تشنيف المسامع بجمع الجوامع لتاج الدين السبكي ص: (الكلامُ في المُقَدِّمَاتِ).
ش: المُقَدِّمَاتُ: جمعُ مُقَدِّمَةٍ، وهي في اصطلاحِ
الحكماءِ: القَضِيَّةُ المَجْعُولَةُ جُزْءَ الدليلِ؛ كقولِنا:
العالِمُ مُمْكِنٌ، وكلُّ مُمْكِنٍ له سببٌ، فيَنْتُجُ: أنَّ
العالِمَ له سَبَبٌ، فكلُّ وَاحِدَةٍ من هذه تُسَمَّى
مُقَدِّمَةً، وأمَّا عندَ المُتَكَلِّمِينَ: فما يَتَوَقَّفُ
عليه حُصُولُ أمرٍ آخرَ، وهو مرادُ المصنِّفِ، وهي أعمُّ مِن
الأُولَى، فالمقدِّمَةُ لبيانِ السوابِقِ، والفصولُ
المُعَبَّرُ عنها هنا بالكتبِ لبيانِ المقاصِدِ، وهي مأخوذةٌ
مِن مُقَدِّمَةِ العَسْكَرِ، وهو أوَّلُ ما يَبْدُو، وفيها
لغتانِ: فتحُ الدالِ، باعتبارِ المفعوليَّةِ، بمعنى قُدِّمَتْ
على المقصودِ إعانةً على فَهْمِهِ، وكَسْرُها، باعتبارِ
الفاعليَّةِ، بمعنى مُتَقَدِّمَةٍ، من قولِه تعالَى: {لاَ
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ}. قيلَ: والكسرُ
أشهرُ. وكأنَّهم لَحَظُوا أنَّه لَمَّا وَجَبَ تَقَدُّمُها
بالذاتِ؛ لابتناءِ ما بعدَها عليه، رَجَحَ تقديرُ الفاعليَّةِ
فيها؛ للإشعارِ بأنَّها تَقَدَّمَتْ بنفسِها، بخلافِ الفتحِ.
ص: (أُصُولُ الفِقْهِ: دلائلُ الفِقْهِ الإجماليَّةُ، وقيلَ:
مَعْرِفَتُها).
ش: الدلائلُ جِنْسٌ،
(1/118)
والإجماليَّةُ فَصْلٌ أَخْرَجَ به
الأدِلَّةَ التفصيليَّةَ بحَسَبِ مسألةٍ مسألةٍ، وهو الفِقْهُ،
(1/119)
ومعنى الإجماليَّةِ كما قالَ أبو الحُسينِ
في المُعْتَمَدِ: إِنَّها غيرُ مُعَيَّنَةٍ، ألاَ تَرَى أنَّا
إذا تَكَلَّمْنَا في أنَّ الأمرَ للوجوبِ، لم نُشِرْ إلى
أَمْرٍ مُعَيَّنٍ، وكذلك النهيُ والإجماعُ والقياسُ، وليسَ
كذلك أَدِلَّةُ الفِقْهِ؛ لأنَّها مُعَيَّنَةٌ، نحوُ قولِهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ)). قالَ: ولهذا كانَ قولُ مَن قالَ: أصولُ
الفقهِ كلامٌ في أَدِلَّةِ الفقهِ - يَلْزَمُ عليه أنْ يكونَ
كلامُ الفقهاءِ في أدلَّةِ الفقهِ المعيَّنَةِ كلاماً في أصولِ
الفِقْهِ؛ فلهذا قَيَّدْنَا الأدِلَّةَ الإجماليَّةَ.
انْتَهَى.
وهذا هو المُخْتَارُ في تَعْرِيفِهِ، أعنِي أنَّ الأصولَ
نَفْسُ
(1/120)
الأدِلَّةِ، لا مَعْرِفَتُها؛ لأنَّ
الأدِلَّةَ إذا لم تُعْلَمْ لا تَخْرُجُ عن كَوْنِها أُصُولاً،
وهو الذي ذَكَرَه الحُذَّاقُ؛ كالقاضي أبي بكرٍ، وإمامِ
الحَرَمَيْنِ، والرَّازِيِّ والآمِدِيِّ
(1/121)
وغيرِهم، واختارَهُ الشيخُ تَقِيُّ الدينِ
بنُ دَقِيقِ العِيدِ.
وقيلَ: بل أصولُ الفقهِ مَعْرِفَةُ الأدِلَّةِ. وعليه جَرَى في
(المِنْهَاجِ).
وكذا ابنُ الحاجِبِ، إلاَّ أنَّه عَبَّرَ بالعلمِ بها،
ووَجَّهَهُ بعضُهم بأنَّ العِلْمَ
(1/122)
بالأدِلَّةِ مُوصِلٌ إلى المَدْلُولِ،
والأدِلَّةُ لا تُوصِلُ إلى المدلولِ إلا بواسطةِ العِلْمِ
بها.
والحاصلُ: أنَّ الأدِلَّةَ لها حقائِقُ في أَنْفُسِها من حيثُ
دَلاَلَتُها، ومِن حيثُ تَعَلُّقُ العِلْمِ بها، فهل موضوعُ
أصولِ الفقهِ تلكَ الحقائقُ أو العِلْمُ بها؟ والمختارُ
الأوَّلُ؛ لأنَّ أهلَ العُرْفِ لا يُسَمُّونَ العلومَ
أُصُولاً، ويقولُ: هذا كتابُ أُصُولٍ، ولأنَّ الأصولَ لُغَةً:
الأدِلَّةُ، فجَعْلُه اصطلاحاً نفسَ الأدِلَّةِ أقربُ إلى
المدلولِ اللُّغَوِيِّ، ومِن هنا جَعَلَ المصنِّفُ وغيرُه
الفِقْهَ: العلمَ بالأحكامِ، لا نَفْسَها؛ لأنَّه أقربُ إلى
الاستعمالِ اللُّغَوِيِّ؛ إذ الفِقْهُ لغةً: الفَهْمُ، وليسَ
كذلك الأصولُ، وبهذا يَنْفَصِلُ عن سؤالِ جَعْلِ الأصولِ
الأدِلَّةَ، والفِقْهِ العِلْمَ بالأحكامِ.
هذا تقريرُ كلامِ المصنِّفِ، وفيه كَلِمَاتٌ:
الأُولَى: أَنَّه إنَّما يُحَدُّ اللَّقَبِيُّ، لا الإضافيُّ؛
بدليلِ أنَّه لم يُعَرِّفِ الأصولَ بمفردِهِ، وحينَئذٍ فكيفَ
يَصِحُّ جَعْلُه نفسَ الأدِلَّةِ؟! فإنَّ اللَّقَبِيَّ هو ما
نُقِلَ عن الإضافةِ وجُعِلَ عَلَماً على الفَنِّ، أو صارَ
عَلَماً بالغَلَبَةِ، لا نَقْلَ فيه.
وكيفَ يَصِحُّ أنْ يَحْكِيَ فيه قَوْلاً: إنَّه معرفةُ
الأدِلَّةِ، وليسَ ذلك خِلافاً مُتَوَارِداً على مَحَلٍّ
واحدٍ، بل هما طريقانِ لمقصوديْنِ مُتَغَايِرَيْنِ، فمَن
قَصَدَ الإضافِيَّ فَسَّرَهُ بالأدِلَّةِ، ومَن قَصَدَ
اللَّقَبِيَّ فَسَّرَهُ بالعِلْمِ بها؛ ولهذا لَمَّا جَمَعَ
ابنُ الحاجِبِ بينَهما عَرَّفَ اللَّقَبِيَّ بالعِلْمِ،
والإضافِيَّ بالأدِلَّةِ، ومَن أَوْرَدَ عليه أنَّ أصولَ
الفقهِ نفسُ تلكَ القواعدِ، لا العِلْمُ بها؛ لِثُبُوتِها في
نفسِ الأمرِ، عَلِمَ بها أم لا - فقد غَفَلَ عن هذا المعنَى،
ولم يَقَعْ على مُرَادِهِ؛ فإنَّه قبلَ العِلْمِيَّةِ بمعنى
الأدِلَّةِ، وأمَّا بعدَه فصارَ معنى
(1/123)
أصولِ الفقهِ عِلْمَ أُصُولِهِ، كما
يُقالُ: سورةُ البقرةِ، ثمَّ يقالُ: البقرةُ؛ باعتبارِ النقلِ
إلى عِلْمِ السورةِ.
وإمامُ الحَرَمَيْنِ لَمَّا عَرَّفَه في (البُرْهَانِ)
بالأدلَّةِ قالَ شَارِحُه الإبياريُّ: أرادَ الإضافِيَّ. نَعَم
المصنِّفُ تابَعَ والدَه الشيخَ الإمامَ، فإنَّه اقْتَنَصَ ذلك
مِن تَخَالُفِ عبارةِ (المِنْهَاجِ) (والمحصولِ)، معَ أنَّ
كُلاًّ مِنهما حَدَّ اللَّقَبِيِّ، فالبَيْضَاوِيُّ جَعَلَه
العِلْمَ بالأدلَّةِ والكَيْفِيَّتَيْنِ، والإمامُ جَعَلَه
عبارةً عن
(1/124)
الثلاثةِ، قلتُ: وتَابَعَه الهِنْدِيُّ على
ذلك، وقالَه قبلَهما ابنُ بُرْهَانَ في (الأوسطِ)، ونَقَلَ
إجماعَ المُتَقَدِّمِينَ على أنَّ أَدِلَّةَ الفِقْهِ تُسَمَّى
أُصُولَ الفِقْهِ، والناظِرُ فيها يُسَمَّى أُصُولِيًّا، وقالَ
ابنُ السَّمْعَانِيِّ: أُصُولُ الفِقْهِ عندَ الفقهاءِ: طُرُقُ
الفِقْهِ
(1/125)
التي يُؤَدِّي الاستدلالُ بها إلى معرفةِ
الأحكامِ. انْتَهَى.
ويُمْكِنُ رَفْعُ الخلافِ؛ فإنَّه كما يَتَوَقَّفُ الفِقْهُ
على هذه الحقائقِ يَتَوَقَّفُ على العِلْمِ بها، فيَجُوزُ
حينَئذٍ إطلاقُ أصولِ الفقهِ على الأدلَّةِ نفسِها، وعلى
العلمِ بها، لكِنَّ إطلاقَه على نفسِ الأدلَّةِ أَوْلَى؛ لأنَّ
الغرضَ ما يُسْتَنْبَطُ منه الأحكامُ، لا العلمُ بتلك الطرقِ،
نَعَمْ يَنْبَغِي تخريجُ خلافٍ في أنَّ الفقهَ هل هو مدلولُ
تلك الأدلَّةِ أو العلمُ بالمدلولِ من الخلافِ الكلاميِّ، فيما
إذا أَقَمْنَا دليلاً على حدوثِ العالَمِ مثلاً، فهل المدلولُ
حُدُوثُ العالَمِ أو العلمُ بحدوثِ العالَمِ؟ والصحيحُ
الأوَّلُ؛ لأنَّ حدوثَ الأكوانِ دالٌّ على حدوثِ الجواهِرِ،
سواءٌ أَنَظَرَ الناظِرُ أم لا، والدليلُ مُرتبِطٌ بالمدلولِ؛
نَظَرَ الناظِرُ أم لا، وهذا الخِلافُ قيلَ: إنَّه لَفْظِيٌّ؛
إذ لا يَصِحُّ ثُبُوتُ العلمِ دونَ المعلومِ.
الثانيةُ: جَعْلُه (الإجماليَّةَ) قَيْداً (للأَدِلَّةِ)،
والأَشْبَهُ - كما قَرَّرَهُ والِدُه - أنَّه قَيْدٌ
(للمعرفةِ)؛ فإنَّ أدلَّةَ الفِقْهِ لها جِهَتَانِ: إحداهما:
أعيانُها، والثانيةُ: كُلِّيَّاتُها، فلَيْسَتِ الأدلَّةُ
تَنْقَسِمُ إلى ما هو إجماليٍّ غيرِ تَفصيليٍّ، أو تفصيليٍّ
غيرِ إجمالِيٍّ، بل كلُّها شيءٌ واحدٌ لها جهتانِ،
فالأُصُولِيُّ يَعْلَمُه مِن إِحْدَى الجِهَتَيْنِ، والفقيهُ
يَعْلَمُه مِن الجِهَةِ الأُخْرَى، نَعَمْ يَصِحُّ أيضاًً
جَعْلُها قَيْداً (للأدلَّةِ) باعتبارِ أنَّ لها نِسْبَتَيْنِ،
فهي باعتبارِ إحداهما، غيرُها باعتبارِ الأُخْرَى.
الثالثةُ: المرادُ بالأدلَّةِ الكتابُ والسنَّةُ والإجماعُ
والقياسُ والاستدلالُ، وقالَ إمامُ الحَرَمَيْنِ والغزاليُّ:
ثلاثةٌ فقطْ، وأَسْقَطَا القياسَ والاستدلالَ، فالإمامُ
بَنَاهُ على أنَّ الأدلَّةَ لا تَتَنَاوَلُ إلاَّ القَطْعِيَّ،
فلَزِمَ إخراجُ القياسِ مِن أُصُولِ الفِقْهِ، ثمَّ اعْتَذَرَ
عن إدخالِهِ فيه بِقِيَامِ القاطِعِ على العملِ به، والغزاليُّ
خَصَّ الأدِلَّةَ بالمُثْمِرَةِ للأحكامِ،
(1/126)
فلهذا كانَتْ ثلاثةً، وجَعَلَ القياسَ من
طرقِ الاستثمارِ؛ فإنَّ دَلالَتَه من حيثُ مَعْقُولُ اللفظِ،
كما أنَّ العمومَ والخصوصَ دَلالَتُه من حيثُ صِيغَتُه.
الرابعةُ: أُورِدَ على المُصَنِّفِ أنَّه هَلاَّ قالَ: أُصُولُ
الفقهِ: دلائلُه الإجماليَّةُ. وأجابَ بثلاثةِ أجوبةٍ:
أَحَدُها: أنَّه لو أَعَادَهُ مُضْمَراً لأَوْهَمَ عَوْدَه إلى
نفسِ الأصولِ؛ لأنَّها المُحَدَّثُ عنها.
وثانيها: أنَّ التعاريفَ يُجْتَنَبُ فيها الضمائرُ ما أَمْكَنَ
الإتيانُ بالمُظْهَرِ؛ لأنَّها موضوعةٌ للبيانِ، فإذا قلنا:
الإنسانُ هو الحيوانُ الناطِقُ، لا يقالُ: هو الحيوانُ
الناطقُ، تعريفٌ؛ لأنَّ (هو) ضميرٌ يَفْتَقِرُ إلى الوقوفِ على
ما قبلَه.
ثالثُها، وهو المُعْتَمَدُ: أنَّ الفِقْهَ في قَوْلِهِ:
(دلائلُ الفقهِ) غيرُ الفقهِ في قَوْلِهِ: أصولُ الفقهِ؛ لأنَّ
الفقهَ في قولِنا: أصولُ الفقهِ. أحدُ جُزْئَيِ اسمِ لَقَبٍ
مُرَكَّبٍ مِن مُتَضَايِفَيْنِ، وفي قولِنا: دلائلُ الفقهِ
العَلَمُ المعروفُ.
ص: (والأُصُولِيُّ: العارِفُ بها، وبِطُرُقِ اسْتِفَادَتِها
ومُسْتَفِيدِها).
ش: الأُصُولِيُّ صِفَةٌ لمحذوفٍ؛ أي: والمَرْءُ الأُصُولِيُّ،
نِسْبَةً إلى معرفةِ الأصولِ، فهو العارِفُ بها، غيرَ أنَّ
معرفتَه بِدُونِ أنْ يَعْرِفَ طُرُقَ اسْتِفَادَتِها
ومُسْتَفِيدِها - مُحَالٌ، ضرورةَ تَوَقُّفِ العلمِ بالشيءِ
على مُقَدِّمَاتِهِ، فهو العارِفُ بها وبِطُرُقِ
اسْتِفَادَتِها، وهو بابُ التراجيحِ؛ أي: ترتيبُ الأدلَّةِ؛
بأنْ يُقَدَّمَ الخاصُّ على العامِّ، والمُبَيَّنُ على
المُجْمَلِ، والظاهرُ على المُؤَوَّلِ، وهكذا.
(ومُسْتَفِيدِها)؛ أي: وهو المُجْتَهِدُ إنِ اسْتَفَادَ مِن
الأدلَّةِ، والمُقَلِّدُ إنِ اسْتَفَادَ مِن المُجْتَهِدِ.
قالَ المصنِّفُ: وقد عُلِمَ بهذا أنَّ المَعْرِفَةَ بِطُرُقِ
الاستفادةِ
(1/127)
والمستفيدِ لا بُدَّ مِنهما في صِدْقِ
مُسَمَّى الأُصُولِيِّ، وإنْ لم تَكُنْ تلك الطرُقُ جُزْءاً
مِن مُسَمَّى الأُصُولِ. قالَ: وجَعْلُ المعرفةِ بِطُرُقِ
استفادَتِها جُزْءاً من مدلولِ الأُصُولِيِّ دُونَ الأُصُولِ -
أَمْرٌ لم يَسْبِقْنِي إليه أحدٌ. ووجهُه أنَّ الأُصُولَ
لَمَّا كانَ عندَنا نفسُ الأدلَّةِ، لا مَعْرِفَتُها، لَزِمَ
من ذلك أنْ يكونَ الأُصُولِيُّ هو المُتَّصِفَ به؛ لأنَّ
الأصولِيَّ نِسْبَةٌ إلى الأصولِ، وهو مَن قامَ به الأصولُ،
وقيامُ الأصولِ به معناه معرفتُه إيَّاه، ومَعْرِفَتُه إيَّاه
مُتَوَقِّفَةٌ على أنْ يَعْرِفَ طُرُقَ الاستفادةِ؛ فإنَّ مَن
لا يَعْرِفُ الطريقَ إلى الشيءِ مُحَالٌ أنْ يَعْرِفَ الشيءَ،
فمِن ثَمَّ لَزِمَ كونُ معرفةِ الطرقِ أَمْراً لا بُدَّ مِنه
في صِدْقِ مُسَمَّاهُ؛ ولهذا ذُكِرَ في أُصُولِ الفقهِ، وإنْ
لم تَكُنْ نفسَ الأصولِ ولا مِنه. ولا يُنْكَرُ اشْتِرَاطُنا
في الأصوليِّ ما ليسَ جُزْءاً من نفسِ الأصولِ؛ فإنَّ الناسَ
قاطِبَةً قد عَرَفُوا الفِقْهَ بالعلمِ بالأحكامِ. إلى
آخِرِهِ.
وقالَ: الفقيهُ: المُجْتَهِدُ، وهو ذو الدرجةِ الوُسْطَى
عربِيَّةً وأُصُولاً. إلى آخِرِ صِفاتِ المجتهِدِ، فما قالُوا:
الفقيهُ: العالِمُ بالأحكامِ، بل: مَن قَامَتْ به شرائطُ
الاجتهادِ، وعَدَّدُوها؛ لأنَّ بِدُونِها لا يُمْكِنُ العلمُ
بالأحكامِ، فكذلك بدونِ الطرقِ لا يُمْكِنُ العلمُ بالأصولِ،
فلْتَكُنِ الطرُقُ جُزْءاً من مُسَمَّاهُ أو شَرْطاً لِصِدْقِ
اسْمِهِ، وإنْ لم يَكُنْ جُزْءاً ولا شَرْطاً فلا بأسَ
بِذِكْرِها في تعريفِهِ؛ لِتَتِمَّتِهِ. انْتَهَى.
قلتُ: وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّ طُرُقَ الاستفادةِ ثابتةٌ في
أنفُسِها، سواءٌ عَرَفَها الأصوليُّ أم لا، كما قلنا في
الأدلَّةِ سواءٌ، فوَجَبَ أنْ يَدْخُلَ في مُسَمَّى الأصولِ،
لا الأُصُولِيِّ. وإنما افْتَقَرَ العالِمُ بالأدِلَّةِ إلى
ذلك؛ لِيَصِحَّ كَوْنُه عَالِماً بالأدلَّةِ على الحقيقةِ، وما
انْفَصَلَ به المصنِّفُ عن سؤالِ الاشتراطِ في الأصولِيِّ، ما
ليسَ جُزْءاً من نفسِ الأصولِ بما ذَكَرَهُ في الفقيهِ
-فممنوعٌ؛ لأنَّ قولَهم في الفقهِ: إنَّه العِلْمُ بالأحكامِ
المُكْتَسَبُ مِن أَدِلَّتِها التفصيليَّةِ-
(1/128)
صريحٌ في اعتبارِ الاجتهادِ؛ لأنَّ
العِلْمَ المكتسَبَ إنما يكونُ بالاستنباطِ، وذلك موافقٌ
لقولِهِم: الفقيهُ: المُجْتَهِدُ ... إلى آخرِهِ، فلم
يَشْتَرِطُوا في الفقيهِ ما ليسَ شرطاً في الفِقْهِ، ثمَّ
قولُه: فما قالُوا: الفقيهُ: العالمُ بالأحكامِ. ممنوعٌ؛ فقد
قالَ الشيخُ أبو إسحاقَ الشِّيرَازِيُّ في كِتَابِهِ المسمَّى
(بالحدودِ والحقائِقِ): الفقيهُ: مَن له الفِقْهُ، فكلُّ مَن
له الفقهُ فهو فَقِيهٌ، ومَن لا فِقْهَ له فليسَ بفقيهٍ.
وقيلَ: الفقيهُ هو: العالِمُ بأحكامِ أفعالِ المكلَّفِينَ التي
يَسُوغُ فيها الاجتهادُ. هذا كلامُه، والأحسنُ طريقةً الشيخُ
وابنُ بُرْهَانَ وغيرُهما: أنَّ أصولَ الفقهِ الأدلَّةُ،
وكيفيَّةُ الاستدلالِ خاصَّةٌ؛ ضرورةَ أنَّ المُسْتَدِلَّ إذا
كانَ غيرَ عالِمٍ بِمُقَدِّمَاتِ الدليلِ، أو بما يَتَرَتَّبُ
عليه الدليلُ، لم يُتَصَوَّرْ أنْ يكونَ عالِماً بالدليلِ،
وأمَّا حالَ المستفيدِ فليسَ من مُسَمَّاهُ؛ ولهذا قالَ الشيخُ
تَقِيُّ الدينِ: لو اقْتَصَرَ على الدلائلِ وكيفيَّةِ
الاستفادةِ منها، لَكَفَى، ويكونُ حالُ المستفيدِ كالتابِعِ
والتَّتِمَّةِ، لكِنْ جَرَتِ العادةُ بإدخالِهِ في أصولِ
الفقهِ وَضْعاً، فأُدْخِلَ فيه حَدًّا.
قلتُ: ولو قيلَ: إنَّ المرادَ بمعرفةِ الدلائلِ مَعْرِفَتُها
في نفسِها، ومعرفةُ أقسامِها، والعلمُ بأحوالِها التي لا بُدَّ
مِنها في معرفةِ الأحكامِ الشرعيَّةِ - لكَفَى الاقتصارُ على
الدلائلِ؛ كما فَعَلَ المصنِّفُ معَ التوفِيَةِ بطريقِ
الجمهورِ. وقد أُورِدَ على المصنِّفِ أنَّه إذا كانَ الأُصُولُ
عندَه الأدِلَّةَ، لَزِمَ أنْ يكونَ الأُصُولِيُّ العارِفَ
بها، فحينَئذٍ فزيادةُ: (طُرُقِ اسْتفادتِها ومُسْتَفِيدِها)
غيرُ محتاجٍ إليه، وأجابَ بأنَّ الأُصُولَ: نفسُ الأدلَّةِ، لا
مَعْرِفَتُها، وأمَّا الأُصُولِيُّ: فهو المُتَلَبِّسُ بتلكَ
الأدِلَّةِ؛ أي: العارِفُ بها، غيرَ أنَّ العِرْفَانَ لا
يَتَهَيَّأُ إلاَّ لِمَن عَرَفَ طُرُقَ الاستفادةِ
والمُسْتَفِيدِ؛ لأنَّ للمعرفةِ شُرُوطاً لا
(1/129)
يَتَهَيَّأُ إلاَّ بها، فإذنْ مَعْرِفَةُ
تلكَ الطرقِ تُوصِلُ إلى معرفةِ الأدلَّةِ المُقْتَضِيَةِ
لتسميةِ العارِفِ أُصُولِيًّا، كما أنَّ الضربَ هو الإيلامُ،
والضاربَ هو المؤلِمُ على كيفيَّةٍ خاصَّةٍ.
ص: (والفِقْهُ: العِلْمُ بالأحكامِ الشرعيَّةِ العَمَلِيَّةِ،
المُكْتَسَبُ مِن أَدِلَّتِها التفصيليَّةِ).
ش: هذا حَدُّ الفِقْهِ اصْطِلاحاً، فالعِلْمُ جِنْسٌ، ولو
عَبَّرَ بالمعرفةِ لكانَ أحسنَ، كما قالَ الشيخُ تَقِيُّ
الدينِ؛ فإنَّ العلمَ يُطْلَقُ بمعنى حصولِ المعنَى في الذهنِ،
(1/130)
ويُطْلَقُ على أخصَّ من ذلك، وهو الاعتقادُ
الجازِمُ المطابِقُ لِمُوجِبٍ، ولهذا جاءَ سؤالُ الفقهِ من
بابِ الظنونِ، فلا يَحْسُنُ جَعْلُه عِلْماً، ومَن عَبَّرَ
بالمعرفةِ سَلِمَ منه لذلكَ. انْتَهَى.
وقد انْفَصَلَ المصنِّفُ عن هذا، فقالَ: المرادُ به هنا
الصِّنَاعةُ، كما تقولُ: عِلْمُ النحوِ؛ أي: صِنَاعَتُه،
وحينَئذٍ يَنْدَرِجُ فيه الظنُّ واليقينُ، ولا يَرِدُ سؤالُ
الظنِّ، وهذا يُنَازِعُ فيه أنَّ جَوَابَهُم عن السؤالِ
بالطريقِ التي ذَكَرُوها، يَدُلُّ على أنَّ مُرَادَهم بالعلمِ
اليقينُ، وإلاَّ كانَ جَوَابُهُم أنَّ الظنَّ دَاخِلٌ في
العلمِ، ولو تَجَنَّبَهُ المصنِّفُ لَسَلِمَ مِن التَّمَحُّلِ
لِدَفْعِ السؤالِ.
وقولُه: (بالأحكامِ) فَصْلٌ يُخْرِجُ الإدراكَ بلا حُكْمٍ؛
كالعلمِ بالذواتِ والصفاتِ الحقيقيَّةِ والإضافةِ، فلا شيءَ
مِن هذه العلومِ بِفِقْهٍ.
(1/131)
وقولُه: (الشرعيَّةِ) يُحْتَرَزُ به عن
العلمِ بالأحكامِ العقليَّةِ، مثلُ كونِ العَرَضِ هل يَبْقَى
زَمَانَيْنِ، والمرادُ بالشرعيَّةِ ما يَتَوَقَّفُ
مَعْرِفَتُها على الشرعِ، والشرعُ: الحُكْمُ، والشارِعُ هو
اللهُ تعالَى. والرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُبَلِّغٌ، ويُطْلَقُ عليه أيضاًً بهذا الاعتبارِ.
واعْلَمْ أنَّ جَعْلَ قولِهم: بالأحكامِ الشرعيَّةِ، قيديْنِ
مُسْتَقِلَّيْنِ، حتَّى يُحْتَرَزَ بكلِّ واحدٍ مِنهما عن
شيءٍ. وهي طريقةُ الإمامِ في (المحصولِ) ومُتَابِعِيهِ.
والتحقيقُ أنَّ الأحكامَ الشرعيَّةَ لفظٌ مُفْرَدٌ لا يَدْخُلُ
جُزْؤُه فيه على شيءٍ؛ فإنَّ الأحكامَ الشرعيَّةَ جمعُ الحكمِ
الشرعيِّ، وهو عِلْمٌ لِمَا سيأتي تَعْرِيفُه مِن الخطابِ
المُنْقَسِمِ إلى الإيجابِ والتحريمِ وغيرِهما، وقد صَرَّحَ
إِمامُ الحَرَمَيْنِ في (البُرهانِ) بأنَّ المرادَ بالأحكامِ
الشرعيَّةِ في حَدِّ الفِقْهِ ذلكَ، فلْيُتَفَطَّنْ له؛ فإنَّه
مِن النفائِسِ.
قولُه: (العَمَلِيَّةِ) قَيْدٌ لم يَذْكُرْهُ القاضِي، ولكِنْ
ذَكَرَه المُتَأَخِّرُونَ، واخْتَلَفُوا في المُحْتَرَزِ عنه؛
فقالَ الإمامُ: إنَّه احترازٌ عن العِلمِ بكونِ الإجماعِ
حُجَّةً، وخبرِ الواحدِ والقياسِ حُجَّةً؛ فإنَّ العِلمَ به
ليسَ عِلْماً بكيفيَّةِ عَمَلٍ، فلا يكونُ فِقهاً، وفَسَّرُوا
العَمَلِيَّةَ بما يكونُ العلمُ به عِلْماً بكيفيَّةِ عَمَلٍ.
واسْتَشْكَلَهُ ابنُ دَقِيقِ العِيدِ؛ لأنَّ جميعَ هذه
القواعدِ التي ذَكَرَ أنَّه يُحْتَرَزُ عنها - فإنما الغايةُ
المطلوبُ منها العملُ. والخَلاَصُ من هذا بزيادةِ الكيفيَّةِ
غيرُ واضحٍ كلَّ الوضوحِ، إلاَّ أنْ يَرُدُّوا الأمرَ إلى
الاصطلاحِ، وتفسيرِ معنى ما يُرِيدُه المتكلِّمُ من
(1/132)
كلامِهِ، فيَقْرُبَ الحالُ.
وقالَ القَرَافِيُّ: يُخْرِجُ العِلْمِيَّةَ؛ كأصولِ الدينِ،
وساعَدَهُ الشيخُ علاءُ الدينِ البَاجِيُّ، وخَالَفَه صَاحِبُه
الشيخُ الإمامُ السُّبْكِيُّ، وقالَ: أُصُولُ الدينِ مِنه ما
يَثْبُتُ بالعقلِ وَحْدَهُ؛ كوُجُودِ البارِي، ومنه ما
يَثْبُتُ بكلِّ واحدٍ مِن العقلِ والسمعِ؛ كالوَحْدَانِيَّةِ
والرؤيةِ، ومِنه ما لا يَثْبُتُ إلاَّ بالسمعِ؛ ككَثِيرٍ مِن
أحوالِ القيامةِ، فأمَّا ما يَثْبُتُ بالعقلِ فخَرَجَ بقولِنا:
الشرعيَّةِ، وتَفْسِيرِنا إيَّاها بما يَتَوَقَّفُ على الشرعِ،
وأمَّا ما يَتَوَقَّفُ على السمعِ فقد يقالُ: إنها داخلةٌ في
حَدِّ الشرعيَّةِ.
وقولُه: (المُكْتَسَبُ) مرفوعٌ على أنَّه صفةٌ للعِلْمِ،
وخَرَجَ به علمُ اللهِ تعالَى، وما يُلْقِيهِ في قلوبِ
الأنبياءِ والملائكةِ عليهم الصلاةُ والسلامُ مِن الأحكامِ بلا
(1/133)
اكتسابٍ.
وقولُه: (مِن أَدِلَّتِها التفصيليَّةِ) قالَ الإمامُ وغيرُه:
يُخْرِجُ اعتقادَ المُقَلِّدِ؛ فإنَّه مُكْتَسَبٌ مِن دليلٍ
إجماليٍّ، وهو أنَّ هذا أَفْتَانِي به المُفْتِي، وكلُّ ما
أَفْتَانِي به فهو حكمُ اللهِ في حَقِّي.
وقالَ المصنِّفُ: خروجُ اعتقادِ المقلِّدِ به يَسْتَدْعِي
سَبْقَ حُصُولِهِ، ولا أُسَلِّمُ أنَّ الحاصلَ عندَ المقلِّدِ
عِلْمٌ، وقد قالَ الإمامُ في تعريفِ العلمِ: إنَّه لا بُدَّ
أنْ يكونَ عن مُوجِبٍ. وعِلْمُ المُقَلِّدِ ليسَ لِمُوجِبٍ،
فالأَوْلَى أنْ يُخْرَجَ بِقَيْدِ (التفصيليَّةِ) عِلْمُ
الخلافِ؛ فإنَّه عِلْمٌ مُكْتَسَبٌ بأحكامٍ شرعيَّةٍ
عَمَلِيَّةٍ، لكِنَّها إجماليَّةٌ؛ لأنَّ الجَدَلِيَّ لا
يَقْصِدُ صورةً بعينِها، وإنما يَضْرِبُ الصورةَ مِثالاً
لقاعدةٍ كلِّيَّةٍ، فيَقَعُ عِلْمُهُ مُسْتَفَاداً من الدليلِ
الإجمالِيِّ، لا من التفصيليِّ؛ كذا قالَ الأصفهانيُّ في (شرحِ
(1/134)
المحصولِ): اعتقادُ المُقَلِّدِ لا
يُسَمَّى عِلماً. وقد صَرَّحَ بذلك في (المحصولِ) في تقسيمِهِ،
وجَعَلَ اعتقادَ المُقَلِّدِ قَسِيماً للعلمِ، وحينَئذٍ فهو
خارجٌ بقيدِ العلمِ، فلا حاجةَ إلى الاحترازِ عنه بقيدٍ آخرَ.
قلتُ: الأَوْلَى أنْ يُقالَ: خُرُوجُ المُقَلِّدِ يَسْتَدْعِي
سَبْقَ دُخُولِهِ، ولا أُسَلِّمُ أنَّ قولَ المُفْتِي دليلُ
الحكمِ الشرعيِّ؛ فإنَّ دليلَه النصُّ والإجماعُ والقياسُ،
والظاهرُ أنَّ ذِكْرَها ليسَ للاحترازِ عن شيءٍ؛ فإنَّ اكتسابَ
الأحكامِ لا يكونُ من غيرِ أَدِلَّتِها التفصيليَّةِ، وإنما
ذُكِرَ للدَّلالةِ على المُكْتَسَبِ مِنه بالمطابقةِ.
قيلَ: وقولُ الإمامِ: علمُ المُقَلِّدِ ليسَ لِمُوجِبٍ ممنوعٌ،
بل لا بُدَّ له مِن مُوجِبٍ؛ كحُسْنِ ظَنِّهِ بِمَن قَلَّدَهُ
فيه.
قلتُ: مرادُه (بالموجِبِ) ما كانَ عن بُرْهَانٍ حِسِّيٍّ أو
عقليٍّ أو مُرَكَّبٍ مِنهما، واعتقادُ المُقَلِّدِ خارِجٌ عن
ذلك، ولهذا قالَ في (المَطَالِبِ العالِيَةِ): أمَّا التقليدُ
فهو أنْ يَعْتَقِدَ الإنسانُ اعتقاداً جازِماً في الشيءِ من
غيرِ دليلٍ ولا شُبْهَةٍ.
وقولُه: إنَّه يَخْرُجُ به علمُ الخلافِ. أي: فإنَّ الخلافِيَّ
يقولُ: يَجِبُ بالمُقْتَضِي ولا يَجِبُ بالنافِي، بلا
تَعْيِينٍ للمُقْتَضِي ولا للنافي، فغيرُ سَدِيدٍ؛ لأنَّ قولَ
المُسْتَدِلِّ بالمُقْتَضِي أو النافي لا يُفِيدُ شَيْئاً إنْ
لم يُعَيِّنْهُما، ثمَّ الظاهرُ أنَّ المرادَ به في كلامِهِ
مُقْتَضٍ ونافٍ معهودٌ، فلم يَخْرُجْ عن التفصيلِ، فكانَ
الصوابُ الاقتصارَ على (أَدِلَّتِهَا) من غيرِ وَصْفِها
(بالتفصيليَّةِ)؛ لِئَلاَّ يُتَوَهَّمَ أنَّه قيدٌ زائدٌ.
(1/135)
ص: (والحُكْمُ: خِطَابُ اللهِ تعالَى
المُتَعَلِّقُ بفعلِ المكلَّفِ مِن حيثُ إنَّه مُكَلَّفٌ).
ش: لَمَّا عَرَّفَ الفِقْهَ بالحُكْمِ، وَجَبَ تعريفُ الحكمِ،
والألِفُ واللامُ فيه للعَهْدِ؛ أي: الشرعيُّ؛ لِيُحْتَرَزَ به
عن العقليِّ، وبهذه القَرِينَةِ اسْتَغْنَى المُصَنِّفُ عن
التقييدِ. فالخِطَابُ: جِنْسٌ، والمرادُ به: ما وُجِّهَ من
الكلامِ نحوَ الغيرِ لإفادتِهِ، وبإضافتِه إلى اللهِ تعالَى
يَخْرُجُ خِطَابُ غيرِه. واسْتَغْنَى عن تَقْيِيدِهِ بالقديمِ؛
لأنَّ كلامَه قديمٌ. و (المُتَعَلِّقُ بفعلِ
(1/136)
المكلَّفِ) يُخْرِجُ أربعةَ أشياءَ: ما
تَعَلَّقَ بذاتِهِ، نحوُ: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}،
وبفعلِهِ، نحوُ: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، وبالجماداتِ نحوُ:
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ}، وبذواتِ المُكَلَّفِينَ،
نحوُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}.
وإنَّما أَفْرَدَ المُكَلَّفَ ولم يَجْمَعْهُ؛ لِئَلاَّ يَرِدَ
عليه ما يَتَعَلَّقُ بمُكَلَّفٍ واحدٍ؛ كخَوَاصِّ النبيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقولُه: (من حيثُ إنَّه مُكَلَّفٌ) يُخْرِجُ ما تَعَلَّقَ
بفِعْلِ المُكَلَّفِ، لا مِن حيثُ تكليفُه؛ كخبرِ اللهِ عن
أفعالِ المكلَّفِينَ، نحوُ: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا
تَعْمَلُونَ}، فقولُه: {وَمَا تَعْمَلُونَ} مُتَعَلِّقٌ بعملِ
المكلَّفِ، لا مِن حيثُ فِعْلُه؛ بدليلِ أنَّه يَعُمُّ
المُكَلَّفَ وغيرَه، بل مِن حيثُ إنَّه مخلوقٌ للهِ تعالَى،
وليسَ ذلك حُكْماً شرعيًّا، بل هو مِن بابِ العقائدِ، لا
الأحكامِ. وكذا قولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: ((صِلَةُ
الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الرِّزْقِ)) وغيرُه.
وهذا القيدُ مُغْنٍ عن قولِ البَيْضَاوِيِّ: بالاقتضاءِ أو
التخييرِ. وهو يُفْهِمُ اختصاصَ التعلُّقِ بوجهِ التكليفِ، لا
يقالُ: فحينَئذٍ يَخْرُجُ ما سِوَى الإيجابِ والحَظْرِ، من
الندبِ والإباحةِ والكراهةِ وخلافِ الأَوْلَى؛ لأنَّا نقولُ:
هذه تَخُصُّ أفعالَ المُكَلَّفِينَ. وقولُ الفقهاءِ: (الصبيُّ
يُثَابُ ويُنْدَبُ له) كلُّه على سبيلِ
(1/137)
التجَوُّزِ عندَ الأُصُولِيِّينَ، فلا
يكونُ نَدْبٌ ولا كراهةٌ إلاَّ في فِعْلِ المكلَّفِ، وهذا أمرٌ
مفروغٌ منه عندَ الأُصُولِيِّينَ، نَبَّهُوا عليه بقولِهِم:
المُتَعَلِّقُ بأفعالِ المكلَّفِينَ. كذا قالَه المصنِّفُ،
وسَبَقَه إليه الهِنْدِيُّ، فقالَ: الدليلُ على أنَّه لا
يَتَعَلَّقُ بفعلِ الصبيِّ حُكْمٌ شرعيٌّ, الإجماعُ؛ فإنَّ
الأُمَّةَ أَجْمَعَتْ على أنَّ شرطَ التكليفِ العقلُ والبلوغُ،
وإذا انْتَفَى التكليفُ عنهم؛ لِفَقْدِ شَرْطِهِ، انْتَفَى
الحكمُ الشرعيُّ عن أفعالِهم، والمعنى مِن تَعَلُّقِ الضمانِ
بإتلافِ الصبِيِّ أمرُ الولِيِّ بإخراجِهِ من مالِهِ.
وقالَ الشيخُ تَقِيُّ الدينِ: عَبَّرَ بعضُهم بأفعالِ العبادِ؛
لِيَشْمَلَ الضمانَ المُتَعَلِّقَ بِفِعْلِ الصبِيِّ
والمجنونِ. ومَنِ اعْتَبَرَ التكليفَ، رَدَّ ذلك الحُكْمَ إلى
الوَلِيِّ، وتكليفُه بأداءِ قَدْرِ الواجِبِ.
قلتُ: وكذا القولُ في إتلافِ البَهيمةِ ونحوِهِ؛ فإنَّه حُكْمٌ
شرعيٌّ، وليسَ مُتَعَلِّقاً بفعلِ المكلَّفِ، والحاصلُ رَدُّهُ
إلى التعلُّقِ بفعلِ المكلَّفِ، إلاَّ أنَّ التَّعَلُّقَ
تارَةً يكونُ بواسطةٍ، وتَارَةً يكونُ بغيرِ واسطةٍ، وكذا
القولُ فيما يَثْبُتُ بِخِطَابِ الوضعِ على أحدِ الأقوالِ؛
فإنَّ الزوالَ سببٌ لوجوبِ الصلاةِ، وهو مُتَعَلِّقٌ بفعلِ
مُكَلَّفٍ؛ إذ مُوجِبُهُ وُجُوبُ الصلاةِ، لا أنَّه
بِوَاسِطَةٍ، وقد أُورِدَ على المصنِّفِ أنَّه كانَ يَنْبَغِي
أنْ يَزِيدَ: به، فيقولَ: مِن حيثُ إنَّه مُكَلَّفٌ به؛ لأنَّ
الخطابَ من الشارِعِ لا يكونُ إلاَّ معَ المُكَلَّفِ، لا معَ
الصبيِّ والمجنونِ، وأجابَ بأنه لو قالَ: به، لاقْتُضِيَ أنَّ
المُكَلَّفَ لا يُخَاطَبُ إلاَّ بما هو مُكَلَّفٌ به، وليسَ
كذلكَ؛ فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُخَاطَبٌ بما كَلَّفَ به الأُمَّةَ، بمعنى تَبْلِيغِهم، وكذا
جميعُ المُكَلَّفِينَ بفرضِ الكفايةِ، وإنْ كانَ المكلَّفُ به
بعضَهم، لا
(1/138)
الكلَّ، على المختارِ.
ولقائلٍ أنْ يقولَ: لا نُسَلِّمُ امتناعَ كونِ المكلَّفِ لا
يُخَاطَبُ إلاَّ بما كُلِّفَ به؛ فإنَّ سائرَ التكليفاتِ كذلك،
ولا يَرِدُ عليه تكليفُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بالتبليغِ دونَ العملِ؛ فإنَّه لم يُكَلَّفْ إلاَّ
بالتبليغِ، ولا يَضُرُّ تَعَلُّقُ التكليفِ بغيرِهِ مِن جِهَةٍ
أُخْرَى، فصَدَقَ قَوْلُنا: إنَّه لم يُخَاطَبْ إلاَّ بما هو
مُكَلَّفٌ به، ويَبْقَى سؤالُ المُعْتَرِضِ وتنظيرُه بفرضِ
الكفايةِ عجيبٌ؛ فإنَّ كونَ الجميعِ مُخَاطَبِينَ معَ القولِ
بأنَّ المكلَّفَ بعضُهم - مِمَّا لا يُمْكِنُ، والأَوْلَى أنْ
يُقالَ: لو قالَ: به، لاقْتَضَى أنَّ المكلَّفَ لا يُخَاطَبُ
إلاَّ بما كُلِّفَ به، وليسَ كذلك؛ فإنَّ المندوبَ والمكروهَ
والمباحَ مُخَاطَبٌ بها، معَ أنَّه غيرُ مكلَّفٍ بها؛ على ما
اخْتَارَهُ المصنِّفُ فيما سيأتِي، ولا تكليفَ في الحقيقةِ
إلاَّ بالواجبِ والمحظورِ، فوَجَبَ حذفُ (به) لِيَتَنَاوَلَ
جميعَ الأحكامِ المخاطَبِ بها؛ مُكَلَّفاً به وغيرَ مكلَّفٍ
به.
فائدةٌ: قولُه: (مِن حيثُ إنَّه) بكسرِ الهمزةِ، ثَمَّ، وقد
أُولِعَ الفقهاءُ بالفتحِ، وعُدَّ مِن اللَّحْنِ، لكِنْ
يَجِيءُ على رأيِ الكِسَائِيِّ في إضافةِ حيثُ إلى المفردِ.
ص: (ومِن ثَمَّ لا حُكْمَ إلاَّ للهِ).
ش: هذه المسألةُ فرعٌ لِمَا سَبَقَ، ولهذا قالَ: (ومِن ثَمَّ)
وهي هنا للمكانِ المجازيِّ؛ أي: مِن أجلِ أنَّ الحُكْمَ خِطابُ
اللهِ، وحيثُ لا خِطابَ لا حُكْمَ، فعُلِمَ أنه لا حُكْمَ
إلاَّ للهِ، خِلافاً للمعتزلةِ في دَعْوَاهُم أنَّ العقلَ
يُدْرِكُ الحكمَ بالحُسْنِ والقُبْحِ، فهو عندَهم طريقٌ إلى
العلمِ بالحُكْمِ الشرعيِّ.
(1/139)
فائدةٌ: قالَ الراغِبُ: (ثَمَّ) إشارةٌ إلى
المُتَبَعِّدِ من المكانِ، و (هناكَ) للمُتَقَرِّبِ، وهما
ظرفانِ في الأصلِ، وقولُه تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} فهو
في موضعِ المفعولِ. انْتَهَى.
وقولُه: إنَّ (هناكَ) للمتقرِّبِ. خلافُ المشهورِ، وقولُه:
إنَّها في الآيةِ مفعولٌ. مردودٌ؛ لأنَّه ظرفٌ لا يَنْصَرِفُ.
ص: (والحَسَنُ والقَبيحُ بمعنى مُلاَءَمَةِ الطبعِ
ومُنَافَرَتِهِ، وصفةِ الكمالِ والنقصِ -عقليٌّ، وبمعنَى
تَرَتُّبِ الذمِّ عاجِلاً والعِقابِ آجِلاً -شَرْعِيٌّ،
خِلافاً للمعتزلةِ).
ش: الحُسْنُ والقُبْحُ يُطْلَقُ بثلاثِ اعتباراتٍ.
أَحَدُهما: ما يُلائِمُ الطَّبْعَ ويُنَافِرُه؛ كإنقاذِ
الغريقِ واتِّهَامِ البَرِيءِ.
والثاني: صِفَةُ الكمالِ والنقصِ؛ كقولِنا: العلمُ حَسَنٌ،
والجهلُ قبيحٌ.
وهو بهذيْنِ الاعتباريْنِ عقليٌّ بلا خلافٍ؛ إذ العقلُ
مُسْتَقِلٌّ بإدراكِ الحُسْنِ والقُبْحِ منهما، فلا حَاجَةَ في
إِدْرَاكِهِما إلى الشرعِ.
والثالثُ: ما يُوجِبُ المَدْحَ أو الذمَّ الشرعيَّ عاجلاً،
والثوابَ أو العقابَ آجِلاً، فهو مَحَلُّ النِّزَاعِ.
(1/140)
فالمُعْتَزِلَةُ قالُوا: هو عقليٌّ أيضاًً،
يَسْتَقِلُّ العقلُ بإدراكِهِ دونَ الشرعِ؛ إمَّا لذاتِ
الفعلِ، أو لصفةٍ عائدةٍ إلى الأحكامِ، أو لِوُجُوهٍ
واعتباراتٍ على خلافٍ لهم، وأهلُ السنَّةِ قالُوا: هو شرعيٌّ؛
أي: لا يُعْلَمُ استحقاقُ المدحِ أو الذمِّ، ولا الثوابِ أو
العقابِ شَرْعاً على الفعلِ، إِلاَّ مِن جِهَةِ الشرعِ.
ومِن المُحَقِّقِينَ مَن رَدَّ هذا القِسْمَ إلى الأوَّلِ،
وقالَ: إنَّه في الحقيقةِ راجِعٌ إلى الألَمِ واللَّذَّةِ؛
ولهذا سَلَّمَ الرَّازِيُّ في آخِرِ عُمُرِهِ ما ذَكَرَه في
كِتَابِهِ (نِهَايَةِ العقولِ): أنَّ الحُسْنَ والقُبْحَ
العَقْلِيَّيْنِ ثابتانِ في أفعالِ العبادِ؛
(1/141)
إذ كانَ معناهما يَؤُولُ إلى اللَّذَّةِ
والأَلَمِ.
تَنبيهاتٌ:
الأوَّلُ: أنَّ المُعْتَزِلَةَ لا يُنْكِرُونَ أنَّ اللهَ
تعالَى هو الشارِعُ للأحكامِ، وإنما يقولون: إنَّ العقلَ
يُدْرِكُ أنَّ اللهَ شَرَعَ أحكامَ الأفعالِ بِحَسَبِ ما
يَظْهَرُ مِن مَصَالِحها ومَفَاسِدِها، فهو طريقٌ عندَهم إلى
العلمِ بالحكمِ الشرعيِّ، والحكمُ الشرعيُّ تابعٌ لهما، لا
عَيْنُهما، فما كانَ حَسَناً جَوَّزَهُ الشرعُ، وما كانَ
قَبِيحاً مَنَعَه، فصارَ عندَ المُعْتَزِلَةِ حُكْمَانِ:
أَحَدُهما: عقليٌّ، والآخرُ شرعيٌّ تابعٌ له، فبانَ أنَّهم لا
يقولون: إنَّه - يعني العقابَ والثوابَ - ليسَ بشرعيٍّ
أَصْلاً، خِلافاً لِمَا تُوهِمُهُ عبارةُ المصنِّفِ وغيرِهِ.
الثاني: ما اقْتَصَرَ عليه المصنِّفُ من حكايةِ قَوْلَيْنِ هو
المشهورُ، وتَوَسَّطَ قومٌ فقالوا: قُبْحُها ثابتٌ بالعقلِ،
والعقابُ يَتَوَقَّفُ على الشرعِ، وهو الذي ذَكَرَه سعدُ بنُ
عَلِيٍّ الزَّنْجَانِيُّ مِن أَصْحَابِنا، وأبو الخَطَّابِ من
الحنابلةِ، وذَكَرَه
(1/142)
الحَنَفِيَّةُ، وحَكَوْهُ عن أبي حَنِيفَةَ
نَصًّا، وهو المنصورُ؛ لِقُوَّتِهِ مِن حيثُ الفِطْرَةُ وآياتُ
القرآنِ المجيدِ وسلامتُهُ مِن الوَهَنِ والتناقُضِ، فههنا
أمرانِ:
أحدُهما: إدراكُ العقلِ حُسْنَ الأشياءِ وقُبْحَها.
والثاني: أنَّ ذلك كافٍ في الثوابِ والعقابِ، وإنْ لم يَرِدْ
شَرْعٌ، ولا تَلاَزُمَ بينَ الأمريْنِ؛ بدليلِ قولِهِ تعالَى:
{ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى
بِظُلْمٍ}؛ أي: بِقَبِيحِ فِعْلِهِم، {وَأَهْلُهَا
غَافِلُونَ}؛ أي: لم تَاتِهِم الرسُلُ والشرائِعُ، ومِثْلُه:
{وَلَوْلاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ}؛ أي: من القبائِحِ، {فَيَقُولُونَ رَبَّنَا
لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً}.
الثالِثُ: إنَّما ذَكَرَ المُصَنِّفُ الذمَّ والعِقَابَ
وأَهْمَلَ المَدْحَ والثوابَ؛ لِتَلاَزُمِهِمَا نَفْياً
(1/143)
وإِثْبَاتاً، وخَصَّ الذَّمَّ والعقابَ
بالذِّكْرِ؛ لأنَّه على أُصُولِ المُعْتَزِلَةِ، لا
يَتَخَلَّفُ ولا يَقْبَلُ المزيدَ، بخلافِ الأجرِ والثوابِ؛
فإنَّه قابلٌ للزيادةِ، فعَبَّرَ بما يُنَاسِبُ أُصُولَ
الخُصُومِ، ومرادُهُ بِتَرَتُّبِ العِقابِ نَصُّ الشارعِ عليه،
وهو لا يُنَافِي جوازَ العفوِ، ولو قالَ: كونُه مُتَعَلِّقَ
العِقَابِ، لكانَ أحسنَ.
فإنْ قُلْتَ: كيفَ قالَ: عقليٌّ وشرعيٌّ والمبتدأُ اثنانِ،
والخبرُ يَجِبُ مطابقتُه للمبتدأِ؟
قلتُ: يَجُوزُ أنْ يكونَ الخبرُ حُذِفَ أحدُ جُزْأَيْهِ؛ أي:
كلاهما عَقْلِيٌّ، أو هو خبرٌ عن الثاني، وحُذِفَ من الأوَّلِ
لِدَلالتِه عليه. ويَجُوزُ في انتصابِ قولِهِ: (خِلافاً)
وجهانِ: أَحَدُهما: أنْ يكونَ مصدراً، والثاني: أنْ يكونَ
حَالاً؛ أي: أقولُ ذلك خِلافاً لهم؛ أي: مُخَالِفاً،
واسْتَحْضِرْ هذا في كلِّ موضعٍ ذُكِرَ فيه هذا. وكذا قولُهم:
وِفَاقاً.
ص: (وشُكْرُ المُنْعِمِ واجبٌ بالشرعِ، لا بالعقلِ، خِلافاً
للمعتزلةِ).
ش: عادَةُ الأُصُولِيِّينَ أنْ يَذْكُرُوا بعدَ هذا الأصلِ
فرعيْنِ على طريقِ التنَزُّلِ، فتَابَعَهُمُ المصنِّفُ.
أحدُهما: شُكْرُ المُنْعِمِ غيرُ واجبٍ عقلاً؛ لأنَّه لو
وَجَبَ عَقْلاً، لَعُذِّبَ تَارِكُه قبلَ الشرعِ، لكنَّه لا
يُعَذَّبُ؛ لقولِهِ تعالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولاً}؛
(1/144)
فإنَّه نَفَى التعذيبَ مُطْلقاً إلى
البَعْثَةِ، فإنْ قِيلَ: التعذيبُ ليسَ بلازمٍ لِتَرْكِ
الواجِبِ؛ لِجَوازِ العفوِ.
قلنا: تَرْكُ الواجبِ يَلْزَمُهُ التعذيبُ قبلَ التوبةِ
عندَهم، والعفوُ غيرُ جائزٍ قبلَها.
فإنْ قيلَ: كيفَ يُسْتَدَلُّ عليهم بالآيةِ، والتفريعُ على
تسليمِ الحُسْنِ والقُبْحِ العقلِيَّيْنِ. قيلَ: لأنَّ عندَهم
لا يَجُوزُ وُرُودُ الشرعِ بِخِلافِ العقلِ، فصَارَتِ
المُعْتَزِلَةُ إلى وُجُوبِهِ بالعقلِ، وأَوْرَدَ عليهم الشيخُ
أبو إسحاقَ الشِّيرازِيُّ في كتابِهِ (الحُدُودِ) مُنَاقَضَةً؛
فإنَّهم قالُوا: يَجِبُ على اللهِ أنْ يُثِيبَ المُطِيعِينَ،
وأنْ يُنْعِمَ على الخَلْقِ، وإذا كانَ الثوابُ وَاجِباً، فلا
معنى للشكرِ؛ لأنَّ مَن قَضَى دَيْنَه فلا يَسْتَحِقُّ الشكرَ،
ففي الجمعِ بينَ هذيْنِ القوليْنِ تناقُضٌ.
ص: (ولا حُكْمَ قبلَ الشرعِ، بل الأمرُ موقوفٌ إلى وُرُودِهِ).
(1/145)
ش: الفرعُ الثاني في حكمِ الأشياءِ قبلَ
الشرعِ، وقد ذَهَبَ أَئِمَّتُنا إلى أنَّه لا حُكْمَ فيها؛
فإنَّ الحكمَ عندَهم عبارةٌ عن الخِطابِ؛ كما تَقَدَّمَ،
والأحكامُ هي نَفْسُ الشريعةِ، فلا تَثْبُتُ الشريعةُ قبلَ
ثُبُوتِها، ثمَّ ظاهرُ كلامِ المصنِّفِ انتفاءُ الحُكْمِ
نفسِه؛ أي: أنَّ الحكمَ مُنْتَفٍ ما لم تَرِدِ البَعْثَةُ، وهو
ما قالَه النَّوَوِيُّ في (شرحِ المُهَذَّبِ): إِنَّه الصحيحُ
عندَ أَصْحَابِنا. وقيلَ: المرادُ عَدَمُ العِلْمِ بالحُكْمِ؛
أي: أنَّ لهما حُكْماً قبلَ وُرُودِ الشرعِ، لكِنَّا لا
نَعْلَمُهُ، قالَ البيضاويُّ: وهذا مرادُ الشيخِ بالوقفِ في
هذه المسألةِ؛ لأنَّ الحكمَ عندَه قديمٌ، فتفسيرُ الوقفِ بعدمِ
الحكمِ يَلْزَمُ منه حدوثُ الحكمِ، وهو خلافُ مَذْهَبِهِ.
والصوابُ ما جَرَى عليه المصنِّفُ؛ فإنَّه المنقولُ.
وقد قالَ القاضي أبو بَكْرٍ في (مُخْتَصَرِ التقريبِ): صارَ
أهلُ الحقِّ إلى أنَّه لا حُكْمَ قبلَ وُرُودِ الشرعِ.
وعَبَّرُوا عن نَفْيِ الأحكامِ بالوقفِ، ولم يُرِيدُوا بذلكَ
الوقفِ الذي
(1/146)
يكونُ حُكْماً في بعضِ مسائلِ الشرعِ،
وإنَّما عَنَوْا به انتفاءَ الأحكامِ، وذَكَرَ مِثْلَه الإمامُ
في (البُرْهَانِ) والغزاليُّ وابنُ السمعانِيِّ وغيرُهم من
الأصحابِ، وإنما قالَ المصنِّفُ: بل الأمرُ موقوفٌ إلى
وُرُودِهِ؛ دَفْعاً لِتَوَهُّمِ مَن ظَنَّ أنَّ القولَ بالوقفِ
غيرُ القولِ بنفيِ الأحكامِ، وليسَ كذلك، بل مُرَادُهم بالوقفِ
أنَّ الأمرَ موقوفٌ على وُرُودِ الشرعِ، وأنَّ الحكمَ مُنْتَفٍ
ما لم يَرِدِ الشرعُ.
ص: (وحَكَّمَتِ المُعْتَزِلَةُ العقلَ، فإنْ لم يَقْضِ
فثَالِثُها لهم: الوقفُ عن الحَظْرِ والإِبَاحَةِ).
ش: هذا من المصنِّفِ تحريرٌ لنقلِ مذهبِ الاعتزالِ؛ فإنَّ
الإمامَ الرَّازِيَّ عَمَّمَ الخلافَ عنهم في جميعِ الأفعالِ،
وليسَ كذلك، بل الأفعالُ الاختياريَّةُ عندَهم تَنْقَسِمُ إلى
ما يَقْضِي العقلُ فيها بِحُسْنٍ أو قُبْحٍ، فيُتَّبَعُ فيها
حُكْمُ العقلِ، وتَنْقَسِمُ إلى الأحكامِ الخمسةِ بِحَسَبِ
تَرَجُّحِ الحُسْنِ أو القُبْحِ وتَعَادُلِهِما، ولا خِلافَ
عندَهم في هذا، وإليه أشارَ بقولِهِ: (وحَكَّمَتِ
المُعْتَزِلَةُ العقلَ)؛ أي: فيما يَقْضِي فيه العقلُ، ودَلَّ
(1/147)
عليه قولُه بعدَه: (فإنْ لم يَقْضِ)،
وإنَّما الخلافُ فيما لا يَقْضِي العقلُ فيه بِحُسْنٍ ولا
قُبْحٍ؛ كفُضُولِ الحاجاتِ والتنَعُّمَاتِ هل هو واجبٌ أو
مُبَاحٌ أو الوَقْفُ؟ ثلاثةُ مذاهبَ، والقائلون بالحَظْرِ -
كما قالَه ابنُ التِّلِمْسَانِيِّ - لا يُرِيدُونَ به باعتبارِ
صفةٍ في المَحَلِّ، بل حَظْرٌ احتياطيٌّ، كما يَجِبُ اجتنابُ
المنكوحةِ إذا اخْتَلَطَتْ بأجنبيَّةٍ، والقائلونَ بالوقفِ
أرادوا وقفَ حِيرَةٍ. وطريقُ البحثِ معَهم في هذه المسألةِ
والتي قبلَها: أنَّ كلَّ احتمالٍ عَيَّنُوه، وبَنَوْا عليه
حُكْماً قابَلْنَاهُم بِنَقِيضِهِ، فنُعَارِضُ شُبَهَ
القائلينَ بالإباحةِ بِشُبَهِ القائلينَ بالحَظْرِ، وشُبَهَ
الواقفينَ بِشُبَهِهِمَا.
تنبيهاتٌ:
الأوَّلُ: تحريرُ النقلِ عنهم هكذا تَابَعَ فيه الآمِدِيَّ،
قالَ القَرافِيُّ: وإطلاقُ الإمامِ الخلافَ عنهم يُنَافِي
قواعدَهم؛ فإنَّ القولَ بالحَظْرِ مُطْلَقاً يَقْتَضِي تحريمَ
إنقاذِ الغَرِيقِ ونحوِهِ، والقولُ بالإباحةِ مُطْلَقاً
يَقْتَضِي إباحةَ القتلِ والفسادِ، أمَّا ما لم يَطَّلِعِ
العقلُ على مَفْسَدَتِه أو مَصْلَحَتِهِ فيُمْكِنُ أنْ يَجِيءَ
فيه الخلافُ.
قالَ: ثُمَّ رَأَيْتُ كلامَ أبي الحُسَيْنِ في (المُعْتَمَدِ)
وقد حَكَى عن شِيعَةِ المُعْتَزِلَةِ الخلافَ مُطْلَقاً من
غيرِ تَقْيِيدٍ، وهو أعلمُ بِمَذْهَبِ القومِ، فرَجَعْتُ إلى
طريقةِ الإمامِ.
الثاني: قولُه: (وحَكَّمَتِ المعتزلةُ العقلَ) يَقْتَضِي أنَّ
مَذْهَبَهم أنَّ العقلَ مُنْشِئُ الحكمِ مُطْلَقاً، وليسَ
كذلك، بل التحقيقُ في النقلِ عنهم أنَّهم قالُوا: الشرعُ
مُؤَكِّدٌ لحكمِ العقلِ فيما أَدْرَكَهُ مِن حُسْنِ الأشياءِ
وقُبْحِها؛ كحُسْنِ الصدقِ النافعِ والإيمانِ،
(1/148)
وقبحِ الكَذِبِ الضارِّ والكُفرانِ، وليسَ
مُرَادُهُم أنَّ العقلَ يُوجِبُ أو يُحَرِّمُ، وقد لا
يَسْتَقِلُّ بذلك، بل يُحْكَمُ به بواسطةِ وُرُودِ الشرعِ
بالحُسْنِ والقُبْحِ؛ كحُكْمِهِ بِحُسْنِ الصلاةِ في وقتِ
الظهرِ وقُبْحِها في وقتِ الاستواءِ.
الثالِثُ: يَتَبَادَرُ الذِّهْنُ إلى استشكالِ قولِ المصنِّفِ
(لهم)؛ فإنَّ الخِلافَ أيضاًً يُحْكَى عن جماعةٍ مِن أصحابِنا؛
كابنِ أبي هُرَيْرَةَ وغيرِهِ، والذي فَعَلَه المصنِّفُ هو
الصوابُ؛ لأنَّ الخلافَ المَحْكِيَّ عن أصحابِنا في ذلك إنما
هو لِمُقْتَضَى الدليلِ الشرعيِّ الدالِّ على ذلكَ بعدَ
مَجِيءِ الشرعِ، لا بِمُجَرَّدِ العقلِ، وليسَ خِلافُهم في
أصلِ التحسينِ والتقبيحِ بالعقلِ، وصارَ الفرقُ بينَهم وبينَ
أصحابِنا في هذا الخلافِ مِن ثلاثةِ أوجهٍ:
أَحَدُها: أنَّهم خَصُّوا هذه الأقوالَ بما لا يَقْضِي العقلُ
فيه بِحُسْنٍ ولا قُبْحٍ، وأمَّا ما يَقْضِي فيَنْقَسِمُ إلى
الأحكامِ الخمسةِ؛ ولهذا نَسَبَهُم أصحابُنا إلى التناقُضِ في
(1/149)
قولِ مَن رَجَّحَ الإباحةَ أو الحَظْرَ؛
لأنَّ ذلك عندَهم يَسْتَنِدُ إلى دليلِ العقلِ، وفَرْضُ
المسألةِ فيما لم يَظْهَرْ للعقلِ حُسْنُهُ ولا قُبْحُهُ،
وأمَّا أصحابُنا فأقوَالُهُم في جميعِ الأفعالِ، هذا على
طريقةِ الآمِدِيِّ ومَن تَابَعَهُ.
والثاني: أنَّ مُعْتَمَدَهُم دليلُ العقلِ، ومُعْتَمَدُ
أصحابِنا الدليلُ الشرعيُّ؛ إمَّا على التحريمِ؛ لقولِهِ
تعالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ}. ومفهومُه أنَّ
المتقدِّمَ قبلَ الحِلِّ هو التحريمُ، فدَلَّ على أنَّ حُكْمَ
الأشياءِ كلِّها على الحَظْرِ، وإمَّا على الإباحةِ؛
لِقَوْلِهِ تعالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ
جَمِيعاً}، وقولِهِ تعالَى: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ
ثُمَّ هَدَى}؛ وذلك يَدُلُّ على الإذنِ في الجميعِ، وأمَّا
الوقفُ فلِتَعَارُضِ الأدِلَّةِ، فهذه المَدَارِكُ الشرعيَّةُ
الدالَّةُ على الحالِ قبلَ وُرُودِ الشرائِعِ، فلو لم تَرِدْ
هذه النصوصُ لقالَ الأصحابُ: لا عِلْمَ لنا بتحريمٍ ولا
إباحةٍ، ولقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: المُدْرِكُ عِنْدَنا
العَقْلُ، فلا يَضُرُّ عدمُ ورودِ الشرائِعِ.
والثالثُ: أنَّ الوَاقِفِينَ أَرَادُوا وَقْفَ حِيرَةٍ؛ كما
قَالَه ابنُ التِّلِمْسَانِيِّ، وأمَّا أَصْحَابُنا فأَرَادُوا
به انتفاءَ الحكمِ على ما سَبَقَ.
ص: (والصوابُ: امتناعُ تكليفِ الغافلِ والمُلْجَأِ، وكذا
المُكْرَهُ على الصحيحِ، ولو على القتلِ، وأَثِمَ القاتِلُ؛
لإيثارِهِ نفسَه.
ش: فيه مسائلُ:
أحَدُها: يَمْتَنِعُ تكليفُ الغافِلِ؛ كالنائِمِ والناسِي؛
لِمُضَادَّةِ هذه الأمورِ الفَهْمَ،
(1/150)
فيَنْبَغِي شرطُ صِحَّةِ التكليفِ، ولا
يَرِدُ ثُبُوتُ الأحكامِ في أفعالِهِ في الغَفْلَةِ والنومِ؛
لأنَّ ذلك من قَبِيلِ رَبْطِ الأحكامِ بالأسبابِ، وقالَ
القَفَّالُ: إِنَّمَا طَلَبَ منه سُجُودَ السهوِ، ووَجَبَتِ
الكَفَّارَةُ على المُخْطِئِ؛ لكونِ الفعلِ في نفسِهِ
مُحَرَّماً مِن حيثُ إنَّه محظورٌ عَقْدُه، لا إِنَّه في
نَفْسِهِ غيرُ مَنْهِيٍّ عنه في هذه الحالةِ؛ لأنَّه لا
يُمْكِنُهُ التحفُّظُ منه، وتعبيرُ المصنِّفِ بـ (الصوابِ)
يُشْعِرُ بأنَّ مُقَابِلَه قَوْلٌ مُزَيَّفٌ، وإليهِ أشارَ في
(المِنْهَاجِ) بقولِهِ: بِنَاءً على التكليفِ بالمُحَالِ. أي:
فإنْ مَنَعْنَاهُ فهَهُنا أَوْلَى، وإنْ جَوَّزْنَاهُ
فللأَشْعَرِيِّ هنا قَوْلانِ، نَقَلَهُما ابنُ
التِّلِمْسَانِيِّ وغيرُه.
قالُوا: والفرقُ أنَّ
(1/151)
للتكليفِ هناكَ فائدةً، وهي الابتلاءُ،
وهنا لا فائدةَ له، لكِنْ نَقَلَ ابنُ بُرهانَ في (الأوسطِ) عن
الفقهاءِ أنَّه يَصِحُّ تكليفُ الغافلِ على معنَى ثُبُوتِ
الفِعْلِ في الذمَّةِ، وعن المُتَكَلِّمِينَ المَنْعُ؛ إذ لا
يُتَصَوَّرُ ذلك عندَهم.
وقد يُظَنُّ أنَّ الشافعيَّ يَرَى تكليفَ الغافلِ مِن نَصِّهِ
على تكليفِ السَّكْرَانِ، وهو فاسدٌ؛ فإنَّه إنما كَلَّفَ
السكرانَ عُقُوبَةً له؛ لأنَّه تَسَبَّبَ بِمُحَرَّمٍ حَصَلَ
باختيارِهِ؛ ولهذا وَجَبَ عليه الحَدُّ، بخلافِ الغافِلِ.
(1/152)
الثانيةُ: يَمْتَنِعُ تكليفُ المُلْجَأِ
أيضاًً، والمرادُ به مَن لا يَجِدُ مَنْدُوحَةً على الفعلِ معَ
حضورِ عَقْلِهِ، وذلك كمَن يُلْقَى من شاهِقٍ، فهو لا بُدَّ له
من الوقوعِ، ولا اختيارَ له فيه، ولا هو بفاعلٍ له، وإنما هو
آلةٌ مَحْضَةٌ كالسِّكِّينِ في يدِ القاطِعِ، فلا يُنْسَبُ
إليه فِعْلٌ، وحَرَكَتُه كحركةِ المُرْتَعِشِ، وسِيَاقُ
المُصَنِّفِ يَقْتَضِي حكايةَ خلافٍ في هذه الحالةِ، وكلامُ
الآمِدِيِّ في (الإحكامِ) يُشِيرُ إليه؛ بِناءً على جوازِ
تكليفِ ما لا يُطَاقُ عقلاً، وإنِ امْتَنَعَ سَمْعاً.
الثالثةُ: يَمْتَنِعُ تكليفُ المُكْرَهِ، والمرادُ به مَن
يُنْسَبُ إليه الفعلُ، فيقالُ: فَعَلَ مُكْرَهاً غيرَ
مُخْتَارٍ، وهو مَن لا يَجِدُ مَنْدُوحَةً عن الفعلِ إلاَّ
بالصبرِ على إيقاعِ ما أُكْرِهَ به، كمَن قالَ له قادرٌ على ما
يَتَوَعَّدُ: اقْتُلْ زَيْداً وإلاَّ قَتَلْتُكَ. لا يَجِدُ
مندوحةً عن قتلِهِ إلاَّ بتسليمِ نفسِه للهلاكِ، فهذا إقدامُه
على قَتْلِ زيدٍ ليسَ كَوُقُوعِ الذي أُلْقِيَ مِن شاهِقٍ،
وإنِ اشْتَرَكَا في عدمِ التكليفِ، لكِنَّ تكليفَ هذا
المُكْرَهِ أَقْرَبُ مِن تكليفِ المُلْجَأِ، كما أنَّ
تَكْلِيفَ المُلْجَأِ أَقْرَبُ من تكليفِ الغافلِ الذي لا
يَدْرِي، فإذاً المَرَاتِبُ ثلاثةٌ كما رَتَّبَهَا المصنِّفُ:
فأَبْعَدُها تكليفُ الغافِلِ؛ فإنَّه لا يَدْرِي. ويَتْلُوها:
تَكْلِيفُ المُلْجَأِ؛ فإنَّه يَدْرِي، ولكِنْ لا مَنْدُوحَةَ
له عن الفعلِ. ويَتْلُوها: المُكْرَهُ؛ فإنَّه يَدْرِي وله
مَنْدُوحَةٌ عن الفعلِ، لكِنْ بطريقٍ تارَةً لم يُكَلِّفْهُ
الشرعُ الصبرَ عليها؛ كما
(1/153)
في الإكراهِ على شُرْبِ الخَمْرِ وكَلِمَةِ
الكُفْرِ، وتَارَةً قيلَ: إنَّه كَلَّفَه، كما في الإكراهِ على
القتلِ، فيَعْتَقِدُ أكثرُ الفقهاءِ أنَّه كُلِّفَ الصبرَ على
قتلِ نفسِه، والمختارُ عندَ المصنِّفِ أنَّه كُلِّفَ أنْ لا
يُؤْثِرَ نفسَه على نفسِ غيرِ المكافِئِ له؛ لاسْتِوَائِهِما
في نظرِ الشارعِ، فلَمَّا آثَرَ وأقدَمَ لمجرَّدِ حَظِّ نفسِه
وَجَبَ عليه القِصاصُ في الأصحِّ، وأَثِمَ بلا خلافٍ، وهذا
معنى قولِه: (ولو على القتلِ).
وأمَّا قولُهُ: (وإثمُ القاتلِ) فهوَ جوابٌ عنْ سؤالٍ
مُقَدَّرٍ؛ تقديرُهُ: إذَا كَانَ المُكْرَهُ غيرَ مُكَلَّفٍ،
فَمَا بالُ المُكْرَهِ على القتلِ يَاثَمُ؟
وَأَجَابَ بأَنَّهُ لاَ يَاثَمُ مِنْ حَيثُ إِنَّهُ مُكْرَهٌ
وَإِنَّهُ قَتَلَ؛ بَلْ مِنْ حَيثُ إِنَّهُ آثَرَ نَفْسَهُ على
غيرِهِ.
فَهُوَ ذُو وجهينِ: جِهَةُ الإكراهِ ولاَ إِثْمَ فيها، وجِهَةُ
الإِيثَارِ ولاَ إِكْرَاهَ فيها، وَهَذَا لأَنَّكَ إِذَا
قُلْتَ: اقْتُلْ زَيْداً وإِلاَّ قَتَلْتُكَ. فمعنَاهُ
التخييرُ بينَ نَفْسِهِ وزيدٍ، فإذا آثَرَ نَفْسَهُ فقدْ
أَثِمَ؛ لأَنَّهُ اختيارٌ، وهذا كَمَا يُقَالُ فِي خِصَالِ
الكَفَّارَةِ: مَحِلُّ التخييرِ لاَ وُجُوبَ فِيهِ، وَمَحِلُّ
الوجوبِ لاَ تخييرَ فِيهِ، فَكَذَا هُنَا، أَصْلُ القتلِ لاَ
عِقَابَ فِيهِ، وَالْقَتْلُ المخصوصُ فِيهِ عِقَابٌ؛
لِتَضَمُّنِهِ الاختيارَ، وَهُوَ إِيثَارُ نَفْسِهِ عَلَى
غَيْرِهِ.
قالَ: وهذا تحقيقٌ حَسَنٌ، وبِهِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لاَ
استثناءَ لصورةِ القتلِ مِنْ قولِنَا: الْمُكْرَهُ غَيْرُ
الْمُكَلَّفِ.
وقولُ الفقهاءِ: (11 أ) الإِكْرَاهُ يُسْقِطُ أَثَرَ التصرفِ
إِلاَّ في صُوَرٍ - إِنَّمَا ذَكَرُوهُ لِضَبْطِ تلكَ
الصُّورَةِ؛ لاَ لأنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ حقيقتِهِ شَيءٌ.
(1/154)
تنبيهانِ:
الأولُ: مَا اخْتَارَهُ المُصَنِّفُ هُنَا مِنَ امْتِنَاعِ
تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ، خِلاَفَ مَا عَلَيْهِ الأصحابُ، وَقَدْ
رَجَعَ عَنْهُ آخِراً وَوَافَقَ الأَشْعَرِيَّةَ عَلَى جَوَازِ
تَكْلِيفِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاقِعٍ.
قالَ ابنُ بُرْهَانَ في (الأَوْسَطِ): المُكْرَهُ عِنْدَنَا
مُخَاطَبٌ بالفعلِ الذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَنَقَلَ عَنِ
الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، قالَ: وَانْعَقَدَ
الإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِهِ مُخَاطَباً بِمَا عَدَا مَا
أُكْرِهَ عَلَيهِ مِنَ الأَفْعَالِ، وَنَقَلَ عَنِ
الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّ الْمُكْرَهَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، وَهَذَا
خَطَأٌ في النَّقْلِ عَنْهُمْ؛ بَلْ عِنْدَهُمْ إِنَّهُ
مُخَاطَبٌ، إِلاَّ أَنَّ العلماءَ رَأَوا فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ
الْمُلْجَأَ ليسَ بِمُخَاطَبٍ، فَظَنُّوا أَنَّ الْمُلْجَأَ
والْمُكْرَهَ وَاحِدٌ، وليسَ كَذَلِكَ. انتهَى.
وَكَانَ حَقُّ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ: بِمَا أُكْرِهَ
عَلَيْهِ، لِيُخْرِجَ الصُّورَةَ التِي حَكَى ابنُ بُرْهَانَ
فِيهَا الإجماعَ، وَكأنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ؛
لأَنَّهُ فِي غَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، لَيْسَ
بِمُكْرَهٍ.
الثَّانِي: مَا اخْتَارَهُ فِي القَاتِلِ، هُوَ بِظَاهِرِهِ
مُصَادِمٌ للإِجْمَاعِ، فِفِي (التَّلْخِيصِ) لإمامِ الحرمينِ:
أَجْمَعَ العُلَمَاءُ قَاطِبَةً عَلَى تَوْجِيهِ النَّهْي
عَلَى المُكْرَهِ عَلَى القتلِ، وَهَذَا عَيْنُ التَّكْلِيفِ
فِي حَالِ الإِكْرَاهِ، وَهُوَ مِمَا لاَ مَنْجَى مِنْهُ.
انتهَى.
وَقَالَ الشيخُ فِي (شَرْحِ اللُّمَعِ): انْعَقَدَ الإِجْمَاعُ
عَلَى أَنَّ المُكْرَهَ عَلَى القتلِ مأمورٌ باجتنابِ القتلِ،
وَدَفْعِ المُكْرَهِ عَنْ نَفْسِهِ، وإِنْ أَثِمَ بِقَتْلِ
مَنْ أُكْرِهَ عَلَى قتلِهِ، وَذَلِكَ يَدْلُّ عَلَى أَنَّهُ
مُكَلَّفٌ حَالَ الإِكْرَاهِ.
وَكَذَلِكَ صَرَّحَ بِهِ الغزاليُّ وَغيرُهُ، وَاقْتَضَى
كلامُهُمْ تخصيصَ الخلافِ بِمَا إِذَا وَافَقَ دَاعِيَةُ
الإِكْرَاهِ دَاعِيَةَ الشرعِ، كَالإِكْرَاهِ عَلَى قتلِ
الكافرِ، وِإِكْرَاهِهِ عَلَى الإسلامِ، وَأَمَّا مَا خَالَفَ
فِيِه دَاعِيَةُ الإِكْرَاهِ دَاعِيَةَ الشرعِ كَالإِكْرَاهِ
عَلَى
(1/155)
القتلِ، فَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ
التكليفِ بِهِ. انتهَى.
(ص): (وَيَتَعَلَّقُ الأمرُ بالمعدومِ تَعَلُّقاً معنوياً
خِلافاً للمعتزلةِ).
(ش): المعدومُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مأموراً عِنْدَنَا خِلافاً
للمعتزلةِ، وَلاَ نُرِيدُ تَنْجِيزَ التكليفِ، أي: إِنَّهُ
مأمورٌ حالَ عدمِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مستحيلٌ؛ بَلِ المُرَادُ
تَعَلُّقُ الأمرِ بِهِ فِي الأَزَلِ، وَإِذَا وُجِدَ
وَاسْتَجْمَعَ شرائطَ التكليفِ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ
مُكَلَّفاً بِذَلِكَ الطلبِ القديمِ مِنْ غيرِ تَجَدُّدِ طلبٍ
آخَرَ، هَكَذَا حَرَّرَهُ عَنِ الأَشْعَرِىِّ، وَهُوَ
مَبْنِيٌّ عَلَى إثباتِ كلامِ النفسِ، وَمِنْ ثَمَّ خَالَفَتِ
المعتزلةُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى -
مُتَكَلِّمٌ بكلامٍ قديمٍ أَزَلِيٍّ قائمٍ بِذَاتِهِ، لَزِمَ
وجودُ الأمرِ فِي الأَزَلِ، وَلاَ مأمورَ، للعلمِ بِأَنَّ مَا
سِوَى اللَّهِ حَادِثٌ.
وَاعْتَرَضَ الخُصُومُ وَقَالُوا: يَلْزَمُ وجودُ أَمْرٍ وَلاَ
مأمورَ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لكونِهِ عَبَثاً، ولأَنَّ الأمرَ
مِنَ المعانِي المُتَعَلِّقَةِ؛ وَوُجُودُ مُتَعَلِّقٍ وَلاَ
مُتَعَلَّقَ بِهِ،
(1/156)
مُحَالٌ، وَقَدِ ارْتَاعَ لِهَذِهِ
الشُّبْهَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، والقَلاَنِسِيُّ
مِنْ أصحابِنَا، وَمَالاَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُسَمَّى فِي
الأَزَلِ أَمْراً وَلاَ نَهْياً، وَلاَ خَبَراً، ثُمَّ صَارَ
فِيمَا لاَ يَزَالُ كَذَلِكَ، فَجَعَلاَهُ مِنْ صِفَاتِ
الأفعالِ.
والفرقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مذهبِ الأَشْعَرِيِّ: أَنَّ
الأَشْعَرِيَّ يَقْولُ: الأمرُ بذاتِهِ وصفتِهِ فِي الأَزَلِ،
وَلاَ مأمورَ فِي الأَزَلِ.
وَهُمَا يَقُولاَنِ: الموجودُ فِي الأَزَلِ (11 ب) الأمرُ
بِذَاتِهِ بدونِ وصفِ كَوْنِهِ أَمْراً.
وَاسْتَضْعَفَ المحققونَ هَذَا التوسطِ، بِأَنَّا لاَ نعقلُ
مِنْ كَلاَمِ اللَّهِ إِلاَ الأمرَ والنَّهْيَ والخبرَ،
فَإِذَا قِيلَ بِحُدُوثِهَا، لَزِمَ حُدُوثُ كلامِ اللَّهِ،
وَهُوَ مُحَالٌ، وَأَجَابُوا عَنْ شُبْهَةِ الْمُعْتَزِلَةِ:
أَمَّا لُزُومُ الْعَبَثِ: فَلِبِنَائِهِ عَلَى التحسينِ
والتقبيحِ، وَأَمَّا الثَّانِيَ: فَلاَ نُسَلِّمُ أَنَّ الأمرَ
مِنَ الحقائقِ الْمُتَعَلِّقَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ شأنِهِ أَنْ
يَتَعَلَّقَ، والتعليقُ أمرٌ نسبيٌّ، والنسبُ والإضافاتُ
موجودةٌ فِي الذهنِ دُونَ الخارجِ، وبهذا التقريرِ يَزُولُ
الإشكالُ وَظَهَرَ أَنَّهُ تَعَلُّقٌ ذِهْنِيٌّ مَجَازِيٌّ لاَ
حَقِيقِيٌّ، وَيُوَضِّحُهُ مَا يَقُولُهُ الفقيهُ: إِنَّ
الوصيةَ للحملِ صحيحةٌ، لِتَوَقُّعِ
(1/157)
وُجُودِهِ، بِخِلاَفِ الوصيةِ للمعدومِ،
وَعَلَى ذَلِكَ يَتَخَرَّجُ الحُكْمُ عَلَى الأشياءَ المعدومةِ
وَتُقَدَّرُ مَوْجُودَةً، كالإيمانِ فِي حَقِّ أطفالِ
المؤمنينَ، وَالْكُفْرِ فِي أولادِ الكُفَّارِ؛ حتى يَجُوزُ
سَبْيُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ، وَقَدْ حَقَّقَ الإمامُ
الْمُقْتَرِحُ ـ جَدِّ الشيخِ تَقِيِّ الدينِ بْنِ دَقِيقِ
العِيدِ لأُمِّهِ ـ العبارةَ عَنْ هَذِهِ المسألةِ بِمَا
يُفْسِدُ تعبيرَ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ فَقَالَ: الأمرُ لَمْ
يُتَعَقَّلْ بالمعدومِ، بَلْ بالموجودِ المُتَوَقَّعِ، فكما
أَنَّ العِلْمَ الأَزَلِيَّ يَتَعَلَّقُ بالموجودِ الذِي
سَيَكُونُ، فَكَذَلِكَ الطلبُ الأَزَلِيُّ يُتَعَقَّلُ
بِالْمُكَلَّفِ الذِي سَيَكُونُ.
تَنْبِيهَاتٌ:
الأول: قَدْ تُسْتَشْكَلُ هَذِهِ المسألةُ مَعَ التي قَبْلَهَا
مِنِ امْتِنَاعِ تكليفِ الغافلِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ
المُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ مأموراً فِي حالةِ
الغفلةِ، وَلاَ يَكُونُ مأموراً بَعْدَ تَذَكُّرِهِ بالأمرِ
الموجودِ فِي حالةِ غفلتِهِ - اسْتُشْكِلَ الفرقُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ المعدومِ؛ بَلِ الغَافِلُ أَوْلَى بالجوازِ؛ لأَنَّهُ
إِذَا كَانَ المعدومُ مأموراً بَعْدَ وجودِهِ بالأمرِ
المُتَقَدِّمِ عَلَى وجودِهِ كَانَ الغافلُ مأموراً بَعْدَ
تَذَكُّرِهِ بالأمرِ الوَارِدِ قَبْلَ تَذَكُّرِهِ بطريقِ
الأَوْلَى، وَإِنْ كَانَ المرادُ أَنَّهُ لاَ يَكْونُ مأموراً
حَالَ غفلتِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مأموراً بَعْدَ تَذَّكُرِهِ
بالأمرِ الوَارِدِ فِي حَالِ غفلتِهِ - فَيَكُونُ حُكْمُ
الغافلِ كَحُكْمِ المعدومِ سواءً فِي أَنَّ كُلاَّ مِنْهُمَا
لاَ يَكُونُ مأموراً حَالَ عَدَمِهِ، ولاَ حَالَ غَفْلَتِهِ،
وَيَكُونُ مأموراً بَعْدَ تَذَكُّرِهِ أَوْ وُجُودِهِ بالأمرِ
الواردِ فِي حالةِ العدمِ وحالةِ الغفلةِ، فَهُمَا سَوَاءٌ،
وِحِينَئِذٍ فَلاَ وَجْهَ لإفرادِ كُلٌّ مِنْهُمَا بمسألةٍ،
(1/158)
وَقَدْ عَمَّيْتُ الجوابَ لِتَشْحِيذِ
الأذهانِ.
الثَّانِي: لاَ يَخْتَصُّ الخلافُ بالمعتزلةِ، فَإِنَّ الإمامَ
نَقَلَ مذهبَنَا ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا سَائِرُ الفِرَقِ
فَقَدْ أَنْكَرُوهُ، وَلِهَذَا قَالَ الْهِنْدِيُّ ـ خِلاَفاً
للمعتزلةِ وأكثرِ الطوائفِ؛ بَلْ كلامُ إِمَامِ الحرمينِ فِي
(الْبُرْهَانِ) يَمِيلُ إِلَى مَذْهَبِ المعتزلةِ؛ إِذْ قَالَ
ـ: إِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ المعدومَ مأمورٌ، فَقَدْ خَرَجَ
عَنْ حَدِّ [المعقولِ] =، وقولُ القائلِ: إِنَّهُ مأمورٌ عَلَى
تقديرِ الوجودِ تلبيسٌ، فَإِنَّهُ إِذَا وُجِدَ لَيْسَ
معدوماً، ولاَ شَكَّ أَنَّ الْوُجُودَ شرطٌ فِي كَوْنِ
المأمورِ مأموراً، فَإِذَا لاَحَ ذَلِكَ بَقِيَ النظرُ فِي
أَمْرٍ بِلاَ مأمورٍ، وَهَذَا مُعْضِلٌ فَإِنَّ الأَمْرَ مِنَ
الصفاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بالنفسِ، وفرضُ مُتَعَلِّقٍ ولاَ
مُتَعَلَّقَ لَهُ مُحَالٌ.
هَذَا كلامُهُ، وجوابُهُ بِمَا سَبَقَ، وَقَدْ نُظِرَ فِي
(الشَّامِلِ) قَوْلُ الأَشْعَرِيِّ.
الثالثُ: أَنَّ الخِلاَفَ لاَ يَخْتَصُّ بالأمرِ، فالنَّهْيُ
كَذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ تَرَكَهُ لدخولِهِ ضِمْناً أَوْ
لأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بالفرقِ؛ بَلْ يَجْرِي أَيْضاًً
فِي الخَبَرِ، وَهَذِهِ المسألةُ فرعٌ لأصلٍ، وَهُوَ أَنَّ
كَلاَمَ اللَّهِ تَعَالَى (12 أ) فِي الأَزَلِ، هَلْ يُسَمَّى
خِطَاباً؟ وَسَيَذْكُرُهَا الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَاتِي. اهـ.
(1/159)
(ص): (فَإِنِ اقْتَضَى الخطابُ الفعلَ
اقتضاءً جازماً فإيجابٌ، أَوْ غَيْرَ جازمٍ فَنَدْبٌ، أَوِ
التركِ جازماً فتحريمٌ، أَوْ غَيْرَ جازمٍ بِنَهْيٍ، مخصوصٍ
فكراهةٌ، أَوْ غَيْرَ مخصوصٍ فَخِلاَفُ الأَوْلَى، أَوِ
التخييرَ فإباحةٌ).
(ش): الخطابُ إِمَّا أَنْ يَقْتَضِيَ الفعلَ أَوِ التركَ أَوْ
لاَ يَقْتَضِيَ واحداً مِنْهُمَا، فِإِنِ اقْتَضَى الفعلَ
فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الجزمِ أَوْ لاَ، والأولُ
الإيجابُ، والثانِي النَّدْبُ، وَإِنِ اقْتَضَى التَّرْكَ،
فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الجزمِ أَوْ لاَ، وَالأولُ
التحريمُ، والثانِي هُوَ الْمُقْتَضِي للتَّرْكِ مَعَ عدمِ
الجزمِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ مخصوصٌ أَوْ
لاَ، والأولُ المكروهُ والثانِي خِلاَفُ الأَوْلَى؛ سَوَاءٌ
كَانَ فِعْلُهُ أَوْلَى كتركِ صلاةِ الضُّحَى، أَوْ عَدَمُهُ
أَوْلَى كصومِ عرفةَ بعرفةَ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَضِ الفعلَ
وَلاَ التَّرْكَ فَإِبَاحَةٌ، وَقَيَّدَ فِي (الْمِنْهَاجِ)
(1/160)
الاقْتِضَاءَ بالمانعِ مِنَ النَّقِيضِ،
وَعَدَلَ عَنْهُ الْمُصَّنِفُ إِلَى الجازمِ؛ لأَنَّهُ
أَخْصَرُ؛ وَلِهَذَا قَالَ والدُهُ: لَكَ أَنْ تَجْعَلَ
مَكَانَ المانعِ مِنَ النقيضِ (الجازمَ) فَهُمَا مترادفانِ.
فَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: (الخِطَابُ) أَنَّهُ يَشْتَرِطُ فِي
كَوْنِهِ إِبَاحَةً إِذْنَ الشَّارِعِ فِيهِ، فَيَخْرُجُ
مِنْهُ مَا عُلِمَتْ إِبَاحَتُهُ بطريقِ البَرَاءَةِ الأصليةِ،
فَإِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ، وَلاَ يُسَمَّى مُبَاحاً، إِذْ لاَ
خِطَابَ.
تنبيهانِ: الأولُ: انْحَصَرَتْ بِذَلِكَ الأحكامُ فِي
خَمْسَةٍ، والذِي زَادَهُ الْمُصَنِّفُ: خِلاَفُ الأَوْلَى،
وَهُوَ مُتَّبِعٌ فِي ذَلِكَ إمامَ الحرمينِ، فَإِنَّهُ
ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ مِنَ (النهايةِ) وَقَرَنَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ المكروهِ بِمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ،
إِلاَّ أَنَّ الإمامَ عَبَّرَ بالمقصودِ وغيرِ المقصودِ،
وَغَيَّرَهُ الْمُصَنِّفُ إِلَى: المخصوصِ.
قَالَ والدُهُ فِي بعضِ مُؤَلَّفَاتِهِ: وَأَوَّلُ مَا
عَلِمْنَاهُ ذَكَرَ هَذَا إِمَامُ الحرمينِ: فالمكروهُ لاَ
بُدَّ فِيهِ مِنْ نَهْيٍ عَنْهُ، وَلَمْ يَكْتَفِ بقولِهِ:
(نَهْيٍ) لأَنَّ الأمرَ بالشيءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، فَكُلُّ
مأمورٍ بِهِ، تَرْكُهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لَكِنَّ النَّهْيَ
الْمُسْتَفَادَ مِنَ الأمرِ، إِنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ
بطريقِ الالتزامِ، لاَ بطريقِ القصدِ فلذلكَ احْتَرَزَ،
وَقَالَ: (نَهْيٌ مَقْصُودٌ)، فَكُلُّ مَا وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ
مقصودٌ، مكروهٌ، ومَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَهْيٌ مقصودٌ، لَيْسَ
َبمكروهٍ، ومَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَهْيٌ أَصْلاً، أَبْعَدُ
عَنِ الكراهةِ، هَذَا حَظُّ الفقيهِ مِنْ ذَلِكَ،
وَالأُصُولِيُّ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يُرِيدَ مَا
وَرَدَ
(1/161)
فِيهِ نَهْيٌ، إِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي
الكراهةِ النَّهْيُ لاَ مَا يُفْهَمُ فِي العرفِ مِنَ الكراهةِ
التِي هِيَ ضِدُّ الإِرَادَةِ، وَذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي أُصُولِ
الدينِ.
قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَنَبَّهَ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ
مُرَاداً بِالنَّهْيِ المقصودِ بِأَنْ يَكُونَ نَصاً وَلاَ
بُدَّ، فِإِنَّا نَرَاهُمْ يَحْكُمُونَ بكراهةِ أشياءَ لاَ
نَصَّ فِيهَا، وَلَكِنَّ المرادَ أَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ
عَلَيْهِ دَلِيلٌ إِمَّا نَصٌّ، وَإِمَّا إِجْمَاعٌ، وَإِمَّا
قِيَاسٌ، وَإِمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأَدِلَّةِ عِنْدَ مَنْ
يَرَاهَا.
قُلْتُ: لَمْ يَنْفَرِدِ الإمامُ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ:
وَبَيْنَ الكراهةِ والإباحةِ وَاسِطَةٌ، وَهِيَ خِلاَفُ
الأَوْلَى، وَالتَّعَرُّضُ للفصلِ بينَهُمَا مِمَّا أَحْدَثَهُ
المتأخرونَ. انْتَهَى.
وَهَذَا الذِي ذَكَرُوهُ فِي الفرقِ، مُتَعَقَّبٌ، فإنَّ
الأصحابَ يُطْلِقُونَ خِلاَفَ الأَوْلَى عَلَى مَا وَرَدَ
فِيهِ نَهْيٌ مقصودٌ، كصومِ يومِ عرفةَ للحاجِ.
الثَّانِي: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقْولَ: فَإِنِ اقْتَضَى
الخطابُ الفعلَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ كَفٍّ جَازِماً
.... إلخ، أَوْ يَقُولَ: أَوْ كَفًّا جَازِماً .... إلى
آخرِهِ؛ لأَنَّ الاقْتِضَاءَ (12 ب) ـ وَهُوَ الطلبُ -
إِنَّمَا يَكُونُ دَائِماً للفعلِ؛ لأَنَّهُ المقدورُ،
وَلأَنَّ التركَ فعلٌ وُجُودِيٌّ، فَلاَ يَكُونُ قَسِيماً
للفعلِ، وَهَذَا بَحَسْبِ حقيقةِ الفعلِ عَقْلاً، لَكِنْ
لَمَّا كَانَ أهلُ العرفِ يُقَابِلُونَ بَيْنَ الفعلِ والتركِ
الْمُطْلَقَيْنِ اعْتَمَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التقسيمِ.
(ص): (وَإِنْ وَرَدَ سبباً، وشرطاً، ومانعاً، وصحيحاً، وفاسداً
- فَوُضِعَ، وَقُدْ عُرِفَتْ حُدُودُهَا).
(ش): الضميرُ فِي وَرَدَ عائدٌ للخطابِ، وَهُوَ قَسِيمُ
قولِهِ: (فِإِنِ اقْتَضَى)، وَإِنَّمَا عَبَّرَ هُنَا
بِالْوُرُودِ؛ لأَنَّ الوضعَ لَيْسَ فِيهِ اقتضاءٌ، ومقصودُهُ
أَنَّ الخطابَ يَنْقَسِمُ إِلَى طلبٍ وَهُوَ يَشْمَلُ الأحكامَ
الخمسةَ، وإِلَى غَيْرِ طلبٍ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ
التخييرِ وَهُوَ الإباحةُ، وَقَدْ سَبَقَتْ أَوَّلاً مَعَ
التخييرِ فَهُوَ الوضعُ، والكلامُ الآنَ فِيهِ، وحقيقتُهُ:
الخطابُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ لاَ
بالاقتضاءِ والتخييرِ، سُمِّيَ بذلك؛ لأَنَّهُ شيءٌ وَضَعَهُ
اللَّهُ فِي شَرَائِعِهِ لإِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَيْهِ،
تُعْرَفُ بِهِ الأحكامُ تَيْسِيراً لَنَا فَإِنَّ الأحكامَ
غَيْبٌ، والفرقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الحقيقةُ أَنَّ
الْحُكْمَ فِي الْوَضْعِ هُوَ قَضَاءُ الشَّرْعِ عَلَى
الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ سَبَباً أَوْ مَانِعاً أَوْ شَرْطاً،
وَخِطَابُ التكليفِ لطلبِ أَدَاءِ مَا تَقَرَّرَ بالأسبابِ
والشروطِ والموانعِ، وَأَنَّهُ لاَ يَتَوَقَّفُ الوضعُ عَلَى
الْعِلْمِ وَالْبُلُوغِ، فَإِنَّ القتلَ سَبَبٌ
(1/162)
لِلضَّمَانِ، وَإِنْ صَدَرَ مِنَ
الصَّبِيِّ والمجنونِ، والنجاسةُ مانعةٌ للصلاةِ بالنسبةِ
للبالغِ والصَّبِيِّ، وَكَذَا الوضوءُ شرطٌ للصلاةِ بالنسبةِ
إِلَيْهِمَا.
وَقَسَّمَهُ إِلَى خمسةِ أقسامٍ كَمَا قَسَّمَ خِطَابَ
التَّكْلِيفِ إِلَى سِتَّةٍ، وَكَوْنُ السببِ والشرطِ والمانعِ
مِنْ أقسامِ خطابِ الوضعِ ظاهرٌ، وَأَمَّا الصِّحَّةُ والفسادُ
فَعَلَى الصحيحِ؛ لأَنَّهُ حُكْمٌ مِنَ الشَّارِعِ بِذَلِكَ،
وَقَالَ ابْنُ الحَاجِبِ: إِنَّهُمَا عَقْلِيَّانِ.
وَعُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ وَهْمَ مَنِ ادَّعَى عَلَى
الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ قَصَدَ إِدْخَالَ الوضعِ فِي خِطَابِ
التَّكْلِيفِ، وكيفَ يَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ جَعَلَهُ
قَسِيماً لَهُ، وَحَذَا حَذْوَ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي ذَلِكَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَدْخَلَهُ فِي خِطَابِ التَّكلْيِفِ وَهُوَ
اخْتَيِارُ الإمامِ الرَّازِيِّ؛ لأَنَّ معنَى كَوْنِ الشيءِ
شَرْطاً حُرْمَةُ ذَلِكَ الشيءِ بِدُونِ الشرطِ، وَكَوْنُهُ
مَانِعاً كَذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ تسميةَ هَذِهِ
الأشياءَ الْوَضْعِيَّةِ أَحْكَاماً، وَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ
عَلاَمَاتٌ لِلأَحْكَامِ، وَهُوَ ضعيفٌ إِذْ لاَ تَخْرُجُ
بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهَا أَحْكَاماً شَرْعِيَّةً.
وَقَوْلُهُ: (وَقَدْ عُرِفَتْ حُدُودُهَا) إشارةٌ إِلَى أنواعِ
التقسيمِ الأَوَّلِ، فإنَّهُ بالحصرِ
(1/163)
يُعْلَمُ حَدُّ كُلِّ واحدٍ بمفردِهِ،
بِأَنْ يُؤْخَذَ مَوْرِدُ التقسيمِ الذِي هُوَ مُشْتَرَكٌ
بَيْنَ جَمِيعِهَا، وَيُمَيَّزَ كُلُّ واحدٍ مِنْهَا،
وَقَيَّدَ الأَوَّلَ بالثانِي، وهذه طريقةٌ يَسْتَعْمِلُهَا
الْمُصَنِّفُونَ فِي كُلِّ حصرٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لأنَّ
مَوْرِدَ التقسيمِ قَدْ لاَ يَكُونُ جِنْساً، وَالْمُمَيِّزُ
قَدْ لاَ يَكُونُ فَصْلاً، وَلاَ يُعْرَفُ بِهَذَا التقسيمِ
حُدُودُهَا، إِلاَّ أَنْ يُرِيدُوا بِالحَدِّ مَا هُوَ أَعَمُّ
مِنَ الْحَدِّ وَالرسمِ.
والحاصلُ أَنَّ التقسيمَ الحاصرَ يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ
الْحَدُّ، وَلاَ يَجِبُ ذَلِكَ، لِجَوَازِ وُقُوعِ التقسيمِ
فِي أَعَمٍّ، لاَ يَكُونُ جِنْساً؛ بَلْ عَرَضاً عَامًّا،
كَقَوْلِنَا: الماشِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَاطِقاً أَوْ لاَ،
وَلَيْسَ حَدُّ الإنسانِ أَنَّهْ مَاشٍ نَاطِقٌ.
وَقَالَ الصَّفَّارُ فِي (شَرْحِ سِيبَوَيْهِ): إِنَّمَا
يُحَدُّ الشيءُ لامْتِنَاعِ الحصرِ، فَإِذَا انْحَصَرَ فَلاَ
يَنْبَغِي (3 أ) أَنْ يُحَدَّ، وَإِنَّمَا وُسِّطَ هَذَا
بَيْنَ مَا سَبَقَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: (وَقَدْ عُرِفَتْ)
لِيَتِمَّ التقسيمُ، وَكَأَنَّهُ قَدْ قَصَدَ بقولِهِ:
(عُرِفَتْ حُدُودُهَا) التنبيهَ عَلَى الاستغناءِ بِذَلِكَ
عَنِ الرسومِ المذكورةِ فِي (الْمِنْهَاجِ) بَعْدَ التقسيمِ.
فَإِنْ قُلْتَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: فَإِنْ وَرَدَ
سبباً أَوْ شَرْطاً أَوْ مَانِعاً؛ لأنَّ السببَ نَفْسَهُ
لَيْسَ هُوَ الْحُكْمُ؛ بَلْ جَعَلَ الشَّارِعُ إِيَّاهُ.
قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهَا بِمَصْدَرٍ
محذوفٍ، أَيْ: بجعلِهِ الوصفَ سبباً.
(ص): (وَالْفَرْضُ وَالوَاجِبُ مُتَرَادِفَانِ، خِلاَفاً
لأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ لَفْظِيٌّ).
(1/164)
(ش): لاَ فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ الفرضِ
والواجبِ؛ بل هُمَا مترادفانِ عَلَى مُسَمًى وَاحِدٍ، وَهُوَ
مَا سَبَقَ، وَاحْتَجَّ الإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ
السَّمْعَانِيِّ فِي (أَمَالِيهِ) بِحَدِيثِ الأعرابِيِّ؛
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
يَجْعَلْ بَيْنَ الفرضِ والتَّطَوُّعِ واسطةً؛ بَلْ أَدْخَلَ
كُلَّ مَا أَخْرَجَهُ مِنِ اسْمِ الفرائضِ فِي جُمْلَةِ
التطوعاتِ، وَلَوْ كَانَ واسطةٌ لَبَيَّنَهَا.
نعم: فَرَّقَ أصحابُنَا بَيْنَ رُتَبِ الواجبِ، حَيْثُ
جَعَلُوا الركنَ فِي الْحَجِّ مَا لَمْ يُجْبَرْ بالدمِ،
والواجبَ مَا يُجْبَرُ بالدمِ.
وَفَرَّقَتِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَهُمَا فَقَالُوا: الفرضُ مَا
ثَبَتَ بدليلٍ قَطْعِيٍّ كالصلاةِ
(1/165)
والزكاةِ.
والواجبُ مَا ثَبَتَ وجوبُهُ بدليلٍ ظَنِّيٍّ وَهُوَ مَا
ثَبَتَ بِالقِيَاسِ أَوْ خَبَرِ الواحدِ كصدقةِ الفِطْرِ
وَكالوترِ والأضحيةِ عَلَى قاعدتِهِمْ.
قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّغَايُرِ بَيْنَهُمَا، أَنَّا
نُكَفِّرُ جَاحِدَ الأولِ دُونَ الثَّانِي، وَإِذَا اخْتَلَفَا
فِي الأَحْكَامِ فَلا بُدَّ مِنَ الاختلافِ فِي الاسمِ
بَيْنَهُمَا، وَلاَ يَقْدَحُ هَذَا فِي جَعْلِ الْمُصَنِّفِ
الخلافَ لَفْظِيًّا،
(1/166)
فَإِنَّ غايتَهُ أَنَّ بَعْضَ الواجباتِ
يُكَفَّرُ جَاحِدُهَا، وَكَوْنُنَا لاَ نُسَمِّيهِ واجباً
خِلاَفٌ فِي اللفظِ، فَإِنَّهُ يُكَفَّرُ ببعضِ الواجباتِ
إِذَا جُحِدَتْ، وَيُنْفَى عَنْهَا اسمُ الوجوبِ، وَالْخَصْمُ
يُكَفِّرُ بِهَا أَيْضاًً؛ وَلَكِنْ لاَ يَنْفِي عَنْهَا اسمَ
الوجوبِ؛ ثُمَّ إِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ مِنْ هَذِهِ التفرقةِ
مُجَرَّدَ الاصْطِلاَحِ، فَلاَ مشاحَّةَ.
لَكِنَّ الْمُصْطَلِحَ عَلَى الشيءِ يَحْتَاجُ إِلَى
أَمْرَينِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لاَ يُخَالِفَ الوضعَ العَامَّ لُغَةً أَوْ
عُرْفاً.
والثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا فَرَّقَ بَيْنَ مُتَقَارِنَيْنِ
يُبْدِي مُنَاسَبَةَ [لَفْظِ] = كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا
بالنسبةِ إِلَى مَعْنَاهُ؛ وَإِلاَّ كَانَ تَخْصِيصُهُ لأَحَدِ
المعنيينِ بِعَينِهِ بِذَلِكَ اللفظِ بِعَيْنِهِ، لَيْسَ
أَوْلَى مِنَ العكسِ.
قَالَ الشيخُ تَقِيُّ الدينِ: وَهَذَا الموضعُ الذي فَعَلَهُ
الحنفيةُ مِنْ هذا القَبِيلِ؛ لأَنَّهُمْ خَصُّوا المفروضَ
بالمعلومِ قَطْعاً مِنْ حَيْثُ إِنَّ الفَرْضَ هو التقديرُ،
والواجبَ بِغَيْرِ المعلومِ قَطْعاً مِنْ حَيْثُ إِنَّ
الوَاجِبَ هو الساقطُ، وهذا كَمَا قُلْنَا لَيْسَ فيه
مُنَاسَبَةٌ ظاهرةٌ بالنسبةِ إِلَى كُلِّ لَفْظَةٍ مَعَ
مَعْنَاهَا الذِي ذَكَرُوهُ، وُلَوْ عُكِسَ الأَمْرُ لَمَا
امْتَنَعَ؛ فالاصطلاحُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِذَلِكَ الحسنِ.
(ص): (والمندوبُ والمستحبُ والتطوعُ والسنةُ مُتَرَادِفَةٌ،
خلافاً لبعضِ
(1/167)
أصحابِنَا، وهو لَفْظِيٌّ).
(ش): لاَ فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ هذه الألفاظِ عَلَى
المشهورِ.
وَمُرَادُهُ بـ (بعضِ أصحابِنَا) القَاضِي حُسَينٌ، فَإِنَّهُ
غَايَرَ بَيْنَهَا فَقَالَ: السُّنَّةُ: مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ
النبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والمستحبُ: مَا فَعَلَهُ مرةً أَوْ مرتينِ.
والتطوعُ: مَا يُنْشِئُهُ الإنسانُ باختيارِهِ مِنَ
الأَوْرَادِ.
وَتَبِعَهُ صاحبُ (التَّهْذِيبِ) وَ (الكَافِي).
وَكَذَا ذَكَرَهُ الغَزَالِيُّ فِي (الإِحْيَاءِ) قَالَ:
وَتُسَمَّى الأَقْسَامُ الثلاثةُ نوافلٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ
النَّفْلَ هُوَ الزيادةُ وَجُمْلَتُهَا زَائِدَةٌ عَلَى
الفَرَائِضِ، انْتَهَى.
والجمهورُ لاَ فَرْقَ.
وَجَعْلُهُ (13 ب) الخلافَ لَفْظِيًّا قَدْ يُنَازَعُ فِيهِ؛
لأَنَّ مَا
(1/168)
ثَبَتَ مُوَاظَبَتُهُ عَلِيهِ الصلاةُ
والسلامُ عَلِيهِ لاَ شَكَّ أَنَّهُ آكِدٌ مِمَّا فَعَلَهُ
مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَيُجَابُ بِأَنَّ كَوْنَ بعضُ
السننِ آكِدٌ مِنْ بعضٍ لاَ يُوجِبُ تَغَايُراً عَلَى مَا
سَبَقَ فِي الواجبِ والفرضِ.
(ص): (وَلاَ يَجِبُ بالشروعِ، خلافاً لأَبِي حَنِيفَةَ).
(ش): أَيْ: مَنْ تَلَبَّسَ بنفلِ صلاةٍ أو صومٍ، فله قَطْعُهَا
عِنْدَنَا بِالعُذْرِ وبغيرِهِ، وَلاَ يَجِبُ عليه القضاءُ،
لِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أحياناً يَنْوِي صومَ التطوعِ ثُمَّ
يُفْطِرُ، نَعَمْ يُسْتَحَبُّ الإتمامُ، لقولِهِ تَعَالَى:
{وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}.
وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنِيرِ عَنْ مَالِكٍ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَاحْتَجَّ لَهْ بقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ((لاَ يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ
(1/169)
إِذَا لَبِسَ لامَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا
حَتَّى يُقَاتِلَ)) وهذا الاستدلالُ ضعيفٌ، وفي الحديثِ إشارةٌ
إلى الاختصاصِ، فَقَوْلُهُ: ((لاَ يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ))
يَدُلُّ عَلَى مخالفةِ غَيْرِ النبيِّ لَهُ.
وَاحْتَجَّ لأَبِي حَنِيفَةَ بقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ للأعرابِيِّ لَمَّا قَالَ: هَلْ عَلَيَّ
غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: ((لاَ؛ إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ شَيئاً)).
والجوابُ مِنْ ثلاثةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: (لاَ) أَيْ: لَيْسَ عليكَ غَيْرُهَا،
والاستثناءُ منقطعٌ.
وَثَانِيهَا: مِنْ قَوْلِهِ: (تَطَوَّعَ) فَسَمَّاهُ
تَطَوُّعاً؛ لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: تَقْدِيرُهُ: إِلاَّ أَنْ
تَطَوَّعَ فَيَلْزَمُكَ التطوعُ.
ونحنُ نَقُولُ: تُقْدِيرُهُ: فَيَكُونُ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ.
وَتَقْدِيرُنَا أَرْجَحُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
ثَالِثُهَا: أَنَّ الاستثناءَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ
جِنْسِ الأولِ، فَيَلْزَمُ خِلاَفُ الإِجْمَاعِ، أَوْ مِنْ
جِنْسِهِ فَيِلْزَمُ الْمُدَّعِيَ، وَقَدْ أَوْرَدَ القاضِي
حسينٌ عَلَى هَذَا الأَصْلِ مَا لَوْ شَرَعَ المسافرُ فِي
الصلاةِ بِنِيَّةِ الإِتْمَامِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا فَإِنَّهُ
لاَ يَقْضِيهَا مَقْصُورَةً؛ بَلْ تَامَّةً، وَأَجَابَ
بِأَنَّهُ فَرْضٌ الْتَزَمَهُ بِعَقْدِهِ، (لأَنَّ الفرضَ
عَلَى المسافرِ الإِتْمَامُ كالمقيمِ، إِلاَّ أَنَّهُ جُوِّزَ
لَهُ القصرَ فِإِذَا لَمْ يَنْوِهِ فَقَدِ الْتَزَمَ الفرضَ
بِعَقْدِهِ، بخلافِ
(1/170)
مَا لَوْ شَرَعَ فِي التطوعِ فَإِنَّهُ
يَلْزَمُهُ بِحُكْمِ عَقْدِهِ.
تنبيهانِ:
الأولُ: كلامُ الْمُصَنِّفِ قَدْ يُوهِمُ أَنَّهُ لاَ خلافَ
فِيهِ عِنْدَنَا، لَكِنَّ فِي (شَرْحِ الْفُرُوعِ) للشيخِ
أَبِي عَلِيِّ السِّنْجِي+: أَنَّ أَبَا زيدٍ الْمَرْوَزِيَّ
وبعضَ الأصحابِ قَالاَ: بوجوبِ إتمامِ الطوافِ عَلَى مَنْ
تَلَبَّسَ بِهِ، ثُمَّ غَلَّطَهُمَا فِيهِ، قَالَ بعضُهُمْ:
والظاهرُ أَنَّ ذلكَ مُخْتَصُّ بالطوافِ الواجبِ في الحجِّ،
والْعُمْرَةِ وَيُحْمَلُ كلامُهُمَا عليه، وَإِنْ كَانَ الحجُّ
والعمرةُ تطوعينِ؛ لأَنَّهُ يَجِبُ إتمامُ كُلِّ واحدٍ
مِنْهُمَا إِذَا أُحْرِمَ بِهِ، بخلافِ التطوعِ بالطوافِ لاَ
يَجِبُ إتمامُهُ إِلاَّ إِذَا نَذَرَهُ.
الثانِي: حكايتُهُ الخلافَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ
المشهورُ، لَكِنْ رَأَيْتُ في (شَرْحِ التَّلْخِيصِ) للشيخِ
أَبِي عَلِيِّ السِّنْجِيِّ+ قَبْلَ كِتَابِ الزكاةِ، أَنَّ
هذا مَحْكِيٌّ عَنْهُ في
(1/171)
(نَوَادِرِ ابْنِ سَمَاعَةَ) وَلَمْ نَزَلْ
نَعْتَمِدُهُ هَكَذَا حَتَّى قَدَمَ عَلَيْنَا أَبُو نَصْرِ
الْعِرَاقِيُّ وَقَالَ: لأَبِي حَنِيفَةَ في كتابِ الصَّدَاقِ
أَنَّ لَهُ الخروجَ مِنْ صَوْمِ التطوعِ إِلاَّ أَنَّهُ يَجِبُ
القضاءُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْخَلْوَةِ: تُوجِبُ
كَمَالَ الْمَهْرِ، وَلَوْ خَلاَ بِهَا مُحْرِماً أَوْ
صَائِماً وهي، مُحْرِمَةٌ أَوْ صَائِمَةٌ صَوْمَ فَرْضٍ، لاَ
يَكْمُلُ الْمَهْرُ، لِفَسَادِ الْخَلْوَةِ، وَلَوْ خَلاَ
بِهَا صَائِمٌ صَوْمَ تَطَوُّعٍ، كَمَّلَهُ، فَدَلَ عَلَى
أَنَّهْ جَعَلَ لَهُ الخروجَ مِنْ صَوْمِ التطوعِ حتى جَعَلَهْ
كالمفطرِ، فَكَمُلَ الْمَهْرُ بِهَا، وَلَوْ حَرَّمَ الخروجَ
لأَفْسَدَ الْخَلْوَةَ بِهِ، وَلَمَا أَكْمَلَ الْمَهْرَ كَمَا
جَعَلَهْ في صومِ الفرضِ، ثُمَّ كَانَ أَبُو نَصْرِ (14 أ)
الْعِرَاقِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَ الروايتينِ، فَيَقُولُ: إِنْ
خَرَجَ بِنِيَّةِ أَنْ يَقْضِيَهُ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِلاَّ
فَلاَ يَجُوزُ.
قَالَ: فَأَمَّا وُجُوبُ القَضَاءَ فَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ.
ثُمَّ قَالَ الشيخُ: ثُمَّ إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ نَاقَضَ
فَجَوَّزَ الْقُعُودَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَخَالَفَهُ
صَاحِبَاهُ، فَطَرَدَا الْقِيَاسَ وَمَنَعَا العُقُودَ.
(1/172)
(ص): (وُجُوبُ إِتْمَامِ الحجِّ؛ لأَنَّ
نَفْلَهُ كَفَرْضِهِ: نِيَّةَ وَكَفَّارَةً وَغَيْرَهُمَا).
(ش): هَذَا جوابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: إِنَّ
مَنْ تَلَبَّسَ بَحَجٍّ تَطَوُّعٍ، فَعَلَيْهِ إِتْمَامُهُ،
وَلاَ يَجُوزُ قَطْعُهُ عِنْدَنَا، وَأَجَابَ: إِنَّمَا خَرَجَ
الْحَجُّ عَنِ القاعدةِ لِخُصُوصِيَّةٍ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ
حُكَمَ نَفْلِهِ كَحُكْمِ فَرْضِهِ فِي النيَّةِ والكَفَّارَةِ
وغَيْرِهِمَا. والذي يَظْهَرُ: عَدَمُ الاحْتِيَاجِ إلى هذا؛
لأَنَّ الكلامَ في المندوبِ عَيْناً، والحَجُّ بخلافِ ذَلِكَ،
فَإِنَّهُ لاَ يُتَصَوَّرُ لَنَا حَجُّ تَطَوُّعٍ، فِإِنَّ
الْمُخَاطَبُ بِهِ إِنَّمَا هُوَ المستطيعُ فَإِنْ كَانَ لَمْ
يَحُجْ فَهُوَ فِي حَقِّهِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَإِلاَّ فَفَرْضُ،
كِفَايَةٍ فَإِنَّ إِقَامَةِ شَعَائِرِ الحَجِّ مِنْ فُرُوضِ
الكِفَايَةِ على الْمُكَلَّفِينَ، وَحِينَئِذٍ فَلاَ يَبْقَى
إِشْكَالٌ في امْتِنَاعِ الخروجِ مِنْهُ إِلاَّ عَلَى
قَوْلِنَا: إِنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لاَ يَلْزَمُ
بِالشُّرُوعِ، عَلَى مَا سَيَاتِي.
وَهُنَا تنبيهانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ
فِي (الأُمِّ) هَذَا السؤالَ وَأَجَابَ عَنْهُ باختصاصِ
الْحَجِّ بِأَحْكَامٍ مِنْهَا: لُزُومُ الْمُضِيُّ فِي
فَاسِدِهِ بِخِلاَفِ الصلاةِ وَغَيْرِهَا.
وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ جَوَابِ الْمُصَنِّفِ، وَمَعْنَاهُ:
أَنَّهُ يَجِبُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ، فَكَيْفَ فِي
صَحِيحِهِ؟ وَذَكَرَ المَاوَرْدِيُّ فِي (الْحَاوِي)
الفَرْقَيْنِ.
الثَّانِي: أَنَّ كَلاَمَ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ
يَخْرُجْ عَنِ القاعدةِ غَيْرُ الحجِّ، لَكِنْ اسْتَثْنَى
بَعْضُهُمْ أَيْضاًً: الأُضْحِيَةَ، فَإِنَّهَا سُنَّةٌ،
وَإِذَا ذُبِحَتْ لَزِمََتْ بالشروعِ، ذَكَرَهُ
(1/173)
السَّاجِيُّ في (نُصُوصِ الشَّافِعِيُّ).
(ص): (والسببُ: مَا يُضَافُ الْحُكْمُ إِلَيْهِ للتعلقِ بِهِ
مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَعْرُفٌ أَوْ غَيْرُهُ).
(ش): الأحكامُ الثابتةُ بخطابِ الوضعِ أصنافٌ، منها: الْحُكْمُ
عَلَى الوصفِ بِكَوْنِهِ سَبَباً، وهو خَاصٌّ بِالحُكْمِ الذي
عُرِفَتْ عِلَّتُهُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: شَرْطُهُ
أَنْ يَكُونَ ظَاهِراً مَضْبُوطاً مُخَيَّلاً أَوْ شَبَهِيًّا؛
فُلَلَّهِ تَعَالَى في الزَّانِي حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا:
تَحْرِيمُ ذَلِكَ عليه، والثانِي: جَعْلُ زِنَاهُ سَبَباً
لِوُجُوبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ.
وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: (للتعلقِ بِهِ)، إلى أَنَّ مَعْنَى
كَوْنِهِ حُكْماً تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ
إِيرَادُهُمْ، أَنَّ الزِّنَا حَادِثٌ، والإيجابُ قديمٌ،
والحادثُ لاَ يُؤَثِّرُ في القديمِ.
(1/174)
وبقولِهِ: (مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَعْرُفٌ)
إلى أَنَّهُ لَيْسَ المرادُ مِنَ السببِ كَوْنِهِ مُوجِباً
لِذَلِكَ لِذَاتِهِ أو لصفةٍ ذَاتِيَّةٍ كَمَا تَقُولُ
المعتزلةُ؛ بَلْ المرادُ مِنْهُ إِمَّا الْمُعَرِّفُ للحُكْمِ،
وعليه الأكثرونَ، أَوِ المُوجِبُ لاَ لِذَاتِهِ وَلاَ لِصِفَةٍ
ذَاتِيَّةٍ، وَلَكِنْ بِجَعْلِ الشارعُ إِيَّاهُ مُوجِباً
وَهُوَ اختيارُ الغَزَالِيِّ وإليه أَشَارَ الْمُصَنِّفُ
بقولِهِ: (أَوْ غَيْرِهِ) لِيَمْشِيَ التعريفُ عَلَى المذاهبِ
كُلِّهَا، فَعَلَى الثانِي هُوَ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ
لِذَاتِهِ، وعلى الثالثِ مَا يُضَافُ إليه بِجَعْلِ الشارعُ
إِيَّاهُ، وَقَدْ تَعَرَّضَ الْمُصَنِّفُ لهذا الخلافِ في بابِ
القياسِ، صَدْرُ الكلامِ عَلَى العِلَّةِ، وَلاَ يُقَالُ:
هَذَا التعريفُ صَادِقٌ على العِلَّةِ؛ لأَنَّا نَقُولُ: لاَ
بُدَّ فِي العِلَّةِ مِنَ المناسبةِ بخلافِ السببِ، وَمُرَادُ
الغَزَالِيِّ أَنَّ الموجبَ للحُكْمِ بالحقيقةِ هو الشارعُ،
وَإِنَّمَا نَصَبَ السببَ للحُكْمِ لِعُسْرِ الوقوفِ على خطابِ
اللَّهِ تَعَالَى، لاَ سِيَّمَا بَعْدَ انقطاعِ الوَحْيِ،
كَالعَلامَةِ فَشَابَهَ مَا يَحْصُلُ الحُكْمُ، عِنْدَهُ لاَ
بِهِ فَيُسَمَّى
(1/175)
باسمِهِ.
(ص): (وَالشَّرْطُ يَاتِي).
(ش): يَعْنِي: فِي بَابِ التخصيصاتِ (14 ب) إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي السببِ مِنَ
الظهورِ والإخالةِ، ولا وَجْهَ لاقتصارِ الْمُصَنِّفِ عَلَى
شرطِ ذَلِكَ فِي المانعِ دُونَ السببِ والشرطِ، وَقَدْ
جَعَلُوا النصابَ فِي الزكاةِ سبباً، والْحَوْلَ شَرْطاً.
فَإِنْ قِيلَ: هَلاَّ عَكَسُوا؟
قُلْنَا: لأَنَّ الشارعَ إِذَا رَتَّبَ حُكْماً عَقِبَ
أَوْصَافٍ، فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مناسبةً، فالجميعُ عِلَّةٌ
كالقتلِ العَمْدِ العُدْوَانِ، وَإِنْ نَاسَبَ البعضُ فِي
ذَاتِهِ دُونَ البعضِ، فالمناسبُ فِي ذَاتِهِ سببٌ والمناسبُ
فِي غَيْرِهِ شرطٌ، فالنصابُ يَشْتَمِلُ عَلَى الغِنَى ونعمةِ
الملكِ في نَفْسِهِ، والحولُ مُكَمِّلٌ لنعمةِ الملكِ
بالتمكينِ بالتنميةِ في جميعِ الحَوْلِ فهو شرطٌ.
(ص): (والمانعُ: الوصفُ الْوُجُودِيُّ الظاهرُ الْمُنْضَبِطُ
الْمُعَرِّفُ نَقِيضَ الحُكْمِ كالأبوةِ فِي القصاصِ).
(1/176)
(ش): الوصفُ المحكومُ عليه بِكَوْنِهِ
مَانِعاً يَنْقَسِمُ إلى: مانعِ الحُكْمِ، ومانعِ السببِ،
وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ هُنَا إِلاَّ إلى الأولِ،
وَلاَ بُدَّ أَنْ يَقُولَ: مَعَ بَقَاءِ حِكْمَةِ المُسَبِّبِ،
فَإِنَّ الأبوةَ مانعةٌ للحُكْمِ الذِي هُوَ القِصَاصُ
لِحِكْمَةٍ وهي كَوْنُ الأبِ سبباً فِي إِيجَادِهِ فَلاَ
يَكُونُ الابْنُ سبباً في إِعْدَامِهِ، وهذه الحكمةُ تَقْتَضِي
عَدَمَ القِصَاصِ الذِي هُوَ نقيضُ الحُكْمِ، وَحِكْمَةُ
السببِ باقيةٌ وهي الحياةُ، وَأَمَّا المانعُ للسببِ فَهُوَ
مَا يَسْتَلْزِمُ حِكْمَةً تُخِلُّ بحكمةِ السببِ كَالدَّيْنِ
في الزكاةِ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ مانعٌ مِنَ الوجوبِ،
فَإِنَّ حِكْمَةَ السببِ، وهي الغِنَى، مواساةُ الفقراءِ مِنْ
فَضْلِ مَالِهِ، وَلَمْ يَدَعِ الدَّيْنُ مِنَ المالِ فَضْلاً
يُواسِي بِهِ.
قالَ الْمُصَنِّفُ: وَإِنَّمَا لَمْ أَذْكُرْ هُنَا مانعَ
(1/177)
السببِ؛ لأَنَّ كلامَنَا هُنَا فِي
الحُكْمِ ومُتَعَلَّقَاتِهِ، وليستِ الأسبابُ عِنْدَنَا مِنَ
الأحكامِ خِلاَفاً لابْنِ الْحَاجِبِ، وَقَدْ تَضَمَّنَ
كِتَابُ القياسِ تعريفَ مانعِ السببِ، حَيْثُ قُلْنَا فَيهِ
عِنْدَ ذِكْرِ الْعِلَّةِ: وَمِنْ شروطِ الإلحاقِ بِهَا
اشتمالُهَا عَلَى حكمةٍ تَبْعَثُ على الامْتِثَالِ وَتَصْلُحُ
شَاهِداً لإِنَاطَةِ الحُكْمِ، وِمِنْ ثَمَّ كَانَ مَانِعُهَا
وَصْفاً وُجُودِياً يُخِلُّ بحكمتِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: هو إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الأحكامِ فهو مِنْ
مُتَعَلَّقَاتِ الأحكامِ فَكَانَ يَنْبَغِي ذِكْرُهُ.
قُلْنَا: الْمَعْنِيُّ بِمُتَعَلَّقَاتِ الأحكامِ: حاكمٌ
ومحكومٌ به وعليه، وشروطُ كُلِّ واحدٍ مِنْهَا، وليستِ
الأسبابُ مِنْ ذلك.
وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: فَكَيْفَ لَمْ يَذْكُرْ مانعَ السببِ
لذلكَ وَذَكَرَ السببَ؟
وَقَوْلُهُ: الْمَعْنِيُّ بِمُتَعَلَّقَاتِ الأحكامِ مَا
ذِكْرُهُ ممنوعٌ، بَلِ الأعمُ مِنْ ذلك، وَمَا المانعُ مِنْهُ؟
(ص): (والصحةُ: مُوَافَقَةُ ذِي الوجهينِ الشرعَ، وَقِيلَ: فِي
العبادةِ إسقاطُ القضاءِ).
(ش): المرادُ بِذِي الوجهينِ، مَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ تَارَةً
بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيِهِ حُكْمُهُ، وَتَارَةً بِحَيْثُ
لاَ يَتَرَتَّبُ كالصلاةِ والصومِ والبيعِ، وَاحْتَرِزْ بِهِ
عَمَّا لاَ يَقَعُ إِلاَّ على جهةٍ واحدةٍ، كمعرفةِ اللَّهِ
تَعَالَى وَرَدِّ الوديعةِ، فَلاَ يُوصَفُ بالصحةِ
وَعَدَمُهَا.
وَقَولُهُ: الشرعَ، أَيْ: لأَمِرِ الشرعِ، وَسَوَاءٌ وَجَبَ
قَضَاؤُهُ أَمْ لاَ، وَهَذَا التعريفُ لِلْمُتَكَلِّمِينَ،
وَمُرَادُهُمْ: فِي ظَنِّ الْمُكَلَّفِ، لاَ فِي نَفْسِ
الأمرِ، وَعُلِمَ مِنْ إطلاقِهِ،
(1/178)
شُمُولُ العباداتِ والمعاملاتِ، فَكَمَا
أَنَّ العبادةَ إِنْ وَقَعَتْ مُسْتَجْمَعَةَ الأركانِ
والشروطِ كَانَتْ صحيحةً وَإِلاَّ ففاسدةٌ، كذلك العقودُ إذا
صَدَرَتْ على الوجهِ الشرعِيِّ كَانَتْ صحيحةً وَإِلاَّ
ففاسدةٌ، وَقَدْ أَشَارَ إلى ذلك في العقودِ القاضِي أَبُو
بَكْرٍ وغيرُهُ، فَلاَ الْتِفَاتَ (15أ) لِمَنْ خَصَّ التعريفَ
بالعبادةِ، وإلى التعميمِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بقولِهِ:
وَقِيلَ فِي العباداتِ، فَعُلِمَ أَنَّ السابِقَ للأَعَمِّ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا جَعَلْتَ التعميمَ شامِلاً للأمرينِ فَلاَ
حاجةَ لِقَولِهِ ثانياً، وبصحةِ العقدِ تُرَتَّبُ آثَارُهُ.
قُلْنَا: هذا يُعْرَفُ جوابُهُ بِمَا سَيَاتِي، وَكَانَ حَقُّ
الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ: لاَ عَلَى وَجْهِ التَّشَبُهِ،
لِيُخْرِجَ المتعدِي بالفطرِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عليه الإمساكُ
= [تَشَبُّهاً] بالصائمينَ، وليسَ في صومٍ شَرْعِيٍّ على
الصحيحِ، ولهذا لَوِ ارْتَكَبَ مَحْظُوراً لاَ شيءَ عليه سِوَى
الإثمِ، بخلافِ الْمُحْرِمِ إِذَا أَفْسَدَ إِحْرَامَهُ،
وَأَشَارَ بقولِهِ (وَقِيلَ) إلى أَنَّ منهم مَنْ فَسَّرَ
الصحةَ في العبادةِ بإسقاطِ القضاءَ، وَبَنَوا على القولينِ
صَلاَةَ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ
حَدَثُهُ، فَعِنْدَ المتكلمِينَ وَقَعَتْ صحيحةً بالنسبةِ
إِلَى ظَنِّ الْمُكَلَّفِ، وَعِنْدَ الفُقَهَاءِ بَاطِلَةٌ.
وَأَشَارَ بعضُهُمْ إِلَى أَنَّ النزاعَ لَفْظِيٌّ، والأحكامَ
مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَجَرَى عليه +القَرَافِيُّ، قَالَ:
لأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا على أَنَّهُ مُوافِقٌ لأمرِ اللَّهِ
وَأَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ لاَ يَجِبُ عليه
القضاءُ إِذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ حَدَثُهُ، وَيَجِبُ إِذَا
تَبَيَّنَ، وَلَكِنَّ خلافَهُمْ في لفظِ الصحةِ: هَلْ وُضِعَ
لَمَّا وَافَقَ الأَمْرَ سَوَاءٌ أَوَجَبَ القضاءُ أَمْ لَمْ
يَجِبْ، أَوْ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ
قَضَاءٌ؟
وليسَ كذلكَ بَلِ الخلافُ معنويٌّ، والمتكلمُونَ لا يُوجِبُونِ
القضاءِ، وَوَصْفُهُمْ إِيَّاهَا بالصحةِ صَرِيحٌ في ذلكَ،
فَإِنَّ الصحةَ هِيَ الغايةُ، ولاَ يُسْتَنْكَرُ هَذَا،
فللشافعيِّ فِي القديمِ مِثْلُهُ، فِيمَا إِذَا صَلَّى
بِنَجَسٍ لَمْ يَعْلَمْهُ، ثُمَّ عَلِمَهُ، أَنَّهُ لاَ يَجِبُ
عَلِيهِ
(1/179)
القضاءُ، نَظَراً لموافقةِ الأمرِ حَالَ
التلَبُّسِ، وَكَذَا مَنْ صَلَّى إِلَى جِهَةٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ
الخطأَ، ففي القضاءِ قَوْلاَنِ للشافعيِّ، بَلِ الخلافُ بينهم
فيه على أَصْلٍ، وهو أَنَّ القضاءَ هَلْ يَجِبُ بالأمرِ الأولِ
أَوْ بمتجددٍ؟
فَعَلَى الأولِ بَنَى الفقهاءُ قولَهُمْ: إِنَّهَا سقوطُ
القضاءِ، وعلى الثانِي بَنَي المتكلمُونَ قولَهُمْ: إِنَّهَا
مُوَافَقَةُ الأمرِ، فَلاَ يُوجِبُونَ القضاءَ، مَا لَمْ
يَرِدْ نَصٌّ جديدٌ، وَيُؤَيِّدُ ذلكَ أَنَّ المتكلمِينَ
يَقُولُونَ: القضاءُ لاَ يَجِبُ بالأمرِ الأولِ، بَلْ بأمرٍ
جديدٍ، والفقهاءُ يَقُولُونَ بالأمرِ الأولِ، ولهذَا فَسَّرُوا
الصحةَ بسقوطِ القضاءِ.
تنبيهانِ:
الأولُ: في صحةِ هَذَا القولِ عِنْدَ الفقهاءِ نَظَرٌ،
والموجودُ فِي كُتُبِ الأصحابِ فِي بابِ صلاةِ الجماعةِ تقسيمُ
مَنْ صَحَّتْ صلاتُهُ إلى مَا يُغْنِي عَنِ القضاءِ
(1/180)
وَمَا لاَ يُغْنِي، فَلَمْ يَجْعَلُوا
الصحةَ عبارةً عَمَّا أَسْقَطَ القضاءَ.
الثاني: على تقديرِ ثبوتِهِ، فليسَ المرادُ مِنْهُ أَنَّ
الصحةَ نَفْسُ سقوطِ القضاءِ كَمَا يَقْتَضِيهِ نَقْلُ
الْمُصَنِّفِ وغيرِهِ، بَلِ المرادُ كَمَا قَالَ الصَفِيُّ
الْهِنْدِيُّ: كَوْنُ تلكَ العبادةِ بِحَيْثُ تُسْقِطُ
القضاءَ، وليسَ المعنَى أَنَّهُ وَجَبَ القضاءُ ثُمَّ سَقَطَ
بتلكَ العبادةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ وِفَاقاً، أَمَّا
إِذَا قُلْنَا: إِنَّ القضاءَ يَجِبُ بِأَمْرٍ جديدٍ فظاهرٌ،
وَإِنْ قُلْنَا بالأمرِ السابقِ فَكَذَلِكَ؛ لأَنَّ القضاءَ
إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ فَوَاتِ الفعلِ عَنْ وَقْتِهِ، أَمَّا
قَبْلَ الفواتِ فليسَ القضاءُ واجباً عِنْدَ أحدٍ حَتَّى
تَكُونَ العبادةُ المُؤَادَّةُ في الوقتِ مُسْقِطَةٌ للقضاءِ،
بَلْ معناهُ أَنَّهُ سَقَطَ قضاءُ مَا انْعَقَدَ بسببِ
وُجُوبِهِ، وعلى هذا فَيَسْقُطُ مَا أَوْرَدَهُ الإمامُ
وغَيْرُهُ عَلَى هَذَا القولِ مِنَ الإِشْكَالِ.
(ص): (وبصحةِ العقدِ تُرَتَّبُ آثَارُهُ).
(ش): المرادُ بالآثارِ مَا شُرِعَ ذلكَ العقدُ لَهُ، كالتصرفِ
فِي البيعِ والاستمتاعِ فِي النكاحِ وَنَحْوِهِ.
وَقَوْلُهُ: وبصحةِ العقدِ، خَبَرٌ مقدمٌ، وَقَوْلُهُ:
تُرَتَّبُ آثارُهُ، هُوَ المبتدأُ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الخبرُ
لأمرَيْنِ: صناعيٌّ، وهو عَوْدُ الضميرِ مِنَ المبتدأِ (15 ب)
وهو (الهَاءُ) فِي آثارِهِ، على بَعْضِ الخبرِ وهو (صحةُ
العقد) ِ على حِدِّ قولِهِ تَعَالَى: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ
أَقْفَالُهَا}، والثانِي بَيَانِيٌّ: وَهُوَ التنبيهُ على
الحصرِ، فَإِنَّ تقديمَ المعمولِ يُفِيدُ الحصرَ عِنْدَ
جماعةٍ، والمعنَى أَنَّ تَرَتُّبَ الأثرِ واقعٌ لصحةِ العقدِ
لاَ غَيْرَ، أَيْ: يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ المقصودُ مِنَ
التصرفِ، كَالْحِلِّ في النكاحِ، والمِلْكِ في البيعِ
والْهِبَةِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ تعريفِ غَيْرِهِ (صحةُ
العقدِ بِتَرَتُّبِ الأَثَرِ) كَمَا تَقُولُهُ الفقهاءُ،
فَإِنَّ تَرَتُّبَ الأثرِ أَثَرٌ على صحةِ العقدِ، فَإِنَّا
نَقُولُ: صَحَّ العقدُ فَتَرَتَّبَتْ آثَارُهُ عليهِ، فلهذا
لَمْ يَجْعَلِ الْمُصَنِّفُ
(1/181)
صحةَ العقدِ تَرَتُّبَ الأَثَرِ، بَلْ
بصحةِ العقدِ يَتَرَتَّبُ الأَثَرُ، وَفَرَّقَ بَيْنَ
قَوْلِنَا: الصحةُ يَنْشَأُ عَنْهَا تَرَتُّبُ الأَثَرِ،
وَتَرَتُّبُ الأَثَرِ يَنْشَأُ عَنِ الصحةِ، فَإِنَّ الأولَ
يَقْتَضِي أَنَّهَا حَيْثُ وُجِدَتْ تَرَتَّبَ عليهَا
الأَثَرُ، وعلى هذا فَيَجِيءُ الاعتراضُ بالبيعِ قَبْلَ
القبضِ، أَوْ فِي زَمَنِ الخيارِ، فَإِنَّهُ صحيحٌ، وَلَمْ
يَتَرَتَّبْ عليه أَثَرُهُ، إِذْ لَيْسَ للمشترِي التصرفُ مَعَ
إمكانِ الانفصالِ عَنْهُ، فَإِنَّ الأثرَ ليسَ الانتفاعُ، بَلْ
حصولُ الملكيةِ التِي يَنْشَأُ عَنْهَا إباحةُ الانتفاعِ،
والثانِي لاَ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا مُقْتَضَاهُ أَنَّ
تَرَتُّبَ الأثرِ إِذَا وُجِدَ مَنْشَؤُهُ الصحةُ، فَلاَ
يَلْزَمُ مِنِ ارتفاعِهِ ارتفاعُ الصحةِ، وَمَعَ سلامَتُهَا
مِنَ الاعتراضِ السابقِ ففيها إشارةٌ إلى أَنَّ المانعَ إِذَا
زَالَ
كالخيارِ، عَمِلَتِ الْعِلَّةُ عَمَلَهَا غيرَ مُسْتَنِدٍ
عَمَلُهَا إلى زَوَالِ المانعِ، هَذَا حاصلُ مَا قَالَهُ
الْمُصَنِّفُ، وَلَكَ أَنْ تُورِدَ عَلِيهِ الخُلْعَ والكتابةَ
الفاسدَيْنِ، فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عليهما أَثَرَهُمَا مِنَ
الْبَيْنُونَةِ والْعِتْقِ مَعَ أَنَّهُمَا غَيْرُ صحيحَيْنِ،
فَلَمْ يصحَّ قَوْلُهُ: إِنَّ تَرَتُّبَ الأثرِ يَنْشَأُ عَنِ
الصحةِ، وكذلكَ الوكالةُ والقِرَاضُ الفاسدَينِ، فإنَّ الوكيلَ
والعاملَ يستفيدانِ بِهِ التصرُّفَ، وَجَوَابُهُ مِنْ وجهَينِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ المرادَ تَرَتُّبُ كُلُّ آثَارِهِ عليه،
أَمَّا مَا يَتَوَقَّفُ على وجودِ شرطٍ أَوْ فَقْدِ مانعٍ،
بِحَيْثُ لَوْ حَصَلَ الشرطُ وَزَالَ المانعُ، يَحْصُلُ.
والثانِي: أَنَّ هَذِه الآثَارَ ليستْ مِنْ نَاحِيَةِ هذا
العقدِ الفاسدِ بَلِ الأمرُ خارجٌ عَنْ تَضَمُّنِهِ، وَهُوَ
صحيحٌ فِي نَفْسِهِ، أَمَّا الْخُلْعُ والكتابةُ، فَمِنْ
جِهَةِ التعليقِ، وَأَمَّا الوكالةُ والقِرَاضُ فَمِنْ جِهَةِ
الإِذْنِ، وَمَا فَرَّ مِنْهُ فِي عبارةِ الجمهورِ، لاَ
يَرُدُّ عليهم؛ لأَنَّ مُرَادُهُمْ بالترتبِ بالقوةِ لاَ
بالفعلِ فَيَخْرُجُ البيعُ مُدَّةَ الخيارِ قَبْلَ قَبْضِهِ،
فَإِنَّهُ لاَ تَتَرَتَّبُ ثَمَرَتُهُ عَلَيْهِ، وليسَ ذَلِكَ
لِعَدَمِ صحتِهِ، بَلْ لمانعٍ، وهو عَدَمُ اللزومِ، ثُمَّ
القولُ بِأَنَّ الصحةَ ليستْ تَرَتُّبَ الأثرِ، بَلْ كَوْنُهُ
بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ الأثرُ عَلَيْهِ، بمعنَى: وُقُوعُهُ
عَلَى وَجْهٍ مخصوصٍ - فَذَلِكَ أَمْرٌ عقليٌّ، ولأَجْلِهِ
قَالَ ابْنُ الحَاجِبِ: إِنَّ الصحةَ حُكْمٌ عقليٌّ لا شرعيٌّ
والْمُصَنِّفُ لا يَقُولُ بِهِ.
تَنْبِيهٌ: في معنَى العقدِ الحَلِّ كَالْفُسُوخِ، فَيَاتِي
فِيهِ مَا سَبَقَ.
(1/182)
(ص): (والعبادةِ إِجْزَاؤُهَا - أَيْ:
كِفَايَتُهَا - فِي سُقُوطِ التَّعَبُدِ، وَقِيلَ إِسْقَاطُ
القَضَاءِ).
(ش): العبادةُ مجرورٌ بالعطفِ على صحةِ العقدِ، أَيْ: وبصحةِ
العبادةِ إجزاؤُهَا، على حَدِّ قَوُلِهِ: وبصحةِ العقدِ
تَرَتُّبُ آثَارُهُ، والمعنَى أَنَّ إِجْزَاءَ العبادةِ
نَاشِئٌ عَنْ صحتِهَا، كَمَا فِي الصحةِ تَقُولُ: صَحَّتِ
العبادةُ فَأَجْزَأَتْ.
وَقَوْلُهُ: أَيْ: كِفَايَتُهَا، ـ تَفْسِيرٌ للإِجْزَاءِ،
أَيِ: الإجزاءُ هُوَ كفايةُ العبادةِ، أَيْ: كَوْنُ الفعلِ
كافياً فِي سقوطِ التعبدِ، فَإِذَا كَفَتْ فِي صحةِ التعبدِ
فهو الإجزاءُ (16 / أ) الناشيءُ عَنِ الصحةِ.
وَقَوْلُهُ: في سُقُوطِ التعبدِ، أَيْ: بالفعلِ، والمرادُ في
الجملةِ لاَ الفعلُ مِنَ الْمُكَلَّفِ، وَإِلاَّ لَوَرَدَ على
هذا القيدِ المغصوبُ إِذَا حَجَّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُ
مَعَ أَنَّهُ ليسَ مُتَعَبِّداً بِهِ في حَقِّ نَفْسِهِ،
وَلَوْ قَالَ: إِسْقَاطٌ بَدَلَ سُقُوطٍ لَكَانَ أَحْسَنُ،
وَهَذَا كَلُّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الصحةَ
بِمُوَافَقَةِ الأَمْرِ.
وَقَوْلُهُ: وَقِيلَ: إسقاطُ القضاءِ، وَنَقَلَهُ فِي
(الْمُنْتَخَبِ) عَنِ الفقهاءِ، وَنَازَعَهُ ابْنُ
التِّلْمِسَانِيِّ، قَالَ: الفقهاءُ لاَ يَقْتَصِرُونَ فِي
حَدِّ الإِجْزَاءِ على ذلكَ، لِيَلْزَمَ عليه مَا أَلْزَمَهُمْ
مِنْ أَنَّ سقوطَ القضاءِ بِطَرَيانِ+ العُذْرِ يَكُونُ
إِجْزَاءً، وَإِنَّمَا الفقهاءُ والمتكلمُونَ اتَّفَقُوا عَلَى
أَنَّهُ لاَ بُدَّ فيه مِنْ أَخْذِ الامتثالِ،
فالأُصُولِيُّونَ يَقْتَصِرُونَ عليه، والفقهاءُ يُضِيفُونَ
إليه إسقاطَ القضاءِ، فَيَقُولُونَ: الصحيحُ: المجزئُ وهو
الأداءُ الكافِي، وَهَذَا بِنَاءً منهم على أَصْلِهِمْ، أَنَّ
القضاءَ بالأمرِ الأولِ، والقضاءُ عِنْدَ المتكلمِينَ بأمرٍ
ثانٍ.
تَنْبِيهٌ: عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الإِجْزَاءَ لاَ يَكُونُ
إِلاَّ فِي الْعِبَادَةِ، بخلافِ الصحةِ فَإِنَّهَا
(1/183)
تَكُونُ في العبادةِ والعقودِ.
(ص): (وَيَخْتَصُّ الإجزاءُ بالمطلوبِ وَقِيلَ: بالواجِبِ).
(ش): مِمَّا يَفْتَرِقُ فيه الصحةُ والإجزاءُ: أَنَّ الصحةَ
تَكُونُ في كُلِّ مطلوبٍ وغيرِهِ وِفَاقاً.
وَاخْتُلِفَ في الإِجْزَاءِ: هَلْ يَعْمُّ كُلَّ مطلوبٍ مِنْ
واجبٍ ومندوبٍ، أَوْ يَخْتَصُّ بالواجبِ، فَلاَ يُوصَفُ
المندوبُ بالإجزاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ؟
والثانِي نَصَرَهُ الْقَرَافِيُّ وَالأَصْبَهَانِيُّ شَارِحاً
(الْمَحْصُولِ) وَاسْتَبْعَدَهُ والدُ الْمُصَنِّفِ فِي
(شَرْحِ الْمِنْهَاجِ)، وَقَالَ: كلامُ الفقهاءِ يَقْتَضِي
أَنَّ المندوبَ يُوصَفُ بالإجزاءِ كالفرضِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي
الحديثِ: (أَرْبَعٌ لاَ تُجْزِئُ فِي الأَضَاحِي) وَاسْتَدَلَّ
بِهِ مَنْ قَالَ بوجوبِ الأُضْحِيَةِ،
(1/184)
وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ. انْتَهَى.
ولهذا رَجَّحَ الْمُصَنِّفُ هَذَا القولَ حَيْثُ صَدَّرَ بِهِ
كلامَهُ، وَفِيمَا نَقَلَهُ عَنِ الفقهاءِ نَظَرٌ، وَقَدِ
احْتَجَّ أصحابُنَا عَلَى إِيجَابِ الفَاتِحَةِ بروايةِ
الدَّارَقُطْنِيِّ: ((لاَ تُجْزِئُ صَلاَةٌ لاَ يُقْرَأُ
فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ)) وَقَالُوا: إِنَّهُ أَدَلُّ عَلَى
الوجوبِ مِنْ روايةِ الصحيحَينِ. (لاَ صَلاَةَ إِلاَّ
بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) وَكَذَا احتجاجُهُمْ عَلَى إِيجَابِ
الاستنجاءِ بحديثِ: ((إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى
الْغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ،
فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عَنْهُ)) قَالُوا: والإجزاءُ لاَ يَكُونُ
إِلاَّ عَنْ وَاجِبٍ.
(ص): (وَيُقَابِلُهَا الْبُطْلاَنُ وهو الفسادُ خلافاً لأَبِي
حَنِيفَةَ).
(ش): الضميرُ في (يُقَابِلُهَا) عائدٌ على مُطْلَقِ الصحةِ،
لاَ على صحةِ العقودِ، ولاَ صحةِ العباداتِ، فَيَاتِي في
تفسيرِهِ الخلافُ، فَيَكُونُ الْبُطْلاَنُ مُخَالَفَةُ ذِي
(1/185)
الوجهَيْنِ الشرعَ، أَوْ عَدَمُ إسقاطِ
القضاءِ في العبادةِ، وهو والفسادُ، عِنْدَنَا مترادفانِ،
فَنَقُولُ: بَطُلَتِ العبادةُ وَفَسَدَتْ، وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: مُتَبَايِنَانِ؛ فَالباطلُ عِنْدَهُ: مَا لَمْ
يُشَرَّعْ بِالْكُلِّيَةِ، كبيعِ مَا في البطونِ.
والفاسد: مَا شُرِّعَ بأصلِهِ، وَلَكِنِ امْتَنَعَ لاشتمالِهِ
على وَصْفٍ كَالرِّبَا.
نَعَمْ: فَرَّقَ أصحابُنَا بَيْنَ الباطلِ والفاسدِ فِي
الْحَجِّ، والْعَارِيَةِ
(1/186)
والْخُلَعِ والْكِتَابَةِ، وَغَيْرِهَا
مِنَ الأَبْوَابِ.
(ص): (وَالأَدَاءُ فِعْلُ بعضٍ ـ وَقِيلَ:= [كُلُّ]ـ مَا
دَخَلَ وَقْتُهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ).
(ش): قَوْلُهُ: فِعْلُ بَعْضٍ مَا دَخَلَ وَقْتُهُ، جِنْسٌ
يَدْخُلُ فِيهِ بعضُ مَا دَخَلَ وقتُهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ،
وَمَا دَخَلَ وَلَمْ يَخْرُجْ.
وَقَوْلُهُ: قَبْلَ خُرُوجِهِ، فَصْلٌ، يُخْرِجُ فِعْلَهُ
بَعْدَ خُرُوجِهِ، وهو القضاءُ، وَإِنَّمَا قَالَ: بَعْضٍ
لأَنَّ الأَصَّحَ عِنْدَنَا (16 ب) فَيمَنْ فَعَلَ بعضَ
العبادةِ في الوقتِ، وبعضُهَا خَارِجَهُ ـ أَنَّهَا تَكُونُ
أداءً كُلُّهَا، لَكِنْ بشرطِ أَنْ يَكُونَ المَاتِيُّ بِهِ
فِي الوقتِ رَكْعَةٌ. ولاَ يُفْهَمُ مِنْ لفظِ: بعضٍ، أَنَّهُ
للتقييدِ، حَتَّى يَلْزَمَ أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ الكُلَّ لاَ
يَكُونُ أَدَاءً؛ لأَنَّ مَنْ فَعَلَ الكُلَّ فَقَدْ فَعَلَ
البعضَ وَزَادَ.
إِذَنْ فاعلُ البعضِ صادقٌ على الصورتَينِ،
(1/187)
وَإِنَّمَا كَانَ يَلْزَمُ السؤالُ أَنَّ
لَوْ قَالَ: فِعْلُ البعضِ يُفِيدُ البعضيةَ، وليسَ الأمرُ
كذلكَ، مَعَ أَنَّ كَوْنَ فِعْلُ الكُلِّ في الوقتِ أداءً في
غَايَةِ الوضوحِ، وَأَوْلَى بِكَونِهَا أداءً مِنْ فِعْلِ
البعضِ، واعْلَمْ أَنَّ كلامَهُ إِنْ سَلِمَ مِنْ هذه
الحيثيةِ، فهو خارجٌ عَنْ صناعةِ الحدودِ، فَإِنَّ المفعولَ
جميعَهُ في الوقتِ هو المقصودُ، فَجَعْلُهُ مُسْتَفَاداً مِنَ
المفهومِ، أَوْ مِنْ أمرٍ خارجٍ عَنِ اللفظِ ـ إجحافٌ لاَ
حاجةَ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَطْلَقَ البعضَ، فَشَمَلَ مَا
دُونَ رَكْعَةٍ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إَنُّهُ إذا أَتَمَّ،
إِنَّمَا هَذَا إِنَّمَا يَاتِي فِي الصلاةِ، وكلامُهُ في
العبادةِ مِنْ حَيْثُ هي، فكيفَ يُعْرَّفُ العَامُّ بالخاصِّ،
وَأَشَارَ بقولِهِ: (وَقِيلَ: كُلُّ) إلى الوجهِ المقابلِ لَهُ
وهو أَنَّهَا لاَ تَكُونُ أَدَاءً، وَمَنْ قَالَ: بَعْضُهَا
أَدَاءٌ وَبَعْضُهَا قَضَاءٌ، فهو قائلٌ بِأَنَّهَا ليست
أَدَاءً، والكلامُ عَنِ العبادةِ بِتَمَامِهَا، وقولُهُ: كُلُّ
وبعضُ مضافانِ، وَفَصَلَ بَيْنَ المضافِ إِلَيْهِ، وهو مَا
دَخَلَ وَقْتُهُ قَبْلَ خروجِهِ، وَبَيْنَ المضافِ وهو: بَعْضُ
ـ بَقَوْلِهِ: وَقِيلَ: اختصاراًَ، وهو على حَدِّ قَوْلِكَ:
مَرَرْتُ بِغُلاَمِ إِمَّا زَيْدٍ وَإِمَّا عَمْرٍو، إِذَا
تَحَقَّقْتَ أَنَّهُ غُلاَمُ أَحَدِهِمَا وَشَكَكْتَ فِي
عَيْنِهِ، ومِثْلُهُ: قَطَعَ اللَّهُ يَدَ وَرِجْلَ مَنْ
قَالَهَا، تَقْدِيرُهُ: يَدَ مَنْ قَالَهَا وَرِجْلَ مَنْ
قَالَهَا.
قَالَ الفَرَّاءُ: لاَ يَجُوزُ حَذْفَ المضافِ إليهِ فِي
مِثْلِ هَذَا إِلاَّ في الْمُصْطَحَبَيْنِ، كاليدِ والرجلِ،
والنصفِ والربعِ، وقبلَ وبعدَ، وَأَمَّا نَحْوَ: دَارٍ وغلامٍ
فَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ فَيِهَا، لَوْ قُلْتَ: اشْتَرَيْتُ دَارَ
وَغُلاَم َزَيْدٍ، لَمْ يَجُزْ.
قُلْتُ: وَمِنَ الْمُصْطَحَبَيْنِ: بعضٌ وكلٌّ في كلامِ
المصنفِ. إِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَهُنَا أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا القيدَ الذِي زَادَهُ الْمُصَنِّفُ
على الْمُخْتَصَرَاتِ الأُصُولِيَّةِ ـ إِنَّمَا هُوَ رَايُ
الفقهاءِ، دَعَاهُمْ إليهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ
فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاَةَ)) وَلَعَلَّ الأصوليينَ لاَ
يُوَافِقُونَهُمْ على تسميتِهِ أَدَاءً، وعبارتُهُمْ طافحةٌ
بِذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ إِنَّمَا يَتِّمُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ
مُرَادُ الفقهاءِ بقولِهِمْ ـ في مفعولِ البعضِ ـ إِنَّهُ
أُدَاءٌ، مَعَ الْحُكْمِ عَلَى الباقِي بخروجِ الوقتِ،
وَإِنَّمَا وُصِفَ بِالأَدَاءِ تَبَعاً، وهو أَحَدُ
الاحتمالَيْنِ للشيخِ الإمامِ، وَقَالَ: إِنَّهُ المتبادرُ
مِنْ كلامِهِمْ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا بالاحتمالِ
(1/188)
الثانِي، وهو أَنَّ الكُلَّ فِي الوقتِ،
فَلاَ يَصِحُّ الاستدراكُ لأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ شيءٌ خارجَ
الوقتِ، وهذا هو الذي يَدُلُّ عليه لفظُ الشافعيِّ، فَإِنَّهُ
قَالَ فِي (الْمُخْتَصَرِ) فَإِذَا طَلَعَتْ الشمسُ قَبْلَ
أَنْ يُصَلِّي مِنْهَا رَكْعَةً، فَقَدْ خَرَجَ وَقْتُهَا،
فمفهومُهُ أَنَّهُ إِذَا صَلَّى ركعةً، لاَ يَخْرُجُ
وَقْتُهَا، وَأَنَّ الوقتَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بالنسبةِ إِلَى
مَنْ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَةً.
الثانِي: أَنَّهُ حَيْثُ لاَحَظَ الاصطلاحَ الفقهيَّ، فَكَانَ
يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: مَا دَخَلَ وقتُهُ الأصلِيُّ
والتبعيُّ، كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ الصلاتَيْنِ تأخيراً،
فَإِنَّ الْمُؤَخَّرَةَ تَكُونُ أَدَاءً على الصحيحِ مَعَ
أَنَّهُ خَرَجَ وَقْتُهَا الأصليُّ، لَكِنَّ وقتَ الثانيةِ
وَقْتٌ لَهَا بالتبعِ، وَحَكَى الإِمَامُ وَجْهاً: أَنَّهَا
تَكُونُ (17 أ) مَقْضِيَّةً عَلَى القاعدةِ، وفائدةُ الرخصةِ
رَفْعُ الإِثْمِ وَتَجْوِيزُ قَصْرِ الظُّهْرِ.
(ص): (وَالْمُؤَدَّى مَا فُعِلَ).
(ش): لَمَّا فَرَغَ مِنْ تعريفِ الأداءِ الذِي هو مصدرٌ،
أَخَذَ فِي تعريفِ الْمُؤَدَى الذِي هُو اسمُ المفعولِ،
وَإِنَّمَا عَرَّفَهُ، لِيُسْتَفَادَ وَلِيُنَبِّهَ عَلَى
مكانِ الاعتراضِ على مَنْ عَرَّفَ الأَدَاءَ بِمَا لاَ يَصِحُّ
إِلاَّ تعريفاً لِلْمُؤَدَّى، وَلِهَذَا قَالَ: مَا فُعِلَ،
وَلَمْ يَقُلْ المفعولَ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ المفعولِ
أَخْصَرُ مِنْ لفظِ مَا فُعِلَ؛ لأَنَّهُ أَرَادَ حِكَايَةَ
لفظِ ابْنِ الحَاجِبِ أَوْ بعضِهِ لِيُتَفَطَّنَ لَهُ؛ لأَنَّ
(مَا) فِي قَوْلِهِ: مَا فُعِلَ، نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، أَيْ:
شيءٌ فُعِلَ. والأداءُ في الحقيقةِ، فِعْلُ مَا دَخَلَ
وَقْتُهُ: وَفَرْقٌ بَيْنَ المصدرِ واسمِ المفعولِ فَإِنْ
قُلْتَ: يُخَلِّصُهُ مِنْ هَذَا جَعْلُهَا مصدريةً، قُلْتُ:
لاَ يَصِحُّ؛ لأَنَّ (مَا) المصدريةَ حَرْفٌ لاَ يَعُودُ
عَلَيْهَا ضَمِيرٌ، وَهُنَا ضميرٌ عَائِدٌ إليها، وهو
قَوْلُهُ: في وَقْتِهِ، والضميرُ لاَ يَعُودُ إِلاَّ على
الأسماءِ.
(ص): (والوقتُ: الزمانُ الْمُقَدَّرُ لَهُ شَرْعاً مُطْلَقاً).
(ش): هذا أَيْضاًً مِنْ زياداتِ الْمُصَنِّفِ على المختصراتِ،
فَإِنَّهُمْ لَمْ يُفْرِدُوا ضَابِطَ الوقتِ في الأداءِ،
وَإِنْ كَانَتْ عبارةُ ابْنِ الحَاجِبِ فِي حَدِّ الأداءِ
تَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَأَخَذَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ كلامِ
وَالِدِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: الأحسنُ عِنْدَي فِي تفسيرِهِ:
أَنَّهُ الزمانُ
(1/189)
المنصوصُ عليه للفعلِ مِنْ جِهَةِ الشرعِ،
فَإِنَّ المأمورَ بِهِ تَارَةً يُعَيِّنُ الآمِرُ وَقْتَهُ
كالصلواتِ الخمسِ وتوابعِهَا، وصيامِ رمضانَ، وزكاةِ الفطرِ،
فَإِنَّ جميعَ ذلكَ قُصِدَ فيه زمانٌ مُعَيَّنٌ، وَتَارَةً
يَطُلُبُ الفعلَ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ للزمانِ، وَإِنْ كَانَ
الأمرُ يَدُلُّ عَلَى الزمانِ بالالتزامِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ
الفعلِ وُقُوعُهُ في زمانٍ وَلَكِنْ ليسَ مقصوداً للشارعِ،
وَلاَ مأموراً بِهِ قَصْداً، فَالْقِسْمُ الأولُ يُسَمَّى
مُؤَقَّتاً، والثانِي يُسَمَّى غَيْرَ مُؤَقَّتٍ فَإِنَّ
القصدَ مِنْهُ الفعلَ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ للزمانِ، والقسمُ
الأولُ قُصِدَ فيه الفعلُ والزمانُ إِمَّا لمصلحةٍ اقتضَتْ
تَعِيينَ ذَلِكَ الزمانِ، وَإِمَّا تَعَبُّداً مَحْضاً.
والقسمُ الثانِي ليسَ فيه إِلاَّ قَصْدُ الفعلِ، فَلاَ يُوصَفُ
فِعْلُهُ بِأَدَاءٍ وَلاَ قَضَاءٍ؛ لأَنَّهُمَا فَرْعَا
الوقتِ، وَلاَ وَقْتَ لَهُ، وَمِنْ هذا القسمِ: الإيمانُ
والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عَنِ المنكرِ، وَعَنْ هَذَا
احْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بقولِهِ: شَرْعاً وقولِهِ: مُطْلَقاً.
أَيْ: سَوَاءٌ كَانَ مُضَيَّقاً كصومِ رمضانَ، أَوْ مُوَسَّعاً
كالصلاةِ، وَقَدْ تَكُونُ العبادةُ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ لاَ
نِهَايَةَ لَهُ كالطوافِ للإفاضةِ.
قُلْتُ: وَقَدْ ظَنَّ الْمُصَنِّفُ وغيرُهُ أَنَّ هَذَا مِنْ
تَحْرِيرَاتِ وَالِدِهِ، وَقَدْ سَبَقَهُ إلى ذلكَ الشيخُ
عِزُّ الدِّينِ فِي (أَمَالِيهِ) حَيْثُ قَالَ: الوقتُ على
قِسْمَيْنِ: وقتٌ يُسْتَفَادُ مِنَ الصيغةِ الدالةِ على
المأمورِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ الشرعِ حَدَّ
للعبادةِ ذلكَ الوقتَ أَوْ لَمْ يَحُدَّ، ووقتٌ يَحُدُّهُ
الشارعُ للعبادةِ مَعَ قَطْعِ النظرِ عَنْ كَوْنِ اللفظِ
اقتضاهُ أَمْ لاَ. والمرادُ بالوقتِ فِي حَدِّ الأَدَاءِ هو
الثانِي دُونَ الأولِ، وَبُنِيَ على ذَلِكَ أَنَّا إِذَا
قُلْنَا بالقولِ فِي الأوامرِ، فَأَخَذَ المأمورُ لاَ يَكُونُ
قضاءً لأَنَّهَا إِنَّمَا خَرَجَتْ عَنِ الوقتِ الذِي دَلَّ
عليهِ اللفظُ، وَإِنَّمَا تَكُونُ أَنْ لَوْ خَرَجَتْ عَنِ
وَقْتِهَا المضروبُ لَهَا.
(ص): والقضاءُ فِعْلُ كُلِ ـ وَقِيلَ: بعضِ ـ مَا خَرَجَ
وَقْتُ أَدَائِهِ، استدراكاً لِمَا سَبَقَ لَهُ مُقْتَضٍ
لِلْفِعْلِ مُطْلَقاً) (17 ب).
(1/190)
(ش): مَا سَبَقَ شرحُهُ فِي الأداءِ يَاتِي
بِعَيْنِهِ في القضاءِ فَنَقُولُ: (فِعْلُ كُلِّ)، جنسٌ
يَدْخُلُ فِيهِ مَا خَرَجَ وَقْتُهُ وَمَا لَمْ يَخْرُجْ،
وَاسْتَظْهَرَ بِقَوْلِهِ، ـ وَقِيلَ: الوجهَ الصائرَ إلى
أَنَّ الواقعَ فِي بعضِ الوقتِ يكونُ قضاءً، وَقَوْلُهُ:
خَرَجَ وقتُ أدائِهِ، يُخْرِجُ الأداءَ وَكَذَا الإعادةَ؛
لأَنَّ وَقْتُهَا وَقْتُ الأداءِ، وَقَدْ يُرَدُّ عَلَى هَذَا
القيدِ، مَا لَوْ شَرَعَ فِي الصلاةِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا، ثُمَّ
أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ ثَانِياً، فَإِنَّهُ قضاءٌ كَمَا
قَالَهُ القاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ، قَالَ الْمُتَوَلِّي في
(التَّتِمَّةِ) وَيَتَصَوَّرُ صَلاَةً تَكُونُ فِي الوقتِ
قضاءً بهذه الصورةِ. انْتَهَى.
لَكِنَّ الأصوليُونَ لاَ يُوافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَقْرُبُ
مِنْهُ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ العادمَ لِلْهَدْي يَصُومُ ثلاثةَ
أيامٍ قَبْلَ عَرَفَةَ، وَإِذَا تَأَخَّرَ عَنْ أيامِ التشريقِ
صَارَ قضاءً، فَلَوْ فَرَضَ أَنَّهُ أَخَّرَ
(1/191)
طوافَ الزيارةِ عَنْ أيامِ التشريقِ،
بِنَاءً على أَنَّهُ لاَ آخِرَ لوقتِهِ وَصَامَهَا لاَ يَكُونُ
أَدَاءً، وَإِنْ بَقِيَ الطوافُ؛ لأَنَّ تأخيرُهُ عَنْ
أَيَّامِ التشريقِ مِمَّا يَبْعُدُ وَيَنْدُرُ، فَلاَ يَقَعُ،
مُرَاداً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي
الْحَجِّ} حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنِ الإمامِ وَغَيْرِهِ، ـ
وَقَدْ تَقَعُ الصلاةُ خارجَ الوقتِ وَتَكُونُ أَدَاءً في
قَوْلِ بعضِ أصحابِنَا فيما لَوْ صَلَّى بالاجتهادِ، ثُمَّ
بَانَ الوقتُ.
وَقَوْلُهُ: (استدراكاً)، احترازاً عَمَّا فُعِلَ بَعْدَ وقتِ
الأداءِ لاَ بقصدِ الاستدراكِ، فَإِنَّهُ لاَ يُسَمَّى قضاءً.
وَقَوْلُهُ: (لِمَا سَبَقَ لَهُ مُقْتَضٍ للفعلِ) دَخَلَ في
تعبيرِهِ بالمقتضِي: الواجبُ، والمندوبُ فَإِنَّ القضاءَ
يَدْخُلُ فِيهِمَا، ولهذا قَالَ الفقهاءُ: يَقْضِي الرواتبَ،
وهو أَحْسَنُ مِنْ تَعْبِيرِ (الْمِنْهَاجِ) وَ
(الْمُخْتَصَرِ) بالوجوبِ.
والحاصلُ أَنَّهُ لاَ يُؤْمَرُ بقضاءِ عبادةٍ إِلاَّ أَنْ
يَتَقَدَّمَ سببُ الأمرِ بِأَدَائِهَا وَمَتَى لَمْ
(1/192)
يَتَقَدَّمْ ذَلِكَ، لَمْ يُؤْمَرْ
بالقضاءِ وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شُرُوطِ القضاءِ
تَقَدُّمُ الوجوبِ، بَلْ تقدمُ سَبَبِهِ، وَبِهِ صَرَّحَ
الإمامُ وغيرُهُ، فَإِنَّ الحائضَ تَقْضِي مَا حُرِّمَ
عَلَيْهَا فِعْلُهُ فِي وَقْتِ الحيضِ، والحرامُ لاَ يَتَّصِفُ
بالوجوبِ.
وَقَوْلُهُ: مُطْلَقاً. أَيْ: سَوَاءٌ كَانَ يَجِبُ أَدَاؤُهُ
كَالظُّهْرِ المتروكةِ عَمْداً أَمْ لَمْ يَجِبْ وَأَمْكَنَ
كصومِ المسافرِ، أَوِ امْتَنَعَ عَقْلاً كصلاةِ النائمِ، أَوْ
شرعاً كصومِ الحائضِ، وَهَذَا مِنَ الْمُصَنِّفِ بِنَاءً عَلَى
أَنَّ مَا انْعَقَدَ سَبَبُ وجوبِهِ وَلَمْ يَجِبْ لِمَانِعٍ
أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ تخفيفاً مِنَ الشارعِ سُمِّيَ
تَدَارُكُهُ بَعْدَ الوقتِ قضاءً على وجهِ الحقيقةِ، وهي
طريقةُ المتأخرِينَ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ إِطْلاَقَ
اسمِ القضاءِ على هذه الصورةِ يَكُونُ على وجهِ المجازِ،
لَكِنْ جَزَمَ بذلكَ فِي الحائضِ والمريضِ الذِي كَانَ يَخْشَى
الهَلاَكَ في الصومِ وَتَرَدَّدَ في بَقِيَّةِ الصورِ، ثُمَّ
رَجَّحَ كَوْنَهُ مَجَازاً.
قِيلَ: والخلافُ في ذلكَ لَفْظِيٌّ.
قُلْتُ: قَدْ تَظْهَرُ فائدتُهُ في النِّيَّةِ، إِذَا
شَرَطْنَا التعرضَ لِنِيَّةِ القضاءِ، قَالَ بَعْضُهُمْ
والحقُّ أَنَّ الْحَدَّ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِمْ: خَارِجُ
وَقْتِهَا، وَلاَ حَاجَةَ إلى قيدٍ آخَرَ؛ لأَنَّهُ مَتَى لَمْ
يَتَقَدَّمْ سببُهَا لاَ يَكُونُ المفعولُ بَعْدَ الوقتِ
تِلْكَ العبادةِ بَلْ غَيْرَهَا، ـ والمقضيُّ المفعولُ مَا
سَبَقَ في المُؤَدَّى يَاتِي بِعَيْنِهِ هُنَا حَتَّى
يَعْتَرِضَ عَلَى ابْنِ الحَاجِبِ فِي قَوْلِهِ: القضاءُ مَا
فُعِلَ لتعريفِ الْمَقْضِيِّ لاَ القضاءُ الذِي هو المصدرُ،
وَعَبَّرَ هُنَا بالمفعولِ لأَنَّهُ الأحسنُ وَإِنَّمَا
عَبَّرَ هُنَاكَ بِمَا فُعِلَ للتنبيهِ على الاعتراضِ،
فَاسْتَغْنَى بِهِ عَنْ تَكْرِيرِ العبارةِ هُنَا (18 أ).
(1/193)
(ص): (والإعادةُ: فِعْلُهُ فِي وَقْتِ
الأَدَاءِ، قِيلَ: لِخَلَلٍ، وَقِيلَ: لِعُذْرٍ. فَالصَّلاَةُ
الْمُكَرَّرَةُ مُعَادَةٌ).
(ش): إِنَّمَا قَالَ: (فِعْلُهُ) وَلَمْ يَقُلْ (مَا فُعِلَ)
كَمَا عَبَّرَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ، لِمَا سَبَقَ، وَكَانَ
يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بَعْدَ تَعْرِيفِ الإعادةِ،
وَالمُعَادُ المَفْعُولُ. كَمَا فَعَلَ فِي الأَدَاءِ
والقضاءِ، وَكَأَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنْهُ بِمَا سَبَقَ،
وَلِمَا سَنَذْكُرُهُ أَنَّ الإعادةَ قِسْمٌ مِنَ الأداءِ.
وَقَوْلُهُ: (فِي وَقْتِ الأَدَاءِ) يُخْرِجُ القضاءَ،
والمُرَادُ فِعْلُهُ ثَانِياً لِيُخْرِجَ الأَدَاءَ وَهُوَ
مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: (فِعْلُهُ) أَيْ: فِعْلُ المعادِ.
واعتبارُ الْمُصَنِّفِ الوقتَ في الإعادةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا
قِسْمٌ مِنَ الأداءِ لاَ قَسِيمُهُ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ
الآمِدِيُّ خِلاَفاً لِمَا وَقَعَ فِي عبارةِ (الْمِنْهَاجِ)
(وَالتَّحْصِيلِ).
وَفِي اعتبارِ الوقتِ فِيهِمَا اختلافُ عباراتِ
الْمُصَنِّفِينَ مِنَ الأُصُولِيِّينَ، وَمُقْتَضَى كلامِ
الفقهاءِ أَنَّهَا للأعمِّ مِنْ ذَلِكَ الوقتِ وَبَعْدَهُ
إِذَا كَانَ مَسْبُوقاً بِأَدَاءٍ مُخْتَلٍّ كصلاةِ فَاقِدِ
الطَّهُورَيْنِ، والْعَارِي، والمحبوسِ في موضعٍ نجسٍ لاُ
يُجَدُ غَيْرَهُ، وَمَنْ عليه نَجَاسَةٌ لاَ يَقْدِرُ عَلَى
إِزَالَتِهَا، وَالمَرِيضُ لاَ يَجِدُ مَنْ يُحَوِّلُهُ إلى
القِبْلَةِ، وَنَحْوَهُ. مَعَ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ عَلَى
الثانِيَةِ لفظَ الإعادةِ وَإِنْ فُعِلَتْ خارجَ الوقتِ،
فَعُلِمَ أَنَّ الإعادةَ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا الوقوعُ فِي
الوقتِ، بَلْ هي عبارةٌ عَنْ فَعِلِ مِثْلِ مَا مَضَى، سَوَاءٌ
كَانَ المَاضِي صَحِيحاً أَوْ فَاسِداً، وَعَلَى هذا فَبَيْنَ
الإعادةِ والأداءِ عمومٌ وخصوصٌ مِنْ وَجْهٍ، فينفردُ الأداءُ
فِي الفعلِ الأولِ وتنفردُ الإعادةِ فِيمَا إِذَا قَضَى صلاةً
(1/194)
وَأَفْسَدَهَا ثُمَّ أَعَادَهَا،
وَيَجْتَمِعَانِ فِي الصلاةِ الثانيةِ في الوقتِ.
وَقَوْلُهُ: (قِيلَ لِخَلَلٍ) أَيْ: اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ:
هِيَ فِعْلُ ذلكَ لِخَلَلٍ واقعٍ فِي الأُولَى، وَبِهِ جَزَمَ
فِي (الْمِنْهَاجِ) وَرَجَّحَهُ فِي (الْمُخْتَصَرِ) وَأَرَادَ
بِالْخَلَلِ فَوَاتَ الرُّكْنِ أَوِ الشرطِ كَمَا في المسائلِ
السابقةِ.
وَ (قِيلَ لِعُذْرٍ) عليه والمرادُ بِهِ مَا تَكُونُ الثانيةُ
فِيهِ أَكْمَلُ مِنَ الأُولَى وَإِنْ كَانَتِ الأُولَى صحيحةً،
وَبُنِيَ عليه الصلاةُ المُكَرَّرَةُ، فعلى الأولِ لَيْسَتْ
مُعَادَةً لانْتِفَاءِ الْخَلَلِ، وعلى الثَّانِي بِخِلاَفِهِ،
وَإِنَّمَا أَرْسَلَ الْمُصَنِّفُ الخِلاَفَ بِلاَ تَرْجِيحٍ
لأَنَّهُ زَيَّفَ في (شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ) القولَيْنِ بِمَا
إِذَا تَسَاوَتِ الجماعتَانِ مِنْ كُلِّ وجهٍ، وَاخْتَارَ
لِذَلِكَ أَنَّهَا مَا فُعِلَتْ فِي وَقْتِ الأَدَاءِ ثَانِياً
مُطْلَقاً، أَيْ: أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ لِخَلَلٍ أَوْ
لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِهِمَا، وهو ممنوعٌ؛ لأَِنَّهُ لاَ
يَدْرِي القبولَ في أَيِّهِمَا، فالاحتياطُ الإعادةُ، كَمَا
لَوْ تَرَجَّحَتِ الثانيةُ، وَأَوْرَدَ عليه أَنَّهُ يَنْبَغِي
زيادةُ المكررةِ بالجماعَةِ؛ لأَنَّ تِلَكَ الصلاةِ تُسَمَّى
مُعَادَةً على القولِ الثانِي، لاَ الأولَ؛ لأَنَّ فضيلةَ
الجماعةِ عُذْرٌ بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَرَّرَ الصلاةَ مِنْ
غَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنَّهَا لاَ تُسَمَّى إِعَادَةً، وَأَجَابَ
أَوَّلاً بِأَنَّ المرادَ المكررةُ لعذرٍ لاَ مطلقَ المكررةِ؛
لأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّ الإعادةَ مُطْلَقُ
فِعْلِهِ فِي وقتِ الأَدَاءِ، بَلْ فِعْلُهُ فِيهِ إِمَّا
لِخَلَلٍّ وَإِمَّا لِعُذْرٍ، ـ وثانياً: إِنَّا نَمْنَعُ
أَنَّ إِعَادَةَ الصلاةِ إِلاَّ لِعُذْرٍ يُسَمَّى إِعَادَةً.
(ص): (والْحُكْمُ الشرعيُّ إِنْ تَغَيَّرَ إلى سهولةٍ لِعُذْرٍ
مَعَ قيامِ السببِ للحُكْمِ الأصلِيِّ، فَرُخْصَةٌ، كَأَكْلِ
الْمَيْتَةِ، وَالْقَصْرِ، وَالسَّلَمِ، وَفِطْرِ مُسَافِرٍ
لاَ يُجْهِدُهُ
(1/195)
الصومُ وَاجِباً وَمَنْدُوباً، وَمُبَاحاً
وَخِلاَفُ الأَوْلَى).
(ش): جَعْلُ الرخصةِ والعزيمةِ مِنْ أقسامِ الحُكْمِ ذَكَرَهُ
الغَزَلِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ، لَكِنْ جَعَلَهُ الآمِدِيُّ
وابْنُ الْحَاجِبِ مِنْ أقسامِ الفعلِ، فالحُكْمُ جِنْسٌ.
وَقَوْلُهُ: (الشرعيُّ) قَيْدٌ زَادَهُ على الْمُخْتَصَرَيْنِ
(18 ب) وهو مُسْتَغْنًى عَنْهُ لأَنَّ كلامَهُ إِنَّمَا هو في
الشرعِيِّ، وَقَدْ قَالَ في أولِ الكتابِ، وَمِنْ ثَمَّ لاَ
حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ.
وَقَوْلُهُ: (إِنْ تَغَيَّرَ إلى سَهَولِةٍ) فَصْلٌ خَرَّجَ
بِهِ الحدودَ والتعازيرَ مَعَ تكريمِ الآدميِّ المقتضِي للمنعِ
مِنْهَا. وَقَوْلُهُ: (لِعُذْرٍ) أَخْرَجَ التخصيصَ، فَإِنَّهُ
تَغْيِيرٌ لَكِنْ لاَ لِعُذْرٍ.
وَقَوْلُهُ: (مَعَ قِيامِ السَّبَبِ لِلْحُكْمِ الأَصْلِيِّ)
يُرِيدُ أَنَّ شرطَ الرخصةِ أَنْ يَكُونَ المقتضِي لِلْحُكْمِ
(1/196)
قَائِماً، وَيُعَارِضُهُ المانعُ لسببٍ
راجحٍ عليه، كَأَكْلِ الميتةِ في حالِ الْمَخْمَصَةِ،
فَإِنَّهُ ثَبَتَ مَعَ قيامِ دليلِ التحريمِ على أَكْلِ
الميتةِ، واحترزَ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخاً
كَالآصَارِ التي كَانَتْ على مَنْ قَبْلَنَا وَنُسِخَتْ فِي
شريعتِنَا تيسيراً وتسهيلاً فلا يُسَمَّى نَسْخُهَا لَنَا
رُخْصَةً، وَأَشَارَ فِي (الْمُسْتَصْفَى) إلى أَنَّهَا
تُسَمَّى رُخْصَةً مَجَازاً، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هذا
التعريفَ لا يَطَّرِدُ، فَإِنَّ تَرْكَ صلاةِ الحائضِ عزيمةٌ
لاَ رخصةً، وهو مشروعٌ لِعُذْرِ الحَيْضِ مَعَ قيامِ الدليلِ
الْمُحَرِّمِ لَوْلاَ عُذْرُ الحيضِ، إِذْ يَحْرُمُ التركُ على
الطاهِرَةِ، كَمَا أَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ مَشْرُوعٌ
لِعُذْرِ الاضطرارِ مَعَ قِيامِ المُحَرِّمِ وَلَوْلاَ
الاضطرارُ؛ إِذْ يَحْرُمُ أُكْلُ الميتةِ على غَيْرِ المضطرِ.
وَقَسَّمَهَا إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: رخصةٌ واجبةٌ، كَأَكْلِ الميتةِ، وهو الصحيحُ،
وَقِيلَ: لاَ يَلْزَمُ الأكلُ؛ بَلْ يَجُوزُ، وَمِثْلُهُ
وُجُوبُ استدامَةِ لِبْسِ الْخُفِّ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ مِنَ
المَاءِ مَا يَكْفِيهِ على وَجْهٍ مَرْجُوحٍ، وَقَدْ يُنَازَعُ
في مُجَامَعَةِ الرُّخْصَةِ الوجوبَ؛ لأَنَّ الرخصةَ تَقْتَضِي
التَّسْهِيلَ، ولهذا قَالَ الإمامُ فِي بَابِ صلاةِ المسافرِ
مِنَ
(1/197)
(النَّهَايَةِ): يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ:
أَكْلُ الميتةِ ليسَ برخصةٍ، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ، ويَجُوزُ أَنْ
يُجَابَ عَنْهُ بالتيممِ، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى فَاقِدِ
المَاءِ وهو مَعْدُودٌ مِنَ الرخصِ، وهذا مِنَ الإمامِ
يَقْتَضِي تَرَدُّداً في أَنَّ الوجوبَ يُجَامِعُ الرخصةَ أَمْ
لاَ؟ ************ ولأَجْلِهِ قَالَ صَاحِبُهُ إِلْكِيَا
الْهَرَّاسُ= في كتابِهِ (أَحْكَامِ الْقُرْآنِ): الصحيحُ
عِنْدَنَا أَنَّ أكلَ الميتةِ للمضطرِ عزيمةٌ لاَ رخصةً،
كالفطرِ للمريضِ فِي رمضانَ ونحوه، وَقَالَ الشيخُ تقيُّ
الدينِ: لاَ مَانِعَ مِنْ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ رخصةٌ مِنْ
وَجْهٍ وعزيمةٌ مِنْ وجهٍ، فَمِنْ حَيْثُ قِيَامُ الدليلُ
المانعُ نُسَمِّيهِ رخصةً، وَمِنْ حَيْثُ الوجوبِ نُسَمِّيهِ
عزيمةً. فَحَصَلَ في مجامعةِ الرخصةِ للوجوبِ ثلاثةُ آراءٍ،
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاياً ثَالثاً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ هذا تنقيحاً للخلافِ وهو الأقربُ.
الثانِي: مندوبةٌ، كالفطرِ للمسافرِ، يَعْنِي: إِذَا بَلَغَ
ثلاثةَ مراحلَ.
الثالثُ: مُبَاحَةٌ، وهو كُلُّ مَا رُخِّصَ فيه مِنَ
المعاملاتِ كَالسَّلَمِ، فَإِنَّهُ وَرَدَ
(1/198)
النهيُ عَنْ بيعِ مَا ليسَ عِنْدَكَ
وَرُخِّصَ فِي السَّلَمِ، فشرطُ العنديةِ في البيعِ لسببِ
المقدرةِ على التسليمِ، ثُمَّ أُسْقِطَ هذا الشرطُ في
السَّلَمِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مشروعاً، حتى كَانَتِ العنديةُ
في السَّلَمِ مُفْسِدَةً لَهُ، وَإِنَّمَا سَقَطَ هذا الشرطُ
فيه، تَيْسِيراً على المحتاجِينَ لِيَتَوَصَّلُوا إِلَى
مقاصدِهِمْ مِنَ الأَثْمَانِ قَبْلَ إدراكِ غَلاَّتِهِمْ، مَعَ
توصلِ صاحبِ الدراهمِ إلى مقصودِهِ مِنَ الربحِ، فَكَانَ
رخصةً.
وَمِثْلُهُ: الْمُسَاقَاةُ وَالْقِرَاضُ وَالإِجَارَةُ
وَالْعَرَايَا، وَقَدْ صَحَّ الحديثُ بالتصريحِ فيها بالرخصةِ،
فَقَالَ: (وَأُرَخِّصُ فِي الْعَرَايَا) فَلَوْ مَثَّلَ بِهِ
الْمُصَنِّفُ لَكَانَ أَحْسَنُ، وَلأَنُّ الْغَزَالِيُّ فِي
(الْمُسَتَصْفَى) تَرَدَّدَ في ذَلِكَ فَقَالَ: قَدْ يُقَالُ:
إِنَّهُ رخصةً لأَنَّ عُمُومَ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ مَا ليسَ
عِنْدَهُ يُوجِبُ تحريمَهُ.
قَالَ: (19 أ) وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: السَّلَمُ عقدٌ آخرُ،
فَهُوَ بَيْعُ دَيْنٍ، وذلكَ بَيْعُ عَيْنٍ، فَافْتَرَقَا
وافتراقُهُمَا في الشرطِ لاَ يُلْحِقُ أَحَدَهُمَا الرُّخَصَ،
فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَجَازاً، وَأَنَّ قولَ
الراوِي: نَهْيٌ عَنْ بَيِعِ مَا ليسَ عِنْدَكَ، وَأُرَخِّصُ
فِي السَّلَمِ ـ تَجُوزُ فِي العبارةِ.
قُلْتُ: وقريبٌ مِنْ هذينِ الاحتمالَينِ وَجْهَانِ نَقَلَهُمَا
المَاوَرْدِيُّ: أَنَّ السَّلَمَ أَصْلٌ بنفسِهِ، أَوْ عَقْدُ
غَرَرٍ، جُوِّزَ للحاجةِ كالإجارةِ، وَأَمَّا الاعتراضُ
بِأَنَّهُ قَدْ يُنْدَبُ السَّلَمُ، بِأَنْ يُحْتَاجَ إلى
مَالِ الصبيِّ فَيُسْلَمَ فيه، فضعيفٌ؛ لأَنَّ ذَلِكَ لأمرٍ
عارضٍ، ليسَ لِكَوْنِهِ
(1/199)
سَلَماً، بَلْ لِكَوْنِهِ يُعَيِّنُ مصلحةَ
اليتيمِ، والكلامُ فِي السَّلَمِ مِنْ حَيْثُ هو سَلَمٌ،
وَاعْلَمْ أَنَّ تَمْثِيلَ الْمُصَنِّفِ وغيرِهِ يُوهِمُ
قَصْرَ الرخصةِ في المباحِ على المعاملاتِ وليسَ كذلكَ،
فَإِنَّهُ يَاتِي في العباداتِ كتعجيلِ الزكاةِ، وفي الحديثِ
التصريحُ بالرخصةِ للعباسِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلَمْ
يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الأصحابِ باستحبابِهَا، بَلِ اخْتَلَفُوا
فِي الجَوَازِ، ـ والصحيحُ الجوازُ، بَلْ قَدْ تَاتِي فِي
غَيْرِ العباداتِ والمعاملاتِ، وَلِهَذَا قَالَ في
(الْبَسِيطِ): شَعْرُ المأكولِ إِذَا جُزَّ فِي حياتِهِ ـ
طَاهِرٌ، رخصةً، لمسيسِ الحاجةِ إليها في المفارشِ، وَقَالَ
الإمامُ في (النهايةِ): إِنَّ لَبَنَ المأكولِ طاهرٌ، وَذَلِكَ
عِنْدِي فِي حُكْمِ الرُّخَصِ، فَإِنَّ الحاجةَ مَاسَّةٌ
إليها، وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِإِحْلاَلِهَا،
عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُنَازَعُ فِي مُجَامَعَةِ الرخصةِ
للإباحةِ إِذَا كَانَ أَصْلُهَا التحريمُ، فَإِنَّ القاضِي
حُسَين+ فِي فَتَاوَاهُ لَمَّا تَكَلَّمَ على الإكراهِ على
النقبِ والإخراجِ أَنَّهُ شُبْهَةً فِي سقوطِ القَطْعِ، قَالَ
الشيخُ
(1/200)
العباديُّ: لاَ أَقُولُ: أُبِيحُ
لِلْمُكْرَهِ النقبَ والإخراجَ عَنِ الْحِرْزِ، بَلْ أَقُولُ:
رُخِّصَ لَهُ فِيهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الإباحةِ والرخصةِ،
فَإِنَّهُ لَوْ حَلِفَ لاَ يَاكُلُ الحرامَ، فَأَكَلَ الميتةَ
للضرورةِ، حَنَثَ في يَمِينِهِ؛ لأَنَّهُ حَرَامٌ إِلاَّ
أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ
فيه. انْتَهَى.
وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لأَنَّ الأَعْيَانَ لاَ تُوصَفُ بِحِلٍّ وَلاَ
حُرْمَةٍ، فَيَبْقَى التناولُ وهو واجبٌ، فيكفَ يَكُونُ
حَرَاماً وليسَ ذَا وَجْهَينِ؟! ثُمَّ رَأَيْتُ الإِمَامَ
عَبْدَ الْعَزِيزِ شَارِحَ البَزْدَوِيِّ قَالَ: اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا فِي حَالِ
الضرورةِ: أَنَّهَا تَصِيرُ
(1/201)
مباحةً أَوْ تَبْقَى عَلَى الحرمةِ؟
فَذَهَبَ بعضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا لاَ تَحِلُّ، وَلَكِنْ
يُرَخَّصُ الفعلُ إِبْقَاءً لِلْمُهْجَةِ، كَمَا فِي
الإِكْرَاهِ عَلَى الكُفْرِ، وهو رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي
يُوسُفَ، وَأَحَدُ قَوْلَيِّ الشَّافِعِي، وَذَهَبَ أَكْثَرُ
أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَرْتَفِعُ في هذه
الحالةِ، وَذَكَرَ للخلافِ فائدتَينِ.
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ إِذَا صَبَرَ حتى مَاتَ لاَ يَكُونُ
آثِماً على الأولِ، بخلافِهِ على الآخرِ.
الثانيةُ: إِذَا حَلَفَ لاَ يَاكُلُ حَرَاماً فَتَنَاوَلَهَا
في حالِ الضرورةِ، يحنثُ على الأولِ ولاَ يَحْنَثُ على
الثانِي.
الرابعُ: خِلاَفُ الأَوْلَى، كالفطرِ لِمَنْ لاَ يَتَضَرَّرُ
بالصومِ َ، وَإِنَّمَا لَمْ يُمَثِّلْ بمسحِ الْخُفِّ كَمَا
مَثَّلَ بِهِ غيرُهُ؛ لأَنَّ فِي كَوْنِهِ رخصةً أَوْ عزيمةً
كالفطرِ خِلاَفاً، كَمَا رَأَيْتُهُ فِي تعليقِ الشيخِ أَبِي
حَامِدٍ.
تَنْبِيهَاتٌ:
الأولُ: عُلِمَ مِنِ اقْتِصَارِهِ عَلَى هَذِهِ الأربعةِ،
أَنَّ الرخصةَ لاَ تُجَامِعُ
(1/202)
التحريمَ وَلاَ الكراهةَ، وهو ظاهرُ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ .....)).
لَكِنَّ في كلامِ الأصحابِ مَا يُوهِمُ مَجِيئَهَا مَعَ
الرخصةِ.
أَمَّا التحريمُ: فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَوِ اسْتَنْجَى
بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَجْزَأَهُ، مَعَ أَنَّ اسْتِعْمَالَ
(19 ب) الذهبِ والفِضَََََّّّةِ حرامٌ، والاستنجاءَ بغيرِ
الماءِ رخصةٌ، إِلاَّ أَنْ يُقَالَ: هَذَا لَهُ جِهَتَانِ،
والتحريمُ مِنْ ناحيةِ مُطْلَقِ الاستعمالِ، لاَ مِنْ خصوصِ
الاستنجاءِ الذي هُوَ رخصةٌ، وَأَمَّا الكراهةُ فَكَالقَصْرِ
فِي أَقَلَّ مِنْ ثلاثةِ مَرَاحِلَ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، كَمَا
قَالَهُ المَاوَرْدِيُّ فِي بابِ الرَّضاعِ.
الثانِي: تقسيمُهُ الرخصةِ إلى واجبٍ ومندوبٍ ومباحٍ وخلافِ
الأَوْلَى -صريحٌ في أَنَّهَا مِنْ خطابِ الاقتضاءِ لاَ
الوضعِ، وَصَرَّحَ الآمِدِيُّ بِأَنَّهَا مِنْ أصنافِ خطابِ
الوضعِ.
(1/203)
الثالثُ: ضَبَطَ النَّوَوِيُّ في جزءِ
القيامِ الرخصةَ بِضَمِّ الخاءِ وإسكانِهَا، وَكَذَا ذَكَرَهُ
في (الْمُحْكَمِ)، وَاقْتَصَرَ فِي لُغَاتِ الرَّوْضَةِ عَلَى
التسكينِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الضمَّ، واشْتُهِرَ على أَلْسِنَةِ
كثيرٍ مِنَ الفقهاءِ ضَمُّ الراءِ وفتحُ الخاءِ، وهو لاَ
يُعْرَفُ فِي كُتُبِ اللغةِ، والمشهورُ أَنَّ المُتَرَخَّصَ
فِيهِ، يُقَالُ فَيهَ: رُخْصَةٌ، بضمتَينِ وَبِضَمِّ الأولِ
وإسكانِ الثانِي، ولاَ يُقَالُ بالفتحِ إِلاَّ للشخصِ
المُتَرَخِّصِ في الأمورِ كَهُمَزَةٍ وَلُمَزَةٍ وَضَحِكَةٍ،
وفيها لُغَةٌ ثالثةٌ: خرصةٌ، بتقديمِ الخَاءِ حَكَاهَا
الفَارَابِيُّ، والظاهرُ أَنَّهَا مقلوبةٌ مِنَ الأُوْلَى.
(ص): (وَإِلاَّ فَعَزِيمَةٌ).
(ش): يَعْنِي، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرِ الحُكْمُ، أَوْ
تَغَيَّرَ، وَلَكِنْ لاَ لعذرٍ على وجهِ التيسيرِ فعزيمةٌ.
(1/204)
سَوَاءٌ أَكَانَ وَاجِباً، أَوْ
مَنْدُوباً، أَمْ مُبَاحاً، أَمْ مَكْرُوهاً أَمْ حَرَاماً،
مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ عَزَمَ أَمْرَهُ؛ أَيْ: قَطَعَ وَحَتَّمَ،
سَهُلَ على المُكَلَّفِ أَوْ شَقَّ، وَمَا اقْتَضَاهُ إطلاقُ
الْمُصَنِّفِ مِنْ مَجِيءِ الأَحْكَامِ الخَمْسَةِ فِيهَا، هو
قضيةُ كلامِ البَيْضَاوِيِّ، وَقِيلَ عليها سِوَى الحرامِ وهو
قضيةُ كلامِ الإمامِ، وَقَالَ القِرَافِيُّ+: الوَاجِبُ
والمندوبُ فَقَطْ؛ لأَنَّهُمَا طَلَبٌ مُؤَكَدٌ، فَلاَ يَجِيءُ
المُبَاحُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: المَشْهُورُ أَنَّ الْعَزِيمَةَ لاَ تَكُونُ
إِلاَّ في الواجبِ لأَنَّهُمْ فَسَّرُوهَا بِمَا لَزِمَ
العبادَ بإلزامِ اللَّهِ تَعَالَى؛ أَيْ: بَإِيجَابِهِ على مَا
صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ.
(1/205)
(ص): (والدليلُ مَا يُمْكِنُ التوصُّلُ
بصحيحِ النظرِ فيه إلى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ).
(ش): قَالَ: (مَا يُمْكِنُ التوصُّلُ) وَلَمْ يَقُلْ مَا
يَتَوَصَّلُ للإشارةِ إلى أنَّ المرادَ التوصُّلُ بالقوةِ لاَ
بالفعلِ؛ لأنَّ الدليلَ قَدْ لاَ يُنْظَرُ فيه، ولاَ
يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يُسَمَّى دليلاً، وَخَرَجَ (بِصَحِيحِ
النظرِ) فَاسِدُهُ، كالشبهةِ، لعلهم أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ
(1/206)
التوصُّلَ لاَ يَحْصُلُ بالدليلِ، إِنَّمَا
يَحْصُلُ بالنظرِ فيه، والمرادُ بالمطلوبِ الخبريِّ،
التصديقيُّ؛ أَيْ بالنسبةِ المستفادةِ مِنَ الخبرِ، فَخَرَجَ
الْحَدُّ وَالرَّسْمُ، فَإِنَّهُمَا لبيانِ التصورِ لا
التصديقِ، وهذا التعريفُ يَعُمُّ الدليلَ القطعيَّ
والأَمَارَةَ، قَوْلِيًّا كَانَ أَوْ فِعْلِيًّا، فَإِنَّ
المطلوبَ يَعُمُّ ذَلِكَ، وَمَنْ خَصَّ الدليلَ بالقطعيِّ
احتاجَ إلى أَنْ يَزِيدَ فِيهِ إلى العَالِمِ بمطلوبٍ خبريٍّ،
وَتَدْخُلُ فيه المقدماتُ السابقةُ الصادقةُ، وَإِنْ حَصَلَ
فيها فَسَادٌ نُظِرَ بِفَسَادِ الترتيبِ؛ لأنَّ هذه المقدماتُ
يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَصُّلَ بصحيحِ النظرِ فيها إلى المطلوبِ،
وإطلاقُ الدليلِ على مَا أَفَادَ العلمَ أَوِ الظنَّ هو طريقةُ
الفقهاءِ، وَاخْتَارَهُ الشيخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَقَالَ: مَنْ
فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ: مَا يُؤَدِي إلى الظَّنِ لاَ
يُقَالُ لَهُ دَلِيلٌ، بَلْ أَمَارَةٌ، وَهُوَ خَطَأٌ؛ لأَنَّ
العربَ لاَ تُفَرِّقُ في التسميةِ بَيْنَ مَا يُؤَدِي إلى
العلمِ والظنِّ، فَلَمْ يَكُنْ لهذا الفرقِ وَجْهٌ، وَفِيمَا
قَالَهُ نَظَرٌ؛ لأنَّ هذا مِنْ بابِ الاصطلاحِ، ولاَ حَجْرَ
فيه، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ العربِ لاَ تَعْرِفُهُ
مَنْعُهُ عُرْفاً (20 أ).
(1/207)
(ص): (وَاخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا هَلِ
العلمُ عَقِيبُهُ مُكْتَسَبٌ).
(ش): مَنْ أَحَاطَ عِلْماً بوجهِ دليلِهِ لاَ بُدُّ أَنْ
يَكُونَ عالماً بالمدلولِ ضرورةً، إِذَا كَانَتْ مُقَدِّمَاتُ
دليلِهِ صادقةً منتظمةً على وجهٍ يَتَضَمَّنُ العلمُ بهِ
صِحَّةَ العلمِ بالمدلولِ، لَكِنْ هَلْ هو واقعٌ لقدرةِ
اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، اضطراراً، ولاَ مدخلَ للقدرةِ الحادثةِ
فيهِ، أَوْ هُوَ مَقْدُورٌ مُكْتَسَبٌ بالقدرةِ الحادثةِ؟
اخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا، فَذَهَبَ جماهيرُهُمْ إلى الثانِي،
وَذَهَبَ الأستاذُ أَبُو إِسْحَاقَ والإمامُ في (الْبُرْهَانِ)
والجَاحِظُ وَغَيْرُهُ مِنَ
(1/208)
المعتزلةِ إِلَى الأُوَلِ، واحتجَّ
الأستاذُ بِأَنَّ الناظرَ إِذَا أَنْهَى نظرَهُ، وَصَحِبَتْهُ
السلامةُ مِنَ الآفاتِ وَقَعَ لَهُ العلمُ بالمنظورِ فِيهِ،
شَاءَ أَوْ أَبَى، قَالَ: فَلَوْ كَانَ العِلْمَ وَاقِعاً مِنْ
فَعْلِ العبدِ لَكَانَ وَاقِعاً بِحَسْبِ قصدِهِ حتى كَانَ
يُمْكِنُهُ تَرْكُهُ، وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنَّهُ
مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ، وَاحْتَجَّ الجمهورُ، بِأَنَّهُ إِنَّمَا
لَمْ يُمْكِنْهُ الانصرافُ عَنْهُ لأَنَّ العلمَ بوجهِ الدليلِ
يَتَضَمَّنُ العلمَ بالمدلولِ، والقدرةُ على العلمِ بِوَجْهِ
الدليلِ يَتَضَمَّنُ القدرةَ على العلمِ بالمدلولِ، وحاصلُ هذا
الخلافِ يَؤَوَّلُ إلى مسألةٍ أُخْرَى مترجمةٍ، فَإِنَّ
العلومَ الحادثةَ تَنْقَسِمُ إلى ضَرُورِيٍّ وَكَسْبِيٍّ
عِنْدَ الجمهورِ، وَقَالَ الأستاذُ: إِنَّهَا بِأَسْرِهَا
ضروريةٌ، وَتَنْقَسِمُ عِنْدَهُ إِلَى هَمَجِيٍّ وإلى
فِكْرِيٍّ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ الْمُصَنِّفُ: اخْتَلَفَ
بِالبِنَاءِ للمَفْعُولِ، وَحَذَفَ أَئِمَّتُنَا مَعَ أَنَّهُ
أَخْصَرُ؛ لِأنَّهُ أَرَادَ التنبيهَ عَلَى أَنَّ الخلافَ
فيهنَّ وَقَعَ مِنْ أَئِمَّتِنَا لاَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
فِرَقِ المخالفِينَ مِنَ المعتزلةِ وغيرِهِمْ، وَاخْتُلِفَ
أَيْضاًً فِي العلمِ المستفادِ بالنظرِ بَعْدَ
الاتفاقِ على جوازِ وقوعِهِ ضَرُورِيًّا في قضيةِ العقلِ، هَلْ
يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ مُكْتَسَباً بالقدرةِ الحادثةِ ابتداءً
مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ نَظَرٍ، فَأَحَالَهُ القاضِي وَمُعْظَمُ
النظارِ في قضيةِ العقلِ، وَجَوَّزَهُ الأستاذُ أَبُو
إِسْحَاقَ وإمامُ الحَرَمَيْنِ.
وَلاَ خِلاَفَ أَنَّهُ ممتنعٌ بِحُكْمِ العادةِ، وَاعْلَمْ
أَنَّ المتكلمِينَ أَجْمَعُوا على ثبوتِ التلازُمِ، هَلْ هُوَ
عقليٌّ أَوْ عاديٌّ؟
فَذَهَبَ جَمْعٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا إلى الأولِ، وَقَالُوا:
النظرُ يَتَضَمَّنُ العلمَ بالمنظورِ فيه؛ أَيْ: يُلاَزِمُهُ
عَقْلاً لاَ يَنْفَّكُ عَنْهُ، وَقَالَ الآمِدِيُّ: إِنَّهُ
الحقُّ وَذَهَبَ الأَشْعَرِيُّ إلى
(1/209)
الثانِي كَمَا يَحْصُلُ الشِّبَعُ عَقِبَ
الأكلِ، وَرَدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كذلكَ، لَكَانَ خَرْقُهُ
جَائِزاً وَعَدَمُهُ مُمْكِناً وَهَهُنَا حُصُولُ العلمِ
وَاجِبٌ لاَ مَحَالَةَ، فَيَسْتَحِيلُ أَلاَّ يُحَصَّلَ عَقِبَ
كَمَالِ النظرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بالإيجابِ، وصَحَّحَهُ
الإمامُ في (الْمُحَصَّلِ)، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بالتوليدِ،
وهو قولُ المعتزلةِ، فَعَلَى القولِ الأولِ، يَكُونُ العلمُ
الحاصلُ عُقَيْبَ النظرِ ضَرُورِيًّا، وهو المختارُ عِنْدَ
إِمَامِ الحرمينِ وَإِلِكْيَا= وَغَيْرِهِمَا.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ بالعادةِ، فَلاَ يَجُوزُ خَرْقُهَا،
فَيَخْرُجُ حينئذٍ عَنْ كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا؛ إِذِ الضروريُّ
هو الذي يَلْزَمُ النفسَ لُزُوماً لاَ يَتَأَتَّى مَعَهُ
الانْفِكَاكُ عَقْلاً.
(ص): (وَالحَدُّ الجَامِعُ المَانِعُ، وَيُقَالُ: المُطَّرِدُ
المُنْعَكِسُ).
(ش): ذَكَرُوا فِي الحَدِّ عِبَارَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَامِعاً؛ أي: لأَفْرَادِ المحدودِ
مَانِعاً؛ أي: مِنْ دُخُولِ غَيْرِهِ فِيهِ، كَقَوْلِنَا:
الإنسانُ حيوانٌ نَاطِقٌ، وَلَوْ جَمَعَ وَلَمْ يَمْنَعْ، كـ
الإنسانُ حيوانٌ، أَوْ مَنَعَ وَلَمْ يَجْمَعْ كـ الإنسانُ
رجلٌ، لَمْ يَكُنْ حَدًّا صحيحاً للإنسانِ.
الثانيةُ: أَنْ يَكُونَ مُطَّرِداً مُنْعَكِساً، وَهَذَا
مَعُنَاهُ يَتَضَمَّنُ أَرْبَعَ قَضَايَا (20 ب) كُلَّمَا
وُجِدَ الحَدُّ وُجِدَ المحدودُ، وَكُلَّمَا انْتَفَى المحدودُ
انْتَفَى الحَدُّ، والثانيةُ لازمةٌ للأُولَى؛ لأنَّهَا عَكْسُ
نَقِيضِهَا فَأَغْنَتِ الأُولىَ عَنْهَا، وَكُلَّمَا انْتَفَى
الحَدُّ انْتَفَى المحدودُ،
(1/210)
وَكُلَّمَا وُجِدَ المَحْدُودُ وُجِدَ
الحَدُّ.
والرابعةُ لازِمَةٌ للثالثةِ؛ لأنَّها عَكْسُ نَقِيضِهَا،
كَمَا أَنَّ الثانيةَ لازمةٌ للأُولَى، فَصَارَتِ الأُولَى
والثالثةُ شَرْطَينِ لاَ بُدَّ مِنْهُمَا، ولهذا اقْتَصَرَ
عليهما ابْنُ الْحَاجِبِ بِقَوْلِهِ: أَيْ: إِذَا وُجِدَ
وُجِدَ، وَإِذَا انْتَفَى انْتَفَى، وبهذا التقديرِ يَنْدَفِعُ
تَوَهُّمُ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ مَعْنَى الاطِّرَادِ
والانْعِكَاسِ كُلَّمَا وُجِدَ الحَدُّ وُجِدَ المحدودُ،
وَكُلَّمَا انْتَفَى المحدودُ انْتَفَى الحَدُّ، ولاَ يَاخُذُ
ذَلِكَ مِنْ عَكْسِ القَضَايَا، وَلَوْ كَانَ كَمَا تَوَهَّمَ
لَمْ يَكْنْ لِذِكْرِ الانْعِكَاسِ فَائِدَةٌ.
إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَالمُطَّرِدُ هو المانعُ، والمُنْعَكِسُ
هو الجامعُ، هَذَا قَوْلُ الْغَزَالِيُّ وابْنُ الْحَاجِبِ،
وَغَيْرِهِمَا. وَفَوَاتُ الاطِّرَادِ هو أَنْ يُوجَدَ الحَدُّ
بدونِ المحدودِ كَقَوْلِنَا في الإنسانِ: إِنَّهُ حَيَوَانٌ.
وَفَوَاتُ الانْعِكَاسِ أَنْ يَنْتَفِي الحَدُّ ولاَ يَنْتَفِي
المحدودُ، كَقَوْلِنَا في الإنسانِ: إِنَّهُ رَجُلٌ.
وَأَمَّا القِرَافِيُّ+، فَإِنَّهُ عَكَسَ هذا، وَقَالَ:
المُطَّرِدُ هو الجامعُ والمُنْعَكِسُ هو المانعُ، وَتَمَسَّكَ
بالاستعمالِ اللُّغَوِيِّ، فَإِنَّ المفهومَ مِنْ قَوْلِنَا:
اطَّرَدَ كَذَا أَنَّهُ وُجِدَ وَاسْتَمَرَّ فَمَعْنَى الحَدِّ
المُطَّرِدِ هو الموجودُ في جَمِيعِ صُوَرِ المحدودِ
واعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ مَعْنَى وَصْفِهِ بِالاطِّرَادِ
أَنَّ تعريفَهُ المحدودُ مُطَّرِدٌ، وهو الذي تَحَقَّقَ
وَصْفُهُ بالحَدِّ، فالمرادُ اطِّرَادُ التعريفِ وَمُقْتَضَى
هذا الاعتراضِ، أَنْ يَكْتَفِيَ بِذْكِرِ الاطِّرَادِ عَنْ
ذِكْرِ الانْعِكَاسِ؛ لأنَّ اطِّرَادَ التعريفِ إِنَّمَا
يَكُونُ بِهِمَا.
والحقُ مَا قَالَهُ الأَوَّلُونَ، وهذا اصطلاحٌ غَيْرُ مُنَافٍ
للاستعمالِ اللُّغَوِيِّ فَلاَ مَشَاحَّةَ فِيهِ، وَلَيْسَ في
كلامِ الْمُصَنِّفِ تصريحٌ باختيارِ واحدٍ مِنَ القولَينِ
لاحتمالِ قَوْلِهِ المُطَّرِدِ المُنْعَكِسِ طَرِيقَيِّ
اللَّفِ والنشرِ،
(1/211)
وَمِثْلُ هذا البحثِ يَجِيءُ في وصفِ
العِلَّةِ بالاطِّرَادِ، فَاسْتَحْضِرْهُ في بَابِ القياسِ،
والحاصلُ أَنَّهُ: هَلِ المُطَّرِدُ عِبَارَةٌ عَمَّا يَلْزَمُ
مِنْ وُجُودِهِ الوجودُ، وَمِنْ عَدَمِهِ العَدَمُ، أَوْ
عِبَارَةٌ عَمَّا يَكُونُ شَامِلاً لِجَمِيعِ أَفْرَادِ
المُعَرَّفِ بِحَيْثُ لاَ يَشِذُّ مِنْهَا شيءٌ، وعلى هذا
فالجامعُ مرادفٌ لِلْمُطَّرِدِ، وَالمُنْعَكِسُ مرادفٌ
للمانعِ، وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ هذا الخلافَ حَادِثٌ بَيْنَ
المتأخرِينَ حتى وَقَفْتُ على كتابِ (التَّذْكِرَةِ فِي
أُصُولِ الدِّينِ) لأَبِي عَلِيِّ التَّمِيمِيِّ فَقَالَ:
الْجَمْعُ يُسَمَّى في اصطلاحِ عُلَمَائِنَا طَرْداً،
وَالْمَنْعُ عَكْساً.
وَقَالَ: اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الطَّرْدِ والعكسِ،
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلى أَنَّ الطَّرْدَ يُفِيدُ آحَادَ
المحدودِ عَلَى الشُّمُولِ بِلَفْظِ الإثباتِ كقولِنَا: كُلُّ
عَلَمٍ مَعْرِفَةٌ، والمنعَ يُفِيدُ مَنْعَ غَيْرِ المحدودِ
مِنَ الدخولِ فِيهِ على طريقةِ الطَّرْدِ، وَإِنْ كَانَ
بِلَفْظِ الإثباتِ، كقولِنَا: وَكُلُّ مَعْرِفَةٍ عَلَمٌ،
قَالَ: وَهُوَ صَحِيحٌ؛ إِذِ العَكْسُ رَدُّ المتقدمِ متأخراً
والمتأخرِ متقدماً، وَذَهَبَ آخَرُونَ إلى أَنَّ مجموعَ
هَاتَيْنِ العبارتَيْنِ طَرْداً، واسْتَعْمَلُوا فِي العَكْسِ
حَرْفَ النفِي، فَقَالُوا: كُلُّ مَا لَيْسَ بِعَلَمٍ فليسَ
بِمَعْرِفَةٍ، وَكُلُّ مَا ليسَ بِمَعْرِفَةٍ فليسَ بِعَلَمٍ.
انْتَهَى.
تَنْبِيهَاتٌ:
الأَوَّلُ: ذَكَرَ صاحبُ (التذكرةِ) أَيْضاًً أَنَّ هَذَا
التعريفَ لِلْحَدِّ قَوْلُ المتكلمِينَ، وَأَمَّا
المَنَاطِقَةُ فَقَالُوا: إِنَّ القَوُلَ الدالَّ على
مَاهِيَّةِ الشيءِ، وهو مَا يُتَحَصَّلُ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ
القريبِ وفصلِهِ، قَالَ: وَلاَ يُحْتَاجُ فِيهِ إلى ذِكْرِ
الطَّرْدِ والْعَكْسِ؛ لأنَّ ذلكَ يَتْبَعُ المَاهِيَّةَ،
ثُمَّ قَالَ (21 أ) بَعْدَهُ: وَاخْتَلَفُوا فِي الطَّرْد ِ
والعَكْسِ، هَلْ هُمَا مِنْ لَوَازِمِ صِحَّةِ الحَدِّ، أَوْ
شَرْطَانِ في صِحَّتِهِ؟
وفائدةُ الخلافِ أَنَّ مَنْ ذَهَبَ إلى أَنَّهُمَا مِنْ
لَوَازِمِ صِحَّتِهِ حَكَمَ بصحةِ الحَدِّ قَبْلَهُمَا، وَمَنْ
جَعَلَهُمَا شَرْطَينِ في الحَدِّ أَوْقَفَ صحتَهُ على
حُصُولِهِمَا؛ إِذْ لاَ يُعْلَمُ وُجُودُ المشروطِ مَعَ
انتفاءِ الشرطِ، وَمَا ذَكَرُوهُ لاَ يَصِّحُ في
(1/212)
الحَدِّ الحقيقيِّ فَإِنَّ الطَّرْدَ
والعَكْسَ فيه مِنْ لَوَازِمِ صِحَّتِهِ؛ لأنَّهُمَا
يَتْبَعَانِ المَاهِيَّةَ بالضرورةِ.
الثانِي: استعمالُ المُطَّرِدِ مَرْدُودٌ في العربيةِ، وَكَذَا
قَوْلُهُمْ: اطَّرَدَ، وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ على مَنْعِهِ،
فَقَالَ في بابِ مَا طَاوَعَ الذي فَعَلَهُ على فِعْلٍ:
وَرُبَّمَا اسْتَغْنَى عَنِ انْفَعَلَ في هذا البابِ، فَلَمْ
يُسْتَعْمَلْ، وذلكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: طَرَدْتُهُ فَذَهَبَ،
وَلاَ يَقُولُونَ: فَانْطَرَدَ، وَلاَ فَاطَّرَدَ، يَعْنِي
أَنَّهُمْ اسْتَغْنَوْا عَنْ لَفْظِهِ بلفظٍ لكونِهِ في
معنَاهُ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يَقُولُونَ: طَرَدُّتُهُ
فَذَهَبَ، وَلاَ يَقُولُ مِنْهُ انْفَعَلَ وَلاَ افْتَعَلَ
إِلاَّ في لُغَةٍ رَزِيلَةٍ.
قُلْتُ: على هذه اللغةِ قَوُلُ الشاعرِ ـ وهو قَيْسُ بْنُ
الخَطِيمِ ـ أَنْشَدَهُ صاحبُ (المُحْكَمِ):
*أَتَعْرِفُ رَسْماً كَالطِّرَادِ المَذْهَبِ* ... وعليه
يِتَخَرَّجُ قَوْلُ الْمَنْطِقِيِّينَ.
الثالثُ: إِنَّمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الحَدَّ عَقِبَ الدليلَ
لانحصارِ المطالِبُ فيها، فالدليلُ بأقسامِهِ لبيانِ المطلوبِ
التصديقِيِّ، والحَدُّ بأقسامِهِ لبيانِ المطلوبِ
التصوُّرِيِّ.
(1/213)
(ص): (والكلامُ في الأزلِ قِيلَ: لاَ
يُسَمَّى خِطَاباً، وَقِيلَ: لاَ يَتَنَوَّعُ).
(ش): فيه مسألتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: كلامُ اللَّهِ تَعَالَى في الأَزَلِ هَلْ
يُسَمَّى خِطَاباً؟
فيه خِلاَفٌ، حَكَاهُ الشيخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ
في كتابِ (الْحُدُودِ) وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ في
(الْمُرْشِدِ)
(1/214)
قَالاَ: فَذَهَبَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ
أَصْحَابِنَا إلى أَنَّهُ لاَ يُسَمَّى خِطَاباً وَأَمْراً
ونَهْياً في الأَزَلِ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى بِذَلِكَ فِيمَا
لاَ يَزَالُ عِنْدَ وجودِ المُخَاطَبِ، وهو حدوثُ تسميةٍ لاَ
حدوثٌ عَنِ الكلامِ، ولاَ تتغيرُ بِذَلِكَ صِفَتُهُ في
نَفْسِهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يصيرُ أَباً وعَمًّا
وَزَوْجاً بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مِنْ ذلكَ، وَلَمْ
تَتَغَيَّرْ صِفَتُهُ، وَإِنَّمَا بِتَغَيُّرِ الغيرِ
اسْتَحَقَّ هَذِهِ الأسماءَ حَقِيقَةً؛ فَعَلَى هَذَا كُلُّ
خِطَابٍ كلامٌ، ولاَ يَنْعَكِسُ لأنَّ كلامَهُ في الأَزَلِ
ليسَ بِخِطَابٍ.
والثانِي: وعليه المتأخرونَ يُسَمَّى خِطَاباً بِشَرْطِ
حُدُوثِ المُخَاطَبِ، وَقَالَ ابْنُ القُشَيْرِيِّ: وهو قَوْلُ
الأَشْعَرِيِّ، وَهُوَ الصحيحُ؛ لأنَّ الآمِرَ أَمَرَ لنفسِهِ،
والصفاتُ النفسيةُ لاَ تَتَحَدَّدُ بِتَحَدُّدٍ.
قُلْتُ: وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الأَشْعَرِيُّ: إِنَّ المعدومَ
مَامُورٌ بِالأَمْرِ الأَزَلِيِّ عَلَى تقديرِ الوُجُودِ،
وَحَكَى الشيخُ السُّبْكِيُّ في (شَرْحِ الْمِنْهَاجِ) المنعَ
عَنِ القاضِي أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا قُلْنَا
بِالْمَنْعِ، فَهَلْ يُسَمَّى بَعْدَ ذَلِكَ وُجُودُ
المُخَاطَبِ والمأمورِ، يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِنْ حَصَلَ
إِسْمَاعُهُ لذلكَ كَمَا فِي مُوسَى (عَلَيْهِ الصلاةُ
والسلامُ) يُسَمَّى خِطَاباً بِلاَ شَكٍّ، وَإِلاَّ فَلاَ على
قياسِ قَوْلِ القاضِي.
قُلْتُ: المانعُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لاَ يُسَمَّى خِطَاباً
وَأَمْراً عِنْدَ وُجُودِ المخاطبِ والمأمورِ كَمَا سَبَقَ
عَنِ الشيخِ وابْنِ الْقُشَيْرِيِّ، وهو عِنْدَهُمْ مِنْ
صِفَاتِ الأفعالِ بِمَثَابَةِ اتِّصَافِ الرَّبِ تَعَالَى فِي
الأَزَلِ، بِكَوْنِهِ خَالِقاً رَازِقاً، وَذَكَرَ بعضُهم
أَنَّ الخلافَ لَفْظِيٌّ؛ لأنَّ الطلبَ الأزلِيَّ، إِنَّمَا
هُوَ طَلَبٌ بالصلاحِيَّةِ، لاَ بالتعلُقِ؛ إِذِ الكلامُ
الأزَلِيُّ فيِ نفسِهِ عَلَى صِفَةِ الاقتضاءِ مِمَنْ
سَيَكُونُ، فَإِذَا كَانَ تَعَلَّقَ به ذلكَ الاقتضاءُ (21 ب)
فيكونُ اقتضاءً بالفعلِ، فهذا يُسَمَّى اقتضاءً حقيقةً،
والأولُ يُسَمَّى اقتضاءً مجازاً، ولهذا اخْتُلِفَ في جَوَازِ
إِطْلاَقِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الخِلافُ يَتَوَقَّفُ
عَلَى تفسيِر الخطابِ، فَمَنْ فَسَّرَهُ بالكلامِ الذي
يُقْصَدُ بِهِ إِفْهَامُ مَنْ هُوَ مُتَهَيِّئٌ لِفَهْمِهِ في
الحالِ.
قَالَ: لاَ يُسَمَّى خِطَاباً، وَمَنْ قَالَ: يُقْصَدُ بِهِ
الإفهامُ في الجملةِ، أَطْلَقَهُ عليه.
(1/215)
والحقُّ أَنَّهُ مَعْنَوِيٌّ، وَمِمَّا
يُفَرَّعُ عَلَيْهِ، أَنَّ الكلامَ حُكْمٌ فِي الأَزَلِ، أَوْ
يَصِيرُ حُكْماً فِيمَا لاَ يَزَالُ، هي مسألةُ أَمْرِ
المعدومِ السابقةُ.
الثانيةُ: هَلْ يَتَنَوَّعُ الكلامُ؟ ذَهَبَ بَعْضُ
أَصْحَابِنَا ـ كَمَا قَالَ الإِمَامُ فيِ (المُحَصِّلِ) ـ إلى
تَنَوُّعِهِ إِلَى خَمْسِ كَلِمَاتٍ: الأمرُ، والنهيُ،
والخبرُ، والاستخبارُ، والنداءُ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سَعِيدٍ إِلَى سَبْعَةٍ، وَزَادَ: الوعدَ، والوعيدَ.
والجمهورُ على أَنَّهُ لاَ يَتَنَوَّعُ، وَحَكَى إِمَامُ
الحَرَمَيْنِ فِي (الإِرْشَادِ): فِيهِ الاتفاقَ، وَلَهُمْ
فِيهِ مَسَالِكُ، مِنْهَا التمسكُ بنوعٍ مِنَ الإجماعِ، وَهِيَ
طريقةُ القاضِي، فَقَالَ: أَجْمَعُوا عَلَى نَفْيِ كلامٍ ثانٍ
قديمٍ وَنَفْيِ إِرَادَةٍ ثانيةٍ قديمةٍ. قَالَ: وَإِنَّمَا
صِرْتُ إلى هَذَا؛ لأَنَّا وَجَدْنَا الْعِلْمَ القديمَ
مُتَعَلِّقاً لِسَائِرِ المعلوماتِ قائماً مقامَ علومٍ مختلفةٍ
في الشاهدِ، وليسَ في العقلِ مَا يَمْنَعُ مِنْ قِيَامِ
العِلْمِ القَدِيمِ مَقَامَ القُدْرَةِ، وَلاَ يُؤَدِّي إلى
وُجُوبِ تَعَلُّقِ العلمَ بجميعِ المعلوماتِ فَاضْطُرِرْنَا
إلى الرجوعِ إلى الإجماعِ، وَنَازَعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ
في الإجماعِ بِمَا حَكَى عَنِ الأستاذِ أَبِي سَهْلِ
الصُّعْلُوكِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لِلَّهِ بِكُلِّ معلومٍ
(1/216)
عِلْمٌ، فَلَهُ عُلُومٌ لاَ نهايةَ لَهَا،
وَلاَ شَكَّ أَنَّهُ يُجْرِيهِ فيِ الكَلاَمِ وَالقُدْرَةِ،
وَسَائِرَ الصفاتِ، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا دَخُولُ مَا لاَ
نهايةَ لَهُ في الوجودِ، وَيَسْتَحِيلُ حَصْرُ مَا لاَ
يَنْحَصِرُ، ودخولُ مَا لاَ تَنَاهِيَ لَهُ في الوجودِ مِنَ
الْمَقْدُورَاتِ، وَمِنْهَا التمسكُ بالعقلِ، فَإِنَّ الدليلَ
العقليَّ قَامَ على وجوبِ اتحادِ كُلِّ صِفَةٍ لِلَّهِ وَإِنْ
تَعَدَّدَتْ مُتَعَلَّقَاتُهَا، فَكَمَا أَنَّهُ عَالِمٌ
بعِلِمْ ٍواحدٍ قَادِرٌ بِقُدْرَةٍ واحدةٍ عَلَى جَمْعِ
الْمَقْدُرَواتِ، والعلومُ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فَإِنَّهُ
يَجْمَعُهَا حقيقةٌ واحدةٌ، وهي العلميةُ ـ فكذلكَ الكلامُ
مُتَّحِدٌ لاَ كَثْرَةَ فِيهِ فِي نَفْسِهِ، بَلِ الكَثْرَةُ
إِنَّمَا هِيَ في مُتَعَلَّقَاتِهِ الخارجيةِ، فَإِذَا
تَعَلَّقَ بالمأمورِ سُمِّيَ أَمْراً، وَبِالْمَنْهِيِّ
سُمِّيَ نَهْياً، وَإِنْ كَانَ بالنسبةِ إلى حالةٍ مَا فَهُوَ
الخبرُ، فَاخْتِلاَفُ
التسميةِ بِحَسْبِ اختلافِ تَعَلُّقَاتِهِ، وليسَ راجعاً إلى
نفسِ الكلامِ، بَلْ إلى أمرٍ خارجٍ عَنْهُ، ولهذا لَوْ قُطِعَ
النَّظَرُ عَنْ هَذِهِ لمَ ْيَرْتَفِعْ نَفْسُ الكلامِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَجْمَعَ العقلاءُ على انقسامِ الكلامِ إلى
أمرٍ، ونهيٍ، وخبٍر، وغيرِ ذلكَ مِنَ الأنواعِ.
فالجوابُ مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لهذا الإشكالِ الْتَزَمَ الأستاذُ رَدَ
جميعِهَا إلى الخبرِ لِيَنْتَظِمَ لَهُ القَوْلُ بالوحدةِ،
فَقَالَ: الأمرُ خَبَرٌ عَنْ تَحَتُّمِ الفعلِ، والنهيُ خَبَرٌ
عَنْ تَحَتُّمِ التركِ، وَكَذَا قَالَ الإمامُ فِي
(الْمُحَصِّلِ) قَالَ: وَالاسْتِخْبَارُ إِخْبَارٌ عَنْ طَلَبِ
شيءٍ مِنَ الْمُخَاطَبِ، والنداءُ خبٌر عَنْ أَنَّ المنادَى
يَصِيرُ بَعْدَ النداءِ مُخَاطَباً، وَذَكَرَ الآمِدِيُّ
نَحْوَهُ، وَقَالَ: الاستخبارُ يَسْتَحِيلُ في حَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى، بَلْ حَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلى التقديرِ، وَهُوَ
نَوْعٌ مِنَ الخَبَرِ.
قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ تَعَلَّقَ بِمَا حُكِمَ
بِفِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ يُسَمَّى طَلَباً، وَإِنْ تَعَلَّقَ
بغيرِهِ سُمِّيَ خَبَراً.
وثانِيهَا: أَنَّا إِذَا قُلْنَا: لاَ يَتَّصِفُ في الأزلِ
بكونِهِ أَمْراً وَنَهْياً (22 أ) وَخَبَراً، وَإِنَّمَا
يَتَّصِفُ بذلكَ عِنْدَ وُجُودِ المخاطَبِ زَالَ الإشكالُ،
وَإِنْ قُلْنَا بِاتِّصَافِهِ في الأَزَلِ بذلكَ كَمَا ـ هو
رَايُ الأَشْعَرِيِّ ـ فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يَكُونَ فِي
نفسِهِ مَعْنًى وَاحِدٌ، والاختلافُ فيه يَرْجِعُ إلى
التعبيراتِ عنه بِحَسْبِ تَعَلُّقِهِ كَمَا سَبَقَ، وَلاَ
مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الكلامُ
(1/217)
واحداً، والمتعلقاتُ متعددةٌ على نَحْوِ
تَعَلُّقِ الشمسِ بِمَا قَابَلَهَا، واسْتِضَاءَتُهَا مِنْ
زجاجاتٍ مختلفةٍ، فَإِنَّهُ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ الأَلْوَانُ
مِنْ أسودَ وأبيضَ وأخضرَ، لاَ يُوجِبُ وُقُوعَ التَّعَدُّدِ
في الشمسِ نَفْسِهَا، وهو نَحْوَ قَوْلَ الفيلسوفِ في المبدأِ
الأولِ حَيْثُ قَضَي بِوَحْدَتِهِ، وَأَنَّ تَكَرُّرَ أسمائِهِ
بسببِ سلوبٍ وإضافاتٍ لاَ تُوجِبُ صفاتٍ زائدةٍ على الذاتِ،
قَالَ الآمِدِيُّ في (غَايَةِ المَرَامِ): وَمَنْ فَهْمِ هذا
التحقيقِ انْدَفَعَ عَنْهُ الإشكالُ وَزَالَ الخَيَالُ
فَإِنَّهُ غَيْرُ بعيدٍ أَنْ يَقُومَ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى
خَبَرٌ عَنْ إرسالِ نُوحٍ مَثَلاً، وَيَكُونُ التعبيُر عَنْهُ
قَبْلَ إرسالِهِ، بِأَنَّا نُرْسِلُهُ، وبَعْدَ الإرسالِ
{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوْحاً} فالمعبرُ عَنْهُ يَكُونُ واحداً
في نفسِهِ على مَمَرِّ الدهورِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمُعَبَّرُ
بِهِ، قَالَ: وهذا جَلِيٌّ لِكُلِّ مُنْصِفٍ، وَقَدْ أَوْرَدَ
على هذا الطريقِ أَنَّكُمْ إِذَا جَعَلْتُمْ التنوعَ باختلافِ
المتعلقاتِ أُشْكِلَ عَلَيْكُمْ بالإرادةِ والعلمِ والقدرةِ
وغيرِهَا مِنَ الصفاتِ، فَهَلاَّ قُلْتُمْ: إِنَّهَا تَرْجِعُ
لِمَعْنًى واحدٍ، وَيَكُونُ التعبيُر عَنْهُ بسببِ المتعلقاتِ
لاَ بسببِ اختلافِهِ في ذاتِهِ فَسُمِّيَ إِرَادَةً عِنْدَ
تَعَلُّقِهِ بِالْمُخَصِّصِ، وَقُدْرَةً عِنْدَ تَعَلُّقِهِ
بالإيجادِ، وَكَذَا سَائِرُ الصفاتِ، وَأَجَابَ المحققونَ
بِأَنَّا لَوْ قُلْنَا بِرُجُوعِ العِلْمِ أَوِ القدرةِ
لأَدَّى إلى عدمِ الفَرْقِ بَيْنَ المعلوماتِ والمقدوراتِ، وهو
مُمْتَنِعٌ، فَكَذَلِكَ وَجَبَ اختلافُ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ
المعلوماتُ والمقدوراتُ، وَلَمْ يَجِبْ في الكلامِ، وَحَكَى
الآمِدِيُّ فِي (الأَبْكَارِ) عَنِ الأصحابِ أَنَّهُمْ
أَجَابُوا بِأَنَّ القدرةَ والإرادةَ تَخْتَلِفُ مَعَهَا
التَأَثُّرَاتُ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الاخْتِلاَفِ في نَفْسِ
المُؤَثِّرِ بخلافِ الكلامِ، فَإِنَّ تَعَلُّقَهُ
بِمُتَعَلَّقَاتِهِ لاَ يُوجِبُ أَثَراً، فَضْلاً عَنْ
كَوْنِهِ مختلفاً، ثُمَّ اسْتَشْكَلَ الْهُذَلِيُّ هذا
الجوابَ، وَقَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ غَيْرِي كُلُّهُ،
وَلِعُسْرِ جَوَابِهِ ذَهَبَ بعضَ أصحابِنَا إلى تَعَدُّدِهِ،
وَمِنْهَا أَنَّ الدليلَ قَدْ دَلَّ
(1/218)
عَلَى وُجُودِ أَصْلِ الكلامِ فالقولُ
بِنَفْيِهِ تَقْصِيٌر، والقولُ بِتَكْثِيرِهِ إِفْرَاطٌ،
وَكُلُّ خَارِجٍ عَنْ جَوْدَةِ الاحتياطِ، واسْتَجْوَدَ
الآمِدِيُّ في (غَايَةِ الْمَرَامِ) هذا، قَالَ: ولعمري إن ممن
رام نفي التكثر عن الكلام وغيره من الصفات بغير هذا الطريق ـ
لم يجد مسلكاً وقد أورد على القول بالإيجاد أنه كيف يسوغ ما
أخبر اللَّه عنه من القصص الماضية وهي مختلفة متمايزة، فإنَّ
ما جرى لكل نبي غير ما جرى للآخر، وكذلك المأمورات والمنهيات،
فكيف يكون ما جرى لآدم هو نفس الخبر عما جرى لموسى أو عيسى، أم
كيف يكون الأمر بالحج هو نفس الأمر بالصلاة، وكيف يكون {قل هو
اللَّه أحد} نفس {تبت يدا أبي لهب} فلم يبق إلا أنه أنواع
مختلفة الذوات مشتركة في الكلام، والكلام كالجنس لها، والجواب:
أنا لم نرد بذلك أن ما يرد بذلك أن ما عبر عنه بالنهي عين ما
عبر عنه بالأمر أو ما عبر عنه في بعض الأخبار عين ما عبر عنه
في الآخر، فإنَّ ذلك محال، بل قلنا: إن حقيقة الكلام واحدة،
واختلاف الأساس باعتبار اختلاف التعلقات والإضافات (22 ب) إلى
الأمور الخارجة، وليس ذلك بمحال، وإنما انقسام القديم، وهو
مقصودنا بنفي التنوع، ولهذا قلنا في الحادث بالتنوع، إذ هو من
قبيل الأعراض المتجددة المتغيرة، وذلك يستحيل في حق القديم.
ص: (والنظر: الفكر المؤدي إلى علم أو ظن).
(1/219)
ش: الفكر جنس، ولا يريد به الفكر للنظر؛
لأنَّه ليس أظهر منه حتى يفسر به، ولو أنه أراده لم يقيده بما
قيده به، وإنما يريد به الفكر الذي يعد في خواص الإنسان، وهو
حركة النفس في المعقولات، أي حركة كانت سواء في محسوس وهو
التخييل، أو في غيره، وقوله: (المؤدي) فصل خرج به مالا يؤدي
كذلك، أعني به الحدس، ودخل فيه الفكر الذي يطلب به التصور،
والذي يطلب به التصديق وأطلق العلم ليشمل العقلي وغيره، تصوراً
وتصديقاً، بخلاف الظن، فإنَّ المراد به التصديق، والأول يسمى
دليلاً والثاني أمارة، وهذا الحد للقاضي أبي بكر نقله عنه
الإمام في الشامل، وقالَ: ليس هو كل فكر، بل ضرب مخصوص منه،
وهو الذي يطلب به علم وظن، ومن هنا يظهر فساد ظن من تكلم على
هذا الحد من شارحي المختصر، وأن القصد منه تعريف الفكر والنظر
جميعاً.
(1/220)
ص: (والإدراك بلا حكم تصور وبحكم تصديق،
وجازمه الذي لا يقبل التغير علم، والقابل اعتقاد صحيح إن طابق،
فاسداً إن لم يطابق، وغير الجازم ظن ووهم وشك؛ لأنَّه إما
راجح، أو مرجوح، أو مساو).
ش: إدراك الماهية من غير اعتبار حكم عليها يسمى تصوراً،
وإدراكه معَ الحكم يسمى تصديقاً، لكن اختلفوا هل التصديق مجموع
الأمرين أو الحكم وحده؟ فذهب القدماء إلى أنه الحكم، وذهب
الإمام فخر الدين أنه الإدراك للماهية معَ الحكم، قالَ الشيخ
تقي الدين: وهذا أقرب وأنسب إلى ما ذكرناه من جعل العلم
المنقسم إلى تصور وتصديق مجرد الإدراك، ليكون كل واحد من قسميه
إدراكاً يتميز أحدهما بعدم الحكم تقييداً والآخر بالحكم
مقيداً، ثمَّ الإدراك معَ الحكم إما أن يكون جازماً أو لا،
فإنَّ كانَ جازماً لا يقبل التغيير، أي: لا في نفس الأمر ولا
بالتشكيك، فهو العلم، وإن قبله فهو الاعتقاد، ثمَّ إن طابق
الواقع كاعتقادنا حدوث
(1/221)
العالم فصحيح وإلا ففاسد، كاعتقاد الفلاسفة
عدمه، وإن لم يكن جازماً فإما أن يتساوى طرفاه فهو الشك، أو
يترجح أحدهما فالراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم، فهذه خمسة
أقسام: اثنان باعتبار الجزم وثلاثة باعتبار عدم الجزم وعلم منه
أن مسمى الشك مركب؛ لأنَّه اسم لاحتمالين فأكثر، ومسمى الظن
والوهم بسيط، لأن الظن اسم للاحتمال الراجح والوهم للمرجوح،
وهذا على رأي الأصوليين، وأما الفقهاء فعندهم: الظن والشك
متساويان غالباً، إذا علمت هذا فقد أورد عليه أنه أدخل الشك
والوهم تحت غير الجازم فيكونان داخلين تحت الحكم ولا حكم معَ
الشك والوهم. وأجيب عنه بالمنع، بل الواهم والشاك حاكمان،
أمَّا الواهم فلأن الظان حاكم بالراجح فيلزم أن يكون حاكماً
بالطرف الآخر حكماً مرجوحاً، وأما الشاك فله حكمان متساويان
بمعنى أنه حاكم بجواز وقوع هذا النقيض مثلاً بدلاً عن النقيض
الآخر وبالعكس (23 أ) تردد العقل بينَ حكمين، بدليلين متساويين
شك أَيْضاًً، ولهذا يوصف به من شأنه ذلك، نعم انحصاره في
التردد المساوي كما أشعر به كلام الْمُصَنِّف غير مرضي.
الثاني: جعله الشك والوهم من أقسام التصديق، معَ أنه لا اعتقاد
ولا حكم فيهما بل هما منافيان للحكم، ولذلك قالَ ابن سينا: إذا
قلت: البياض لون
(1/222)
وشككت فيه، كانَ من قبيل التصور، ومعنى
التصور أنك تصورت البياض واللون وصورة التأليف بينهما. لكن ضعف
الْمُصَنِّف هذا، فإنَّ قولك البياض لون، مبتدأ وخبر، محمول
وموضوع، ومعناه الحكم على البياض باللونية، وذلك يقبل التصديق
والتكذيب.
ص: (والعلم قالَ الإمام: ضروري، ثمَّ قالَ: هو حكم الذهن
الجازم المطابق لموجب، وقيل: هو ضروري فلا يحد، وقالَ إمام
الحرمين: عسر فالرأي الإمساك عن تعريفه).
ش: اختلف في العلم فقال الإمام فخر الدين: هو ضروري، أي تصوره
بديهي لأنَّ ما عدا العلم لا يعرف إلا به، فيستحيل أن يكون
غيره كاشفاً له، ولأني أعلم بالضرورة كوني عالماً بوجودي،
وتصور العلم جزء منه، وجزء البديهي بديهي، فتصور العلم بديهي،
وأجاب صاحب تلخيص المحصل عن الأول
(1/223)
بأن المطلوب من حد العلم هو العلم بالعلم،
وما عدا العلم ينكشف بالعلم لا بالعلم بالعلم، وليس من المحال
أن يكون هو كاشفاً عن العلم به، وأجاب غيره عن الثانِي: أمَّا
على القول بأن التصديق هو الحكم وحده ـ كما هو رأي الجمهور ـ
فلأن التصورات الواقعة في القضايا ليست بأجزاء للحكم، وإنما هي
شروط، وأما على القول بأن التصديق هو الحكم معَ تصور طرفيه كما
هو رأي الإمام، فلأنا نمنع أن أجزاء التصديق الضروري بحقائقها
ضروري، بل يكفي تصورها باعتبار صادق عليها فاستدلاله بكون هذا
التصور ضرورياً لا يفيد مدعاه من كون تصور حقيقة العلم
ضرورياً، واعلم أن ما نقله الْمُصَنِّف عن الإمام من أنه
ضروري، ذكره في المحصول، ثمَّ إنه ذكر بعد ذلك تقسيماً حصر فيه
العلم وأضداده، وعرف فيه العلم بأنه: الحكم الجازم المطابق
لموجب، وإليه أشار الْمُصَنِّف بقوله، ثمَّ قالَ: هو حكم
الذهن، فتحصل من كلام الإمام أنه ضروري، وأنه يحد، وكأن
الْمُصَنِّف أشار بذلك إلى تناقضه، ووجهه أن فائدة حد الشيء أن
تصور حقيقته ضرورة، وإذا كانَ ضرورياً فلا فائدة في حده،
والمراد بالموجب في كلام الإمام إما العقلي أو الحسي أو المركب
منهما، فالأول ينقسم إلى بديهي ونظري، والثاني العلم بالمحسنات
والثالث ينقسم إلى التواترات إن كانَ الحس سمعاً، وإلا
فالمجربات والحدسيات، وقوله: (وقيل ضروري) يشير إلى ما دل عليه
قول ابْن الْحَاجِبِ: والعلم قيل لا يحد لأنَّه ضروري وإنما
عكس عبارته؛ لأنَّه كونه ضرورياً يترتب عليه عدم الحد لا
العكس؛ لأنَّ الكلام في عدم حده، لا في كونه ضرورياً أو غير
ضروري، وذهب
(1/224)
إمام الحرمين إلى أنه يعسر تعريفه وإنما
يعرف بالتقسيم، والمثال دون غيرهما وفي ذلك اعتراف بإمكان
تعريفه في الجملة، ومال الْمُصَنِّف إلى هذا بقوله، فالرأي
الإمساك عن تعريفه، واعترض عليه بأن هذا غير مختص بالعلم، بل
الحدود والرسوم كلها عسرة، وإن كانَ العسر في العلم أزيد من
ذلك (23 ب) وما نقله الْمُصَنِّف عن إمام الحرمين هو الصواب،
ونقل ابْن الْحَاجِبِ عنه منع الحد، وهو باطل، فإنَّه صرح في
البرهان وغيره بإمكان التعبير عنه، وإن أعسر الحد، بجميع أنواع
التعريف، وكلام الْغَزَالِيّ في (المستصفى) يقتضي اختصاص ذلك
بالحقيقي، ويحسن أن يكون توسطاً بينَ القولين.
ص: (ثم قالَ المحققون: لا يتفاوت، وإنما التفاوت بكثرة
المتعلقات).
ش: اختلفوا في أن العلم هل يتفاوت، فيقال: علم أجلي من علم أم
لا، وما حكاه الْمُصَنِّف، ذكره إمام الحرمين في (الشامل) وسوى
بينَ العلوم الضرورية والنظرية، فقالَ: صارَ المحققون إلى أن
العلوم المرتبطة بصروف النظر لا تتفاوت،
(1/225)
فلا يتصور علم أبين من علم، إذ العلم بينَ
المعلوم على ما هو به ولا يجامعه استرابة أصلاً، وكيف يجامعه
وهما متضادان، ثمَّ قالَ بعد ذلك، وإن العلم الضروري بمثابة
العلم النظري في حكم التبيين، والذي يوضح الحق في ذلك الاتفاق
على أن العلم الواقع بالشيء نظراً، يماثل العلم الواقع به
ضرورة، كما تماثل الحركة الضرورية، الحركة الكسبية، والحركتان
متماثلتان، ومن حكم المتماثلين وجود استوائهما في صفات النفس،
ولو كانَ الضروري مخالفاً للكسبي في وجه من البيان، لما كانَ
مثله ثمَّ أشار إلى الفرق بينهما، وجعل من وجوه الفرق أن
العلوم المكتسبة مقدورة بخلاف البديهية، وقالَ ابن التلمساني:
المحققون على عدم تفاوت العلوم، وإنما التفاوت بحسب التعلقات
واختاره إمام الحرمين والإبياري في شرح البرهان، ولكن الأكثرين
على التفاوت، ونقله الإمام في البرهان عن أئمتنا، ومن فوائد
الخلاف في هذه المسألة أن الإيمان هل يقبل الزيادة والنقص بناء
على أن الإيمان من قبيل العلوم لا الأعمال خلافاً للمعتزلة.
(1/226)
ص: (والجهل انتفاء العلم بالمقصود، وقيل:
تصور المعلوم على خلاف هيئته).
ش: هذا الخلاف في تعريف الجهل أخذه الْمُصَنِّف من القصيدة
الصلاحية وهي من أحسن تصانيف الأشعرية في باب العقائد، وكان
السلطان صلاح الدين يأمر بتلقينها للصبيان في المكاتب، قالَ
ابن مكي مصنفها.
وإن أردت أن تحد الجهلا ... من بعد حد العلم كانَ سهلاً
وهو انتفاء العلم بالمقصود ... فاحفظ فهذا أوجز الحدود
(1/227)
وقيل في تحديد ما أذكر ... من بعد هذا
والحدود تكثر
تصور العلم هذا جزؤه ... وجزؤه الآخر يأتي وصفه
مستوعباً على خلاف هيئته ... فافهم فهذا القيد من تتمته
وإطلاق القولين هكذا غريب وإنما المعروف تقسيم الجهل إلى بسيط
ومركب، فالمركب ما ذكره في الحد الثانِي، هكذا ذكره الإمام
والسمعاني والآمدي وغيرهم، وقالَ الرافعي في كلامه على قاعدة
مد عجوة: الجهل معناه المشهور: الجزم بكون الشيء على خلاف ما
هو عليه، ويطلق ويراد به عدم العلم بالشيء انتهى، وسمي مركباً
لأنَّه مركب من جزأين أحدهما عدم العلم، والثاني اعتقاد غير
مطابق، كاعتقاد المعتزلة أن الباري لا يرى في الآخرة، وأما
البسيط فهو عدم العلم مما شأنه أن يكون عالماً سمي بسيطاً
لأنَّه لا تركيب فيه وإنما هو جزء واحد كعدم (24 أ) علمنا بما
تحت الأرض، وما يكون في البحار وغيره، والتقييد بما من شأنه،
ذكره الآمدي في أبكار الأفكار، فقالَ: أمَّا البسيط فعدم العلم
فيما من شأنه أن يكون عالماً لا عدم العلم مطلقاً، وإلا لوصفت
الجمادات بكونها جاهلة، إذ هي غير عالمة، وعلى هذا فالجهل بهذا
الاعتبار إثبات عدم لا أنه صفة إثبات والفرق بينَ الأمرين
ظاهر.
انتهى. وعلى هذا فلا يصح قول من قالَ:
قال حمار الحكيم: توما ... لو انصفوني لكنت أركب
(1/228)
لأنني جاهل بسيط ... وراكبي جاهل مركب
ولو قالَ الْمُصَنِّف: تصور الشيء لكان أولى من المعلوم؛ لأنَّ
هذا جهل لا علم فيه والمراد بقوله على خلاف هيئته، أن يتصور ما
هو معلوم في نفسه، على خلاف الواقع، واحترز به عن التصور
بهيئته فإنَّ ذلك علم، قالَ الْمُصَنِّف، وهذا أحسن من قول
إمام الحرمين على خلاف ما هو به، فإنَّه ظاهر التدافع لأنَّ
تصور المعلوم، يعطى وقوع تصوره وقوله: (على خلاف ما هو به)
يعطي أنه لم يقع تصوره، وقد يجاب عن الإمام بأن مراده بقوله:
تصور الشيء على ما في زعمه، وقوله: على خلاف ما هو به في نفس
الأمر.
ص: (والسهو: الذهول عن المعلوم).
ش: أي فما لا يعلم لا يقال للذاهل عنه ساه، وقالَ السكاكي:
السهو ما ينبه صاحبه بأدنى تنبيه، وفرق صاحب ضوء المصباح بينَ
السهو والنسيان، بأن السهو الغفلة وهو قريب من الذكر، ولذلك
يقال: أغفلت الشيء إذا تركته على ذكر
(1/229)
منك، وأما النسيان فهو خلاف الذكر، وهو أخص
من السهو؛ لأنَّه إذا حصل النسيان حصلت الغفلة لأنَّها بعضه،
وليس إذا حصلت الغفلة يحصل النسيان؛ لأنَّ النسيان غفلة
وزيادة، وزمن السهو قصير وزمن النسيان طويل لاستحكامه.
ص: (مسألة: الحسن: المأذون، واجباً ومندوباً ومباحاً قيل وفعل
غير المكلف).
ش: تنقسم صفة الفعل الذي هو متعلق الحكم إلى حسن، وعرف الحسن
بالمأذون فيه، أي سواء كانَ يثاب على فعله أم لا، فيشمل الواجب
والمندوب، ولا خلاف فيهما، وكذلك المباح، وهو الصحيح للإذن
فيه، واحتج له بقوله تَعَالَى: {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما
كانوا يعملون} ووجهه أن أحسن: أفعل تفضيل، ومن شرطه أن يضاف
إلى بعضه، فالتقدير، لنجزينهم أحسن أعمالهم، وأعمالهم التي
يتعلق بها الحسن إما واجبة أو مندوبة أو مباحة، والواجب أحسن
قطعاً، والمندوب أحسن من المباح؛ لأنَّه لا ثواب في المباح
فلزم أن يكون حسناً، وأما فعل غير المكلف كالنائم والساهي
والبهيمة، ففيه خلاف مرتب على الخلاف في المباح وأولى بالمنع،
وهو الذي اختاره إمام الحرمين، وكلام الْمُصَنِّف يشعر
بترجيحه، ومنهم من قالَ: لا يسمى حسناً ولا قبيحاً، إذ لا
يتوجه إليهم مدح ولا ذم بسبب
(1/230)
الفعل، وإن كانَ يجب بسببها ضمان وأرش في
مالهم، وقالَ الرافعي في باب الزنا: لو مكنت البالغة العاقلة
مجنوناً أو مراهقاً أو نائماً أو صبياً، فعليها الحد خلافاً
لأبي حنيفة، حَيْثُ قالَ: لا يجب؛ لأنَّ فعله والحالة هذه ليس
بزنا. قلنا: لا نسلم أنه ليس بزنا، ولكن لا يجب به الحد.
انتهى.
ص: (والقبيح المنهي ولو بالعموم فدخل خلاف الأولى).
ش: وجه دخوله أن المنهي إما معَ الجزم بالحرمة أو لا معَ الجزم
بها وهو النهي، وهو إما نهي مخصوص فالكراهة (24 ب) أولى بنهي
مخصوص، وإليه أشار بقوله: (ولو بالعموم فخلاف الأولى) فشمل
التعريف حينئذ الحرام والمكروه، وخلاف الأولى، وفي إطلاق
القبيح على خلاف الأولى نظر، ولم أره لغير الْمُصَنِّف، وغاية
ما عندَه أخذه من إطلاقهم القبيح أنه المنهي عنه، ويمكن أن
يريدوا النهي المخصوص، بل هو الأقرب لإطلاقهم وسيأتي في كلامه
أن المكروه ليس بقبيح فكيف خلاف الأولى؟ ولا يساعده قول ابْن
الْحَاجِبِ ـ تبعاًَ للغزالي وغيره، ـ أن المكروه يطلق على
(1/231)
خلاف الأولى؛ لأنَّه لبيان إطلاق حملة
الشرع، والكلام في حقيقة القبيح، والظاهر أن الْمُصَنِّف أخذ
هذا من كلام الهندي، فإنَّه قالَ: القبيح عندَنا: ما يكون
منهياً عنه، ونعني به ما يكون تركه أولى، وهو القدر المشترك
بينَ المحرم والمكروه، فإنَّ جعل النهي فيه حقيقة فلا كلام
وإلا فاستعماله فيه بطريق التجوز فيدخل فيه المحرم والمكروه.
ص: (وقالَ إمام الحرمين: ليس المكروه قبيحاً ولا حسناً).
ش: لأنَّ القبيح ما يذم، وهذا لا يذم عليه، والحسن ما يسوغ
الثناء عليه، وهذا لا يسوغ الثناء عليه، قالَ والد
الْمُصَنِّف: ولم نر أحداً نعتمده خالف الإمام في هذا إلا
أناساً أدركناهم، قالُوا: إنه قبيح؛ لأنَّه منهي عنه، والنهي
أعم من تحريم وتنزيه، وهذا تمسك بإطلاق، قلت: وينبغي جريان هذا
الخلاف في خلاف الأولى، وأولى بالمنع.
ص: (مسألة: جائز الترك ليس بواجب، وقالَ أكثر الفقهاء: يجب
الصوم على الحائض والمريض والمسافر، وقيل المسافر دونهما،
وقالَ الإمام: عليه أحد الشهرين والخلف لفظي).
ش: هذه الترجمة تجمع مسائل، فلهذا صدر بها، ووجهه أن الواجب
مركب من طلب الفعل معَ المنع من الترك، فلو كانَ جائز الترك
واجباً، لاستحال كونه جائزاً، وكان ينبغي أن يزيد مطلقاً، حتى
يخرج الواجب الموسع،
(1/232)
والمخير، فإنَّه يَجُوز تركهما في حالة،
ومع ذلك فهما واجبان، لكن لا يَجُوز الترك مطلقاً، ويمكن أن
يقال: إطلاقه يفهم ذلك، فمنها: قالَ أكثر الفقهاء: يجب الصوم
على من ذكر معَ أنه يَجُوز لهم تركه، والمصنف في هذا النقل
متبع لصاحب المحصول، وقالَ الشيخ أبو حامد الإسفراييني في
كتابه في الأصول: إن مذهبنا يجب عليهم في الحال إلا أنه يَجُوز
لهم تأخيره إلى العذر قلت: لكن نص الشافعي في أوائل الرسالة
على أن الصوم لا يجب على الحائض، وقالَ النَّوَوِيّ: أجمع
المسلمون على أنه لا يجب عليها الصوم في الحال، ثمَّ قالَ
الجمهور: ليست مخاطبة به في زمن الحيض، وإنما يجب القضاء بأمر
جديد، وذ كر بعض أصحابنا وجهاً، أنها مخاطبة به في حال الحيض،
وتؤمر بتأخيره، وليس بشيءٍ، انتهى، والقول بوجوبه على المسافر
دونهما حكاه ابن السمعاني عن الحنفية، والقول بوجوب أحد
الشهرين إما الحاضر أو آخر غيره أي على المسافر كالواجب المخير
ـ هو قول القاضي أبو بكر نص عليه في كتاب (التقريب) ونقله
الشيخ أبو إسحاق في (شرح اللمع) عن بعض الأشعرية، واختاره
الإمام فخر الدين، قالَ في (المحصول) عندَنا أنه لا يجب على
المريض والحائض، وأما المسافر فيجب (25 أ)
(1/233)
عليه صوم أحد الشهرين وأيهما أتى به كانَ
هو الواجب كخصال الكفارة وقد استضعف هذا بأنه لا فرق في ذلك
بينَ المريض والمسافر، إلا أن سبب أحدهما اضطراري وسبب الآخر
اختياري، وهذا لا تأثير له في اختلاف الحكم المذكور، فإنَّ كل
واحد منهما مخير بينَ صوم الشهر الحاضر، وصوم شهر آخر بالنص،
إلا فرض مريض يضره الصوم ضرراً، لا يَجُوز معه الصوم فحينئذ
يصير كالحائض في حرمة الصلاة، وقوله: (والخلف لفظي) تابع فيه
الشيخ أبا إسحاق، فقالَ: لا فائدة له لأنَّ تأخير الصوم حالة
العذر جائز بلا خلاف، والقضاء بعد زواله واجب بلا خلاف، قلت:
لكن هل وجب بأمر جديد أو بالأمر الأول، وهذا فائدته، ونقل ابن
الرفعة ظهور فائدته في وجوب التعرض للأداء والقضاء في النية.
تنبيه: استغنى الْمُصَنِّف بهذه القاعدة عن مسألة المنهاج
الزائد على ما ينطلق عليه الاسم ليس بواجب؛ لأنَّه يَجُوز
تركه، فلا تظنه أهملها.
ص: (وفي كونه المندوب مأموراً به خلاف).
(1/234)
ش: أكثر أصحابنا على أنه مأمور به حقيقة،
كما قاله ابن الصباغ في (العدة) ولهذا قسموا الأمر إلى واجب
وندب، ونقله القاضي أبو الطيب عن نص الشافعي، وقيل: ليس
مأموراً به حقيقة بل مجازاً وهو اختيار الشيخ أبي
(1/235)
حامد وغيره، واحتج له الخطيب البغدادي
بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فضل الصلاة
بالسواك على الصلاة بغير سواك سبعون ضعفاً))، معَ قَوْلُه
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لولا أن أشق على أمتي
لأمرتهم)) قالَ: قيد في الأول عندَ كل صلاة، وأخبر في الثانِي
أنه لم يأمر به، فدل على أن المندوب غير مأمور به حقيقة، وظاهر
كلام الْمُصَنِّف: أن الخلاف في كونه مأموراً به أم لا وإنما
الخلاف في أنه حقيقة أو مجازاً.
ص: (والأصح ليس مكلفاً به).
ش: ما صَحَّحَهُ هو اختيار إمام الحرمين، فإنَّ التكليف يشعر
بتطريق المخاطب الكلفة من غير خيرة من المكلف، والندب فيه
تخيير، ومقابل الأصح هو
(1/236)
مذهب القاضي.
قال الإمام: والخلاف يرجع إلى مناقشة في العبارة، وزيف مذهب
الإمام بوجهين.
أحدهما: أن التخيير عبارة عما خير بينَ فعله وتركه، والندب
مطلوب الفعل مثاب عليه، فلم يحصل التساوي.
والثاني: أن التخيير يضاد الاقتضاء، فلا خيرة شرعية في الندب
والكراهة،
ص: (وكذا المباح ومن ثمَّ كانَ التكليف إلزام ما فيه كلفة، لا
طلبه، خلافاً للقاضي).
ش: أي: يجري الخلاف في المباح، والأصح أنه ليس مكلفاً به، وبه
قالَ
(1/237)
الجمهور، وقالَ الأستاذ: الإباحة من
التكليف على معنى أنا كلفنا اعتقاد إباحته، ورد بأن العلم بحكم
المباح خارج عن نفس المباح، واعتذر المقترح عنه بأن الإباحة
حكمها وجوب اعتقاد أن الفعل مباح، والوجوب من التكليف، فقد
لازمت ما فيه كلفة فأطلق عليها من التكليف لأجل الملازمة،
وأشار بقوله: (ومن ثم) إلى أن الخلاف في المسألتين مفرع على
الخلاف في حقيقة التكليف، ماذا هو؟ هل هو إلزام ما فيه كلفة،
فلا يكون المندوب والمباح مكلفاً به أو طلب ما فيه كلفة؟ وما
نقله عن القاضي نقله عن إمام الحرمين في (البرهان) لكنه في
كتاب (التلخيص من التقريب) للقاضي صرح بأنه إلزام ما فيه كلفة،
وقد أورد على العبارة الثانية أن الشارع قد ندب المكلف إلى (25
ب) تعجيل الفطر وتأخير السحور، معَ أن النفوس تشوف إلى ذلك
بالطبع، فلم يوجد فيه كلفة، ولذلك قالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أرحنا بالصلاة يا بلال)) كذلك التكليف
بترك تناول السموم ونحوها، والجواب: أن الكلفة باعتبار الجنس
لا كل فرد فرد.
تنبيه: استغنى الْمُصَنِّف بالخلاف في حد التكليف عن مسألة
(المختصر): أن المكروه غير مكلف به على الأصح؛ لأنَّ هذه
أصلها، فلا تظنه أهملها.
ص: (والأصح أن المباح ليس بجنس للواجب).
ش: أي: بل هما نوعان داخلان تحت الحكم، أي: نوعان في مرتبة،
وهذا ما رجحه ابْن الْحَاجِبِ وغيره فإنَّه لو كانَ جنساً له
لاستلزم النوع أي: لاستلزم الواجب التخيير، وهو محال، وجوزه
آخرون لأنَّ المباح هو المأذون فيه، وهو
(1/238)
شامل ويَجُوز أن يكون قول الْمُصَنِّف فيما
بعد: (والخلف لفظي) راجعاً إلى هذه أَيْضاًً، فإنَّ بعضهم ادعى
ذلك هنا، قالَ: لأنَّ من فسر المباح بالمخير لم يجعله جنساً،
ومن فسره بالمأذون فيه جعله جنساً.
ص: (وأنه غير مأمور به من حَيْثُ هو، والخلف لفظي).
ش: المخالف فيه الكعبي، قالَ: إنه مأمور به لكنه دون الندب،
كما أن الندب مأمور به دون الإيجاب، كذا حكاه عنه القاضي
والغزالي في (المستصفى)، وزيفه بأن الأمر اقتضاء وطلب، والمباح
غير مطلوب بل مأذون فيه ومطلق له، واحتج هو بأن كل فعل يوصف
بأنه مباح باعتبار ذاته فهو واجب باعتبار أنه يترك به الحرام،
ورد بأنه قد يترك بالندب حراماً فيكون واجباً وقد يترك بالحرام
حراماً آخر فيكون الشيء الواحد واجباً وحراماً، وهو تناقض،
والتحقيق في العبارة عنه: أن
(1/239)
يقال: ترك الحرام يحصل عندَ فعل المباح لا
بفعل المباح، كقول القاضي في الصلاة في الدار المغصوبة: يسقط
الفرض عندَها لا بها وجعل الْمُصَنِّف الخلاف لفظياً بقوله: من
حَيْثُ هو، يعني: فإنَّ له اعتبارين: أحدهما بالنظر إلى ذاته،
ولا شك أنه غير مأمور به، والكعبي لا يخالف فيه، والثاني:
باعتبار أمر عارض له، وهو ترك الحرام، ولا شك أنه مأمور به من
هذه الحيثية، والجمهور لا يخالفونه، وأشار الهندي إلى أنه
معنوي من جهة أخرى، فإنَّه بناه على الخلاف في أن الأمر حقيقة
في ماذا؟ فإنَّ قلنا: في رفع الحرج عن الفعل أو في الإباحة،
فهو مأمور به، وإن قلنا: حقيقة في الوجوب أو في الندب أو في
القدر المشترك، فليس بمأمور به، قالَ القاضي: وهو إن أطلق
الأمر على المباح فلا يسمى المباح واجباً، ولا الإباحة
إيجاباً.
ص: (وأن الإباحة حكم شرعي).
ش: على معنى أن الشرع ورد بها، كما قاله إمام الحرمين،
والمخالف فيه بعض المعتزلة والخلف لفظي يلتفت إلى تفسير
المباح، هل هو نفي الحرج، وهو ثابت قبل الشرع، أو الإعلام بنفي
الحرج؟ فكان ينبغي للمصنف أن يؤخر قَوْلُه:
(1/240)
(والخلف لفظي) عن هذا، ليعود للصور الثلاث،
فإنَّ قيل: كيف تجتمع هذه المسألة معَ قَوْلُه أولاً: (إن
المباح ليس مكلفاً به)؟ فالجواب: أنه لا يلزم من كون الإباحة
حكماً شرعياً، أن يكون مكلفاً بها، فإنَّ التكليف تفعيل مما
فيه كلفة، إما بالتزام فيه أو طلبه، ولا كلفة ولا إلزام ولا
طلب في المباح.
ص: (وأن الوجوب إذا نسخ بقي الجواز، أي: عدم الحرج، وقيل:
الإباحة، وقيل: الاستحباب).
ش: (26أ) الجواز يطلق لمعنيين: أحدهما: رفع الحرج عن الفعل،
فيدخل فيه الواجب وغيره، والثاني: رفع الحرج عن الفعل والترك،
وهو مستوى الطرفين، وهو المباح في اصطلاح المتأخرين والأول لا
شك أنه لازم للوجوب، والثاني ضده فلا يكون جازماً، قالَ
القرافي: وظاهر كلامهم إرادته، وأما الْمُصَنِّف فأشار بقوله:
أي رفع الحرج، إلى أن القائل ببقاء الجواز، اختلفوا في تفسيره:
هل معناه رفع الحرج الذي هو جنس غير مقيد بالتخيير، أو رفع
الحرج عن الفعل والترك على السواء وهو الإباحة، أو لا معَ
السواء وهو الندب؟ والفرق بينَ هذا وبين الأول: أن الأول يجعل
الجواز للقدر المشترك بينَ الندب والإباحة في ضمن واحد لإبقاء
نوع منهما على التعيين، والثاني والثالث بخلافه، فأما الأول:
فهو قضية كلام (المحصول) وأتباعه،
(1/241)
حَيْثُ جعلوا شبهة الخصم فيه: أن الجنس
يتقوم بالفصل، ولا يتم ذلك إلا إذا كانَ النزاع في رفع الحرج
الذي هو جنس غير مقيد بتخيير، والثاني: هو قضية كلام
(المستصفى) حَيْثُ قالَ في الرد على من قالَ ببقاء الجواز:
حقيقة الجواز التخيير بينَ الفعل والترك، والتساوي بينَهما
تسوية الشرع.
وأما الثالث: فصرح ابن القشيري والغزالي بأنه لم يصر إليه أحد،
أمَّا ابن القشيري فقالَ: لو جاز أن يقال بنفي الجواز، لساغ أن
يقال بنفي الندب لا سيما الاقتضاء الكائن في الندب كائن في
الندب كائن في الوجوب، والمحكي قصر الخلاف على الجواز، وأما
الْغَزَالِيّ فقالَ: هذا بمنزلة قول القائل: كل واجب فهو ندب
وزيادة، فإذا نسخ الوجوب يبقى الندب ولا قائل به، انتهى، لكن
هذا لا يحسن في الرد عليهم، إذا ثبت أن مرادهم بالجواز المعنى
الأول من غير تعيين نوعن فإنَّ قلت: فما عمدة الْمُصَنِّف في
حكاية الندب؟ قلت: الظاهر أنه أخذه من المسودة
(1/242)
الأصولية للشيخ مجد الدين ابن تَيْمِيَّةَ،
فإنَّه قالَ: إذا صرف الأمر عن الوجوب، جاز أن يحتج به على
الندب والإباحة، وبه قالَ بعض الشافعية وبعض الحنفية.
انتهى، وذهب جمع من المتأخرين إلى أن الخلاف لفظي؛ لأنَّا
فسرنا الجواز برفع الحرج عن الفعل والترك، ولا شك أنه غير داخل
فيها، بل هو ينافيها وحاصله رفع النزاع في المسألة لعدم توارده
على محل واحد، واعلم أن ما اختاره الْمُصَنِّف نقله في (شرح
المنهاج) عن الأكثرين، وليس كذلك وإنما شيء قاله الإمام
الرَّازِيّ وأتباعه، والذي وجدته في كلام أكثر أصحابنا
الأقدمين: أنه لا يحتج به على الجواز، ويرجع الأمر إلى ما كانَ
عليه قبل الوجوب من براءة أصلية أو تحريم أو ندب أو إباحة أو
كراهة.
ص: (مسألة الأمر بواحد من أشياء يوجب واحداً لا بعينه، وقيل:
الكل ويسقط
(1/243)
بواحد، وقيل: الواجب معين، فإنَّ فعل غيره
سقط، وقيل: هو ما يختاره المكلف).
ش: هذه مسألة الواجب المخير كخصال الكفارة، وحكي فيها أربعة
مذاهب، أصحها: أن الواجب واحد لا بعينه، وهو الكل المشترك بينَ
الخصال المأمور بها، ونقل القاضي إجماع سلف الأمة وأئمة
الفقهاء عليه، وحرر ابْن الْحَاجِبِ معنى الإبهام فقالَ: إن
متعلق الوجوب هو القدر المشترك بينَ الخصال ولا تخيير فيه؛
لأنَّه لا يَجُوز تركه، ومتعلق التخيير خصوصيات الخصال ولا
وجوب فيها (26 ب) والثاني: أن الكل واجب ولكن يسقط بفعل واحد،
ونقله القاضي عن أبي علي
(1/244)
وابنه من المعتزلة، وبعض الفقهاء، ولم يصحح
إمام الحرمين النقل عنه، قالَ: لأنَّه لا يؤثم التارك إثم من
ترك واجبات، ولا يثبت لمن فعل الجميع ثواب واجبات ومن فعل
واحداً سقط عنه الوجوب فلا خلاف معنى، قلت: مأخذ الخلاف الحسن
والقبح العقليان، إذ الوجوب عندَه يتبع الحسن الخاص، فيجب عندَ
التخيير استواء الجميع في الحسن الخاص وإلا وقع التخيير بينَ
حسن وغيره، وهذا تحقيق ما نقلوه عنه، وأنه لم يرد ما لمحه
الإمام من الثواب والعقاب، ولهذا قالَ الناصرون لمذهبه: إن
إيجاب مبهم ممتنع، إذا كانَ واحد من الثلاثة واجباً واثنان غير
واجب، لخلا اثنان من المقتضي للوجوب، فلا بد وأن يكون كل واحد
بخصوصه مشتملاً على صفة تقتضي وجوبه، ولكن كل منهما يقوم مقام
الآخر ولهذا يسمى بالواجب المخير.
والثالث: أن الواجب مبهم عندَنا معين عندَ اللَّه تَعَالَى،
ويسقط الوجوب به، وبفعل غيره من الأشياء المذكورة، ويسمى قول
التراجم؛ لأنَّ الأشاعرة تنسبه إلى المعتزلة، والمعتزلة تنسبه
إلى الأشاعرة، واتفق الفريقان على فساده، قالَ والد
الْمُصَنِّف، وعندي أنه لم يقل به أحد، وإنما المعتزلة تضمن
ردهم علينا ومبالغتهم في
(1/245)
تقرير تعلق الوجوب بالجميع ـ ذلك، فصار
معنى يرد عليهم، وأما رواية أصحابنا له عن المعتزلة ـ، فلا وجه
له، لمنافاته قواعدهم، قلت: لكن أبا الحسين القطان من أئمة
أصحابنا حكاه في كتابه (أصول الفقه) عن بعض الأصوليين.
والرابع: أن الواجب واحد وهو ما يفعله المكلف كذا حكاه ابْن
الْحَاجِبِ، وأغرب ابن السمعاني في (القواطع) فحكاه عن جمهور
الفقهاء: إنه يتعين بالفعل، فيكون مبهما قبل الفعل متعينا بعد
الفعل بفعله. انتهى.
قيل: فلو فعل الجميع كانَ الكل واجباً على هذا القول. واعلم أن
تعبير الْمُصَنِّف عنه بقوله: (ما يختاره المكلف) غير مطابق،
والذي تحققته أنه قول خلاف الذي قيل، ولهذا قالَ الشيخ تقي
الدين في (شرح الإلمام) اختلف في الواجب المخير، فقيل: الكل
واجب على البدل، وقيل:
(1/246)
الواجب واحد لا بعينه يتعين باختيار
المكلف، وقيل يتعين بالفعل لا بالاختيار، انتهى.
وحينئذ تصير المذاهب خمسة، ولا يقال: إن هذا هو القول الأول
الصحيح؛ لأنَّ مذهب أصحابنا أنه مبهم لم يزل وإذا فعل فمتعلق
الوجوب مسمى أحدهما لا ذلك المفعول بخصوصه، ثمَّ قالَ المحققون
منا كإمام الحرمين والشيخ إبي إسحاق وغيرهما، ومنهم كأبي
الحسين البصري: إنه لا خلاف بينَ الفريقين في المعنى لاتفاقهما
على أنه لا يجب الإتيان بالكل، ولا ترك كل واحد، وعليه أن يأتي
بأي واحد منها شاء نعم، يتحقق الخلاف على القولين السابقين عن
ابن دَقِيقِ العِيدِ: أن الوجوب التخييري هل معناه: أن
باختياره يصير واجباً أو أن باختياره يصير معينا للوجوب؟ وقالَ
ابن فورك، والغزالي: تظهر فائدته في الثواب كما سيأتي.
تنبيه: موضع المسألة ما إذا كانَ ثابتاً بالنص في أصل
المشروعية، وأما ما شرع من غير تنصيص على التخيير، كتخيير
المستنجي بينَ الماء والحجر، والتخيير في الحج (27أ) بينَ
الإفراد والقران والتمتع ونحوها، فهذا لا يدخل في المسألة
والغالب في أكثرها الترجيح، وقد يستحب الجمع بينَهما كالماء
والحجر، لكن الشيخ أبو مُحَمَّد الجويني في باب
(1/247)
الاستنجاء من (الفروق) جعل التخيير بينَ
الماء والحجر، من هذا الباب.
ص: (فإن فعل الكل فقيل: الواجب أعلاها، وإن تركها فقيل: يعاقب
على أدناها).
ش: حق الْمُصَنِّف أن يقول فعل الكل معاً، فإنَّه لو فعلها على
التعاقب، كانَ الأول هو الواجب، ويتصور فعل الكل معا في
الكفارة بأن يوكل فيها أو يوكل في البعض، ويباشر في البعض،
وتتفق أفعالهم في وقت واحد، وما حكاه الْمُصَنِّف من أن الواجب
أعلاها، حكاه ابن السمعاني في (القواطع) عن الأصحاب، فقالَ:
قالَ أصحابنا: إذا فعل الجميع فالواجب أعلاها، لتكثير ثوابه،
انتهى.
وحكاية هذا عن الأصحاب غريب، ولعله بناه على اختياره أن الوجوب
يتعين بالفعل، ونقله عن الجمهور وسبق منازعته فيه، وقياس قول
الأصحاب أن الواجب أحدها: ـ أنه يثاب على مسمى واحد منها؛
لأنَّه الواجب من غير نظر إلى الأعلى؛ لأنَّ الأعلى ليس هو
الواجب بخصوصه، وقد نقل القاضي عن أصحابنا أن الواجب واحد إذا
أتي بالجميع من غير تقييد بالأعلى، وجزم الشيخ أبو إسحاق في
(اللمع) بأنه يسقط عنه الفرض بواحد منها، والباقي تطوع، وأما
إذا تركها فالقول بأنه يعاقب على أدناها نقله ابن
(1/248)
السمعاني عن الأصحاب، وقد يوجه بأن الوجوب
يسقط بفعل الأدنى، وقد أنكر عليه بعضهم، وقالَ: إنما هو قول
القاضي أبو بكر، قلت: وعبارة القاضي أبي الطيب الطبري، يأثم
بمقدار عقاب أدناها لا أنه نفس عقاب أدناها، وينبغي أن يأتي
هنا قول أنه لا يعاقب إلا على مسمى أحدها.
ص: (ويَجُوز تحريم واحد لا بعينه، خلافاً للمعتزلة وهي
كالمخير).
ش: النهي عن واحد من الأشياء على التخيير كقوله: لا تكلم زيداً
أو عمراً، يقتضي تعلق النهي بواحد لا بعينه، فله فعل أحدهما
دون الآخر، وإنما يمتنع الجمع بينهما، هذا قول أصحابنا وقاسوه
على الأمر بواحد من أشياء، فإنَّه لا يقتضي وجوب الجميع، فكذلك
الأمر بالترك في أحد شيئين لا يقتضي وجوب تركهما وإلحاقهما
بالمخيرة، وذكره الآمدي وابْن الْحَاجِبِ، لكن المعتزلة لم
يوجبوا فعل الجميع هناك، وههنا أوجبوا اجتناب الجميع، فلا
يَجُوز له فعل واحد منهما، وبنوا هذا على أصلهم: أن النهي لا
يرد إلا عن قبيح، فإذا نهي عنهما ثبت قبحهما
(1/249)
وكانا منهيين وإن ورد النهي بلفظ التخيير،
اللهم إلا أن يدل دليل على أن كل واحد منهما منهي عنه بشرط
وجود الآخر، فيكون للتخيير ههنا فائدة بأن يقال: لا تأكل أو لا
تشرب، ويدل الدليل على أنه إنما نهى عن الأكل بعد وجوب الشرب،
وكذا إنما نهي عن الشرب بعد وجود الأكل فيكونا منهيين على
طريقة التخيير على هذا الوجه، هذا تحرير مذهب المعتزلة كما
قالَ ابن السمعاني وغيره، وحينئذ فلا يصح إطلاق إلحاقها
بالمخير، واستشكل القرافي القول بأن النهي يرد معَ التخيير
بينَ أمرين فصاعداً، وفرق بينه وبين الأمر بواحد من أشياء، بأن
الأمر هناك يتعلق بمفهوم أحدها الذي هو قدر مشترك بينها، لصدقه
على كل واحد منها، ومتعلق التخيير الخصوصيات، ولا يلزم من
إيجاب المشترك إيجاب (27 ب) الخصوصيات كما في إيجاب رقبة مطلقة
في العتق، لا يلزم منه إيجاب رقبة معينة، وأما النهي فإنَّه
يتعلق بمشترك حرمت أفراده كلها، ويلزم فيه من تحريم المشتركات
تحريم الخصوصيات، ثمَّ أجاب عن الجمع بينَ الأختين ونحوها، بأن
التحريم إنما يتعلق بالمجموع عيناً لا بالمشترك بينَ الأفراد،
والمطلوب أن لا يدخل ماهيته في الوجود وهو المجموع، والماهية
تنعدم بانعدام جزء منها، قالَ بعض الفضلاء: والظاهر أن هذا
مرادهم بتحريم واحد من الأشياء لا ذاك الذي استشكله،
وهو الكلي المشترك؛ لأنَّ من المحال عقلاً أن يفعل الإنسان
فرداً من جنس أو نوع أو كلي مشترك من حَيْثُ الجملة، ولا يفع
ذلك المشترك المنهي عنه، فإنَّ الكلي مندرج في الجزئي
بالضرورة، لكن يشكل كل هذا إحالتهم الكلام في هذه على الكلام
في الأمر بواحد من أشياء.
ص: (وقيل: لم ترد به اللغة).
ش: ذكر الْمُصَنِّف أن الماوردي حكاه في (شرح البرهان)، قلت:
وقد سبقه إليه القاضي في (التقريب) فحكاه عن بعض المعتزلة،
وأولوا قَوْلُه تَعَالَى: {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} على
جعل (أو) بمعنى الواو، وقالَ الإمام في (التلخيص) أنكر معظم
المعتزلة النهي عن شيئين على التخيير، ثمَّ اختلفوا، فمنهم
(1/250)
من أنكره من جهة اللفظ واللغة، ومنهم من
منعه من جهة العقل؛ لأنَّه إذا قبح أحدهما قبح الآخر، قالَ:
فأما ما أنكروه من جهة اللغة فساقط لا طائل تحته، فإنا لم
نخالفهم في لفظ بعينه فيفرض الكلام فيه، وإنما خالفناهم في
تصور ورود النهي على معرض التخيير، فإنَّ استبعدوا ذلك في
الألفاظ التي استشهدوا بها أوردنا عليهم من الصرائح ما لا
يجدون إلى جحده سبيلاً، وأما المنكرون له عقلاً، فمبني على أن
القبح يرجع إلى صفة ذاتية، وهو باطل.
ص: (مسألة: فرض الكفاية مهم يقصد حصوله من غير نظر بالذات إلى
فاعله).
ش: أصل هذا التعريف للغزالي، فإنَّه قالَ: كل مهم ديني يقصد
الشرع حصوله من غير نظر إلى فاعله، وقد حكاه الرافعي عنه في
كتاب السير، وقالَ: أشار به إلى حقيقة فرض الكفاية، ومعناه أن
فروض الكفايات أمور كلية تتعلق بها مصالح دينية ودنيوية، لا
ينتظم الأمر إلا بحصولها، يقصد الشارع تحصيلها، ولا يقصد تكليف
الواحد وامتحانه بها، بخلاف فروض الأعيان، فإنَّ الكل مكلفون
بها ممتحنون بتحصيلها، هذا كلام الرافعي وقد غيره الْمُصَنِّف
بالزيادة والنقص فقوله: (مهم يقصد حصوله) جنس يشمل فرض العين
والكفاية، وقوله: (من غير نظر إلى فاعله)، فصل، يخرج فرض
العين، وحذف قَوْلُه ديني، فإنَّه ليس من شرط
(1/251)
فرض الكفاية أن يكون دينياً، فإنَّ الحرف
والصناعات مهمات وليست دينية، وزاد قَوْلُه: (بالذات) لأنَّ
تعريف الْغَزَالِيّ يقتضي أن فرض الكفاية، لا ينظر إلى فاعله
ألبتة، وليس كذلك، ولهذا كانَ متعلق الثواب والعقاب، نعم ليس
الفاعل منه مقصوداً بالذات، والمقصود بالذات وقوع الفعل، وإنما
هو مقصود بالغرض؛ لأنَّه لا بد لكل فعل من فاعل.
ص: (وزعمه الأستاذ وإمام الحرمين وأبوه أفضل من العين).
ش: النقل عن الأستاذ أبي إسحاق والشيخ أبي مُحَمَّد (28 أ)
ذكره ابن الصَّلاَحِ في فوائد رحلته، والنقل عن الإمام موجود
في كتابه الغياثي، ونقله النَّوَوِيّ في (زوائد الروضة)،
فقالَ: قالَ الإمام: الذي أراه أن القيام بفرض الكفاية أفضل من
فرض العين؛ لأنَّ فاعله ساع في صيانة الأمة كلها عن المأثم،
ولا شك في رجحان من حل محل المسلمين أجمعين في القيام بمهمات
الدين.
انتهى، وقوله: (الذي
(1/252)
أراه) يوهم أنه من تفقهه، فلهذا صرح
الْمُصَنِّف بالنقل عن غيره، بل نقله الشيخ أبو علي السنجي في
أول (شرح التلخيص) عن المحققين، لكن لم يقل أحد منهم: إن فرض
الكفاية أفضل من فرض العين ـ كما عبر به الْمُصَنِّف ـ بل
قالُوا: القيام أو الاشتغال بالكفاية أفضل من القيام بفرض
العين أو للقيام بفرض الكفاية مزية على القيام بفرض العين،
وبين العبارتين تفاوت فليتأمل، وقد قالَ الشيخ عز الدين في
أماليه: لا يقال فرض العين أفضل من فروض الكفاية، ولا المضيق
أفضل من الموسع، لكون المعين معيناً والمضيق مضيقاً، بل
التفضيل على حسب المصالح المتضمنة في الأفعال، فإنَّ جهلت
المصالح، أمكن الاستدلال بالتضييق والتعيين على التفضيل، وكذلك
نازع في هذا الإطلاق من المتأخرين العبد الصالح: عز الدين عمر
النشائي، وقالَ: أمَّا جانب الترك فلا تمييز له على فرض العين،
من حَيْثُ إن أثم
(1/253)
الجميع إنما كانَ لترك الجميع لا ترك
بعضهم، فهو في جانب الترك كالمعين، وأما جانب الفعل، فليس
المقصود من الواجب رفع الحرج، إنما المقصود الفعل معَ ما يترتب
عليه من عبادة اللَّه تَعَالَى، ونيل ثوابه، ففي فعل المعين
ذلك معَ رفع الحرج كما ذكره، وفرق بينَ هذا وبين سقوط يترتب
عليه رفع الحرج فقط، فهذا معارض لما ذكره، والترجيح معنا؛
لأنَّ كل ما تأكد طلبه، كانَ إلى السقوط أبعد، وكل ما خف طلبه
كانَ إلى السقوط أسرع، فقد ظهر أن لسقوط فرض الكفاية طريقين،
ولفرض العين طريقاً واحداً، فهو آكد.
ص: (وهو على البعض، وفاقاً للإمام، لا الكل، خلافاً للشيخ
الإمام والجمهور).
ش: اختلفوا في فرض الكفاية: هل يتعلق بالكل أو بالبعض؟ على
قولين: أصحهما عندَ الجمهور: أنه بالكل، ونقله الآمدي عن
الأصحاب، وسبق جزم الرافعي به ووجهه تأثيم الجميع عندَ الترك،
والإثم فرع الوجوب، وإنما سقط بفعل البعض؛ لأنَّ المقصود به
تحصيل تلك المصالح، كإنقاذ الغريق، وتجهيز الميت ونحوه، فلا
تتكرر المصلحة بتكرره بخلاف فرض العين، فإنَّ القصد منه تعبد
جميع المكلفين فلا يسقط بفعل البعض، لبقاء المصلحة المشروعة
لها، وهو تعبد كل فرد.
والثاني: أنه بالبعض ونقله الْمُصَنِّف عن اختيار الإمام فخر
الدين، وكلام
(1/254)
(المحصول) مضطرب في ذلك، واحتج الْمُصَنِّف
على اختياره بقوله تَعَالَى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير}
وقوله تَعَالَى: {فولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} وأما تأثيم
الكل بالترك، فذاك مشروط بألا يظن قيام البعض به، وتعلقه
بالجميع يوجب إشكالاً، وهو سقوط الواجب عن شخص لا ارتباط بينه
وبين الآخر بفعل الآخر، وهذا لا يعقل، وفي استدلاله بالآيتين
نظر، وقد قالَ القرافي: الوجوب متعلق بالمشترك لأنَّ المطلوب
فعل أحد الطوائف (28 ب) ومفهوم أحد الطوائف قدر مشترك بينهما،
لصدقه على كل طائفة كصدق الحيوان على جميع أنواعه، واستدل
بالآيتين.
(1/255)
ص: (والمختار: البعض مبهم، وقيل: معين عندَ
اللَّه، وقيل: من قام به).
ش: إذا قلنا: إنه على البعض، فهل هو مبهم أو معين؟ قولان،
والأول منقول عن المعتزلة، وهو مقتضى كلام (المحصول) وإذا قلنا
بأنه معين، فهل هو معين عندَ اللَّه دون الناس، أو من قام به؟
قولان، ويجتمع من ذلك أقوال كما صرح به الْمُصَنِّف، وهذا نظير
الخلاف في الواجب المخير.
ص: (ويتعين بالشرع على الأصح)
ش: هذه من مسائل الفقه، ولم يتعرض لها الأصوليون وما قاله من
الترجيح ذكره ابن الرفعة في (المطلب) في باب الوديعة، ولم يرجح
الرافعي والنَّوَوِيّ في هذه القاعدة شيئاًَ بخصوصه، وهي
عندَهما من القواعد التي لا يطلق فيها ترجيح، لاختلاف الترجيح
في فروعها كما في الإبراء: هل هو إسقاط أو تمليك؟ ونظائره،
وقالَ القاضي البارزي في (التمييز) ولا يلزم فرض الكفاية
بالشروع في الأصح
(1/256)
إلا في الجهاد وصلاة الجنازة، وقد حررت هذا
الموضع في كتاب السير من (خادم الرافعي والروضة).
ص: (وسنة الكفاية كفرضها).
ش: هذا يقتضي ثلاثة أمور: أحدها: انقسام السنة إلى كفاية وعين،
والفرق بينَهما أن سنة الكفاية أن يكون القصد الفعل من غير نظر
إلى الفاعل كتشميت العاطس وابتداء السلام والأضحية في حق أهل
البيت الواحد، والعجب من قول القاضي حسين في باب الجمعة من
تعليقه، والشاشي: إنه ليس لنا سنة كفاية غير ابتداء السلام،
وسنة العين أن يقصد الفاعل كسنن الوضوء، والصلاة وغيرها.
وثانيها: طرد الخلاف السابق هنا، بمعنى أنها مطلوبة من الجميع
أو من البعض، ولم أر من تعرض لذلك، وثالثها: أنها أفضل من سنة
العين.
(1/257)
ص: (مسألة: الأكثر أن جميع وقت الظهر
جوازاً ونحوه وقت لأدائه، ولا يجب على المؤخر العزم على
الامتثال خلافاً لقوم).
ش: اختلفوا في الواجب الموسع، وهو أن يكون وقته زائداً على
فعله، والجمهور على أن جميع الوقت وقت لأدائه، بمعنى: أي جزء
أوقعه فيه وقع عن الواجب، ولا يقيد الوجوب بأول ولا بآخر، وهو
معنى قول أصحابنا: إن الفعل يجب بأول الوقت وجوباً موسعاً، وله
تأخره عن أوله، ولا ينافيه قولهم: إنه لو مات أو جن أو حاضت
قبل أن يمضي من وقت الصلاة ما يمكن فعلها فيه، فإنا نتبين أن
الصلاة لم تجب، كما قاله القاضي أبو الطيب وغيره، فإنَّ
المقصود بالمذكور هنا الوجوب ظاهراً، واحترز بقوله: جوازاً عن
وقت الضرورة، فإنَّه أوسع من ذلك، وهذا قيد زاده على المصنفين
لا بد منه، وأراد بنحوه: غيرها من الواجبات الموسع وقتها،
وأشار بقوله: (ولا يجب) إلى أنه على هذا القول هل يجب العزم
على الفعل قبل خروج الوقت، أو يكفي عدم العزم على عدم الفعل؟
وفيه وجهان حكاهما الماوردي في (الحاوي)، وقالَ النَّوَوِيّ في
(شرح المهذب): وأصحهما الوجوب، وبه جزم في (المستصفى) وخالف
الْمُصَنِّف، وقالَ: لا يعرف القول بوجوب
(1/258)
العزم إلا عن القاضي ومن تابعه كالآمدي،
وبالغ في تشنيع هذا القول على (29 أ) قائله، قالَ: وهو معدود
من هفوات القاضي ومن العظائم في الدين، فإنَّه إيجاب بلا دليل،
وكأنه أعمد قول الإمام في (البرهان) القائلون بذلك لا أراهم
يوجبون تجديد العزم في الجزء الثانِي، بل يحكمون بأن العزم
الأول ينسحب على جميع الأزمنة، كانسحاب النية على العبادة
الطويلة معَ عزوبها قالَ الْمُصَنِّف في (شرح المختصر) الفعل
في أول الوقت إن لم يكن واجباً فلا حاجة إلى البدل، وإن كانَ
تمام الواجب، فيتأدى ببدله، وإلا يلزم أن يكون واجبان، ولا
دليل عليه، وقد ألم القاضي في كتاب (التقريب) بهذا البرهان
القاطع، ثمَّ حام على إفساده فقالَ: قول خصومي: إنه لا دليل
على العزم ـ ممنوع، بل دليله أنه إذا ثبت جواز الترك معَ الحكم
عليه بأنه واجب، فلا بد أن يكون تركه على خلاف الفعل ليتميز
عنه، فيتعين القول بوجوب العزم لذلك، وضعفه الْمُصَنِّف،
وقالَ: يكفي في تميزه عن الفعل، أن إخراج الوقت عنه يؤثم من
غير احتياج إلى ما ذكر، قالَ: وأقوال الشافعي لا تؤخذ من
الفروع، وهذه نصوص الشافعي ومتقدمي أصحابه موجودة، ليس فيها
هذه المقالة، قالَ: وإنما موضع النظر أن من نوى الترك هل يعصى
بالنية؟ وفيه تفصيل، وهو أنه إن اقترن بهذه النية عدم الفعل
عصى بهما جميعاً، لحديث: ((ما لم تتكلم)) وإلا ففي معصيته
بالنية التي كذبها الفعل نظر واحتمال، وحديث: ((الفرج يصدق ذلك
أو يكذبه)) يدل على عدم المعصية، لكن القاضي حكى الإجماع على
أن العزم
(1/259)
يؤخذ به، وكأن العزم قدر زائد على النية،
انتهى، وقطع الشيخ في (اللمع) بوجوب العزم على الامتثال على
الفور وقالَ ابن برهان في (الوجيز) العزم تابع للفعل، فإنَّ
كانَ المعزوم عليه على الفور، كانَ العزم على الفور، وإن كانَ
على التراخي فعلى التراخي.
ص: (وقيل: الأول، فإنَّ أخر فقضاء، وقيل: الآخر، فإنَّ قدم
فتعجيل، والحنفية: ما اتصل به الأداء من الوقت وإلا فالآخر،
والكرخي: إن قدم وقع واجباً بشرط بقائه مكلفاً).
ش: المنكرون للواجب الموسع اختلفوا على مذاهب: أحدها: أن
الوجوب يتعلق بأول الوقت فإنَّ أخره عنه فقضاء، وعزاه البيضاوي
لبعض الشافعية، وهو لا يعرف عنهم، لكن الشافعي في (الأم) حكاه
عن بعض المتكلمين، ووجهه: أن الوجوب معَ جواز التأخير
متنافيان، والأصل ترتب المسبب على سببه، فيكون الوجوب الذي هو
مسبب، أول الوقت، وما بعده قضاء، يسد مسد الأداء.
والثاني: أنه متعلق بآخره، فإنَّ قدمه فتعجيل، وعزي للحنفية.
والثالث: أنه
(1/260)
متعلق بالجزء الذي يتصل به الأداء وإلا
فآخر الوقت الذي يسع الفعل ولا ينفصل عنه، وادعى الصفي الهندي
أنه المشهور عن الحنفية، وتابعه الْمُصَنِّف، لكن المشهور عنهم
قول الجمهور، كما ثبت في كتاب (الوصول إلى ثمار الأصول).
والرابع: أن المكلف إذا أتى به أول الوقت فهو موقوف، فإنَّ بقي
بصفة التكليف إلى آخر الوقت كانَ ما فعله واجباً وإلا فنفل،
وعزى للكرخي، وإنما قاله مراراً مما ورد على أصحابه من تعلقه
بآخر الوقت من إجزاء النفل عن الفرض، فاختار هذه الطريقة وهي
ضعيفة؛ لأنَّ كون الفعل حالة الإيقاع لا يوصف بكونه فرضاً ولا
نفلاً خلاف
(1/261)
القواعد، وحكي عنه أَيْضاًً أن الواجب
يتعين بالفعل في أي وقت كان.
ص: (ومن أخر معَ ظن (29 ب) الموت، عصى فإنَّ عاش وفعله،
فالجمهور: أداء، وقالَ القاضيان أبو بكر والحسين: قضاء).
ش: ما سبق فيما إذا كانَ يغلب على ظنه السلامة إلى آخر الوقت،
فإنَّ كانَ يتوقع الهلاك، ويغلب على ظنه عدم البقاء ـ فإنَّ
الوقت يتضيق عليه بالظن، فإنَّ أخر عصى بالاتفاق لجراءته على
التأخير، فلو عاش وفعله في الوقت، فذهب الْغَزَالِيّ وجماعة
إلى أنه أداء، إذ لا عبرة بالظن الذي يتبين خطؤه، وبه يعرف أن
التضييق ليس مؤثراً في نفس الأمر، وذهب القاضي أبو بكر والقاضي
حسين إلى أنه قضاء، نظراً إلى الظاهر، فإنَّه حكم بالتضييق
أولاً فيكون الوقت قد خرج، والصحيح الأول، فإنَّ النظر في
الأداء والقضاء إلى أمر الشارع لا إلى غيره، وينبغي أن يكون
(1/262)
موضع خلاف القاضي إذا مضى من وقت الظن إلى
حين الفعل زمن يسع الفرض، حتى يتجه القول بالقضاء، أمَّا إذا
لم يمض ذلك وبقي منه بقية فشرع فيها، فليكن على الخلاف إذا وقع
بعض الصلاة في الوقت وبعضها خارجه، والصحيح إن وقع ركعة في
الوقت فالجميع أداء وإلا فقضاء، ثمَّ في كلام الْمُصَنِّف
أمور: أحدها: تصوير المسألة ذكره غيره، وإنما هو مثال وليس
بقيد كما يقتضيه تعليلهم، بل الضابط ظن الإخراج عن وقته بأي
سبب كان، يمنع من الوجوب كالحيض والإغماء والجنون، ولهذا قالَ
إمام الحرمين في (النهاية) في الكلام على مبادرة الاستحاضة: لو
كانت معتادة طروء الحيض عليها في أثناء الوقت من يوم معين،
فإنَّ الوقت يتضيق عليها الثانِي: ما عزاه للجمهور يقتضي أنه
الراجح، لكن ذكر الرافعي فيما إذا صلى بالاجتهاد، ثمَّ بان أنه
بعد الوقت، فهل يكون قضاء أو أداء؟ وجهان أصحهما: قضاء، نظراً
لما في نفس الأمر؛ لأنَّه المكلف به، ويفرق بينَهما بأن هذا
خارج الوقت في نفس الأمر، ومسألتنا في الوقت في نفس الأمر
وخارجة في ظنه.
الثالث: ما نقله عن القاضي أبي بكر هو كذلك في كتاب (التقريبئ)
وأما القاضي حسين، فلا يعرف عنه التصريح بذلك، والظاهر أن
الْمُصَنِّف أخذه بالاستلزام من قَوْلُه: فيما إذا شرع في
الصلاة ثمَّ أفسدها ثمَّ صلاها في وقتها، كانت قضاء؛ لأنَّه
بالشروع يضيق الوقت بدليل أنه لا يَجُوز الخروج عنها، فلم يبق
لها وقت شروع، فإذا أفسدها فقد فات وقت الشروع، فلم يكن فعلها
بعد ذلك إلا قضاء وفيه نظر؛ لأنَّ مأخذهما مختلف، فمأخذ القاضي
أبو بكر في أنها قضاء لاعتقاده أن الوقت قد خرج، كما سبق في
تعريف القضاء، وأما القاضي حسين، فإنَّه معَ القول بأنها قضاء
يقول: إن الوقت باق، وبهذا صرح في باب صفة الصلاة من تعليقه،
(1/263)
فقالَ: قد يكون الظهر ظهراً في الوقت، ولا
يكون أداء بأن يشرع فيها ثمَّ يفسدها، والوقت باق، فيلزمه أن
يصليها في الوقت ثانياً بنية القضاء، ثمَّ قالَ بعدها بنحو
ورقة: مقتضى قول أصحابنا أنه ينوي القضاء؛ لأنَّه يقضي ما
التزمه في الذمة؛ لأنَّ الشروع يلزم الغرض في الذمة، بدليل أن
المسافر لو نوى إتمام الصلاة، وشرع فيها ثمَّ أفسدها، لا
يقضيها مقصورة، بل تامة؛ لأنَّه التزم الإتمام، قالَ: وعلى قول
القفال يتخير بينَ نية القضاء والأداء، وكذا لما ذكر المتولي
في (التتمة) المسألة صرح بأنها قضاء، وإن فعلت في الوقت، ولا
شك في خروجه عن قاعدة الأصول، وليقيد كلام القاضي بما إذا
فعلها ثانياً بعد مضي جميع وقت فعلها لأنَّ يتحقق الفوات كما
سبق (30 أ) وقد خالفهم الشيخ أبو إسحاق فجزم في (اللمع) بأنها
أداء، والتحقيق خلاف ذلك، وأنها إعادة لا قضاء ولا أداء.
ص: (ومن أخر معَ ظن السلامة، فالصحيح لا يعصي، بخلاف ما وقته
العمر كالحج).
ش: الموسع قد يكون وقته محدوداً كالصلاة، وقد يكون مدة العمر
كالحج، وقضاء الفائتة بعذر، فأما الأول فيعصي فيه بطريقين:
لخروج وقته، وبتأخيره عن وقت يظن فوته بعده كما سبق، فإنَّ غلب
على ظنه السلامة فمات قبل الفعل، فقيل يعصي، وإلا لم يتحقق
الوجوب، والصحيح: لا يعصي؛ لأنَّه مأذون له في التأخير، وهذا
فيما إذا كانَ الطارئ يرفع الوجوب كالموت، فإنَّ كانَ لا يرفعه
كالنوم والنسيان، فقال ابن الصَّلاَحِ (في الفتاوى): إذا نام
في أثناء الوقت إلى أن
(1/264)
خرج، فينبغي أن يعصي قطعاً، قالَ: فإنَّ
غلبه النوم فكالموت، وأما الموسع بالعمر، فيعصي فيه بالموت على
الصحيح، سواء غلب على ظنه قبل ذلك البقاء أم لا؛ لأنَّ التأخير
له مشروط بسلامة العاقبة، وهو في غاية الإشكال؛ لأنَّ العاقبة
عندَه مستورة.
والثاني: لا يموت عاصياً، ولكنه ينسب إلى التفريط، كما ينسب
تارك الصلاة عن أول وقتها حتى مات، وهو أشكل من الأول، للزوم
انتفاء ثمرته، وقد أطلق الماوردي وغيره حكايته هكذا، والصواب
تقييده بما إذا كانَ عازماً على الفعل ثمَّ اخترمته المنية،
وكذا حكى ابن الصباغ في (الشامل) فمن لم يعزم عصى قطعاً، وليس
من موضع الخلاف، وبه يرتفع الإشكال السابق، وجعل ابن الرفعة
التقييد وجهاً غير وجه الإطلاق، وحكاها أربعة أوجه، وليس بجيد،
لكن يمكن توجيهه بأنه مفرع على أنه لا يجب العزم في الواجب
الموسع كما سبق.
والثالث: يفرق بينَ الشيخ فيعصي، والشاب فلا، واختاره
الْغَزَالِيّ، وعلى هذا فلم يتعرضوا
(1/265)
لضابطه، وحكى الحوزي عن الأصحاب: تقدير
التأخير المستنكر ببلوغه نحو من خمسين سنة أو ستين؛ لأنَّ
العمر في الأغلب من الناس ستون، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ((أعمار أمتي ما بينَ الستين إلى السبعين)) وهو
غريب.
ص: (مسألة: المقدور الذي لا يتم الواجب المطلق إلا به واجب
وفاقاً للأكثر.
وثالثها إن كانَ سبباً كالنار للإحراق، وقالَ إمام الحرمين: إن
كانَ شرطاً شرعياً لا عقلياً أو عادياً).
ش: حاصله أنه يشترط لوجوب المقدمة شرطان أحدهما: أن يكون
مقدوراً للمكلف؛ لأنَّ غير المقدور لا يتحقق معه وجوب الفعل،
وهذا الشرط يعتبره من لا يَجُوز تكليف، ما لا يطاق دون مجوزه،
كذا قاله الصفي الهندي، وحينئذ فالمصنف ممن يَجُوزه كما سيأتي،
فكيف يحسن منه هذا التقييد؟.
الثاني: أن يكون مطلقاً ليحترز عن الواجب المقيد بحالة حصول
التوقف عليه، كقوله: إن ملكت النصاب
(1/266)
فزكه، فلا يقتضي إيجاب ملك النصاب اتفاقاً،
وكذا: حج إن استطعت، وفي هذا القيد أَيْضاًً نظر؛ لأنَّه لا
يتم الوجوب إلا به، وكلامه فيما لا يتم الواجب إلا به، وبينهما
فرق، ولهذا لما عبر ابْن الْحَاجِبِ بالواجب، لم يذكر المطلق،
ولما عبر في (المنهاج) بالوجوب ذكره، وقالَ في (المحصول):
النظر الثانِي في أحكام الوجوب، ثمَّ ذكر الشرطين، والمراد
بالمطلق أي: غير مشروط بذلك الشيء، ولكن وقوع ذلك الشيء شرطاً،
كما إذا قالَ له: صل، وعلمنا أنه يتعذر إيقاع الصلاة دون
الطهارة (30 ب) فهذا هو موضوع المسألة.
وقوله: لا يتم الواجب إلا به، يشمل ثلاثة أشياء: الجزء،
والسبب، والشرط، لكن الجزء ليس مراداً هنا؛ لأنَّ الأمر بالكل
أمر به تضمناً، ولا تردد في ذلك وإنما المتردد في السبب
والشرط، ـ وحاصله أن الأمر بالشيء، هل يستلزم الأمر بسببه أو
شرطه أو لا؟ ولذلك عبروا عنه بالمقدمة، والأكثرون على الوجوب
فيهما.
والثاني: المنع فيهما، وسواء كانَ
(1/267)
الشرط شرعياً كالوضوء للصلاة، أو عقلياً
كترك ضد الواجب، أو عادياً كغسل جزء من الرأس بغسل الوجه.
والثالث: يوجب السبب دون الشرط، ويعزى للشريف المرتضي، والمراد
بالسبب العلة كما إذا أمر بإحراق زيد، فإنَّ ذلك الواجب يتوقف
على النار الذي هو سبب الإحراق.
والرابع: يوجب الشرط الشرعي كالوضوء، دون العقلي والعادي، إذا
كانَ يتأتى الفعل به عقلاً أو عادة، لكن الشرع جعله شرطاً
للفعل، وهو قول إمام الحرمين، واختاره ابْن الْحَاجِبِ، وكلامه
يقتضي أن مراده بالشرط الذي أوجبه، الشرط والسبب جميعاً،
لاشتراكهما في كل منهما، يلزم من عدمه العدم، ولهذا لم يذكر في
صدر كلامه السبب، واقتضى كلام إمام الحرمين: أنه لم يحترز
بالشرط الشرعي عن العقلي الذي يتوقف عليه وجود الفعل عقلاً،
وإنما احترز عن لازمه أي: الذي يلزم وجوده عقلاً أو عادة، ولا
يسميه شرطاً؛ لأنَّ الشرط خارج، وهذا داخل مسماه، ولذلك قالَ
في (التلخيص) وقد أورد غسل شيء من الرأس لغسل الوجه: إنه يلزم
من جعله شرطاً متضمناً للأمر بغسل الوجه، كما أن الوضوء
للصلاة، قلنا هذا لأنَّه نصه، بل نقول: ما لا يتم
(1/268)
نفسه، هذا كلامه، واللازم غير الشرط،
فإنَّه لزم من عدمه عدم المشروط؛ لأنَّا إنما نعني بالشرط هنا:
ما يتوقف عليه وجود المشروط، وحينئذ ففي تصريح الْمُصَنِّف
بنفي العقلي نظر.
ص: (فلو تعذر ترك المحرم إلا بترك غيره وجب).
ش: إذا لم يمكن الكف عن المحرم إلا بالكف عما ليس بمحرم، كما
إذا اختلط النجس بالماء الطاهر القليل، فيجب الكف عن استعماله،
كما قاله جمع من الأصحاب منهم ابن السمعاني في (القواطع) وظاهر
كلامه: أنه لا يأتي فيه الخلاف السابق، وإنما حكى الخلاف في
كيفية التحريم، قالَ: فمنهم من قالَ: يصير كله نجساً، وهو
اللائق بمذهبنا، وقيل: إنما حرم الكل لتعذر الإقدام على تناول
(1/269)
المباح، لاختلاط المحرم به، قالَ: وهو
اللائق بمذهب الحنفية.
ص: (فلو اختلطت منكوحة بأجنبية حرمتا).
ش: أي: لوجوب الكف عنهما، أمَّا الأجنبية فبالأصالة، والمنكوحة
لاشتباهها بالأجنبية، فالكف عنهما هو طريق حصول العلم بالكف عن
الأجنبية وحكى في (المحصول) عن قوم: إن الحرام هي الأجنبية،
والمنكوحة حلال، وزيفه بأن المراد بالحل رفع الحرج، والجمع
بينه وبين التحريم متناقض، وقوله: (الأجنبية) مثال،
فالأجنبيتان كذلك، قالَ النَّوَوِيّ في (شرح المهذب): وليس له
وطء واحدة منهن بالاجتهاد، بلا خلاف؛ لأنَّه إنما يستباح
بالعقد لا بالتحري.
ص: (أو طلق معينة ثمَّ نسيها).
ش: أي فيحرم عليه الجميع حتى يتذكر، إذ لا يمكن الكف عنها إلا
بذلك، هذا هو المعروف، ويلتحق به ما لو قالَ لزوجتيه: إحداكما
كما طالق. وذكر الإمام في (المحصول) احتمالاً أنه يحل وطؤهما
وأيده (31 أ) الْمُصَنِّف في (شرح المنهاج) بما نقله ابن
الرفعة عن كتاب الوزير ابن هبيرة أنه حكى عن ابن أبي
هُرَيْرَةَ من
(1/270)
أصحابنا، أنه إذا طلق واحدة من نسائه لا
بعينها ثمَّ نسيها، طلاقاً رجعياً، أنه لا يحال بينه وبين
وطئهن، وله وطء أيتهن شاء، وإذا وطئ واحدة انصرف الطلاق إلى
صاحبتيها، ولا حاجة لنقله عن ابن هبيرة، ففي الرافعي في باب
الشك في الطلاق عن صاحب (الشامل) وغيره: أنا إذا قلنا: الوطء
تعيين كما هو المرجح للزوج وطء أيتهما شاء وإنما يمتنع من
الوطء إذا لم يجعله تعييناً.
تنبيه: أهمل الْمُصَنِّف مسألة (المنهاج) إحداكما طالق حرمتا،
إما أنه رأى دخولها في التي قبلها، أعني: اختلاط المنكوحة
بالأجنبية، ولا فارق بينهما، إلا أن إحدى المرأتين في ذلك ـ
وهي الأجنبية ـ محرمة في نفس الأمر، وكل واحدة منهما في
إحداكما على حد سواء، أو رأى أنها أولى بالتحريم من صورة تطليق
المعينة، ثمَّ نسيانها التي ذكرها، لكن هناك الطلاق موقوف،
وهنا اتصل بمحل ثمَّ التبس.
ص: (مسألة: مطلق الأمر لا يتناول المكروه، خلافاً للحنفية، فلا
(1/271)
تصح الصلاة في الأوقات المكروهة وإن كانت
كراهة تنزيهئ، وهو الصحيح).
ش: هذه المسألة أصل الصلاة في الدار المغصوبة التي اقتصر
المصنفون على ذكرها وأهملوا أصلها، وكان العكس أجدر، ووجه كونه
لا يتناول المكروه أنه مطلوب الترك، والمأمور مطلوب الفعل،
فيتناقضان، والخلاف على هذه الحالة حكاه ابن السمعاني في
(القواطع) وهو عمدة في الحكاية عن الحنفية، لكونه كانَ حنفياً
ثمَّ تشفع، فقالَ: الفعل بوصف الكراهة لا يتناوله الأمر
المطلق، وذهب أصحاب أبي حنيفة إلى أنه يتناوله، والخلاف يظهر
فائدته في قَوْلِهِ تَعَالَى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} فعندنا
لا يتناول الطواف بغير طهارة ولا الطواف منكوساً، وعلى مذهبهم
يتناوله، فإنَّهم وإن اعتقدوا كراهية هذا الطواف، ذهبوا إلى
أنه
(1/272)
دخل في الأمر، حتى يتصل به الإجزاء الشرعي،
وعندنا لا يدخل ولا جواز لمثل ذلك في الطواف، قالَ: وهذا
المثال على أصلهم يتصور، فأما عندَنا فإنا لا نقول: إن ذلك
طواف مكروه، بل لا طواف أصلاً، لقيام الدليل على أن الطهارة
شرط فيه كالصلاة، على أن الطواف على هيئة مخصوصة، لا توجد إذا
طاف منكوساً قالَ: وحجتنا أن الأمر يفيد الوجوب حقيقة، والندب
والإباحة مجازاً، فما ليس بواجب ولا مندوب ولا مباح لا يتصور
أن يتناوله الأمر، وأشار الْمُصَنِّف بقوله: (فلا تصح): إلى أن
من فروعها أَيْضاًً الخلاف في صحة الصلاة في الأوقات المكروهة،
وما صرح به من تصحيح البطلان، وإن قلنا: إنها كراهة تنزيه هو
كذلك، فإنا وإن قلنا إنها كراهة تنزيهية على وجه قطع الثديجي،
فإنَّ الصلاة تبطل على المرجح المفرع على الوجهين جميعاً،
ولهذا قالَ في (الروضة) في الكلام على الماء المشمس، إنه كراهة
تنزيه لا يمنع من صحة الطهارة، وقالَ في دقاقها: احترزت بهذا
القيد عما يكره تنزيها ويمنع من الصحة، كالصلاة في الوقت
المكروه، لكن قد استشكل
ذلك، إذ كيف يقال: إن العبادة لا تنعقد، ومع ذلك فعلها جائز،
معَ أن الإقدام على العبادة التي لا تنعقد حرام بالاتفاق،
لكونه تلاعباً (31 ب) وقالَ الشيخ نجم الدين في (المطلب): الحق
عندَي أن الصلاة في الوقت المكروه لا تنعقد، وإن كانت غير
محرمة؛ لأنَّ كلامنا في صلاة نفل لا سبب لها، والمقصود منها
إنما هو طلب الأجر، وتحريمها أو كراهيتها يمنع حصوله، وما لا
يترتب عليه مقصوده باطل، كما تقرر من قواعد الشريعة، وقد يرد
على إطلاق الْمُصَنِّف الصوم المكروه، كتخصيص يوم الجمعة،
فإنَّه منهي عنه نهي تنزيه، وظاهر كلامهم أنه ينعقد إلا أن
يدعى أنه لأمر خارج، ولك أن تبحث عن قول الْمُصَنِّف: (مطلق
الأمر) وعدوله عن عبارة ابن السمعاني: (الأمر المطلق).
(1/273)
ص: (أما الواحد بالشخص له جهتان كالصلاة في
المغصوب، فالجمهور: تصح ولا يثاب، وقيل: يثاب، والقاضي
والإمام: لا تصح، ويسقط الطلب عندَها: وأحمد: لا صحة ولا
سقوط).
ش: الواحد بالشخص إن لم يكن له إلا جهة واحدة، فلا خلاف في
امتناع كونه مأموراً به منهياً عنه، إلا إن جوزنا تكليف ما لا
يطاق؛ لأنَّ المأمور به يمتنع تركه بمقتضى الأمر، ومقتضى
النهي: المنع من فعله، والجمع بينَهما جمع بينَ المتنافين، وإن
كانَ له جهتان فهل يَجُوز أن يؤمر به من وجه وينهى عنه من وجه؟
كالصلاة في المغصوب؟ فقال الجمهور: يصح؛ لأنَّ تعدد الجهات
موجب للتغاير لتعدد الصور،
(1/274)
وجعلوا اختلاف الجهتين كاختلاف المحلين؛
لأنَّ كل واحدة من الجهتين منفكة عن الأخرى، واجتماعهما إنما
وقع باختيار المكلف، فليسا بالمتلازمين، فلا تناقض، وذهب طائفة
إلى أنه لا يصح، ثمَّ افترقوا فرقتين: ففرقة قالت: لا يسقط بها
الفرض. وهو منقول عن أحمد وفرقة ذهبت إلى السقوط، ونقله المصنف
(1/275)
عن القاضي أبي بكر والإمام الرَّازِيّ، وفي
كل منهما نظر، وعبارة المحصول في مسألة الصلاة في الدار
المغصوبة: وإن لم تكن مأموراً بها، إلا أن الفرض يسقط عندَها
لا بها؛ لأنَّا بينا بالدليل امتناع ورود الأمر بها، والسلف
أجمعوا على أن الظلمة لا يؤمرون، بقضاء الصلاة المؤداة في
الدور المغصوبة، ولا طريق إلى التوفيق بينَهما إلا بما ذكرناه،
وهو مذهب القاضي أبي بكر، انتهى.
وقالَ الصفي الهندي: الصحيح أن القاضي إنما يقول بذلك لو ثبت
القول بصحة الإجماع على سقوط القضاء، فأما إذا لم يثبت ذلك فلا
نقول بسقوط القضاء بها وعندها، انتهى.
ولا إجماع معَ خلاف أحمد وطائفة، وممن منع الإجماع: إمام
الحرمين وابن السمعاني وغيرهما.
وقد حكى القاضي حسين في تعليقته في باب صلاة المسافر وجهين
لأصحابنا: أحدهما لا تصح للمعصية.
والثاني تصح لأنَّ المعصية ليست في عين الصلاة، بل للمقام في
أرض الغير، انتهى.
وأما قول المصنف: (ولا يثاب)، فهذه من مسائل الفقه، نقلها
النَّوَوِيّ في (شرح المهذب) عن القاضي أبي منصور ابن أخي ابن
الصباغ فقال في فتاواه التي جمعها عن عمه: المحفوظ من كلام
أصحابنا بالعراق أن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة ولا ثواب
فيها، قالَ القاضي أبو منصور، رأيت أصحابنا بخراسان اختلفوا
فمنهم من أبطل صلاته قالَ: وذكر شيخنا ـ يعني ابن الصباغ ـ في
كتابه (الشامل) أنه ينبغي حصول الثواب عندَ من
(1/276)
صَحَّحَهُا، قالَ القاضي: وهو القياس،
انتهى، فقول المصنف: (وقيل: يثاب)، هو احتمال ابن الصباغ (32
أ).
ص: (والخارج من المغصوب تائباً آت بواجب، وقالَ أبو هاشم: لا،
آت إلى محرم، وقالَ إمام الحرمين: هو مرتبك في المعصية معَ
انقطاع تكليف النهي عنه، وهو دقيق).
ش: (تائباً) منصوب على الحال، وقوله: (آت بواجب) خبر قوله:
(والخارج) أي: لا تحريم فيه، وإن وجد منه اعتباران: الشغل
والتفريغ؛ لأنَّه لا يمكن إلا بالشغل، وقالَ أبو هاشم: خروجه
كلبثه؛ لأنَّه يتصرف في ملك الغير بغير إذنه، وذلك قبيح لعينه،
(فهو منهي عنه بهذا الاعتبار، ومأمور به؛ لأنَّه
(1/277)
انفصال عن المكث، وبناه على الفاسد في
الحسن والقبح، ولكنه أخل بأصله الآخر، وهو منع التكليف
بالمحال، فإنَّه قالَ: لو خرج عصى، ولو مكث عصى، فحرم عليه
الشيء وضده جميعاً، وقالَ إمام الحرمين: هو مأمور بالخروج،
وإنما يعصي بما تورط به من العدوان السابق، وقالَ: وهو مرتبك
في المعصية لحكم الاستصحاب معَ انقطاع تكليف النهي، واستبعده
ابن الحاجب وضعفه الغزالي لاعترافه بانتفاء النهي، فالمعصية
إلى ماذا تستند؟
قلت: وهو نظير قول الفقهاء فيمن ارتد ثمَّ جن ثمَّ أفاق وأسلم:
إنه يجب قضاء صلوات أيام الجنون لاستصحاب حكم معصية الردة
عليه، والمرتبك هو المشتبك الذي لا يمكنه أن يخلص.
ص: (والساقط على جريج يقتله إن استمر، وكفؤه، إن لم يستمر
وقيل: يتخير، وقالَ إمام الحرمين: لا حكم فيه، وتوقف الغزالي).
ش: إنما ذكر هذه عقيب ما سبق؛ لأنَّ إمام الحرمين قالَ: إن
غرضه يظهر بمسألة ألقاها أبو هاشم، فحارت فيها عقول الفقهاء
وهي أن من توسط جمعاً من الجرحى وجثم على صدر واحد منهم، وعلم
أنه لو بقي لأهلكه، ولو انتقل لهلك آخر، قالَ: لم أحصل فيها من
قول الفقهاء على ثبت، والوجه القطع بسقوط التكليف عنه معَ
استمرار حكم سخط الله تعالى وغضبه، وقد سأله الغزالي عن هذا،
فقالَ: كيف تقول: لا حكم، وأنت ترى أن لا تخلو واقعة عن حكم؟
فقالَ:
(1/278)
حكم الله أن لا حكم، قالَ الغزالي: فقلت
له: لا أفهم هذا، قالَ الأبياري: وهذا أدب حسن، وتعظيم
للمشايخ؛ لأنَّ هذا تناقض، وإذ لا حكم: نفي عام، فكيف يتصور
ثبوت الحكم معَ نفيه على العموم؟ فهذا لا يفهم، لا لعجز السامع
عن الفهم، بل لكونه غير مفهوم في نفسه، انتهى، وللإمام أن
يقول: لا حكم: بمعنى انتفاء الأحكام الخمسة، والبراءة الأصلية
حكم الله، ولا تخلو واقعة عن حكم بهذا الاعتبار، ومثله قول
النحاة: ترك العلامة علامة، فكذلك نفي الحكم حكم بهذا
الاعتبار، ويشهد له ما بينا، ذكره الشيخ عز الدين، وقالَ في
(المنخول) المختار أن لا حكم لله فيه، فلا نؤمر بمكث ولا
انتقال، وقالَ في آخر الكتاب: حكم الله فيه أن لا حكم، هذا ما
قاله الإمام ولم أفهمه بعد، انتهى.
وذكر في هذا الكتاب احتمالين: أحدهما: أنه يمكث، فإنَّ
الانتقال فعل مستأنف.
الثاني: يتخير، وكلام المصنف يوهم أن هذين القولين لغيره،
(1/279)
وفرض الشيخ عز الدين في قواعده المسألة:
الساقط على أطفال، وقالَ: قيل: ليس في هذه المسألة حكم شرعي
وهي باقية على الأصل في انتفاء الشرائع قبل نزولها، ولم نر
الشريعة (32 ب) تخير بينَ هاتين المفسدتين، قالَ: فلو كانَ
بعضهم مُسْلِماً، وبعضهم كافراً، فهل يلزمه الانتقال إلى
الكافر؛ لأنَّ قتله أخف مفسدة؟ الأظهر عندَي لزومه؛ لأنَّا
نجوز قتل أولاد الكفار عندَ التترس بهم، حيث لا يَجُوز مثل ذلك
في أطفال المسلمين. انتهى ولا يخفى أن هذا التردد في الطفل
الكافر المعصوم دمه، فإنَّ كانَ حربياً، فلا شك في لزوم
الانتقال إليه، ويحتمل ـ على بعد ـ طرده فيه.
ص: (مسألة: يَجُوز التكليف بالمحال مطلقاً ومنع أكثر المعتزلة
والشيخ أبو حامد، والغزالي، وابن دَقِيقِ العِيدِ ما ليس
ممتنعاً، لتعلق العلم بعدم وقوعه، ومعتزلة بغداد والآمدي:
المحال لذاته، وإمام الحرمين: كونه مطلوباً لا ورود صيغة
الطلب).
ش: القول بالجواز هو مذهب جماهير الأصحاب. وقوله: (مطلقاً)،
أي: سواء امتنع لذاته، وهو ما يلزم من تصوره المحال كالجمع
بينَ الضدين، كالتكليف بالفعل معَ استمرار المانع، واحتج الشيخ
الأشعري في كتاب الوجيز على القائلين باستحالته بقوله تعالى:
{ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} فقالَ: لو كانَ ذلك محالاً لما
استقام الابتهال إلى اللهِ بدفعه.
والثاني: امتناعه مطلقاً، وبه قالَ أكثر
(1/280)
المعتزلة، وساعدهم كثير من أئمتنا، كما
قاله ابن القشيري في المرشد، لكن مأخذهم يختلف، فمأخذ المعتزلة
في المنع التفريع على أصلهم في القبح العقلي؛ لأنَّه يقبح في
العقلي، وعندنا لا يقبح من اللهِ تعالى شيء، وإنما مأخذ المنع
أن الفعل والترك لا يصحان من العاجز فبطل تقدير الوجوب، ونقله
المصنف عن الشيخ أبي حامد الإسفراييني والغزالي، وهو فيه تابع
للصفي الهندي، لكن سيأتي عن الغزالي التفصيل، وكلامه في
(المستصفى) يصرح به، وزاد المصنف عن ابن دَقِيقِ العِيدِ، قالَ
في شرح المنهاج: إنه صرح به في شرح العنوان، لكن عبارة شرح
العنوان: المختار عندَنا عدم جواز التكليف بالمحال، ثمَّ قالَ:
والذي نمنعه المحال لنفسه لا المحال لغيره، فكأن المصنف نظر
صدر الكلام دون آخره، وحينئذ فهنا قول الآمدي الذي نقله بعده،
نعم، وافقهم من المتأخرين الأصفهاني شارح المحصول، واحتج بأن
قيام حقيقة الطلب النفساني من العالم بالاستحالة لذاته أو
لغيره ـ محال، قالَ: والقضية بديهية، فإنَّ انفصل عن هذا بأن
حقيقة الطلب غائباً غير حقيقة الطلب
(1/281)
شاهداً ـ لزم فساد قاعدة كلام النفس
وإثباتها، وأشار بقوله: (ما ليس ممتنعاً) إلى أن محل الخلاف في
المتعذر عادة سواء كانَ معه التعذر العقلي أم لا، أمَّا التعذر
عقلاً لتعلق علم الله تعالى به فأجمعوا على جوازه، وقد كلف
الله الثقلين أجمعين بالإيمان معَ قوله تعالى: {وما أكثر الناس
ولو حرصت بمؤمنين} لكن في هذا الاستثناء خدش من جهة أنه إنما
يأتي على القول بأن ما تعلق العلم بعدمه، مستحيل، وليس ذلك
متفقاً عليه، وقد ذهب قوم منهم الغزالي في المنخول: إلى أن
الممتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه، لا يسمى مستحيلاً؛ لأنَّه في
ذاته جائز الوقوع، فلا تتغير حقيقته بالعلم، وقد أقدر الله
الكفار على الإيمان، وعلم أنهم يمتنعون معَ القدرة، فكان كما
علم، فلم ينقلب المقدور (33 أ) معجوزاً
بسبب علمه.
والثالث إن كانَ ممتنعاً لذاته لم يجز، وإلا جاز، واختاره
الآمدي، وادعى أن الغزالي مال إليه.
والرابع: قول إمام الحرمين وحكاه عنه ابن القشيري في المرشد،
إن أريد بالتكليف بالمحال: طلب الفعل، فهو محال من العالم
باستحالة وقوع المطلوب، وإن أريد ورود الصيغة وليس المراد بها
طلباً، مثل قوله تعالى: {كونوا قردة خاسئين} فغير ممتنع،
(1/282)
واختاره الغزالي في المنخول، وهو في
الحقيقة تنقيح مناط، ففي جعل المصنف له مذهباً رابعاً، نظر،
ولهذا قالَ ابن برهان: الخلاف على هذا لفظي، بخلافه على قول
المعتزلة، ومن ثمَّ حاول بعض المتأخرين نفي الجواز عن الأشعري،
وزعم أن الذي جوزه ورود صيغة مضاهية لصيغة الأمر والغرض منها
تعجيز وتبيين حلول العقاب الذي لا محيص عنه وليس المراد طلباً
واقتضاء ويخرج مما ذكرناه مناقشات على كلام المصنف ونزيد هنا
أمرين.
أحدهما: قوله: (ما ليس ممتنعاً، لتعلق العلم بعدمه) أي: هذا
موضع النزاع، أمَّا الممتنع لذلك فأجمع الكل على جوازه، وهذا
تابع فيه ابن الحاجب، وليس بمسلم كما بينته في (الدرر على
المنهاج والمختصر) وقد ظن بعضهم أن عبارة المصنف منعكسة، وهو
غلط، بل هي الصواب كما بيناه.
ثانيا: لك أن تسأل عن الفرق بينَ المذهب الثاني والثالث وإنهما
واحد، وإنما اختلفت العبارة؛ لأنَّ الإيمان من الكفار، الذي
علم الله أنهم لا يؤمنون ـ مستحيل، لكن استحالته ليست لذاته بل
نظراً لتعلق العلم بالكفر، فهو ممتنع لغيره، ولهذا قالَ المصنف
في قول ابن الحاجب: والإجماع على صحة التكليف بما علم الله أنه
لا يقع ـ: (إن هذا ضرب من الممتنع لغيره، وحينئذ فيرجع هذا
القول إلى التفصيل بينَ الممتنع لذاته ولغيره، وغاية ما يلمح
في الفرق بينهما، أن الثالث: يَجُوز الممتنع لغيره
(1/283)
في نوع خاص وهو ما تعلق بعدمه لكن يلزم من
هذا إثبات قول في الممتنع لغيره بالتفصيل بينَ ما تعلق العلم
بعدمه وبين غيره، ولم يذكره أحد من المصنفين، وإن كانَ كلامهم
يقتضيه، وقد يتوقف فيه، وما وجه الفرق، ويشهد لذلك نقل إمام
الحرمين في (الشامل) عن معتزلة بغداد أنه يصح أن يؤمر بإيقاع
فعل في وقت، معَ العلم بأن العبد سيمنع منه، قالَ: وهو لا جوزو
الأمر بما علم الله نسخه، والموقع للمصنف في هذا الكلام، الصفي
الهندي، لكن الهندي كالمتوقف في صحة الإجماع، فلهذا ساغ منه
حكاية التفصيل فإنَّه قالَ: المشهور عن المعتزلة منع التكليف
بالمحال مطلقاً، غير أن بعضهم نقل أن الفرق كلها أجمعوا على
جواز التكليف بما علم الله أنه لا يكون من الممكنات عقلاً وعلى
وقوعه شرعاً، كالتكليف بالإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن كأبي
جهل إلا بعض الثنوية، قالَ: فإنَّ صح هذا النقل يجب أن يفصل
بينَ ما يكون محالاً بسبب تعلق العلم بعدم وقوعه، وبين ما لا
يكون كذلك، فنسب إليهم امتناع التكليف بالشيء دون امتناعه
مطلقاً، ثمَّ قالَ: ومنهم من فصل بينَ أن يكون محالاً لذاته،
وبين ما لا يكون كذلك فاختار التكليف بالثاني دون الأول، وإليه
ذهب بعض معتزلة بغداد، قالُوا: يَجُوز أن يكلف الله العبد
بالفعل في وقت علم الله تعالى أن يكون ممنوعاً منه. انتهى (33
ب).
ص: (والحق وقوع الممتنع بالغير لا بالذات).
ش: القائلون بالجواز اختلفوا في وقوعه، والذي يتحصل منه مذاهب:
الوقوع مطلقاً، وعدمه مطلقاً وحكاه الإمام في (الشامل) عن
الجمهور، والثالث التفصيل بينَ الممتنع لذاته، كقلب الحقائق
معَ بقاء الحقيقة الأولى فيمتنع، وأما الممتنع لغيره فيَجُوز،
وهو ظاهر اختيار الإمام في (الشامل) وجرى عليه صاحب (المنهاج)
(1/284)
وغيره، واعترض عليه المصنف في شرحه تبعاً
للنور الأردبيلي، فقالَ: إنه يفهم منه وقوع الممتنع لغيره
مطلقاً والحق فيه التفصيل أيضاًً، فإنَّ كانَ مما قضت العادة
بامتناعه كحمل الصخرة العظيمة للرجل النحيف ـ فحكمه حكم
الممتنع لذاته في الجواز وعدم الوقوع، وأما ما امتنع، لتعلق
العلم به، فذاك ليس محل النزاع بل هو واقع الإجماع وهذا وارد
على إطلاقه.
ص: (مسألة: الأكثر أن حصول الشرط الشرعي ليس شرطا في صحة
التكليف).
ش: أي بالمشروط، بل يصح التكليف بالمشروط حالة عدم الشرط،
خلافاً لأهل الرأي والمراد بـ (الشرط الشرعي) ما يتوقف عليه
صحة الشيء شرعاً كالوضوء للصلاة فخرج ما يتوقف عليه وجوده
عقلاً كالتمكن من الأداء الزائل بالنوم والفهم من الخطاب
الزائل بالغفلة والنسيان فإنَّ حصوله شرط في صحة التكليف، وقد
سبق، وقد استشكل الفرق بينَهما وبين المسألة السابقة في مقدمة
الواجب، فإنَّها إذا وجبت وجب تحصيل الشرط فما فائدة ذكر هذه
المسألة؟ قلت: الكلام في حصول الشرط الشرعي بالنسبة إلى الصحة،
فعندنا لا يتوقف صحة التكليف على حصوله، ومسألة المقدمة
بالنسبة إلى الواجب نفسه إذا توقف على أمر آخر من شرط أو غيره،
(1/285)
هل يوجب المقدم، فهما غيران لا تعلق
لأحدهما بالآخر.
ص: (وهي مفروضة في تكليف الكافر بالفروع).
ش: أي وإن كانت أعم منه، لكن الخلاف في هذه المسألة، هذا أصله،
وقد نازع الصفي الهندي في ترجمتها بما ذكره المصنف، فإنَّ
المحدث يكلف بالصلاة إجماعاً، وقضية هذه الترجمة طرد الخلاف
فيه ولأجل هذا ذكر المصنف أن المراد بها خاص بقوله: (وهي
مفروضة في تكليف الكافر).
ص: (والصحيح وقوعه، خلافاً لأبي حامد الإسفراييني وأكثر
الحنفية مطلقاً ولقوم في الأوامر فقط، ولآخرين فيما عدا
المرتد).
(1/286)
ش: ذهب الأَئِمَّة الثلاثة إلى أنهم
مخاطبون مطلقاً في الأوامر والنواهي وخالف الخنفية، وساعدهم
الشيخ أبو حامد الإسفراييني منا، وحكاه الأستاذ أبو إسحاق في
أصوله قولاً للشافعي.
والثالث: أن النواهي متعلقة بهم دون الأوامر لإمكان الانتهاء
معَ الكفر بخلاف المأمور، فإنَّ شرطه القربة، ونقله صاحب
اللباب من الحنفية عن أصحابهم، وأغرب الشيخ صدر الدين بن
الوكيل في كتاب (النظائر) فحكى عن بعض الأصحاب عكس هذا المذهب،
وتابعه
(1/287)
العلائي في (الفوائد) وهذا لا يعرف، بل
قالَ الشيخ أبو حامد الإسفراييني في كتابه في الأصول وصاحبه
البندنيجي في باب قسم الصدقات من تعليقه: إن الخلاف في تكليفهم
بالأوامر، وأما المعاصي فمنهيون عنها بلا خلاف من المسلمين،
فكيف يثبت لنا قول بأنهم مكلفون بالأوامر دون النواهي؟.
والرابع: أن المرتد مكلف دون غيره، لإلزامه أحكام الإسلام،
حكاه القاضي عبد الوهاب، ولهذا يجب
(1/288)
عليه قضاء ما فاته زمن ردته، وزيف، فإنَّ
مأخذ المنع فيهما سواء، وهو الجهل باللهِ وبعضهم يجعل الخلاف
(34 أ) في الأصلي، ويقول: المرتد مكلف بلا خلاف وفيه نظر.
فائدة قالَ الشيخ عز الدين في (القواعد): إن قيل: لم وجه الله
تعالى الخطاب إلى العاصي معَ علمه بأنهم لا يطيعونه؟ قلنا:
أحسن ما قيل في ذلك: أن توجه الخطاب إلى الأشقياء الذين لا
يمتثلون، ليس طلباً على الحقيقة، وإنما هو علامة وضعت على
شقاوتهم وأمارة نصبت على تعذيبهم.
ص: (قال الشيخ الإمام: والخلاف في خطاب التكليف وما يرجع إليه
من الوضع، لا الإتلافات والجنايات وترتب آثار العقود).
ش: أطلق الأصوليون الخلاف السابق وهو يوهم أن القائل بتكليفهم
يقول: إن كل حكم ثبت في حق المسلمين، ثبت في حقهم أيضاًً، وأن
من لا يقول بذلك لا
(1/289)
يثبت في حقهم شيئاً من فروع الأحكام، قالَ
والد المصنف رَحِمَه اللهُ تعالى وليس كذلك، بل الخطاب قسمان:
خطاب تكليف وخطاب وضع، فخطاب التكليف بالأمر والنهي هو محل
الخلاف، وليس كل تكليف أيضاًَ بل هو في غير ما يعلم اختصاصه
بالمؤمنين أو بعضهم، وإنما المراد العمومات التي شملتهم لفظا،
هل يكون الكفر مانعاً من تعلقها بهم أو لا؟ وأما خطاب الوضع
فمنه ما يكون سبب الأمر والنهي ككون الطلاق سبباً لتحريم
الزوجة، فهذا من محل الخلاف، والفريقان مختلفان في أنه هل هو
سبب في حقهم أيضاً؟ ومنه كون إتلافهم وجنايتهم سبباً في
الضمان، وهذا ثابت في حقهم إجماعاً، بل ثبوته في حقهم أولى من
ثبوته في حق الصبي، وكذلك كون العقول على الأوضاع الشرعية
سبباً فيه كما في البيع والنكاح وغيرهما، وهذا لا نزاع فيه،
وفي ترتب الأحكام الشرعية عليه في حقهم كما في حق المسلم، وكذا
كون الطلاق سبباً للفرقة، فإنَّها تثبت إذا قلنا بصحة أنكحتهم
والخلاف في ذلك لا وجه له، ويشهد أن أبا حنيفة قالَ بصحة
أنكحتهم معَ قوله بعد تكليفهم بالفروع، قلت: بل كلام الأصحاب
على إطلاقه ولا وجه لهذا التفصيل ولا يصح دعوى الإجماع في
الإتلاف والجناية، بل الخلاف جار في الجميع، وقد حكى الرافعي
عن الأستاذ أبي إسحاق: أن الحربي إذا قتل المسلم، أو أتلف عليه
مالاً، ثمَّ أسلم، أنه يجب ضمانها، إذا قلنا إن الكفار مكلفون
بالفروع، وحكاه العبادي في الطبقات عنه فيما إذا صارَ ذمياً
والجمهور أنه لا يضمن ونقلوا وجهين أيضاًً، فيما لو دخل الكافر
الحرم وقتل صيداً هل يضمن؟
(1/290)
أصحها: نعم، قالَ صاحب (الوافي) وهما شيئان
بالوجهين في تمكينه من المسجد إذا كانَ جنباً ـ يعني نظراً
لعقيدته ـ بل قالَ الإمام في الأساليب من كتاب (السير): إن
الكفار إذا استولوا على مال المسلمين، فلا حكم لاستيلائهم،
وأعيان الأموال لأربابها وكأنهم في استيلائهم وإتلافهم
كالبهائم، قالَ: وبنى بعضهم هذه المسألة على الخلاف في تكليفهم
بالفروع، وقالَ: هم منهيون عن استيلائهم، وقول الشيخ: بل ثبوته
في حقهم أولى من ثبوته في حق الصبي ـ ممنوع كانسحاب حكم
الإسلام على الصبي بخلافهم، ولهذا قطعوا في الصبي بالضمان،
وأجرى الخلاف عليهم ترغيباً في الإسلام، ومن هنا صحح أبو حنيفة
أنكحتهم، وإن لم يكلفهم بالفروع، وأشار الإمام في (النهاية)
إلى أن الشافعي خرج عن قياس مذهبه في تكليفهم بالفروع حيث صحح
أنكحتهم، وقاعدة مذهبه أن لا يستتبع عقائدهم، ولهذا (34 ب) نفى
الضمان عمن يريق خمر الذمي، ولكنه تركه في النكاح للأخبار،
وأنه خصه ترغيباً لهم في الإسلام، وقالَ الغزالي في (البسيط)
مضعفاً للقول بفساد أنكحتهم: هذا يجر إلى أن لا نوقع طلاقهم،
ولا يتجاسر عليه فقيه. قلت: قد تجاسر عليه الحسن البصري وقتادة
وربيعة الرأي ومالك، قالُوا: ليس طلاقهم بطلاق، وهذا قدح في
دعوى النسخ، والإجماع على نفوذ الطلاق، ولذلك قالَ الحنفية: لا
يصح ظهار
(1/291)
الذمي بناء على أنهم غير مكلفين بالفروع.
ص: (مسألة: لا تكليف إلا بفعل، فالمكلف، به في النهي: الكف،
أي: الانتهاء، وفاقاً للشيخ الإمام، وقيل: فعل الضد، وقالَ
قوم: الانتفاء، وقيل: يشترط قصد الترك).
ش: لا خلاف أن المكلف به في الأمر الفعل، وأما المكلف به في
النهي ففيه أربعة مذاهب أصحها عندَ ابن الحاجب وغيره: أنه كف
النفس عن الفعل، والكف فعل.
الثاني: وينسب للجمهور: أنه فعل ضد المنهي عنه، فإذا قالَ: لا
تتحرك، فمعناه: افعل ضد الحركة.
الثالث، وبه قالَ أبو هاشم: انتفاء الفعل فالمكلف به في هذا
المثال، نفس ألا تفعل، وهو عدم الحركة، وكأن الجمهور نظروا إلى
حقيقة ما هو مكلف به، وأبو
(1/292)
هاشم نظر إلى المقصود، وهو إعدام دخول
المنهي عنه في الوجود، والمختار عندَ المصنف ـ تبعاً لوالده
رحمهما الله تعالى ـ الأول، وحرر العبارة عنه فقالَ: إن مطلوبه
الكف، أي: الانتهاء، فإذا قلت: لا تسافر، فقد نهيته عن السفر
والنهي يقتضي الانتهاء لأنَّه مطاوعه، يقال: نهيته فانتهى،
والانتهاء: هو الانصراف عن المنهي عنه، وهو الترك، قالَ:
واللغة والمعقول يشهدان له، وفرق بينَ قولنا: لا تسافر وبين
قولنا: أقم فإنَّ أقم أمر بالإقامة من حيث هي، فقد لا يستحضر
معها السفر، وأن لا تسافر: نهي عن السفر، فمن أقام قاصداً ترك
السفر يقال فيه انتهى عن السفر، ومن لم يخطر السفر له بالكلية،
لا يقال له انتهى عن السفر والانتهاء أمر معقول وهو فعل، ويصح
التكليف به، وكذلك في جميع النواهي الشرعية، كالزنا والسرقة
والشرب ونحوها، المقصود في جميعها الانتهاء عن تلك الرذائل،
ومن لازم ذلك الانتهاء التلبس بفعل ضد من أضداد المنهي عنه،
قالَ: فالعبارة المحررة أن يقال: المطلوب بالنهي الانتهاء،
فيلزم من الانتهاء فعل ضد من أضداد المنهي عنه، والعبارة
المنقولة عن الجمهور مختلفة فإنَّ النهي قسيم الأمر، والأمر:
طلب الفعل فلو كانَ النهي طلب فعل الضد لكان أمراً، ولكان
النهي من الأمر، وقسيم الشيء لا يكون قسماً منه.
(1/293)
[[[سقط صـ 293]]]
(الدلائل والأعلام) بأن الواجب على الإنسان في المنهيات إذا
ذكرها، اعتقاد تحريمها، وهو على أول الحال من الاعتقاد والكف،
وقول المصنف: (وقيل: يشترط قصد الترك) هذا قول غريب، إن أجري
على ظاهره، حتى يأثم إذا تركه ولم يقصد الترك (35 أ) وإنما
يتجه هذا في حصول الثواب وهي مسألة أخرى، ثمَّ رأيت في
(المسودة) لابن تَيْمِيَّةَ ما نصه، وقيل: إن قصد الكف معَ
التمكن من الفعل أثيب، وإلا فلا ثواب ولا عقاب، انتهى.
وقد قالَ القاضي حسين في باب صفة الصلاة من تعليقه: الشرعية
تشتمل على الأوامر والنواهي، فما كانَ من النواهي لا يحتاج إلى
صحة تركها إلى النية، وما كانَ من الأوامر لا يصح امتثاله بدون
النية.
انتهى.
وإذا قلنا: يشترط قصد الترك، فهل يحتاج إلى نية خاصة في
الجزئيات أو يكفي نية عامة لكل منهي عنه، فيه نظر.
ص: (والأمر عندَ الجمهور بتعلق الفعل قبل المباشرة بعد دخول
وقته
(1/294)
إلزاماً، وقبله إعلاماً).
ش: النقول في هذه المسألة مضطربة، فقال القاضي في مختصر
التقريب: الفعل مأمور به في حال حدوثه، ثمَّ قالَ المحققون من
أصحابنا: الأمر قبل حدوث الفعل المأمور به أمر إيجاب وإلزام،
ولكنه يتضمن الاقتضاء والترغيب، وإذا تحقق الامتثال فالأمر
يتعلق به، ولكنه لا يقتضى ترغيباً معَ تحقق المقصود، وذهب بعض
من ينتمي إلى التحقيق، إلى أنه إنما يؤمر به حال المباشرة،
وإذا تقدم عليه، فهو أمر إنذار، وإعلام بحقيقة الوجوب عندَ
الوقوع، قالَ: وهذا باطل، انتهى.
وهذا الذي زيفه هو الذي يدل عليه صريح نقل الإمام الرَّازِيّ
عن الأصحاب كما قالَ الصفي الهندي قالَ: ونقل إمام الحرمين في
مذهب أصحاب الشيخ، ما يقتضي أنه ليس بمأمور به قبل حدوثه، وهو
الذي يقتضيه أصلهم أن الاستطاعة معَ الفعل لا قبله، لكن أصلهم
الآخر ـ وهو جواز تكليف المحال ـ يقتضي جواز الأمر بالفعل
حقيقة قبل الاستطاعة، فعلى هذا يكون المأمور مأموراً قبل
التلبس بالفعل، والمأمور به مأموراً به قبل حدوثه، لكن لعلهم
فرعوا هذا في استحالته، أي وإن قالُوا بجوازه، لكنهم قالُوا
ذاك بناء على عدم وقوعه، ونقل الكل عن المعتزلة، أي أن الفعل
إنما يصير مأموراً به عندَهم قبل حدوثه لا عندَه، بل عندَه
ينقطع تعلق التكليف، به، وهو اختيار إمام
(1/295)
الحرمين، وهو موافق لأصلهم في أن الاستطاعة
قبل الفعل، وأن تكليف مالا يطاق، غير جائز، ونقل بعضهم،
كالآمدي: أن الناس اتفقوا على جواز كون الفعل مأموراً به قبل
حدوثه سوى شذوذ من أصحابنا، وعلى امتناع كون ذلك وقت حدوثه،
فأثبته أصحابنا، ونفاه المعتزلة، وبه يشعر كلام الغزالي، وهذا
صريح في أن الخلاف بينَ معظم الأصحاب والمعتزلة في المأمور،
والمأمور إنما هو في وقت التلبس والحدوث لا قبله، والنقل الأول
يقتضي تحققه فيهما، فبينهما تناقض، ولا يجمع بينَهما بأن يقال:
إن الأول تفريع منهم على استحالة تكليف المحال، والثاني على
جوازه ـ لأنَّه يقتضي جواز كون الفعل مأموراً به بعد حدوثه،
وهذا الناقل نقل امتناعه وفاقاً، والتحقيق أنه قبل المباشرة
مكلف بإيقاع الفعل في الزمن المستقبل، وامتناع الفعل في هذه
الحالة بناء على عدم علته التامة، لا ينافي كون الفعل مقدوراً
ومختاراً له، بمعنى صحة تعلق إرادته وقصده إلى إيقاعه، وإنما
الممتنع تكليف ما لا يطاق، بمعنى أن يكون الفعل مما لا يصح
تعلق قدرة (35 ب) العبد به، وقصده إلى إيجاده، وبهذا يندفع
قولهم: إن الفعل تدور علته التامة ممتنع، ومعها واجب، فلا
تكليف إلا بالمحال؛ لأنَّ في الأول تكليفاً بالمشروط عندَ عدم
الشرط، وفي الثاني تكليفاً بتحصيل الحاصل.
ص: (والأكثر: يستمر حال المباشرة، وقالَ إمام الحرمين
والغزالي: ينقطع).
(1/296)
ش: ما حكاه عن الأكثر سبق نقل الآمدي أنه
عن الأصحاب، وقالَ ابن برهان: إنه قول أهل السنة، وقالت
المعتزلة: ينقطع تعلق التكليف به واختاره الإمام والغزالي؛
لأنَّ حقيقة الأمر الاقتضاء والطلب، والحاصل لا يطلب، وجوابه
أنه غير مقتضي حال الإيقاع، ولكنه معَ هذا مأمور به، بمعنى أنه
طاعة وامتثال، وهذا لا يخالف فيه أحد.
ص: (وقالَ قوم: لا يتوجه إلا عندَ المباشرة، وهو التحقيق.
ش: هذا القول هو اختيار الإمام فخر الدين والبيضاوي وغيرهما
ونسبه المصنف إلى الأشعري، قالَ: وقول إمام الحرمين: إن هذا
المذهب لا يرتضيه لنفسه عاقل مؤول، للعلم بأنه لا يطلق مثل هذه
العبارة على من دون الشيخ، وذلك أنه ألزم الشيخ تحصيل الحاصل،
ثمَّ قالَ: يقال في الحادث: هذا هو الذي أمر به المخاطب، فأما
أن يستمر القول في تعلق الأمر به طلباً واقتضاء معَ حصوله، فلا
يرتضى هذا لنفسه عاقل، ومراده بالمذهب الذي لا يرتضيه لنفسه
عاقل، إيجاب تحصيل الحاصل الذي ألزم الشيخ به، وهو يعرف أن
الشيخ لا يقوله ولا غيره، ووجه
(1/297)
ما ادعاه المصنف من التحقيق في هذا المذهب،
أمور منها: أن الأمر يتناول زمان إمكان الفعل، لامتناع التكليف
بالواجب والممتنع، وزمان وقوع الفعل زمان إمكانه، فإنَّه ليس
زمان امتناعه، لامتناع وقوع الفعل في زمن امتناعه، وليس زمان
وجوبه الذاتي قطعاً، فإنَّ كانَ له وجوب فيه، كانَ ذلك الوجوب
وجوبا بشرط المحمول أي: بشرط وجوده، وأنه لا يمتنع، أمَّا حال
وقوعه أو قبله وفاقاً، فلو كانَ الوجوب بشرط المحمول مانعاً من
التكليف، لم يكن المأمور مأموراً أصلاً، فثبت أن زمان الوقوع
زمان إمكانه، فوجب أن يتناول الأمر إياه.
ومنها: أنه قبل المباشرة مشغول بالضد، فهو مكلف بترك الضد، فلا
يكون مكلفاً بالفعل في تلك الحالة وإلا لاجتمع النقيضان، وكان
تكليفاً بما لا يطاق، ولأنَّه لو كانَ كذلك لم يكن ممتثلاً إلا
في مدة الحال وذلك محال، ولأن الله تعالى لا يكلف بشيئين في
حالة واحدة، ولهذا قلنا عندَ كل جزء، هو مكلف به، وقبله وبعده
ليس مكلفاً به؛ لأنَّه يلزم أن يكون مكلفاً بالشيء وضده في
حالة واحدة، بل كلما انقضى جزء يقتضي تكليفه به، وكلما دخل في
جزء كلف به إلخ، فإنَّ قلت: فعلى هذا لا يصح أن يعاقب على ترك
الفعل بل على فعل الضد، قلنا: بل يعاقب على ترك الفعل وعدمه،
صح ترك فعل الضد حين تحصيل المباشرة، فإنَّ قلت: ما فررت منه
وقعت فيه، وهو أنه كيف يكون مكلفاً بالشيء وضده ـ.
قلت: لا نسلم: بل هو في هذه الحالة، مكلف بالترك، وهو الإعدام
فما كلف بشيءٍ آخر ولا يجيء (36 أ) هذا الإعدام إلا بالمباشرة
من الفعل، وهذا جزء من الفعل الذي هو الواجب، ولا يقال: إن هذا
مقدمة الواجب فصح قولهم: إن الأمر قبل المباشرة، محال.
ص: (فالملام قبلها على التلبس بالكف المنهي عنه).
ش: هذا جواب سؤال مقدر تقديره، أنه يلزم من القول بأنه لا
يتوجه إلا عندَ
(1/298)
المباشرة سلب التكاليف، وأن المكلف لا يعطي
بترك مأمور؛ لأنَّه إن أتى به كانَ ممتثلاً، وإن لم يأت به
كانَ معذوراً لعدم التكليف.
وجوابه، أنه لا يلزم؛ لأنَّا نلومه على التلبس بالكف، والكف
عندَنا فعل، وهو حرام، فقد باشر الترك، فتوجه عليه التكليف،
فالحرمة حال مباشرة الترك، والعقاب ليس إلا على الترك، وهذا من
النفائس، وقد أشار إليه إمام الحرمين في مسألة: تكليف ما لا
يطاق.
ص: (مسألة: يصح التكليف ويوجد معلوماً للمأمور أثره معَ علم
الآمر، وكذا المأمور في الأظهر انتفاء شرط وقوعه عندَ وقته،
كأمر رجل بصوم يوم، علم موته قبله، خلافاً لإمام الحرمين
والمعتزلة، أمَّا معَ جهل الآمر فاتفاق).
ش: المكلف به إذا كانَ وقوعه مشروطاً بشرط يتحقق انتفاؤه عندَ
وقته، هل يصح التكليف به؟ أمَّا معَ العلم فله حالتان.
الأولى: أن يعلم الآمر انتفاءه دون المأمور، كأمر الله تعالى
رجلاً بصوم غد، معَ علمه بموته قبله، فذهب الجمهور إلى أنه
يصح، ومنعه إمام الحرمين والمعتزلة، ومنشأ الخلاف أن فائدة
التكليف هل هي الامتثال فقط، أو
(1/299)
الابتلاء أيضاًً، فعلى الأولى لا يصح، وعلى
الثاني يصح، ومن فوائده الفرعية: أن المجامع في نهار رمضان،
إذا مات أو جن في أثناء النهار، هل يجب في تركته الكفارة فعلى
الأول نعم، وعلى الثاني لا؛ لأنَّه لم يكن مأموراً للعلم
بانتفاء شرط وقوعه عندَ وقته.
الثانية: أن يعلم المأمور انتفاء الشرط أيضاًً، وإليه أشار
بقوله: (أولا) وكذا المأمور في الأظهر، فالمختار عندَ المصنف
الصحة، وهذا مما خالف فيه الأصوليين، فإنَّهم أطبقوا على
المنع، وفرقوا بينَهما بانتفاء فائدة التكليف ونقل الصفي
الهندي عليه الاتفاق، إلا على رأي من يقول بتكليف مالا يطاق
ومستند المصنف في خلافهم قول الفقهاء فيمن علمت أنها تحيض
أثناء النهار: يجب عليها افتتاح النهار بالصوم ـ قالَ: ويقرب
منه ـ وهو عكسه ـ من نذر الصوم يوم قدوم زيد، وتبين أنه يقدم
غداً، فنوى الصوم من الليل أجزأه عن نذره على الصحيح، ولم
يقولوا: إنه يجب عليه، بل اختلفوا في الإجزاء كما رأيت ونظير
عدم الوجوب فيه الوجوب في الحائض، قالَ: ولا يعكر على هذا أن
الصحيح فيمن نذر الصيام يوم مقدم زيد، أنه يلزمه الصوم من أول
اليوم، ويقال كما تبين بقدوم زيد في أثناء النهار وجوب الصوم
(1/300)
من أوله، فكذلك تبين نظيره بأن الحيض
تحريمه من أوله؛ لأنَّا نقول: هذا التبين إنما هو بعد ظهور
الوقت المقتضي في مسألة النذر، والمانع في مسألة الحيض وقبل
ظهورهما لا أثر لهما سوى تحقق أنهما يظهران أم لا، فقد تبين
تحقق التكليف علماً، وإن أمكن الاحترام قبل ذلك، ثمَّ إذا ورد
العجز أو الموت أو النسخ لم يتبين أنه لم يكن مأموراً، بل
نقول: انقطع التكليف (36 ب) قلت: وهذا الذي اختاره المصنف ولم
ينقله عن أحد، قد ذكره الشيخ مجد الدين ابن تَيْمِيَّةَ في
(المسودة الأصولية) فقال بعد ذكر الخلاف في الحالة: وينبغي على
مساق هذا أن نجوزه، وإن علم المأمور أنه يموت قبل الوقت، كما
تجوز توبة المجبوب من الزنا، والأقطع من السرقة، ويكون فائدته
العزم على الطاعة بتقدير القدرة، قالَ: وليست هذه المسألة
مبنية على تكليف خلاف المعلوم، ولا على تكليف ما لا يطاق، وإن
كانَ لها به ضرب من التعلق، لكن تشبه النسخ قبل التمكن؛ لأنَّ
ذلك رفع للحكم بخطاب، وهذا رفع للحكم بتعجيز وقد نبه
ابن عقيل على ذلك، وينبني على أنه قد يأمر بما لا يريد، انتهى.
وأما معَ جهل الآمر بعدم وقوع الشرط، كأمر السيد عبده بخياطة
الثوب في الغد، فيصح بالاتفاق، كذا قاله المصنف تبعاً لابن
الحاجب، لكن قالَ الصفي الهندي: في كلام بعضهم إشعار بخلاف
فيه، إذا علمت هذا فقول المصنف: (ويوجد معلوماً
(1/301)
أثره) أي: التكليف، أي حالة اتصال الخطاب
به، ولا يتوقف علمه بذلك على مضي زمن يمكن فيه الامتثال، وأتى
بذلك لينبه على قصور عبارة المختصر، فإنَّه نصب الخلاف في
الصحة، وهو في الحقيقة خلاف في تحقيق الوجوب على المكلف، ولهذا
ترجم الأكثرون المسألة: أنه هل يعلم المأمور كونه مأموراً قبل
التمكن من الامتثال أو لا، حتى يمضي عليه زمن الإمكان.
قال: فالفعل الممكن بذاته، إذا أمر الله به عبده فسمع الأمر في
زمن لم يفهمه في زمن يليه، هل يعلم إذ ذاك أنه مأمور، معَ أن
من الجائز أن يقطعه عن الفعل قاطع: عجز أو موت، أو يكون شاكاً
في ذلك؛ لأنَّ التكليف مشروط بسلامة العاقبة وهو لا يتحققها؟
أصحابنا على الأول، فيرون تخفيفاً مستفاداً من صيغة الأمر،
وإنما الشك من رافع يرفعه المستقر، والقوم على العكس، قالَ:
ويلزمهم ألا يوجد منه عبادة لحصول الشك، فلا يصح لهم عمل،
وأقول هنا مسألتان.
إحداهما: بالنسبة إلى المأمور، أن الأمر إذا اتصل به ولا مانع،
فيعلم علماً قطعياً، أنه مأمور في الحال، وكذا في الأزمنة
المستقبلة بشرط بقائه على صيغة التكليف، وقالت المعتزلة: لا
يصح علمه بتوجه الأمر عليه إلا بعد الامتثال، أو مضي زمن يسعه
معَ تركه.
الثانية: بالنسبة إلى الأمر، هل يصح ورود الأمر المقيد بشرط
علم الآمر عدم وقوعه؟ وهي مبنية على ما قبلها، فمن قالَ: إن
الآمر يعلم كونه مأموراً قبل التمكن، جوز وروده، ومن لم يقل به
لم يَجُوزه إلا أن الخلاف هنا لا يختص بما علم عدم وقوعه، بل
يجري خلاف المعتزلة في المعلوم الوقوع أيضاًً، فحاصل مذهبهم:
إحالة تصور الأمر بشرط في حق الله تعالى، سواء علم وقوعه، أو
عدم وقوعه، فظهر بذلك قصور عبارة ابن الحاجب والمصنف وغيرهما،
حيث ترجموا المسألة ببعض أفرادها، فأوهموا موافقتهم في معلوم
الوقوع، ولزم من ذلك نسبة ابن الحاجب للتناقض حيث ادعى الإجماع
في خلاف المعلوم، أنه يصح التكليف به، وهنا حكى الخلاف
(1/302)
فيه، وسلم المصنف في شرحه السؤال، وجمع
بينَهما بما لا يشفى (37 أ) وإذا عرفت حقيقة المسألة، زال
الاضطراب فإنَّها ليست موضوعة فيما علم انتفاء شرط وقوعه، بل
في أنه هل يصح تكليف الله عبده بشرط أم لا؟ فالمعتزلة يقولون:
إن ذلك محال سواء علم وقوعه أو علم عدم وقوعه؛ لأنَّه معَ
العلم بالوقوع لا يكون شرطاً وإلا لكان ذكره عبثاً، ومع العلم
بعدم الوقوع، لا يكون أمراً إلا على رأي بعض من يَجُوز تكليف
ما لا يطاق، وقول المصنف: يلزمهم بطلان العبادات لعدم الجزم،
فغير لازم؛ لأنَّ الشك ليس في نفس العبادة، بل في بقائه إلى
فراغها، وساغ له الإقدام عليها معَ ذلك استصحاباً بالأصل
السلامة، ولهذا قالَ أبو الحسين في (المعتمد): قالَ أصحابنا:
إنما يجب التأهب للصلاة لثبوت أمارة بقائه سالماً إلى وقتها
فوجب عليه لهذه الأمارة التحرز من ترك ما لا يؤمن وجوبه.
ص: (خاتمة: الحكم قد يتعلق بأمرين على الترتيب، فيحرم الجمع أو
يباح أو يسن).
ش: مثال الأول: أكل المذكى والميتة لعذر الاضطرار المبيح
للميتة، ومثال الثاني: الوضوء والتيمم، كذا قالَ في (المحصول)
وغلط، فإنَّ التيمم معَ وجود الماء لا يصح، والإتيان بالعبادة
الفاسدة حرام، وإن استعمله لا على قصد العبادة فلا يكون تيمماً
وقالَ القرافي: مراده صورة التيمم، أمَّا التيمم الشرعي المبيح
(1/303)
للصلاة، فلا تتصور حقيقته معَ الوضوء؛
لأنَّه حينئذ غير مشروع، قلت: ويمكن تصويره على رأي ابن سريج
في الماء المختلف في طهوريته كالمستعمل والنبيّذ، الذي يَجُوز
أبو حنيفة الطهارة به، فإنَّه نص في كتاب الودائع على أنه
يتوضأ به ويتيمم خروجاً من الخلاف ومثله قول أبي حنيفة في سؤر
الحمار: إن لم يجد غيره توضأ به وتيمم.
(1/304)
ومثال الثالث: خصال الكفارة المرتبة، كذا قالَ في (المحصول)
وفي كون الجمع بينها سنة يحتاج إلى دليل، ولم يذكره الفقهاء،
بل في تصويره نظر، فإنَّه إذا كفر بالعتق مثلا ثمَّ صام، فقد
سقطت الكفارة بالأولى، فلا ينوي بالثانية الكفارة لعدم بقائها
عليه، وينبغي أن يكون على الخلاف فيما إذا بطل الخصوص هل يبطل
العموم؟
ص: (وعلى البدل كذلك).
ش: أي هذه الأشياء كما تكون في المرتب تكون في المخير، ومثل
الإمام وغيره، المحرم الجمع: تزويج المرأة من كفأين والمباح:
ستر العورة بثوبين، والمندوب: بالجمع بينَ خصال كفارة الحنث،
وفيه ما سبق في الكفارة المرتبة. |