الواضح في أصول الفقه الوَاضِح في أصُولِ الفِقه
تأليف
أبي الوَفاء عَلي بن عَقيل بن مُحمَّد بن عَقيل
البَغدادي الحَنبلي (513 هـ)
تحقيق
الدكتور عَبد الله بن عَبد المُحسن التركي
وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
مؤسسة الرسالة
(/)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(مقدمة/2)
الوَاضِح في أصُولِ الفِقه
(مقدمة/3)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
جَميع الحقُوق مَحفوظة للناشِر
الطبعة الأولى
1420 هـ - 1999 م
مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
وطى المصيطبة - شارع حبيب أبي شهلا - بنايه المسكن، بيروت -
لبنان
تلفاكس: 319039 - 815112
فاكس 603243 ص. ب: 117460
AL- Resalah PUBLISHERS
BEIRUT/LEBNON - Telefax: 815112 -
319039
fax: 603243 - P.O.Box: 117460
Email: Resalah@Cyberia.net.lb
(مقدمة/4)
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوبُ إليه، ونعوذُ
بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا
مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً
عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ
مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ
الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا
قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70
- 71].
أما بعد: فإن كتاب "الواضح في أصول الفقه" لأبي الوفاء عليِّ
بن عقيل بن محمد البغدادي الحنبلي- رحمه الله تعالى- يُعدُّ
بحقٍّ من أمهاتِ كتب الأصول على وجه العموم، وكُتُب أصول
الحنابلة على وجه الخصوص، فهو يأتي من حيث القدم في المرتبة
الثانية بعد كتاب "العُدَّةِ" لشيخه القاضي أبي يعلى محمد بن
الحسين ابن الفرَّاء، حيث استفاد ابن عقيل مما في كتاب شيخه،
وأضاف إليه الكثير من غزير علمه وواسع معرفته.
لقد انتهج ابنُ عقيل الاستقصاء في إيراد الأقوال، وذِكرِ
الاراء والاعتراضات الواردة عليها، ومناقشتها، والاستدلال على
ما يراه راجحاً بالأدلة الشرعية، والتصدي للردِّ على أقوال
الطوائف المنحرفة، كَالخوارج،
(مقدمة/5)
والقدرية، والسالمية، وا لصالحية،
والمعتزلة، وغير هم، والتوسع في تفنيد مزاعمهم، مع حرصه على
استخدام العبارة السهلة، والأسلوب الواضح الميسر، كما أوضح ذلك
في مقدمة كتابه حيث قال: "فإن كثيراً من أصحابنا المتفقهة
سألوني تأليف كتابٍ جامعٍ لأصول الفقه، يوازي في الإيضاح
والبسط وتسهيل العبارة- التي غمضت في كتب المتقدمين، ودقَّت عن
أفهام المبتدئين- كتابيَّ الجامعين للمذهب والخلاف، وأَستوفي
فيه الحدود والعقود، ثم أُشير إلى الأقرب منها إلى الصِّحة،
وأميز المسائل النظريات بدلائل مُستوفاة، وأسئلةٍ مُستقصاةٍ،
ليخرُج بهذا الإيضاح عن طريقة أهل الكلام وذوي الإعجام، إلى
الطريقة الفقهية والأساليب الفروعية، فأجبتهم إلى ما سألوا،
مُعتمداً على الله سبحانه في انتفاعي على النَّمطِ الذي طلبوا
وأمَّلوا، مع بذل وُسْعي في ذلك واستِقْصائي فيه"
لقد أثرى ابن عقيل- رحمه الله تعالى- كتابه الواضح بأمور ميزته
عن كتب الأصول الأخرى، حيث جمع في أوله جملةً من أصولِ الفقه،
ذكر فيها الكثير من العقود والحدود وتمهيد الأصول، وأتبع ذلك
بفصولٍ في الجَدَل- على غير عادة كتب الأصول- ذكر فيها حدود
الجَدَل وعقودَه وشروطه وآدابه ولوازمه، وذكر من دقائقِ هذا
الفن وفوائده ما لا يوجد فى كتب الجدل المتخصصة، ثم أورد في
آخر الكتاب جملة من غرائب المسائل والفصول النادرة، لقطها- كما
ذكر- من الكتب والمجالس، وقيَّدها ليُنتفع بها.
لقد عرض- رحمه الله- الآراء على اختلافها بتجرد وحياد، ورجَّحَ
ما رآه منها راجحاً دون تعصبٍ وعِنادٍ، ونبَّه على غوامض
المسائلِ ودقائقها، ووضَّحها أيما إيضاح، وشرح ما صَعُبَ ممها
شرحاً مستفيضاً يُذلِّلُ صَعْبَها
(مقدمة/6)
ويُسَهِّلُ حَزنَها، كما في فصل "الاستدلال
بفساد الشيء على صحة غيره" وغيره من الفصول.
إنَّ هذه الميزات العظيمة لهذا الكتاب، والتي يندر اجتماعها
لكتاب مثله، دفع المجد ابن تيمية- رحمه الله- أن يقول فيه: "
لله دَرُّ الواضح لابن عقيل من كتاب، ما أغزر فوائده، وأكثر
فرائده، وأزكى مسائله، وأزيد فضائله، من نقلِ مذهبٍ، وتحرير
حقيقةِ مسألةٍ وتحقيق ذلك " (1)
وقال عنه ابن بدران الدمشقي رحمه الله: "الواضح لابن عقيل، هو
كتابٌ كبير في ثلاث مجلدات، أبان فيه عن علمٍ كالبحر الزاخر،
وفضلٍ يُفحم من في فضله يُكابر، وهو أعظم كتابٍ في هذا الفن،
حذا فيه حذو المجتهدين " (2) ..
صلتي بالواضح لابن عقيل:
لقد صَوَّرت الجزء الأول والثاني من الكتاب من دار الكتب
الظاهرية بدمشق منذ ثلاثين عاماً، واعتمدتُهما مصدراً من مصادر
البحث الذي قدَّمتُه لدرجة الدكتوراه: "أصول مذهب الإمام
أحمد"، ونقلت منهما فى مواضع كثيرة، وقد بيَّنتُ ذلك في مقدمةِ
الطبعة الأولى من "أصول مذهب الإمام أحمد"، كما أشرتُ إلى
أهمية "الواضح " وقيمته العلمية بين كتب أصول الحنابلة، ودعوتُ
طُلاّب العلم إلى الاهتمام بكتب الأصول المخطوطةِ للحنابلة،
ومنها "الواضح"، وكنتُ حريصاً على أن يُنشر الكتاب.
وبعد أن عثرتُ على الجزء الثالث من مكتبة برنستون بأمريكا،
__________
(1) "المسودة": 65 - 66.
(2) "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ": 462.
(مقدمة/7)
تجددت الرغبةُ في نشر الكتاب، وبدأتُ العمل
فيه، وأخَّرَ صدوره كثرةُ المشاغل، وعدمُ التَّفرُّغ لذلك، ثم
تَبيَّنَ لي أن دراسة الكتاب وتحقيق جزءٍ منه موضوع رسائل
دكتوراه لأصحاب الفضيلة المشايخ: الدكتور موسى بن محمد القرني،
والدكتور عطاء الله فيض الله، والدكتور عبد الرحمن بن عبد
العزيز السديس، في جامعة أم القرى، فسررتُ لذلك، وحمدتُ الله
أن اتجه إلى الكتاب من لديه القدرة تحت إشراف علمي متخصص
لخدمته، وقد كنت أحد المناقشين لصاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن
بن عبد العزيز السديس في القسم الذي تولى تحقيقه، واطلعتُ على
عمل الأخوين الآخرين.
وقد، بذل الإخوة جميعاً جهداً موفقاً في الكتاب، وكان حرياً
بهم أن ينشروه جميعاً، أو ما كان منه محل دراستهم، أو يقوم كل
منهم بنشر الجزء الذي تولى تحقيقه. ومرت السنون دون أن يصدر
هذا الكتاب، مما دفعني إلى تجديد العزم، والاستعانة بالله
تعالى في إكمالِ تحقيقه ونشره متعاوناً مع مؤسسة الرسالة، وإن
لم يبلغ الصفة التي كنت أود أن يخرج عليها، إذ فيه العديد من
الموضوعات تستدعي استكمالاً أو تعليقاً وبياناً، ولعل الله
يوفق الإخوة الذين درسوا الكتاب أن يخرجوه مستكملاً لجوانب
التحقيق، فهم أولى وأمكن من غيرهم، أو يهىء الله له من يخدمه
من العلماء المتخصصين المتفرغين.
وقد وصلتني- والكتاب تحت الطبع- نسخة مطبوعة من الجزء الأول من
الكتاب أصدرها الدكتور جورج مقدسي، وكان الدكتور فؤاد سزكين قد
أطلعني على مسودتها منذ سنوات عديدة، وهي على طريقة المستشرقين
التي لا تضيف جديداً على طبع النَصّ كما هو.
ومما أعان على تحقيق الكتاب ونشره وتوزيعه على طلاب العلم، ما
(مقدمة/8)
تفضل به أحد المحسنين وأهل الخير في
المملكة العربية السعودية من تحمل تكاليفه، ابتغاء مرضاة الله
ومثوبته، فجزاه الله أحسن الجزاء، وأكرمه في دار كرامته.
وليس ذلك بغريب على أهل الخير والإحسان في المملكة العربية
السعودية إذ يشاركون في تيسير كتب العلوم الشرعية، ويعينون
طلاب العلم إسهاماً منهم في عمل الخير، وشكراً لله على ما أنعم
به عليهم.
نسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب، ويجعله خالصً لوِجهه
الكريم.
ويجزي كل من أسهم في إخراجه ونشره.
والحمَد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده
ورسوله محمد وآله وأصحابه.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله
محمد وآله واصحابه.
عبد الله بن عبد المحسن التركي
وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
(مقدمة/9)
ترجمة المؤلف
هو أبو الوفاء عليُّ بن عقيل بن محمد بن عقيل بن أحمد الظفري،
البغدادى (1).
وذكر ابن أبي يعلى أنه: علي بن محمد بن عقيل (2).
ووضع بعض من ترجم له "محمداً" بدل "أحمد" وزادوا في نسبه: "عبد
الله" فقالوا: علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن محمد بن عبد
الله (3) وذكر الذهبي في "السير" أن اسمه: على بن عقيل بن محمد
بن عقيل بن عبد الله (4)
والظفري- بفتح الظاء والفاء- نسبة إلى الظفرية، وهي محلة كبيرة
شرقي بغداد (5).
وُلد ابن عقيل- رحمه الله- في بغداد دار السلام في جمادى
الآخرة سنة إحدى وثلاثين وثلاثين وأربع مئة (6)
وقيل: سنة اثنتين وثلاثين وأربع مئه (7).
__________
(1) المتتظم 9/ 212، البداية والنهاية 12/ 184، ذيل طبقات
الحنابلة 1/ 142، المنهج الأحمد 2/ 252.
(2) طبقات الحنابلة 2/ 259.
(3) الوافي بالوفيات 21/ 326، ولسان الميزان 4/ 243.
(4) سير أعلام النبلاء19/ 443.
(5) الأنساب 4/ 102.
(6) المنتظم 9/ 212، البداية والنهاية 12/ 184، شذرات الذهب 4/
35.
(7) طبقات الحنابلة 2/ 259.
(مقدمة/10)
وقيل: سنة ثلاثين وأربع مئة (1).
أسْرتُه:
يقول ابن عقيل عن أسرته: "فأما أهل بيتي: فإن بيت أبي كلهم
أرباب أقلام وكتابة، وشِعرٍ وآداب، وكان جدي محمد بن عقيل كاتب
حضرة بهاء الدولة، وهو المنشىء لرسالة عَزْل الطائع وتولية
القادر، ووالدي أنظر الناس وأحسنهم جدلاً وعلماً، وبيت أمي بيت
الزهري، صاحب الكلام والمدرس على مذهب أبي حنيفة" (2).
ولابن عقيل ولدان ماتا في حياته:
أحدهما: أبو الحسن عقيل، وكان في غاية الحُسن، فَهِماً، تفقه
على أبيه، وناظر في الأصول والفروع، وكان فقيهاً، فاضلاً، يقول
الشِّعر، وقد توفي في حياة أبيه سنة عشر وخمس مئه (3)، وتجلَّد
والدُه عند وفاته، وظهر من صبره ورضاه بقضاء الله سبحانه الشيء
العُجاب.
يقول ابن عقيل في ذلك: "مات ولدي عقيل وكان قد تفقه وناظر،
وجمع أدباً حسناً، فتعزَّبتُ بقصة عمرو بن عبد وُدٍّ الذي قتله
عليٌّ رضي الله عنه، فقالت أمه ترثيه:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله ... ما زلتُ أبكي عليه دائم الأبد
لكنَّ قاتِلهُ من لا يُقادُ به ... من كان يُدعى أبوه بيضة
البلدِ
فأسْلاها وعزاها جلالة القاتل، وفخرها بأن ابنها مقتوله، فنظرت
إلى
__________
(1) مناقب الإمام احمد: 635.
(2) المنتظم 9/ 213، ذيل طبقات الحنابلة 1/ 143، المنهج الأحمد
2/ 253.
(3) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 163 - 164.
(مقدمة/11)
قاتل ولدي الحكيم المالك، فهان عليَّ
القَتْلُ والمقتولُ لجلالة القاتل " (1).
ولم يقتصر الأمر على تَصَبُّرِهِ بل كان ينهى عن إظهار الجزع
أو تهييج الأحزان، يقول رحمه الله: "لما أُصبتُ بولدي عقيلٍ
خرجتُ إلى المسجد إكراماً لمن قصدني من الناس والصُّدور، فجعل
قارىء يقرأ: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ
أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} [يوسف: 78] فبكى الناس، وضجَّ الموضعُ
بالبُكاء، فقلت له: يا هذا، إن كان قصدُك بهذا تهييج الأحزان
فهو نياحةٌ بالقرآن، وما نزل القرآن للنَّوح، وإنَّما نزل
ليُسَكَنَ الأحزان، فأمْسِكْ " (2).
فتأمل ورعه ودينه رحمه الله، لم يمنعه حزنه على ولده من بيان
الحقِّ، وإرشادِ الخلق.
الثاني: أبو منصور هِبةُ الله، حفظ القرآن، وتفقَّه، وظهر منه
أشياء تدلُّ على عقلٍ ودينٍ، ثم مرض وطال مرضُه، وأنفق عليه
أبوه مالاً كثيراً في مرضه، وبالغ في ذلك.
يحكي ابن عقيل عن مرض ابنه ووفاته فيقول: "قال لي ابني لمّا
تقارب أجله: ياسيدي قد أنفقت، وبالغت في الأدوية والطبّ
والأدعية، ولله تعالى فيَّ اختيار، فدعني مع اختياره. قال:
فوالله ما أنطق الله سبحانه وتعالى ولدي بهذه المقالة التي
تُشاكلُ قول ابن إبراهيم لإبراهيم: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} إلا
وقد اختاره الله تعالى للحظوة" (3). وتألَّم- رحمه الله- لوفاة
ابنه الثاني، إلا أنه تصبر وسلم لأمر الله، واستسلم لقضائه،
وكان
__________
(1) نفس المصدر 1/ 164.
(2) المنتظم 9/ 188.
(3) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 165.
(مقدمة/12)
يقول: "لولا أن القلوب توقِنُ باجتماعٍ
ثانٍ لتفطرت المرائر لفراقِ المحبِّين " (1).
نشأته وطلبه للعلم:
لقد عانى ابن عقيل- رحمه الله- في نشأته من وطأة الفقر، وقلة
ذات اليد، ومرارة العِوَزِ والحاجة، حتى إنه كان ينسخ بالأجرة،
يقول عن نفسه: "وعانيتُ من الفقر والنسخ بالأجرة" (2).
كان ذلك إلى أن هيأ الله له الشيخ أبا منصور عبد الملك بن يوسف
(3)، فتكفل برزقه، وكفاه مؤونة البحث عن الرِّزق، ليتفرغ لطلب
العلم.
فتفرغ ابن عقيل إثر ذلك لطلب العلم، وشرع في تحصيله والتَزوُّد
منه، ومما هيأ له الجو لينهل من معين العلم، كونه نشأ في بغداد
التي كانت آنذاك تعج بالعلماء والفقهاء على اختلاف مذاهبهم
وتنوُّع مشاربهم.
وساعده هذا على النهل من كافة العلوم، والاستفادة من شتى
المعارف، مما كوَّن لديه حصيلة طيبة مُتميِّزة.
وكان لما حباهُ الله به من ذهنٍ وقادٍ، وذكاءٍ مُفْرِطٍ، وهمةٍ
عاليةٍ أثرٌ كبيرٌ في تحصيل العلوم، يقول عنه ابن رجب: "وكان
ابن عقيل رحمه الله من أفاضل العلماء، وأذكياء بني آدم، مُفرط
الذكاء، مُتَّسع الدائرة في العلوم " (4).
__________
(1) نفس المصدر، والمنهج الأحمد 2/ 270.
(2) المنتظم 9/ 213، ذيل طبقات الحنابلة 1/ 143.
(3) توفي سنة 460 هـ، ترجمته في المنتظم 8/ 250، وسير أعلام
النبلاء 18/ 333.
(4) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 151.
(مقدمة/13)
لقد كانت هذه الهمة، مع تلك الرغبة في
ارتشاف العلم، مع حفظ الله تعالى له، حائلاً بينه وبين
الالتفات إلى ما عدا ذلك من نعيم الدنيا الزائل وملاهي الحياة
ومفاتنها، يقول رحمه الله: " وعصمني الله من عُنْفوان الشبيبة
بأنواع من العصمة، وقصر محبتي على العلم وأهله، فما خالطتُ
لعَّاباً قط، ولا عاشرتُ إلا أمثالي من طلبة العلم " (1).
وكان رحمه الله يرى أن طلب العلم أفضلُ ما يتقرَّبُ به العبد
إلى ربِّه، بعد أداء الفرائض، يقول في مقدمة كتابه "الفنون"
(2): "أما بعد، فإن خير ما قُطع به الوقتُ، وشُغلت به
النَّفسُ، فتُقُرِّب به إلى الرَّبِّ جلَّت عظمتُه، طلبُ علمٍ
أخرج من ظُلمة الجهل إلى نور الشرع، واطلع به على عاقبةٍ
محمودةٍ، يُعملُ لها، وغائلةٍ مذمومةٍ، يُتجنَّبُ ما يوصلُ
إليها".
ويقول- رحمه الله-: " إني لا يحلُّ لي أن أُضَيعِّ ساعة من
عمري حتى إذا تعطل لساني عن مُذاكرةٍ ومناظرةٍ، وبصري عن
مطالعةٍ اُعمِلُ فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهضُ إلا
وقد خطر لي ما أُسطرُهُ" (3).
وهذا من تقديره- رحمه الله- لقيمة الوقت، وحرصه على عدم إهداره
أو إضاعته.
شُيوخُه:
لقد ساعد جوُّ بغداد العلمي ابن عقيل على التحصيل والإفادة من
__________
(1) المنتظم 9/ 213، ذيل طبقات الحنابلة 1/ 143.
(2) 1/ 7.
(3) المنتظم 9/ 214.
(مقدمة/14)
علماء عصره، وساعده على ذلك ذكاؤه المفرط،
وحُبُّه للعلم، فأخذ يتنقل بين مشايخ بغداد وعلمائها على
كثرتهم، فتنوعت علومه، وتعددت معارفه، وكان هذا سبباً في كثرة
مشايخه.
وكان أبو يعلى الفراء أول من أخذ ابن عقيل الفقه عنه، فقد ذكر
أنه تفقَّه عليه فى حداثة سِنِّهِ، وبقي ملازماً له، غير
مُخِلٍّ بمجالسه، حتى وفاته سنة ثمان وخمسين واربع مئة (1).
وذكر ابن عقيل أن أول من لقَّنه القرآن، هو الشيخ أبو إسحاق
إبراهيم ابق الحسين الخزاز، حيث قال: " كان الشيخ أبو إسحاق
الخزاز شيخاً صالحاً بباب المراتب، وهو أول من لقنني كتاب الله
بدرب الديوان بالرصافة " (2).
ويقول ابن عقيل- رحمه الله- عن شيوخه: "شيخي في القراءة ابن
شيطا، وفي الأدب والنحو: أبو القاسم بن برهان، وفي الزُّهد:
أبو بكر الدّينوري، وأبومنصور ابن زيدان أحلى من رأيت، وأعذبهم
كلاماً في الزُّهْد وابن الشيرازي، ومن النساء: الحرانية،
وبنتُ الجنيد، وبنت الغَرَّاد المنقطعة إلى قعر بيتها، لم تصعد
سطحاً قط، ولها كلامٌ في الورع، وسيدُ زُهّاد عصره وعينُ
الوقت: أبو الوفاء القزويني، ومن مشايخي في آداب التصوف: أبو
منصور ابن صاحب الزيادة العطار، ومن مشايخي في الحديث:
التَّوَّزي، وأبو بكر بن بشران، والعشاري، والجوهري وغيرهم،
ومن مشايخي في الشعر والترسُّل: ابن شبل، وابن الفضل، وفي
الفرائض: أبو الفضل الهمذاني، وفي الوعظ: أبو طاهر ابن العلاف
صاحب ابن سمعون، وفي الأصول: ابن الوليد، وأبو القاسم ابن
التَّبان
__________
(1) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 142 - 143.
(2) المنتظم 9/ 98.
(مقدمة/15)
وفي الفقه: أبو يعلى ابن الفراء، وأبو
إسحاق الشيرازي، وأبو نصر ابن الصباغ، وأبو عبد الله
الدامغاني، وأبو الفضل الهمذاني، وأبو بكر الخطيب، وأبو منصور
بن يوسف وغيرهم" (1).
وثمة عددٌ كبير من المشايخ الذين تلقى عنهم ابن عقيل لم يرد
ذكرهم هنا، وكثرتهم إن دلَّت، فإنما تدل على شغف ابن عقيل
بتحصيل أنواع العلوم، وحرصه على ألا يفوته أي نوع منها.
وفيما يلي أهم مشايخ ابن عقيل الذين أخذ عنهم وأفاد منهم:
1 - ابنُ شيطا: أبو الفتح عبد الواحد بن الحسين بن أحمد بن
عثمان ابن شيطا البغدادي، كان من كبار أئمة القُراء، ولد
ببغداد سنة سبعين وثلاث مئة، وتوفي بها سنة خمسين واربع مئه"
(2).
2 - ابنُ بَرهان: عبد الواحد بن علي بن عمر بن إسحاق بن
إبراهيم ابن بَرهان العكبري، كان من علماء العربية، عالماً
بالنحو والتاريخ وأيام العرب، أخذ عنه ابن عقيل الأدب والنحو،
مات سنة ستٍ وخمسين واربع مئة (3).
3 - أبو بكر الدينوري: ذكر ابن عقيل أنه أخذ عنه الزهد (4).
4 - أبو منصور ابن زيدان، وقيل: أبو بكر. ذكر ابن عقيل أنه أخذ
عنه الزهد (5)
__________
(1) المنتظم 9/ 212 - 213
(2) تاريخ بغداد 11/ 16، والمنتظم 8/ 199، ومعرفة القُرّاء
الكبار 1/ 333.
(3) تاريخ بغداد 11/ 17، والمتتظم 8/ 337، والبداية والنهاية
12/ 92.
(4) المنتظم 9/ 212.
(5) المنتظم 9/ 212، ذيل طبقات الحنابلة 1/ 143.
(مقدمة/16)
5 - أبو الوفاء القزويني (1): وقيل: أبو
الحسين القزويني (2)، وقيل: أبو الحسن، هو علي بن عمر بن محمد
بن الحسن الحربي، كان شيخاً لابن عقيل في الزهد، قال ابن عقيل:
"شهدتُ جنازته، وكان يوماً لم يُر في الاسلام بعد جنازة أحمد
ابن حنبل مثله" (3).
6 - أبو منصور ابن صاحب الزيادة العطار: هو محمد بن أحمد
ابن عبيد، المعروف بابن صاحب الزيادة. توفي سنة ثمانٍ وستين
وأربع مئة (4).
7 - التَّوَّزي: هو أحمد بن علي بن الحسين بن محمد بن موسى،
أبو الحسين، المعروف بابن التَّوزي، كان شيخ ابن عقيل في
الحديث، توفي سنة اثنتين وأربعين وأربع مئة (5)
8 - ابنُ بِشْران: محمد بن عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن
بشران البغدادي، راوي السنن عن الدارقطني. أخذ عنه ابن عقيل
الحديث، وكان ثقة، توفي سنة ثمان وأربعين وأربع مئه" (6).
9 - العُشاري: محمد بن علي بن الفتح بن محمد الحربي البغدادي،
كان ثقة دَيِّناً، مكثراً من الحديث، أخذ عنه الحديث ابن عقيل
وغيره، توفي سنة إحدى وخمسين وأربع مئه" (7).
__________
(1) المنتظم 9/ 212.
(2) ذيل طباتات الحنابلة 1/ 143.
(3) تاريخ بغداد 12/ 43.
(4) المنتظم 8/ 299.
(5) تاريخ بغداد 4/ 324، والمتتظم 9/ 212.
(6) تاريخ بغداد 2/ 248، والمححظم 9/ 212.
(7) تاريخ بغداد 3/ 107، وطبقات الحنابلة 2/ 191.
(مقدمة/17)
10 - الجوهري: الحسنُ بن علي بن محمد بن
الحسن الجوهري البغدادي، كان ثقة، صالحاً، توفي سنة اثنتين-
وقيل: أربع- وخمسين وأربع مئة (1).
11 - ابن شبل: محمد بن الحسين بن عبد الله بن أحمد بن يوسف
الشِّبلي، أحد الشعراء المشهورين، كان شيخاً لابن عقيل فى
الشعر، توفي سنة ثلاث وسبعين وأربع مئة" (2).
12 - ابن الفضل: علي بن الحسين بن علي بن الفض، أبو منصور
الشاعر، المعروف بِصُرَّ دُرّ. كان ممن أخذ ابن عقيل الشِّعر
عنهم، توفي سنة خمسٍ وستين وأربع مئة (3).
13 - أبو الفضل الهمذاني: عبد الملك بن إبراهيم بن أحمد
الهمذانيُّ الفرضي، كان من أئمة الدين وأوعية العلم، وله اليد
الطولى في العلوم الشرعية، وانتهت إليه الرئاسة في علم الفرائض
والحساب، توفي سنة تسعٍ وثمانين وأربع مئة" (4).
14 - ابن العلاف: محمد بن علي بن محمد بن يوسف أبو طاهر،
البغدادي، كانت له حلقة في جامع المهدي، ثم من بعده في جامع
المنصور، توفي سنة اثنتين وأربعين وأربع مئة" (5).
15 - أبو يعلى ابن الفراء: محمد بن الحسين بن خلف بن أحمد ابن
الفراء، البغدادي، القاضي، شيخ الحنابلة في وقته.
__________
(1) تاريخ بغداد 7/ 393، وشذرات الذهب 3/ 292.
(2) المنتظم 8/ 328، وذيل طبقات الحنابلة 1/ 142.
(3) المنتظم 8/ 281، ووفيات الأعيان 3/ 385.
(4) المنتظم 9/ 100، والبداية والنهاية 12/ 153.
(5) تاريخ بغداد 3/ 103، والمنتظم 8/ 148.
(مقدمة/18)
كان فريد عصره، ووحيد دهره، ونسيج وحده،
وهو أول من أخذ ابنُ عقيل الفقه عنه، توفي سنة ثمانٍ وخمسين
وأربع مئة (1).
16 - أبو إسحاق الشيرازي: إبراهيم بن علي بن يوسف بن عبد الله
الفيروزآبادي، الشافعي، كان مُقدَّماً في الأصول والفقه
والجدل، توفي سنة ست وسبعين وأربع مئة (2).
17 - ابن الصباغ: عبدُ السَّيِّدِ بنُ محمد بن عبد الواحد بن
محمد بن أحمد بن: جعفر، أبو نصر، الشافعي، كان مقدماً ورعاً،
تقياً، انتهت إليه رئاسة الشافعيه في وقته، توفي سنة سبعٍ
وسبعين وأربع مئة (3).
18 - الدَّامغانيُّ: محمد بن علي بن محمد بن الحسين، أبو عبد
الله الدامغاني، الحنفي، القاضي. كان عفيفاً، وافر العقل، كامل
الفضل، مكرماً لأهل العلم أخذ عنه ابن عقيل الفقه. توفي سنة
ثمانٍ وسبعين وأربع مئة (4).
19 - أبو بكر الخطيب: أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد الخطيب،
البغدادي، الحافظ، المحدِّث، المؤرخ، صاحب التصانيف الكثيرة.
أخذ عنه ابن عقيل الحديث، توفي سنة ثلاثٍ وستين وأربع مئة (5).
20 - أبو إسحاق الخزاز: إبراهيم بن الحسين الخزاز، المقرىء،
الزاهد، اللصالح، شيخ القراء فى وقته، توفي ببغداد سنة تسع
وثمانين وأربع مئة (6).
__________
(1) تاريخ بغداد 2/ 256، والمنتظم 8/ 253.
(2) المنتطم 9/ 7، والبداية والنهاية 12/ 124.
(3) المنتظم 9/ 12، ووفيات الأعيان 3/ 217، والبداية والنهاية
12/ 126.
(4) تاريخ بغداد 3/ 109، والمنتظم 9/ 22.
(5) المنتظم 8/ 265، والبداية والنهاية 12/ 101.
(6) المنتظم 9/ 89، والمنهج الأحمد 2/ 203.
(مقدمة/19)
تلاميذُه:
أخذ العلم عن ابن عقيل عدد غير قليل من الفضلاء، منهم:
1 - ابن ناصر: محمد بن ناصر بن محمد بن علي البغدادي، كان
حافظاً ضابطاً، ثقةً، خبيراً بالجرح والتعديل، توفي سنة خمسين
وخمس مئة (1).
2 - المغازلي: عمر بن ظفر بن حفص المغازلي البغدادي، كان
مقرئاً محدِّثاً، توفي سنة اثنتين وأربعين وخمس مئة (2).
3 - أبو المعمَّر الأنصاري: المبارك بن أحمد بن عبد العزيز
الخزرجي الأنصاري، كان ذا فهم وعلم بالحديث، توفي سنة تسع
وأربعين وخمس مئة (3).
4 - أبو سعد السمعاني: عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني،
العالم، الحافظ، البارع، صاحب التصانيف، أحد من أجاز لهم ابن
عقيل، توفي سنة ثلاث وستين وخمس مئة (4).
5 - عبد الحق اليوسفي: عبد الحق بن عبد الخالق بن أحمد بن عبد
القادر بن محمد بن يوسف اليوسفي، كان شيخاً، صالحاً، متعففاً،
وهو أحد شيوخ ابن الجوزي، توفي سنة خمس وسبعين وخمس مئة (5).
__________
(1) المنتظم 10/ 162، وذيل طبقات الحنابلة 1/ 225.
(2) معرفة القراء الكبار 2/ 407، وشذرات الذهب 4/ 131.
(3) المنتظم 10/ 160، وشذرات الذهب 4/ 315.
(4) المنتظم 10/ 224، وشذرات الذهب 4/ 205.
(5) شذرات الذهب 4/ 251.
(مقدمة/20)
مكانته العلمية:
برع ابن عقيل- رحمه الله- في علوم كثيرة، وبزَّ أقرانه في فنون
مختلفة، وزاحم علماء عصره، وتقدم على فضلاء دهره، فحاز المكانة
العالية، وبلغ المرتبة السامية، التي أهلته أن يكون مرجعاً في
كثير من العلوم.
وقد كان- رحمه الله- بارعاً في الفقه وأصوله، وله في ذلك
استنباطاتٌ حسنةٌ، وتحريراتٌ كثيرةٌ مستحسنة، وكانت له يد طولى
في الوعظ والمعارف، وكلامه في ذلك حسنٌ، وأكثره مستنبطٌ من
النصوص الشرعية، فيستنبط من أحكام الشرع وفضائله معارف جليلة،
وإرشادات دقيقة (1).
ونال ابن عقيل مكانة عالية عند كثير من علماء عصره على اختلاف
مذاهبهم، إذ لم يكن- رحمه الله- مُقلِّداً، ولا مُتعصباً لرأي،
بل كثيراً ما كان يخالف آراء المتقدمين عن دليلٍ ونظرٍ. فمع
أنه تفقه على مذهب الإمام أحمد- رحمه الله- وألف فيه، فأضحت
تصانيفه معتمدة في بيانه وتقريره إلا أنه نحا منحى الاجتهاد،
فانفرد بمسائل كثيرة خالف فيها المذهب، لدليل ظهر له.
يقول عنه ابن رجب: "وكان مع ذلك يتكلم كثيراً بلسانِ الاجتهاد
والترجيح، واتِّباع الدَّليل الذي يظهرُ له، ويقول: الواجبُ
اتِّباعُ الدَّليل، لا اتِّباع أحمد" (2).
وقال عنه أيضاً: "وله مسائل كثيرةٌ ينفردُ بها، ويُخالف فيها
المذهب" (2).
__________
(1) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 152.
(2) ذيل طبقات الحنابلة 157/ 1.
(مقدمة/21)
وقد أثنى عليه جماعةٌ من أفاضل العلماء؛
قال ابن الجوزي: "انتهت إليه الرئاسة في الأصول والفروع، وله
الخاطِرُ العاطِرُ، والفهمُ الثاقِبُ، واللَّباقَةُ، والفطنةُ
البغدادية، والتبريز في المناظرة على الأقران، والتصانيفُ
الكِبار" (1).
وقال الحافظ الذهبي عنه: "الإمامُ العلامة، البحر، شيخ
الحنابلة، المتكلم، صاحب التصانيف. كان يتوقد ذكاءً، وكان بحر
معارفٍ، وكنز فضائلٍ، لما يكن له في زمانه نظير" (2).
وقال ابنُ السمعاني: "كان إماماً، فقيهاً، مُبرِّزاً،
مناظِراً، مُجوداً، كثير المحفوظ، مليح المحاورة، حسن العشرة،
مأمون الصحبة" (3).
وقال عنه أبو طاهر السلفي: "ما رأت عيناي مثل الشيخ أبي الوفاء
ابن عقيل، وما كان أحدٌ يقدر أن يتكلم معه لغزارة علمه، وحُسنِ
إيراده، وبلاغة كلامه وقوة حجته" (4).
ووصفه الصَّفديُّ: بأنه من أعيان الحنابلة، وكبار شيوخهم، وكان
مُبرِّزاً، مناظراً، حادَّ الخاطر، بعيد الغور، جيد الفكرة،
بحاثاً عن الغوامض، مقاوماً للخصوم، وصنف كتباً في الأصول
والفروع والخلاف (5).
وقال ابن رجب:"كان من أفاضل العالم، وأذكياء بني اَدم، مُفْرط
الذكاء في العلوم، وكان خبيراً بالكلام، مُطلعاً على
__________
(1) مناقب الإمام أحمد: 634.
(2) سير أعلام النبلاء19/ 443 - 445.
(3) لسان الميزان 4/ 244.
(4) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 147.
(5) الوافي بالوفيات 21/ 326.
(مقدمة/22)
مذا هب المتكلِّمين " (1).
مُصَنفاتُه:
نظراً لثقافة ابن عقيل الواسعة، فقد تعددت مُصنَّفاتُه، وتنوعت
مؤلفاته، ومن أهمها:
1 - "الفُنون": وهو كتاب كبير جداً، تراوحت تقديرات المؤرخين
لعدد مجلداته ما بين مئتين وثمان مئة مجلدة، ويشتمل هذا الكتاب
على فوائد كثيرة، وتقريرات مفيدة، يقول عنه ابنُ رجب: "هو كتاب
كبيرٌ جداً، فيه فوائد جليلة في الوعظ، والتفسير، والفقه،
والأصلين، والنحو، واللغة، والشعر، والتاريخ، والحكايات، وفيه
مناظراتُه، ومجالسُه التي وقعت له، وخواطرُهُ، ونتائجُ فكره،
قيَّدها فيه" (2).
ولم يُعْرَف منه إلاّ قطعةٌ حقَّقها وعلق عليها الدكتور جورج
مقدسي، وقام بنشرها في جزءين، طبعتها المطبعة الكاثوليكية في
بيروت سنة 1970 م.
2 - "الفصول" في الفقه الحنبلي، ذكر أَبن رجب أنه عشرُ مُجلدات
(3)، وقال غيره: سبع مُجلدات (4).
ويُسمى "الفصول " أيضاً: "كفايةُ المُفتي"، وهو من الكتب
المهمة في فقه الحنابلة. وُجِد منه قطعتان مخطوطتان، أحدهما
بدار الكتب المصرية تحت رقم (13 فقه حنبلي)، والأخرى بالمكتبة
الظاهرية بدمشق تحت رقم
__________
(1) ذيل طبقات الحنابلهْ 1/ 155.
(2) المصدر السابق 1/ 155.
(3) المصدر السابق 1/ 156.
(4) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد: 29.
(مقدمة/23)
(63) فقه حنبلي.
3 - "التذكرة"، منه نسخة خطية في المكتبة الظاهرية بدمشق، تحت
رقم (87) فقه حنبلي.
4 - "الإشارة"، وهو مجلد لطيف اختصر فيه ابن عقيل كتابه
الموسوم بـ " الروايتين والوجهين" (1).
5 - "المنثور" وهو في الفقه.
6 - "الإرشاد"، وهو في أصول الدين.
7 - "الانتصار لأهل الحديث".
8 - "نفي التشبيه".
9 - "مسألة في الحرف والصوت" (2)، منه نسخة خطية في المكتبة
الظاهرية بدمشق، تحت رقم (245) حديث، وهو في إثبات الحرف
والصوت في كلام الله تعالى، والرَّدِّ على من أنكر ذلك، وقد
نشُر في مجلة الدراسات الشرقية للمعهد الفرنسي بدمشق سنة (971
ام)، بتحقيق جورج مقدسي.
10 - "الجدل على طريقة الفُقهاء"، نُشر في مجلة الدراسات
الشرقية للمعهد الفرنسي بدمشق سنة (1967) بتحقيق جورج مقدسي.
11 - "عُمْدة الأدلَّة".
12 - "المفردات".
13 - "المجالس النظريات".
__________
(1) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 156.
(2) المصدر السابق 1/ 156.
(مقدمة/24)
14 - "تهذيب النفس" (1) وهو في الآداب
والأخلاق.
15 - "رؤوس المسائل" في الفقه (2).
16 - "مسائل مشكلة في آيات من القرآن" (3).
17 - "الكفاية في أصول الدين".
18 - "تفضيل العبادات على نعيم الجنات".
19 - "الواضح في أصول الفقه"، وهو هذا الكتاب.
صلة ابن عقيل ببعض شيوخ المعتزلة:
على الرغم من المكانة السامية التي بلغها ابن عقيل، والمنزلة
الرفيعة التي تبوَّأها، فإن بعض أصحابه من الحنابلة قد تكلَّم
فيه، لتردُّده على بعض المشايخ من المعتزلة، وتلقيه عنهم علم
الكلام.
يقول ابن عقيل عن ذلك: "وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني
هجران جماعة من العلماء- يعني شيوخه من المعتزلة- وكان ذلك
يحرمني علماً نافعاً" (4).
وقد علَّق الحافظ الذهبي- الذي نقل هذا الكلام- عليه بقوله:
"قلت: كانوا ينهونه عن مُجالسة المعتزلة، ويأبى، حتى وقع في
حبائلهم، وتجسَّر على تأويل النصوص، نسأل الله السلامة" (5).
__________
(1) المصدر السابق 1/ 156.
(2) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد: 209.
(3) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 156.
(4) سير أعلام النبلاء19/ 447.
(5) سير أعلام النبلاء 19/ 447.
(مقدمة/25)
وقد اشتدت نِقمةُ الحنابلة عليه نتيجة
تجاسُرِه على تأويل نُصوص الصفات، ودفاعه عن الحلاّج، واعتذاره
له، حتى طلبوا دمه، وأهدروه، إلى أن أعلن توبته عن ارائه
الاعتزالية، ورجوعه عن ترحُّمهِ على الحلاّج، فانطفأت بذلك نار
الفتنة.
ولم يكتفِ- رحمه الله- بإعلان التوبة، بل أخذ يُصنّف في الردِّ
على المعتزلة، هاتكاً أستارهم، وكاشفاً عن عوارِهم عن علم
ودراية.
يقول الحافظُ ابن حجر: "نعم، كان مُعتزلياً، ثم أشهد على نفسه
أنه تاب عن ذلك، وصحَّتْ توبتُهُ، ثم صَنف فى الردِّ عليهم،
وقد أثنى عليه أهل عصره ومن بعدهم، وأطْراهُ ابنُ الجوزي،
وعَوَّلَ على كلامه في أكثر تصانيفِهِ " (1).
ونَقل الحافظ ابن رجب قصة توبة ابن عقيل، ورجوعه عمّا كان
عليه، فقال: "فمضى ابن عقيل إلى بيتِ الشريف، وصالحهُ، وكتب
خطهُ: يقولُ عليُّ بن عقيل بن محمد: إني أبرأُ إلى الله تعالى
من مذاهب مبتدعَةِ الاعتزال، وغيره، ومن صُحبة أربابه، وتعظيم
أصحابه، والتَّرحُّمِ على أسلافهم، والتكثُّر بأخلاقهم، وما
كنتُ عَلَّقْتُه ووُجد بخطِّي من مذاهبهم وضلالتهم، فأنا تائبٌ
إلى الله تعالى من كتابته، ولاَ تحلُّ كتابتُهُ، ولا قراءتُه،
ولا اعتقاده، وإنني علَّقتُ مسألة الليل في جملة ذلك، وإنَّ
قوماً قالوا: هو أجسادٌ سود. وقلتُ: الصحيحُ: ما سمعتُه من
الشيخ أبي علي، وأنه قال: هو عدمٌ، ولا يُسمى جسماً، ولا شيئاً
أصلاً، واعتقدتُ أنا ذلك، وأنا تائبٌ إلى الله تعالى منهم.
واعتقدتُ في الحلاّج: أنه من أهل الدين والزُّهد والكرامات،
__________
(1) لسان الميزان 4/ 243.
(مقدمة/26)
ونصرتُ ذلك في جزء عملتُه، وأنا تائبٌ إلى
الله تعالى منه، وأنه قُتل بإجماع علماء عصره، وأصابوا في ذلك،
وأخطأ هو، ومع ذلك فإني أستغفر الله تعالى، وأتوب إليه من
مخالطة المعتزلة والمبتدعة وغير ذلك، والترحُّم عليهم،
والتعظيم لهم، فإن ذلك كله حرامٌ، ولا يحلُّ لمسلمٍ فعله، لقول
النبي صلى الله عليه وسلم: "من عَظَّم صاحب بدعة فقد أعان على
هدم الإسلام".
وقد كان الشريف أبو جعفر، ومن كان معه من الشيوخ والأتباع،
ساداتي وإخواني- حرسهم الله تعالى- مصيبين في الإنكار عليَّ،
لما شاهدوه بخطي من الكتب التي أبرأ إلى الله تعالى منها،
وأتحقَّقُ أني كنتُ مخطئاً، غيرمصيبٍ.
ومتى حُفِظ عليَّ ما ينافي هذا الخط وهذا الإقرار، فلإمام
المسلمين مكافأتي على ذلك، وأشهدتُ الله وملائكته وأولي العلم
على ذلك، غَيْرَ مجبر ولا مكره، وباطني وظاهري- يعلمُ الله
تعالى- في ذلك سواءٌ. قال تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ
اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة:
95]. وكتب يوم الأربعاء، عاشِر مُحرّم سنة خمسٍ وستين وأربع
مئة" (1).
هكذا تاب ابن عقيل- رحمه الله- ورجع عمّا كان عليه، والله
سبحانه يقبلُ التوبة عن عباده ويعفو عن السَّيِّئات، والتوبةُ
تَجُبُّ ما قبلها، ومن أَتبع السيئة بحسنةٍ محتها.
وهذا ما فعلهُ ابنُ عقيل، فقد عاد بعد توبته إلى نص السنَّة،
وردَّ على من مشى بُرهة في ركابهم من المبتدعة.
يقول ابن قُدامة المقدسي عنه: "ثُم عاد بعد توبته إلى نصِّ
السُّنة والردِّ
__________
(1) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 144 - 145، والمنتظم 8/ 275.
(مقدمة/27)
على من قال بمقالته الأولى بأحسن كلام،
وأبلغ نظام، وأجاب على الشُّبه التي ذُكِرت بأحسن جوابٍ،
وكلامه في ذلك كثيرٌ في كتب كبارٍ وصغارٍ، أجزاءٍ مفردةٍ،
وعندنا من ذلك كثير، فلعلَّ إحسانهُ يمحو إساءته، وتوبته تمحو
بدعته فإن الله تعالى يقبل التوبة عن عبادِه ويعفو عن
السَّيِّئات" (1).
وفاته:
بعد حياةٍ حافلةٍ بطلب العلم، وتدريسه، والتصنيف فيه والسعي في
سبيله، توفي ابن عقيل- رحمه الله- عن ثلاثٍ وثمانين سنة، وقد
وافاه الأجل في بغداد بُكرة الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى سنة
ثلاث عشرة وخمس مئة، وصُلي عليه في جامعي القصر والمنصور، وكان
الإمام في جامع القصر ابن شافع، وقد حضر جنازته والصلاة عليه
جمع يفوت الإحصاء، قال ابن ناصر: "حزرتهم بثلاث مئة ألفٍ" (2).
رحم الله ابن عقيل، وغفر له، وجزاه على ما قدَّم أفضل الجزاء.
وصف النسخة الخطية:
تم الاعتماد في تحقيق الكتاب على نسخة وحيدة لم نقف على غيرها،
وهي مؤلفة من ثلاثة أجزاء، نسخت عن أصلٍ آخر بخط المصنف، كما
ورد على الصفحة الأولى من الجزء الأول: "منقول من خط المصنف
مُعارض بأصله"، وكذلك في الورقة (242) عند قوله: "أبي المغيث"
فعلق الناسخ في هامش النسخة بقوله: "كذا بخط ابن عقيل،
والصواب: "مغيث"، وأيضاً في الورقة (253) عند
__________
(1) الرد على ابن عقيل: 2.
(2) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 162، وسير أعلام النبلاء 19/ 447.
(مقدمة/28)
قوله: "مشغلاً"، علق الناسخ في الهامش
بقوله: "كذا بخط ابن عقيل، والصواب: شاغلاً"، وكذلك ورد في
هامش الورقة (278) ما نصه: "بلغ العرض من أول الكتاب بأصل
المصنف ومنه نُقل".
ولم يتبين اسم الناسخ كاملاً، فقد طمست الرطوبة بعضه، والظاهر
أن اسمه: أبو بكر الجيلي، كما ورد على الصفحة الأولى من الجزء
الأول، وكذلك ورد في هامش الورقة (63) ما نصه: "كتب إلى هاهنا
أبو بكر الجيلي".
ولم يتبين أيضاً تاريخ انتهاء الجيلي من النسخ، لأن النقص أصاب
الورقات الأخيرة من الورقة (311) إلى آخر الجزء، ولكن بما أن
الجيلي نسخها للعلامة عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي ابن
الجوزي- كما هو موضح على الصفحة الأولى- فهو إذن قبل وفاة ابن
الجوزي سنة 597 هـ.
وقد تمم النقص ناسخ آخر كما ورد في آخر الجزء: "آخر الأول،
يتلوه الأمر بالشيء ليس بنهي عن ضدِّه من طريق اللفظ، تممه
محمد بن محمود المراتبي في الثالث من ربيع الثاني سنة ثمان
وعشرين وستِّ مئة وصلى الله على محمد وآله يارب يارب يارب يا
حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام اغفر لي".
فهذا التاريخ يختص بالنقص الذي تممه المراتبي فقط، أما تاريخ
نسخ الجيلي فقد أصابه الطمس ولم يتبق منه إلا: "نقله أبو بكر
.. الجيلي في المحرم سنة اثنتين ... وخمس .... ".
والجزء الأول من الكتاب محفوظ بدار الكتب الظاهرية بدمشق تحت
رقم 78، ويتألف من (314) ورقة، في كل صفحة (23) سطراً. وعلى
(مقدمة/29)
الصفحة الأولى منه: "ملكه من فضل ربه يوسف
بن عبد الهادي من كتب القاضي علاء الدين".
والجزء الثاني أيضاً من محفوظات دار الكتب الظاهرية تحت رقم
(79) ويتألف من (270) ورقة في كل صفحة (19) سطراً، وقد أصابت
الرطوبة ثلاثين ورقة من أوله فأودت بالأسطر الثلاثة العليا من
هذه الورقات.
وعلى الصفحة الأولى منه عدة تملكات هي: "انتقل بالابتياع
الشرعي من ولد شيخنا بُرهان الدين بن قندس في سادس ربيع الاَخر
سنة ثمان وسبعين وثمان مئة بشهادة الشيخ أحمد العسكري فأقبض
الثمن بحضرته .. ".
وتحته: " ملكه من فضل ربه يوسف بن عبد الهادي من كتب القاضي
علاء الدين".
وتحته أيضا: "ملكه من فضل ربه أحمد بن يحمى بن عطوة الدرعي".
وقد وقفه أحمد بن يحمى لمدرسة أبي عمر، كما ورد في أسفل
الصفحة: "وقف أحمد بن يحى النجدي المحل مدرسة أبي عمر في
الصالحية".
وتحت العنوان تملك آخر نصه: "ملك هذا الكتاب العبد الفقير
الكسير الراجي عفو ربه محمد بن الشيخ سعد الدين القادري
البغدادي الحنبلي غفر الله له آمين".
أما الجزء الثالث من الكتاب فهو من محفوظات مكتبة جامعة
برنستون في الولايات المتحدة الأمريكية تحت رقم (1842). ويقع
في (223) ورقة، في كل صفحة (19) سطراً إلى (21) سطراً في بعض
الصفحات،
(مقدمة/30)
وكُتب على الورقة الأولى منه فهرساً
للأبواب والفصول الواردة فيه، ولم يسلم هذا الجزء أيضاً من
الطمس في كثير من المواضع، وعليه بجانب العنوان تملك: "ملكه من
فضل ربه يوسف بن عبد الهادي من كتب القاضي علاء الدين". وأسفل
الصفحة: "انتقل بالابتياع الشرعي من ولد شيخنا الشيخ تقي الدين
ابن قندس تغمده الله بالرحمة والرضوان في سادس ربيع الآخر سنة
ثمان وسبعين وثمان مئة وذلك بحضور الشيخ بهاء الدين أحمد
العسكري، وقبض الثمن بحضوره والله أعلم".
منهج المؤلف في الكتاب:
قسم ابن عقيل كتابه إلى ثلاثة
أقسام:
القسم الأول: أورد فيه ما
يتعلق بأصول الفقه، حيث استهله ببيان معنى الفقه، وبيان معنى
العلم وأقسامه، وأتبع ذلك بذكر الأصول من كتابٍ وسنةٍ
ودلالاتها، ثم ذكر فصولاً في جمع الحدود والعقود والحروف التي
تدخل في أبواب الكتاب، وجميع ما يحتاج إليه من الألفاظ
المتضمنة لمعان لا يستغني عنها من أراد العلم بأصول الفقه، ثم
أورد فصولاً في النسخ، واختتم هذا القسم بذكر صفة المفتي
والمستفتي.
القسم الثاني: أفرده ابن
عقيل للجدل- جدل الأصوليين وجدل الفقهاء- وذكر سبب ذلك بقوله:
"واعلم أنني لما قدمتُ هذه الجملة من العقود، والحدود، وتمهيد
الأصول، وميزتها عن مسائل الخلاف، رأيتُ أن أشفعها بذكر حدود
الجدل، وعقوده، وشروطه، وآدابه، ولوازمه، فانه من أدوات
الاجتهاد، وأؤخِّر مسائل الخلاف، إلحاقاً لكل شيء بشكله، وضم
كل شيء إلى مثله، فجمعتُ بذلك بين قواعد هذين العلمين: أصول
الفقه والجدل، وأخَرت مسائل الخلاف فيهما، فإنَ الأصول بالأصول
أشبه، واليها أقرب، والخلاف بالخلاف أشبه، والله
(مقدمة/31)
الموفق" (1)،
القسم الثالث: وهو مسائل
الخلاف، ابتدأه بذكر الأوامر والنواهي، ثم ذكر عدة فصول في
فحوى الخطاب، والاستثناء، والمجمل والمفسر، والمحكم والمتشابه،
وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - والنسخ، والأخبار،
والإجماع، والقياس، والاجتهاد.
وقد تميز كتاب الواضح بميزات عديدة،
أهمها:
1 - التوسع والاستقصاء في معظم فصول الكتاب مع الحرص على
الإيضاح والبسط وتسهيل العبارة، كما بين ذلك ابن عقيل في
مقدمته.
2 - تضمنه لمباحث الجدل، وهو ما يقلُّ في كتب الأصول الأخرى.
3 - الاستقصاءُ في إيراد الأقوال الورادة في المسالة المراد
بحثها، وذكرُ أدلة كل قولي من الأقوال، ومناقشة هذه الأدلة
بتجرُّدٍ وحيادٍ، واختيار الراجح من الأقوال، وتعضيدُهُ
بالدليل المعتبر.
4 - توضيح بعض العبارات والمسائل بالشواهد القرآنية والحديثية،
وذكر أقوال أهل اللغة، وما روي عن العرب من الشعر والنثر في
ذلك.
5 - ايراد ابن عقيل في آخر كتابه لجملةٍ طيبةٍ من غرائب
المسائل والفصول، حيث قال: "مسائل تتبعتها مما كنتُ أغفلته،
وفصول لقطتها من الكتب والمجالس من غرائب المسائل والفصول"
(2).
__________
(1) الجزء الأول، الصفحة 295.
(2) انظر الورقة 206 من الجزء الثالث من الأمل.
(مقدمة/32)
تحقيق الكتاب:
اتُّبع في تحقيق الكتاب
الخطوات التالية:
- نسخُ الأصل الخطي، ومُقابلته.
- تفصيلُ النص، وترقيمه، وضبط ما يحتاج إلى ذلك منه.
- عزو الآيات القرآنية، وتخريج الأحاديث والآثار.
- إحالة غالب النُقول الواردة إلى مصادرها، وعزو الأبيات
الشعرية إلى قائليها.
- استكمالُ العبارات التي لحقها الطمس في الجزء الثاني والثالث
من الأصل الخطي، وقد تطلَّب ذلك الرجوع إلى كثير من كتب أصول
الفقه، وخاصة كتاب "العدة" لأبي يعلى شيخ المصنف، و"التمهيد"
و"التبصرة" وغيرها، وما لم نقف عليه في تلك المصادر، أُثبت
تقديره حسب المعنى وكما يقتضيه السياق، ووُضع بين حاصرتين،
وأشير إلى ذلك في الحاشية.
- عمل الفهارس اللازمة التي تُعين طالب العلم في الوصول إلى
بُغيته بيُسر وسهولة.
- هذا ونسألُ الله عز وجلَّ أن يعفو عما حصل فيه من سَهْوٍ ومن
تقصير، راجين منه تعالى القبول، والله الموفق.
(مقدمة/33)
|