تشنيف المسامع بجمع الجوامع لتاج الدين السبكي الجزء الثاني
باب الأوامر والنواهي
(باب الأمر والنهي)
(ص) الأمر: أم ر، حقيقة في القول المخصوص مجازا في الفعل،
وقيل: للقدر المشترك وقبل مشترك بينهما قيل وبين الشأن والصفة
والشيء.
(ش) نبه بقوله: (أم ر) أنه لا يعني بالأمر مدلوله كما هو
المتعارف في الإخبار عن اللفظ إن تلفظ به والمراد مدلوله، بل
المراد بلفظ الأمر، كما يقال: زيد اسم، وضرب فعل ماض، ومن: حرف
جر. وهذا اللفظ حقيقة في القول: المخصوص. المراد بالقول
الصيغة: والمراد بالمخصوص: الطالب للفعل، وهو: افعل وما يجري
مجراه وهو قسم من أقسام الكلام، وقد يطلق على الفعل نحو: زيد
في أمر عظيم إذا كان في سفر أو غيره، وقوله تعالى: {أتعجبين من
أمر الله}، {حتى إذا جاء أمرنا} ثم اختلفوا على مذاهب.
أحدها: وهو قول الأكثرين: أن لفظ الأمر حقيقة في القول
المخصوص، مجاز في الفعل وغيره.
(2/572)
وإلا لزم الاشتراك والمجاز خير منه.
الثاني: أنه مشترك بين القول والفعل، بالاشتراك اللفظي، لأنه
أطلق عليهما والأصل الحقيقة وعزاه في (المحصول) لبعض الفقهاء،
وعزاه ابن برهان إلى كافة العلماء.
والثالث: أنه متواطئ فيكون موضوعا للقدر المشترك بين الفعل
والقول دفعا للاشتراك والمجاز، واعلم: أن هذا القول لا يعرف
قائله وإنما ذكره صاحب (الإحكام) على سبيل الفرض والالتزام، أي
لو قيل: فما المانع منه، لهذا حكاه ابن الحاجب ثم قال في آخر
المسألة: وأيضا فإنه قول حادث هنا، وإذا علمت هذا تعجبت من
المصنف في حكايته وترك ما قبله.
والرابع: أنه مشترك بينهما أي بين القول الفعل - وبين الشأن
لقوله تعالى:
(2/573)
{وما أمر فرعون برشيد} والصفة كقول الشاعر:
لأمر ما يسود من يسود أي لصفة من صفات الكمال، والشيء كقولنا:
تحرك هذا الجسم لأمر، أي: لشيء وهذا ما عزاه المصنف لأبي
الحسين البصري، فإنه قال في (المعتمد): وأنا أذهب إلى أن قول
القائل: (أمر) مشترك بين الصفة والشيء والطرائق وبين جملة
الشأن والطرائق، وبين القول المخصوص. انتهى.
وقضيته: أنه مشترك عنده بين خمسة أشياء لكنه في (شرح المعتمد):
فسر الشأن والطريق بمعنى واحد، فتكون الأقسام عنده أربعة،
فلهذا حذف المصنف الطريق لكن عليه نقد، فإنه يقتضى أنه مشترك
عنده بين هذه المفاهيم، ومن جملتها الفعل بخصوصه، وأبو الحسين
لم يتعرض للفعل بخصوصه، وإنما تعرض للشأن والطريق كما تراه،
وبهذا اعترض الأصفهاني على صاحب (التحصيل) و (المنتخب) فإنهما
عبرا بعبارة المصنف، ولهذا لم
(2/574)
يتعرض في (المحصول) للفعل (83ب) في حكايته
عن أبي الحسين.
(ص) وحده: اقتضاء فعل غير كف مدلول عليه بغير كف.
(ش) البحث في الأمر في مقامين:
أحدهما: في لفظه وقد سبق.
والثاني: في مدلوله والكلام الآن فيه وقد اختلف فيه فذهب نفاة
الكلام النفسي إلى أنه عبارة عن اللفظ الطالب للفعل، وذهب
المثبتون إلى تفسيره بالمعنى الذهني، وهو: ما قام بالنفس من
الطلب، لأن الأمر بالحقيقة هو ذلك الاقتضاء واللفظ دال عليه
وعليه جرى المصنف، ولهذا صدر الحد بالاقتضاء دون القول،
فاقتضاء الفعل جنس يشمل الأمر والنهي، والمراد بالاقتضاء ما
قام بالنفس من الطلب فخرج ما ليس باقتضاء كالإباحة في قوله
تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} والتعجب في: {فأتوا بسورة}
وأمثالهما، فالصيغة صيغة أمر
(2/575)
في هذه المواضع إلا أنه ليس بأمر على
الحقيقة لعدم الاقتضاء وقوله: (غير كف) فقيل: خرج به النهي
فإنه وإن كان فعل أيضا، ولكن فعل هو كف، لأن مقتضاه كف النفس
عن الفعل.
وقوله: (مدلول عليه بغير كف) هذا قيد زاده على ابن الحاجب فإنه
قد يرد عليه نحو: كف نفسك عن كذا فإنه أمر بالكف مع أنه ليس
غير كف، بل هو لاقتضاء فعل هو كف وحينئذ فيكون مدلوله مجرورا
صفة لكف المضاف إليه في قوله: غير كف، والمعنى أن الفعل الذي
يقتضيه الأمر فعل خاص وهو غير كف، ولا نريد غير مطلق الكف، بل
غير كف خاص وهو المدلول عليه بغير كف، أما المدلول عليه بقولك
كف أو أمسك ونحوه فهو أمر، فإذن ليس فعل هو كف غير أمر، بل
إنما يكون غير أمر إذا دل عليه بلفظ غير قولنا: اكفف ونحوه مثل
لا تفعل ونحوه، ولمن يعتني بابن الحاجب أن يقول: أراد غير كف
عن الفعل الذي انتفت منه صيغة الاقتضاء فلا يرد عليه اكفف
ونحوه.
(ص) ولا يعتبر فيه علو ولا استعلاء، وقيل: يعتبران واعتبرت
المعتزلة وأبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ والسمعاني: العلو.
واعتبر أبو الحسين والإمام والآمدي وابن الحاجب: الاستعلاء.
(ش) في اعتبار العلو والاستعلاء في الأمر أربعة مذاهب.
(2/576)
أصحها: عدم اعتبارهما ونقله في (المحصول)
عن الأصحاب، لإمكان أن يقوم بذات الأدنى طلب من الأعلى ويتخيل
أنه يأمره ويتبعه والفرق بين العلو والاستعلاء أن العلو: كون
الأمر في نفسه أعلى درجة، والاستعلاء: أن يجعل نفسه عاليا
بكبرياء أو غيره، وقد لا يكون في نفس الأمر كذلك. فالعلو: من
الصفات العارضة للناطق، والاستعلاء: من صفات كلامه.
والثاني: يعتبران وبه جزم ابن القشيري.
والثالث: يعتبر العلو، وبه قالت المعتزلة وجمع من أصحابنا
وقالوا: لا يصدق إلا به، بأن يكون الطالب أعلى رتبة من المطلوب
منه، فإما أن يكون مساويا له فهو التماس (83أ) أو دونه فسؤال.
الرابع: يعتبر الاستعلاء دون العلو وأفسد البيضاوي المذهبين
بقوله تعالى
(2/577)
حكاية عن قول فرعون لقومه في مجلس
المشاورة: {ماذا تأمرون} ومعلوم انتفاء العلو، إذ كان فرعون في
تلك الحالة أعلى رتبة منهم وقد جعلهم آمرين له. وانتفاء
الاستعلاء إذ لم يكونوا مستعلين عليه، وهذا بناء منه على أن
معنى الأمر في الآية، القول المخصوص وليس كذلك، وإنما المراد
الصورة. نعم قوله تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم
بالفحشاء} يقتضي مجامعة الأمر، مع أن الآمر أدون رتبة. وأفسد
مذهب أبي الحسين بأن كثيرا من آيات الأمر في القرآن في غاية
التلطف ونهاية الاستجلاب بتذكير المنعم والوعيد بالنعم. كما في
قوله تعالى: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} وقوله:
{إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم} إلى غير ذلك من الآيات
المنافية للاستعلاء وإلا يلزمه إخراجها عن الأوامر.
(ص) واعتبر أبو على وابنه إرادة الدلالة باللفظ على الطلب.
(ش) مذهب الفقهاء أن الأمر أمر بصيغته ولا ينعكس كمن معه إرادة
(2/578)
أخرى لأن هذه الصيغة وضعت لمعنى فلا يفتقر
في إفادتها إياه إلا الإرادة كسائر الألفاظ الدالة على
معانيها، وذهب أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم وعبد الجبار،
وأبو الحسين إلى اعتبار إرادة الدلالة بها على الأمر، وعلى هذا
قالوا: لا تكون صيغة التهديد أمرا، ولا يكون المعلوم من الله
موته على الكفر، مأمورا بالإيمان لانتفاء الدلالة على الطلب،
فإن شرط الدلالة على الطلب، كون المدلول عليه بالصيغة مرادا
فحيث لم يرد لم تكن الصيغة دالة على الطلب لانتفاء شرطه
واحتجوا بأن الصيغة كما ترد للطلب ترد للتهديد مع خلوه عن
الطلب فلا بد من مميز بينهما ولا مميز سوى الإرادة وأجيب بأن
المميز حاصل بدون الإرادة لأن صيغة الأمر حقيقة في القول، مجاز
في الفعل، وهذا كاف في التمييز واعلم أن ابن برهان قال:
الإرادات ثلاث:
إحداها: إرادة إيجاد الصيغة، احترازا عن النائم وهو متفق على
اعتبارها.
(2/579)
وثانيها: إرادة صرف اللفظ عن غير جهة الأمر
إلى جهة الأمر احترازا عن التهديد ونحوه فاختلف أصحابنا
فاعتبرها المتكلمون ولم يعتبرها الفقهاء وقالوا: الصيغة محمولة
على الأمر.
وثالثها: إرادة فعل المأمور به والامتثال: احترازا عن الحاكي
والمبلغ وهذه مسألة خلاف بيننا وبين من ذكر من المعتزلة وهذه
غير طريقة المصنف.
(ص) والطلب بديهي.
(ش) لما أخذوا في الحد الاقتضاء، وهو الطلب أورد عليهم أن
الطلب أخفى من الأمر فهو تعريف بالأخفى، فأجابوا بالمنع. فإن
الطلب بديهي التصور فإن كل أحد يفرق بالبداهة بين طلب الفعل
وطلب الترك وبينهما وبين المفهوم من الخبر لأنه من الأمور
الوجدانية كالجوع والشبع وهذا النوع من الاستدلال عولوا عليه
في مواضع كثيرة في إثبات بداهة الشيء (83ب) وهو ضعيف لأنه لا
يلزم من الحكم بالشيء
(2/580)
والتفرقة بينه وبين غيره بالبديهة أن يكون
ذلك الشيء معلوما بكنه حقيقته بالبديهة نعم، يلزم منه أن يكون
معلوما من بعض الوجوه بالبديهة، وذلك لا يلزم بداهته فإن قيل:
البديهي لا يفتقر إلى الدليل وأنتم قد استدللتم عليه قلنا: قد
يكون التصور بديهيا ولا يفتقر حصوله إلى تصور آخر وبداهته لا
تكون بديهية ولهذا حدوا البديهي من التصورات بالذي لا يفتقر في
حصوله إلى تصور آخر ليعلم بالحد ماهيته ولا يقدح ذلك في بداهته
غير ذاتية وإنما القادح في بداهته، توقف حصوله على أمور أخر،
وقد فسروا الطلب بأنه الأمر القائم بالنفس يجري مجرى العلم
والقدرة وسائر الصفات القائمة به، وهذه الصيغة المخصوصة دالة
عليه.
(ص) والأمر غير الإرادة خلافا للمعتزلة.
(ش) لا خلاف بيننا وبين المعتزلة أن الأمر دل على الطلب وإنما
اختلفوا في حقيقة الطلب فعند المعتزلة: هو إرادة المأمور به،
وعندنا: هو شيء غير الإرادة وأنه يقوم بالنفس معنى سوى إرادة
الفعل المأمور به فإنا نجد الآمر يأمر بما لا يريده لأن
الإيمان من الكفار مطلوب بالإجماع، ومنهم من أخبر الله بأنه لا
يؤمن فكان إيمانه محالاً؛ لإخبار الله بعدمه، والمحال لا يكون
مراد الله تعالى ولأن الطلب قد يتحقق بدون الإرادة لأنه يجتمع
مع كراهته، ولأنه لو كان الأمر الإرادة، لوجب وجود أوامر الله
تعالى كلها، فإن إرادة الفعل، تخصيصه بحال حدوثه فإذا لم يوجد
لم
(2/581)
يتخصص به فإن قيل: هلا قال المصنف: وهو غير
الإرادة فإنه أخص وكما عبر به في (المنهاج) قلنا: كل منهما
صحيح، لأن الأمر دال على الطلب النفساني والطلب مدلول الأمر،
فصح أن يقال: الأمر غير الإرادة، وأن يقال: الطلب غير الإرادة،
لكن تعبير المصنف أولى، لأن الطلب كله ليس هو أمرا عند
المعتزلة بل أمر خاص وهو مع العلو. فلهذا صرح بلفظ الأمر، لأنه
محل الخلاف لا الطلب مع الإرادة.
(ص) مسألة: القائلون بالنفسي اختلفوا: هل للأمر صيغة تخصه؟
والنفي: عن الشيخ فقيل: للوقف وقيل: للاشتراك والخلاف في صيغة
(افعل):
(ش) المثبتون للكلام النفسي اختلفوا في الأمر هل له صيغة تخصه؟
فنقل عن الشيخ الأشعري، أنه لا صيغة له تختص به وإن قول
القائل: (افعل) متردد بين الأمر والنهي وإن فرضة حمله على
النهي فهو محتمل متردد بين جميع محتملاته ثم اختلف في تنزيل
مذهبه: فقيل: أراد الوقف على معنى لا يدري على أي وضع جرى فقول
القائل: (افعل) في اللسان، وقيل: للاشتراك فاللفظ صالح لجميع
المحامل صلاحية اللفظ المشترك للمعاني، التي يثبت اللفظ بها،
وأشار بقوله: والخلاف إلى ما قاله إمام الحرمين والغزالي: وإن
خلاف الأشعري إنما هو في صيغة
(2/582)
خاصة لكونها مترددة (84أ) في اللغة بين
محامل كثيرة فأما قول القائل: أمرتك وأنت مأمور وأوجبت وألزمت،
فلا خلاف أنه من صيغ الأمر ولا ينكره الأشعري ونازعهم الآمدي
وغيره فقالوا: لا وجه لتخصيص الخلاف بصيغة (افعل) فإنه مذهب
الشيخ: إن الأمر عبارة عن الطلب القائم بالنفس وليس صيغة
مخصوصة به، بل يعبر عنه بالعبارات والإشارات الدالة عليه
بواسطة انضمام القرائن معها وقال غيره من مثبتي كلام النفس: إن
له صيغة مختصة به، لا يفهم منها غيره عند تجردها عن القرائن
الصارفة عنه وهي كصيغة (افعل) و (ليفعل) و (فعال) وما في
معناها من سائر اللغات، ونحو: قول القائل: أمرتك، وأنت من صيغ
الإخبار وليس من صيغ الأمر فلا بد مع ذلك الخلاف إذ الخلاف في
الأمر هل له صيغة إنشاء مختصه به أم لا؟ وهذا الخلاف إنما هو
عند القائلين بكلام النفس وأما المنكرون له كالمعتزلة وغيرهم،
فالأمر وسائر أقسام الكلام لا حقيقة له عندهم إلا العبارات فلا
يتأتى ذلك الخلاف عندهم.
(ص) وترد للوجوب، والندب والإباحة والتهديد والإرشاد وإرادة
الامتثال والإذن والتأديب والإنذار والامتنان والإكرام
والتسخير والتكوين والتعجيز، والإهانة، والتسوية، والدعاء
والتمني والاحتقار والخبر والإنعام والتفويض والتعجب والتكذيب،
والمشورة والاعتبار.
(ش) ترد صيغة (افعل) لستة وعشرين.
(2/583)
معنى أولها: الوجوب: نحو {وأقيموا الصلاة}
ثانيها: الندب: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا}
ثالثها: الإباحة ... {كلوا من الطيبات} وقال أبو علي الجبائي
في قوله تعالى في أهل الجنة: {وكلوا واشربوا} هو إباحة ولا
يريده القديم تعالى، ولا
(2/584)
يكرهه كمباحات الدنيا، وقال أبو هاشم: يجوز
أن يريده لما فيه من زيادة السرور للمثاب وقال القاضي عبد
الجبار: يجب أن يريده لأن الثواب لا يصح إلا بها.
رابعها: التهديد، {اعملوا ما شئتم}
خامسها: الإرشاد {واستشهدوا شهيدين} والفرق بينه وبين الندب أن
المندوب مطلوب لثواب الآخرة والإرشاد لمنافع الدنيا ولا يتعلق
به ثواب الآخرة فإنه لا ينقص الثواب بترك الإشهاد ولا يزيد
بفعله.
سادسها: إرادة الامتثال وقد يظن تفرد المصنف بذكره، وليس كذلك
(2/585)
فقد أشار إليه في (المستصفى) في الكلام على
أن الأمر لا يستلزم الإرادة إلا أنه يذكره عند تعداد معاني
(افعل) ومثله بقولك عند العطش: اسقني ماء، فإنك لا تجد من نفسك
إلا إرادة السقي، أعني طلبه والميل إليه، وهو خلاف المعاني
السابقة وإن فرضنا ذلك من السيد في حق عبده تصورا أن تكون
للوجوب والندب مع هذه الزيادة وهو أن يكون لغرض السيد فقط،
وذلك غير متصور في حق الله تعالى، فإن الله غني عن العالمين،
ويدل على أن مراد المصنف حكايته: أن صيغة (افعل) حقيقة لإرادة
الامتثال بالمعنى الذي سنبينه ولولا أنه قدمه نصا لم يحسن
ذكره.
سابعها: الإذن كقولك لمن طرق الباب: ادخل، وكأنه قسم من
الإباحة.
ثامنها: (84ب) التأديب كقوله: صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي
سلمة، (كل مما يليك)
(2/586)
وجعله بعضهم قسما من المندوب، لأن الأدب
مندوب إليه.
تاسعها: الإنذار {قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار} وجعله بعضهم
قسما من التهديد والصواب تغايرهما فإن التهديد هو التخويف
والإنذار هو الإبلاغ لكن لا يكون إلا في الخوف فقوله تعالى:
{تمتعوا} أمر إبلاغ هذا للكلام المخوف الذي عبر عنه بالأمر.
(2/587)
عاشرها: الامتنان نحو: {كلوا مما رزقكم
الله} والفرق بينه وبين الإباحة أن الإباحة مجرد إذن وأنه لا
بد من اقتران الامتنان بذكر احتياج الخلق إليه وعدم قدرتهم
عليه ونحوه وأن الإباحة قد يتقدمها حظر مثل {وإذا حللتم
فاصطادوا}
حادي عشرها: الإكرام نحو {ادخلوها بسلام آمنين} فإن قرينة
{سلام آمنين} تدل عليه قال صاحب (التنقيحات).
(2/588)
ولا وجه لحمله على الوجوب كما زعم بعض
المعتزلة فإن الآخرة ليست دار تكليف ولا تكليف فيها فالوعيد
على الترك.
ثاني عشرها: التسخير نحو: {كونوا قردة خاسئين} وتوهم القرافي
أن المراد به الاستهزاء فقال: اللائق تسميته سخرية بكسر السين
لا تسخير، فإن التسخير، النعمة والإكرام قال الله تعالى: {وسخر
لكم الليل والنهار} {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض}
{فسخرنا له الريح تجري بأمره} والسخرى بالكسر الهزء قال تعالى:
{ليتخذ بعضهم بعضا سخريا} قلت: وإنما التسخير لغة: التذليل
والإهانة، والمراد أنه عبر بهذا عن نقلهم من حالة إلى أخرى
إذلالا لهم.
(2/589)
ثالث عشرها: التكوين نحو: {كن فيكون} وسماه
الغزالي بكمال القدرة لأن المراد منه إظهار كمال قدرة الله وأن
مراده لا يتأخر عن إرادته والفرق بينه وبين التسخير أن التكوين
سرعة الوجود من العدم وليس فيه انتقال إلى حالة ممتهنة بخلاف
التسخير فإنه لغة: الذلة والامتهان في العمل.
رابع عشرها: التعجيز نحو {فأتوا بسورة من مثله}
(2/590)
خامس عشرها: الإهانة {ذق إنك أنت العزيز
الكريم} ومنهم من يسميه: التهكم وضابطه أن يؤتى بلفظ يدل على
الخير أو الكرامة ويراد منه ضده.
سادس عشرها: التسوية {فاصبروا أو لا تصبروا}
سابع عشرها: الدعاء اللهم اغفر لي.
ثامن عشرها: التمني كقول امرئ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... ....................
(2/591)
تاسع عشرها: الاحتقار كقوله تعالى حكاية عن
موسى عليه الصلاة والسلام يخاطب السحرة: {ألقوا ما أنتم ملقون}
يعني: أن السحر وإن عظم ففي مقابلة المعجزة حقير والفرق بينه
وبين الإهانة: أن الإهانة إنما تكون بالقول والفعل أو تركهما
دون مجرد الاعتقاد والاحتقار لا بد فيه من الاعتقاد بدليل أن
من اعتقد في شيء أنه لا يعبأ به ولا يلتفت إليه يقال: إنه
احتقره ولا يقال: إنه أهانه ما لم يصدر منه قول أو فعل ينبئ عن
ذلك.
العشرون: الخبر كقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا لم تستح فاصنع
ما شئت)) أي:
(2/592)
صنعت ما شئت، على أحد الأقوال.
الحادي والعشرون: الإنعام: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} كذا
قاله الإمام (85أ) في (البرهان) فقال: وهو وإن كان فيه معنى
الإباحة فإن الظاهر منه تذكير النعمة.
الثاني والعشرون: التفويض نحو {فاقض ما أنت قاض} ذكره الإمام.
الثالث والعشرون: التعجب ذكره الصفي الهندي ومثله بقوله تعالى:
(2/593)
{قل كونوا حجارة أو حديدا} وهذا مثل به ابن
برهان والآمدي للتعجيز ولكن العبادي في طبقاته مثل للتعجب
بقوله تعالى: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال}
الرابع والعشرون: التكذيب نحو {فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم
صادقين}
الخامس والعشرون: المشورة نحو: {فانظر ماذا ترى}
السادس والعشرون: الاعتبار {انظروا إلى ثمره}
(ص) والجمهور: حقيقة في الوجوب لغة أو شرعا أو عقلا مذاهب،
وقيل: في الندب وقال الماتريدي: للقدر المشترك وقيل: مشتركة
بينهما
(2/594)
وتوقف القاضي والغزالي والآمدي فيهما،
وقيل: مشتركة فيها وفي الإباحة وقيل: في الثلاثة والتهديد وقال
عبد الجبار: لإرادة الامتثال وقال الأبهري: أمر الله تعالى
للوجوب وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المبتدأ للندب، وقيل:
مشتركة بين الخمسة الأول، وقيل: بين الأحكام الخمسة، والمختار
وفاقا للشيخ أبي حامد وإمام الحرمين: حقيقة في الطلب الجازم،
فإن صدر من الشارع أوجب الفعل.
(ش) أجمعوا على أن صيغة (افعل) ليست حقيقة في جميع هذه المعاني
وإنما الخلاف في بعضها وفيه مذاهب أحدها: قول الجمهور: إنه
حقيقة في الوجوب فقط، مجاز في البواقي، وهو المحكي (عن الشافعي
رضي الله عنه، واختلف القائلون به: هل ذلك لغة
(2/595)
أو شرعا أو عقلا؟ وصحح الشيخ أبو إسحاق أنه
بوضع اللغة ونقله إمام الحرمين) عن الشافعي ولهذا صدر به
المصنف.
والثاني: أنه حقيقة في الندب وبه قال أبو هاشم وغيره.
والثالث: قول أبي منصور الماتريدي من الحنفية: إنه للمشترك
بينها أي: القدر المشترك بين الوجوب والندب وهو الطلب فيكون
متواطئا.
والرابع: أنه مشترك بينهما بالاشتراك اللفظي، وبه قال المرتضى
من الشيعة.
والخامس: قول القاضي ومن تبعه الوقف فقالوا: هو حقيقة إما في
الوجوب وإما في الندب وإما فيهما جميعا بالاشتراك اللفظي، لكنا
لا ندري ما هو الواقع في
(2/596)
الأقسام الثلاثة وحكى الصفي الهندي عن
القاضي وإمام الحرمين والغزالي التوقف في أنه حقيقة في الوجوب
فقط، أو الندب فقط، أو فيهما بالاشتراك اللفظي، وهذا يقتضي
تردده بين أربعة، والذي في (المستصفى) تردده بين ثلاثة ولم
يذكر الاشتراك المعنوي.
والسادس: مشترك بين الوجوب والندب والإباحة، واختلف القائلون
به: هل هو من الاشتراك اللفظي أو المعنوي؟ وإطلاق المصنف
حكايته تحتمل الأمرين.
والسابع: مشترك بين هذه الثلاثة والتهديد.
والثامن: قول عبد الجبار: إنه حقيقة في إرادة الامتثال فقط
والوجوب وغيره يستفاد من القرائن وعزاه السمعاني لأبي هاشم
وأوضحه فقال: إذا قال القائل لغيره (افعل) دل على أنه يريد منه
الفعل فإذا كان القائل حكيما وجب كون الفعل على صفة زائدة على
حسبه مستحق لأجلها المدح، فإذا كان المقول له مكلفا جاز أن
يكون واجبا وأن يكون مندوبا فإذا لم يقم دليل على وجوب الفعل
وجب نفيه والاقتصار على المحقق، وهو كون الفعل ندبا يستحق
فاعله المدح.
واعلم أن هذا من المصنف تكرار فقد سبق في قوله: واعتبر أبو علي
وابنه إرادة الدلالة باللفظ على الطلب ثم إن هذه المسألة مفرعة
على القول بالكلام النفسي، وعبد الجبار ممن ينكره، وكان ينبغي
أن يقول: وأما المنكرون له فقالوا لا يكون (85ب) أمرا إلا
بالإرادة.
والتاسع: التفصيل بين أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم
فأمر الله حقيقة في الوجوب، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم
المبتدأ للندب، وحكاه القاضي عبد الوهاب في (الملخص)
(2/597)
عن شيخه أبو بكر الأبهري، واحترز بـ
(المبتدأ) عما كان موافقا لنص أو مبينا لمجمل فيكون للوجوب
أيضا، وذكر المازري أن النقل اختلف عن الأبهري فروي عنه هذا،
وروي عنه أنه للندب مطلقا.
والعاشر: أنه صيغة (افعل) مشتركة بين الخمسة الأول، أي: بين
الوجوب والندب والإباحة والإرشاد والتهديد، كذا حكاه الغزالي.
الحادي عشر: مشتركة بين الأحكام الخمسة أعني: الوجوب والندب
والإباحة والكراهة والتحريم حكاه في (المحصول).
الثاني عشر: قول الشيخ أبي حامد الإسفرائيني وإمام الحرمين
وغيرهما: إنه حقيقة في الطلب الجازم من جهة اللسان، وكون هذا
الطلب متوعدا عليه شيء آخر
(2/598)
ثابت في أوامر الشرع بدليل من خارج، وحينئذ
فالوجوب مستفاد بهذا التركيب من الشرع واللغة، فقد وافق
القائلين بالوجوب وإن كان قد خالفهم في هذا، واعتمد المصنف في
هذا النقل المازري فإنه قال في (شرح البرهان): هذا الذي اختاره
إمام الحرمين صرح به الشيخ أبو حامد الإسفرائيني وسبقه إلى
اختياره فأشار إلى أن الأمر يقتضي حصر المأمور على الفعل
واقتضاؤه منه اقتضاء جازما، ولكن إذا ثبت هذا من جهة اللسان
ثبت بعده الوعيد، قال المصنف: وهو المختار عندنا، فإن الوعيد
لا يستفاد من اللفظ، بل هو أمر خارجي عنه، ولكنا نقول: المنقول
عن الشافعي رضي الله عنه: أن الصيغة تقتضي الوجوب، ومراده
الصيغة الواردة في الشرع إذ لا غرض له في الكلام في شيء غيرها،
ولم يصرح الشافعي بأن اقتضاءها للوجوب مستفاد منها فلعله يرتضي
هذا التركيب ويقول به، وهذا المذهب يغاير المذهبين السابقين
صدر المسألة، أعني: القول بأن الوجوب هل هو بالشرع أو باللغة
فتصير المذاهب ثلاثة: الوجوب بالشرع، والوجوب باللغة، والوجوب
بضم الشرع إلى اللغة.
(ص) وفي وجوب اعتقاد الوجوب قبل البحث خلاف العام.
(ش) ما سبق في صيغة (افعل) من حيث هي، فأما إذا صدرت من الشارع
مجردة عن القرائن وجب الفعل، عملا بالحقيقة وهل يجب اعتقاد أن
المراد بها الوجوب قبل البحث عن الكون المراد بها؟ ذلك فيه
خلاف العام في وجوب اعتقاد عمومه قبل البحث عن المخصص، وسيأتي
إن شاء الله تعالى في مباحث العام، وهذه المسألة قل من ذكرها،
وممن صرح بجريان الخلاف هنا: الشيخ أبو حامد الإسفرائيني
فكتابه في (الأصول) وابن الصباغ في (العدة).
(2/599)
(ص) فإن ورد بعد حظر، قال الإمام: أو
استئذان فللإباحة وقال أبو الطيب والشيرازي والسمعاني والإمام:
للوجوب. وتوقف إمام الحرمين.
(ش) الخلاف في ورود الأمر بعد حظر سابق كقوله تعالى: {وإذا
حللتم فاصطادوا} مشهور وأما وروده بعد الاستئذان فذكره الإمام
الرازي ومثله بقول الصحابة: كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا (اللهم
صل على محمد).
وفيه ثلاثة مذاهب:
أصحها: أنه للإباحة فإنه سبق الحظر قرينة صارفة. قال صاحب
(القواطع): وهو ظاهر كلام الشافعي في أحكام القرآن ونقله ابن
برهان عن أكثر الفقهاء والمتكلمين.
(2/600)
والثاني: للوجوب، لأن الصيغة تقتضيه (86أ)
ووروده بعد الحظر لا تأثير له وهو اختيار القاضي أبي الطيب
والشيخ أبي إسحاق والسمعاني والإمام في (المحصول) ونقله الشيخ
أبي حامد الإسفرائيني في كتابه عن أكثر أصحابنا ثم قال: وهو
قول كافة الفقهاء وأكثر المتكلمين.
والثالث: الوقف بينهما، وهو اختيار إمام الحرمين، مع كونه أبطل
للوقف في لفظه ابتداء من غير تقدم حظر واعلم أنهم لم يحكوا هنا
القول الآتي في المسألة بعدها برجوع الحال إلى ما كان قبلها
ولا ببعد طرده.
تنبيهان:
الأول: قوله أولا: قال الإمام: أو استئذان - ليس معناه أن
الإمام قال: إن ورد بعد حظر أو بعد استئذان فللإباحة بل معناه:
أن وروده بعد الاستئذان فائدة أفادها الإمام أن حكمه حكم وروده
بعد الحظر، فيه الخلاف، وهي نافعة في
(2/601)
الاستدلال على وجوب الصلاة في التشهد.
الثاني: ترجمة المسألة بالأمر بعد الحظر قاله الجمهور عن
القاضي أبي بكر أنه رغب عنها، وقال: الأولى: أن يقال: (افعل
بعد الحظر) لأن (افعل) تكون أمرا تارة وغير أمر، والمباح لا
يكون مأمورا به، وإنما هو مأذون فيه.
(ص) أما النهي بعد الوجوب: فالجمهور: للتحريم، وقيل: للكراهة،
وقيل: للإباحة، وقيل: لإسقاط الوجوب. وإمام الحرمين على وقفه.
(ش) النهي الوارد بعد الوجوب: هل يقتضي التحريم؟ على مذاهب:
أصحها: قول الجهور: إنه للتحريم، ولا ينتهض للوجوب السابق
قرينة في حمل النهي على رفع الوجوب، وحكى القاضي والأستاذ فيه
الاتفاق وفرقوا بينه وبين الأمر بعد الحظر، حيث اعتبروا
القرينة هناك، ولم يعتبروها ههنا، فوجهين:
أحدهما: أن النهي لدفع المفاسد والأمر لجلب المصالح واعتناء
الشارع بدفع المفاسد أكثر من جلب المصالح.
ثانيها: أن النهي عن الشيء موافق للأصل الدال على عدم الفعل
ولا كذلك الأمر.
الثاني: أنه لكراهة التنزيه. وهذا القول موجود في (المسودة
الأصولية) لابن
(2/602)
تيمية، عن حكاية القاضي أبي يعلى منهم.
الثالث: أنه للإباحة، كالقول به هناك ويدل له قوله تعالى: {قال
إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني}.
الرابع: أنه لرفع الوجوب فيكون نسخا، ويعود الأمر إلى ما كان
قبله وهذا يؤخذ من نقل صاحب (المسودة الأصولية).
وللخامس: أنه على الوقف. وهو قول إمام الحرمين فقال: أما أنا
فأسحب
(2/603)
ذيل الوقف عليه، كما قدمته في صيغة الأمر
بعد الحظر.
(ص) مسألة: الأمر لطلب الماهية، لا لتكرار ولا مرة والمرة
ضرورية وقيل: مدلوله وقال الأستاذ والقزويني: للتكرار مطلقا،
وقيل: إن علق بشرط أو صفة وقيل بالوقف.
(ش) الأمر بطلب الماهية، أي: المجرد عن التقييد، بالمرة أو
الكثرة، اختلفوا فيه على مذاهب:
أصحها: قول المحققين: إنه لا يدل على المرة ولا على التكرار
وإنما يدل على طلب ماهية المأمور به فقط، ثم إن المرة الواجبة
لا بد منها في الامتثال فهي من ضروريات الإتيان بالمأمور به
لأن الأمر يدل عليها بذاته.
والثاني: أنه يدل على المرة بلفظه، ولا يحتمل التكرار أصلا،
وإنما يحمل عليه
(2/604)
بدليل، ونقله الشيخ أبو إسحاق عن أكثر
أصحابنا وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء.
والثالث: للتكرار مطلقا، المستوعب لزمان العمر، وبه قال
الأستاذ أبو إسحاق، والشيخ أبو حاتم القزويني فيما نقله عنه
صاحبه الشيرازي في (شرح اللمع)، لكن شرط هذا القول (86 ب)
الإمكان دون أزمنة قضاء الحاجة والنوم وضروريات الإنسان، كما
قاله الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ ومراد المصنف بالإطلاق ما
سيذكره في مقابله من الخلاف.
والرابع: إن علق بشرط أو صفة، اقتضى التكرار مثل: {وإن كنتم
جنبا فاطهروا} {والسارق والسارقة فاقطعوا} وإن كان مطلقا لم
يقتضه واختار الآمدي وابن الحاجب أنه لا يقتضي التكرار في
المعلق أيضا قال البيضاوي: لا يقتضيه لفظا ويقتضيه قياسا.
(2/605)
الخامس: الوقت، قالوا: وهو محتمل لشيئين:
أحدهما: أن يكون مشتركا بين التكرار والمرة، فيتوقف إعماله في
أحدهما على قرينة.
والثاني: أنه لأحدهما ولا نعرفه، فنتوقف لجهلنا بالواقع.
(ص) ولا لفور، خلافا لقوم، وقيل: للفور أو العزم، وقيل: مشترك.
(ش) (ولا لفور) عطف على قوله: (لا لتكرار) أي: الأمر المطلق
مقتضاه طلب الفعل المأمور به ولا دلالة على خصوص الفور أو
التراخي فيجوز البدار إلى الامتثال عقيب وروده ويجوز التأخير
ولا يتعين أحدهما بخصوصه إلا بدليل قال إمام الحرمين: ينسب إلى
الشافعي رضي الله عنه، وأصحابه، وهو الأليق بتعريفاته في
الفقه، وإن لم يصرح به في مجموعاته في الأصول.
(2/606)
والثاني: إنه يقتضي الفور، أي: وجوب البدار
إلى الفعل، ومنع التأخير عن أول وقت الإمكان بلا عذر، وهو قول
الحنفية والحنابلة وكذلك المالكية كما قاله القاضي عبد الوهاب،
واختاره من أصحابنا أبو حامد المروزي وأبو بكر الصيرفي.
والثالث: أنه للفور أو العزم وهذا كعائد لأعم من المضيق
والموسع ثم العزم إنما يكون في الموسع ولا ينافي هذا العود إلى
الأعم، إذ إفراد القاضي إفراد الأعم بالحكم لا يوجب عدم العود
إلى الأعم، ولهذا قال ابن الحاجب: وقال القاضي: إما الفور وإما
العزم مع تصويره المسألة بمطلق الأمر، غير مقيدها بموسع
(2/607)
ولا مضيق وكل من تكلم على المسألة حتى
القاضي نفسه تكلم عليها مطلقا، ثم اختار هذا بناء على أصله في
الواجب الموسع وأن العزم فيه واجب عند التأخير.
الرابع: أنه مشترك حكاه في (المنهاج) وأصله أن في المسألة قولا
بالوقف، إما لعدم العلم بمدلوله أو لأنه مشترك بين اقتضاء
الفور والتراخي بالاشتراك اللفظي فكان الأحسن التصريح بالوقف،
ليشمل هذين الاحتمالين.
(ص) والمبادر ممتثل، خلافا لمن منع ومن وقف.
(ش) لو بادر إلى فعله أول الوقت من غير تأخير فالمشهور أنه
ممتثل سواء قلنا: الأمر يقتضي الفور أم لا. ووراءه قولان
غريبان:
أحدهما: حكاه ابن الصباغ في (العدة) عن بعضهم أنه قال: لا يقطع
بكونه ممتثلا لجواز إرادة التراخي وقال: إن القائل به خرق
الإجماع ومثله قول الإمام في (البرهان): إنه من ترجم المسألة
بأن الصيغة هل تقتضي التراخي، فلفظه مدخول، فإنه يقتضي
اقتضاءها التراخي على قول، حتى لو فرض الامتثال على البدار لم
يعتد به وليس هذا معتقد أحد.
(2/608)
الثاني: إننا نتوقف لكونه مشكوكا في أن
المراد به الفور أو التراخي فيتوقف في الامتثال وهو قضية كلام
إمام الحرمين.
(ص) مسألة: الرازي والشيرازي وعبد الجبار: الأمر يستلزم القضاء
وقال الأكثر: القضاء بأمر جديد.
(ش) إذا أمر الشارع بالفعل في وقت معين فخرج (87أ) الوقت ولم
يفعل فهل يجب القضاء بأمر جديد ابتداء أم يجب بالأمر السابق،
بمعنى أنه يستلزمه لا أنه عينه؟ قولان:
فذهب عبد الجبار والإمام في (المحصول) إلى الثاني محتجين بقوله
(2/609)
صلى الله عليه وسلم: ((من نام عن صلاة أو
نسيها فليصلها إذا ذكرها)).
فقوله: ((إذا ذكرها)) دليل على أن الأمر الأول باق عليه، وأن
الواجب بعد الوقت هو الواجب، الذي كان في الوقت، وما نقله
المصنف عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي سهو فإنه صحح في (اللمع)
قول الأكثرين.
وذهب الأكثرون إلى أن القضاء بأمر جديد لأنه فات الأمر بفوات
الوقت فيفوت الوجوب، والحديث حجة لنا، لأن قوله: (فليصلها) أمر
جديد فلو كان الأمر الأول باقيا عليه لم يحتج إلى هذا الثاني،
فلما ذكره دل على وجوبه بهذا الأمر لا بالأمر الأول.
(2/610)
(ص) والأصح أن الإتيان بالمأمور به يستلزم
الإجزاء.
(ش) إتيان المكلف بالمأمور به على الوجه المشروع يستلزم
الإجزاء وإلا لكان الأمر بعد الامتثال مقتضيا إما لذلك المأتي
به، ويلزم تحصيل الحاصل أو لغيره ويلزم أن لا يكون الإتيان
بتمام المأمور به بل ببعضه، والغرض خلافه قال أبو هاشم وعبد
الجبار: لا يوجبه كما لا يوجب النهي الفساد قال في (المنتهى):
إن أراد أنه لا يمتنع أن يرد أمر بعده بمثله فمسلم، ويرجع
النزاع في تسميته قضاء وإن أراد أنه لا يدل على سقوطه فساقط
قلت: وبالأول صرح عبد الجبار في (العمد): أنه لا يستلزمه بمعنى
أنه لا يمتنع أن يقول الحكيم: افعل كذا، فإذا فعلت أديت
الواجب، ويلزمك مع ذلك القضاء والخلاف مبني على
(2/611)
تفسير الإجزاء بسقوط القضاء أما إذا فسرناه
بسقوط التعبد به فالامتثال يحصل للإجزاء بلا خلاف، فكان حق
المصنف التنبيه على ذلك ليعرف به خلل من أطلق الخلاف.
(ص) وأن الآمر بالشيء ليس أمرا به.
(ش) أي: ليس آمرا لذلك الغير بذلك الشيء على الأصح فإنه صلى
الله عليه وسلم قال: لعمر لما طلق ابنه عبد الله زوجته في
الحيض:
(2/612)
((مره فليراجعها)) فلم تكن المراجعة واجبة
على عبد الله لما كان الأمر له بذلك من أبيه بخلاف أن يقول
النبي صلى الله عليه وسلم: أخبره أن الله يأمره، أو أني أأمره
بها ولا يصار إلى أنه أمر إلا بدليل ونقل العالمي من الحنفية
عن بعضهم أنه أمر، وحكى سليم الرازي في (التقريب) ما يقتضي أنه
يجب على الثاني الفعل جزما، وإنما الخلاف في تسميته أمرا، وقال
في (المحصول): الحق أن الله إذا قال لزيد: أوجب على عمرو كذا
فلو قال لعمرو: وكل ما أوجب عليك زيد فهو واجب عليك، فالآمر
بالأمر بالشيء أمر بالشيء في هذه الصورة، ولكنه بالحقيقة إنما
جاء من قوله: كل ما أوجب فلان عليك فهو واجب عليك أما لو لم
يقل ذلك فلا يجب، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: ((مروهم
بالصلاة وهم أبناء سبع)) فإن ذلك الأمر لا
(2/613)
يقتضي الوجوب على الصبي انتهى. والحق
التفصيل: فإن كان للأول أن يأمر الثالث، فالأمر الثاني بالأمر
للثالث أمر بالثالث وإلا فلا.
(ص) وأن الآمر بلفظ يتناوله داخل فيه.
(ش) الآمر بلفظ يتناول (87ب) نفسه، هل يدخل في الأمر، نظرا
لعموم اللفظ وكونه أمرا لا يصلح معارضا، وفيه قولان:
أصحهما: عند المصنف: نعم، وهذا تابع فيه الهندي، فإنه عزاه
للأكثرين لكن ذكرت في كتاب (الوصول إلى ثمار الأصول) في باب
العموم: أن الأكثرين - وهو مذهب الشافعي - عدم الدخول، لا سيما
على قول من اشترط في الأمر العلو، وينبغي أن يكون موضع الخلاف
ما إذا لم يكن مأمورا بمخاطبة غيره، فإن كان، لم يدخل فيه
قطعا، ولهذا قطع أصحابنا فيما لو وكله ولو بصيغة الأمر ليبرئ
غرماءه والوكيل من جملة الغرماء - إنه ليس له أن يبرئ نفسه،
وعلله
(2/614)
صاحب (التتمة) بما ذكرنا، ونص الشافعي رضي
الله عنه، أنه لو وكله ليفرق ثلثه على الفقراء - ليس له صرفه
إلى نفسه وإن كان فقيرا أو مسكينا. ووجه القاضي أبو الطيب في
تعليقه، بأن المذهب الصحيح: أن المخاطب لا يدخل في أمر المخاطب
إياه في أمر غيره، قال: فإذا أمر الله تعالى نبيه صلى الله
عليه وسلم بأن يأمر أمته أن يفعلوا كذا، لم يدخل هو في ذلك
الأمر. انتهى.
واحترز بقوله: (بلفظ يتناوله) عما إذا أمر بلفظ خاص، فإنه لا
يدخل الأمر تحته قطعا وقد اعترض على المصنف فقيل: كيف يجتمع
هذا مع قوله في آخر العام: الأصح أن المخاطب داخل إن كان خبرا
لا أمرا.
وقد اعترف بجودة السؤال ثم انفصل عنه وقال: الامر يطلق على
(المنشئ) وعلى المبلغ عن المنشئ فقول الله سبحانه أمر بطريق
إنه المنشئ الحاكم بمضمون الأمر، وهذا بطريق الحقيقة ويطلق على
النبي صلى الله عليه وسلم بطريق المجاز باعتبار أنه المبلغ عن
الله تعالى. إذا عرفت هذا فالأمر بلفظ يتناوله قد يجيء بغيره
كالتثنية والجمع غير المحلى، إذا تحقق دخول فيهما بطريق من
الطرق وحاصل أن موضوع المسألتين مختلف: فمسألة الأمر في
الإنشاء من منشئ أو مبلغ، ومسألة العموم في الخطاب أعم من أن
يكون إنشاء أو خبرا ولا يخفى ما فيه من التعسف مع وروده في
الصورة التي يجتمعان فيها، ولو جمع بينهما يحمل المذكور هنا
على ما إذا كان الخطاب يتناوله كقوله: إن الله يأمركم بكذا،
وقوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} ونحوه.
عملا بعموم الصيغة والمذكور ثم على ما إذا لم يكن اللفظ
متناولا له كقوله: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} فلا يدخل
فيه
(2/615)
كما لم يدخل موسى في ذلك الأمر، بدليل قوله
في آخر القصة: {فذبحوها وما كادوا يفعلون} ولا يظن بموسى عليه
السلام ذلك.
وقول المصنف: هنا (بلفظ يتناوله) ولم يذكر هذا القيد هناك -
صريح فيما ذكرت: والعجب منه: كيف لم يقع على هذا وهو ظاهر من
لفظه وبه يرتفع الإشكال، وقد رأيت في (التمهيد) لأبي الخطاب
هذا التفصيل في هذه المسألة، ولله الحمد، وغاية ما يلزم المصنف
أنه فرق المسألة في موضعين وذكر كل قطعة في موضع.
(ص) وأن النيابة تدخل المأمور إلا لمانع.
(ش) قال الآمدي: يجوز عندنا دخول النيابة فيما كلف به من
الأفعال البدنية خلافا للمعتزلة، واستدلوا بأن الوجوب إنما كان
لقهر النفس وكسرها والنيابة تنافي ذلك، وأجاب أصحابنا بأن
النيابة لا تأباه لما فيها من بذل المؤنة وتحمل المنة، وقول
المصنف: إلا لمانع، قيد لا بد منه ليخرج بعض البدني، كالصلاة
والاعتكاف وكذا الصوم على الجديد، ومن الناس من عكس هذه
العبارة، فقال: الطاعات لا تدخلها النيابة إلا الحج والصوم على
قول (88أ) لأن القصد من الطاعة الإجلال والإثابة ولا يلزم من
تعظيم الوكيل تعظيم الموكل، فكأنه وكله على ما لا يقدر عليه
فلا يصح، وعلى هذا نص الشافعي في (الأم) كما بينته في (بحر
الأصول) واقتصر الشيخ عز الدين في (أماليه) قال: وبهذا يظهر أن
ثواب
(2/616)
العبادة البدنية لا يصح للغير، لأنه مرتب
على الإجلال وهو حاصل من الغير وإن شئت قلت: تمتنع الاستنابة
إلا في فعل تحصل مصلحته من الوكيل، كما تحصل من الموكل وحرر
الصفي الهندي المسألة فقال: اتفقوا على جواز دخول النيابة في
المأمور به إذا كان ماليا، وعلى وقوعه أيضا واتفاقهم على أنه
يجوز للغير صرف زكاة ماله بنفسه، وأن يوكل فيه، وكيف لا وصرف
زكاة الأموال الظاهرة إلى الإمام إما واجب أو مندوب ومعلوم أنه
لم يصرفها للفقراء إلا بطريق النيابة واختلفوا في جواز دخولها
فيه إذا كان بدنيا: فذهب أصحابنا إلى الجواز والوقوع معا
محتجين بأنه لا يمنع لنفسه، إذ لا يمتنع قول السيد لعبده:
أمرتك بخياطة هذا الثوب، فإن خطته بنفسك أو استنبت فيه أثبتك،
وإن تركت الأمرين عاقبتك، واحتجوا بالنيابة في الحج وفيه نظر،
فإنه لا يدل على جواز النيابة في المأمور به إذا كان بدنيا
صرفا بل إنما يدل على ما هو بدني ومالي معا كالحج ولعل الخصم
يجوز ذلك فلا يكون دليلا عليه، واحتج المانع بأن القصد من
إيجاب العبادة البدنية امتحان المكلف والنيابة تخل بذلك، وأجيب
بأنه لا يخل به مطلقا، فإن النيابة
امتحان أيضا.
(ص) مسألة: قال الشيخ والقاضي: الأمر النفسي بشيء معين نهي عن
ضده الوجودي، وعن القاضي: يتضمنه وعليه عبد الجبار وأبو الحسين
والآمدي
(2/617)
وقال إمام الحرمين والغزالي: لا عينه ولا
يتضمنه وقيل: أمر الوجوب يتضمن فقط، أما اللفظي فليس عين النهي
قطعا، ولا يتضمنه على الأصح.
(ش) مسألة: الكلام في هذه المسألة يقع على وجهين:
أحدهما: في النفساني وهو: الطلب القائم بالنفس، والمثبتون له
اختلفوا على مذاهب:
(2/618)
أحدها: أنه عين النهي عن ضده وهو قول
الأشعري والقاضي وأطنب في نصرته في (التقريب) بناء على أصلهم
أن كلام الله واحد لا يتنوع، وهو بنفسه أمر بما أمر ونهى عما
نهى، فكان تأثير الأمر بالشيء نهيا عن ضده، وعلى العكس.
والثاني: ليس عينه ولكن يتضمنه عقلا، وذكر إمام الحرمين أن
القاضي صار إليه في آخر مصنفاته ونقله الشيخ أبو حامد
الإسفرائيني عن أكثر أصحابنا ونقله المصنف عن عبد الجبار ومن
معه، وفيه شيء نذكره.
والثالث: أنه ليس نهيا عن ضده ولا متضمنا له، بل هو مسكوت عنه
واختاره إمام الحرمين والغزالي وابن الحاجب وقال الكيا: إنه
الذي استقر عليه القاضي.
والرابع: التفصيل بين أمر الإيجاب، فيتضمن النهي عن ضده, وأمر
الندب ليس نهيا عن ضده ولا متضمنا له فإن أضداده مباحة غير
منهي عنها، وهو قول بعض المعتزلة، ومن لم يفصل جعل أمر الندب
نهيا عن ضده نهي ندب، حتى يكون
(2/619)
الامتناع عن ضده مندوبا كما يكون فعله
مندوبا وإنما قيدنا هذا الخلاف بالنفسي للتنبيه على أنه ليس
الخلاف على صيغة الأمر وصيغة النهي إذ لا نزاع في أنهما صيغتان
مختلفتان وإنما النزاع عند القائلين بالنفسي بأن الأمر هو
الطلب القائم بالنفس (88ب) راجع إلى أن طلب فعل الشيء هل هو
طلب ترك أضداده أم لا؟ وهذا وإن لم يصرح به الجمهور وأطلقوا
الخلاف، فهو متضمن لما ذكرنا والشيخ والقاضي ما تكلما إلا في
النفسي وذكرا أن اتصاف الشيء يكون أمرا ونهيا - بمثابة اتصاف
اللون الواحد بكونه قريبا من شيء بعيدا من غيره، الثاني:
اللساني والمنكرون للنفسي الذاهبون إلى أن الأمر هو نفس صيغة
افعل وهم المعتزلة - قد اتفقوا على أن الأمر ليس نهيا عن ضده،
ضرورة تغاير صيغة افعل لصيغة لا تفعل، ولهذا لم يصر أحد إلى أن
الأمر نفس النهي، وإنما اختلفوا هل يستلزم النهي عن ضده من جهة
المعنى على مذهبين، ومعناه: إن صيغة (افعل) مثلا تقتضي إيجاد
القعود فهل يستلزم النهي عن القيام من حيث هي مقتضية لإيجاد
القعود أم لا؟ فذهب قدماء مشايخهم إلى منعه، وذهب القاضي عبد
الجبار وأبو الحسين وغيرهما إلى إثباته وهؤلاء لم يتكلموا إلا
في اللساني، فإن الأمر عندهم العبارة فقط.
تنبيهان:
الأول: ظهر بما شرحناه أن حكاية المصنف عن عبد الجبار وأبي
الحسين في المقام الأول منتقدة، فإنهما لم يتكلما إلا في
اللساني، وأما الآمدي فإنه قال: إن
(2/620)
جوزنا تكليف ما لا يطاق فليس عينه ولا
يستلزمه وإن منعناه استلزمه.
الثاني: احترز بقوله: معينا، عن الواجب الموسع والمخير، فإن
الأمر بهما ليس نهيا عن الضد، والمسألة مقصورة على الواجب على
التعيين، صرح بذلك الشيخ أبو حامد الإسفرائيني والقاضي في
(التقريب) وغيرهما، واحترزنا بالوجودي عن الترك، فإن الأمر
بالشيء نهي عن تركه قطعا.
وأما النهي فقيل: أمر بالضد وقيل: على الخلاف.
اختلفوا في النهي عن الشيء، هل هو أمر بضده؟ على طريقين:
إحداهما: أنه على الخلاف السابق في الأمر.
والثانية: أنه بالضد قطعا وهي طريقة القاضي في (التقريب) فإنه
جزم بأن النهي أمر بالضد، بعد ما حكى الخلاف في الأمر، ووجهه
أن دلالة النهي على مقتضاه أقوى من دلالة الأمر على مقتضاه،
ويدل لذلك أن مطلوب النهي فعل الضد، فاستحضار الضد في جانب
النهي أولى منه في جانب الأمر، لأنه في جانب النهي المطلوب،
ولا يطلب القائل إلا ما يحضر ذهنه، فالنهي يستدعي جانب المفسدة
والأمر يستدعي جانب المصلحة، واعتناء الشارع بدرء المفاسد أكثر
من اعتنائه
(2/621)
بالثاني وضعف إمام الحرمين هذه الطريقة،
وقال: يلزم منها القول بمذهب الكعبي في نفي المباح فإنه إنما
صار إلى ذلك من قال: لا شيء مقدرا مباحا إلا وهو ضد محظور
فيكون حينئذ واجبا واعلم أن ابن الحاجب حكى الطريقة الثانية،
وحكى بدل الأولى أنه ليس بالضد قطعا وبه يجتمع في المسألة ثلاث
طرق، لكن المصنف نازعه في ثبوتها، وقال: إنه لم يعثر عليه
نقلا، ولم يتجه له عقلا، وقال غيره: إنه مبني على أن النهي طلب
نفي الفعل لا طلب الكف عنه الذي هو ضده كما هو مذهب أبي هاشم،
فلا يكون أمرا بالضد.
(ص) مسألة: الأمران غير متعاقبين أو بغير متماثلين غيران
والمتعاقبان بمتماثلين ولا مانع من التكرار، والثاني غير
معطوف. قيل: معمول بهما،
(2/622)
وقيل: تأكيد، وقيل بالوقف، وفي المعطوف
التأسيس أرجح، وقيل: التأكيد فإن رجح التأكيد بعادي قدم، وإلا
فالوقف.
(ش) إذا صدر من الآمر أمران، فإن كانا غير متعاقبين (أي لم يكن
الثاني عقب الأول) فلا يخلو إما أن يختلف المأمور بينهما أو
يتماثلا، فإن اختلفا فكذلك (89أ) يجيئان قطعا سواء أمكن الجمع
بينهما كـ (صل وصم) أو امتنع كالصلاة مع أداء الزكاة وإن كانا
متماثلين فلا يخلو إما أن يكون المأمور به مما يمتنع فيه
التكرار أو لا يمتنع، فإن امتنع فالثاني تأكيد قطعا، كقوله:
اقتل زيدا
(2/623)
اقتل زيدا وإن لم يمتنع فلا يخلو إما أن
يكون الثاني معطوفا على الأول أولا، فإن لم يكن معطوفا نحو: صل
ركعتين (صل ركعتين) ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يعمل بهما، فيجب التكرار لأن التأسيس أولى من
التأكيد وعزاه الهندي للأكثرين.
والثاني: تأكيد، فتجب المرة لكثرة التأكيد في كلامهم، والأصل
عدم الزائد وبه قال الصيرفي وقد رأيته في كتابه (الدلائل
والأعلام).
والثالث: الوقف بين حمل الثاني على الوجوب أو التأكيد للأول،
لتعارض الاحتمالين وبه قال أبو الحسين البصري وغيره وأما إذا
كان معطوفا، مثل: صل ركعتين وصل ركعتين - فحكى المصنف قولين:
أرجحهما: يجب العمل بهما، فيجب التكرار، لاقتضاء العطف
المغايرة فيكون التأكيد مرجوحا.
(2/624)
والثاني: يحمل على التأكيد، فيجب مرة لأنه
المتيقن فإن رجح في المعطوف التأكيد بعادي من تعريف نحو: صل
ركعتين وصل الركعتين، وقع التعارض بين العطف ومانع التكرار
فالعطف والتأسيس يقتضي التكرار والتعريف، والعادة تمنعه
ويفيدان التوكيد، فيصار إلى الترجيح، فيقدم الأرجح وهو العمل
بالثاني لأن حرف العطف المقتضي التغاير معارض بلام التعريف
وتبقى أظهرية التأسيس سالمة من المعارضة وإن لم يوجد المرجح بل
تساويا وجب الوقف كذا قالوا: ويظهر أن التوكيد في هذا الأخير
أرجح، لأن التأسيس يعارضه مخالفة دليل براءة الذمة، فيبقى
العطف ويعارضه أحد الأمرين، فيبقي الأمر الآخر سالما عن
المعارضة وهو يقتضي التوكيد، وهذا شرح كلام المصنف وقد زاد على
ابن الحاجب حكاية قول في المعطوف بحمله على التأكيد، وفيه نظر،
فإن ظاهر سياقه تصوير مسألة العطف بما إذا لم يكن معه لام
التعريف وفي هذه الحالة صرح جماعة بأنه لا خلاف في حمله على
التأسيس لأن الشيء يعطف على نفسه ومنهم الهندي في (النهاية)
قال: وأما إذا كان معرفا، فمنهم من حمله على التأسيس؛ لأجل
العطف وهو الأولى - يعني لما سبق - ومنهم من توقف فيه، كأبي
الحسين البصري بناء على تساوي دلالتهما على الاتحاد والمغايرة
على ما سبق من أصله قال: وأما أصل الصيرفي فيقتضي حمله على
غيره ما اقتضاه الأول لو قيل بتساوي دلالتهما وإلا فيجب إثبات
مقتضى الراجح قلت: وكذا حكي عن ابن الصباغ في (العدة) فجزم
بالتأسيس مع العطف، ثم قال: فإن دخله لام التعريف والعطف مثل:
صل ركعتين وصل الركعتين فقيل: يحمل
(2/625)
على الاستئناف، وقيل بالوقف.
فائدة: ذكر ابن الحاجب هنا مسألة الأمر بفعل مطلق الماهية أمر
بجزئي وخالف (المحصول) وقد ذكرها المصنف في باب المطلق
والمقيد، فلا تظن أنه أهملها.
(ص) النهي اقتضاء كف عن فعل، لا بقول: كف.
(ش) الاقتضاء: جنس لتناوله الأمر، وإضافته إلى الكف يخرج
الأمر، لأنه اقتضاء فعل، وقوله: (لا بقول: كف معناه أنه ليس كل
اقتضاء كف عن فعل، نهيا كما اقتضاه إطلاق ابن الحاجب (89ب)
وغيره، بل النهي اقتضاء كف عن فعل، ويكون ذلك الاقتضاء دالا
على ذلك الكف لا بقول: كف، وإن دل بقول: كف، كان أمرا ولم يكن
نهيا، كما سبق في حد الأمر، والحاصل أن: كف، واكتف، وأمسك،
وذر، ودع، وجاوز، وتنح، وعد، وحاذر، وإياك، ورويدك، ومهلا وقف،
وأمثالها - أوامر بالمطابقة وإن اقتضت كفا، وإنما تكون نواهي
بالتضمن بناء على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده ضمنا.
(2/626)
(ص) وقضيته الدوام ما لم يقيد بالمرة،
وقيل: مطلقا.
(ش): النهي إن قيد بمرة حمل عليها قطعا، وإن كان مطلقا فقضيته
الدوام، بمعنى أنه يفيد الانتهاء عن المنهي عنه دائما وهذا
بخلاف الأمر لأنه لا يحصل الانتهاء إلا بذلك وقيل: إنه يقتضي
الدوام مطلقا، وأطلق الشيخ أبو حامد وغيره الإجماع عليه وقضية
عبارة المصنف في حكايته القول به مع التقييد بالمرة، وقال
المازري: (حكى غير واحد الاتفاق على أن النهي يقتضي الاستيعاب
للأزمنة بخلاف الأمر)، لكن حكى القاضي عبد الوهاب قولا: أنه
كالأمر في اقتضائه المرة الواحدة، والقاضي وغيره أجروه مجرى
الأمر في أنه لا يقتضي الاستيعاب. انتهى. فحصل ثلاثة مذاهب.
(ص) وترد صيغته للتحريم والكراهة والإرشاد والدعاء وبيان
العاقبة والتقليل والاحتقار واليأس.
(ش): ترد صيغة (لا تفعل) لسبعة أمور:
(2/627)
أحدها: التحريم، كقوله تعالى: {ولا تقربوا
الزنى}
وثانيها: الكراهة، كقوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه
تنفقون}.
ثالثها: الإرشاد، كقوله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء} كذلك مثل
إمام الحرمين وفيه نظر بل هو للتحريم والفرق بين الإرشاد
والكراهة ما سبق في الفرق بينه وبين الندب، ولهذا اختلف
أصحابنا في كراهة المشمس شرعية، أو إرشادية أي متعلق الثواب -
أو ترجع إلى مصلحة طبية.
رابعها: الدعاء، نحو: {ربنا لا تزغ قلوبنا}
خامسها: بيان العاقبة، نحو: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل
الله
(2/628)
أمواتا} أي عاقبة الجهاد الحياة لا الموت.
سادسها: التقليل والاحتقار أي للمنهي عنه كقوله تعالى: {ولا
تمدن عينيك إلى ما متعنا به} فهو احتقار للدنيا قاله في
(البرهان) وفيه نظر بل هو للتحريم.
سابعها: اليأس، نحو: {لا تعتذروا}. وفات المصنف الخبر، نحو:
{لا يمسه إلا المطهرون}. والتهديد: كقولك لمن لا يمتثل أمرك:
لا تمتثل أمري، والإباحة: وذلك في النهي بعد الإيجاب، فإنه
إباحة للترك، والالتماس كقولك لنظيرك: لا تفعل هذا.
(ص): وفي الإرادة والتحريم ما في الأمر.
(ش): أي هل يعتبر في النهي إرادة الدلالة باللفظ على الترك أم
لا؟ وكذا الكلام في أن صيغة النهي هل هي حقيقة في التحريم أو
الكراهة أو مشتركة بينهما، أو موقوفة على ما سبق في الأمر؟ وقد
سبق أن الأمر المجرد عن القرينة يقتضي الوجوب،
(2/629)
فالمختار أن النهي المجرد عن القرينة يقتضي
التحريم، وهل نقول: ذلك مستفاد من الشرع أو اللغة أو المعنى،
يجيء فيه ذلك كله.
(ص): وقد يكون عن واحد ومتعدد جمعا، كالحرام المخير، وتفريقا
كالنعلين يلبسان أو ينزعان ولا يفرق وجميعا كالزنا والسرقة.
(ش) النهي إما أن يكون عن واحد وهو كثير، وإما أن يكون عن
متعدد أي شيئين فصاعدا وأما أن يكون نهيا عن الجمع أي عن
الهيئة الاجتماعية فيحرم الجمع بينهما، ويجوز له فعل أحدهما
أيهما شاء كالجمع بين الأختين ومثله المصنف بالحرام المخير وقد
سبق هناك عن الأصحاب أن الحرام المخير لا يقتضي تحريمهما
جميعا، بل (90أ) تحريم أحدهما فقط، فله أن يأتي بأحدهما دون
الآخر، ويخير في ذلك وقالت المعتزلة: يقتضي تحريمهما جميعا
فيجب عليه ترك كل
(2/630)
واحد منهما.
وإما أن يكون نهيا عن الفراق، نحو النعلان يلبسان أو ينزعان
فلا يجوز التفريق بأن يلبس إحداهما وينزع الأخرى.
وإما أن يكون النهي عن الجميع أي عن كل واحد سواء أتى به مع
صاحبه أو منفردا كالنهي عن الزنا والسرقة.
(ص) ومطلق نهي التحريم، وكذا التنزيه في الأظهر، للفساد شرعا،
وقيل: لغة، وقيل: معنى فيما عدا المعاملات مطلقا، وفيها إن
رجع، قال ابن عبد السلام: أو احتمل رجوعه إلى أمر داخل، أو
لازم، وفاقا للأكثر وقال الغزالي والإمام: في العبادات فقط.
(ش): النهي عن الشيء هل يدل على فساده؟
(2/631)
فيه مذاهب:
أحدها: أنه يقتضي الفساد مطلقا في العبادات والمعاملات وعزاه
ابن السمعاني لأكثر الأصحاب، وقال: إنه الظاهر من مذهب الشافعي
رضي الله عنه وعلى هذا، فهل يدل عليه من جهة الشرع أو وضع
اللغة، لأن صيغته (تدل على عدم المشروعية)؟ وجهان.
حكاهما القاضي في (التقريب) وابن السمعاني، ونقل عن طائفة من
الحنفية ثالثا: أنه يقتضيه (من جهة المعنى لا من حيث اللفظ،
لأن النهي يدل على قبح المنهي عنه وحظره، وهو مضاد للمشروعية،
وقال: إنه الأولى.
والثاني: لا يقتضيه مطلقا، واختاره القفال الشاشي والقاضي أبو
بكر والغزالي وغيرهم، قالوا: وإنما الاعتماد في فساده على فوات
الشرط، ويعرف الشرط بدليل يدل عليه، وعلى ارتباط الصحة به،
والقائلون به افترقوا فرقتين: فالجمهور على أنه لا يدل على
الصحة أيضا، بل يحتاج إلى دليل خارجي من براءة ذمة أو وجوب فعل
مثله، وادعى القاضي فيه الاتفاق ومنهم من قال: بل يدل على
الصحة، وعزى لأبي حنفية ومحمد بن الحسن رحمهما الله تعالى.
(2/632)
والثالث: وهو ما أورده المصنف: التفصيل بين
المعاملات، وما عداها من العبادات والإيقاعات ففي العبادات
والإيقاعات يدل على الفساد مطلقا، أي سواء نهي عنها لعينها أو
لأمر خارج عنها لازم لها، وفي المعاملات ينظر، فإن رجع إلى أمر
داخل فيها، كبيع الملاقيح أو إلى أمر خارج عنه لازم كبيع الربا
فإن المفاضلة لازمة للعقد 0
اقتضي الفساد في هذين وإن رجع إلى أمر خارج غير لازم، لم يقتض
الفساد، كالبيع وقت نداء الجمعة فإن النهي فيه راجع إلى تفويت
الجمعة، وهو أمر مفارق غير لازم للعقد، هكذا صرح الأصحاب
بالراجع إلى أمر داخل أو خارج أو لازم، وكنوا عما شككنا فيه
أراجع إلى داخل أو خارج، وقد تعرض الشيخ عز الدين في (القواعد)
فقال: كل تصرف منهي عنه لأمر يجاوره أو يفارقه مع توفير شرائطه
وأركانه فهو صحيح، وكل تصرف نهي عنه، ولم يعلم لماذا نهي عنه
فهو
(2/633)
باطل حملا للفظ النهي على الحقيقة، انتهى.
وهي مسألة مهمة زادها المصنف على الأصوليين.
والرابع: أنه يدل على الفساد في العبادات فقط دون المعاملات
والإيقاعات وهو مذهب أبي الحسين البصري واختاره الإمام في
(المحصول) ونقله المصنف عن الغزالي وفيه نظر.
وقد صرح في آخر المسألة من (المستصفى) بأن كل نهي يتضمن
ارتكابه الإخلال بشرطه دل على الفساد من حيث الإخلال بالشرط لا
من حيث النهي وهذا تفصيل آخر حكاه ابن السمعاني إن كان في فعل
النهي إخلال بشرط في صحته إن كان عبادة أو نفوذه إن كان عقدا
وجب القضاء بفساده، وإن لم يكن فيه إخلال (90ب) بما ذكرنا لم
يجب القضاء بفساده.
تنبيهات: الأول: احترز بـ (مطلق النهي) عن النهي المقيد
المقترن بقرينة تدل على الفساد، أو تدل على عدمه، فليس من محل
الخلاف.
الثاني: أشار بقوله: (نهي التحريم) إلى موضع الخلاف في النهي،
هل يقتضي الفساد إنما هو التحريم وأن التنزيه ملحق به في
الأظهر، لأن المكروه مطلوب الترك والصحة أمر شرعي، فلا يمكن
كونه صحيحا، لأن طلب تركه يوجب عدم
(2/634)
الاعتبار به، إذا وقع وذلك هو الفساد ولكن
يعكر على تعبيره بالأظهر قول الصفي الهندي: محل الخلاف في نهي
التحريم أما التنزيه فلا خلاف فيه على ما يشعر به كلامهم، صرح
بذلك بعض المصنفين. انتهى.
أي لا خلاف في عدم اقتضائه الفساد لكن ما قاله الهندي ممنوع،
وقد سبق في مسألة أن الأمر لا يتناول المكروه، خلافه ولهذا صحح
الأصحاب فساد الصلاة في الوقت المكروه، وإن قلنا النهي
للتنزيه، ولا ينقضه عدم فساد الصلاة في الحمام والكنيسة
ونحوها، فإن عدم الفساد في تلك لدليل يخصها، ولهذا لم يختلف
أصحابنا في عدم إفسادها وإن اختلفوا في الصلاة في الوقت
المكروه، وكذا الوضوء بالماء المشمس، الكراهة فيه للتنزيه
قطعا، ولا يمنع صحة الطهارة بلا خلاف.
الثالث: ما اختاره المصنف من المذاهب، عمدته فيه أن ابن برهان
حكاه عن الشافعي رضي الله عنه وذكر غيره أنه منصوص في
(الرسالة) لكن قد يورد على إطلاقهم الفساد فيما عدا المعاملات،
أن النهي قد يكون للتحريم ولا يمنع الصحة في الأمر الخارج،
كاستعمال أواني الذهب والفضة في الطهارة، وكذا يرد على إطلاقهم
الفساد في اللازم بيع الحاضر للبادي فإن النهي لأمر خارج لازم
ومع ذلك لم
(2/635)
يقتض الفساد ويبعد أن نقول: خرج ذلك بدليل
لأنه استرواح لا يليق بالقواعد.
(ص) فإن كان لخارج كالوضوء بمغصوب لم يفد عند الأكثر، وقال
أحمد: يفيد مطلقا.
(ش) ما سبق في النهي عن الشيء لرجوعه لأمر داخل أو خارج لازم،
فإن كان لأمر خارج عنه ينفك عنه في بعض موارده، سواء كان في
العبادات كالصلاة في الدار المغصوبة والوضوء والتيمم بمغصوب
والذبح بسكين مغصوب، فإن النهي راجع لأمر خارج عن الصلاة
والوضوء، وهو شغل مال الغير أو إتلافه أو في العقود كالبيع وقت
النداء، أو في الإيقاعات كطلاق الحائض، فالأكثرون على أنه لا
يقتضي الفساد ونقل بعضهم الاتفاق فيه، لكن عن أحمد: أنه يفيد
مطلقا أي في النهي عنه لعينه أو لخارج عنه ولهذا أبطل الصلاة
في الدار المغصوبة، وسبق هناك. وفي تعميم الإطلاق عنه نظر.
وإنما قال ذلك في بعض العبادات وبعض العقود خاصة كالبيع عند
النداء والصلاة في المغصوب وإلا فهو موافق على وقوع الطلاق في
الحيض، وفي طهر جامعها فيه وإرسال الثلاث، وإن كان منهيا عنها.
(ص) ولفظه حقيقة وإن اقتضى الفساد لدليل.
(ش) هذا مفرع على المنقول عن أحمد، أن النهي يقتضي الفساد وهو
أنه إذا
(2/636)
قام دليل على النهي ليس للفساد، كان اللفظ
باقيا على حقيقته، ولم يكن مجازا لأنه لم ينتقل عن جميع موجبه،
وإنما انتقل عن بعض موجبه فصار (91ـ أ) كالعموم الذي خرج بعضه
تنفي حقيقته فيما بقي وهذا ذكره ابن عقيل في كتابه (الواضح)
وهو مبني على أن لفظ النهي يدل على الفساد بصيغته وإلا فإذا
قلنا: إنه يدل عليه شرعا أو معنى، لم يكن فيه إخراج بعض مدلول
اللفظ، ولعل هذه المسألة من فوائد الخلاف السابق أنه يدل لغة
أو شرعا.
(ص) وأبو حنيفة: لا يفيد مطلقا، نعم المنهي عنه لعينه غير
مشروع ففساده عرضي، ثم قال: والمنهي عنه لوصفه يفيد الصحة.
(ش) أطلق بعضهم النقل عن الحنفية، أن النهي بـ (لا) يفيد
الفساد واستدرك عليه المصنف فقال: إنما خلافهم في المنهي عنه
لغيره، أما المنهي عنه لعينه، فلا يختلفون في فساده، بذلك صرح
أبو زيد في (تقويم الأدلة) وغيره ثم قال
(2/637)
- يعني: أبو حنيفة - والمنهي عنه لوصفه،
وإن كان لا يفيد الفساد فلا يفيد الصحة أي: ولم يقل ذلك في
المنهي عنه لعينه، وقد صرح شمس الأئمة السرخسي من الحنفية بأن
المنهي عنه لعينه غير مشروع أصلا وعبارة ابن الحاجب توهم أن
القائل بالصحة يطرده فيها وليس كذلك، فلهذا استظهره المصنف،
وتحرير مذهبهم أنه يدل على فساد ذلك الوصف لا فساد المنهي عنه
وهو الأصل لكونه مشروعا بدون الوصف، وبنوا على هذا ما لو باع
درهما بدرهمين، ثم طرحا الزيادة، أنه يصح العقد واحتج القائلون
باقتضائه الصحة أن النهي عن التصرف يقتضي إمكانه والقدرة عليه،
لأن نهي العاجز قبيح، إذ لا يقال للزمن لا تقم، وللأعمى: لا
تبصر وأجيب بأن ذلك إذا كان المنهي عنه أمرا محسوسا فإن كان
تصرفا شرعيا على
(2/638)
معنى أنه لا تفيد أحكامه لم يقبح كما إذا
نهي المحدث عن الصلاة والحائض عن الصوم وأيضا فنهي العباد إنما
يقبح إذا لم يكن العجز مستفادا من النهي كما ذكرتم فإن استفيد
منه فإنه صحيح، كما إذا أنهى الموكل وكيله عن البيع فإنه يصير
عاجزا لأنه يصير بالنهي معزولا، فلا يكون ذلك قبيحا، وإن كان
نهيا للعاجز لما كان العجز مستفادا من النهي، ولعل هذا معنى
قول أئمتنا: النهي عن التصرفات الشرعية يكون نسخا لها، لأنه
بسبب النهي يعجز عنه ويتعطل عن أحكامه.
(ص) وقيل: إن نفى عنه القبول، وقيل: بل النفي دليل الفساد.
(ش): إذا نفي عن الفعل القبول نحو: ((لا يقبل الله صلاة حائض
إلا بخمار)) ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث)) فقيل: يقتضي
الصحة بناء على تغاير الصحة والقبول، ويظهر أثر عدم القبول في
نفي الثواب وعدم الصحة في سقوط القضاء وقيل بل نفي القبول يدل
على الفساد وهي قضية استدلال أصحابنا بالحديثين السابقين على
اشتراط الطهارة وستر العورة في الصلاة بناء على أن الصحة
والقبول متلازمان، وممن حكى الخلاف في هذه المسألة ابن عقيل من
الحنابلة
(2/639)
في كتابه في (الأصول)، وقال: الصحيح لا
يكون إلا مقبولا ولا يكون مردودا إلا ويكون باطلا وحكى ابن
دقيق العيد في تفسير القبول قولين:
أحدهما: ترتيب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء يقال: قبل
فلان عذر فلان، إذا رتب على عذره الغرض المطلوب وهو عدم
المؤاخذة بالجناية وعلى هذا فالصحة والقبول متلازمان (91ب).
والثاني: إن القبول كون العبادة بحيث يترتب الثواب عليها، وعلى
هذا فالقبول أخص من الصحة فكل مقبول صحيح ولا ينعكس.
(ص) ونفي الإجزاء كنفي القبول، وقيل: أولى بالفساد.
(ش) مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها
بأم القرآن)) رواه الدارقطني وقوله: ((أربع لا تجزئ في
الأضاحي)) فيه مذهبان:
أصحهما: القطع أنه لنفي القبول.
والثاني: فيه الخلاف السابق بالترتيب وأولى بدلالته على
الفساد، لأن الصحة قد توجد حيث لا قبول، بخلاف الإجزاء مع
الصحة.
(2/640)
|