بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب

[النَّسْخُ]
[تعريف النسخ]
ش - لَمَّا فَرَغَ مِنَ الْمُبَاحَثَاتِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الثَّلَاثَةِ شَرَعَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَقَطْ. وَهُوَ النَّسْخُ.
وَالنَّسْخُ فِي اللُّغَةِ: الْإِزَالَةُ ; يُقَالُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ؛ أَيْ أَزَالَتِ الظِّلَّ.
وَالنَّقْلُ أَيْضًا؛ يُقَالُ: نَسَخْتُ الْكِتَابَ، أَيْ نَقَلْتُهُ، وَنَسَخْتُ النَّحْلَ، أَيْ نَقَلْتُهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى آخَرَ.
وَمِنْهُ الْمُنَاسَخَاتُ ; لِانْتِقَالِهِ مِنْ وَارِثٍ إِلَى آخَرَ.
وَلَمَّا وَقَعَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ النَّسْخِ فِي الْإِزَالَةِ وَالنَّقْلِ - قِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِعْمَالِ: الْحَقِيقَةُ.
وَقِيلَ: حَقِيقَةٌ لِلْأَوَّلِ مَجَازٌ فِي الثَّانِي.
وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ.
وَالْأَخِيرَانِ أَوْلَى مِنَ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْمَجَازَ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لَكِنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الِاشْتِرَاكِ.

(2/488)


النَّسْخُ
ص - النَّسْخُ: الْإِزَالَةُ؛ نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ. وَالنَّقْلُ، نَسَخْتُ الْكِتَابَ، وَنَسَخْتُ النَّحْلَ.
وَمِنْهُ الْمُنَاسَخَاتُ.
فَقِيلَ: مُشْتَرَكٌ.
وَقِيلَ: لِلْأَوَّلِ.
وَقِيلَ: لِلثَّانِي.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ.
فَيَخْرُجُ الْمُبَاحُ بِحُكْمِ الْأَصْلِ.
وَالرَّفْعُ بِالنَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ.
وَبِنَحْوِ: صَلِّ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ.
وَنَعْنِي بِالْحُكْمِ: مَا يَحْصُلُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّ الْوُجُوبَ الْمَشْرُوطَ بِالْعَقْلِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ انْتِفَائِهِ قَطْعًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/489)


فَلَا يَرِدُ: الْحُكْمُ قَدِيمٌ فَلَا يَرْتَفِعُ؛ لِأَنَّا لَمْ نُعَيِّنْهُ.
وَالْقَطْعُ بِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ شَيْءٍ بَعْدَ وُجُوبِهِ انْتَفَى الْوُجُوبُ، وَهُوَ الْمَعْنَى الرَّفْعُ.
ص - الْإِمَامُ: اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى ظُهُورِ انْتِفَاءِ شَرْطِ دَوَامِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ.
فَيَرِدُ أَنَّ اللَّفْظَ دَلِيلُ النَّسْخِ (لَا نَفْسُهُ) .
وَلَا يَطَّرِدُ ; فَإِنَّ لَفْظَ الْعَدْلِ نَسَخَ حُكْمَ كَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ.
وَلَا يَنْعَكِسُ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِفِعْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
ثُمَّ حَاصِلُهُ: اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى النَّسْخِ ; لِأَنَّهُ فَسَّرَ الشَّرْطَ بِانْتِفَاءِ النَّسْخِ، وَانْتِفَاءُ انْتِفَائِهِ حُصُولُهُ.
وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/490)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ؛ فَقَوْلُهُ: " رَفْعُ الْحُكْمِ " كَالْجِنْسِ يَشْمَلُ النَّسْخَ وَغَيْرَهُ.
وَقَوْلُهُ: " الشَّرْعِيِّ " يُخْرِجُ رَفْعَ الْمُبَاحِ الَّذِي ثَبَتَ بِالْأَصْلِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ.
وَقَوْلُهُ: " بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ " يُخْرِجُ رَفْعَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِالنَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ ; فَإِنَّ رَفْعَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَنِ النَّائِمِ وَالْغَافِلِ بِالنَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ.
(قِيلَ: لِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ الرَّفْعِ بِالنَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ) لَا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، بَلْ هُوَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ» ) ". فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُ: " بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ " احْتِرَازٌ عَنِ الرَّفْعِ بِالْمَوْتِ.
وَهَذَا لَيْسَ بِوَارِدٍ ; إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَيِّتِ وَالنَّائِمِ وَالْغَافِلِ فِي رَفْعِ الْحُكْمِ عَنْهُمْ، لِأَنَّا عَلِمْنَا بِالْعَقْلِ أَنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ: التَّعَقُّلُ، وَكَمَا أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَعْقِلُ التَّكْلِيفَ، فَكَذَلِكَ النَّائِمُ وَالْغَافِلُ لَا يَعْقِلَانِ

(2/491)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
التَّكْلِيفَ.
وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - " «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ» " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّافِعَ هُوَ النَّوْمُ وَالنِّسْيَانُ، لَا أَنَّ الرَّافِعَ هُوَ هَذَا الْقَوْلُ.
وَقَوْلُهُ: " مُتَأَخِّرٍ " احْتِرَازٌ عَنْ رَفْعِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ غَيْرِ مُتَأَخِّرٍ، مِثْلَ الرَّفْعِ بِالْمُتَّصِلِ مُسْتَقِلًّا؛ مِثْلَ مَا إِذَا قَالَ - عُقَيْبَ قَوْلِهِ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ: لَا تَقْتُلُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ، أَوْ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ؛ كَالرَّفْعِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، كَمَا يَقُولُ: صُومُوا هَذَا الشَّهْرَ إِلَّا الْيَوْمَ الْعَاشِرَ مِنْهُ، وَكَالرَّفْعِ بِالْغَايَةِ؛ مِثْلَ: صَلِّ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ.
وَكَالرَّفْعِ بِالشَّرْطِ مِثْلَ: صَلِّ إِنْ كُنْتَ صَحِيحًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى الْخِطَابِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ تَعَلُّقًا عِلْمِيًّا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَدِيمًا، وَيُطْلَقُ تَارَةً عَلَى الْخِطَابِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ تَعَلُّقًا خَارِجِيًّا.
وَالْحُكْمُ بِهَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِهَذَا الْمَعْنَى مَشْرُوطٌ بِالتَّعَقُّلِ ; لِأَنَّ التَّعَلُّقَ الْخَارِجِيَّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ التَّعَقُّلِ، فَيَكُونُ حَادِثًا ; لِأَنَّ الْوُجُوبَ الْمَشْرُوطَ بِالْعَقْلِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْعَقْلِ قَطْعًا.

(2/492)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَحِينَئِذٍ لَا يَرِدُ قَوْلُهُمْ: الْحُكْمُ قَدِيمٌ، وَالْقَدِيمُ لَا يُرْفَعُ، فَلَا يَنْعَكِسُ التَّعْرِيفُ؛ لِصِدْقِ الْمَحْدُودِ بِدُونِ الْحَدِّ ; لِأَنَّا لَمْ نَعْنِ بِالْحُكْمِ الْحُكْمَ الْقَدِيمَ الَّذِي لَا يَرْتَفِعُ؛ بَلْ نَعْنِ بِهِ الْحُكْمَ الْحَادِثَ الَّذِي يُمْكِنُ رَفْعُهُ، لِأَنَّا نَقْطَعُ أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ شَيْءٍ بَعْدَ وُجُوبِهِ انْتَفَى وُجُوبُهُ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَنْتَفِي التَّعَلُّقُ الْخَارِجِيُّ الَّذِي هُوَ جُزْءٌ مِنْ مَفْهُومِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِالرَّفْعِ.
وَهَذَا التَّعْرِيفُ غَيْرُ مُنْعَكِسٍ ; لِأَنَّهُ دَخَلَ فِيهِ الْبَيَانُ بِالتَّخْصِيصِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ رُفِعَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ.
ش - عَرَّفَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ النَّسْخَ بِأَنَّهُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى ظُهُورِ انْتِفَاءِ شَرْطِ دَوَامِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ اللَّفْظَ دَلِيلُ النَّسْخِ، لَا نَفْسُهُ.
وَبِأَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ الْحَدَّ، فَإِنَّ لَفْظَ الْعَدْلِ نَسَخَ حُكْمَ كَذَا، يَصْدُقُ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدُّ ; لِأَنَّهُ لَفْظٌ دَالٌّ عَلَى ظُهُورِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ لَفْظَ عَدْلٍ وَظُهُورِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ. وَلَفْظُ الْعَدْلِ لَيْسَ بِنَسْخٍ بِالِاتِّفَاقِ.
وَبِأَنَّهُ لَا يَنْعَكِسُ ; لِأَنَّ النَّسْخَ قَدْ يَكُونُ بِفِعْلِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَيُوجَدُ الْحَدُّ بِدُونِ الْمَحْدُودِ.
وَبِأَنَّ حَاصِلَ الْحَدِّ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ النَّسْخَ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى النَّسْخِ، فَيَكُونُ تَعْرِيفَ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ. وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا، لِأَنَّ الْإِمَامَ فَسَّرَ شَرْطَ دَوَامِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ بِانْتِفَاءِ النَّسْخِ، فَانْتِفَاءُ شَرْطِ الدَّوَامِ انْتِفَاءُ انْتِفَاءِ النَّسْخِ، وَانْتِفَاءُ انْتِفَاءِ النَّسْخِ حُصُولُ النَّسْخِ، فَيَكُونُ مَعْنَى ظُهُورِ انْتِفَاءِ شَرْطِ دَوَامِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ: ظُهُورَ النَّسْخِ، وَيَلْزَمُ مَا ذَكَرْنَا.

(2/493)


الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ.
وَأَوْرَدَ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ.
وَأَنَّ قَوْلَهُ: عَلَى وَجْهٍ إِلَى آخِرِهِ، زِيَادَةٌ.
وَقَالَتِ الْفُقَهَاءُ: النَّصُّ الدَّالُّ عَلَى انْتِهَاءِ أَمَدِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مَعَ التَّأْخِيرِ عَنْ مَوْرِدِهِ.
وَأَوْرَدَ الثَّلَاثَةَ.
فَإِنْ فَرُّوا مِنَ الرَّفْعِ لِكَوْنِ الْحُكْمِ قَدِيمًا، وَالتَّعَلُّقِ قَدِيمًا - فَانْتِهَاءُ أَمَدِ الْوُجُوبِ يُنَافِي بَقَاءَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى الرَّفْعِ.
وَإِنْ فَرُّوا لِأَنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ تَعَلُّقٌ بِمُسْتَقْبَلٍ لَزِمَ مَنْعُ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ، كَالْمُعْتَزِلَةِ.
وَإِنْ كَانَ لِأَنَّهُ بَيَانُ أَمَدِ التَّعَلُّقِ بِالْمُسْتَقْبَلِ الْمَظْنُونِ اسْتِمْرَارُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ زَوَالِهِ.
الْمُعْتَزِلَةُ: اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ (بِالنَّصِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/494)


الْمُتَقَدِّمِ) زَائِلٌ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا.
فَيُرَدُّ مَا عَلَى الْغَزَّالِيِّ.
وَالْمُقَيَّدُ بِالْمَرَّةِ بِفِعْلٍ.
ص - وَالْإِجْمَاعُ عَلَى الْجَوَازِ وَالْوُقُوعِ.
وَخَالَفَتِ الْيَهُودُ فِي الْجَوَازِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/495)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَرَامَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ إِصْلَاحَ هَذَا التَّعْرِيفِ وَدَفْعَ الِاعْتِرَاضَاتِ وَقَالَ: الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ: التَّلَفُّظُ، وَاللَّامُ فِيهِ عِوَضُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ تَلَفُّظُ الشَّرْعِ.
وَالْمُرَادُ بِانْتِفَاءِ شَرْطِ دَوَامِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ: حُصُولُ حُكْمٍ لَا يُجَامِعُ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ، فَحِينَئِذٍ لَا يَرِدُ أَنَّ اللَّفْظَ دَلِيلُ النَّسْخِ ; لِأَنَّ الْمَلْفُوظَ دَلِيلُ النَّسْخِ، لَا اللَّفْظَ، وَاللَّفْظُ: بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ، وَهُوَ النَّسْخُ.
وَيَطَّرِدُ ; لِأَنَّ قَوْلَ الْعَدْلِ لَيْسَ لَفْظَ الشَّرْعِ.
وَيَكُونُ حَاصِلُ التَّعْرِيفِ أَنَّهُ لَفْظٌ دَالٌّ عَلَى ظُهُورِ حُكْمٍ لَا يُجَامِعُ الْأَوَّلَ، فَلَا دَوْرَ.
وَالْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ لَا أَنَّهُ نَسْخٌ، بِخِلَافِ اللَّفْظِ فَإِنَّهُ الْإِتْيَانُ بِالْمَلْفُوظِ الَّذِي هُوَ الدَّلِيلُ، فَيَكُونُ نَسْخًا.
هَذَا مَا قَالَهُ. وَفِيهِ نَظَرٌ.
لِأَنَّ اللَّفْظَ هُوَ الْمَلْفُوظُ لَا التَّلَفُّظُ ; لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ دَالًّا، وَالدَّالُّ هُوَ الْمَلْفُوظُ، لَا التَّلَفُّظُ، فَحِينَئِذٍ يُرَدُّ الِاعْتِرَاضُ الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْمُرَادُ مِنَ انْتِفَاءِ شَرْطِ دَوَامِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ: حُصُولُ حُكْمٍ لَا يُجَامِعُ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ - فَبَاطِلٌ؛ إِذْ لَا دَلَالَةَ لِانْتِفَاءِ شَرْطِ دَوَامِ

(2/496)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
الْحُكْمِ الْأَوَّلِ عَلَى حُصُولِ حُكْمٍ لَا يُجَامِعُ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ بِالْمُطَابَقَةِ وَلَا بِالتَّضَمُّنِ وَلَا بِالِالْتِزَامِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ مَا لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ.
وَالْمُصَنِّفُ أَوْرَدَ الِاعْتِرَاضَ الرَّابِعَ بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِ الْإِمَامِ الشَّرْطَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ وَارِدٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: اللَّامُ فِي اللَّفْظِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الشَّرْعُ، قُلْنَا: لَمْ يَتَحَقَّقْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ فِي تَعْرِيفِ النَّسْخِ: إِنَّهُ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ.
فَقَوْلُهُ: الْخِطَابُ الدَّالُّ، كَالْجِنْسِ يَشْمَلُ النَّسْخَ وَغَيْرَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: الْخِطَابُ، وَلَمْ يَقُلِ النَّصُّ ; لِيَكُونَ شَامِلًا لِلَّفْظِ وَالْفَحْوَى وَالْمَفْهُومِ إِذْ يَجُوزُ النَّسْخُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ (يُخْرِجُ الْخِطَابَ الْمُقَرِّرَ لِلْحُكْمِ) .
وَإِنَّمَا قَالَ: ارْتِفَاعُ الْحُكْمِ، وَلَمْ يَقُلِ ارْتِفَاعُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ; لِيَعُمَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْحُكْمِ مِنَ النَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْإِبَاحَةِ، فَإِنَّ جَمِيعَ

(2/497)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
ذَلِكَ قَدْ يُنْسَخُ.
وَقَوْلُهُ: الثَّابِتُ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ، يُخْرِجُ الْخِطَابَ الدَّالَّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْأَصْلِ.
وَقَوْلُهُ: عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا. احْتِرَازٌ عَنِ الْخِطَابِ الدَّالِّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي لَهُ وَقْتٌ مَحْدُودٌ، مِثْلَ: لَا تَصُومُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، بَعْدَ مَا إِذَا قَالَ: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] ; فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ دَالًّا عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ، لَكِنْ لَا يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا.
وَقَوْلُهُ: مَعَ تَرَاخِيهِ؛ احْتِرَازٌ عَنِ الْخِطَابِ الدَّالِّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ، إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ، كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالصِّفَةِ وَالْغَايَةِ وَالشَّرْطِ؛ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ نَسْخًا، بَلْ بَيَانًا وَإِتْمَامًا لِمَعْنَى الْكَلَامِ.
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا الْحَدِّ الثَّلَاثُ الْأُوَلُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْحَدِّ الْمُتَقَدِّمِ.
فَإِنَّ الْخِطَابَ دَلِيلُ النَّسْخِ، لَا نَفْسُهُ.

(2/498)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَإِنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْعَدْلِ نَسَخَ حُكْمَ كَذَا - نَسْخًا.
وَأَنَّ النَّسْخَ قَدْ يَكُونُ بِفِعْلِ الرَّسُولِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخِطَابٍ.
وَيَرِدُ أَيْضًا: أَنَّ قَوْلَهُ: عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا مَعَ تَرَاخِيهِ، زِيَادَةٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي التَّعْرِيفِ.
وَلَا يَرِدُ الثَّانِي ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِطَابِ خِطَابُ الشَّارِعِ ; لِأَنَّهُ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إِطْلَاقِ الْخِطَابِ، بِخِلَافِ اللَّفْظِ فَإِنَّهُ لَا يَسْبِقُ مِنْ إِطْلَاقِهِ لَفْظَ الشَّارِعِ.
وَالْفُقَهَاءُ لَمَّا لَمْ يَعْقِلُوا الرَّفْعَ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَرَّفُوا النَّسْخَ بِأَنَّهُ: النَّصُّ الدَّالُّ عَلَى انْتِهَاءِ أَمَدِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مَعَ التَّأْخِيرِ عَنْ مَوْرِدِهِ، أَيْ عَنْ زَمَانِ وُرُودِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ: مَا يُقَابِلُ الْإِجْمَاعَ وَالْقِيَاسَ.
وَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ الثَّلَاثَةَ الْأُولَى الْوَارِدَةَ عَلَى الْحَدَّيْنِ الْأَوَّلَيْنِ؛ يَعْنِي كَوْنَ النَّصِّ دَلِيلَ النَّسْخِ، لَا نَفْسَهُ، وَعَدَمَ الِاطِّرَادِ، وَعَدَمَ الِانْعِكَاسِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ عَدَمَ الِاطِّرَادِ غَيْرُ وَارِدٍ ; لِأَنَّ النَّصَّ لَا يُطْلَقُ عَلَى لَفْظِ الْعَدْلِ.
وَكَذَا عَدَمُ الِانْعِكَاسِ، غَيْرُ وَارِدٍ ; لِأَنَّ النَّصَّ يَتَنَاوَلُ فِعْلَ الرَّسُولِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.

(2/499)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَالْمُصَنِّفُ بَيَّنَ أَنَّ فِرَارَهُمْ عَنْ إِطْلَاقِ الرَّفْعِ عَلَى النَّسْخِ لَا وَجْهَ لَهُ ; لِأَنَّهُمْ إِنْ فَرُّوا مِنَ الرَّفْعِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدِيمٌ، وَالتَّعَلُّقَ الْمَعْنَوِيَّ أَيْضًا قَدِيمٌ، وَالْقَدِيمُ لَا يُرْفَعُ، فَانْتِهَاءُ أَمَدِ الْوُجُوبِ يُنَافِي بَقَاءَ الْوُجُوبِ عَلَى الْمُكَلَّفِ ; لِأَنَّهُ إِذَا انْتَهَى أَمَدُ الْوُجُوبِ لَمْ يَبْقَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ. وَلَا نَعْنِي بِالرَّفْعِ إِلَّا عَدَمَ بَقَاءِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُكَلَّفِ، فَيَلْزَمُ وُقُوعُهُمْ فِيمَا فَرُّوا عَنْهُ.
وَإِنْ فَرُّوا عَنْ إِطْلَاقِ النَّسْخِ، لِأَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا كَانَ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَتَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِالْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يُرْفَعُ؛ لِأَنَّ التَّعَلُّقَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ يُوجَدْ، وَمَا لَمْ يُوجَدْ، لَا يَرْتَفِعُ - لَزِمَهُمْ مَنْعُ نَسْخِ الْحُكْمِ قَبْلَ الْوَقْتِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَالْفُقَهَاءُ يُجَوِّزُونَ نَسْخَ الْحُكْمِ قَبْلَ الْوَقْتِ.
وَإِنْ فَرُّوا عَنِ الرَّفْعِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِالْمُسْتَقْبَلِ يُظَنُّ دَوَامُهُ وَاسْتِمْرَارُهُ، وَالنَّسْخُ بَيَانُ أَمَدِ التَّعَلُّقِ بِالْمُسْتَقْبَلِ الْمَظْنُونِ اسْتِمْرَارُهُ - فَلَا بُدَّ مِنْ زَوَالِ التَّعَلُّقِ الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّ بَعْدَ بَيَانِ الْأَمَدِ لَا يَبْقَى ظَنُّ الِاسْتِمْرَارِ، فَصَحَّ إِطْلَاقُ الرَّفْعِ حِينَئِذٍ عَلَيْهِ.
قِيلَ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: زَوَالُهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ

(2/500)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
الْمُقْتَضَى، فَصَحَّ مَا قَالَ الْفُقَهَاءُ، وَلَا يَصِحُّ مَا قُلْتُمْ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ رَفْعًا بِدَلِيلٍ آخَرَ.
وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْمُقْتَضَى لَا يَخْلُوا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَحَقِّقًا، أَوْ لَا.
وَالثَّانِي بَاطِلٌ وَإِلَّا لَمْ يَتَحَقَّقِ الْحُكْمُ.
وَالْأَوَّلُ لَا يَخْلُوا إِمَّا أَنْ يَنْعَدِمَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ.
وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ.
وَالثَّانِي يَلْزِمُ مِنْهُ رَفْعُ الْحُكْمِ بِدَلِيلٍ مُتَأَخِّرٍ.
وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: النَّسْخُ: اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ زَائِلٌ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا.
وَهَذَا التَّعْرِيفُ قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرَهُ الْغَزَّالِيُّ، فَلِهَذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا يَرُدُّ عَلَى تَعْرِيفِ الْغَزَّالِيِّ.
وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ خَاصَّةً الْأَمْرُ الْمُقَيَّدُ بِمَرَّةٍ إِذَا وَرَدَ بَعْدَهُ نَصٌّ دَالٌّ عَلَى زَوَالِ حُكْمِهِ؛ فَإِنَّهُ نَسْخٌ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى زَوَالِ مِثْلِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ، بَلْ عَلَى زَوَالِ ذَلِكَ الْحُكْمِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا غَيْرُ وَارِدٍ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ ; لِأَنَّهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ نَسْخَ الْحُكْمِ قَبْلَ الْفِعْلِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ الْأَمْرُ الْمُقَيَّدُ بِالْمَرَّةِ عِنْدَهُمْ.
[الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِ النسخ]
ش - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ وَعَلَى الْوُقُوعِ أَيْضًا.
وَخَالَفَتِ الْيَهُودُ فِي الْجَوَازِ وَأَبُو مُسْلِمٍ

(2/501)


وَأَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي الْوُقُوعِ.
لَنَا: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ.
وَإِنِ اعْتُبِرَتِ الْمَصَالِحُ فَالْقَطْعُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ (قَدْ) تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ.
وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ أَمَرَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِتَزْوِيجِ بَنَاتِهِ مِنْ بَنِيهِ.
وَقَدْ حُرِّمَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ.
وَاسْتَدَلَّ بِإِبَاحَةِ السَّبْتِ ثُمَّ تَحْرِيمِهِ، وَبِجَوَازِ الْخِتَانِ ثُمَّ إِيجَابِهِ يَوْمَ الْوِلَادَةِ عِنْدَهُمْ.
وَبِجَوَازِ الْأُخْتَيْنِ، ثُمَّ التَّحْرِيمِ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ رَفْعَ مُبَاحِ الْأَصْلِ لَيْسَ بِنَسْخٍ.
ص - قَالُوا: لَوْ نُسِخَتْ شَرِيعَةُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَبَطَلَ قَوْلُ مُوسَى الْمُتَوَاتِرِ: هَذِهِ شَرِيعَةٌ مُؤَبَّدَةٌ.
قُلْنَا: مُخْتَلَقٌ.
قِيلَ: مِنَ ابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ.
وَالْقَطْعُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ صَحِيحًا - لَقَضَتِ الْعَادَةُ بِقَوْلِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/502)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
الْأَصْفَهَانِيُّ فِي الْوُقُوعِ.
وَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْوُقُوعِ مَعَ مُخَالَفَةِ أَبِي مُسْلِمٍ، مَحْمُولٌ إِمَّا عَلَى إِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ، وَإِمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُصَنِّفِ، وَهُوَ أَنَّ مُخَالَفَةَ الْوَاحِدِ لَا يُخِلُّ بِالْإِجْمَاعِ.
وَاحْتَجَّ عَلَى الْجَوَازِ بِالْقَطْعِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَ عِبَادَهُ بِفِعْلٍ فِي وَقْتٍ ثُمَّ يَرْفَعُهُ عَنْهُمْ.
وَإِنِ اعْتُبِرَتِ الْمَصَالِحُ - كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ؛ وَهُوَ أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى تَابِعَةٌ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ - فَالْجَوَازُ أَيْضًا ثَابِتٌ؛ إِذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ

(2/503)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى اسْتِلْزَامَ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ فِي وَقْتٍ لِمَصْلَحَةٍ وَاسْتِلْزَامَ رَفْعِهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ لِمَصْلَحَةٍ ; لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَخْتَلِفُ بِالْأَوْقَاتِ كَمَا تَخْتَلِفُ بِالْأَشْخَاصِ.
وَأَيْضًا: قَدْ وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِتَزْوِيجِ بَنَاتِهِ مِنْ بَنِيهِ، وَقَدْ حُرِّمَ ذَلِكَ، يَعْنِي تَزْوِيجَ الْبَنَاتِ مِنَ الْبَنِينَ بِالِاتِّفَاقِ، فَيَكُونُ النَّسْخُ وَاقِعًا، وَالْوُقُوعُ دَلِيلُ الْجَوَازِ.
وَاسْتُدِلَّ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ بِأَنَّ إِبَاحَةَ الْعَمَلِ يَوْمَ السَّبْتِ كَانَتْ ثَابِتَةً، ثُمَّ نُسِخَتِ الْإِبَاحَةُ وَحُرِّمَ الْعَمَلُ يَوْمَ السَّبْتِ.
وَبِأَنَّ جَوَازَ الْخِتَانِ كَانَ حَاصِلًا، ثُمَّ صَارَ وَاجِبًا يَوْمَ الْوِلَادَةِ عِنْدَهُمْ.
وَبِأَنَّ جَوَازَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ كَانَ ثَابِتًا، ثُمَّ نُسِخَ الْجَوَازُ وَثَبَتَ التَّحْرِيمُ، فَيَكُونُ النَّسْخُ وَاقِعًا. وَالْوُقُوعُ دَلِيلُ الْجَوَازِ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ هَذِهِ الصُّوَرَ كَانَتْ مُبَاحَةً بِدَلِيلِ الْأَصْلِ؛ وَرَفْعُ مُبَاحِ الْأَصْلِ لَيْسَ بِنَسْخٍ.
[الشبه التى تمسك بها اليهود في عدم جواز النسخ]
ش - تَمَسَّكَ الْيَهُودُ فِي عَدَمِ جَوَازِ النَّسْخِ بِخَمْسِ شُبَهٍ.
الشُّبْهَةُ الْأُولَى - تَقْرِيرُهَا أَنْ يُقَالَ: لَوْ نُسِخَتْ شَرِيعَةُ مُوسَى لَبَطَلَ قَوْلُ مُوسَى: هَذِهِ شَرِيعَةٌ مُؤَبَّدَةٌ عَلَيْكُمْ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ.
وَالتَّالِي بَاطِلٌ، لِأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَسُولٌ صَادِقٌ بِاتِّفَاقٍ فَلَا يَبْطُلُ قَوْلُهُ.
بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ: أَنَّ قَوْلَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرِيعَتَهُ مُؤَبَّدَةٌ، فَلَوْ نُسِخَتْ يَلْزَمُ بُطْلَانُ قَوْلِهِ.
أَجَابَ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُخْتَلَقٌ أَيْ مُفْتَرًى.
قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْكَذِبَ إِنَّمَا وَقَعَ مِنَ ابْنِ الرَّوَانْدِيِّ لِيُعَارِضَ

(2/504)


لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
ص - قَالُوا: إِنْ نَسَخَ لِحِكْمَةٍ ظَهَرَتْ لَهُ، لَمْ تَكُنْ ظَاهِرَةً لَهُ - فَهُوَ الْبَدَاءُ، وَإِلَّا فَعَبَثٌ.
وَأُجِيبُ - بَعْدَ اعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ -: أَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ، كَمَنْفَعَةِ شُرْبِ دَوَاءٍ فِي وَقْتٍ أَوْ حَالٍ وَضَرَرِهِ فِي آخَرَ، فَلَمْ يَتَجَدَّدْ ظُهُورُ مَا لَمْ يَكُنْ.
ص - قَالُوا: إِنْ كَانَ مُقَيَّدًا فَلَيْسَ بِنَسْخٍ.
وَإِنْ دَلَّ عَلَى التَّأْبِيدِ لَمْ يُقْبَلْ لِلتَّنَاقُضِ بِأَنَّهُ مُؤَبَّدٌ لَيْسَ بِمُؤَبَّدٍ.
وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تَعَذُّرِ الْإِخْبَارِ بِالتَّأْبِيدِ، وَإِلَى نَفْيِ الْوُثُوقِ بِتَأْبِيدِ حُكْمٍ مَا.
وَإِلَى جَوَازِ نَسْخِ شَرِيعَتِكُمْ.
أُجِيبُ بِأَنَّ تَقْيِيدَ الْفِعْلِ الْوَاجِبِ بِالتَّأْبِيدِ، لَا يَمْنَعُ النَّسْخَ، كَمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/505)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
بِهِ دَعْوَى الرِّسَالَةِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْقَطْعُ حَاصِلٌ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحًا عِنْدَهُمْ لَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; إِذِ الْعَادَةُ تَقْضِي بِقَوْلِهِ لِلنَّبِيِّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمَّا لَمْ يَذْكُرُوا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَهُمْ.
ش - الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ - لَوْ جَازَ النَّسْخُ - لَجَازَ الْبَدَاءُ أَوِ الْعَبَثُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَالتَّالِي بَاطِلٌ لِاسْتِحَالَةِ الْبَدَاءِ الَّذِي هُوَ الظُّهُورُ بَعْدَ الْخَفَاءِ عَلَى اللَّهِ الَّذِي {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 3] وَلِاسْتِحَالَةِ الْعَبَثِ.

(2/506)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ: أَنَّ النَّسْخَ إِنْ كَانَ لِحِكْمَةٍ ظَهَرَتْ لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ تَكُنْ ظَاهِرَةً لَهُ قَبْلَ النَّسْخِ - يَلْزَمُ الْبَدَاءُ، لِأَنَّ الْبَدَاءَ: ظُهُورُ مَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا.
وَإِلَّا - أَيْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِحِكْمَةٍ ظَهَرَتْ لَهُ لَمْ تَكُنْ ظَاهِرَةً لَهُ قَبْلَ النَّسْخِ يَلْزَمُ الْعَبَثُ.
أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى تَابِعَةٌ لِلْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَهُوَ قَاعِدَةُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهَا.
وَلَئِنْ سُلِّمَ أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى تَابِعَةٌ لِلْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فَالْمَصَالِحُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ، كَمَنْفَعَةِ شُرْبِ دَوَاءٍ فِي وَقْتٍ وَحَالٍ وَضَرَرِهِ فِي آخَرَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى اسْتِلْزَامَ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ فِي وَقْتٍ لِمَصْلَحَةٍ، وَاسْتِلْزَامَ نَسْخِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِمَصْلَحَةٍ أُخْرَى، فَلَمْ يَتَجَدَّدْ ظُهُورُ مَا لَمْ يَكُنْ.
ش - الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ - الْخِطَابُ الْوَارِدُ عَلَيْهِ النَّسْخُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا أَيْ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَانْتِهَاءُ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ نَسْخًا.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى التَّأْبِيدِ، فَلَا يَقْبَلُ النَّسْخَ؛ لِأَرْبَعَةِ وُجَوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ قَبِلَ النَّسْخَ لَلَزِمَ التَّنَاقُضُ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ الْمُقَيَّدَ بِالتَّأْبِيدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مُؤَبَّدٌ. وَالنَّسْخُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ، لَيْسَ بِمُؤَبَّدٍ، وَهُوَ التَّنَاقُضُ.
الثَّانِي - أَنَّهُ لَوْ قُبِلَ النَّسْخُ لَأَدَّى إِلَى تَعَذُّرِ الْإِخْبَارِ بِالتَّأْبِيدِ ; لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِالتَّأْبِيدِ إِنَّمَا هُوَ لِتَعْرِيفِ الْمُخَاطَبِ التَّأْبِيدَ، وَلَا طَرِيقَ لِلْمُخَاطَبِ إِلَى مَعْرِفَةِ التَّأْبِيدِ، لِجَوَازِ طَرَيَانِ النَّسْخِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَى التَّأْبِيدِ.
الثَّالِثُ - أَنَّهُ لَوْ قُبِلَ النَّسْخُ لَأَدَّى إِلَى نَفْيِ الْوُثُوقِ بِتَأْبِيدِ

(2/507)


لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا مِثْلَ: صُمْ رَمَضَانَ، ثُمَّ يُنْسَخُ قَبْلَهُ، فَهَذَا أَجْدَرُ.
وَقَوْلُهُ: صُمْ رَمَضَانَ أَبَدًا بِالنَّصِّ يُوجِبُ أَنَّ الْجَمِيعَ مُتَعَلِّقٌ بِالْوُجُوبِ. وَلَا يَلْزَمُ الِاسْتِمْرَارُ، فَلَا تَنَاقُضَ. كَالْمَوْتِ.
وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّ الْوُجُوبَ بَاقٍ أَبَدًا، ثُمَّ يُنْسَخَ.
ص - قَالُوا: لَوْ جَازَ لَكَانَ قَبْلَ وُجُودِهِ، أَوْ بَعْدَهُ أَوْ مَعَهُ.
وَارْتِفَاعُهُ قَبْلَ وُجُودِهِ أَوْ بَعْدَهُ بَاطِلٌ، وَمَعَهُ أَجْدَرُ؛ لِاسْتِحَالَةِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.
قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّ التَّكْلِيفَ الَّذِي كَانَ زَالَ، كَالْمَوْتِ ; لَا أَنَّ الْفِعْلَ يَرْتَفِعُ.
ص - قَالُوا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَارِي - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلِمَ اسْتِمْرَارَهُ أَبَدًا فَلَا نَسْخَ، أَوْ إِلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَلَيْسَ بِنَسْخٍ، قُلْنَا: إِلَى الْوَقْتِ (الْمُعَيَّنِ) الَّذِي عَلِمَ أَنَّهُ يَنْسَخُهُ فِيهِ.
وَعِلْمُهُ بِارْتِفَاعِهِ بِالنَّسْخِ لَا يَمْنَعُ النَّسْخَ.
ص - وَعَلَى الْأَصْفَهَانِيِّ: الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ شَرِيعَتَنَا نَاسِخَةٌ لِمَا يُخَالِفُهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/508)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
حُكْمٍ مَا لِجَوَازِ طَرَيَانِ النَّسْخِ عَلَيْهِ.
الرَّابِعُ - أَنَّهُ لَوْ قُبِلَ النَّسْخُ لَأَدَّى إِلَى جَوَازِ نَسْخِ شَرِيعَتِكُمْ؛ لِأَنَّ النَّصَّ الدَّالَّ عَلَى التَّأْبِيدِ لَا يَمْنَعُ النَّسْخَ.
أَجَابَ بِأَنَّ تَقْيِيدَ انْفَعَلَ الْوَاجِبَ بِالتَّأْبِيدِ كَقَوْلِهِ: صُمْ رَمَضَانَ أَبَدًا، لَا يَمْنَعُ النَّسْخَ ; فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ مُعَيَّنًا، مِثْلَ: صُمْ رَمَضَانَ، ثُمَّ يُنْسَخُ قَبْلَهُ - لَمْ يَمْتَنِعِ النَّسْخُ.
وَإِذَا كَانَ تَعْيِينُ الْوَقْتِ لَا يَمْنَعُ النَّسْخَ قَبْلَ الْوَقْتِ فَالتَّأْيِيدُ أَجْدَرُ أَنْ لَا يَمْنَعَ النَّسْخَ.
وَقَوْلُهُمْ: صُمْ رَمَضَانَ أَبَدًا، يُوجِبُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ أَنَّ الرَّمَضَانَاتِ كُلَّهَا مُتَعَلِّقَةُ الْوُجُوبِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِمْرَارُ الْوُجُوبِ فِي الرَّمَضَانَاتِ كُلِّهَا. فَلَا يَلْزَمُ التَّنَاقُضُ.
كَالْمَوْتِ، فَإِنَّ تَعَلُّقَ خِطَابَ الْوُجُوبِ بِالْمُكَلَّفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ عُمْرِهِ - وَلَوْ كَانَ مِائَةَ سَنَةٍ - مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ، لَا أَنَّهُ يَسْتَمِرُّ الْوُجُوبُ مِائَةَ سَنَةٍ.
وَالْمُمْتَنِعُ أَنْ يُخْبَرَ بِأَنَّ الْوُجُوبَ بَاقٍ أَبَدًا، ثُمَّ يُنْسَخُ، مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: وُجُوبُ صَوْمِ عَاشُورَاءَ بَاقٍ أَبَدًا، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يُنْسَخَ، وَإِلَّا يَلْزَمُ الْكَذِبُ فِي خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى.
قِيلَ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ اسْتِغْرَاقِ

(2/509)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
الرَّمَضَانَاتِ كُلِّهَا لِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ وَعَدَمِ لُزُومِ الِاسْتِمْرَارِ، فَإِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ النَّسْخِ وَعَدَمِ الِاسْتِمْرَارِ، يَبْطُلُ الِاسْتِغْرَاقُ.
وَعَدَمُ التَّنَاقُضِ فِي تَأْبِيدِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَعَدَمُ تَأْبِيدِهِ بِالْمَوْتِ لِأَجْلِ أَنَّهُ عَرَفَ بِالْقَرِينَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّأْبِيدِ مُدَّةُ بَقَاءِ التَّكْلِيفِ.
ش - الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ - أَنَّهُ لَوْ جَازَ نَسْخُ وُجُوبِ الْفِعْلِ لَكَانَ إِمَّا قَبْلَ وُجُودِ الْفِعْلِ، أَوْ بَعْدَهُ أَوْ مَعَهُ.
وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي بَاطِلٌ؛ لِكَوْنِهِ مَعْدُومًا فِي الْحَالَيْنِ، وَرَفْعُ الْمَعْدُومِ مُمْتَنِعٌ.
وَأَمَّا ارْتِفَاعُهُ مَعَهُ فَهُوَ أَجْدَرُ بِالْبُطْلَانِ ; لِاسْتِحَالَةِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ.
أَجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِنَسْخِ الْحُكْمِ أَنَّ التَّكْلِيفَ الَّذِي كَانَ عَلَى

(2/510)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
الْمُكَلَّفِ زَالَ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ. كَزَوَالِ التَّكْلِيفِ بِالْمَوْتِ، لَا أَنَّ الْفِعْلَ يَرْتَفِعُ.
ش - الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ - أَنْ يُقَالَ: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلِمَ اسْتِمْرَارَ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ أَبَدًا، فَحِينَئِذٍ لَا نَسْخَ لَهُ، وَإِلَّا يَلْزَمُ وُقُوعُ خِلَافِ مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُحَالٌ.
أَوْ عَلِمَ اسْتِمْرَارَهُ إِلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَحِينَئِذٍ لَيْسَ بِنَسْخٍ؛ لِانْتِهَاءِ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ.
أَجَابَ بِأَنَّا نَخْتَارُ الشِّقَّ الثَّانِيَ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى اسْتِمْرَارَهُ إِلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَنْسَخُ ذَلِكَ الْحُكْمَ فِيهِ.
وَعِلْمُ اللَّهِ بِارْتِفَاعِ الْحُكْمِ بِالنَّسْخِ لَا يَمْنَحُ النَّسْخَ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ انْتِهَاؤُهُ بِالنَّسْخِ لَا بِنَفْسِهِ.
ش - هَذِهِ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَتَقْرِيرُهَا أَنْ يُقَالَ: النَّسْخُ وَاقِعٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ شَرِيعَتَنَا نَاسِخَةٌ لِكُلِّ شَرِيعَةٍ تُخَالِفُ شَرِيعَتَنَا.
وَعَلَى أَنَّ وُجُوبَ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَنْسُوخٌ بِوُجُوبِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ.
وَعَلَى أَنَّ وَصِيَّةَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ.
كَنَسْخِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّسُولِ عَلَى مُنَاجَاتِهِ.
وَكَنَسْخِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ.
[مَسْأَلَةٌ: الْمُخْتَارُ جَوَازُ النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ]
ش - اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ.
وَالْمُخْتَارُ: جَوَازُهُ، خِلَافًا لِلصَّيْرَفِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ.
مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: حُجُّوا هَذِهِ السَّنَةَ، ثُمَّ يَقُولَ - قَبْلَ الْحَجِّ -: لَا تَحُجُّوا.
وَاحْتَجَّ عَلَى الْمُخْتَارِ بِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ - أَنَّهُ ثَبَتَ فِي مَبَادِئِ الْأَحْكَامِ أَنَّ التَّكْلِيفَ يَتَوَجَّهُ قَبْلَ (وَقْتِ) مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ، فَوَجَبَ جَوَازُ رَفْعِ التَّكْلِيفِ الثَّابِتِ قَبْلَ الْفِعْلِ بِالنَّاسِخِ، كَمَا جَازَ رَفْعُهُ بِالْمَوْتِ.
وَالثَّانِي - أَنَّ كُلَّ نَسْخٍ كَذَلِكَ، أَيْ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ ; لِأَنَّ النَّسْخَ رَفَعُ التَّكْلِيفَ، وَرَفْعُ التَّكْلِيفِ بَعْدَ وَقْتِ الْفِعْلِ وَمَعَهُ مُمْتَنِعٌ ; أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ إِنْ أَتَى الْمُكَلَّفُ بِالْفِعْلِ انْقَطَعَ التَّكْلِيفُ عَنْهُ

(2/511)


وَنُسِخَ التَّوَجُّهُ ; وَالْوَصِيَّةُ لِلْأَقْرَبِينَ بِالْمَوَارِيثِ.
وَذَلِكَ كَثِيرٌ.
ص - (مَسْأَلَةٌ) الْمُخْتَارُ: جَوَازُ النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/512)


مِثْلَ: حُجُّوا هَذِهِ السَّنَةَ، ثُمَّ يَقُولُ قَبْلَهُ: لَا تَحُجُّوا.
وَمَنَعَ الْمُعْتَزِلَةُ وَالصَّيْرَفِيُّ.
لَنَا: ثَبَتَ التَّكْلِيفُ، قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ، فَوَجَبَ جَوَازُ رَفْعِهِ كَالْمَوْتِ.
وَأَيْضًا: فَكُلُّ نَسْخٍ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ بَعْدَ الْوَقْتِ وَمَعَهُ يَمْتَنِعُ نَسْخُهُ.
ص - وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أُمِرَ بِالذَّبْحِ بِدَلِيلِ: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] وَبِالْإِقْدَامِ، وَبِتَرْوِيعِ الْوَلَدِ، وَنُسِخَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ.
وَاعْتَرَضَ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُوَسَّعًا.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ رَفْعَ تَعَلَّقِ الْوُجُوبِ بِالْمُسْتَقْبَلِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بَاقٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَانِعُ عِنْدَهُمْ.
وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُوَسَّعًا لَقَضَتِ الْعَادَةُ بِتَأْخِيرِهِ، رَجَاءَ نَسْخِهِ أَوْ مَوْتِهِ لِعِظَمِهِ.
وَأَمَّا دَفْعُهُمْ بِمِثْلِ: لَمْ يُؤْمَرْ، وَإِنَّمَا تَوَهَّمَ، أَوْ أُمِرَ بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ - فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
أَوْ ذَبَحَ وَكَانَ يَلْتَحِمُ عُقَيْبَةً، أَوْ جَعَلَ صَفِيحَةَ نُحَاسٍ، أَوْ حَدِيدٍ - فَلَا يُسْمَعُ، وَيَكُونُ نَسْخًا قَبْلَ التَّمَكُّنِ.
ص - قَالُوا: إِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ ذَلِكَ الْوَقْتَ تَوَارَدَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَلَا نَسْخَ.
وَأُجِيبُ: لَمْ يَكُنْ، بَلْ قَبْلَهُ، وَانْقَطَعَ التَّكْلِيفُ عِنْدَهُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/513)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
بِنَفْسِهِ. فَلَا نَسْخَ.
وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ عَصَى بِتَرْكِهِ، فَلَا نَسْخَ أَيْضًا.
وَأَمَّا الثَّانِي - فَلِامْتِنَاعِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ.
ش - وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ الْوَقْتِ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ.

(2/514)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أُمِرَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ وَنُسِخَ عَنْهُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الذَّبْحِ، أَيْ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ إِسْمَاعِيلَ - {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] وَهُوَ الذَّبْحُ، لِأَنَّهُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] .
وَبِدَلِيلِ إِقْدَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى الذَّبْحِ.
وَبِدَلِيلِ تَرْوِيعِهِ إِسْمَاعِيلَ، أَيْ تَخْوِيفِهِ.
فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الذَّبْحُ مَأْمُورًا بِهِ لَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُخَوِّفْ وَلَدَهُ.
وَأَمَّا أَنَّهُ نُسِخَ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] وَأَمَّا أَنَّهُ نُسِخَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ، أَيْ قَبْلَ وَقْتِهِ، فَلِأَنَّهُ لَوْ تَمَكَّنَ مِنَ الذَّبْحِ لَكَانَ عَاصِيًا بِتَأْخِيرِهِ.
وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الذَّبْحِ مُوَسَّعًا، وَنُسِخَ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتٍ يَسَعُ الذَّبْحَ فِيهِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ النَّسْخُ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ.
أَجَابَ عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ - أَنَّ ذَلِكَ، أَيِ الْوَقْتَ الْمُوَسَّعَ لَا يَمْنَعُ رَفْعَ تَعَلُّقِ

(2/515)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
الْوُجُوبِ بِالْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ لَا يَمْنَعُ رَفْعَ تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ ; لِأَنَّ وُجُوبَ الْفِعْلِ بَاقٍ عَلَى الْمُكَلَّفِ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِالْفِعْلِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ الْمُوَسَّعِ، وَبَقَاءُ الْوُجُوبِ عَلَى الْمُكَلَّفِ هُوَ الْمَانِعُ عِنْدَ الْخُصُومِ عَنِ النَّسْخِ.
فَيَمْتَنِعُ النَّسْخُ فِي بَاقِي الْوَقْتِ الْمُوَسَّعِ.
وَيَمْتَنِعُ أَيْضًا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْوَقْتِ الْمُوَسَّعِ؛ لِانْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ بِنَفْسِهِ.
وَيَمْتَنِعُ أَيْضًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ الْمُوَسَّعِ لِتَحَقُّقِ الْوُجُوبِ فِيهِ.
فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ قَبْلَ الْوَقْتِ الْمُوَسَّعِ.
الثَّانِي - أَنَّهُ لَوْ كَانَ وُجُوبُ الذَّبْحِ مُوَسَّعًا لَأَخَّرَهُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تَقْضِي بِتَأْخِيرِ مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ رَجَاءً لِنَسْخِهِ أَوْ مَوْتِ أَحَدِهِمَا، لِعِظَمِ مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ.
وَقَدْ دَفَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يُؤْمَرْ بِالذَّبْحِ، وَإِنَّمَا تَوَهَّمَ الْأَمْرَ بِهِ.
أَوْ أُمِرَ بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ لَا بِنَفْسِهِ.
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ هَذَا الدَّفْعَ لَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُؤْمَرْ بِالذَّبْحِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى الْفِدَاءِ.

(2/516)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَدَفَعُوا أَيْضًا بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُ ذَبَحَ وَالْتَحَمَ عُقَيْبَةً، أَيْ صَارَ صَحِيحًا؛ يُقَالُ: الْتَحَمَ الْجُرْحُ لِلْبُرْءِ.
وَبِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى حَلْقِهِ صَفِيحَةَ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ، فَيَمْتَنِعُ الذَّبْحُ، لَا أَنَّهُ نَسْخٌ.
أَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يُسْمَعُ هَذَا الدَّفْعُ.
أَمَّا الْأَوَّلُ - فَلِأَنَّهُ لَوْ ذَبَحَ وَالْتَحَمَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْفِدَاءِ.
وَأَمَّا الثَّانِي - فَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْأَمْرُ بِالذَّبْحِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ مُحَالٌ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَمَعَ هَذَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ نَسْخًا قَبْلَ التَّمَكُّنِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الذَّبْحِ عِنْدَ وُجُودِ الصَّفِيحَةِ.
وَالصَّفِيحَةُ: السَّيْفُ الْعَرِيضُ، وَوَجْهُ كُلِّ شَيْءٍ عَرِيضٍ.
ش - الْمَانِعُونَ مِنْ جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ قَالُوا: لَا يَجُوزُ النَّسْخُ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ إِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِالْفِعْلِ فِي وَقْتِهِ، فَلَوْ نُسِخَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَأْمُورًا بِالْفِعْلِ، غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهِ، فَيَلْزَمُ تَوَارُدُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَلَا نَسْخَ.
أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِوُجُودِ النَّاسِخِ فِيهِ، بَلْ يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ قَبْلَهُ، وَانْقَطَعَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِهِ بِالنَّاسِخِ، كَمَا يَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ.
[مَسْأَلَةٌ: الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ مِثْلَ: صُومُوا أَبَدًا]
ش - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ نَسْخِ الْأَمْرِ الْمُقَيَّدِ بِالتَّأْبِيدِ مِثْلَ: صُومُوا أَبَدًا.
خِلَافًا لِبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ.
بِخِلَافِ الْخَبَرِ الْمُقَيَّدِ بِالتَّأْبِيدِ، مِثْلَ: الصَّوْمُ وَاجِبٌ مُسْتَمِرٌّ أَبَدًا، فَإِنَّ الْأَكْثَرَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ؛ لِلُزُومِ التَّنَاقُضِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَوَّلِ جَوَازُ النَّسْخِ.
وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: صُومُوا أَبَدًا، لَا يَزِيدُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى تَعْيِينِ الْوَقْتِ وَالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلِهِ: صُمْ غَدًا، ثُمَّ يُنْسَخُ قَبْلَ دُخُولِ الْغَدِ، لِمَا ذَكَرْنَا.
فَكَمَا جَازَ نَسْخُ قَوْلِهِ: صُمْ غَدًا قَبْلَ دُخُولِ الْغَدِ، فَكَذَلِكَ جَازَ نَسْخُ: صُومُوا أَبَدًا.
الْمَانِعُونَ مِنْ جَوَازِ نَسْخِ الْأَمْرِ الْمُقَيَّدِ بِالتَّأْبِيدِ (قَالُوا: نَسْخُ الْأَمْرِ الْمُقَيَّدِ بِالتَّأْبِيدِ يُوجِبُ التَّنَاقُضَ ; لِأَنَّ صِيغَةَ التَّأْبِيدِ) تَقْتَضِي الْإِيجَابَ أَبَدًا، وَنَسْخَهُ يَقْتَضِي عَدَمَ الْإِيجَابِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَيَلْزَمُ التَّنَاقُضُ.
أَجَابَ بِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إِيجَابِ صَوْمِ غَدٍ، وَبَيْنَ انْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ قَبْلَ الْغَدِ بِالنَّاسِخِ، كَانْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ قَبْلَ الْغَدِ بِالْمَوْتِ.

(2/517)


كَالْمَوْتِ.
ص - (مَسْأَلَةٌ) الْجُمْهُورُ: عَلَى جَوَازِ نَسْخِ مِثْلَ: صُومُوا أَبَدًا، بِخِلَافِ: الصَّوْمُ وَاجِبٌ مُسْتَمِرٌّ أَبَدًا.
لَنَا: لَا يَزِيدُ عَلَى: صُمْ غَدًا، ثُمَّ يُنْسَخُ قَبْلَهُ.
قَالُوا: مُتَنَاقِضٌ.
قُلْنَا: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إِيجَابِ صَوْمِ غَدٍ وَانْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/518)


قَبْلَهُ، كَالْمَوْتِ.
ص - (مَسْأَلَةٌ) الْجُمْهُورُ: جَوَازُ النَّسْخِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ.
لَنَا: أَنَّ مَصْلَحَةَ الْمُكَلَّفِ قَدْ تَكُونُ فِي ذَلِكَ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ وَقَعَ كَنَسْخِ وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ بَعْدَ الْفِطْرِ، وَتَحْرِيمِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ.
قَالُوا: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) .
وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْخِلَافَ فِي الْحُكْمِ لَا فِي اللَّفْظِ.
سَلَّمْنَا، لَكِنْ خُصِّصَ.
سَلَّمْنَا وَيَكُونُ نَسْخُهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ خَيْرٌ لِمَصْلَحَةٍ عُلِمَتْ.
وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ، فَمِنْ أَيْنَ: لَمْ يَجُزْ.
ص - (مَسْأَلَةٌ) الْجُمْهُورُ: جَوَازُ النَّسْخِ بِأَثْقَلَ.
لَنَا: مَا تَقَدَّمَ.
وَبِأَنَّهُ نَسَخَ التَّخْيِيرَ فِي الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةَ.
وَصَوْمَ عَاشُورَاءَ بِرَمَضَانَ.
وَالْحَبْسَ فِي الْبُيُوتِ بِالْحَدِّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/519)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
[مَسْأَلَةٌ: الْجُمْهُورُ على جَوَازُ النَّسْخِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ]
ش - اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ نَسْخِ الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِهِ.
وَذَهَبَ بَعْضٌ إِلَى عَدَمِ جَوَازِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْجَوَازِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
- الْأَوَّلُ - أَنَّ الْحُكْمَ إِنْ تَبِعَ الْمَصْلَحَةَ، فَيَجُوزُ نَسْخُهُ بِلَا بَدَلٍ ; لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْمُكَلَّفِ قَدْ يَكُونُ فِي رَفْعِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ.

(2/520)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَإِنْ لَمْ يَتْبَعِ الْمَصْلَحَةَ، فَجَوَازُهُ أَظْهَرُ ; لِأَنَّهُ " يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ " وَ " يُحْكِمُ مَا يُرِيدُ ".
الثَّانِي - أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ نَسْخُ الْحُكْمِ بِلَا بَدَلٍ لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْجَوَازِ.
وَالثَّانِي بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ وَقَعَ، كَنَسْخِ وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ بَعْدَ الْفِطْرِ بِلَا بَدَلٍ، وَنَسْخِ تَحْرِيمِ ادِّخَارِ لُحُومِ

(2/521)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
الْأَضَاحِي (أَيْضًا) بِلَا بَدَلٍ.
الْمَانِعُونَ مِنْ جَوَازِ النَّسْخِ بِلَا بَدَلٍ قَالُوا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ النَّسْخِ بِلَا بَدَلٍ.
أَجَابَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ فَإِنَّ الْخِلَافَ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْحُكْمِ بِلَا بَدَلٍ، لَا فِي اللَّفْظِ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْبَدَلِ فِي نَسْخِ اللَّفْظِ لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إِلَى الْآيَةِ، وَالْآيَةُ لَفْظٌ.

(2/522)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
سَلَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ نَسْخَ الْحُكْمِ أَيْضًا، لَكِنْ خُصِّصَ الْحُكْمُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الصُّوَرِ.
سَلَّمْنَا أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى عُمُومِهَا لَكِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ النَّسْخِ بِدُونِ الْإِتْيَانِ بِمَا هُوَ خَيْرٌ، وَالنَّسْخُ بِلَا بَدَلٍ خَيْرٌ مِنْ إِبْقَاءِ الْحُكْمِ لِمَصْلَحَةٍ يَعْلَمُهَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّسْخَ لَا يَقَعُ بِدُونِ بَدَلٍ، فَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ؛ فَإِنَّ عَدَمَ الْوُقُوعِ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ الْجَوَازِ.
[مَسْأَلَةٌ: الْجُمْهُورُ جَوَازُ النَّسْخِ بِأَثْقَلَ]
ش - الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ النَّسْخِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ بِبَدَلٍ أَخَفَّ، مِثْلَ نَسْخِ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيْلَةِ رَمَضَانَ بِبَدَلِ حِلِّهِ، وَهُوَ الْأَخَفُّ.
وَبِبَدَلٍ مُسَاوٍ مِثْلَ نَسْخِ وُجُوبِ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِوُجُوبِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ النَّسْخِ بِبَدَلٍ أَثْقَلَ.

(2/523)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِهِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْجَوَازِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ - الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ إِنْ تَبِعَ الْمَصْلَحَةَ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْلَحَةٌ فِي نَسْخِ الْحُكْمِ بِبَدَلٍ أَثْقَلَ، وَإِنْ لَمْ يَتْبَعْ فَجَوَازُهُ أَظْهَرُ.
الثَّانِي - الْوُقُوعُ، فَمِنْ ذَلِكَ نَسْخُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَهُوَ أَثْقَلُ مِنَ التَّخْيِيرِ.
وَمِنْهُ وُجُوبُ صَوْمِ عَاشُورَاءَ بِوُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَهُوَ أَشَقُّ وَأَثْقَلُ.
وَمِنْهُ نَسْخُ الْحَبْسِ فِي الْبُيُوتِ الَّذِي كَانَ حَدًّا لِلزِّنَا بِالْحَدِّ وَهُوَ الضَّرْبُ بِالسِّيَاطِ وَالتَّغْرِيبُ سَنَةً فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُحْصَنِ، وَالرَّجْمِ بِالْحِجَارَةِ

(2/524)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
حَقَّ الْمُحْصَنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَثْقَلُ.

(2/525)


ص - قَالُوا: أَبْعَدُ فِي الْمَصْلَحَةِ.
قُلْنَا: يَلْزَمُكُمْ فِي ابْتِدَاءِ التَّكْلِيفِ.
وَأَيْضًا: فَقَدْ يَكُونُ عَلِمَ الْأَصْلَحَ فِي الْأَثْقَلِ، كَمَا يُسْقِمُهُمْ بَعْدَ الصِّحَّةِ وَيُضْعِفُهُمْ بَعْدَ الْقُوَّةِ.
قَالُوا: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
قُلْنَا: إِنْ سُلِّمَ عُمُومٌ فَسِيَاقُهَا لِلْمَآلِ فِي تَخْفِيفِ الْحِسَابِ وَتَكْثِيرِ الثَّوَابِ، أَوْ تَسْمِيَةٍ لِلشَّيْءِ بِعَاقِبَتِهِ؛ مِثْلَ: (لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ) .
وَإِنْ سُلِّمَ الْفَوْرُ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، كَمَا خُصَّتْ ثِقَالُ التَّكَالِيفِ وَالِابْتِلَاءِ بِاتِّفَاقٍ.
قَالُوا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وَالْأَشَقُّ لَيْسَ بِخَيْرٍ لِلْمُكَلَّفِ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ خَيْرٌ بِاعْتِبَارِ الثَّوَابِ.
ص - (مَسْأَلَةٌ) الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ، وَبِالْعَكْسِ وَنَسْخِهِمَا مَعًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/526)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
ش - الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ جَوَازِ النَّسْخِ بِأَثْقَلَ احْتَجُّوا بِثَلَاثَةِ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ - أَنَّ النَّسْخَ بِبَدَلٍ أَثْقَلَ أَبْعَدُ عَنْ مَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِينَ ; لِأَنَّهُمْ إِنِ امْتَثَلُوا الْتَزَمُوا زِيَادَةَ الْمَشَقَّةِ، وَإِنْ تَرَكُوا يَلْزَمُهُمُ الْعُقُوبَةُ.
أَجَابَ بِأَنَّ هَذَا يَلْزَمُكُمْ فِي ابْتِدَاءِ التَّكْلِيفِ ; لِأَنَّ النَّاسَ فِي سَعَةِ الْإِبَاحَةِ، فَنَقْلُهُمْ إِلَى التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ أَبْعَدُ عَنِ الْمَصْلَحَةِ.
وَأَيْضًا: قَدْ يَكُونُ الْبَارِي - تَعَالَى - عَلِمَ أَنَّ الْأَصْلَحَ هُوَ الْأَثْقَلُ، كَمَا يُسْقِمُهُمْ بَعْدَ الصِّحَّةِ، وَيُضْعِفُهُمْ بَعْدَ الْقُوَّةِ ; لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ السَّقَمَ وَالضَّعْفَ أَصْلَحُ.
الثَّانِي - أَنَّهُ لَوْ جَازَ النَّسْخُ بِبَدَلٍ أَثْقَلَ لَزِمَ كَذِبُ قَوْلِهِ - تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] وَقَوْلِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
وَالتَّالِي بَاطِلٌ.
بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ الْآيَتَيْنِ تَدُلَّانِ عَلَى إِرَادَةِ التَّخْفِيفِ وَالْيُسْرِ، وَالنَّسْخُ بِبَدَلٍ أَثْقَلُ يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ التَّثْقِيلِ وَالْعُسْرِ، فَيَلْزَمُ كَذِبُ الْآيَتَيْنِ.
أَجَابَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ عُمُومَ الْآيَةِ فِي إِرَادَةِ التَّخْفِيفِ وَالْيُسْرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.

(2/527)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَلَئِنْ سُلِّمَ عُمُومُ الْآيَةِ فِي التَّخْفِيفِ وَالْيُسْرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى التَّخْفِيفِ وَالْيُسْرِ لِلْمَآلِ فِي تَخْفِيفِ الْحِسَابِ وَتَكْثِيرِ الثَّوَابِ.
أَوْ تَسْمِيَةِ التَّثْقِيلِ وَالْعُسْرِ بِالتَّخْفِيفِ وَالْيُسْرِ تَسْمِيَةَ الشَّيْءِ بِاسْمِ عَاقِبَتِهِ (فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ) يَرْجِعُ إِلَى التَّخْفِيفِ بِسَبَبِ نَيْلِ الثَّوَابِ وَدَفْعِ الْعِقَابِ مِثْلَ: لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ.
فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ عَاقِبَةَ الْوِلَادَةِ: الْمَوْتُ، وَعَاقِبَةَ الْبِنَاءِ: الْخَرَابُ، جَعَلَهُمَا غَايَةَ الْوِلَادَةِ وَالْبِنَاءِ، تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِعَاقِبَتِهِ.
وَلَئِنْ سُلِّمَ إِرَادَةُ التَّخْفِيفِ وَالْيُسْرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الْفَوْرِ لَكِنْ مَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الصُّوَرِ، كَمَا خُصَّتْ ثِقَالُ التَّكَالِيفِ وَالِابْتِلَاءِ بِاتِّفَاقٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى -: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَدَلَ يَكُونُ خَيْرًا مِنَ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلَهُ، وَالْأَثْقَلُ الْأَشَقُّ لَا يَكُونُ خَيْرًا لِلْمُكَلَّفِ وَلَا مِثْلًا.
أَجَابَ بِأَنَّهُ خَيْرٌ لِلْمُكَلَّفِ بِاعْتِبَارِ عِظَمِ الثَّوَابِ.
[مَسْأَلَةٌ: الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ وَبِالْعَكْسِ وَنَسْخِهِمَا مَعًا]
ش - الْجُمْهُورُ ذَهَبُوا إِلَى جَوَازِ نَسْخِ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ، وَبِالْعَكْسِ، أَيْ جَوَازِ نَسْخِ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ، وَجَوَازِ نَسْخِ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ مَعًا.
وَخَالَفَهُمْ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ كُلٍّ مِنَ الثَّلَاثَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ ; الْأَوَّلُ - الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ؛ فَإِنَّا نَقْطَعُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا لِمَصْلَحَةٍ يَعْلَمُهَا اللَّهُ تَعَالَى.

(2/528)


وَخَالَفَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ.
لَنَا: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ.
وَأَيْضًا: الْوُقُوعُ.
عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: - " كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ: " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ ".
وَنُسِخَ الِاعْتِدَادُ بِالْحَوْلِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مُحَرِّمَاتٌ ".
وَالْأَشْبَهُ: جَوَازُ مَسِّ الْمُحْدِثِ لِلْمَنْسُوخِ لَفْظُهُ.
ص - قَالُوا: التِّلَاوَةُ مَعَ حُكْمِهَا، كَالْعِلْمِ مَعَ الْعَالَمِيَّةِ، وَالْمَنْطُوقِ مَعَ الْمَفْهُومِ؛ فَلَا يَنْفَكَّانِ.
وَأُجِيبُ بِمَنْعِ الْعَالَمِيَّةِ وَالْمَفْهُومِ.
وَلَوْ سُلِّمَ فَالتِّلَاوَةُ أَمَارَةُ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً لَا دَوَامًا، فَإِذَا نُسِخَ لَمْ يَنْتَفِ الْمَدْلُولُ.
وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ.
قَالُوا: بَقَاءُ التِّلَاوَةِ يُوهِمُ بَقَاءَ الْحُكْمِ، فَيُوقِعُ فِي الْجَهْلِ، وَأَيْضًا: فَتَزُولُ فَائِدَةُ الْقُرْآنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/529)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَالثَّانِي - الْوُقُوعُ.
أَمَّا وُقُوعُ التِّلَاوَةِ فَقَطْ فَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا " وَقَدْ نُسِخَ تِلَاوَتُهُ وَلَمْ يُنْسَخْ حُكْمُهُ.
وَأَمَّا وُقُوعُ نَسْخِ الْحُكْمِ فَقَطْ، فَلِأَنَّ حُكْمَ آيَةِ الِاعْتِدَادِ بِالْحَوْلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة: 240] قَدْ نُسِخَ بِدُونِ تِلَاوَتِهِ، وَأَمَّا وُقُوعُ نَسْخِهِمَا مَعًا فَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ:

(2/530)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
" كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مُحَرِّمَاتٌ، فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ ". وَقَدْ كَانَ مَنْسُوخَ التِّلَاوَةِ أَيْضًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ مَنْسُوخَ اللَّفْظِ هَلْ يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ مَسُّهُ أَمْ لَا؟ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ مَسُّهُ لِلْمُحْدِثِ.
ش - الْمَانِعُونَ مِنْ جَوَازِ نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِدُونِ الْآخَرِ قَالُوا: التِّلَاوَةُ مَعَ حُكْمِهَا كَالْعَالَمِيَّةِ مَعَ الْعِلْمِ، وَالْمَنْطُوقِ مَعَ الْمَفْهُومِ؛ فَكَمَا لَا انْفِكَاكَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَالَمِيَّةِ وَبَيْنَ الْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ، فَكَذَلِكَ لَا انْفِكَاكَ بَيْنَ التِّلَاوَةِ وَحُكْمِهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ نَسْخُ أَحَدِهِمَا بِدُونِ الْآخَرِ.
أَجَابَ بِمَنْعِ الْعَالَمِيَّةِ وَالْمَفْهُومِ؛ أَيْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَالَمِيَّةَ مُغَايِرَةٌ لِلْعِلْمِ، بَلِ الْعِلْمُ هُوَ الْعَالَمِيَّةُ.
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَفْهُومَ ثَابِتٌ.
وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ انْفِكَاكِهِ عَنِ الْمَفْهُومِ.
وَلَئِنْ سُلِّمَ أَنَّ الْعَالَمِيَّةَ مُغَايِرَةٌ لِلْعِلْمِ وَالْمَنْطُوقَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْمَفْهُومِ - فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ التِّلَاوَةَ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْحُكْمِ ; فَإِنَّ التِّلَاوَةَ أَمَارَةُ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً، لَا دَوَامًا، فَإِذَا نُسِخَتْ لَمْ يَنْتَفِ الْحُكْمُ ; إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَاءِ الْأَمَارَةِ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ.
وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ، أَيْ لَا يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ انْتِفَاءُ الْأَمَارَةِ.
وَقَالُوا أَيْضًا ; لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ بِدُونِ التِّلَاوَةِ ; لِأَنَّ بَقَاءَ

(2/531)


قُلْنَا: مَبْنِيٌّ عَلَى التَّحْسِينِ.
وَلَوْ سُلِّمَ فَلَا جَهْلَ مَعَ الدَّلِيلِ ; لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَعْلَمُ، وَالْمُقَلِّدَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ.
وَفَائِدَتُهُ كَوْنُهُ مُعْجِزًا وَقُرْآنًا يُتْلَى.
ص - (مَسْأَلَةٌ) الْمُخْتَارُ جَوَازُ نَسْخِ التَّكْلِيفِ بِالْإِخْبَارِ بِالْإِخْبَارِ بِنَقِيضِهِ.
خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/532)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
التِّلَاوَةِ يُوهِمُ بَقَاءَ الْحُكْمِ ; لِكَوْنِ التِّلَاوَةِ أَمَارَةً لِلْحُكْمِ، فَيَلْزَمُ وُقُوعُ الْمُكَلَّفِ فِي الْجَهْلِ، وَتَزُولُ فَائِدَةُ الْقُرْآنِ؛ إِذِ الْفَائِدَةُ بَيَانُ الْأَحْكَامِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الْأَلْفَاظُ، فَإِذَا انْتَفَتْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ زَالَ فَائِدَةُ اللَّفْظِ.
أَجَابَ بِأَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّحْسِينِ الْعَقْلِيِّ، وَهُوَ مَرْدُودٌ.
وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ فَلَا نُسَلِّمُ وُقُوعَ الْمُكَلَّفِ فِي الْجَهْلِ ; إِذْ لَا جَهْلَ مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ النَّاسِخِ، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ إِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا يَعْلَمُ الدَّلِيلَ النَّاسِخَ، فَلَا يَقَعُ فِي الْجَهْلِ. وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا يَرْجِعُ إِلَى الْمُجْتَهِدِ وَيَقْبَلُ مِنْهُ وَلَا نُسَلِّمُ أَيْضًا أَنَّهُ يَزُولُ فَائِدَةُ الْقُرْآنِ ; فَإِنَّ فَائِدَةَ التِّلَاوَةِ لَا يَنْحَصِرُ فِي الْحُكْمِ، بَلْ يَكُونُ فَائِدَتُهُ كَوْنُهُ مُعْجِزًا وَكَوْنُهُ يُتْلَى، فَيَحْصُلُ الثَّوَابُ بِتِلَاوَتِهِ.
[مَسْأَلَة: الْمُخْتَارُ جَوَازُ نَسْخِ التَّكْلِيفِ بِالْإِخْبَارِ بِالْإِخْبَارِ بِنَقِيضِهِ]
ش - الْمُخْتَارُ جَوَازُ نَسْخِ تَكْلِيفِنَا بِالْإِخْبَارِ عَنْ شَيْءٍ بِتَكْلِيفِنَا بِالْإِخْبَارِ (عَنْ نَقِيضِهِ.
خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ.
مِثْلَ أَنَّ تَكْلِيفَنَا بِالْإِخْبَارِ) عَنْ وُجُودِ زَيْدٍ، ثُمَّ تَكْلِيفَنَا بِالْإِخْبَارِ عَنْ عَدَمِهِ.
وَأَمَّا مَدْلُولُ الْخَبَرِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَغَيَّرُ، مِثْلَ: الْإِلَهُ مَوْجُودٌ، وَالْعَالَمُ حَادِثٌ - فَنَسْخُهُ بَاطِلٌ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَغَيَّرُ، كَإِيمَانِ زَيْدٍ وَكُفْرِهِ - مِثْلُهُ، أَيْ نَسْخُهُ بَاطِلٌ عَلَى الْمُخْتَارِ.
خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَاسْتِدْلَالُ الْمُجَوَّزِينَ بِجَوَازِ نَسْخِ مَدْلُولِ الْخَبَرِ إِذَا كَانَ حُكْمًا، مِثْلَ: أَنْتُمْ مَأْمُورُونَ بِصَوْمِ كَذَا، ثُمَّ يُنْسَخُ، يَرْفَعُ الْخِلَافَ بَيْنَ

(2/533)


وَأَمَّا نَسْخُ مَدْلُولِ خَبَرٍ لَا يَتَغَيَّرُ فَبَاطِلٌ.
وَالْمُتَغَيِّرُ كَإِيمَانِ زَيْدٍ وَكُفْرِهِ - مِثْلُهُ.
خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِمِثْلِ: أَنْتُمْ مَأْمُورُونَ بِصَوْمِ كَذَا، ثُمَّ يُنْسَخُ - يَرْفَعُ الْخِلَافَ.
ص - (مَسْأَلَةٌ) يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ، كَالْعِدَّتَيْنِ وَالْمُتَوَاتِرِ بِالْمُتَوَاتِرِ، وَالْآحَادِ بِالْآحَادِ، وَالْآحَادِ بِالْمُتَوَاتِرِ.
وَأَمَّا نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ فَنَفَاهُ الْأَكْثَرُونَ.
بِخِلَافِ تَخْصِيصِ الْعَامِّ، كَمَا تَقَدَّمَ.
لَنَا: قَاطِعٌ فَلَا يُقَابِلُهُ الْمَظْنُونُ.
ص - قَالُوا: وَقَعَ، فَإِنَّ أَهْلَ قُبَاءَ سَمِعُوا مُنَادِيَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ فَاسْتَدَارُوا وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمْ.
أُجِيبُ: عَلِمُوا بِالْقَرَائِنِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/534)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
الْمُجَوِّزِينَ وَالْمَانِعِينَ ; لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ؛ نَحْوَ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233] فَيَجُوزُ نَسْخُهُ عِنْدَ الْمَانِعِينَ أَيْضًا، وَلَا يَكُونُ نَسْخًا لِمَدْلُولِ الْخَبَرِ، بَلْ لِمَدْلُولِ الْأَمْرِ فَارْتَفَعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ.
[مَسْأَلَةٌ: يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ]
ش - يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ، كَنَسْخِ الْعِدَّةِ بِالْحَوْلِ بِالْعِدَّةِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ.
وَيَجُوزُ نَسْخُ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، وَنَسْخُ الْآحَادِ بِالْآحَادِ، وَالْآحَادِ بِالْمُتَوَاتِرِ.

(2/535)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَأَمَّا نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ فَنَفَاهُ الْأَكْثَرُونَ.
بِخِلَافِ تَخْصِيصِ الْعَامِّ الْمُتَوَاتِرِ بِالْخَاصِّ الْآحَادِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْفَرْقُ أَنَّ النَّسْخَ يَرْفَعُ مَا ثَبَتَ بِالْمَنْسُوخِ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ فَإِنَّهُ لَا يَرْفَعُ مَا ثَبَتَ بِالْعَامِّ.
وَاحْتَجَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ نَسْخِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ بِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ مَقْطُوعٌ، وَالْآحَادَ مَظْنُونٌ؛ وَالْمَظْنُونُ لَا يُقَابِلُ الْمَقْطُوعَ، بَلْ يُطْرَحُ الْمَظْنُونُ وَيُعْمَلُ بِالْمَقْطُوعِ.
قِيلَ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَوَاتِرُ مَظْنُونًا بِحَسَبِ الدَّلَالَةِ، وَالْآحَادُ مَقْطُوعًا بِحَسَبِ الْمَتْنِ، فَحِينَئِذٍ يُقَابَلُ الْمُتَوَاتِرُ بِالْآحَادِ وَيُنْسَخُ.
أُجِيبُ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْآحَادُ مُخَصِّصًا لِلْمُتَوَاتِرِ، وَلَا نِزَاعَ فِيهِ.
وَرُدَّ بِأَنَّ الْآحَادَ إِنَّمَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا إِذَا وَرَدَ قَبْلَ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ الْمُتَوَاتِرِ أَمَّا إِذَا وَرَدَ بَعْدَ الْعَمَلِ بِهِ يَكُونُ نَاسِخًا لَهُ.
ش - الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ نَسْخِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ - الْوُقُوعُ؛ فَإِنَّ أَهْلَ قُبَاءَ سَمِعُوا مُنَادِيَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَاسْتَدَارُوا فِي الصَّلَاةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَلَمْ

(2/536)


قَالُوا: كَانَ يُرْسِلُ الْآحَادَ بِتَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ مُبْتَدَأَةً وَنَاسِخَةً.
وَأُجِيبُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فَيُعْلَمُ بِالْقَرَائِنِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
قَالُوا: {قُلْ لَا أَجِدُ} [الأنعام: 145] نُسِخَ بِنَهْيِهِ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، فَالْخَبَرُ أَجْدَرُ.
أُجِيبُ إِمَّا بِمَنْعِهِ، وَإِمَّا بِأَنَّ الْمَعْنَى: لَا أَجِدُ الْآنَ.
وَتَحْرِيمُ حَلَالِ الْأَصْلِ لَيْسَ بِنَسْخٍ.
ص - وَيَتَعَيَّنُ النَّاسِخُ بِعِلْمِ تَأَخُّرِهِ.
أَوْ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: هَذَا نَاسِخٌ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِثْلَ: " كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ ".
أَوْ بِالْإِجْمَاعِ.
وَلَا يَثْبُتُ بِتَعْيِينِ الصَّحَابِيِّ؛ إِذْ قَدْ يَكُونُ عَنِ اجْتِهَادٍ.
وَفِي تَعْيِينِ أَحَدِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ نَظَرٌ.
وَلَا يَثْبُتُ بِقَبِيلِهِ فِي الصُّحُفِ، وَلَا بِحَدَاثَةِ الصَّحَابِيِّ، وَلَا بِتَأَخُّرِ إِسْلَامِهِ، وَلَا بِمُوَافَقَةِ الْأَصْلِ.
وَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ فَالْوَجْهُ: الْوَقْفُ، لَا التَّخْيِيرُ.
ص - (مَسْأَلَةٌ) الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ.
وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلَانِ.
لَنَا: لَوِ امْتَنَعَ لَكَانَ غَيْرُهُ: وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ.
وَأَيْضًا: التَّوَجُّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالسُّنَّةِ، وَنُسِخَ بِالْقُرْآنِ. وَالْمُبَاشَرَةُ بِاللَّيْلِ كَذَلِكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/537)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
يُنْكِرِ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهِمْ، مَعَ أَنَّ وُجُوبَ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثَبَتَ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، وَخَبَرُ الْمُنَادِي الْآحَادُ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ لَمَا جَازَ لَهُمُ التَّحَوُّلُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْمُنَادِي، وَلَأَنْكَرَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهِمْ.
أَجَابَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ تَحَوَّلُوا بِمُجَرَّدِ إِخْبَارِ الْمُنَادِي، بَلْ تَحَوَّلُوا لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا بِالْقَرَائِنِ الْمُنْضَمَّةِ إِلَى خَبَرِ الْمُنَادِي كَإِعْلَانِ النَّاسِ بِذَلِكَ، أَوْ قُرْبِهِمْ مِنْ مَسْجِدِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَإِنَّمَا حُمِلَ عَلَى هَذَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ.
الثَّانِي - أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُرْسِلُ آحَادَ الصَّحَابَةِ إِلَى الْأَقْطَارِ بِتَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ مُبْتَدَأَةً وَنَاسِخَةً، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا.
فَلَوْ لَمْ يُقْبَلِ الْآحَادُ فِي نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ لَمَا وَجَبَ الْقَبُولُ، وَلَمَا جَازَ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ لَا يُفَرِّقَ.
أَجَابَ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْإِرْسَالِ وَوُجُوبِ الْقَبُولِ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مِمَّا ذَكَرَنَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِلْمُتَوَاتِرِ.

(2/538)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُحْمَلُ عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُومًا بِالْقَرَائِنِ لِمَا ذَكَرْنَا. الثَّالِثُ - قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} [الأنعام: 145] نُسِخَ بِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ.
وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ بَابِ الْآحَادِ.
وَإِذَا جَازَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْآحَادِ فَنَسْخُ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ بِهِ أَجْدَرُ.
أَجَابَ: إِمَّا بِمَنْعِهِ بِأَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ الْجَمِيعِ، حَتَّى يَكُونَ تَحْرِيمُ كُلِّ ذِي نَابٍ نَاسِخًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وِجْدَانِ الْمُحَرَّمِ، وَعَدَمُ وِجْدَانِ الْمُحَرَّمِ بِالْوَحْيِ، لَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ الْجَمِيعِ.
وَإِمَّا بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: لَا أَجِدُ الْآنَ مُحَرَّمًا فَيَكُونُ مُؤَقَّتًا، وَإِذَا

(2/539)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
كَانَ مُؤَقَّتًا لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا.
وَنَهْيُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ رَافِعٌ لِلْحَلَالِ الثَّابِتِ بِالْأَصْلِ. وَرَفْعُ الْحَلَالِ الثَّابِتِ بِالْأَصْلِ لَيْسَ بِنَسْخٍ ; لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَحَلَالُ الْأَصْلِ لَا يَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا.
[يَتَعَيَّنُ النَّاسِخُ بِعِلْمِ تَأَخُّرِهِ]
ش - إِذَا وَقَعَ حُكْمَانِ مُتَنَافِيَانِ، فَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ النَّاسِخُ مِنْهُمَا بِأَنَّ

(2/540)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
يُعْلَمَ تَأَخُّرُهُ عَنِ الْآخَرِ.
أَوْ بِأَنْ يَقُولَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: هَذَا نَاسِخٌ.
أَوْ بِأَنْ يَقُولَ مَا فِي مَعْنَاهُ، مِثْلَ: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، أَلَا فَزُورُوهَا؛ فَإِنَّ هَذَا دَالٌّ عَلَى نَسْخِ النَّهْيِ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ.
وَأَيْضًا: بِتَعَيُّنِ النَّاسِخِ مِنْهُمَا بِالْإِجْمَاعِ بِأَنْ تُجْمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا نَاسِخٌ.
وَلَا يَثْبُتُ النَّسْخُ بِتَعْيِينِ الصَّحَابِيِّ النَّاسِخِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ تَعْيِينُهُ النَّاسِخَ عَنِ اجْتِهَادٍ.
وَفِي تَعْيِينِ الصَّحَابِيِّ تَأَخُّرَ أَحَدِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ نَظَرٌ، لِتَعَارُضِ دَلِيلِ قَبُولِ قَوْلِهِ وَالْمَنْعِ.
أَمَّا دَلِيلُ الْمَنْعِ فَهُوَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ نَسْخَ الْمُتَوَاتِرِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَأَمَّا دَلِيلُ الْقَبُولِ - فَهُوَ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، بَلْ بِالْمُتَوَاتِرِ

(2/541)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مُعَيِّنٌ لِلنَّاسِخِ، لَا نَاسِخٌ ; لِأَنَّهُ عُلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ وَالْآخَرَ مَنْسُوخٌ بِدُونِ خَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَلَا يَثْبُتُ كَوْنُ الْحُكْمِ مَنْسُوخًا بِقَبْلِيَّتِهِ فِي الْمُصْحَفِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ فِي الْمُصْحَفِ مُتَأَخِّرًا فِي النُّزُولِ ; لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْمُصْحَفِ لَيْسَ عَلَى تَرْتِيبِ النُّزُولِ.
وَلَا يَثْبُتُ كَوْنُ الْحُكْمِ نَاسِخًا بِحَدَاثَةِ الصَّحَابِيِّ الَّذِي يَرْوِيهِ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَنْ تَأَخَّرَ صُحْبَتُهُ يَكُونُ رِوَايَتُهُ مُتَقَدِّمَةً.
وَلَا يَثْبُتُ أَيْضًا كَوْنُ الْحُكْمِ نَاسِخًا بِتَأَخُّرِ إِسْلَامِ الصَّحَابِيِّ الَّذِي يَرْوِيهِ؛ فَإِنَّ تَأَخُّرَ الْإِسْلَامِ لَا يَقْتَضِي تَأَخُّرَ رِوَايَتِهِ.
وَلَا يَثْبُتُ أَيْضًا كَوْنُ الْحُكْمِ نَاسِخًا بِكَوْنِهِ مُوَافِقًا لِلْأَصْلِ ; فَإِنَّ مُوَافَقَةَ الْأَصْلِ لَا تَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ أَصْلًا.
وَإِذَا لَمْ يُعْلَمِ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ فَالْوَجْهُ: الْوَقْفُ، لَا التَّخْيِيرُ.
[مَسْأَلَةٌ: الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ]
ش - اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ قَوْلَانِ.
وَاحْتَجَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ لَكَانَ امْتِنَاعُهُ لِغَيْرِهِ؛ إِذْ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ.
وَالتَّالِي بَاطِلٌ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْغَيْرِ.
وَأَيْضًا نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ وَاقِعٌ ; فَإِنَّ وُجُوبَ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ ثَابِتًا بِالسُّنَّةِ، وَنُسِخَ بِالْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] .
وَتَحْرِيمُ مُبَاشَرَةِ الصَّائِمِ بِاللَّيْلِ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَقَدْ نُسِخَ بِالْقُرْآنِ

(2/542)


وَصَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ.
وَأُجِيبُ بِجَوَازِ نَسْخِهِ بِالسُّنَّةِ وَوَافَقَ الْقُرْآنُ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ تَعْيِينَ نَاسِخٍ أَبَدًا.
ص - قَالُوا: " لِتُبَيِّنَ " وَالنَّسْخُ رَفْعٌ لَا بَيَانٌ.
قُلْنَا: الْمَعْنَى: لِتُبَلِّغَ.
وَلَوْ سُلِّمَ فَالنَّسْخُ أَيْضًا بَيَانٌ.
وَلَوْ سُلِّمَ فَأَيْنَ نَفْيُ النَّسْخِ؟
قَالُوا: مُنَفِّرٌ.
قُلْنَا: إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ مُبَلِّغٌ فَلَا نَفْرَةَ.
ص - (مَسْأَلَةٌ) الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ.
وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
لَنَا: مَا تَقَدَّمَ.
وَاسْتَدَلَّ بِأَنْ " لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " نَسْخٌ {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] وَالرَّجْمُ لِلْمُحْصَنِ نَسَخَ الْجَلْدَ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ نَسْخُ الْمَعْلُومِ بِالْمَظْنُونِ، وَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ.
ص - قَالُوا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وَالسُّنَّةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/543)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] .
وَوُجُوبُ صَوْمِ عَاشُورَاءَ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَقَدْ نُسِخَ بِالْقُرْآنِ.
وَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ بِالسُّنَّةِ وَوَافَقَ الْقُرْآنُ، فَاسْتُغْنِيَ بِالْقُرْآنِ عَنْ نَقْلِ السُّنَّةِ النَّاسِخَةِ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ هَذَا التَّجْوِيزَ يَمْنَعُ تَعْيِينَ النَّاسِخِ أَبَدًا، فَإِنَّ أَيَّ

(2/544)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
نَاسِخٍ فَرْضٌ. كَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: النَّاسِخُ غَيْرُهُ، إِلَّا أَنَّهُ وَافَقَ ذَلِكَ الْغَيْرُ.
ش - الْمَانِعُونَ مِنْ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ احْتَجُّوا بِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ أَنَّ السُّنَّةِ بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ السُّنَّةِ بَيَانًا لِلْقُرْآنِ، وَالْمَنْسُوخُ لَا يَكُونُ بَيَانًا لِلنَّاسِخِ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْمَنْسُوخِ بِالنَّاسِخِ، لَا بَيَانُ النَّاسِخِ بِالْمَنْسُوخِ.
أَجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: " لِتُبَيِّنَ ": لِتُبَلِّغَ، وَحَمْلُ الْبَيَانِ عَلَى هَذَا أَوْلَى ; لِأَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ.
أَمَّا حَمْلُهُ عَلَى بَيَانِ الْمُرَادِ فَهُوَ تَخْصِيصٌ بِبَعْضِ مَا أُنْزِلَ.

(2/545)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا يُطَابِقُ الظَّاهِرَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا يُوجِبُ تَرْكَ الظَّاهِرِ.
وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْبَيَانُ، فَالنَّسْخُ أَيْضًا بَيَانٌ.
قِيلَ: هَذِهِ مُغَالَطَةٌ ; لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ نَفَى كَوْنَ الْمَنْسُوخِ بَيَانًا لِلنَّاسِخِ، وَالْمُعْتَرِضَ أَجَابَ بِكَوْنِ النَّاسِخِ بَيَانَ الْمَنْسُوخِ.
أُجِيبُ بِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: الْمُسْتَدِلُّ أَبْطَلَ أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ مَنْسُوخَةً بِالْقُرْآنِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ بَيَانًا، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْبَيَانِ وَالْمُبَيِّنِ.
وَلَوْ كَانَ نَسْخُهَا بِالْقُرْآنِ لَكَانَا مُتَنَافِيَيْنِ.
أَجَابَ الْمُعْتَرِضُ بِأَنَّ النَّسْخَ أَيْضًا بَيَانٌ، فَلَا مُنَافَاةَ.
وَفِيهِ نَظَرٌ ; إِذْ كَلَامُ الْمُسْتَدِلِّ لَمْ يُورَدْ فِي الْمَتْنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى يَسْتَقِيمَ جَوَابُ الْمُعْتَرِضِ، بَلْ أُورِدَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ جَوَابُ الْمُعْتَرِضِ غَيْرَ مُسْتَقِيمٍ.
وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ النَّسْخَ لَيْسَ بِبَيَانٍ فَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ نَفْيُ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ سُنَّةٍ بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ، فَغَايَتُهُ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَنْسَخُ بَعْضَ السُّنَّةِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ بَيَانًا لِلْقُرْآنِ.
الثَّانِي - أَنَّ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ مُنَفِّرٌ لِلنَّاسِ عَنِ النَّبِيِّ وَعَنْ

(2/546)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
طَاعَتِهِ ; لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ بِمَا سَنَّهُ الرَّسُولُ، فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْبَعْثَةِ.
أَجَابَ بِأَنَّهُ إِذَا عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُبَلِّغٌ لِلْأَحْكَامِ، لَا وَاضِعٌ لَهَا فَلَا نَفْرَةَ.
[مَسْأَلَةٌ: الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ]
ش - اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ لَا بِالْآحَادِ.
وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ جَوَازَ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ.
حُجَّةُ الْجُمْهُورِ مَا تَقَدَّمَ؛ وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنَ اللَّهِ، فَلَا يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ نَسْخُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ.

(2/547)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَلَا لِغَيْرِهِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ.
وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْوُقُوعِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» " نَسَخَ قَوْلَهُ: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] .
وَرَجْمُ الْمُحْصَنِ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ وَقَدْ نَسَخَ الْجَلْدَ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِالْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] .

(2/548)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَأُجِيبُ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ نَسْخَ الصُّورَتَيْنِ بِالسُّنَّةِ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ نَسْخُ الْمَعْلُومِ بِالْمَظْنُونِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» " وَرَجْمَ الْمُحْصَنِ، مِنْ قَبِيلِ الْآحَادِ، وَنَسْخُ الْمَعْلُومِ بِالْمَظْنُونِ خِلَافُ الْمَفْرُوضِ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الَّذِي هُوَ الْمَظْنُونُ لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ الْمَقْطُوعُ.
وَهَذَا الْفَرْضُ إِنَّمَا لَزِمَ مِنَ الْمُدَّعِي بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ ; لِأَنَّ تَقْيِيدَ الْخَبَرِ بِالْمُتَوَاتِرِ فِي الْمُدَّعِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
ش - الْمَانِعُونَ مِنْ جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ قَالُوا: النَّاسِخُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنَ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلَهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وَالسُّنَّةُ لَيْسَتْ بِخَيْرٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا بِمِثْلٍ لَهُ. فَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَأَيْضًا: قَالَ تَعَالَى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] . وَالضَّمِيرُ فِي " نَأْتِ " لِلَّهِ فَيَكُونُ الْآتِي بِالنَّسْخِ هُوَ اللَّهُ، وَجَوَازُ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ يُنَافِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْآتِيَ بِالسُّنَّةِ لَيْسَ هُوَ اللَّهُ، بَلِ الرَّسُولُ.
أَجَابَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّسْخِ فِي الْآيَةِ هُوَ نَسْخُ الْحُكْمِ، لَا اللَّفْظِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا تَفَاضُلَ فِيهِ بِحَسَبِ اللَّفْظِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ السُّنَّةِ خَيْرًا مِنْ حُكْمِ الْقُرْآنِ أَوْ مِثْلًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ السُّنَّةِ أَصْلَحَ لِلْمُكَلَّفِ مِنْ حُكْمِ الْقُرْآنِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ.

(2/549)


وَلِأَنَّهُ قَالَ: " نَأْتِ " وَالضَّمِيرُ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ: الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا تَفَاضُلَ فِيهِ، أَصْلَحَ لِلْمُكَلَّفِ أَوْ مُسَاوِيًا.
وَصَحَّ " نَأْتِ " لِأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ عِنْدِهِ.
قَالُوا: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ} [يونس: 15] . قُلْنَا: ظَاهِرٌ فِي الْوَحْيِ.
وَلَوْ سُلِّمَ فَالسُّنَّةُ بِالْوَحْيِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/550)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُ يَصِحُّ إِطْلَاقُ " نَأْتِ " عَلَى مَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيْضًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ; لِقَوْلِهِ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3] .
الثَّانِي - أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَدِّلَ الْقُرْآنَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَكَوْنُ السُّنَّةِ نَاسِخَةً لِلْقُرْآنِ يُنَافِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.
أَجَابَ بِأَنَّهُ ظَاهِرٌ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ أَنَّهُ أَرَادَ تَبْدِيلَ الْوَحْيِ؛ أَيْ لَيْسَ لِي أَنْ أُبَدِّلَ مَا يُوحَى إِلَيَّ بَعْضَهُ بِالْبَعْضِ.
وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَنْعُ التَّبْدِيلِ مُطْلَقًا فَالسُّنَّةُ بِالْوَحْيِ أَيْضًا، فَالنَّسْخُ بِهَا لَا يَكُونُ تَبْدِيلًا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، بَلْ بِالْوَحْيِ.
[مَسْأَلَةٌ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ]
ش - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْقَطْعِيَّ لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا.
وَخَالَفَهُمْ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ.
حُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْقَطْعِيَّ لَوْ كَانَ مَنْسُوخًا لَكَانَ نَسْخُهُ بِنَصٍّ قَاطِعٍ أَوْ بِإِجْمَاعٍ قَاطِعٍ أَوْ بِغَيْرِهِمَا.
فَإِنْ كَانَ بِنَصٍّ قَاطِعٍ أَوْ إِجْمَاعٍ قَاطِعٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ، أَيِ الْمَنْسُوخُ خَطَأً ; لِأَنَّ الْقَطْعِيَّ يُعَارِضُهُ.
قِيلَ: وَالصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ: يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَحَدَهُمَا ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَطْعِيٌّ فَتَعْيِينُ أَحَدِهِمَا بِالْخَطَأِ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا فُرِضَ كَوْنُهُ مَنْسُوخًا لَمْ يَلْزَمْ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ عِنْدَ تَعْيِينِهِ بِالْخَطَأِ.

(2/551)


ص - (مَسْأَلَةٌ) الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/552)


لَنَا: لَوْ نُسِخَ بِنَصٍّ قَاطِعٍ أَوْ بِإِجْمَاعٍ قَاطِعٍ كَانَ الْأَوَّلُ خَطَأً وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَلَوْ نُسِخَ بِغَيْرِهِمَا فَأَبْعَدُ؛ لِلْعِلْمِ بِتَقْدِيمِ الْقَاطِعِ.
ص - قَالُوا: لَوْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى قَوْلَيْنِ فَإِجْمَاعٌ عَلَى أَنَّهَا اجْتِهَادِيَّةٌ.
فَلَوِ اتُّفِقَ عَلَى أَحَدِهِمَا كَانَ نَسْخًا.
قُلْنَا: لَا نَسْخَ بَعْدَ تَسْلِيمِ جَوَازِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ.
ص - (مَسْأَلَةٌ) الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ بِهِ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ عَنْ نَصٍّ فَالنَّصُّ نَاسِخٌ.
وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ نَصٍّ، وَالْأَوَّلُ قَطْعِيٌّ فَالْإِجْمَاعُ خَطَأٌ.
أَوْ ظَنِّيٌّ فَقَدْ زَالَ شَرْطُ الْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ رُجْحَانُهُ.
ص - قَالُوا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَيْفَ تَحْجُبُ الْأُمَّ بِالْأَخَوَيْنِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] " وَالْأَخَوَانِ لَيْسَا إِخْوَةً، فَقَالَ حَجَبَهَا قَوْمُكَ يَا غُلَامُ.
قُلْنَا: إِنَّمَا يَكُونُ نَسْخًا بِثُبُوتِ الْمَفْهُومِ قَطْعًا، وَأَنَّ الْأَخَوَيْنِ لَيْسَا إِخْوَةً قَطْعًا، فَيَجِبُ تَقْدِيرُ النَّصِّ، وَإِلَّا كَانَ الْإِجْمَاعُ خَطَأً.
ص - (مَسْأَلَةٌ) الْمُخْتَارُ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَظْنُونَ لَا يَكُونُ نَاسِخًا وَلَا مَنْسُوخًا.
أَمَّا الْأَوَّلُ - فَلِأَنَّ مَا قَبْلَهُ إِنْ كَانَ قَطْعِيًّا، لَمْ يُنْسَخْ بِالْمَظْنُونِ.
وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا تَبَيَّنَ زَوَالُ شَرْطِ الْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ رُجْحَانُهُ ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ مُقَيَّدًا، كَانَ الْمُصِيبُ وَاحِدًا أَوْ لَا.
وَأَمَّا الثَّانِي - فَلِأَنَّ مَا بَعْدَهُ - قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا - تَبَيَّنَ زَوَالُ شَرْطِ الْعَمَلِ بِهِ.
وَأَمَّا الْمَقْطُوعُ - فَيُنْسَخُ بِالْمَقْطُوعِ فِي حَيَاتِهِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ - فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَنْسُوخًا.
قَالُوا: صَحَّ التَّخْصِيصُ فَيَصِحُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/553)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَإِنْ كَانَ نَسْخُ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ بِغَيْرِهِمَا؛ أَيْ بِغَيْرِ النَّصِّ الْقَاطِعِ وَالْإِجْمَاعِ الْقَاطِعِ - فَأَبْعَدُ مِنْ نَسْخِهِ بِهِمَا ; لِأَنَّ غَيْرَ النَّصِّ الْقَاطِعِ وَالْإِجْمَاعِ الْقَاطِعِ ظَنِّيٌّ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْقَاطِعَ يُقَدَّمُ عَلَى الْمَظْنُونِ.
وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا الْإِجْمَاعَ بِالْقَطْعِيِّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: " لِلْعِلْمِ بِتَقْدِيمِ الْقَاطِعِ " يُشْعِرُ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْإِجْمَاعِ: الْقَطْعِيَّ.
ش - الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ نَسْخِ الْإِجْمَاعِ، قَالُوا: لَوِ اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى قَوْلَيْنِ فَهُوَ إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ يَجُوزُ الْأَخْذُ بِأَيِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
فَلَوِ اتَّفَقُوا - بَعْدَ ذَلِكَ - عَلَى أَحَدِهِمَا كَانَ نَسْخًا لِلْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَحَدِهِمَا لَمْ يَجُزِ الْأَخْذُ إِلَّا بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ. فَيَكُونُ الْإِجْمَاعُ الثَّانِي رَافِعًا لِحُكْمِ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ.
أَجَابَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ وُقُوعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ الثَّانِي عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخِلَافِ.
وَلَوْ سُلِّمَ وُقُوعُ الْإِجْمَاعِ الثَّانِي فَلَا نَسْخَ لِلْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ

(2/554)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
الْإِجْمَاعَ الْأَوَّلَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْإِجْمَاعِ الثَّانِي، وَإِذَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ الثَّانِي انْتَفَى شَرْطُ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ، فَانْتِفَاءُ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ، لَا لِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا.
[مَسْأَلَة: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ بِهِ]
ش - اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ نَاسِخًا.
وَخَالَفَهُمْ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ وَعِيسَى بْنُ أَبَانَ.
حُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنْ كَانَ عَنْ نَصٍّ يَكُونُ النَّاسِخُ هُوَ النَّصَّ، لَا الْإِجْمَاعَ، وَإِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ عَنْ غَيْرِ نَصٍّ يَكُونُ عَنْ قِيَاسٍ بِالضَّرُورَةِ.
فَالْأَوَّلُ؛ أَيِ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ بِالْإِجْمَاعِ إِنْ كَانَ قَطْعِيًّا - يَكُونُ الْإِجْمَاعُ خَطَأً ; لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ عَلَى خِلَافِ الْقَطْعِيِّ.
وَإِذَا كَانَ خَطَأً لَا يَكُونُ نَاسِخًا.
وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ بِالْإِجْمَاعِ ظَنِّيًّا فَقَدْ زَالَ شَرْطُ الْعَمَلِ بِهِ ; لِأَنَّ شَرْطَ الْعَمَلِ بِالظَّنِّيِّ رُجْحَانُهُ عَلَى مُعَارِضِهِ، وَلَا يَكُونُ

(2/555)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
رَاجِحًا عَلَى مُعَارِضِهِ الَّذِي هُوَ سَنَدُ الْإِجْمَاعِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ خَطَأً.
وَإِذَا زَالَ شَرْطُ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا ; لِأَنَّ النَّسْخَ بَعْدَ الثُّبُوتِ.
ش - الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ يُنْسَخُ بِهِ قَالُوا: لَمَّا حَجَبَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ عِنْدِ وُجُودِ الْأَخَوَيْنِ، وَرَدَّهَا إِلَى السُّدُسِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَيْفَ تَحْجُبُ الْأُمَّ بِالْأَخَوَيْنِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: " {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] " وَالْأَخَوَانِ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ، فَقَالَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: - حَجَبَهَا قَوْمُكَ يَا غُلَامُ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ يُنْسَخُ بِهِ.
أَجَابَ بِأَنَّ حَجْبَ الْأُمِّ عَنِ الثُّلُثِ إِنَّمَا يَكُونُ نَسْخًا لَوْ ثَبَتَ الْمَفْهُومُ، حَتَّى يَلْزَمَ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِخْوَةٌ فَلَا يَكُونُ

(2/556)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
لِأُمِّهِ السُّدُسُ، بَلِ الثُّلُثُ، وَثَبَتَ أَنَّ الْأَخَوَيْنِ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ قَطْعًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
وَلَوْ سُلِّمَ بِثُبُوتِهِمَا فَيَجِبُ حِينَئِذٍ تَقْدِيرُ النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى حَجْبِ الْأُمِّ عَنِ الثُّلُثِ، وَإِلَّا لَكَانَ الْإِجْمَاعُ خَطَأً ; لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْقَطْعِيِّ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ النَّاسِخُ هُوَ ذَلِكَ النَّصُّ لَا الْإِجْمَاعُ.
[مَسْأَلَة: الْمُخْتَارُ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَظْنُونَ لَا يَكُونُ نَاسِخًا وَلَا مَنْسُوخًا]
ش - اعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَقْطُوعَ هُوَ مَا يَكُونُ حُكْمُ أَصْلِهِ وَالْعِلَّةُ وَوُجُودُهَا فِي الْفَرْعِ قَطْعِيًّا.
وَالْمَظْنُونُ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، بَلْ يَكُونُ بَعْضُهَا قَطْعِيًّا، وَالْبَاقِي ظَنِّيًّا، أَوْ لَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهَا قَطْعِيًّا.
وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَظْنُونَ لَا يَكُونُ نَاسِخًا وَلَا مَنْسُوخًا.
أَمَّا الْأَوَّلُ - وَهُوَ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَظْنُونَ لَا يَكُونُ نَاسِخًا - فَلِأَنَّ مَا قَبْلَهُ؛ أَيْ مَا قَبْلَ الْقِيَاسِ الْمَظْنُونِ، وَهُوَ الَّذِي يُنْسَخُ بِالْقِيَاسِ الْمَظْنُونِ، إِنْ كَانَ قَطْعِيًّا - لَا يَكُونُ الْقِيَاسُ الْمَظْنُونُ نَاسِخًا لَهُ ; لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ لَا يُنْسَخُ بِالْمَظْنُونِ.
وَإِنْ كَانَ مَا قَبْلَ الْقِيَاسِ الْمَظْنُونِ ظَنِّيًّا تَبَيَّنَ بِالْقِيَاسِ الْمَظْنُونِ زَوَالُ شَرْطِ الْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ رُجْحَانُهُ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْمَظْنُونِ الَّذِي هُوَ قَبْلَ الْقِيَاسِ الْمَظْنُونِ مُقَيَّدٌ بِرُجْحَانِهِ عَلَى مُعَارِضِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُصِيبُ وَاحِدًا أَوْ لَا.
وَإِذَا زَالَ شَرْطُ الْعَمَلِ بِهِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا بِالْقِيَاسِ الْمَظْنُونِ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ بَعْدَ الثُّبُوتِ.
وَأَمَّا الثَّانِي - وَهُوَ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَظْنُونَ لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا - فَلِأَنَّ مَا بَعْدَ الْقِيَاسِ الْمَظْنُونِ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا تَبَيَّنَ زَوَالُ شَرْطِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ الْمَظْنُونِ، وَهُوَ رُجْحَانُهُ، كَمَا بَيَّنَّا فِي الْأَوَّلِ، وَإِذَا زَالَ شَرْطُ الْعَمَلِ بِهِ لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا لِمَا مَرَّ.

(2/557)


قُلْنَا: مَنْقُوضٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالْعَقْلِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ.
ص - (مَسْأَلَةٌ) الْمُخْتَارُ: يَجُوزُ نَسْخُ أَصْلِ الْفَحْوَى دُونَهُ وَامْتِنَاعُ نَسْخِ الْفَحْوَى دُونَ أَصْلِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُمَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُمَا.
لَنَا: أَنَّ جَوَازَ التَّأْفِيفِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ الضَّرْبِ.
وَبَقَاءَ تَحْرِيمِهِ يَسْتَلْزِمُ تَحْرِيمَ الضَّرْبِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا مِنْهُ.
ص - الْمُجَوِّزُ: دَلَالَتَانِ، فَجَازَ رَفْعُ كُلٍّ مِنْهُمَا.
قُلْنَا إِذَا لَمْ يَكُنِ اسْتِلْزَامٌ.
ص - الْمَانِعُ: الْفَحْوَى تَابِعٌ، فَيَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِ مَتْبُوعِهِ.
قُلْنَا: تَابِعٌ لِلدَّلَالَةِ، لَا لِلْحُكْمِ، وَالدَّلَالَةُ بَاقِيَةٌ.
ص - (مَسْأَلَةٌ) الْمُخْتَارُ: إِذَا نُسِخَ حُكْمُ أَصْلِ الْقِيَاسِ لَا يَبْقَى مَعَهُ حُكْمُ الْفَرْعِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/558)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمَقْطُوعُ فَيُنْسَخُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ; لِأَنَّ حُكْمَ هَذَا الْقِيَاسِ كَحُكْمِ النَّصِّ الْقَاطِعِ، فَكَمَا جَازَ نَسْخُ الْقَاطِعِ بِالْقَاطِعِ فَكَذَلِكَ جَازَ نَسْخُ الْقِيَاسِ الْقَطْعِيِّ بِالْقَاطِعِ.
وَأَمَّا بَعْدَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَوْ عَمِلَ الْمُجْتَهِدُ بِالْقِيَاسِ الْقَطْعِيِّ، لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى نَاسِخِهِ، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى النَّاسِخِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَنْسُوخًا فِي عَهْدِ الرَّسُولِ.
الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ الْمَظْنُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا، قَالُوا: صَحَّ التَّخْصِيصُ بِالْقِيَاسِ الْمَظْنُونِ، فَيَصِحُّ النَّسْخُ بِهِ ; لِأَنَّ النَّسْخَ بَيَانٌ كَالتَّخْصِيصِ.
أَجَابَ بِأَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ مَنْقُوضٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالْعَقْلِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِكُلٍّ مِنْهَا، وَلَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ.

(2/559)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
[مَسْأَلَةٌ: الْمُخْتَارُ يَجُوزُ نَسْخُ أَصْلِ الْفَحْوَى دُونَهُ وَامْتِنَاعُ نَسْخِ الْفَحْوَى دُونَ أَصْلِهِ]
ش - اخْتُلِفَ فِي نَسْخِ الْأَصْلِ، مِثْلَ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ، وَالْفَحْوَى، مِثْلَ تَحْرِيمِ الضَّرْبِ، عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
الْأَوَّلُ - الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ أَصْلِ الْفَحْوَى بِدُونِ نَسْخِ الْفَحْوَى. وَيَمْتَنِعُ نَسْخُ الْفَحْوَى دُونَ أَصْلِهِ.
وَالثَّانِي - أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ.
وَالثَّالِثُ - أَنَّهُ يَمْتَنِعُ نَسْخُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ.
حُجَّةُ الْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ أَنَّ جَوَازَ التَّأْفِيفِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ الضَّرْبِ، فَيَجُوزُ نَسْخُ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ مَعَ بَقَاءِ تَحْرِيمِ الضَّرْبِ الَّذِي هُوَ الْفَحْوَى، وَبَقَاءُ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ يَسْتَلْزِمُ تَحْرِيمَ الضَّرْبِ ; لِأَنَّ بَقَاءَ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَلْزِمًا لِتَحْرِيمِ الضَّرْبِ لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُ الضَّرْبِ مَعْلُومًا مِنْ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ.
وَالتَّالِي بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ مَعْلُومًا مِنْهُ.
وَإِذَا كَانَ بَقَاءُ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ مُسْتَلْزِمًا لِتَحْرِيمِ الضَّرْبِ امْتَنَعَ نَسْخُ تَحْرِيمِ الضَّرْبِ، الَّذِي هُوَ الْفَحْوَى بِدُونِ نَسْخِ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ، الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ.
ش - الْمُجَوِّزُ - أَيِ الْقَائِلُ بِجَوَازِ نَسْخِ كُلٍّ مِنَ الْأَصْلِ وَالْفَحْوَى بِدُونِ الْآخَرِ - قَالَ: دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ

(2/560)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
بِالْمَنْطُوقِ، وَعَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ بِالْمَفْهُومِ، وَإِحْدَاهُمَا مُغَايِرَةٌ لِلْأُخْرَى، فَجَازَ رَفْعُ حُكْمِ كُلٍّ مِنَ الدَّلَالَتَيْنِ بِدُونِ الْآخَرِ.
أَجَابَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا جَازَ رَفْعُ حُكْمِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ إِذَا لَمْ يَكُنِ اسْتِلْزَامٌ.
أَمَّا إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا اسْتِلْزَامٌ فَلَا يَجُوزُ رَفْعُ حُكْمٍ هُوَ لَازِمٌ بِدُونِ حُكْمٍ هُوَ مَلْزُومٌ ; لِامْتِنَاعِ بَقَاءِ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ.
ش - الْمَانِعُ - أَيِ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ نَسْخُ كُلٍّ مِنَ الْأَصْلِ وَالْفَحْوَى بِدُونِ الْآخَرِ - قَالَ: الْفَحْوَى تَابِعٌ لِلْأَصْلِ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الْمَتْبُوعُ ارْتَفَعَ تَابِعُهُ؛ لِأَنَّ التَّابِعَ لَا يُوجَدُ بِدُونِ الْمَتْبُوعِ فَيَرْتَفِعُ الْفَحْوَى، الَّذِي هُوَ تَابِعٌ بِارْتِفَاعِ الْأَصْلِ، الَّذِي هُوَ مَتْبُوعُهُ.
أَجَابَ بِأَنَّ الْفَحْوَى تَابِعٌ لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْأَصْلِ، لَا لِلْحُكْمِ، وَالدَّلَالَةُ بَاقِيَةٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ بِالْأَصْلِ، فَيَبْقَى الْفَحْوَى لِبَقَاءِ مَتْبُوعِهِ الَّذِي هُوَ الدَّلَالَةُ.
[مَسْأَلَةٌ: الْمُخْتَارُ إِذَا نُسِخَ حُكْمُ أَصْلِ الْقِيَاسِ لَا يَبْقَى مَعَهُ حُكْمُ الْفَرْعِ]
ش - الْمُخْتَارُ أَنَّ نَسْخَ أَصْلِ الْقِيَاسِ لَا يَبْقَى مَعَهُ حُكْمُ الْفَرْعِ، أَيْ يُنْسَخُ حُكْمُ الْفَرْعِ أَيْضًا.
خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ.
حُجَّةُ الْمُخْتَارِ أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ هُوَ الْمُوجِبُ لِاعْتِبَارِ الْعِلَّةِ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ، فَإِذَا ارْتَفَعَ حُكْمُ الْأَصْلِ خَرَجَتِ الْعِلَّةُ عَنِ الِاعْتِبَارِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الْفَرْعُ حِينَئِذٍ وَإِلَّا لَتَحَقَّقَ الْمَعْلُولُ بِدُونِ الْعِلَّةِ، قِيلَ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَارَةٌ لِلْحُكْمِ، لَا مُوجِبَةٌ؛ وَالْأَمَارَةُ تَحْتَاجُ إِلَيْهَا ابْتِدَاءً. أَمَّا دَوَامًا فَلَا.
وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ بَاعِثَةٌ، لَا أَمَارَةٌ مُجَرَّدَةٌ، كَمَا سَيَأْتِي. وَالْبَاعِثُ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ دَائِمًا.
ش - احْتَجَّتِ الْحَنَفِيَّةُ بِوَجْهَيْنِ:

(2/561)


لَنَا: خَرَجَتِ الْعِلَّةُ عَنِ الِاعْتِبَارِ، فَلَا فَرْعَ.
ص - قَالُوا: الْفَرْعُ تَابِعٌ لِلدَّلَالَةِ، لَا لِلْحُكْمِ، كَالْفَحْوَى.
قُلْنَا: يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ الْحُكْمِ زَوَالُ الْحِكْمَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، فَيَزُولُ الْحُكْمُ مُطْلَقًا لِانْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ.
قَالُوا: حَكَمْتُمْ بِالْقِيَاسِ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ بِغَيْرِ عِلَّةٍ.
قُلْنَا: حَكَمْنَا بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ.
ص - (مَسْأَلَةٌ) الْمُخْتَارُ أَنَّ النَّاسِخَ قَبْلَ تَبْلِيغِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ.
لَنَا: لَوْ ثَبَتَ لَأَدَّى إِلَى وُجُوبٍ وَتَحْرِيمٍ؛ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْأَوَّلَ أَثِمَ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَوْ عَمِلَ بِالثَّانِي عَصَى اتِّفَاقًا.
وَأَيْضًا: يَلْزَمُ قَبْلَ تَبْلِيغِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ اتِّفَاقٌ.
ص - قَالُوا: حُكْمٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ.
قُلْنَا: لَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ.
ص - (مَسْأَلَةٌ) الْعِبَادَاتُ الْمُسْتَقِلَّةُ لَيْسَتْ نَسْخًا.
وَعَنْ بَعْضِهِمْ: صَلَاةٌ سَادِسَةٌ نَسْخٌ.
وَأَمَّا زِيَادَةُ جُزْءٍ مُشْتَرَطٍ أَوْ زِيَادَةُ شَرْطٍ، أَوْ زِيَادَةٌ تَرْفَعُ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ.
فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ بِنَسْخٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/562)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
الْأَوَّلُ - أَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ تَابِعٌ لِدَلَالَةِ حُكْمِ الْأَصْلِ عَلَى عِلَّةِ الْأَصْلِ، لَا لِحُكْمِ الْأَصْلِ، كَالْفَحْوَى فَإِنَّهُ تَابِعٌ لِدَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ لَا لِحُكْمِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَاءِ حُكْمِ الْأَصْلِ انْتِفَاءُ دَلَالَتِهِ عَلَى عِلَّةِ الْأَصْلِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَاءِ حُكْمِ الْأَصْلِ انْتِفَاءُ حُكْمِ الْفَرْعِ.
أَجَابَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ حُكْمِ الْأَصْلِ زَوَالُ الْحِكْمَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، فَيَزُولُ الْحُكْمُ مُطْلَقًا لِانْتِفَاءِ حِكْمَتِهِ.
الثَّانِي - أَنَّكُمْ حَكَمْتُمْ بِانْتِفَاءِ حُكْمِ الْفَرْعِ بِالْقِيَاسِ عَلَى انْتِفَاءِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَ انْتِفَاءِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَانْتِفَاءِ حُكْمِ الْفَرْعِ عِلَّةٌ تَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَالْقِيَاسُ بِغَيْرِ عِلَّةٍ غَيْرُ مُعْتَبَرٌ.
أَجَابَ بِأَنَّا مَا حَكَمْنَا بِانْتِفَاءِ حُكْمِ الْفَرْعِ قِيَاسًا عَلَى انْتِفَاءِ حُكْمِ الْأَصْلِ؛ بَلْ حَكَمْنَا بِانْتِفَاءِ حُكْمِ الْفَرْعِ لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ.

(2/563)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
[مَسْأَلَةٌ: الْمُخْتَارُ أَنَّ النَّاسِخَ قَبْلَ تَبْلِيغِ النبي لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ]
ش - إِذَا وَرَدَ نَاسِخٌ إِلَى الرَّسُولِ وَلَمْ يُبَلِّغْهُ إِلَى الْأُمَّةِ (بَعْدُ) هَلْ يَثْبُتُ حُكْمُهُ أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ.
وَالْمُخْتَارُ أَنَّ النَّاسِخَ قَبْلَ تَبْلِيغِهِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ.
(مَثَلًا) وَرَدَ الْأَمْرُ أَوَّلًا بِاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَوَرَدَ النَّاسِخُ - وَهُوَ الْأَمْرُ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ - فِي الْمَدِينَةِ، فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ هَذَا النَّاسِخِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْيَمَنِ مَا لَمْ يُبَلِّغْهُ إِلَيْهِمْ، بَلْ هُمْ مَأْمُورُونَ بِاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى يُبَلِّغَ النَّاسِخَ (إِلَيْهِمْ.
وَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى خِلَافِهِ.
وَاحْتَجَّ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ النَّاسِخُ قَبْلَ) تَبْلِيغِهِ لَأَدَّى إِلَى وُجُوبِ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَتَحْرِيمِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَالتَّالِي بَاطِلٌ.
بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ: أَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَوْ تَرَكَ الْوَاجِبَ الْأَوَّلَ قَبْلَ تَبْلِيغِ النَّاسِخِ لَأَثِمَ بِتَرْكِهِ.
فَلَوْ كَانَ النَّاسِخُ الْمُحَرِّمُ - مَثَلًا - ثَابِتًا قَبْلَ تَبْلِيغِهِ يَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ قَبْلَ تَبْلِيغِ النَّاسِخِ وَاجِبًا وَحَرَامًا مَعًا.
وَأَيْضًا لَوْ عَمِلَ الْمُكَلَّفُ قَبْلَ تَبْلِيغِ النَّاسِخِ إِلَيْهِ بِالثَّانِي، أَيْ بِحُكْمِ النَّاسِخِ عَصَى بِالِاتِّفَاقِ.
فَلَوْ كَانَ حُكْمُ النَّاسِخِ ثَابِتًا قَبْلَ تَبْلِيغِهِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِالْعَمَلِ بِهِ.

(2/564)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَأَيْضًا: لَوْ ثَبَتَ حُكْمُ النَّاسِخِ قَبْلَ تَبْلِيغِ الرَّسُولِ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا قَبْلَ تَبْلِيغِ جِبْرِيلَ إِلَى الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ.
وَالتَّالِي بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ.
ش - الْقَائِلُونَ بِأَنَّ النَّاسِخَ يَثْبُتُ حُكْمُهُ قَبْلَ تَبْلِيغِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَى الْمُكَلَّفِينَ قَالُوا: حُكْمُ النَّاسِخِ حُكْمٌ مُتَجَدِّدٌ، وَلَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى عِلْمِ الْمُكَلَّفِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الْمُتَجَدِّدَةِ، أَجَابَ بِأَنَّهُ أُرِيدَ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ تَعَلُّقُهُ بِالْمُكَلَّفِ فِي الْخَارِجِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْمُكَلَّفِ ; إِذْ لَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ عِنْدَ جَهْلِ الْمُكَلَّفِ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ.
[مَسْأَلَة: الْعِبَادَاتُ الْمُسْتَقِلَّةُ لَيْسَتْ نَسْخًا]
ش - اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْعِبَادَاتِ الْمُسْتَقِلَّةَ لَيْسَتْ نَسْخًا.
وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ زِيَادَةَ صَلَاةٍ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ (نَسْخٌ) ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] لِأَنَّهَا تَجْعَلُ مَا كَانَ أَوْسَطَ، غَيْرَ أَوْسَطَ.
وَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ كَوْنَهَا وُسْطَى أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَا شَرْعِيٌّ، فَيَكُونُ رَفْعُهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ.
وَأَمَّا زِيَادَةُ جُزْءٍ مُشْتَرَطٍ كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ فِي الصَّلَاةِ،

(2/565)


وَالْحَنَفِيَّةُ: نَسْخٌ.
وَقِيلَ: الثَّالِثُ نَسْخٌ.
عَبْدُ الْجَبَّارِ: إِنْ غَيَّرَتْهُ حَتَّى صَارَ وَجُودُهُ كَالْعَدَمِ شَرْعًا، كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ فِي الْفَجْرِ، وَكَعِشْرِينَ فِي الْقَذْفِ، وَكَتَخْيِيرٍ فِي ثَالِثٍ بَعْدِ اثْنَيْنِ - فَنَسْخٌ.
وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِنِ اتَّحَدَتْ كَرَكْعَةٍ فِي الْفَجْرِ - فَنَسْخٌ بِخِلَافِ عِشْرِينَ فِي الْقَذْفِ.
وَالْمُخْتَارُ ; إِنْ رَفَعَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ - فَنَسْخٌ ; لِأَنَّهُ حَقِيقِيَّتُهُ، وَمَا خَالَفَهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ.
ص - فَلَوْ قَالَ: فِي السَّائِمَةِ زَكَاةٌ، ثُمَّ قَالَ: فِي الْمَعْلُوفَةِ زَكَاةٌ فَلَا نَسْخَ.
فَإِنْ تَحَقَّقَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مُرَادٌ - فَنَسْخٌ، وَإِلَّا فَلَا.
وَلَوْ زِيدَتْ رَكْعَةٌ فِي الصُّبْحِ - فَنَسْخٌ، لِتَحْرِيمِ الزِّيَادَةِ ثُمَّ وُجُوبِهَا.
وَالتَّغْرِيبُ عَلَى الْحَدِّ كَذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: مَنْفِيٌّ بِحُكْمِ الْأَصْلِ.
قُلْنَا: هَذَا لَوْ لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُهُ.
فَلَوْ خَيَّرَ فِي الْمَسْحِ بَعْدَ وُجُوبِ الْغُسْلِ فَنَسْخٌ لِلتَّخْيِيرِ بَعْدَ الْوُجُوبِ.
وَلَوْ قَالَ: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ) ثُمَّ ثَبَتَ الْحُكْمُ (بِالنَّصِّ) بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ - فَلَيْسَ بِنَسْخٍ ; إِذْ لَا رَفْعَ لِشَيْءٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/566)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
أَوْ زِيَادَةُ شَرْطٍ كَزِيَادَةِ صِفَةِ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الْكَفَّارَةِ، أَوْ زِيَادَةٌ تَرْفَعُ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ، كَمَا إِذَا قَالَ: فِي السَّائِمَةِ زَكَاةٌ، ثُمَّ قَالَ: فِي الْمَعْلُوفَةِ زَكَاةٌ.
فَذَهَبَتِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَسْخٍ.
وَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا نَسْخٌ.
وَقِيلَ: الثَّالِثُ نَسْخٌ؛ أَيِ الزِّيَادَةُ الَّتِي تَرْفَعُ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ نَسْخٌ، وَغَيْرُهَا لَيْسَتْ بِنَسْخٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: إِنْ غَيَّرَتِ الزِّيَادَةُ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ تَغْيِيرًا شَدِيدًا حَتَّى صَارَ الْمَزِيدُ عَلَيْهِ لَوْ فُعِلَ بَعْدَ الزِّيَادَةِ عَلَى حَدِّ مَا كَانَ يُفْعَلُ قَبْلَ الزِّيَادَةِ، كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَوَجَبَ اسْتِئْنَافُهُ - فَإِنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا؛ نَحْوَ زِيَادَةِ رَكْعَةٍ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَكَزِيَادَةِ عِشْرِينَ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ، وَزِيَادَةِ تَخْيِيرٍ فِي ثَالِثٍ بَعْدَ التَّخْيِيرِ فِي اثْنَيْنِ، كَمَا لَوْ خَيَّرَ أَوَّلًا بَيْنَ الْإِعْتَاقِ وَالصِّيَامِ، ثُمَّ خَيَّرَ بَيْنَ الْإِعْتَاقِ وَالصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ.

(2/567)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَالْمِثَالُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ ; لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ زِيَادَةِ رَكْعَةٍ يَكُونُ وَجُودُهُمَا كَالْعَدَمِ، وَوَجَبَ الِاسْتِئْنَافُ.
وَأَمَّا الْمِثَالَانِ الْأَخِيرَانِ فَغَيْرُ صَحِيحَيْنِ ; لِأَنَّ بَعْدَ زِيَادَةِ عِشْرِينَ لَوْ أَتَى بِالثَّمَانِينَ لَمْ يَكُنْ وُجُودُهَا كَالْعَدَمِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهَا عِشْرُونَ.
وَأَيْضًا: لَوْ أَتَى بِأَحَدِ الْأَوَّلَيْنِ بَعْدَ التَّخْيِيرِ فِي الثَّالِثِ لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ كَالْعَدَمِ بَلْ يَكْفِي.
وَإِنْ كَانَ الْمَزِيدُ عَلَيْهِ لَوْ فُعِلَ عَلَى مَا كَانَ يُفْعَلُ قَبْلَ الزِّيَادَةِ، صَحَّ فِعْلُهُ وَاعْتُدَّ بِهِ، وَلَمْ يَلْزَمِ اسْتِئْنَافُ فِعْلِهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ غَيْرُهُ - لَمْ تَكُنِ الزِّيَادَةُ نَسْخًا؛ نَحْوَ التَّغْرِيبِ عَلَى الْحَدِّ، وَزِيَادَةِ الْعِشْرِينَ عَلَى حَدِّ الْقَاذِفِ.
وَلِهَذَا؛ الْمِثَالُ إِنَّمَا يَكُونُ صَحِيحًا لِهَذَا الْقِسْمِ لَا لِلْأَوَّلِ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ هَذَا الْمِثَالَ لِهَذَا الْقِسْمِ.
وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ: إِنِ اتَّحَدَتِ الزِّيَادَةُ مَعَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَرْتَفِعُ التَّعَدُّدُ بَيْنَهُمَا، كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ فِي الْفَجْرِ - فَنَسْخٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَحِدْ مَعَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ نَسْخًا) ، كَزِيَادَةِ عِشْرِينَ فِي الْقَذْفِ.
وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الزِّيَادَةَ إِنْ رَفَعَتْ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ حُكْمًا

(2/568)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
شَرْعِيًّا بَعْدَ ثُبُوتِهِ - فَنَسْخٌ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ حَقِيقَةٌ فِي رَفْعِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ.
وَمَا خَالَفَهُ - وَهُوَ أَنْ لَا تَكُونَ الزِّيَادَةُ حُكْمًا شَرْعِيًّا - أَوْ يَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَلَكِنْ يُرْفَعُ لَا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ - لَا يَكُونُ نَسْخًا.
ش - اعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَدْ فَرَّعَ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ عِدَّةَ فُرُوعٍ.
مِنْهَا - لَوْ قَالَ الشَّارِعُ فِي السَّائِمَةِ زَكَاةٌ، ثُمَّ قَالَ: فِي الْمَعْلُوفَةِ زَكَاةٌ؟
فَإِنْ كَانَ الْمَفْهُومُ الَّذِي هُوَ دَلِيلُ الْخِطَابِ مُرَادًا مِنْ لَفْظِ الشَّارِعِ كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا ; لِأَنَّ رَفْعَ عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْلُوفَةِ بِقَوْلِهِ: فِي الْمَعْلُوفَةِ زَكَاةٌ - رَفْعُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ عَدَمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْلُوفَةِ حُكْمًا شَرْعِيًّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فِي السَّائِمَةِ زَكَاةٌ.

(2/569)


وَلَوْ ثَبَتَ مَفْهُومُهُ وَمَفْهُومُ (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ) إِذْ لَيْسَ فِيهِ مَنْعُ الْحُكْمِ بِغَيْرِهِ.
وَلَوْ زِيدَ فِي الْوُضُوءِ اشْتِرَاطُ غَسْلِ عُضْوٍ - فَلَيْسَ بِنَسْخٍ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا حَصَلَ وُجُوبُ مُبَاحِ الْأَصْلِ.
قَالُوا: كَانَتْ مُجْزِئَةً ثُمَّ صَارَتْ غَيْرَ مُجْزِئَةٍ.
قُلْنَا: مَعْنَى مُجْزِئَةٍ: امْتِثَالُ الْأَمْرِ بِفِعْلِهَا، وَلَمْ يَرْتَفِعْ وَارْتَفَعَ عَدَمُ تَوَقُّفِهَا عَلَى شَرْطٍ آخَرَ وَذَلِكَ مُسْتَنِدٌ إِلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ زِيدَ فِي الصَّلَاةِ مَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا.
ص - (مَسْأَلَةٌ) إِذَا نُقِصَ جُزْءُ الْعِبَادَةِ أَوْ شَرْطُهَا فَنَسْخٌ لِلْجُزْءِ وَالشَّرْطِ، لَا لِلْعِبَادَةِ، وَقِيلَ: نَسْخٌ لِلْعِبَادَةِ.
عَبْدُ الْجَبَّارِ: إِنْ كَانَ جُزْءًا، لَا شَرْطًا.
لَنَا: لَوْ كَانَ نَسْخًا لِوُجُوبِهَا افْتَقَرَتْ إِلَى دَلِيلٍ ثَانٍ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.
قَالُوا: ثَبَتَ تَحْرِيمُهَا بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَبِغَيْرِ الرَّكْعَتَيْنِ، ثُمَّ ثَبَتَ جَوَازُهَا أَوْ وُجُوبُهَا بِغَيْرِهِمَا.
قُلْنَا: الْفَرْضُ لَمْ يَتَجَدَّدْ وُجُوبٌ.
ص - (مَسْأَلَةٌ) الْمُخْتَارُ جَوَازُ نَسْخِ وُجُوبِ مَعْرِفَتِهِ وَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ.
خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ.
وَهِيَ فَرْعُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ.
وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ نَسْخِ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/570)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَإِلَّا؛ أَيْ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَفْهُومُ مُرَادًا مِنْ لَفْظِ الشَّارِعِ - لَا يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فِي الْمَعْلُوفَةِ زَكَاةٌ» ، لَمْ يَرْفَعْ حُكْمًا شَرْعِيًّا؛ لِأَنَّ عَدَمَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْمَعْلُوفَةِ ثَابِتٌ بِالْأَصْلِ، وَرَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْأَصْلِ لَا يَكُونُ نَسْخًا.
وَمِنْهَا - لَوْ زِيدَتْ رَكْعَةٌ فِي الصُّبْحِ يَكُونُ نَسْخًا لِتَحْرِيمِ الزِّيَادَةِ ; لِأَنَّهُ قَبْلَ زِيَادَةِ الرَّكْعَةِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ حَرَامًا، فَلَمَّا زِيدَتِ الرَّكْعَةُ وَجَبَتِ الزِّيَادَةُ، فَرَفَعَ وَجُوبُهَا التَّحْرِيمَ، وَمِنْهَا - زِيَادَةُ التَّغْرِيبِ عَلَى الْحَدِّ؛ فَإِنَّهَا تَكُونُ نَسْخًا؛ لِأَنَّ التَّغْرِيبَ قَبْلَ وُجُوبِهِ كَانَ حَرَامًا، فَلَمَّا وَجَبَ رَفَعَ حُرْمَةَ التَّغْرِيبِ.
فَإِنْ قِيلَ: رَفْعُ تَحْرِيمِ الزِّيَادَةِ لَيْسَ بِنَسْخٍ ; لِأَنَّ تَحْرِيمَ الزِّيَادَةِ ثَابِتٌ بِالْأَصْلِ، وَرَفْعُ الثَّابِتِ بِالْأَصْلِ لَا يَكُونُ نَسْخًا.
أُجِيبُ بِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْأَصْلِ عَدَمُ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ، أَمَّا تَحْرِيمُ الزِّيَادَةِ فَثَابِتٌ بِالشَّرْعِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُبْطِلًا لِلْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ كَانَ حَرَامًا.
وَمِنْهَا - لَوْ خُيِّرَ الْمُكَلَّفُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ بَعْدَ وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ - فَنَسْخٌ ; لِأَنَّ التَّخْيِيرَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَقَدْ رَفَعَ وُجُوبَ الْغَسْلِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَهُوَ أَيْضًا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ.

(2/571)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَمِنْهَا - لَوْ قَالَ الشَّارِعُ: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ، ثُمَّ ثَبَتَ الْحُكْمُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ - فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ ; إِذْ مُقْتَضَى الْآيَةِ أَنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ حُجَّةٌ، فَثُبُوتُ الْحُكْمِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، لَمْ يَرْفَعْ شَيْئًا مِنْ مُقْتَضَاهَا، فَلَا يَكُونُ نَسْخًا.
وَلَوْ ثَبَتَ مَفْهُومُ قَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] لَا يَكُونُ الْحُكْمُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ نَسْخًا؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ وَمَفْهُومَ قَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ: انْحِصَارُ الِاسْتِشْهَادِ فِي الْمَذْكُورِ، لَا انْحِصَارُ الْحُكْمِ فِي الْمَذْكُورِينَ.
فَمَفْهُومُ الْآيَتَيْنِ لَمْ يَمْنَعِ الْحُكْمَ بِغَيْرِ شَاهِدَيْنِ وَبِغَيْرِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فَلَا يَكُونُ الْحُكْمُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ نَسْخًا.
وَيَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ بُطْلَانُ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ كَانَ الْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ صَحِيحًا - يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْوَاحِدِ نَاسِخًا.
وَالتَّالِي بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ.
بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ: أَنَّ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَلَوْ كَانَ صَحِيحًا يَلْزَمُ نَسْخُ انْحِصَارِ الْحُكْمِ فِي الْمَذْكُورِينَ.
وَمِنْهَا - لَوْ زِيدَ فِي الْوُضُوءِ اشْتِرَاطُ غَسْلِ عُضْوٍ - فَلَيْسَ بِنَسْخٍ ;

(2/572)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
لِأَنَّهُ إِنَّمَا حَصَلَ بِالزِّيَادَةِ وُجُوبُ فِعْلٍ كَانَ مُبَاحًا بِالْأَصْلِ، وَرَفْعُ مُبَاحِ الْأَصْلِ لَيْسَ بِنَسْخٍ.
قِيلَ: هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْآخَرِ ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ إِذَا كَانَتْ فِي خِلَالِهِ يَرْتَفِعُ بِهَا التَّرْتِيبُ الثَّابِتُ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ.
وَفِيهِ نَظَرٌ ; فَإِنَّ وُقُوعَ الزِّيَادَةِ فِي خِلَالِهِ، لَا يُخِلُّ بِالتَّرْتِيبِ الشَّرْعِيِّ، لِأَنَّ مَا كَانَ مُتَأَخِّرًا قَبْلَ الزِّيَادَةِ بَقِيَ عَلَى تَأَخُّرِهِ بَعْدَ الزِّيَادَةِ.
وَكَذَا مَا كَانَ مُتَقَدِّمًا قَبْلَ الزِّيَادَةِ، بَقِيَ عَلَى تَقَدُّمِهِ بَعْدَهَا.
الْقَائِلُونَ بِأَنَّ زِيَادَةَ اشْتِرَاطِ غَسْلِ عُضْوٍ يَكُونُ نَسْخًا، قَالُوا: قَبْلَ الزِّيَادَةِ كَانَتِ الطَّهَارَةُ بِدُونِهَا مُجْزِئَةً وَبَعْدَ الزِّيَادَةِ لَمْ تَكُنْ مُجْزِئَةً فَارْتَفَعَ بِالزِّيَادَةِ الْإِجْزَاءُ، وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَيَكُونُ نَسْخًا.
أَجَابَ بِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الطَّهَارَةِ مُجْزِئَةً امْتِثَالُ الْأَمْرِ بِفِعْلِهَا، وَلَمْ يَرْتَفِعْ ذَلِكَ بِالزِّيَادَةِ ; وَإِنَّمَا ارْتَفَعَ بِالزِّيَادَةِ عَدَمُ تَوَقُّفِ الطَّهَارَةِ عَلَى شَرْطٍ آخَرَ، وَعَدَمُ تَوَقُّفِهَا عَلَى شَرْطٍ آخَرَ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ ; لِأَنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، فَرَفْعُهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ زِيدَ فِي الصَّلَاةِ مَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ فِي الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ نَسْخًا ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ رَفْعُهُ رَفْعًا لِمَا ثَبَتَ بِالْأَصْلِ.

(2/573)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: مَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، عَلَى مَا يَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرِدَ فِيهِ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى هَذَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ فِي الصَّلَاةِ أَوْ مَكْرُوهٌ لَيْسَ نَسْخًا وَهُوَ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ وُجُوبَ مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ فِي الصَّلَاةِ يَكُونُ رَافِعًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ الِاسْتِحْبَابُ فَيَكُونُ نَسْخًا.
[مَسْأَلَةٌ: نُقِصَ جُزْءُ الْعِبَادَةِ أَوْ شَرْطُهَا هل يعد نسخا لِلْعِبَادَةِ]
ش - إِذَا نَقَصَ مِنَ الْعِبَادَةِ مَا لَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِ، كَنَسْخِ سُنَّةٍ مِنَ السُّنَنِ؛ مِثْلَ الْوُقُوفِ عَلَى يَمِينِ الْإِمَامِ - لَا يَكُونُ نَسْخًا لِلْعِبَادَةِ بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ يَكُونُ نَسْخًا لِمَا نَقَصَ.

(2/574)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
أَمَّا إِذَا نَقَصَ مِنَ الْعِبَادَةِ مَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْعِبَادَةِ (عَلَيْهِ كَجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ) أَوْ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهَا، مِثْلَ مَا إِذَا نَقَصَتْ رَكْعَةٌ مِنَ الرَّكَعَاتِ الْأَرْبَعِ، أَوْ نَقَصَ وُجُوبُ الطَّهَارَةِ - فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ نَسْخٌ لِلْجُزْءِ وَالشَّرْطِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ نَسْخٌ لِلْعِبَادَةِ أَمْ لَا.
وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَنَّ نُقْصَانَ الْجُزْءِ وَالشَّرْطِ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِلْعِبَادَةِ.
وَقِيلَ: نُقْصَانُهُمَا نَسْخٌ لِلْعِبَادَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: نُقْصَانُ الْجُزْءِ نَسْخٌ لِلْعِبَادَةِ، وَنُقْصَانُ الشَّرْطِ لَيْسَ بِنَسْخٍ لِلْعِبَادَةِ.
وَاحْتَجَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ بِأَنَّ نُقْصَانَ جُزْءِ الْعِبَادَةِ أَوْ شَرْطِهَا لَوْ كَانَ نَسْخًا لِوُجُوبِ الْعِبَادَةِ لَافْتَقَرَتِ الْعِبَادَةُ فِي وُجُوبِهَا بَعْدَ نُقْصَانِ الْجُزْءِ أَوِ الشَّرْطِ إِلَى دَلِيلٍ ثَانٍ.
وَالتَّالِي بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ لَا يَفْتَقِرُ وُجُوبُهُ إِلَى دَلِيلٍ ثَانٍ.
بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ: أَنَّ وُجُوبَ الْعِبَادَةِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ نُقْصَانِ الْجُزْءِ أَوِ الشَّرْطِ قَدِ ارْتَفَعَ بِنُقْصَانِ الْجُزْءِ أَوِ الشَّرْطِ ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ

(2/575)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
النُّقْصَانَ نَسْخٌ لِلْوُجُوبِ، فَوُجُوبُهَا بَعْدَ النُّقْصَانِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ.
الْقَائِلُونَ بِأَنَّ نُقْصَانَ الْجُزْءِ أَوِ الشَّرْطِ نَسْخٌ لِلْعِبَادَةِ قَالُوا: قَبْلَ نُقْصَانِ الْجُزْءِ أَوِ الشَّرْطِ ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْعِبَادَةِ بِغَيْرِ الشَّرْطِ وَبِغَيْرِ الْجُزْءِ، وَهَذَا التَّحْرِيمُ لَمْ يَكُنْ بِالْأَصْلِ بَلْ بِالشَّرْعِ، فَإِذَا نَقَصَ الْجُزْءُ أَوِ الشَّرْطُ ثَبَتَ جَوَازُ الْعِبَادَةِ أَوْ وُجُوبُهَا بِغَيْرِ الْجُزْءِ وَالشَّرْطِ، فَارْتَفَعَ التَّحْرِيمُ الْمَذْكُورُ.
فَيَكُونُ نُقْصَانُ الْجُزْءِ أَوِ الشَّرْطِ نَسْخًا؛ لِكَوْنِهِ رَافِعًا لِلتَّحْرِيمِ الْمَذْكُورِ.
أَجَابَ بِأَنَّهُ لَا كَلَامَ فِي نَسْخِ التَّحْرِيمِ الْمَذْكُورِ، بَلِ النِّزَاعُ فِي نَسْخِ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ بَعْدَ نُقْصَانِ الْجُزْءِ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ وُجُوبُ الْعِبَادَةِ بَعْدَ نُقْصَانِ الْجُزْءِ أَوِ الشَّرْطِ، لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ احْتِيَاجِ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ إِلَى دَلِيلٍ ثَانٍ.
وَإِذَا لَمْ يَتَجَدَّدْ وُجُوبٌ لَمْ يَتَحَقَّقْ نَسْخُ الْوُجُوبِ الْأَوَّلِ.
[مَسْأَلَة: الْمُخْتَارُ جَوَازُ نَسْخِ وُجُوبِ مَعْرِفة اللهِ وَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ]
ش - اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ نَسْخُ وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْقَبَائِحِ الْعَقْلِيَّةِ أَمْ لَا؟ .
فَقَالَ الْأَصْحَابُ: نَعَمْ.
وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ.
فَمَنْ قَالَ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ مَنَعَ جَوَازَ نَسْخِ هَذِهِ الْأُمُورِ ; لِأَنَّ الْمُقْتَضِي لِلْحُسْنِ وَالْقُبْحِ حِينَئِذٍ صِفَاتٌ وَأَحْكَامٌ لَا تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الشَّرَائِعِ، فَامْتَنَعَ النَّسْخُ لِاسْتِحَالَةِ الْأَمْرِ بِالْقَبِيحِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْحَسَنِ.
وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ جَوَّزَ نَسْخَ هَذِهِ الْأُمُورِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27] وَ {يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] .

(2/576)


خِلَافًا لِلْغَزَّالِيِّ.
لَنَا: أَحْكَامٌ كَغَيْرِهَا.
قَالُوا: لَا يَنْفَكُّ عَنْ وُجُوبِ مَعْرِفَةِ النَّسْخِ وَالنَّاسِخِ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ يَعْلَمُهَا وَيَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ بِهِمَا وَبِغَيْرِهِمَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/577)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشرح]
وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي جَوَازِ نَسْخِ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ.
فَقَالَ الْغَزَّالِيُّ: لَا يَجُوزُ.
وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ جَوَازُهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ جَمِيعَ التَّكَالِيفِ أَحْكَامٌ، فَكَمَا جَازَ نَسْخُ بَعْضِهَا جَازَ نَسْخُ جَمِيعِهَا.
وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ بِأَنَّ الْمَنْسُوخَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ وُجُوبِ مَعْرِفَةِ النَّسْخِ وَالنَّاسِخِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ تَكْلِيفٌ فَلَا يَكُونُ جَمِيعُ التَّكَالِيفِ مَنْسُوخًا.
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ الْمُكَلَّفَ يَعْلَمُ النَّسْخَ وَالنَّاسِخَ وَيَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ بِهِمَا وَبِغَيْرِهِمَا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمَا.