بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب

[اشْتِرَاكُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي السَّنَدِ وَالْمَتْنِ]
[مقدمة]
ش - لَمَّا فَرَغَ مِنَ الْأَبْحَاثِ الْمَخْصُوصَةِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ الثَّلَاثَةِ، شَرَعَ فِي الْأَبْحَاثِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، فَقَالَ: " وَيَشْتَرِكُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فِي السَّنَدِ وَالْمَتْنِ. فَالسَّنَدُ: إِخْبَارٌ عَنْ طَرِيقِ الْمَتْنِ ".
أَعْنِي بَيَانَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ، بِطَرِيقِ ثُبُوتِهِ، إِمَّا بِالتَّوَاتُرِ أَوِ الْآحَادِ.
[الخبر والإنشاء]
[الخبر]
ش - أَيِ الْخَبَرُ اسْمٌ لِقَوْلٍ لَهُ صِيغَةٌ وَمَعْنًى مَخْصُوصَانِ. وَاخْتَلَفَ فِي تَحْدِيدِهِ. فَقِيلَ: لَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ لِعُسْرِهِ، كَمَا قِيلَ فِي الْعِلْمِ.
ش - قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ: الْخَبَرُ غَنِيٌّ عَنِ التَّعْرِيفِ ; لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ مِنْ وَجْهَيْنِ:

(1/617)


ص - مَسْأَلَةٌ: التَّمَسُّكُ بِالْإِجْمَاعِ فِيمَا لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَيْهِ، صَحِيحٌ. كَرُؤْيَةِ الْبَارِي، عَزَّ وَجَلَّ، وَنَفْيِ الشَّرِيكِ.
وَلِعَبْدِ الْجَبَّارِ فِي الدُّنْيَوِيَّةِ قَوْلَانِ. لَنَا دَلِيلُ السَّمْعِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(1/618)


[اشْتِرَاكُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي السَّنَدِ وَالْمَتْنِ] ص - وَيَشْتَرِكُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فِي السَّنَدِ وَالْمَتْنِ. فَالسَّنَدُ: الْإِخْبَارُ عَنْ طَرِيقِ الْمَتْنِ.
ص - وَالْخَبَرُ قَوْلٌ مَخْصُوصٌ لِلصِّيغَةِ وَالْمَعْنَى. فَقِيلَ: لَا يُحَدُّ لِعُسْرِهِ.
ص - وَقِيلَ: لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَوْجُودٌ ضَرُورَةً. فَالْمُطْلَقُ أَوْلَى.
ص - وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ ضَرُورِيٌّ، لَا يُنَافِي كَوْنَهُ ضَرُورِيًّا. بِخِلَافِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى حُصُولِهِ ضَرُورَةً.
ص - وَرُدَّ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ ضَرُورَةً وَلَا نَتَصَوَّرُهُ. أَوْ بِتَقَدُّمِ تَصَوُّرِهِ.
وَالْمَعْلُومُ ضَرُورَةً ثُبُوتُهَا أَوْ نَفْيُهَا. وَثُبُوتُهَا غَيْرُ تَصَوُّرِهَا.
ص - الثَّانِي: التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ضَرُورَةٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(1/619)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ، أَيْ يَعْلَمُ مَعْنَى قَوْلِهِ: " أَنَا مَوْجُودٌ " مِنْ حَيْثُ وُقُوعٌ بِالنِّسْبَةِ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَهُوَ خَبَرٌ خَاصٌّ. فَمُطْلَقُ الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ جُزْءُ هَذَا الْخَبَرِ الْخَاصِّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ضَرُورِيًّا.
ش - هَذَا جَوَابُ دَخَلٍ مُقَدَّرٍ. تَوْجِيهُهُ أَنْ يُقَالَ: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْخَبَرِ ضَرُورِيٌّ، يُنَافِي دَعْوَى ضَرُورَتِهِ; لِأَنَّ الضَّرُورِيَّ هُوَ الَّذِي لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى دَلِيلٍ وَنَظَرٍ.
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: اسْتَدْلَلْنَا عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِالْخَبَرِ ضَرُورِيٌّ، لَا عَلَى حُصُولِ الْخَبَرِ ضَرُورَةً. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِالْخَبَرِ ضَرُورِيٌّ، لَا يُنَافِي كَوْنَ الْخَبَرِ ضَرُورِيًّا ; لِأَنَّ تَوَقُّفَ ضَرُورَةِ الْعِلْمِ بِالْخَبَرِ عَلَى الدَّلِيلِ وَالنَّظَرِ، لَا يَسْتَلْزِمُ تَوَقُّفَ ضَرُورَةِ الْخَبَرِ عَلَيْهِمَا.
بِخِلَافِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى حُصُولِ الْخَبَرِ ضَرُورَةً ; فَإِنَّهُ يَكُونُ مُنَافِيًا لِكَوْنِ الْخَبَرِ ضَرُورِيًّا.
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ ضَرُورِيًّا، وَضَرُورَتُهُ نَظَرِيَّةٌ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى الثَّانِي لَا يُنَافِي دَعْوَى ضَرُورَتِهِ.

(1/620)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
ش - أَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ عِلْمَ حُصُولِ الْخَبَرِ ضَرُورَةٌ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الْخَبَرِ ضَرُورَةُ تُصَوِّرِهِ أَوْ تَقَدُّمِ تَصَوُّرِهِ ; لِأَنَّ حُصُولَ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَصَوُّرَهُ. وَالْمُتَنَازَعُ فِيهِ تَصَوُّرُ الْخَبَرِ لَا حُصُولُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الْعِلْمُ بِحُصُولِ الْخَبَرِ ضَرُورِيًّا، يَكُونُ تُصَوُّرُ الْخَبَرَ أَيْضًا ضَرُورِيًّا ; لِأَنَّ الْعِلْمَ بِحُصُولِ الْخَبَرِ هُوَ تَصَوُّرُهُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْعِلْمَ بِحُصُولِ الْخَبَرِ هُوَ الْعِلْمُ بِثُبُوتِ النِّسْبَةِ أَوْ نَفْيِهَا. وَثُبُوتُ النِّسْبَةِ غَيْرُ تَصَوُّرِهَا.
وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ مَا قَالَ: إِنَّ حُصُولَ الْخَبَرِ هُوَ تُصَوُّرُهُ، بَلْ قَالَ: الْعِلْمُ بِحُصُولِ الْخَبَرِ، هُوَ تَصَوُّرُهُ. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْعِلْمَ بِحُصُولِ الْخَبَرِ غَيْرُ تَصَوُّرِهِ.
ش - الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّا نُدْرِكُ بِالضَّرُورَةِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْخَبَرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مَسْبُوقَةٌ بِتَصَوُّرِهِمَا، فَيَكُونُ تَصَوُّرُ هَذِهِ الْأُمُورِ بَدِيهِيًّا، لِأَنَّ السَّابِقَ عَلَى الْبَدِيهِيِّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ بَدِيهِيًّا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: " وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ ". وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ مِثْلُ هَذَا الدَّلِيلِ.
وَقَدْ قِيلَ فِي جَوَابِهِ: إِنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ غَيْرُ مَسْبُوقَةٍ بِتَصَوُّرِهِمَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ.
ش - قَالَ الْقَاضِي وَالْمُعْتَزِلَةُ فِي تَعْرِيفِ الْخَبَرِ: الْكَلَامُ الَّذِي يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ.
فَـ " الْكَلَامُ " جِنْسٌ يَشْمَلُ الْخَبَرَ وَغَيْرَهُ. وَقَوْلُهُ: " الَّذِي يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ " يُخْرِجُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالِاسْتِفْهَامَ وَسَائِرَ الْإِنْشَاءَاتِ.
وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا الْحَدِّ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ اجْتِمَاعَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي كُلِّ خَبَرٍ ; لِأَنَّ الْوَاوَ يَقْتَضِي الْجَمْعَ. لَكِنَّ اجْتِمَاعَهُمَا مُحَالٌ ; لِأَنَّ الْخَبَرَ قَدْ يَكُونُ كَاذِبًا لَا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ أَصْلًا، مِثْلَ قَوْلِنَا: الِاثْنَانِ فَرْدٌ، وَالثَّلَاثَةُ زَوْجٌ.
وَقَدْ يَكُونُ صَادِقًا لَا يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ أَصْلًا، كَالْبَدِيهِيَّاتِ، لَا سِيَّمَا فِي خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ احْتِمَالَ الْكَذِبِ فِي خَبَرِ اللَّهِ أَشَدُّ اسْتِحَالَةً، لَا لِنَفْسِ كَوْنِهِ خَبَرًا، بَلْ لِخُصُوصِيَّةِ كَوْنِهِ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى.

(1/621)


وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ.
ص - قَالَ الْقَاضِي وَالْمُعْتَزِلَةُ: الْخَبَرُ: الْكَلَامُ الَّذِي يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(1/622)


وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ اجْتِمَاعُهُمَا، وَهُوَ مُحَالٌ. لَا سِيَّمَا فِي خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى. أَجَابَ الْقَاضِي بِصِحَّةِ دُخُولِهِ لُغَةً.
فَوَرَدَ أَنَّ الصِّدْقَ: الْمُوَافِقُ لِلْخَبَرِ، وَالْكَذِبَ نَقِيضُهُ. فَتَعْرِيفُهُ بِهِ دَوْرٌ. وَلَا جَوَابَ عَنْهُ. وَقِيلَ: التَّصْدِيقُ أَوِ التَّكْذِيبُ، فَيُرَدُّ الدَّوْرُ.
وَأَنَّ الْحَدَّ يَأْبَى " أَوْ ". وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ، قَبُولُ أَحَدِهِمَا.
ص - وَأَقْرَبُهَا قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ: كَلَامٌ يُفِيدُ بِنَفْسِهِ نِسْبَةً. قَالَ: " بِنَفْسِهِ " لِيُخْرِجَ نَحْوَ " قَائِمٍ " ; لِأَنَّ الْكَلِمَةَ [عِنْدَهُ] كَلَامٌ، وَهِيَ تُفِيدُ نِسْبَةً مَعَ الْمَوْضُوعِ.
وَيَرِدُ عَلَيْهِ بَابُ " قُمْ " وَنَحْوُهُ ; فَإِنَّهُ كَلَامٌ يُفِيدُ بِنَفْسِهِ نِسْبَةً، إِمَّا لِأَنَّ الْقِيَامَ مَنْسُوبٌ، وَإِمَّا لِأَنَّ الطَّلَبَ مَنْسُوبٌ.
ص - وَالْأَوْلَى: الْكَلَامُ الْمَحْكُومُ فِيهِ نِسْبَةٌ خَارِجِيَّةٌ. وَنَعْنِي الْخَارِجَ عَنْ كَلَامِ النَّفْسِ.
فَنَحْوُ طَلَبْتُ الْقِيَامَ، حُكْمٌ بِنِسْبَةٍ لَهَا خَارِجِيٌّ، بِخِلَافِ " قُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(1/623)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَقَدْ قِيلَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ أَنَّهُ يَقْتَضِي اجْتِمَاعَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَهُوَ مُحَالٌ ; لِأَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ مُتَقَابِلَانِ، وَالْمُتَقَابِلَانِ لَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا.
وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْمُتَقَابِلَيْنِ يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، أَمَّا فِي زَمَانَيْنِ فَلَا. وَالْوَاوُ لَا تَقْتَضِي اجْتِمَاعَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، بَلْ تَقْتَضِي اجْتِمَاعَهُمَا مُطْلَقًا.
أَجَابَ الْقَاضِي بِأَنَّ الْخَبَرَ الصَّادِقَ [صَحَّ] دُخُولُ الْكَذِبِ عَلَيْهِ لُغَةً، أَيْ مِنْ حَيْثُ مَفْهُومُهُ لُغَةً، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ خُصُوصِيَّةِ الْمَادَّةِ. [وَكَذَا صَحَّ دُخُولُ الصِّدْقِ عَلَى الْخَبَرِ الْكَاذِبِ] .
وَخَبَرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالضَّرُورِيَّاتُ إِنَّمَا يَمْتَنِعُ دُخُولُ الْكَذِبِ عَلَيْهِ مِنْ خَارِجِ مَفْهُومِ الْخَبَرِ ; لِأَنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالضَّرُورِيَّاتِ، يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ كَاذِبَةً.
وَلَمَّا اعْتَبَرَ الْقَاضِي فِي تَعْرِيفِ الْخَبَرِ صِحَّةَ دُخُولِهِ لُغَةً، سَقَطَ الِاعْتِرَاضُ الْمَذْكُورُ.
وَقَدْ وَرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الصِّدْقَ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْخَبَرِ وَالْكَذِبَ نَقِيضُهُ، أَعْنِي الْخَبَرَ الْغَيْرَ الْمُوَافِقِ لِلْخَبَرِ، فَيَتَوَقَّفُ تَعْرِيفُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ عَلَى الْخَبَرِ. فَتَعْرِيفُ الْخَبَرِ بِهِمَا دَوْرٌ. وَلَا جَوَابَ عَنْ لُزُومِ الدَّوْرِ.

(1/624)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
قِيلَ: فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الدَّوْرَ إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ عَرَّفْنَا الْخَبَرَ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ الْمُصْطَلَحَيْنِ، وَهُمَا بِالْخَبَرِ الْمُصْطَلَحِ. أَمَّا لَوْ عَرَّفْنَاهُ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ اللُّغَوِيِّينَ أَوْ بِالْمُصْطَلَحَيْنِ، ثُمَّ عَرَّفْنَاهُمَا بِالْخَبَرِ اللُّغَوِيِّ، لَمْ يَلْزَمِ الدَّوْرُ.
وَهَذَا النَّظَرُ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَصْدُقُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ لِكُلٍّ مِنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالْخَبَرِ مَفْهُومَانِ، لُغَوِيٌّ وَاصْطِلَاحِيٌّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ مَفْهُومَهُمَا اللُّغَوِيَّ بِعَيْنِهِ مَفْهُومُهُمَا الِاصْطِلَاحِيُّ، فَلَا يَسْقُطُ الدَّوْرُ.
قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْ لُزُومِ الدَّوْرِ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي عُلِّقَ بِهِ لَفْظُ الْخَبَرِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، مُتَمَيِّزٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، غَيْرُ مَعْلُومٍ مِنْ حَيْثُ عُلِّقَ بِهِ لَفْظُ الْخَبَرِ، فَعَرَّفَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ. فَلَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ.
وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ بِنَاءً عَلَى كَوْنِ مَدْلُولِ الْخَبَرِ ضَرُورِيًّا وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يُسَلِّمْ بَدَاهَتَهُ. وَفِي تَعْرِيفِ الْمُصَنِّفِ الصِّدْقَ بِالْمُوَافِقِ لِلْخَبَرِ تَسَاهُلٌ.
وَقِيلَ فِي تَعْرِيفِ الْخَبَرِ: إِنَّهُ الْكَلَامُ الَّذِي يَدْخُلُهُ التَّصْدِيقُ أَوِ التَّكْذِيبُ. وَالِاعْتِرَاضُ الْأَوَّلُ - وَهُوَ اسْتِلْزَامُ اجْتِمَاعِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ - لَمْ يَرِدْ

(1/625)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
هَهُنَا ; لِأَنَّ " أَوْ " لَا يَقْتَضِي الِاجْتِمَاعَ، وَلَكِنْ يَرِدُ الدَّوْرُ ; لِأَنَّ التَّصْدِيقَ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ صَادِقًا فَيَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى الصَّادِقِ، وَالصَّادِقُ عَلَى الصِّدْقِ، وَالصِّدْقُ عَلَى الْخَبَرِ، فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ. وَفِي هَذَا الدَّوْرِ تَوَقُّفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ بِثَلَاثِ مَرَاتِبَ، وَفِي الْأَوَّلِ بِمَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَأَيْضًا يَرِدُ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى لَفْظِ " أَوْ " وَهُوَ لِلتَّشْكِيكِ وَالتَّرْدِيدِ، وَالْحَدُّ يَأْبَاهُ.
وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْخَبَرَ يَدْخُلُهُ أَحَدُهُمَا لَا عَلَى التَّعْيِينِ، وَلَيْسَ فِي دُخُولِ أَحَدِهِمَا لَا عَلَى التَّعْيِينِ تَرَدُّدٌ، بَلِ التَّرَدُّدُ فِي دُخُولِ أَحَدِهِمَا عَلَى التَّعْيِينِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْحَدِّ.
ش - قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَأَقْرَبُ الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ لِلْخَبَرِ إِلَى الصَّوَابِ قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ: الْخَبَرُ كَلَامٌ يُفِيدُ بِنَفْسِهِ نِسْبَةً.

(1/626)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَالْمُرَادُ مِنَ النِّسْبَةِ: إِضَافَةُ أَمْرٍ إِلَى أَمْرٍ بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ بِحَيْثُ يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: " يُفِيدُ ".
وَإِنَّمَا قَالَ: " بِنَفْسِهِ " لِيُخْرِجَ عَنْهُ نَحْوَ " قَائِمٍ " مِنَ الْمُشْتَقَّاتِ وَالْأَفْعَالِ ; فَإِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي حَدِّ الْكَلَامِ ; لِأَنَّ الْكَلِمَةَ عِنْدَ أَبِي الْحُسَيْنِ وَمَنْ تَابَعَهُ كَلَامٌ، لَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ نِسْبَةً، بَلْ يُفِيدُ مَعَ الْمَوْضُوعِ، فَإِنَّ " قَائِمٌ " فِي قَوْلِنَا " زِيدٌ قَائِمٌ " يُفِيدُ نِسْبَةَ الْقِيَامِ إِلَى ضَمِيرِ " زَيْدٍ " لَكِنْ لَا بِنَفْسِهِ، بَلْ بِوَاسِطَةِ " زَيْدٍ " الَّذِي هُوَ الْمَوْضُوعُ.
وَيَرُدُّ عَلَى طَرْدِ هَذَا التَّعْرِيفِ بَابُ " قُمْ " أَيْ فِعْلُ الْأَمْرِ وَنَحْوُهُ، كَالنَّهْيِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَسَائِرِ الْإِنْشَاءَاتِ ; فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهَا هَذَا التَّعْرِيفُ ; لِأَنَّهَا كَلَامٌ يُفِيدُ بِنَفْسِهِ نِسْبَةً ; لِأَنَّ " قُمْ " يُفِيدُ بِنَفْسِهِ نِسْبَةَ الْقِيَامِ إِلَى الْمُخَاطَبِ، أَوْ نِسْبَةَ الطَّلَبِ إِلَى الْأَمْرِ. وَقِسْ عَلَيْهِ بَاقِي الْإِنْشَاءَاتِ.
ش - اعْلَمْ أَنَّ أَوْلَى الْحُدُودِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ لِلْخَبَرِ أَنَّهُ: الْكَلَامُ الْمَحْكُومُ فِيهِ بِنِسْبَةٍ خَارِجِيَّةٍ.

(1/627)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَيَعْنِي بِالْكَلَامِ: مَا تَضَمَّنَ كَلِمَتَيْنِ بِالْإِسْنَادِ. فَيَخْرُجُ عَنْهُ الْكَلِمَةُ، وَالْمُرَكَّبُ الْإِضَافِيُّ، وَالْمُرَكَّبُ التَّقْيِيدِيُّ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهَا بِكَلَامٍ.
وَالْمُرَادُ بِالنِّسْبَةِ الْخَارِجِيَّةِ: الْأَمْرُ الْخَارِجُ عَنْ كَلَامِ النَّفْسِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ كَلَامُ النَّفْسِ بِالْمُطَابَقَةِ وَاللَّامُطَابَقَةِ. مِثْلُ قَوْلِنَا: زَيْدٌ قَائِمٌ ; فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ الْمَوْجُودِ فِي النَّفْسِ، وَهُوَ إِسْنَادُ الْقِيَامِ إِلَى زَيْدٍ بِالْإِثْبَاتِ.
وَيُسَمَّى هَذَا الْحُكْمُ كَلَامَ النَّفْسِ. وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَمْرٍ آخَرَ مِنْ حَيْثُ الْمُطَابَقَةُ وَاللَّامُطَابَقَةُ. وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْأَمْرُ النِّسْبَةَ الْخَارِجِيَّةَ.
فَيَدْخُلُ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ مِثْلُ: طَلَبْتُ الْقِيَامَ، فَإِنَّهُ [قَدْ] حَكَمَ [فِيهِ] لَهَا خَارِجِيٌّ، وَهُوَ نِسْبَةُ طَلَبِ الْقِيَامِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي. وَهَذِهِ النِّسْبَةُ خَارِجَةٌ عَنِ الْحُكْمِ النَّفْسِيِّ [تَعَلَّقَ بِهَا الْحُكْمُ النَّفْسِيُّ] . بِالْمُطَابَقَةِ أَوِ اللَّامُطَابَقَةِ. بِخِلَافِ " قُمْ " فَإِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْحُكْمِ النَّفْسِيِّ، وَلَيْسَ لَهُ مُتَعَلِّقٌ خَارِجِيٌّ.
[الإنشاء]
ش - وَيُسَمَّى الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْخَبَرِ: إِنْشَاءً وَتَنْبِيهًا. وَمِنَ التَّنْبِيهِ: الْأَمْرُ، وَالنَّهْيُ، وَالِاسْتِفْهَامُ، وَالتَّمَنِّي، وَالتَّرَجِّي، وَالْقَسَمُ، وَالنِّدَاءُ. وَلَمْ يُفَرِّقِ الْمُصَنِّفُ بَيْنَ التَّنْبِيهِ وَالْإِنْشَاءِ.
وَقَالَ بَعْضٌ: الْكَلَامُ الَّذِي لَمْ يَحْتَمِلِ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، يُسَمَّى إِنْشَاءً. فَإِنْ دَلَّ بِالْوَضْعِ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ، يُسَمَّى أَمْرًا، وَإِنْ دَلَّ عَلَى طَلَبِ الْكَفِّ، يُسَمَّى نَهْيًا، وَإِنْ دَلَّ عَلَى طَلَبِ الْإِفْهَامِ، يُسَمَّى اسْتِفْهَامًا، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ بِالْوَضْعِ عَلَى طَلَبٍ يُسَمَّى تَنْبِيهًا. وَيَنْدَرِجُ فِيهِ التَّمَنِّي، وَالتَّرَجِّي، وَالْقَسَمُ، وَالنِّدَاءُ.

(1/628)


ص - وَيُسَمَّى غَيْرُ الْخَبَرِ إِنْشَاءً وَتَنْبِيهًا. وَمِنْهُ الْأَمْرُ، وَالنَّهْيُ، وَالِاسْتِفْهَامُ، وَالتَّمَنِّي، وَالتَّرَجِّي، وَالْقَسَمُ، وَالنِّدَاءُ.
ص - وَالصَّحِيحُ أَنَّ [نَحْوَ] " بِعْتُ " وَ " اشْتَرَيْتُ " وَ " طَلَّقْتُ " الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الْوُقُوعُ، إِنْشَاءً ; [لِأَنَّهَا] لَا خَارِجَ لَهَا. وَلِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ صِدْقًا وَلَا كَذِبًا.
وَلَوْ كَانَ خَبَرًا - لَكَانَ مَاضِيًا وَلَمْ يَقْبَلِ التَّعْلِيقَ.
وَلِأَنَّا نَقْطَعُ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ لِلرَّجْعِيَّةِ: طَلَّقْتُكِ - سُئِلَ.
ص - الْخَبَرُ صِدْقٌ أَوْ كَذِبٌ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ إِمَّا مُطَابِقٌ لِلْخَارِجِيِّ أَوْ لَا.
الْجَاحِظُ: إِمَّا مُطَابِقٌ مَعَ الِاعْتِقَادِ وَنَفْيِهِ، أَوْ لَا مُطَابِقَ مَعَ الِاعْتِقَادِ وَنَفْيِهِ. وَالثَّانِي فِيهِمَا لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جَنَّةٌ.
وَالْمُرَادُ الْحَصْرُ، فَلَا يَكُونُ صِدْقًا ; لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَهُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْنَى: أَفْتَرَى أَمْ لَمْ يَفْتَرْ، فَيَكُونُ مَجْنُونًا ; لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا افْتِرَاءَ لَهُ، [سَوَاءٌ] قَصَدَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ لِلْجُنُونِ.
ص - قَالُوا: قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا كَذَبَ، وَلَكِنَّهُ وَهِمَ. وَأُجِيبَ بِتَأْوِيلِ مَا كَذَبَ عَمْدًا.
ص - وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا فَصَدَقَ وَإِلَّا فَكَذَبَ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ.
وَأُجِيبَ: لَكَاذِبُونَ فِي شَهَادَاتِهِمْ. وَهِيَ لَفْظِيَّةٌ.
ص - وَيَنْقَسِمُ إِلَى مَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ، وَإِلَى مَا يُعْلَمُ كَذِبُهُ، وَإِلَى مَا لَا يُعْلَمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا.
فَالْأَوَّلُ: ضَرُورِيٌّ. بِنَفْسِهِ كَالْمُتَوَاتِرِ. وَبِغَيْرِهِ، كَالْمُوَافِقِ لِلضَّرُورِيِّ.
وَنَظَرِيٌّ، كَخَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى - وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْإِجْمَاعِ، أَوِ الْمُوَافِقِ لِلنَّظَرِ.
وَالثَّانِي: الْمُخَالِفُ لِمَا عُلِمَ صِدْقُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(1/629)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
ش - اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الصِّيَغَ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الْوُقُوعُ، أَيِ الصِّيَغُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي الشَّرْعِ لِتُسْتَحْدَثَ بِهَا الْأَحْكَامُ، مِثْلَ " بِعْتُ " وَ " اشْتَرَيْتُ " وَ " طَلَّقْتُ " هَلْ هُوَ إِخْبَارٌ أَمْ إِنْشَاءٌ؟
وَالصَّحِيحُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ إِنْشَاءٌ، لِأَرْبَعَةِ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ غَيْرُ مَحْكُومٍ فِيهِ بِنِسْبَةٍ خَارِجِيَّةٍ ; إِذْ لَا خَارِجَ لَهُ. وَالْكَلَامُ الَّذِي لَمْ يُحْكَمْ فِيهِ بِنِسْبَةٍ خَارِجِيَّةٍ، إِنْشَاءٌ.
الثَّانِي: أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الصِّيَغِ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ: فَلَا يَكُونُ خَبَرًا ; لِأَنَّ الْخَبَرَ قَابِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لِأَنَّ قَبُولَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ لِأَنْ يَكُونَ مُعَرِّفًا لِلْخَبَرِ، إِلَّا أَنَّهُ يَكُونُ خَاصَّةً مُسَاوِيَةً لَهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرًا لَكَانَ مَاضِيًا ; لِأَنَّ صِيغَتَهُ صِيغَةُ الْمَاضِي وَالتَّالِي بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَاضِيًا لَمْ يُقْبَلِ التَّعْلِيقُ ; لِأَنَّ التَّعْلِيقَ هُوَ تَوْقِيفُ دُخُولِ الشَّيْءِ فِي الْوُجُودِ عَلَى دُخُولِ غَيْرِهِ فِي الْوُجُودِ. وَمَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ لَا يُمْكِنُ تَوْقِيفُ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ عَلَى دُخُولِ غَيْرِهِ.
الرَّابِعُ: لَوْ كَانَ خَبَرًا لَمْ يُقْطَعْ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ فِي كَوْنِهِمَا خَبَرَيْنِ. وَالتَّالِي بَاطِلٌ ; لِأَنَّا نُفَرِّقُ قَطْعًا بَيْنَ " طَلَّقْتُ " إِذَا قُصِدَ بِهِ [وُقُوعُ] الطَّلَاقِ وَ " طَلَّقْتُ " إِذَا قُصِدَ بِهِ الْإِخْبَارُ.
وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا الْفَرْقَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ:

(1/630)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
" طَلَّقْتُكِ " سُئِلَ عَنْهُ مَاذَا تُرِيدُ بِقَوْلِكَ، إِيقَاعَ الطَّلَاقِ أَوِ الْإِخْبَارَ عَنِ الطَّلَاقِ السَّابِقِ؟ وَلَوْلَا الْفَرْقُ، لَمْ يُسْأَلْ.
[الْخَبَرُ صِدْقٌ أَوْ كَذِبٌ]
ش - لَمَّا فَرَغَ مِنْ تَعْرِيفِ الْخَبَرِ شَرَعَ فِي تَقْسِيمِهِ. وَالْخَبَرُ يَنْقَسِمُ إِلَى صِدْقٍ وَكَذِبٍ، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَلِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الْخَبَرِ إِمَّا مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ أَوْ لَا. فَإِنْ كَانَ مُطَابِقًا، فَهُوَ صِدْقٌ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ اعْتِقَادُ الْمُطَابَقَةِ أَوْ لَا. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُطَابِقٍ فَهُوَ كَذِبٌ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ اعْتِقَادُ الْمُطَابَقَةِ أَوْ لَا.

(1/631)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَذَهَبَ الْجَاحِظُ إِلَى أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَنْحَصِرُ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، بَلْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَبَرَ إِمَّا مُطَابِقٌ أَوْ غَيْرُ مُطَابِقٍ. فَإِنْ كَانَ مُطَابِقًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ اعْتِقَادُ الْمُطَابَقَةِ أَوْ لَا.
وَالثَّانِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ اعْتِقَادُ الْمُطَابَقَةِ أَوْ لَا. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُطَابِقٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ اعْتِقَادُ الْمُطَابَقَةِ أَوْ لَا. وَالثَّانِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ اعْتِقَادُ الْمُطَابَقَةِ أَوْ لَا.
فَهَذِهِ سِتَّةُ أَقْسَامٍ. وَالْأَوَّلُ مِنْهَا - وَهُوَ الْخَبَرُ الْمُطَابِقُ مَعَ اعْتِقَادِ الْمُطَابَقَةِ - صِدْقٌ وَالرَّابِعُ - وَهُوَ الْخَبَرُ الْغَيْرُ الْمُطَابِقِ مَعَ اعْتِقَادِ عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ - كَذِبٌ. وَالْأَرْبَعَةُ الْبَاقِيَةُ لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ.
فَقَوْلُهُ: " وَالثَّانِي فِيهِمَا " إِشَارَةٌ إِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ; لِأَنَّ الْمُطَابِقَ مَعَ نَفْيِ اعْتِقَادِ الْمُطَابَقَةِ انْقَسَمَ إِلَى قِسْمَيْنِ. وَغَيْرُ الْمُطَابِقِ مَعَ نَفْيِ اعْتِقَادِ الْمُطَابَقَةِ انْقَسَمَ أَيْضًا إِلَى قِسْمَيْنِ.

(1/632)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
مِثَالُ الصِّدْقِ قَوْلُنَا: زَيْدٌ فِي الدَّارِ، إِذَا كَانَ فِيهَا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ فِيهَا. مِثَالُ الْكَذِبِ قَوْلُنَا: زَيْدٌ فِي الدَّارِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا. وَاسْتَدَلَّ الْجَاحِظُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ.
وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ نُبُوَّةِ نَفْسِهِ حَصَرَ الْكُفَّارُ [إِخْبَارَهُ النُّبُوَّةَ] فِي الِافْتِرَاءِ، أَيِ الْكَذِبِ، وَإِخْبَارِ مَنْ بِهِ جَنَّةٌ، حَصْرًا عَلَى مَنْعِ الْخُلُوِّ. وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْإِخْبَارُ فِي حَالَةِ الْجُنُونِ كَذِبًا ; لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ [قَسِيمَ] الْكَذِبِ، وَقَسِيمُ الشَّيْءِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ. وَلَيْسَ بِصِدْقٍ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ صِدْقَهُ. فَيَثْبُتُ قِسْمٌ آخَرُ لَا يَكُونُ صِدْقًا وَلَا كَذِبًا.
فَإِنْ قِيلَ: الْإِخْبَارُ فِي حَالِ الْجُنُونِ دَاخِلٌ فِي الْكَذِبِ ; لِأَنَّ الِافْتِرَاءَ هُوَ الْكَذِبُ عَنِ التَّعَمُّدِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ قَسِيمًا لِلْكَذِبِ عَنْ تَعَمُّدٍ، أَنْ لَا يَكُونَ كَذِبًا.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْكَذِبِ عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ قَسِيمًا لِلْكَذِبِ. فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْوَاسِطَةَ عِنْدَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

(1/633)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: الِافْتِرَاءُ هُوَ الْكَذِبُ، أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَنْ تَعَمُّدٍ أَوْ لَا، وَالتَّقْيِيدُ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَلَا يُصَارُ إِلَيْهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ.
وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاسِطَةً بَيْنَهُمَا، لَمَا قَرَّرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا قَالُوهُ. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: افْتَرَى فِي هَذَا الْإِخْبَارِ، أَوْ لَمْ يَفْتَرِ، بَلْ بِهِ جُنُونٌ. وَكَلَامُ الْمَجْنُونِ لَيْسَ افْتِرَاءً، سَوَاءٌ قُصِدَ بِهِ الْإِفْتِرَاءُ أَوْ لَمْ يُقْصَدْ لِلْجُنُونِ ; فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ خِبْرَتِهِ كَلَامُهُ ; لِأَنَّهُ لَا قَصْدَ لَهُ [يُعْتَدُّ بِهِ] وَلَا شُعُورَ فَلَا يَكُونُ كَلَامُهُ خَبَرًا. فَيَكُونُ مُرَادُهُمُ الْحَصْرَ فِي كَوْنِهِ خَبَرًا كَذِبًا أَوْ لَيْسَ بِخَبَرٍ. فَلَمْ يَثْبُتْ خَبَرٌ لَا يَكُونُ صِدْقًا وَلَا كَذِبًا.
ش - الْقَائِلُونَ بِثُبُوتِ الْوَاسِطَةِ قَالُوا: قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اعْتِذَارًا عَمَّنْ ظَهَرَ عَدَمُ مُطَابَقَةِ خَبَرِهِ: مَا كَذَبَ وَلَكِنَّهُ وَهِمَ. نَفَتِ الْكَذِبَ عَنْ خَبَرِهِ، وَالصِّدْقُ أَيْضًا مُنْتَفٍ [عَنْهُ] بِالِاتِّفَاقِ. فَثَبَتَ خَبَرٌ لَا يَكُونُ صِدْقًا وَلَا كَذِبًا.

(1/634)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
أَجَابَ بِأَنَّهَا مَا نَفَتِ الْكَذِبَ، بَلْ نَفَتِ الْكَذِبَ الْمُتَعَمَّدَ. وَلَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ الْكَذِبِ الْمُتَعَمَّدِ عَنْهُ انْتِفَاءُ الْكَذِبِ مُطْلَقًا.
ش - قِيلَ: إِنَّ الْخَبَرَ مُنْحَصِرٌ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اعْتَبَرَهُ الْجُمْهُورُ.
بَيَانُهُ أَنَّ الْخَبَرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ وَمُعْتَقِدًا مُطَابَقَتَهُ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ صِدْقٌ، وَالثَّانِي كَذِبٌ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصِّدْقِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ، وَالصِّدْقِ بِتَفْسِيرِ الْجَاحِظِ. وَأَمَّا الْكَذِبُ فَهُوَ أَعَمُّ بِهَذَا التَّفْسِيرِ مِنَ الْكَذِبِ عِنْدَ الْجَاحِظِ ; فَإِنَّ الْأَقْسَامَ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي لَيْسَتْ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ عِنْدَ الْجَاحِظِ، تَكُونُ كَذِبًا بِهَذَا التَّفْسِيرِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمُطَابَقَةِ فِي الصِّدْقِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَذَّبَ الْمُنَافِقِينَ فِي إِخْبَارِهِمْ عَنْ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.

(1/635)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
فَلَوْ كَانَ الْخَبَرُ الْمُطَابِقُ بِدُونِ اعْتِقَادِ الْمُطَابَقَةِ صِدْقًا، لَمَا كَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ; لِأَنَّ إِخْبَارَهُمْ عَنْ رِسَالَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ.
أَجَابَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَذَّبَهُمْ فِي إِخْبَارِهِمْ عَنِ الرِّسَالَةِ، بَلْ كَذَّبَهُمْ فِي شَهَادَتِهِمْ. وَالشَّهَادَةُ الصَّادِقَةُ أَنْ يَشْهَدَ الشَّاهِدُ بِالْمُطَابِقِ مَعَ كَوْنِهِ مُعْتَقِدًا. [وَ] اعْتِقَادُ الْمُطَابَقَةِ شَرْطُ صِدْقِ الشَّهَادَةِ، وَالْمُنَافِقُونَ لَمَّا لَمْ يَكُونُوا مُعْتَقِدِينَ رِسَالَتَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كَانُوا كَاذِبِينَ فِي شَهَادَتِهِمْ.
وَهَذِهِ الْمُنَازَعَةُ لَفْظِيَّةٌ ; لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الِاصْطِلَاحِ.