تخريج الفروع على الأصول مسَائِل الشَّهَادَات
مَسْأَلَة 1
مَذْهَب الشَّافِعِي رض حُصُول التَّرْجِيح بِكَثْرَة
الْأَدِلَّة وانضمام عِلّة إِلَى عِلّة وان صلحت كل وَاحِدَة
أَن تكون مُسْتَقلَّة
وَاحْتج فِي ذَلِك بِأَنا إِذا فَرضنَا دَلِيلين متعارضين
متساويين فِي الْقُوَّة فِي ظننا ثمَّ وجدنَا دَلِيلا آخر
يُسَاوِي أَحدهمَا فمجموعهما لَا بُد وَأَن يكون زَائِدا على
ذَلِك الآخر لِأَن مجموعهما أعظم من كل وَاحِد مِنْهُمَا وكل
وَاحِد مِنْهُمَا مسَاوٍ لذَلِك الآخر والأعظم من الْمسَاوِي
أعظم وأرجح
وَذَهَبت الْحَنَفِيَّة إِلَى أَن التَّرْجِيح إِنَّمَا يحصل
بوضوح زِيَادَة تنشأ
(1/376)
من عين أحد الدَّلِيلَيْنِ على الآخر صفة
ناشئة مِنْهُ كَقَوْلِهِم هَذِه الدَّرَاهِم راجحة إِذا
مَالَتْ كفة الدَّرَاهِم على كفة الصنج بِصفة الثّقل
أما انضمام دَلِيل إِلَى دَلِيل أَو عِلّة إِلَى عِلّة أُخْرَى
فَلَا يُوجب رُجْحَان تِلْكَ الْعلَّة
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَنا أجمعنا على أَن الشَّهَادَة
وَالْفَتْوَى لَا تتقوى بِكَثْرَة الْعدَد فَإِن شَهَادَة
شَاهِدين وَشَهَادَة أَرْبَعَة فِيمَا يثبت بِشَاهِدين سَوَاء
وَشَهَادَة عشرَة وَشَهَادَة أَرْبَعَة فِيمَا يثبت بأَرْبعَة
سَوَاء
وَأَيْضًا أجمعنا على أَن الْخَبَر الْوَاحِد لَو عَارضه ألف
قِيَاس يكون راجحا على الْكل وَذَلِكَ يدل على أَن التَّرْجِيح
لَا يحصل بانضمام دَلِيل إِلَى دَلِيل
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل
أَن بَيِّنَة ذِي الْيَد مسموعة وَتقدم على بَيِّنَة الْخَارِج
عندنَا لاعتضاد بَينته بِالْيَدِ
(1/377)
وَعِنْدهم لَا تسمع لِأَن الْيَد دَلِيل
مُسْتَقل بِإِثْبَات الحكم فَلَا يصلح لترجيح بَيِّنَة
لِأَنَّهَا مُنْفَصِلَة عَن الْبَيِّنَة
(1/378)
مَسْأَلَة 2
الِاسْتِثْنَاء إِذا تعقب جملا نسق بَعْضهَا على بعض رَجَعَ
إِلَى جَمِيع الْجمل عِنْد الشَّافِعِي رض وَأَصْحَابه وَلَا
يخْتَص بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَة
مِثَاله أَن يَقُول وقفت دَاري هَذِه على بني فلَان وخاني
هَذَا على بني فلَان إِلَّا الْفُسَّاق مِنْهُم
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأُمُور ثَلَاثَة
أَحدهَا أَن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على الْإِنْسَان إِذْ قَالَ
لفُلَان عَليّ خَمْسَة وَخَمْسَة إِلَّا سَبْعَة أَنه يكون
مقرا بِثَلَاثَة
وَلَو كَانَ الِاسْتِثْنَاء يخْتَص بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَة
لَكَانَ مقرا بِعشْرَة لِأَن الِاسْتِثْنَاء حِينَئِذٍ يخْتَص
بالخمسة الثَّانِيَة وَيكون اسْتثِْنَاء مُسْتَغْرقا بل زَائِد
عَلَيْهِ والإستثناء الْمُسْتَغْرق بَاطِل
وَحَيْثُ اتفقنا على أَنه يكون إِقْرَارا بِثَلَاثَة دلّ أَنه
انعطف على جَمِيع الْجمل
(1/379)
الثَّانِي أَنا أجمعنا على أَن
الِاسْتِثْنَاء الْمُعَلق بِمَشِيئَة الله تَعَالَى والمقيد
بِالشّرطِ يرجع إِلَى جَمِيع الْجمل كَقَوْل الْقَائِل نساؤه
طَوَالِق وعبيده أَحْرَار وأمواله صَدَقَة إِن شَاءَ الله
فَإِنَّهُ يرجع إِلَى الْجَمِيع حَتَّى لَا يَقع شَيْء من
الْأَحْكَام
وَكَذَا إِذا قَالَ عبيده أَحْرَار ونساؤه طَوَالِق إِن دخلُوا
الدَّار فَإِن هَذَا الشَّرْط يرجع إِلَى الْجَمِيع وَلَا
يقْتَصر على وَاحِدَة من الجملتين
الثَّالِث أَن الْجمل الَّتِي سبقت الْجُمْلَة الْأَخِيرَة لَا
يَخْلُو أما أَن يُقَال إِنَّهَا مُنْقَطِعَة عَن الْجُمْلَة
الْأَخِيرَة كالمسكوت عَنْهَا أَو هِيَ مرتبطة بِالْجُمْلَةِ
الْأَخِيرَة
إِن قيل إِنَّهَا كالمنقطعة الْمَسْكُوت عَنْهَا فالاستثناء
إِذا تعقب كلَاما مُنْقَطِعًا مسكوتا عَنهُ كَانَ لَغوا
مُنْقَطِعًا فَإِنَّهُ لَو قَالَ لَهُ عَليّ عشرَة وَسكت ثمَّ
قَالَ إِلَّا خَمْسَة لم يعد ذَلِك اسْتثِْنَاء وَلَا عِبْرَة
بِهِ
وَفِي مَسْأَلَتنَا بِحسن أَن نعيد الِاسْتِثْنَاء إِلَى
الْجمل السَّابِقَة وَلَا نعد ذَلِك لَغوا وَلَا اسْتثِْنَاء
مُنْقَطِعًا وَلَو كَانَت كالمسكوت عَنْهَا لما حسن
(1/380)
إِعَادَة الِاسْتِثْنَاء إِلَيْهَا
وَذهب أَبُو حنيفَة رض وَأَصْحَابه إِلَى أَن الِاسْتِثْنَاء
يخْتَص بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَة دون مَا قبلهَا من الْجمل
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأُمُور ثَلَاثَة
أَحدهمَا أَن الِاسْتِثْنَاء لَو كَانَ يرجع إِلَى جَمِيع
الْجمل وَجب أَن يكون الِاسْتِثْنَاء من الِاسْتِثْنَاء رَاجعا
إِلَى الجملتين جَمِيعًا الِاسْتِثْنَاء والمستثنى مِنْهُ
وَقد اتفقنا على أَنه لَو قَالَ لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا
خَمْسَة إِلَّا درهما كَانَ هَذَا الِاسْتِثْنَاء رَاجعا إِلَى
الِاسْتِثْنَاء الَّذِي تقدمه لَا إِلَى الْمُسْتَثْنى مِنْهُ
فَلْيَكُن فِي مَسْأَلَتنَا مثله
الثَّانِي أَنهم قَالُوا رُجُوع الِاسْتِثْنَاء إِلَى
الْجُمْلَة الْأَخِيرَة مستيقن ورجوعه إِلَى مَا قبلهَا من
الْجمل مُحْتَمل مَشْكُوك فِيهِ فَلَا يثبت بِالشَّكِّ
وَالِاحْتِمَال
الثَّالِث أَنا لَو قُلْنَا يرجع الِاسْتِثْنَاء إِلَى جَمِيع
الْجمل أدّى
(1/381)
ذَلِك إِلَى اجْتِمَاع عاملين فِي مَعْمُول
وَاحِد والعاملان لَا يجوز اجْتِمَاعهمَا على مَعْمُول وَاحِد
أما الدَّلِيل على أَنه لَا يجوز اجْتِمَاع عاملين فِي
مَعْمُول وَاحِد هُوَ انا لَو قَدرنَا اجْتِمَاع ناصبين لمنصوب
وَاحِد فَلَو قدر انعدام أَحدهمَا فَإِنَّمَا يَنْعَدِم بضده
وَهُوَ الرّفْع أَو الْجَرّ أدّى ذَلِك إِلَى أَن يصير
الشَّيْء الْوَاحِد مَنْصُوبًا مَرْفُوعا فِي حَالَة وَاحِدَة
وَذَلِكَ محَال
وَهَذَا ينْزع إِلَى قَاعِدَة عقلية وَذَلِكَ أَن
الْمُتَكَلِّمين قَالُوا لَا يجوز اجْتِمَاع سوادين أَو بياضين
فِي مَحل وَاحِد لأَنا لَو قَدرنَا اجْتِمَاعهمَا وقدرنا
انعدام أَحدهمَا فَإِنَّمَا يَنْعَدِم أحد الضدين بطريان الآخر
فيفضي ذَلِك إِلَى اجْتِمَاع السوادين والبياضين فِي الْمحل
الْوَاحِد وَذَلِكَ محَال
وَأما الدَّلِيل على إفضائه إِلَى اجْتِمَاع عاملين فِي
مَعْمُول وَاحِد هُوَ أَن الْعَامِل فِيمَا بعد إِلَّا هُوَ
مَا قبل إِلَّا بِوَاسِطَة إِلَّا لِأَنَّهَا قوت الْفِعْل
فأوصلته إِلَى مَا بعْدهَا
فَإِذا قُلْنَا إِن الِاسْتِثْنَاء يرجع إِلَى الْجمل كلهَا
احتجنا أَن نعمل
(1/382)
كل وَاحِدَة فِيمَا بعد إِلَّا فيجتمع فِي
مَعْمُول وَاحِد عاملان
ثمَّ قد يكون أَحدهمَا نصبا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا
تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا} وَقَوله {أُولَئِكَ هم
الْفَاسِقُونَ} رفع فَيمْتَنع الرّفْع وَالنّصب فِي الْمحل
الْوَاحِد
وَهَذَا مَا ذَكرُوهُ مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ
وَقد ذهب أَبُو الْعَبَّاس الْمبرد إِلَى أَن الْعَامِل فِي
الِاسْتِثْنَاء هُوَ إِلَّا بِتَقْدِير أستثني زيدا فعلى هَذَا
لَا يُؤَدِّي إِلَى اجْتِمَاع عاملين
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل
أَن الْمَحْدُود فِي الْقَذْف إِذا نَاب قبلت شَهَادَته عِنْد
الشَّافِعِي رض
لِأَن الِاسْتِثْنَاء فِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين يرْمونَ
الْمُحْصنَات ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة
أبدا وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا}
(1/383)
يرجع إِلَى جَمِيع الْجمل فيرتفع رد
الشَّهَادَة كَمَا أرتفع الْفسق
فَإِن قيل لَو عَاد إِلَى جَمِيع الْجمل لسقط الْحَد
بِالتَّوْبَةِ فَإِنَّهُ مِنْهَا
قُلْنَا سقط على أحد قولي الشَّافِعِي رض وعَلى التَّسْلِيم
إِنَّمَا لم يسْقط الْحَد بِالتَّوْبَةِ لِأَن الْمُغَلب فِيهِ
حق الْآدَمِيّ فَلَا يسْقط إِلَّا باستيفائه لَا لخلل فِي
اقْتِضَاء الصِّيغَة
(1/384)
أبدا وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا
الَّذين تَابُوا يرجع إِلَى جَمِيع الْجمل فيرتفع رد
الشَّهَادَة كَمَا أرتفع الْفسق
فَإِن قيل لَو عَاد إِلَى جَمِيع الْجمل لسقط الْحَد
بِالتَّوْبَةِ فَإِنَّهُ مِنْهَا
قُلْنَا سقط على أحد قولي الشَّافِعِي رض وعَلى التَّسْلِيم
إِنَّمَا لم يسْقط الْحَد بِالتَّوْبَةِ لِأَن الْمُغَلب فِيهِ
حق الْآدَمِيّ فَلَا يسْقط إِلَّا باستيفائه لَا لخلل فِي
اقْتِضَاء الصِّيغَة
(1/385)
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض لَا تقبل
شَهَادَته أبدا لاخْتِصَاص الِاسْتِثْنَاء بِالْجُمْلَةِ
الْأَخِيرَة
(1/386)
|