تخريج الفروع على الأصول مسَائِل من النّذر والأهلية
ذهب جَمَاهِير الْعلمَاء إِلَى أَن التحسين والتقبيح راجعان
إِلَى الْأَمر وَالنَّهْي فَلَا يقبح شَيْء لعَينه وَلَا يحسن
شَيْء لعَينه بل المعني بِكَوْنِهِ قبيحا محرما أَنه مُتَعَلق
النَّهْي والمعني بِكَوْنِهِ حسنا وَاجِبا أَنه مُتَعَلق
الْأَمر
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن أيجاب الْعقل شَيْئا من ذَلِك
لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون ضَرُورِيًّا أَو نظريا
وَالْأول محَال فَإِن الضروريات لَا تنَازع فِيهَا كَيفَ وَنحن
جم غفير وَعدد كثير لَا نجد أَنْفُسنَا مضطرين إِلَى معرفَة
حسن هَذِه الْأَفْعَال وَلَا قبح نقائضها
وَالثَّانِي أَيْضا محَال لإفضائه إِلَى التسلسل
(1/244)
وَذهب المنتمون إِلَى أبي حنيفَة رض من
عُلَمَاء الْأُصُول إِلَى أَن الْأَفْعَال تقسم إِلَى ثَلَاثَة
أَقسَام
فَمِنْهَا مَا يسْتَقلّ الْعقل بدرك حسنه وقبحه بديهة كحسن
الصدْق الَّذِي لَا ضَرَر فِيهِ وقبح الْكَذِب الَّذِي لَا نفع
فِيهِ
وَمعنى اسْتِقْلَال الْعقل بدرك ذَلِك عِنْدهم أَنه لَا
يتَوَقَّف على إِخْبَار مخبر
وَمِنْهَا مَا يدْرك حسنه وقبحه بِنَظَر الْعقل كحسن الصدْق
الْمُشْتَمل على الضَّرَر وقبح الْكَذِب الْمُشْتَمل على
النَّفْع
وَمِنْهَا مَا لَا يسْتَقلّ الْعقل بدرك حسنه وقبحه أصلا دون
تَنْبِيه الشَّرْع عَلَيْهِ كحسن الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالْحج
وَالزَّكَاة وقبح تنَاول الْخمر وَالْخِنْزِير وَلُحُوم الْحمر
الْأَهْلِيَّة
وَزَعَمُوا أَن أَمر الشَّرْع فِي هَذَا الْقسم وَنَهْيه كاشف
عَن وَجه حسن هَذِه الْأَفْعَال وقبحها لعلمه بِأَن امْتِثَال
أمره فِيهَا يَدْعُو إِلَى المستحسنات الْعَقْلِيَّة
وَكَذَلِكَ التّرْك فِي نقيضها من المناهي
وَاحْتَجُّوا على كَون الْعقل مدْركا لمعْرِفَة الْحسن والقبح
بِأَن
(1/245)
البراهمة يقبحون ويحسنون مَعَ إنكارهم
الشَّرَائِع وجحدهم النبوات
وَهُوَ فَاسد فَإِنَّهُم يقبحون ويحسنون فِي الْمَنَافِع
والمضار الناجزة وَالْخلاف فِيمَا لَا يتَعَلَّق بِهِ عرض
عَاجل وَكَانَ الْمَقْصُود مِنْهُ الثَّوَاب أَو دَرْء
الْعقَاب الآجل وهم لَا يحسنون وَلَا يقبحون فِيهِ
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا إِن إِسْلَام الصَّبِي الْمُمَيز لَا يَصح عندنَا
لِأَن الْإِسْلَام لَا يعقل إِلَّا بعد تقدم الْإِلْزَام كَمَا
لَا يعقل الْجَواب إِلَّا بعد تقدم الْخطاب فَإِنَّهُ من
أَسمَاء الشّبَه وَالْإِضَافَة وَالْإِسْلَام عبارَة عَن
الاستسلام والإذعان والابتداء بالتبرع لَا يُسمى إسلاما وَلَا
انقيادا كَمَا إِن الِابْتِدَاء بالْكلَام لَا يُسمى جَوَابا
والإلزام مُنْتَفٍ فِي حق الصَّبِي فَانْتفى الْإِسْلَام
وَذهب أَصْحَاب أبي حنيفَة رض إِلَى صِحَة إِسْلَامه
(1/246)
بِنَاء على أَن اللُّزُوم يثبت عقلا
وَالْعقل يُوجب على الصَّبِي والبالغ إِذا كَانَ الصَّبِي
عَاقِلا
وَمِنْهَا أَنه إِذا نذر صَوْم الْعِيد وَأَيَّام التَّشْرِيق
لَا ينْعَقد نَذره وَلَا يَصح صَوْمه فِيهَا عندنَا للنَّهْي
الْوَارِد فِيهِ
وَعِنْدهم يَصح بِنَاء على أَن الصَّوْم عبَادَة مَأْمُور بهَا
وَالْأَمر بِهِ يدل على كَونه حسنا فيستحيل إِن ينْهَى عَنهُ
فَيجب صرف النَّهْي إِلَى معنى وَرَاءه كَتَرْكِ إِجَابَة
الدَّاعِي مثلا
قَالُوا وَلَا يلْزم على هَذَا الصَّوْم وَالصَّلَاة فِي زمن
الْحيض وَالنّفاس فَإِن ذَلِك من بَاب النَّفْي لَا من بَاب
النَّهْي وَمعنى النَّفْي
(1/247)
إِخْبَار الشَّرْع بانعدام هَذِه
الْعِبَادَات شرعا فِي زمن الْحيض لقِيَام النَّافِي لَهَا
وَهُوَ حدث الْحيض وَالنّفاس
وَلَا يلْزم على هَذَا الإستحاضة فَإِن ذَلِك مُلْحق بالأمراض
لَا بالأحداث وَالْمَرَض لَا ينافيها
وَمِنْهَا أَن شَهَادَة أهل الذِّمَّة بَعضهم على بعض غير
مَقْبُولَة عندنَا لتهمة الْكَذِب
وَعِنْدهم تقبل لِأَن قبح الْكَذِب ثَابت عقلا وَكَذَلِكَ حسن
الصدْق وكل ذِي دين يجْتَنب مَا هُوَ مَحْظُور دينه وعقله
ظَاهرا
(1/248)
قَاعِدَة جَامِعَة
المشروعات اصلها حسن عِنْد أهل الرَّأْي لِأَن الْعِبَادَات
إِظْهَار الْعُبُودِيَّة والخضوع لله تَعَالَى وتعظيم
الْخَالِق وشكر الْمُنعم
والمعاملات سَبَب لإِقَامَة الْمصَالح وَقطع المنازعات
والمناكحات سَبَب للتناسل وَالتَّكَاثُر من الْعباد والعباد
والعقوبات وَالْحُدُود سَبَب لاستبقاء الْأَنْفس والعقول
والأديان والأبضاع وَالْأَمْوَال
قَالُوا وَلَا يخفى على كل ذِي عقل حسن هَذِه الْأَشْيَاء
فَلَا يتَصَوَّر نسخهَا وَلَا النَّهْي عَنْهَا
وَإِنَّمَا كيفياتها وهيأتها وشروطها تعرف بِالشَّرْعِ لَا
بِالْعقلِ فَجَائِز أَن يرد النّسخ وَالنَّهْي عَنهُ فَمَتَى
ورد النَّهْي مُضَافا إِلَى شَيْء مِنْهَا يجب
(1/249)
صرف النَّهْي إِلَى مجاور لَهُ صِيَانة
لأدلة الشَّرْع عَن التَّنَاقُض
أما عندنَا فالحسن والقبح تابعان لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي على
مَا سبق فيتصور الْأَمر بالشَّيْء وَالنَّهْي عَن عينه وَالله
تَعَالَى اعْلَم
(1/250)
= كتاب النِّكَاح =
مَذْهَب الشَّافِعِي رض أَن الْأَمر بالشَّيْء لَيْسَ نهيا عَن
ضِدّه وَالنَّهْي عَن الشَّيْء لَيْسَ أمرا بضده
بِدَلِيل أَن الَّذِي يَأْمر بالشَّيْء قد لَا يخْطر بِبَالِهِ
التَّعَرُّض لأضداد الْمَأْمُور بِهِ إِمَّا الذهول أَو إضراب
فَكيف يكون آمرا بالشَّيْء أَو ناهيا عَنهُ مَعَ غفلته وذهوله
عَنهُ
وَذهب الأصوليون من أَصْحَاب أبي حنيفَة رض إِلَى أَن الْأَمر
بالشَّيْء يَقْتَضِي النَّهْي عَن أضداده إِن كَانَ لَهُ أضداد
وَإِن لم يكن لَهُ إِلَّا ضد وَاحِد فَالْأَمْر بِهِ يَقْتَضِي
النَّهْي عَن ذَلِك الضِّدّ وَكَذَلِكَ النَّهْي عَن الشَّيْء
يَقْتَضِي الْأَمر بضده على التَّفْصِيل الَّذِي بَيناهُ
(1/251)
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن من أَمر
غَيره بِالْخرُوجِ من الدَّار فقد كره مِنْهُ سَائِر أضداده من
الْقيام وَالْقعُود والاضطجاع لِأَنَّهُ لَا يَأْمر
بِالْخرُوجِ مَعَ إِرَادَته لما يُنَافِيهِ لِاسْتِحَالَة
الْجمع بَينهمَا فِي الْأَمر الْوَاحِد
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا أَن التخلي لنوافل الْعِبَادَات أولى من الِاشْتِغَال
بِالنِّكَاحِ عندنَا
لِأَن النِّكَاح إِمَّا مُبَاح أَو مَنْدُوب مشوب بحظ النَّفس
وَاتِّبَاع الْهوى والنوافل مَنْدُوب إِلَيْهَا حَقًا لله
تَعَالَى على الخلوص
وَعِنْدهم الِاشْتِغَال بِالنِّكَاحِ أولى
لِأَن الزِّنَى مَنْهِيّ عَنهُ نهي تَحْرِيم وَالنِّكَاح
يتَضَمَّن ترك الزِّنَا لما فِيهِ من الِاسْتِغْنَاء بالمباح
عَن السفاح فَكَانَ مَأْمُورا بِهِ أَمر أيجاب
فلئن قُلْنَا لَو كَانَ وَاجِبا لأثم بِتَرْكِهِ وَمن ترك
النِّكَاح لَا يَأْثَم
(1/252)
قَالُوا يمْنَع
ونقول من ترك النِّكَاح جَمِيع عمره فَمَاتَ من غير نِكَاح
يُعَاقب فِي الدَّار الْآخِرَة
وَمِنْهَا أَن إرْسَال الطلقات الثَّلَاث مُبَاح عندنَا لِأَن
مُوجبهَا قطع نِكَاح مُبَاح
وَعِنْدهم حرَام وبدعة لِأَنَّهُ تضمن قطع مصلحَة وَجَبت
إِقَامَتهَا بِالْكُلِّيَّةِ واحترزوا بقَوْلهمْ
بِالْكُلِّيَّةِ عَن التَّفْرِيق
فلئن قُلْنَا النِّكَاح عِنْد تنَافِي الْأَخْلَاق يصير
مفْسدَة فَلم يتَضَمَّن قطع مصلحَة
قَالُوا النِّكَاح لَا يصير مفْسدَة لَا بِاعْتِبَار ذَاته
وَلَا بِاعْتِبَار مَا يخْتَص بِهِ من الْأَحْكَام إِذْ لَو
كَانَ كَذَلِك لامتنعت شَرْعِيَّة النِّكَاح وَلم يحْتَج إِلَى
قَاطع
(1/253)
مَسْأَلَة 1
رَاوِي الأَصْل إِذا أنكر رِوَايَة الْفَرْع إِنْكَار جَاحد
قَاطعا مُكَذبا للراوي لم يعْمل بِهِ وَلم يصر الرَّاوِي
مجروحا لِأَنَّهُ مكذب شَيْخه كَمَا أَن شَيْخه مكذب لَهُ
وَكِلَاهُمَا عَدْلَانِ كالبينتين إِذا تكاذبتا فَإِنَّهُ
لايوجب جرح أَحدهمَا
أما إِذا أنكر إِنْكَار مُتَوَقف بِأَن قَالَ لست أذكر أَو لَا
اعرفه فَيعْمل بالْخبر عِنْد الشَّافِعِي رض
وَاحْتج فِي ذَلِك بِأَنَّهُ عدل روى وَقد أمكن تَصْدِيقه فِي
رِوَايَته فَوَجَبَ أَن يعْمل بروايته كَمَا لَو صدقه رَاوِي
الأَصْل وَلِأَن عَدَالَة الْفَرْع ثَابِتَة على الْقطع
وَالْيَقِين وَتوقف الأَصْل لَا يدل على التَّكْذِيب إِذْ لم
يُنكر إِنْكَار جَاحد فَمن الْجَائِز أَنه حَدثهُ ثمَّ نَسيَه
لِأَن الْإِنْسَان عرضة للنسيان وَالْيَقِين لَا يرفع
بِالشَّكِّ
(1/254)
وَذهب الْحَنَفِيَّة إِلَى أَنه لايجوز
الْعَمَل بِهِ
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بأمرين
أَحدهمَا أَنهم قَالُوا لَو كَانَ الحَدِيث حجَّة فِي حق غير
الشَّيْخ لَكَانَ حجَّة فِي حق الشَّيْخ
وَوجه ذَلِك أَن الشَّيْخ هُوَ الأَصْل الْمَرْوِيّ عَنهُ
وَإِذا بَطل الحَدِيث فِي حق غَيره بطرِيق الأولى
الثَّانِي أَنهم قَالُوا لَا خلاف أَن شُهُود الأَصْل لَو
وقفُوا وَقَالُوا مَا نذْكر ذَلِك وَلَا نَحْفَظهُ لم يجز
للْحَاكِم الْعَمَل بِشَهَادَة الشُّهُود الْفَرْع فَكَذَلِك
فِي رِوَايَة الْخَبَر
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل
بطلَان النِّكَاح بِلَا ولي عِنْد الشَّافِعِي رض لما روى
سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن الزُّهْرِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ أَيّمَا
(1/255)
امْرَأَة نكحت نَفسهَا بِغَيْر إِذن
وَليهَا فنكاحها بَاطِل بَاطِل بَاطِل فَإِن مَسهَا فلهَا
الْمهْر بِمَا اسْتحلَّ من فرجهَا فَإِن اشتجروا فالسلطان ولي
من لَا ولي لَهُ // الحَدِيث أخرجه الْبَيْهَقِيّ وَلَا مبالاة
بإنكار الزُّهْرِيّ رِوَايَة سُلَيْمَان عَنهُ لما ذَكرْنَاهُ
وَأَبُو حنيفَة رض طرد الْقيَاس وَلم ير الِاحْتِجَاج
بِالْحَدِيثِ لقَوْل الزُّهْرِيّ عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى لَا
أعرفهُ
(1/256)
مسالة
2
ذهب الشَّافِعِي رض إِلَى أَن ولَايَة الْإِجْبَار فِي حق
الْبَنَات معللة بالبكارة لَا بالصغر
أحتج فِي ذَلِك بِأَن النِّكَاح فِي حق الْبَنَات من جملَة
المضار من حَيْثُ إِنَّه إرقاق وإذلال من غير حَاجَة تَدْعُو
إِلَيْهِ وَالْولَايَة تثبت للْوَلِيّ على الصَّغِير نظرا لَهُ
وَإِقَامَة لما تَدْعُو حَاجته إِلَيْهِ دون مَا يضر بِهِ
وَلِهَذَا لَا يملك هبة مَال الصَّغِير وَيملك قبُول الْهِبَة
لَهُ وَلَا يملك البيع بِغَبن فَاحش وَلَا يملك الطَّلَاق
وَالْعتاق عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يتَعَلَّق بهما دفع حَاجَة
الصَّغِير وَالنِّكَاح مِمَّا لايتعلق بِهِ دفع حَاجَة
الصَّغِير فَلَا يصلح الصغر عِلّة للإجبار
وَهَذَا بِخِلَاف إنكاح الصغار فَإِن ذَلِك من جملَة الْمصَالح
فِي حَقهم من حَيْثُ إِنَّه يحصل لَهُم ملك النُّفُوس وَلَا
يلْزم على هَذَا ثُبُوت ولَايَة الْإِنْكَاح بعد الْبلُوغ
لِأَنَّهَا تحْتَاج إِلَى النِّكَاح وَلَا تصبر فِي
(1/257)
الْأَعَمّ الْأَغْلَب عَنهُ وَلَا
يَتَيَسَّر أَمر معيشتها بِدُونِهِ
وَذهب أَبُو حنيفَة رض إِلَى أَن ولَايَة الْإِنْكَاح فِي حق
الصغار والإجبار معللة بالصغر
وَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن النِّكَاح مُتَعَلق الْمصَالح من
الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا من حَيْثُ أَن مصلحَة المعاش فِي
الْعَادَات الْجَارِيَة إِنَّمَا يقوم بازدواج الرِّجَال
وَالنِّسَاء وَلِأَن شَهْوَة الْفرج شَهْوَة أَصْلِيَّة فِي
الذّكر وَالْأُنْثَى وَلَا طَرِيق إِلَى الْقَضَاء إِلَّا
بطرِيق الازدواج وَكَذَلِكَ مصلحَة بَقَاء النَّسْل
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مَسْأَلَتَانِ
إِحْدَاهمَا أَن الثّيّب الصَّغِيرَة لَا تزوج عندنَا لزوَال
عِلّة الْإِجْبَار وَهِي الْبكارَة
وَعِنْدهم تجبر لقِيَام عِلّة الْإِجْبَار وَهِي الصغر
(1/258)
الثَّانِيَة أَن الْبكر الْبَالِغ تزوج
إجبارا عندنَا
وَعِنْدهم لَا تزوج إِلَّا بِرِضَاهَا وَقد تقدم ذكره مستقصى
فِي قَاعِدَة الْمَفْهُوم فِي مسَائِل البيع
(1/259)
مسالة
3
ذهب الشَّافِعِي رض إِلَى أَن قرب الْقَرَابَة مُعْتَبر فِي
الِاسْتِقْلَال بِالنِّكَاحِ
وَاحْتج فِي ذَلِك بِتَقْدِيم الْأَب على الْجد عِنْد
الِاجْتِمَاع
وَذهب أَبُو حنيفَة رض إِلَى الِاكْتِفَاء بِأَصْل الْقَرَابَة
وأحتج فِي ذَلِك باستقلال الْجد عِنْد عدم الْأَب فَإِنَّهُ لم
يسْتَقلّ لعدم الْأَقْرَب بل لمَكَان أَهْلِيَّته
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا أَن غير الْأَب وَالْجد لَا يملك تَزْوِيج الصَّغِير
وَالصَّغِيرَة عندنَا
وَعِنْده يملك
وَمِنْهَا أَن الْوَلِيّ الْأَقْرَب إِذا غَابَ غيبَة متقطعة
لَا تبطل ولَايَته وَلَا تنْتَقل إِلَى الْقَرِيب بل الْحَاكِم
يُزَوّجهَا نِيَابَة عَن
(1/260)
الْأَقْرَب
وَعِنْده يُزَوّجهَا الْأَبْعَد
وَمِنْهَا أَن الْمُعْتق وَابْن الْعم لَا يسْتَقلّ بتولي
طرفِي العقد وَلَا يُزَوّج من نَفسه عندنَا وَالْجد يسْتَقلّ
بتولي طرفِي النِّكَاح على حفيدته
وَعِنْدهم يسْتَقلّ كالجد وَلَا خلاف أَن الْأَب يخْتَص بتولي
الطَّرفَيْنِ فِي مَال الطِّفْل
(1/261)
مَسْأَلَة 4
ذهب أَبُو حنيفَة وَمن تَابعه من الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَن
الْمُطلق والمقيد إِذا وردا فِي حَادِثَة وَاحِدَة لَا يحمل
كمطلق على الْمُقَيد لِأَن كَلَام الْحَكِيم مَحْمُول على
مُقْتَضَاهُ وَمُقْتَضى الْمُطلق الْإِطْلَاق والمقيد
التَّقْيِيد
وَقَالَ الشَّافِعِي رض يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد لِأَن
الْحَكِيم إِنَّمَا يزِيد فِي الْكَلَام لزِيَادَة فِي
الْبَيَان فَلم يحسن إِلْغَاء تِلْكَ الزِّيَادَة بل يَجْعَل
كَأَنَّهُ قالهما مَعًا وَلِأَن مُوجب الْمُقَيد مُتَيَقن
وَمُوجب الْمُطلق مُحْتَمل
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل مِنْهَا أَن النِّكَاح
لَا ينْعَقد بِحُضُور الْفَاسِقين عِنْد الشَّافِعِي رض
لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي
عدل
(1/262)
فَإِنَّهُ تَقْيِيد للشَّهَادَة
بِالْعَدَالَةِ
وَعِنْدهم ينْعَقد لمُطلق قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا
نِكَاح إِلَّا بولِي وشهود
وَالشَّافِعِيّ رض نزل هَذَا الْمُطلق على الْمُقَيد
لِاتِّحَاد الْوَاقِعَة وَأَبُو حنيفَة قدم الْمُطلق على
الْمُقَيد
وَمِنْهَا أَن الْفَاسِق لَا يَلِي التَّزْوِيج بِالْقَرَابَةِ
عندنَا لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا نِكَاح إِلَّا بولِي
وشاهدي عدل
(1/263)
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض يَلِيهِ لمُطلق
قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشهود
وَمِنْهَا أَن إِعْتَاق الرَّقَبَة الْكَافِرَة لَا يَجْزِي
فِي كَفَّارَة الظِّهَار عندنَا حملا لمُطلق قَوْله تَعَالَى
فِيهِ {فَتَحْرِير رَقَبَة} على قَوْله تَعَالَى فِي كَفَّارَة
الْقَتْل {فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} وَقد مضى ذكر هَذِه
الْمَسْأَلَة فِي صدر الْكتاب
وَمِنْهَا أَن السَّيِّد إِذا كَانَ لَهُ عبد كَافِر لَا تجب
عَلَيْهِ صَدَقَة الْفطر عَنهُ عندنَا لِأَنَّهُ روى نَافِع
عَن مَالك عَن ابْن عمر رض أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ أَدّوا صَدَقَة الْفطر عَن كل حر
(1/264)
وَعبد نصف صَاع من بر وَرُوِيَ عَنهُ
أَدّوا عَن كل حر وَعبد من الْمُسلمين نصف صَاع من الْحِنْطَة
فالشافعي رض يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد وَيشْتَرط الْإِيمَان
وَأَبُو حنيفَة رض لَا يحمل وَلَا يشْتَرط الْإِيمَان
(1/265)
مَسْأَلَة 5
مَذْهَب الشَّافِعِي رض أَن شَهَادَة النِّسَاء شَهَادَة
ضَرُورِيَّة غير أَصْلِيَّة وأحتج فِي ذَلِك بأمرين
أَحدهمَا أَن الشَّهَادَة ولَايَة دينية وَأَمَانَة شَرْعِيَّة
لَا تنَال إِلَّا بِكَمَال الْحَال لما فِيهَا من تَنْفِيذ
قَول الْغَيْر على الْغَيْر وتنزيل قَول الْمَعْصُوم فِي
إِفَادَة الصدْق فِي الْخَبَر النِّسَاء ناقصات عقل وَدين
وَلِهَذَا لم تقبل شَهَادَتهنَّ فِي كثير من القضايا لما خصصن
بِهِ من الْغَفْلَة والذهول ونقصان الْعقل وَحَيْثُ قبلت
أُقِيمَت شَهَادَة اثْنَتَيْنِ مقَام رجل وَاحِد
الثَّانِي أَن الشَّهَادَة تُقَام فِي منصب الْقَضَاء على
رُؤُوس الأشهاد ويتصل الْأَمر فِيهَا بالتزكية وَالتَّعْدِيل
والبحث عَن البواطن وَذَلِكَ نِهَايَة فِي التبرج والتكشف
الْمنَافِي لحالهن فاصل قبُول الشَّهَادَة من
(1/266)
النِّسَاء مُشكل فَإِن النَّقْص الَّذِي
يمْنَع قبُول الشَّهَادَة فِي مَوضِع يجب فِي حكم الْقيام أَن
يمْنَع فِي كل مَوضِع كالرق فَكَانَ أصل قبُول الشَّهَادَة من
النِّسَاء خَارِجا عَن الْقيَاس
وَمَا هَذَا شانه يجب الِاقْتِصَار فِيهِ على مورد النَّص
وَالنَّص لم يرد إِلَّا فِي المَال وَمَا يقْصد بِهِ المَال من
بيع أَو رهن وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض شَهَادَة النِّسَاء شَهَادَة
أَصْلِيَّة بِدَلِيل وجوب الْعَمَل بهَا مَعَ الْقُدْرَة على
شَهَادَة الرِّجَال وَلَو كَانَت ضَرُورِيَّة لما سَمِعت مَعَ
الْقُدْرَة على شَهَادَة الرِّجَال وقصورها عَن كَمَال الْحَال
وَمَا جبلن عَلَيْهِ من الْغَفْلَة وَالنِّسْيَان فقد جبر
بِالْعدَدِ وَقد نبه الشَّرْع عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى {أَن
تضل إِحْدَاهمَا فَتذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى}
(1/267)
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا مَسْأَلَتَانِ
إِحْدَاهمَا أَن النِّكَاح لَا ينْعَقد بِشَهَادَة رجل
وَامْرَأَتَيْنِ لما ذَكرْنَاهُ
وَعِنْدهم ينْعَقد
وَلذَلِك لَا يثبت الطَّلَاق وَالْعتاق وَالْوَصِيَّة
وَالْوكَالَة وكل حق لَيْسَ بِمَال وَلَا يقْصد مِنْهُ المَال
الثَّانِيَة أَن شَهَادَة الْقَابِلَة وَحدهَا لَا يقبل
وَعِنْده تقبل حَتَّى يثبت بِهِ النّسَب وَالْمِيرَاث
وَالطَّلَاق الْمُعَلق بِالْولادَةِ
(1/268)
مَسْأَلَة 6
ذهب أَصْحَاب أبي حنيفَة رض إِلَى أَن حكم الشَّيْء يَدُور
مَعَ أَثَره وجودا وعدما فَينزل وجود أثر الشَّيْء منزلَة
وجوده وَعَدَمه منزلَة عَدمه اسْتِدْلَالا بِوُجُود الْأَثر
على وجود الْمُؤثر وبانتفائه على انتفائه
وَالشَّافِعِيّ رض منع ذَلِك محتجا فِيهِ بحقية الأَصْل فان
الْأَحْكَام والْآثَار تَابِعَة للحقائق حسا وَحَقِيقَة وَفِي
تَنْزِيل أثر الشَّيْء منزلَة ذَلِك الشَّيْء فِي وجوده
وَعَدَمه جعل الْمَتْبُوع تَابعا وَذَلِكَ قلب الْحَقَائِق
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا أَن المصابة بِالْفُجُورِ إِذا زَالَت بَكَارَتهَا
بِالزِّنَا الْمَحْض فَإِنَّهَا تستنطق عندنَا لوُجُود
حَقِيقَة الثيابة
وَعِنْدهم تزوج كَمَا تزوج الْأَبْكَار ويكتفى بسكوتها
لِأَنَّهُ وَطْء غير مُتَعَلق بِهِ حكم من أَحْكَام الْملك
وَلَا خاصية من
(1/269)
خَصَائِصه فَأشبه الوثبة والطفرة وَلَا
يَزُول حكم الْبكارَة
وَمِنْهَا أَن نِكَاح الْأُخْت فِي عدَّة الْأُخْت البائنة
جَائِز عندنَا لِأَن الْمحرم هُوَ الْجمع فِي السَّبَب المثمر
للْوَطْء أَو فِي الْوَطْء الْمَقْصُود بِهَذَا السَّبَب وَقد
أنعدم ذَلِك حَقِيقَة
وَعِنْدهم لَا يجوز لِأَن الْعدة من خَصَائِص أَحْكَام
النِّكَاح فَجعل بَقَاؤُهُ بِمَنْزِلَة بَقَاء اصلها فِي
تَحْرِيم الْجمع
وَمِنْهَا إِذْ طلق الْحرَّة ثَلَاثًا ثمَّ تزوج أمة فِي
عدتهَا جَازَ عندنَا
وَعِنْده لَا يجوز
وَمِنْهَا أَن المختلعة لَا يلْحقهَا صَرِيح الطَّلَاق لزوَال
حَقِيقَة النِّكَاح
(1/270)
وَعِنْدهم يلْحقهَا مَا دَامَت فِي الْعدة
كَمَا ذَكرْنَاهُ
وَمِنْهَا أَن المبتوتة فِي مرض الْمَوْت لَا تَرث عندنَا
وَعِنْدهم تَرث مَا دَامَت الْعدة قَائِمَة
(1/271)
مسالة
7
إِذا دَار اللَّفْظ بَين مَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ وَمَعْنَاهُ
اللّغَوِيّ ترجح حمله على الْمَعْنى الشَّرْعِيّ دون الْوَضع
اللّغَوِيّ عندنَا لما ذَكرْنَاهُ فِي تبييت النِّيَّة
وَذهب أَصْحَاب أبي حنيفَة رض إِلَى أَنه يتَرَجَّح حمله على
الْمَوْضُوع اللّغَوِيّ مجَاز فِيمَا عداهُ وَالْكَلَام
بحقيقته إِلَى إِن يدل الدَّلِيل على الْمجَاز
ويفرع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا إِن الزِّنَا لَا يُوجب حُرْمَة الْمُصَاهَرَة عندنَا
وَعِنْدهم يُوجِبهَا
(1/272)
ومدار نظر الْفَرِيقَيْنِ على تَفْسِير
اسْم النِّكَاح فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح
آباؤكم من النِّسَاء إِلَّا مَا قد سلف}
أَبُو حنيفَة رض يَقُول مَعْنَاهُ الْوَطْء لِأَنَّهُ مَأْخُوذ
من الضَّم وَالْجمع قَالَ تَعَالَى {حَتَّى إِذا بلغُوا
النِّكَاح} يَعْنِي الْوَطْء وَحَيْثُ ورد النِّكَاح فِي
الشَّرْع بِمَعْنى العقد فلأجل أَنه سَبَب للْوَطْء فَعبر
بِالسَّبَبِ عَن الْمُسَبّب
وَقَالَ الشَّافِعِي رض مَعْنَاهُ العقد لِأَنَّهُ لم يرد فِي
الشَّرْع مُطلقًا إِلَّا وَأُرِيد بِهِ العقد قَالَ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشهود وَيُقَال
حَضَرنَا نِكَاح فلَان وَإِنَّمَا يُرَاد بِهِ العقد فَيصْرف
عِنْد الْإِطْلَاق إِلَيْهِ كَمَا فِي لفظ الصَّلَاة
وَالصَّوْم فَإِنَّهُمَا عِنْد الْإِطْلَاق يحْملَانِ على
الصَّلَاة الشَّرْعِيَّة وَالصَّوْم الشَّرْعِيّ دون
اللّغَوِيّ وَأما قَوْله تَعَالَى {حَتَّى إِذا بلغُوا
النِّكَاح} وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام ناكح الْيَد مَلْعُون
// حَدِيث ضَعِيف // فَإِنَّمَا حمل على الْوَطْء لِأَنَّهُ
(1/273)
لَا يحْتَمل العقد
وَمِنْهَا أَن الْمحرم لَا يجوز لَهُ إِن يتَزَوَّج وَأَن
يُزَوّج عندنَا لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا ينْكح الْمحرم
وَلَا ينْكح
وَعِنْدهم يجوز لَهُ ذَلِك وحملوا لفظ النِّكَاح على الْوَطْء
دون العقد وَعَلِيهِ حمل أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ لفظ
النِّكَاح فِي قَوْله تَعَالَى {وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا
أَن ينْكح الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات فَمن مَا ملكت
أَيْمَانكُم من فَتَيَاتكُم الْمُؤْمِنَات} حَتَّى جوز للْحرّ
نِكَاح الْأمة بِدُونِ خوف الْعَنَت
(1/274)
|