكل
ميسر لما خلق له"1، فلماذا
تأتي بها دليلًا على خصوص ترك الأسباب في العادات مع أنها
عامة كما ترى؟ ولو أخذت كذلك؛ لوقف التسبب في الطاعات
أيضًا، وبالجملة؛ فالمأخذان المذكوران غير ظاهرين لأنهما
في مقام آخر لا ينافي الأخذ بالأسباب" "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر تخريجه: "1/ 334".
ج / 3 ص -556-
إلى
سائر ما في هذا المعنى مما هو صريح في أن أصل الأسباب
التسبب، وأنها لا تملك شيئًا، ولا ترد شيئًا، وأن الله هو
المعطي والمانع، وأن طاعة الله هي العزيمة الأولى.
والثالث: ما ثبت من هذا العمل عن الأنبياء صلوات الله
عليهم [وسلامه]1؛ فقدموا طاعة الله على حقوق أنفسهم، فقد
قام عليه الصلاة والسلام حتى تفطرت2 قدماه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من الأصل.
2 الشواهد التي ساقها المؤلف هنا محل بحث، أما قيامه عليه
السلام حتى تفطرت قدماه؛ فإنما يصح أن يكون دليلًا إذا ثبت
أنه في ذلك زاد عما طلب منه حتمًا على وجه الخصوصية في
قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا
قَلِيلًا} [المزمل: 1]، وقوله:
"أفلا أكون عبدا شكورا؟"
جوابا لمن قال له: لِمَ تجهد نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم
وما تأخر؟ لا ينافي أن يكون الشكر بالامتثال، وأما تبليغه
رسالة ربه على خوف من قومه؛ فمعلوم أنه صلى الله عليه وسلم
مأمور بالتبليغ حتمًا،
{قُمْ فَأَنْذِرْ...}
إلى قوله:
{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}
[المدثر: 2-7]، وهذا في أول الأوامر بالتبليغ جاء حتما،
ومثله:
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]، واقترن الأمر الحتم بكفالة التأييد
{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ
الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر: 94-95]،
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ
مِنْ دُونِهِ....}
إلى قوله:
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} [الزمر: 36-37]، وما وصل إليه الأمر بالتبليغ إلا بعد أن ثبته الله
تعالى وطمأنه باطلاعه على باهر قدرته، وعظيم جنده المالئين
للسماوات =
ج / 3 ص -557-
.......................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والأرض، وأن واحدا من الجند كجبريل الذي أراه له قبل
ذلك1 على هيئته الأصلية يستطيع سحق الأرض ومن عليها، بعد
هذا كله جاء له الأمر الحتم بالتبليغ مع قرنه بالتأييد على
ما عرفت، وقد سبق للمؤلف أنه لا ينحصر التسبب في الأسباب
المشهورة، وأنه ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يجد
قوتا أمر أهله بالصلاة"2 أخذا من قوله تعالى:
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ...}
[طه: 132]، وأن ذلك سبب خاص للرزق من باب الكرامة له عليه
السلام وهو يحقق ما قلناه في الدليل الأول؛ فلا تؤخذ الآية
عامة للاستدلال بها على ما يريد؛ فكيف يعد هذا مما نحن
فيه، وأنه مع دواعي خوفه وعدم استكمال الشروط أو الأسباب
بلغ الرسالة؛ لكنه لو قال: إنه في تبليغ الرسالة زاد عما
طلب منه؛ فكان شديد الحرص على إيمان قومه وتلبية دعوته،
وكان يعمل لذلك فوق الجهد والطاقة، ويألم أشد الألم لعدم
مسارعتهم إلى الإيمان وإجابة الدعوة؛ حتى وردت الآيات
لتخفف عنه ما كان يجد مثل:
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]،
{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 99]، وأمثال ذلك، وقد لاحظ صلى الله عليه وسلم أصل الأمر
بالدعوة جادا فيه معرضا عما سوى ذلك، نعم، هذا هو الذي يصح
أن يعد دليلا على مدعاه، وآية:
{وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39] تؤيد ما ذكرنا؛ فإن عدم خشية غيره تعالى ما جاء إلا
من التأييد بالقوة التي عرفوها واطمأنوا إليها مع الوعد
بذلك؛ ألا ترى إلى موسى عليه السلام لما عرضت عليه الرسالة
لفرعون طلب أولا تقويته بهارون الأفصح منه، وأنه يخاف قتله
قصاصا لمن قتله من قوم فرعون، فلما ضم إليه هارون؛ قالا
معا:
{إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه: 45]، فلما سمعا التأييد بقوله تعالى:
{لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] سارعا إلى تنفيذ المطلوب بدون خوف من جند فرعون وصولته،
وقول هود:
{فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ}
[هود: 55] أبلغ دليل على أنه مأمور عالم أنه مؤيد غاية
التأييد؛ فليس مما نحن فيه أيضًا، وإلا لكان إلقاء باليد
إلى التهلكة بدون موجب، وليس هناك فائدة تعود على هداية
قومه التي ندبه الله لها من تسليط أمته بأجمعها على كيده
والفتك به، نعم، إن مسألتي ابن أم مكتوم وجندع بن ضمرة
وأخيه3 مما نحن فيه؛ فإنهم أخذوا بالأمر:
{قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً
كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}
[التوبة: 36] بدون نظر إلى الرخصة في قوله تعالى:
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا
عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}
[الفتح: 17]، وذلك داخل في الرخصة بالإطلاق الأول المشهور؛
إذ أن ذلك جاء بلفظ رفع الحرج أي مع بقاء أصل الطلب متوجها
وإن لم يكن حتما. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما هو ثابت في "صحيح البخاري" "رقم 3232، 4856، 4857"
وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه.
2 انظر تخريجه "1/ 333".
3 سيأتي تفصيل ذلك في كلام المصنف قريبًا.
ج / 3 ص -558-
وقال:
"أفلا أكون عبدا شكورا"1.
وبلغ رسالة ربه على ما كان عليه من الخوف2 [من قومه حين
تمالئوا على إهلاكه]، ولكن الله عصمه وقال الله له:
{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51].
وقال له:
{وَلا
تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأحزاب: 48].
فأمره باطراح ما يتوقاه؛ فإن الله حسبه3.
وقال:
{الَّذِينَ
يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا
يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب
{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا
تَأَخَّرَ}، 8/
584/ رقم 4837"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صفة القيامة
والجنة والنار، 4/ 2172/ رقم 2820" عن عائشة رضي الله
عنها.
وأخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 4836"، ومسلم في "الصحيح"
"رقم 2819" وغيرهما عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
2 لو قال: على ما تراكم حوله من دواعي الخوف من قومه مثلا؛
لكان أليق؛ فسيأتي في وصف الرسل:
{وَلا
يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}
[الأحزاب: 39]، فلم يبلغها وعنده شيء من الخوف. "د". وما
بين المعقوفتين بعدها سقط من "ط".
3 أي: كافيه شرهم وأذاهم؛ كما قال تعالى:
{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]. "ف".
ج / 3 ص -559-
وقال
قبل ذلك:
{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38].
وقال هود عليه السلام لقومه وهو يبلغهم الرسالة:
{فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ
عَلَى اللَّهِ}
الآية [هود: 55-56].
وقال موسى وهارون عليهما السلام:
{رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ
يَطْغَى} [طه:
45].
فقال الله لهما:
{لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46].
وكان عبد الله بن أم مكتوم قد نزل عذره في قوله تعالى:
{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95]، ولكنه كان بعد ذلك يقول: إني أعمى لا أستطيع أن أفر؛
فادفعوا إليَّ اللواء وأقعدوني بين الصفين1. فيترك ما منح
من الرخصة، ويقدم حق الله على حق نفسه.
ورُوي عن جندع2 بن ضمرة أنه كان شيخا كبيرا، فلما أمروا
بالهجرة وشدد عليهم فيها مع علمهم بأن الدين لا حرج فيه،
ولا تكليف بما لا يطاق؛ قال لبنيه: "إني أجد حيلة فلا
أعذر، احملوني على سرير". فحملوه، فمات بالتنعيم وهو يصفق
يمينه على شماله ويقول: "هذا لك وهذا لرسولك"3 الحديث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج نحوه عبد الله بن المبارك في كتابه "الجهاد" "رقم
110"، وفي إسناده ضعف.
2 أوله جيم مضمومة بعدها نون ساكنة، ودال مهملة مفتوحة،
انظر: "الإكمال" "3/ 125"، و"المؤتلف والمختلف" "ص933"
للدارقطني، وفي الأصل: "جندب".
3 أخرج ابن جرير في "التفسير" "5/ 240"، وأبو يعلى في
"المسند" "5/ 81/ رقم 2679" والواحدي في "أسباب النزول"
"132"، وابن أبي حاتم في "التفسير" -كما في "تفسير ابن
كثير" "2/ 372"- وابن منده وعبد الغني بن سعيد في "تفسيره"
-وهو الثقفي، أحد الضعفاء- كما في "الإصابة" "1/ 252-253"
من طريقين عن ابن عباس نحوه، وفي كل منهما ضعف؛ =
ج / 3 ص -560-
وعن
بعض الصحابة أنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنا وأخٌ لي أحدا، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو؛ قلت لأخي
أو قال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل؛
فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جرحًا
منه، فكان إذا غلب حملته عُقْبة1 ومشى عقبة؛ حتى انتهينا
إلى ما انتهى إليه المسلمون.
وفى النقل من هذا النحو كثير، وقد مر منه في فصل الرخص
والعزائم من كتاب الأحكام ما فيه كفاية.
فإن قيل: إن هذه الأدلة إذا وقف معها حسبما تقرر اقتضت
اطراح الأسباب جملة، أعني ما كان منها عائدا إلى مصالح
العباد، وهذا غير صحيح؛ لأن الشارع وضعها وأمر بها،
واستعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه2
والتابعون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ففي أحدهما أشعث بن سوار وعبد الرحمن بن زياد المحاربي
وهما ضعيفان، وفي الأخرى شريك، وهو ضعيف لسوء حفظه.
وأخرجه الفاكهي "4/ 62/ رقم 2382"، والأزرقي "2/ 212"،
كلاهما في "أخبار مكة"، وابن جرير في "التفسير" "5/ 239"،
والبيهقي في "الكبرى" "9/ 14"، وعبد الرزاق في "التفسير"
"1/ 171"، وعبد بن حميد وابن المنذر -كما في "الدر
المنثور" "2/ 208"- بإسناد صحيح إلى عكرمة نحوه.
وأخرجه الفاكهي في "أخبار مكة" "رقم 2384" عن ابن جريج
نحوه، وأخرجه البلاذري والسراج من طريق سعيد بن جبير نحوه؛
كما في "الإصابة" "1/ 252".
فالقصة مدارها على المراسيل، والمرفوع منها ضعيف، وفيها
يذكر سبب نزول قول الله تعالى:
{وَمَنْ
يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا}
[النساء: 100].
وانظر: "تخريج الزيلعي لأحاديث الكشاف" "1/ 352-352".
1 عُقْبة؛ بضم فسكون: النوبة والشوط، وانظر إلى هذه النية
الخالصة والجهاد العظيم رضي الله عنهم، ولذلك كانوا خير
القرون. "ف".
2 في "ط": "والصحابة".
ج / 3 ص -561-
بعده
وهي عمدة ما حافظت عليه الشريعة.
وأيضًا؛ فإن حقوق الله تعالى ليست على وزان واحد في الطلب؛
فمنها ما هو مطلوب حتما كالقواعد الخمس، وسائر الضروريات
المراعاة في كل ملة، ومنها ما ليس بحتم كالمندوبات؛ فكيف
يقال: إن المندوبات مقدمة على غيرها من حقوق العباد، وإن
كانت واجبة؟ هذا [مما] لا يستقيم في النظر.
وأيضًا؛ فالأدلة المعارضة لما تقدم أكثر؛ كقوله تعالى:
{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
وقوله:
{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}1
الآية [البقرة: 197].
وقد كان عليه الصلاة والسلام يستعد الأسباب لمعاشه وسائر
أعماله من جهاد وغيره، ويعمل بمثل ذلك أصحابه، والسنة
الجارية في الخلق الجريان على العادات، وما تقدم لا
يقتضيه2؛ فلا بد من صحة أحدهما، وإن صح بطل الآخر، وليس ما
دللتم عليه بأولى مما دللنا عليه، والترجيح من غير دليل
تحكم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قد يقال: إن هذه الآية على تفسيرها بالنهي عما يؤدي
بالنفس إلى هلاكها لا تصلح دليلا هنا؛ لأن هذا ليس من حقوق
العباد، بل من حق الله تعالى؛ كما تقدم للمؤلف أن حفظ
النفس من حق الله تعالى، وكما قال هنا: "وسائر الضروريات
المراعاة... إلخ"؛ فلا يجوز للشخص أن يسلم نفسه للهلاك،
وكذا يقال في آية:
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ}؛ فإنها وإن كان ظاهرها طلب الأخذ بأسباب حفظ النفس من الأعداء؛ فهي
في الحقيقة طلب إعداد آلة الجهاد في سبيل الله؛ فهو واجب
مكمل لواجب الجهاد الذي هو من حق الله تعالى قطعا. "د".
2 يريد: بل يقتضي خلافه، أما مجرد كونه لا يقتضيه؛ فلا
يقتضي أنه ينافيه ويعارضه حتى يطلب التخلص منه. "د".
ج / 3 ص -562-
فالجواب: أن ما نقدم لا يدل على اطراح الأسباب، بل يدل على
تقديم1 بعض الأسباب خاصة2 -وهى الأسباب التي يقتضيها حق
الله تعالى- على الأسباب التي تقتضيها حقوق العباد، على
وجه اجتهادي شرعي قامت الأدلة عليه؛ فليس بين ذلك وبين
أمره عليه الصلاة والسلام بالأسباب واستعماله لها تعارض،
ودليل ذلك إقراره عليه الصلاة والسلام فعل من اطرحها عند
التعارض، وعمله عليه الصلاة والسلام على اطراحها كذلك في
مواطن كثيرة، وندبه3 إلى ذلك كما تبين في الأحاديث
المتقدمة.
وقد مر في فصل الأسباب من كتاب الأحكام وجه الفقه في هذا
المكان، عند ذكر كيفية الدخول في الأسباب، هذا جواب الأول.
وأما الثاني؛ فإن حقوق الله تعالى على أي وجه فرضت أعظم من
حقوق العباد كيف كانت، وإنما فسح للمكلف في أخذ حقه وطلبه
من باب الرخصة والتوسعة لا من باب عزائم المطالب، وبيان
ذلك في فصل الرخص والعزائم، وإذا كان كذلك؛ فالعزائم أولى
بالتقديم ما لم يعارض معارض.
وأيضًا؛ فإن حقوق الله إن كانت ندبا إنما هي من باب
التحسينيات، [وقد مر أن أصل التحسينيات] خادم للضروريات،
وإنها ربما أدى الإخلال بها إلى الإخلال بالضروريات، وإن
المندوبات بالجزء واجبات بالكل؛ فلأجل هذا كله قد يسبق4
إلى النظر تقديمها على واجبات حقوق العباد، وهو نظر فقهي
صحيح مستقيم في النظر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أن المأخذ الثاني ليس مبينا على إسقاط الأسباب رأسا،
بل إسقاط الأسباب التي تتعلق بحق العبد، والاحتفاظ
بالأسباب المتعلقة بحق الرب؛ فقوله: ليس هناك تعارض؛ أي:
لأن الأمر بها والأخذ لا يقتضي الدلالة على تقديمها حتما
على الأسباب المتعلقة بحق الله تعالى؛ فهذه مقدمة باعتبار
هذا النظر وأدلته. "د".
2 في "ط": "الأسباب على بعض وهي...".
3 في "ط": "وندب".
4 هو كما ترى من الخطابة. "د".
ج / 3 ص -563-
وأما
الثالث؛ فلا معارضة فيه، فإن أدلته لا تدل على تقديم حقوق
العباد على حقوق الله1 أصلا وإذا لم تدل عليها لم يكن
[فيها]2 معارضة أصلا وإلى هذا كله؛ فإن تقديم حقوق العباد
إنما يكون حيث3 يعارض في تقديم حق الله معارض يلزم منه
تضييع حق الله تعالى، فإنه إذا شق عليه الصوم مثلًا لمرضه،
ولكنه صام؛ فشغله ألم المشقة بالصوم عن استيفاء الصلاة على
كمالها، وإدامة الحضور فيها، أو ما أشبه ذلك؛ عادت عليه
المحافظة على تقديم حق الله إلى الإخلال بحقه، فلم يكن له
ذلك، فأما إن لم يكن كذلك؛ فليس تقديم حق الله على حق
العبد بنكير ألبتة، بل هو الأحق على الإطلاق، وهذا فقه في
المسألة حسن جدًّا4، وبالله التوفيق.
فصل
واعلم أن ما تقدم من تأخير حقوق العباد إنما هو فيما5 يرجع
إلى نفس المكلف لا إلى غيره، أما ما كان من حق غيره من
العباد؛ فهو بالنسبة إليه من حقوق الله تعالى، وقد تبين
هذا في موضعه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ف" و"ط": "حقوق الله على حقوق العباد" بتقديم
وتأخير، وهو خطأ.
وفي هذا الموضع من حاشية الأصل قال المحشي: "يعني أن
الأدلة السابقة تدل على جواز اطراح حظ العبد وتقديم حد
الله، وأن الجواز ليس بمستوي الطرفين، بل تقديم حق الله
أولى، وأدلة حقوق العباد تدل على جواز مراعاة حظ العبد،
وهذا لا ينافي الأول؛ فلا تعارضها، وبالجملة؛ فأدلة
الجانبين متفقة على الجواز، وتزيد الجانب الأول؛ فإن
الأولى والأرجح تقديم حق الله، وهذا واضح جدًّا في عدم
التعارض؛ فتأمل".
2 سقط من "ط".
3 وفي الحقيقة يرجع إلى تقديم حق الله تعالى. "د".
4 نعم، فقه حسن، ولكن هذه المسألة ينقصها بسط التفريع على
مسألة الحقوق كما أشرنا إليه، كما ينقصها أكثر من هذا
تحرير الأدلة وإحكامها، كما تعودناه من المؤلف رحمه الله.
"د".
5 في "ط": "مما".
ج / 3 ص -564-
المسألة الثامنة عشرة:
الأمر والنهي يتواردان على الفعل وأحدهما راجع إلى جهة
الأصل1، والآخر راجع إلى جهة التعاون، [هل يعتبر الأصل أو
جهة التعاون]2؟ أما اعتبارهما معا من جهة واحدة؛ فلا يصح3،
ولا بد من التفصيل؛ فالأمر إما أن يرجع إلى جهة الأصل أو
التعاون.
فإن كان الأول4؛ فحاصله راجع5 إلى قاعدة سد الذرائع؛ فإنه
منع الجائز6، لئلا يتوسل به إلى الممنوع، وقد مر ما فيه7،
وحاصل الخلاف فيه أنه يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: اعتبار الأصل؛ إذ هو الطريق المنضبط، والقانون
المطرد.
والثاني: اعتبار جهة التعاون؛ فإن اعتبار الأصل مؤدٍ إلى
المآل8
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو إقامة الضروري أو الحاجي، وقوله إلى جهة التعاون؛
أي: بأن يكون الفعل في ذاته غير مطلوب، ولكن يتوصل به إلى
المطلوب. "ف".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 لأنه يؤدي إلى تكليف ما لا يطاق وقوعًا، مع الاتفاق على
عدمه. "د".
4 ومثاله مشتري الأغذية من الأسواق لاحتكارها؛ فأصل الشراء
مأذون فيه لكسب المعاش، ولكنه قد يؤدي إلى التضييق على
الجمهور، والاحتكار ممنوع إذا أدى إلى ذلك كما رواه مالك*
عن عمر؛ قال: "لا حكرة في سوقنا..." الحديث. "د".
5 فمنهم من يعملها مطردة فيمنع الأصل كمالك، ومنهم من
يخصها بمواضع قد يكون منها هذا وقد لا يكون، وقوله: "فإنه
منع الجائز" مبني على إعمالها. "د".
6 أي: المأذون فيه؛ لأن الموضوع الأمر. "د".
7 وأنه متفق عليه في الجملة، وأنه حصل اختلاف في بعض
التفاصيل. "د".
8 كذا في "ط"، وفي غيره: "الملال"، وكتب "د": "صوابه:
"المآل" كما يعينه المقام =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "الموطأ" "404 - رواية يحيى و2/ 356/ رقم 2598 -
وراية أبي مصعب".
ج / 3 ص -565-
...................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولاحق الكلام، أو كما سيأتي في المسألة العاشرة من كتاب
الاجتهاد.
وتلخيص المسألة أنه إذا ورد أمر ونهي على فعل باعتبارين:
اعتبار أصله وذاته بقطع النظر عما يؤول إليه ويترتب عليه،
ويعين هو عليه واعتبار المآل والتعاون، وكان أصل الفعل من
الضروريات أو الحاجيات؛ فإما أن يرد الأمر على أصله والنهي
على ما يؤدي إليه، أو بالعكس.
فإن كان الأول؛ ففيه خلاف:
1- اعتبار الأصل وقطع النظر عما يؤول إليه، ووجهه أن الأصل
هو المطرد والمنضبط.
2 اعتبار جهة التعاون والمآل لأن اعتبار الأصل وقطع النظر
عن المآل يؤدي إلى هذا المآل المنهي عنه، وأيضًا يفتح باب
الحيل لأن الحيل مبنية على أن يكون الشيء مستوفيا في ذاته
شرائط الحل ولو صورة، ويقطع فيها النظر عما يؤول إليه من
المفسدة الشرعية المنهي عنها، كما هو معروف في مثل حيل
العقود المؤدية إلى الربا، فإن ظاهرها الحل باعتبار ذاتها
وإن أدت إلى الربا.
3- التفصيل، إن غلبت جهة التعاون الممنوعة روعي الأصل؛
لأنه إن لم يراع بطل العمل بالأصل المأذون فيه، وهو ضروري
أو حاجي؛ فيؤدي إلى تكليف ما لا يطاق أو إلى الحرج
-ويساعده ما تقدم في الفصل الأول من المسألة الخامسة عشرة؛
فراجعة برمته- وإن لم تغلب؛ فالاجتهاد.
وإن كان الثاني وهو توجه النهي إلى الأصل والطلب إلى
التعاون؛ فالحكم اعتبار النهي الذي في الأصل لئلا يؤدي إلى
إلغاء النهي، والتوسل بالممنوع شرعا إلى مطلوب ضعيف
استحساني وهو من جهة التعاون؛ كالمثل الذي ذكره المؤلف:
"يسرق ليتصدق"، وهو باطل: "ليتها لم تزن ولم تتصدق"، ومحل
اعتبار النهي ما لم يكن فيه معارضة مصلحة الخاصة مع مصلحة
العامة؛ فتقدم المصلحة العامة، وذلك كتلقي الركبان؛ فإنه
ضروري أو حاجي لكسب الشخص لعياله، وإهمال هذا الكسب وتركه
منهي عنه، ولكنه يؤدي إلى مصلحة العامة، حيث يشترون من
السوق حاجاتهم بدون تعنت الوسيط الذي يرفع الأثمان؛ فهو
منهي عنه، يؤدي إلى مطلوب هو إرفاق العامة؛ فقدمت مصلحة
العامة، ومثله بيع الحاضر للبادي هو من الضروري أو الحاجي،
وهو نصح مطلوب، وتركه منهي عنه، لكن هذا الترك فيه "تعاون
ورفق بأهل الحضر؛ لأن البدوي يبيع لهم حسبما يفهم هو في
الأسعار، ولكن الحاضر إذا باع له يقف على الأسعار الجارية
في الحضر، وفيه تضييق عليهم؛ فألغي النهي عن ترك النصح،
وروعي المطلوب وهو التعاون رفقا بالحضر، وتقديما للمصلحة =
ج / 3 ص -566-
الممنوع، والأشياء إنما تحل وتحرم بمآلاتها، ولأنه فتح باب
الحيل1.
والثالث: التفصيل؛ فلا يخلو أن تكون جهة التعاون غالبة أو
لا، فإن كانت غالبة؛ فاعتبار الأصل واجب؛ إذ لو اعتبر
الغالب هنا لأدى إلى انخرام الأصل جملة، وهو باطل وإن لم
تكن غالبة؛ فالاجتهاد.
وإن كان الثاني؛ فظاهره شنيع لأنه إلغاء لجهة النهي2
ليتوصل إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= العامة، وكذا تضمين الصناع -والصانع أمين كالوكيل،
والمودع بالفتح- وأصل الحكم إلى الضمان فيما بأيديهم
للناس، وجعلهم ضامنين منهي عنهن حفظا لحقوقهم، لكنه يؤدي
إلى مصلحة عامة المسلمين؛ فألغى النهي في الأصل، وروعي
جانب التعاون والمآل، وهو المصلحة العامة لأنه نزل منزلة
الضروري والحاجي.
هذا وباب الحكم على الخاصة لأجل العامة واسع، ومنه نزع
الملكية الخاصة للمنافع العامة، ومنه ما وقع في زمن معاوية
رضي الله عنه من نقل قتلى أحد من مقابرهم إلى جهة أخرى
لإجراء العين الجارية بحانب أحد، وكان ذلك بمحضر الصحابة
ولم ينكروا عليه، وقد يكون منه تشريح جثث الأموات لفائدة
طب الأحياء، إلى غير ذلك، وبهذا التلخيص تعلم ما كتبه
بعضهم هنا".
قلت: يعني بذلك "ف" حيث قال هنا: "فتحتاج النفس إلى ما
ينشطها بفعل ما ليس بمطلوب لتستعين به على الفعل المطلوب"
انتهى.
وانظر في تلقي الركبان وبيع الحاضر للبادي: "بداية
المجتهد" "2/ 138"، و"فتح القدير" "6/ 106"، وانظر في نزع
الملكية الخاصة: "الاختيار شرح المختار" "3/ 483-484"،
و"المدخل الفقهي" "1/ 227"، وانظر في التشريح: "شفاء
التباريح والأدواء" لليعقوبي، و"أحكام الجراحة الطبية"
"ص169 وما بعدها" للشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي،
و"أبحاث هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية" "2/
5-70".
1 لأن الحاجة إلى الخروج عما في التزامه مشقة تستوجب البحث
عن الحيلة للتخلص منه كما يقال: "الحاجة تفتق الحلية".
"ف".
2 إذ لا أثر له حينئذ، وظاهره طلب المنهي عنه ليتوصل به
إلى المأمور به، وهو شنيع، ولكنه قد يصح إذا كان في المنهي
عنه ما في المأمور به، فينزل منزلته ويترجح عليه كما في
منع تلقي الركبان، وهم التجار الذين يجلبون البضائع لمنفعة
العامة؛ فإنه مأمور به لأجل منفعة أهل السوق ومنهي عنه
لأنه من باب منع الارتفاق المطلوب، ورجح الجانب الأول لأنه
من باب الحكم على الخاصة لأجل العامة كما قال؛ فتدبر. "ف".
وفي "ط": "النهي للتوصل إلى...".
ج / 3 ص -567-
المأمور به تعاونا، وطريق التعاون متأخر في الاعتبار عن
طريق إقامة الضروري والحاجي لأنه تكميلي، وما هو إلا
بمثابة الغاصب والسارق ليتصدق بذلك على المساكين أو يبني
قنطرة، ولكنه صحيح إذا نزل منزلته، وهو أن يكون من باب
الحكم على الخاصة لأجل العامة، كالمنع من تلقي الركبان1؛
فإن منعه في الأصل ممنوع؛ إذ هو من باب منع الارتفاق وأصله
ضروري أو حاجي لأجل أهل السوق، ومنع بيع الحاضر للبادي2
لأنه في الأصل منع من النصيحة؛ إلا أنه إرفاق لأهل الحضر،
وتضمين الصناع قد يكون من هذا القبيل، وله نظائر كثيرة؛
فإن جهة التعاون هنا أقوى.
وقد أشار الصحابة على الصديق؛ إذ قدموه خليفة بترك التجارة
والقيام بالتحرف على العيال3 لأجل ما هو أعم في التعاون،
وهو القيام بمصالح المسلمين، وعوضه4 من ذلك في بيت المال،
وهذا5 النوع صحيح كما تفسر، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب هل يبيع حاضر
لبادٍ بغير أجر، 4/ 370/ رقم 2158"، ومسلم في "صحيحه"
"كتاب البيوع، باب تحريم بيع الحاضر للبادي، 3/ 1157/ رقم
1521" عن ابن عباس؛ قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن تتلقى الركبان، وأن يبيع حاضر لبادٍ، فقلت لابن
عباس: ما قوله حاضر لبادٍ؟ قال: لا يكون له سمسارًا". وفي
الباب عن غيره.
2 انظر الحديث المتقدم.
3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 184-185"، ووكيع
في "أخبار القضاة" "1/ 104"، والبلاذري في "أنساب الأشراف"
"ص44-45 الشيخان أبو بكر وعمر وولدهما"، والمحب الطبري في
"الرياض النضرة" "1/ 202، 252" من طرق به.
4 في الأصل و"ط": "عوضوه".
5 في "ط": "فهذا". |