تشنيف المسامع بجمع الجوامع لتاج الدين السبكي

 [الكتاب الرابع: في القياس]
(ص): الكتاب الرابع: في القياس
(ص): وهو حمل معلوم على معلوم لمساواته في علة حكمه عند الحامل وإن خص بالصحيح حذف الأخير.

(3/150)


(ش): المراد بحمل معلوم على معلوم: إلحاقه به، وليس المراد بالمعلوم مطلق متعلق العلم فقط بل ومتعلق الاعتقاد والظن، والفقهاء يطلقون لفظ العلم على هذه الأمور وإنما قال معلوم ولم يقل موجود ولا شيء لجريان القياس في المعدوم والموجود، ممكناً كان أو ممتنعاً، فإن القياس يجري فيهما جميعاً، والشيء لا يطلق على المعدوم، وإنما لم يذكر بدل المعلوم الأصل والفرع ـ كما عبر به ابن الحاجب ـ لرفع إيهام كون الفرع والأصل وجوديين وليس بشرط ثم إن الأصل والفرع إنما يعقلان بعد معرفة القياس فتعريف القياس بهما دور، نعم في التعبير بالأصل والفرع فائدة، وهي خروج ما لو كان أحدهما ليس أصلاً للآخر فلا يكون قياساً كالبر والشعير المتساويين في علة حرمة الربا فإن أحدهما ليس أصلاً للآخر، لأن حرمة الربا

(3/151)


ثابتة فيهما بالنص، وإنما قال: في معلوم آخر، لأن القياس هو الإلحاق فيستدعي وجود شيئين، وإنما قال: لمساواته في علة حكمه، لأن القياس لا يوجد بدون العلة، واحترز به عن إثبات الحكم بالنص فإنه لا يكون قياساً، كما لو ورد نص يخص الأرز بتحريمه الربا كما ورد في البر.
وقد يخرج به حمل أحد الشيئين على الآخر إذا كان الفرع أولى بالحكم، من الأصل فليس من شرط القياس المساواة، بل زيادته عليه كذلك، وكذا يخرج به حمله عليه لمجرد نفي الفارق بينهما مع أنه من أنواع القياس وإنما عدل عن قولهم لاشتراكهما في علة الحكم إلى قوله: لمساواته، لأمرين.

(3/152)


أحدهما: أن القياس (78/ز) لغة: المساواة، فلفظ المساواة يطابق معناه اللغوي بخلاف لفظ الاشتراك.
ثانيهما: أن لفظ المشاركة يصدق بوجهين.
أحدهما: المناصفة، تقول: شارك زيد عمراً، أو اشترك زيد مع عمرو في المال، وهذا ليس مرادهم في قولهم: شارك الفرع الأصل في علة حكمه، لأن العلة لم تقسط عليهما حتى كان في كل منهما بعضها ولا تجري فيما بينهما.
وثانيهما: المساواة، كما تقول: اشترك زيد وعمرو في الإنسانية، أي تساويا فيها، وهذا هو المقصود، وأما لفظ المساواة فلا يستعمل إلا في هذا المعنى فكان ذكره أولى من لفظ الاشتراك.
هكذا قرره المصنف، وأحسن منه أن يقال: إنما اعتبر بالمساواة دون المشاركة لأن المشاركة في أمر ما لا توجب استواءهما في الحكم، ما لم يكن ذلك الأمر فيهما بالسواء، أو بالقرب من السواء، أما لو اختلفا فيه من الجهة التي بها يقتضي الحكم لكان ذلك فرقاً يمنع التسوية بينهما، ولك أن تقول: قوله: في علة حكمه، كان ينبغي تجنبه كما تجنب لفظ الأصل والفرع، لأن العلة من أركان القياس فلا يمكن تعريفها إلا به فأخذها في تعريف القياس يلزم الدور، ولهذا قال بعضهم: لاستوائهما في مشعور به، وإنما قال: (عند الحامل) ليشمل الصحيح والفاسد في

(3/153)


نفس الأمر والحد لماهية القياس الذي هو أعم من (8/ ك) الصحيح والفاسد خلافاً لمن ظن أن التعريف إنما يكون للصحيح وليس كذلك بل القياس من حيث هو ثم إذا أريد تخصيصه بالصحيح حذف قوله: عند الحامل، وإنما عبر بالحامل دون المجتهد لأنه ليس من شرط القياس الاجتهاد، فقد يقيس على أصول إمامه، واعلم أن أصل هذا التعريف للقاضي أبي بكر وإنما اختاره المصنف لأن المحققين من أصحابنا عليه، وبينوا وهم من أشار بالاعتراض عليه، وتبين به أن قول القاضي (في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما) ليس هو من تمام الحد كما توهم ابن الحاجب فأورد عليه: أن

(3/154)


الحكم فيهما معاً ليس هو القياس، وليس كذلك وإنما التعريف تم عندما قاله المصنف، ثم هذه الزيادة بيان للحمل، فإن الحمل والإلحاق له جهات كثيرة، كذلك اعتراضه بأن جعل الحمل جنساً وهو غير صادق على القياس لأنه ثمرة القياس، لا نفس القياس: ضعيف، لأن الحمل ليس ثمرة القياس بل ثمرته هو العلم بثبوت حكم الفرع.
(ص): وهو حجة في الأمور الدنيوية، قال الإمام: اتفاقاً، وأما غيرها فمنعه قوم عقلاً وابن حزم شرعاً، وداود غير الجلي.
(ش): إذا علمنا أن الحكم في الأصل معلل بكذا وعلمنا ذلك الوصف في صورة النزاع علمنا مثل ذلك الحكم فيها بلا خلاف بين العقلاء، فأما إذا كانت هاتان المقدمتان ظنيتين أو إحداهما ظنية، كان حصول ذلك الحكم في صورة الفرع ظنياً لا محالة، وهذا النوع لا يفيد العلم والجزم بالنتيجة بل إن كان ذلك في الأمور الدنيوية وقد اتفقوا على وجوب العمل به كما في الأدوية والأغذية والأسفار، وإنما الخلاف في الأمور الشرعية كذا قاله الإمام الرازي، ـ وإنما صرح به المصنف ليبرأ من عهدته ثم منهم من منع العمل به عقلاً، وهو مذهب طائفة من الشيعة والمعتزلة على ما

(3/155)


حكاه القاضي أبو الطيب ومنهم من خص الامتناع عقلاً بشرعنا كالنظام ومنهم من منعه شرعاً كابن حزم، وصنف فيه رسالتين، والقائلون بهذا منعوه مطلقاً، وعن داود: غير الجلي وأما الجلي فلا ينكره، وإنما قال غير الجلي ليشمل المساوي كذا حكاه الآمدي لكن داود وإن قال بالجلي وهو ما كان الملحق أولى

(3/156)


بالحكم من الملحق به لا يسميه قياساً، فاستدراك المصنف ليس على وجهه، وابن حزم أعلم بمذهبه، قال في كتاب (الإحكام): وداود وأصحابه لا يقولون بشيء من القياس سواء كانت العلة فيه منصوصة أو غيره، قال الأستاذ أبو منصور في كتاب (التحصيل): وأما داود الأصبهاني والنظام فإنهما اعترضا القول في نفي القياس، أما داود فإنه قال: لو قيل لنا حرمت المسكر لأنه حلو لم يدل ذلك على تحريم حلو آخر والمنقول عن ابن حزم أنه يدعي أن المنصوص يستوعب جميع الحوادث بالأسماء اللغوية التي لا تحتاج إلى استنباط واستخراج حتى أنه نفى دلالة فحوى الخطاب وتنبيهه في معنى الأصل ونحوه من المواضع التي يدل فيها اللفظ الخاص على العام،

(3/157)


وعكس هذا قول إمام الحرمين إن القياس يحتاج إليه في معظم الشريعة لقلة النصوص الدالة على الأحكام، والحق والتوسط وهو إثبات النصوص على أكثر الحوادث وما خرج عن ذلك استعمل فيه القياس لا سيما القياس في معنى
الأصل وفحوى الخطاب فإنه في دلالة اللفظ عند قوم.
(ص): وأبو حنيفة في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات.
(ش): مثال الحدود: إيجاب قطع النباش قياساً على السارق بجامع أخذ مال الغير خفية ومثال الكفارات: إيجابها على قاتل النفس عمداً بالقياس على المخطئ، والمقدر كأعداد الركعات والرخص ظاهر، ومنع أبو حنيفة ذلك كله، لأن الحد يدرأ بالشبهة، والمقدر غير معقول، وعندنا هو حجة في الجميع لعموم الأدلة ودرء الحد

(3/158)


بالشبهة مردود بإثباتها بخبر الواحد والشهادة والظنيين، هكذا حكى الخلاف في (المحصول) قال: وحاصل هذه المسألة أنه هل في الشريعة جملة من المسائل التي لا يجري القياس فيها؟ وما ذكره لا ينفي ذلك، وأشار الشافعي رضي الله عنه إلى أن الحنفية قد ناقضوا أصلهم فأوجبوا الكفارة بالإفطار بالأكل قياساً على الإفطار بالجماع، وفي قتل الصيد خطأً قياساً على قتله عمداً، وقاسوا في التقديرات حتى قالوا في الدجاجة إذا ماتت في البئر: يجب كذا وكذا دلو، وفي الفأرة أقل من ذلك، وليس هذا التقدير عن نص ولا إجماع فيكون قياساً، وقال القاضي أبو الطيب في باب الحجر من تعليقه: التقدير عندنا (88 ز) بمنزلة سائر الأحكام وتثبت بما يثبت به سائر الأحكام، وقال أبو حنيفة: لا تثبت إلا بتوقيف أو اتفاق وناقض في تقدير مدة الرضاع وتقدير العدد الذي تنعقد به الجمعة، وتقدير مسح الرأس بما

(3/159)


ليس فيه توقيف ولا اتفاق واعلم أن ما قاله الإمام وتبعه المصنف في أن الشافعي رضي الله عنه يجوز القياس في الكل صحيح فيما عدا الرخص أما الرخص فلا، لأنه نص في (الأم) على المنع فقال في آخر صلاة العيد: ولا يعد بالرخصة مواضعها وكذا نقله البويطي.
(ص): وابن عبدان ما لم يضطر.

(3/160)


(ش): قال أبو الفضل بن عبدان في كتاب (شرائط الأحكام): من شرط القياس حدوث حادثة تؤدي الضرورة إلى معرفة حكمها، وأن لا يوجد نص يفي بإثبات حكمه، وقد حكاه ابن الصلاح في طبقاته عنه ثم قال: وعد هذا الثاني شرطاً في موضع التحقيق غريب، وإنما يعرف ذلك بين المتناظرين في مقام الجدل، وأما الشرط الأول فطريق يأباه وضع الأئمة الكتب الطافحة بالمسائل القياسية من غير تقييد بالحادثة.
(ص): وقوم في الأسباب والشروط والموانع.
(ش): الحكم الثابت من جهة الشرع نوعان:
أحدهما: إثبات الأحكام ابتداء من غير ربط بالسبب، وهو قابل للتعليل

(3/161)


والقياس باتفاق القائلين بالقياس.
والثاني: نصب الأسباب والشروط والموانع عللاً للأحكام كجعل الزنا موجباً للحد، وجعل الجماع موجباً للكفارة، فالجمهور على أنها قابلة للقياس مهما ظهرت العلة المتعدية، كقياس اللواط على الزنا في إيجاب الحد ومنعه قوم (9/ك) لأنه لا يحسن أن يقال في طلوع الشمس: إنه موجب للعبادة كغروبها، واختاره الآمدي وابن الحاجب والبيضاوي لكن الإمام في (المحصول) حكى عن أصحابنا الجواز وعليه جرى المصنف، وقال في (شرح المختصر)، المختار عندي: إن قلنا بعود

(3/162)


السببية للأحكام، صح وإلا فالوقف، وكلام الهندي يقتضيه، فإنه قال محتجاً على الجواز: لنا أن السببية حكم شرعي فإذا عقلت علتها ووجدت في صورة أخرى وجب إلحاقها به لأدلة القياس، وقياساً على الأحكام التي هي غير السببية وجعل المقترح هذا الخلاف مبنياً على أن الخلاف في أن حكم السببية من خطاب الوضع أو خطاب التكليف، واعلم أن جريانه في الشروط والموانع قل من ذكره فقد صرح به إلكياالطبري، قال: وقد نفى الشافعي رضي الله عنه اشتراط الإسلام في الإحصان إلحاقاً له بالجلد فقال الجلد أعلى أنواع العقوبة ثم استوى فيه إنكار المسلمين والكفار فالرجم كذلك.

(3/163)


(ص): وقوم في أصول العبادات.
(ش): منع الحنفية والجبائي إثبات أصول العبادات بالقياس وبنوا عليه أنه لا يجوز إثبات الصلاة بإيماء الحاجب بالقياس، محتجين بأنه لو جاز لأمكن إثبات عبادة مستقلة قياساً على العبادات المشروعة بجامع المصالح المتعلقة بالعبادات، وذهب أصحابنا إلى الجواز لعموم أدلة القياس وأجابوا عن شبههم بأن ذلك ليس من القياس في شيء بل هو تشريع باطل.
(ص): وقوم الجزئي الحاجي إذا لم يرد نص على وفقه كضمان الدرك.
(ش): هذا الخلاف لا يعرف في كتب الأصول وإنما ذكره الشيخ صدر الدين ابن الوكيل في (الأشباه والنظائر).

(3/164)


ومنه أخذ المصنف فقال: القياس الجزئي إذا لم يرد من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيان على وفقه مع عموم الحاجة إليه في زمانه أو عموم الحاجة إلى خلافه هل يعمل بذلك القياس الجزئي؟ فيه خلاف أصولي وبينه بصور، فذكر منها: ضمان الدرك القياس الجزئي يقتضي منعه لأنه ضمان ما لم يجب، ولكن عموم الحاجة إليه لمعاملة الغرباء وغيرهم يقتضي جوازه فقال ابن سريج بالمنع على مقتضى القياس وخرجه قولاً، والأصح صحته بعد قبض الثمن لا قبله، لأنه وقت الحاجة المؤكدة.
(ص): وآخرون في العقليات.

(3/165)


(ش): منع قوم من الحشوية وغلاة الظاهرية القياس في العقليات والجماهير على الجواز، ومثاله قول أصحابنا في مسألة الرؤية الله تعالى موجود وكل موجود يرى فيكون مرئياً، وإذا قلنا به فلا بد من جامع عقلي وإلا لكان الجمع تحكماً.

(3/166)


محضاً كتوغل الفلاسفة، وأهل البدع في مسائل العقائد في ذلك، وادعى ابن برهان في (الوجيز) أن المحققين على أنه ليس في المعقولات قياس وإنما يتعرف حكم التفصيل بها من الجملة والقياس الصحيح وهو الشرعي.
(ص): وآخرون في النفي الأصلي.
(ش): اختلفوا في النفي الأصلي هل يعرف بالقياس بعد اتفاقهم على أن استصحاب حكم العقل كاف فيه؟ قال في (المستصفى): والمراد بالنفي الأصلي البقاء على ما كان قبل ورود الشرع، ومثاله إذا وجدنا صورة لا حكم لله فيها، ثم وجدنا أخرى تشبهها فهل يبحث عن حكها أيضاً أو لا؟ بل نقيسها على التي بحثنا عنها ولم نعلم حكمها، قيل: يجوز، وقيل: يمتنع، وتوسط الغزالي والإمام قالا: يجوز بقياس الدلالة وهو أن يستدل بانتفاء آثار الشيء وانتفاء خواصه على عدمه، ولا يجوز بقياس العلة لأن العدم الأصلي أزلي، والعلة حادثة بعده فلا يعلل بها، وعزاه الهندي للمحققين ولقائل أن يقول: العلل الشرعية معرفات، ولا يمتنع تأخرها واحترز المصنف بالأصلي عن العدم الطارئ فإنه يجري فيه القياسات بالاتفاق لأنه حكم شرعي حادث فهو كسائر الأحكام الوجودية.
(ص): وتقدم قياس اللغة.

(3/167)


(ش): أي: في فصل اللغات فأغنى عن إعادته ونبه عليه لئلا يعتقد إخلاله به لم جرت عادتهم بذكره هنا.
(ص): والصحيح حجة إلا في العادية والخلقية.
(ش): هذا الاستثناء ذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ومثله بأقل الحيض

(3/168)


أو النفاس وأكثره، وأقل مدة الحمل وأكثره (89/ز) فلا قياس فيه لأن معناها لا يعقل، بل طريق إثباتها خبر الصادق، ولكن ذكر الماوردي والروياني في كتاب القضاء أن المقادير يجوز القياس فيها على الصحيح، ومثلا بأقل الحيض وأكثره وقد يجمع بين الكلامين بحمل الأول على الحيض من حيث الجملة، والثاني في الأشخاص المعينة، وما نقلناه عن الشيخ أبي إسحاق هو الموجود في (اللمع)، وقال في شرحها: ما طريقه العادة إن كان عليه أمارة جاز إثباته بالقياس كالشعر هل تحل فيه الروح، والحامل هل تحيض؟
وإذ لم يكن عليه أمارة كأقل الحيض وأكثره، فلا.

(3/169)


(ص): وإلا في كل الأحكام.
(ش): يجوز أن تثبت الأحكام جميعها بالنصوص قطعاً إذ لا يلزم منه محال، واختلفوا هل ثبتت كلها بالقياس؟ فذهب قوم إلى جريانه لأن حد الشرعي يشمل الكل، وقد جرى في البعض وفاقاً فكذلك في البعض الآخر، والجمهور على امتناعه، لأن القياس حمل فرع على أصل فكيف يتصور القياس، بل في بعضها ما لا يجري القياس فيه، لأن أنواعه مختلفة الأحكام ولأنه لو ثبت الجميع بالقياس لزم التسلسل ولأن من الأحكام ما لا يعقل معناه كضرب الدية على العاقلة والقياس فرع تعقل المعنى، واعلم أن هذه المسألة أصل للمسألة السابقة في استعمال القياس في الحدود والكفارات والمقدرات كما ذكره ابن السمعاني وغيره، وسبق من الإمام أن حاصل الخلاف، ثم يرجع إلى ذلك، فكأن المصنف ذكرهما استيفاء للأصل والفرع.
(ص): وإلا القياس على منسوخ خلافاً للمعممين.

(3/170)


(ش): لا يجوز القياس على أصل منسوخ فإن التعدية مع أن الأصل منسوخ غير ممكنة، وقول المصنف خلافاً للمعممين، راجع لجميع المستثنيات من قوله: والصحيح حجة إلا ... إلى آخره، إلا أنه لا يعرف خلافاً في امتناع القياس على منسوخ، إلا أنه سبق في النسخ عن الحنفية إذا نسخ حكم الأصل يبقى حكم الفرع، وهو يقتضي جواز القياس على المنسوخ، فإنهم قالوا: يبقى حكم الفرع فلعل المصنف أراد هذا لكن بين في (شرح المختصر) أنه لا منافاة بينهما، قلت:

(3/171)


ولو أنه قال ولا القياس على مخصوص لأمكن الخلاف، فإن الشيخ أبا إسحاق في (اللمع) ذكر من مفسدات القياس: كون الأصل ورد الشرع بتخصيصه مثل قياس أبي حنفية (10/ ك) نكاح غير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جواز النكاح بلفظ الهبة على نكاح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد ورد الشرع بتخصيصه بذلك.
(ص): وليس النص على العلة ولو في الترك أمراً بالقياس خلافاً للبصري، وثالثها التفصيل.
(ش): النص على علة الحكم يدل على ثبوت الحكم لأجل العلة في ذلك المحل خاصة بلا خلاف، وهل يدل على تعدية الحكم بتلك العلة إلى غير محل الحكم المنصوص عليه دون ورود التعبد بالقياس؟ فالجمهور على أنه لا يدل سواء كان في الفعل، كأكرم زيداً لعلمه، أو في الترك كحرمت الخمر لإسكارها قال

(3/172)


أبو الحسين البصري والشيخ أبو إسحاق وأبو بكر الرازي وغيرهم: يكفي.
وقال أبو عبد الله البصري: إن كانت علة التحريم كفى، أو الإيجاب أو الندب فلا، قال الغزالي: وبني على هذا أن التوبة لا تصح من بعض الذنوب، بل من ترك ذنباً لكونه معصية يلزمه، ترك كل ذنب، أما من أتى بعبادة لأنها طاعة، لا يلزمه الإتيان بكل طاعة، قال: وهذا محال في الطرفين، واعلم أن ابن الحاجب نقل عن البصري التفصيل، ومراده أبو عبد الله، والمصنف نقل عنه الاكتفاء مطلقاً ومراده أبو الحسين كما ذكرنا.

(3/173)


(ص): وأركانه أربعة.
(ش): أي: الأصل والفرع، وحكم الأصل، والوصف الجامع، ولم يذكروا منها حكم الفرع، لأنه ثمرة القياس ونتيجته لتأخره عنه، فلا يجوز أن يكون ركنا له وإلا لزم توقفه على المتوقف على نفسه.
(ص): الأصل: وهو محل الحكم المشبه به، وقيل: دليله، وقيل: حكمه.
(ش): لم يحك المصنف في ركنية الأصل خلافاً، وقيل: يجوز القياس بغير أصل، قال ابن السمعاني: وهو قول من أخلط الاجتهاد بالقياس، والصحيح أنه لا بد له من، أصل لأن الفروع لا تتفرع إلا عن أصول، ووجه تقديم الأصل على غيره من الأركان ظاهر، لأنه أصل الحكم الذي هو أصل العلة التي هي أصل الفرع والقول الأول، هو قول الفقهاء وساعدهم كثير من المتكلمين.

(3/174)


والثاني: قول المتكلمين. فإذا قسنا النبيذ في تحريم شربه على الخمر المنصوص على تحريمها، بقوله: حرام، قال الفقهاء: الأصل فيه هو الخمر التي هي محل التحريم، لأنها يشبه بها الفرع فتكون أصلاً له، وقال المتكلمون: الأصل هو النص الدال على تحريم الخمر لأنه الذي فيه التحريم. وقال بعضهم: الأصل هو التحريم الثابت في الخمر لأنه الذي يتفرع عليه تحريم النبيذ، والجميع ممكن، إلا أن مساعدة الفقهاء أولى لئلا يحتاج إلى تغيير مصطلحهم وهم الخائضون في عمدة القياس، فلهذا صدر به المصنف، والنزاع لفظي، لأن حكم الخمر إذا كان مبنياً على الخمر من حيث إنها محل له فهي أصل له، وهو أصل لحكم النبيذ لكونه مبنياً عليه، وأصل الأصل أصل، فيكون الخمر أيضاً أصلاً لحكم النبيذ وأصل الأصل أصل وكذلك إذا كان حكم الخمر مبنياًً على النص من حيث إنه مستفاد منه فيكون النص مبيناً لحكم النبيذ أصلاً له، وهو أصل وأصل الأصل أصل فيكون النص أيضاً أصلاً لحكم النبيذ والحاصل رجوع الخلاف إلى ما هو أصل بالذات أو بالعرض.

(3/175)


تنبيه: قد جعل القول بأنه دليله مرجوحاً وكلامه في أول الكتاب يخالف هذا، وصوابه أن اصطلاح الأصوليين في المقدمات: إطلاق الأصل على شيء، وفي القياس: إطلاقه على آخر.
(ص): ولا يشترط دال على جواز القياس عليه بنوعه أو شخصه، ولا الاتفاق على وجود العلة فيه، خلافاً لزاعميهما.
(ش): فيه مسألتان:
إحداهما: لا يشترط في الأصل أن يقوم دليل على جواز القياس عليه بحسب الخصوصية نوعية كانت أو شخصية، بل كل حكم انقدح فيه معنى مخيل غلب على الظن اتباعه، فإنه يجوز أن يقاس عليه، وخالف عثمان البتي فشرطه، فإذا كانت المسألة (90/ز) من مسائل البيع، فلا بد من دليل على جواز القياس في أحكام البيعات أو في النكاح فكذلك.

(3/176)


الثانية: لا يشترط الاتفاق على وجود العلة في الأصل، بل يكفي انتهاض الدليل عليه خلافاً لبعضهم، قال الشيخ أبو إسحاق: إن أراد بالاتفاق إجماع الأمة أدى إلى إبطال القياس، لأن نفاة القياس من جملتهم، وإن أراد إجماع بعض القياسيين فهم بعض الأمة وليس قولهم بدليل.
(ص): الثاني حكم الأصل ومن شرطه ثبوته بغير القياس وقيل والإجماع.
(ش): لحكم الأصل شرائط.
الأول: أن لا يكون الدليل الدال على حكم الأصل قياساً عند الجمهور خلافاً لبعض المعتزلة والحنابلة،

(3/177)


وأبي عبد الله البصري، لنا أنه اتحدت العلة فالقياس على الأصل الأول، وذكر الثاني لغو، وإن اختلفت لم ينعقد القياس لعدم التساوي في العلة.
واعلم أن الدليل لا ينحصر في الكتاب والسنة، بل جاز أن يكون إجماعاً، لأنه أصل في إثبات الأحكام فجاز القياس على ما ثبت بالإجماع وحكى الشيخ أبو إسحاق وجهاً: أنه يشترط أن يكون كتاباً أو سنة ولا يجوز القياس على ما ثبت بالإجماع إلا أن يعلم النص الذي أجمعوا لأجله ولم يذكر المصنف في حكاية هذا الوجه الاستثناء، لأن القياس حينئذ على النص.
(ص): وكونه غير متعبد فيه بالقطع.
(ش): الثاني أن لا يتعبد فيه بالعلم ليخرج ما تعبد فيه بالعلم كإثبات كون خبر الواحد حجة بالقياس على قبول الشهادة، والقبول على قول من زعم أنه من

(3/178)


المسائل العلمية وكون الاجتهاد، جائزاً في طلب الحكم الشرعي قياساً على جواز الاجتهاد في طلب القبلة، وذلك لأن القياس الجلي لا يفيد إلا الظن فإثبات المسألة العلمية به إثبات العلم بالظن وهو ممتنع.
تنبيهات:
الأول: هذا الشرط الذي ذكره الإمام وقال الهندي إنما يستقيم إذا كان المراد بالحكم الذي هو ركن القياس الظني المختلف فيه، فأما إن أريد تعريف الحكم الذي هو ركن القياس كيف كان فلا يستقيم ذلك بل يجب حذف قيد العلم عنه.
الثاني: قد يشكل هذا الشرط مع ترجيح المصنف فيما سبق جريان القياس في العقليات مع أنا متعبدون فيها بالقطع.

(3/179)


(ص): وشرعياً إن استلحق شرعيا.
(ش): الثالث: في كون الحكم شرعياً ليخرج اللغوي والعقلي، فأما بتقدير أن يجري القياس فيهما، فإنه ليس قياساً شرعياً بل لغوياً وعقلياً، وكلامنا في الشرعي، كذا قرروه، وقال المصنف: لك أن تقول إذا أجرينا القياس فيهما ترتب على ذلك أمر شرعي، وهو تحريم النبيذ مثلاً لصدق اسم الخمر عليها قياساً فلهذا زاد عليهم هنا هذا القيد وهو قوله: إن استلحق شرعياً.
(ص): وغير فرع إذا لم يظهر للوسط فائدة، وقيل مطلقاً.
ش الرابع: أن يكون حكم الأصل غير فرع عن أصل خلافاً للحنابلة وبعض المعتزلة ثم إن (11 ك) الأصوليين أطلقوا الشرط، وقال المصنف: هو مخصوص عندي بما إذا لم يظهر للوسط فائدة البتة كقياس السفرجل على التفاح، والتفاح على البر، أما إذا ظهرت له فائدة فلا يمتنع أن يقاس فرع على فرع، وقولهم: إن كل فرع قيس عليه فرع فالعلة فيه إما متحدة فيكون حشواً أولا فيفسد، نقول عليه: بين

(3/180)


الأمرين واسطة وهو أن يكون حكم الفرع المقيس عليه هو الذي وسط أظهر وأولى بحيث لو قيس الفرع الأول الذي هو فرع الفرع على الأصل الأول لاستنكر في بادئ الأمر جداً، بخلاف ما إذا جعله مندرجاً مثاله: التفاح ربوي قياساً على الزبيب، والزبيب ربوي قياساً على التمر، والتمر ربوي قياساً على الأرز، والأرز ربوي قياسا على البر، إذا قصد بقياس التفاح على الزبيب الوصف الجامع بينهما، وهو الطعم، وبقياس الزبيب على التمر الطعم مع الكيل، وبالتمر على الأرز الطعم والكيل مع التقوت، وبالأرز على البر الطعم والكيل والقوت الغالب، ولو قيس ابتداء التفاح على البر لم يسلم من مانع يمنع علية الطعم فجمع بين الزبيب والتمر في الكيل، ثم أخذ يسقط الكيل والقوت عن الاعتبار ليثبت له دعوى أن العلة الطعم فقط.
تنبيه: ينبغي تأمل هذا الشرط مع قوله قبله ثبوته بغير القياس، لأنه إذا كان الحكم في الأصل ثابتاً بالقياس فهو فرع لأصل آخر، ولهذا، أورده ابن الحاجب بهذه الصيغة والبيضاوي بالصيغة الأولى ولم يجمع واحد منهما بينهما، ثم رأيت من أورده على المصنف فقال قد علم اشتراط كونه غير فرع من اشتراط ثبوته بغير القياس فما الفائدة.

(3/181)


لهذا؟ وأجاب المصنف: بأنه لا يلزم من اشتراط كونه غير فرع ـ وهو ما ذكرنا ثانياً ـ ثبوته بالقياس، لجواز أن يكون ثابتاً وثبوته بغير القياس، لأنه قد يثبت بالقياس ولا يكون فرعاً للقياس المراد ثبوت الحكم فيه، وإن كان فرعاً لأصل آخر، وكذلك لا يلزم من كونه غير فرع أن لا يكون ثابتاً بالقياس، لجواز أن يكون ثابتاً بالقياس ولكنه ليس فرعاً في هذا القياس الذي يراد إثبات الحكم فيه.
(ص): وأن لا يعدل عن سنن القياس.
(ش): الخامس: أن لا يكون معدولاً به عن سنن القياس، لتعذر التعدية حينئذ، والمعدول به هو الخارج عن المعنى لا المعنى فيخرج منه شيئان.
أحدهما: ما شرع ابتداء لا لمعنى فإنه لم يدخل حتى يقال خرج.
والثاني: ما استثني عن معقول المعنى كالعرايا استثنيت من الربويات لحاجة

(3/182)


الفقراء وقد سماها الغزالي معدولاً بهما عن سنن القياس وفيه تجوز
(ص): ولا يكون دليل حكمه شاملاً لحكم الفرع.
(ش): السادس: أن لا يكون دليل حكم الأصل شاملاً لحكم الفرع، وإلا

(3/183)


فليس جعل أحدهما أصلاً والآخر فرعاً أولى من العكس.
(ص): وكون الحكم متفقاً عليه، قيل بين الأمة، والأصح بين الخصمين وأنه لا يشترط اختلاف الأمة.
(ش): السابع: كون الحكم متفقاً عليه مخافة أن يمنع فيحتاج القائس إلى إثباته عند توجه المنع إليه فيكون المشروع فيه انتقالاً من (19/ز) مسألة إلى أخرى، ثم اختلفوا في كيفية الاتفاق عليه، فقيل: يشترط أن يكون متفقاً عليه بين الأمة، وقيل: يكفي اتفاق الخصمين وقيل: يشترط اتفاق الخصمين واختلاف الأمة حتى لا يكون مجمعاً عليه وهو رأي الآمدي، فإنه متى كان مجمعاً عليه بين الأمة لم يكن للخصم منعه، والصحيح جواز كونه مجمعاً عليه بين الأمة.

(3/184)


(ص): فإن كان الحكم متفقاً بينهما ولكن لعلتين مختلفتين فهو مركب الأصل أو العلة، يمنع الخصم وجودها في الأصل فمركب الوصف، ولا يقبلان خلافاً للخلافيين.
(ش): سمى بعضهم المتفق عليه بين الخصمين فقط بالقياس المركب، ثم إن كان الحكم متفقاً عليه بين الخصمين لكن لعلتين مختلفين فهو مركب الأصل، سمي بذلك لاختلافهما في تركيب الحكم على العلة في الأصل.
كما في قياس حلي البالغة على حلي الصبية فإن عدم الوجوب في حلي الصبية متفق عليه بين الخصمين لكن لعلتين مختلفتين فإنه عندنا لعلة كونه حلياً وعندهم لعلة كونه مالاً للصبية، وإن كان الخصم يوافق على العلة ولكن يمنع

(3/185)


وجودها في الأصل فهو مركب الوصف، سمي بذلك لاختلافهما في نفس الوصف الجامع كقولنا في تعليق الطلاق قبل النكاح تعليق الطلاق فلا يصح، كما لو قال: زينب التي أتزوجها طالق، فيقول الحنفي: العلة وهي كونه تعليقاً مفقودة في الأصل، فإن قوله زينب التي أتزوجها طالق تنجيز لا تعليق، ثم المشهور عند الأصوليين أن النوعيين غير مقبولين أما الأول: فلأن الخصم لا ينفك عن منع

(3/186)


العلة في الفرع أو منع الحكم في الأصل، وعلى التقديرين فلا يتم القياس، وأما الثاني فلأنه لا ينفك عن منع الأصل كما لو لم يكن التعليق ثابتاً فيه، أو منع الحكم في الأصل إذا كان ثابتاً، وعلى التقديرين لا يتم القياس وحكاية القبول عن الخلافيين ذكره الهندي.
(ص): ولو سلم العلة فأثبت المستدل وجودها أو سلمه المناظر انتهض الدليل.
(ش): لو سلم الخصم العلة فأثبت المستدل في القسم الثاني أنها موجودة في الأصل، أو سلم أن العلة التي عينها المستدل في الأول هي العلة، وأنها موجودة في الفرع، انتهض الدليل عليه فيصح القياس لاعتراف الخصم بما هو موجب لصحة القياس، كما لو كان مجتهداً أو غلب على ظنه صحة القياس فإنه لا يكابر نفسه فيما أوجبه ظنه.
(ص): فإن لم يتفقا على الأصل ولكن رام المستدل إثبات حكمه ثم إثبات العلة فالأصح قبوله.

(3/187)


(ش): ما سبق فيما إذا كان حكم الأصل متفقاً عليه مطلقاً أو بين الخصمين، فإن لم يتفقا عليه، ولم يكن مجمعاً عليه، ولكن حاول المستدل إثبات حكم الأصل بنص ثم أثبت العلة بطريق من طرقها، فقيل: لا يقبل ذلك منه بل لا بد من الإجماع بين الخصمين صونا للكلام عن الانتشار والأصح قبوله وإلا لم يقبل في المناظرة مقدمة تقبل المنع.
(ص): والأصح لا يشترط الاتفاق على تعليل حكم الأصل أو النص على العلة.
(ش): لا يشترط في الأصل أن يكون عقد الإجماع على أن حكمه معلل، وإن ثبتت علته عيناً بالنص بل لو ثبت بالطرق الظنية، جاز القياس عليه وخالف فيه بشر المريسي، فزعم أن لا يقاس على أصل آخر حتى يدل نص على عين علة ذلك

(3/188)


الحكم أو انعقد الإجماع على كون حكمه معللاً وهو باطل لأن أدلة القياس مطلقة.
(ص): الثالث: الفرع وهو المحل المشبه، وقيل: حكمه.
(ش): الأول: قول الفقهاء وهو النبيذ في المثال السابق الأصل.
والثاني: للمتكلمين حكم المشبه: وهو تحريم النبيذ، ومنهم من مال إليه هنا لتفرعه عن القياس بخلاف المحل، ولم يقل أحد هنا إنه دليله، كيف ودليله القياس.
(ص): ومن شرطه: وجود تمام العلة فيه، فإن كانت قطعية فقطعي، أو ظنية فقياس الأدون كالتفاح على البر بجامع الطعم.
(ش): هذا أخذه من نقول ابن الحاجب أن يساوى الفرع في العلة، علة الأصل، لإيهام لفظ المساواة أن الزيادة تضر فيخرج قياس الأولى: بخلاف حصول المعنى بتمامه فإن الزيادة لا تنافيه، ولا يخرج قياس الأدون فإنه ليس المعني بالأدون كون المعنى فيه أقل من الأصل، لكن حصول المعنى (12/ك) المظنون فيه بتمامه، وذلك لأن الأصل في العلة قد يكون مقطوعاً بها كالإسكار في الخمر، وقد

(3/189)


تكون مظنونة كالطعم في البر، فإذا كانت قطعية، ووجدت في فرع كان القياس فيه قياس المساواة، وإن كان مظنونة فوجدت في فرع يشتمل عليها ولا يشتمل على الوجه الآخر المحتمل للعلية، وإن كانت مرجوحاً فقياس الفرع حينئذ قياس أدون لأنه ليس ملحقاً بالأصل إلا على تقدير أن العلة فيه كذا مع احتمال غيره، فلم يكن لإلحاقه به من القوة ما لإلحاق الفرع المشتمل على الأوصاف المحتملة كلها، والحاصل أن المساواة لا بد منها، وإلا لم يمكن تعدي الحكم؟
(ص): وتقبل المعارضة فيه بمقتضى نقيض أو ضد لا خلاف الحكم على المختار.

(3/190)


(ش): من الشروط ـ على المختار ـ أن لا يعارض الفرع بمعارض يقتضي نقيض الحكم، بأن يقول ما ذكرت من الوصف وإن اقتضى ثبوت الحكم في الفرع فعندي وصف آخر يقتضي نقيضه، فتوقف دليلك، وقد ذكر ابن الحاجب هذه المسألة في فصل المعارضة واقتصر على ذكر النقيض، وضم إليه المصنف الضد، إذ لا فرق، وأشار إلى مخالفة الخلاف، وهذا لأن المستدل إذا ذكر وصفاً فعورض بوصف قائم في الفرع يقتضي نقيض ما رامه المستدل، كما إذا كان وصف المستدل يقتضي ثبوت الحرمة ووصف المعترض يقتضي ثبوت نقيضها، وهو لا حرمة أو يقتضي فيه ضد مرام المستدل كما إذا كان وصفه يقتضي ثبوت الحرمة ووصف المعترض يقتضي ثبوت الوجوب أو الاستحباب مثلاً، فلا شك في قبول هذه المعارضة، لأنها تهدم قاعدة المستدل وتبطل قصده أما إذا عورض، بما يقتضي خلاف الحكم الذي رامه فلا يقبل

(3/191)


ذلك لأنه لا يبطل قوله لإمكان اجتماع مرامه معه، وهذا كما إذا أتى بعلة تقتضي في الفرع الحرمة فعارضه بعلة تقتضي فيه وجوب الحد، فوجوب الحد لا ينافي الحرمة، فله أن يقول: هب إن ما عارضت به صحيح، ولكنه لا يعترض غرضي لجواز اجتماع (92/ز) الحرمة والحد، مثال النقيض: لو باع الجارية إلا حملها صح في وجه كما لو باع هذه الصيعان إلا صاعاً، فنقول: لا يصح كما لو باع الجارية إلا يدها وهذا قريب الشبه من الفرع إذا تجاذبه أصلان متقابلان والشافعي رضي الله عنه يلحقه بأغلبهما وهذا إذا عارض بعلة أخرى تقتضي في الفرع نقيض الحكم، فإن علة المستدل نفسها تقتضي النقيض فذلك قلب لا معارضة، ومثال الضد: الوتر واجب قياساً على التشهد في الصلاة بجامع مواظبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهما، فنقول يستحب قياساً على الفجر.
بجامع أن كلا منهما يفعل في وقت معين لفرض معين من فروض الصلاة، فإن الوتر في وقت العشاء، والفجر وقت الصبح،

(3/192)


ولم يعهد من الشرع وضع صلاتي فرض في وقت واحد، ولو قيل: الجامع المواظبة لكان قلباً لا معارضة، فهذان قادحان، لأن النقيض والضد إذا ثبت لزم تقابل قول المستدل بخلاف الخلاف، ومثال الخلاف اليمين الغموس لا توجب الكفارة كشهادة الزور، بجامع أن كلا منهما قول آثم قائله، فيقال: الغموس توجب التعذير قياساً على الزور بجامع إظهار الباطل على وجه من التأكيد، يغلب ظن كونه حقاً، ففي الغموس باليمين، وفي الزور بالشهادة، واليمين والشهادة أخوان، ولا نقول بجامع الإثم كي لا يكون قلباً لا معارضة، فهذا غير قادح، إذ لا مساواة بين ثبوت التعذير والكفارة.
تنبيهات:
الأول: سبق المصنف إلى ذكر هذا في شروط الفرع هنا ابن الحاجب في (المنتهى)، والهندي وقالا: إنه إنما يتم اشتراطه على القول بجواز تخصيص العلة فإن

(3/193)


لم نجوزها فلا يشترط ثم قال الهندي: وهذا في الحقيقة ليس شرطاً للفرع الذي يقاس بل للفرع الذي ثبت فيه الحكم بمقتضى القياس.
الثاني: أن هذا تفريع على ما سيذكره المصنف في شرط العلة من انتفاء المعارض المنافي في الفرع الحكم بمقتضى القياس.
الثالث: ظهر بما قررناه أن قوله ضد أو نقيض منصوبان بالوصف قبلهما والأصل بما يقتضي نقيض الحكم أو ضده.
(ص): والمختار قبول الترجيح، وأنه لا يجب الإيماء إليه في الدليل.
(ش): طريقه في دفع المعارضة القدح فيما اعترض به عليه، فإن عجز عن القدح فهل يجوز دفعه بالترجيح بوجه من وجوهه المذكورة في باب الترجيح؟ والمختار قبوله لأنه إذا ترجح وجب العمل به بالإجماع على وجوب العمل بالراجح، وقيل لا يقبل، لأن تساوي الظن حاصل

(3/194)


فيهما غير معلوم وعلى المختار فهل يجب الإيماء إلى الترجيح في متن الدليل بأن يقول في أمان العبد أمان من مسلم عاقل موافقاً للبراءة الأصلية؟ فيه خلاف، فقيل يجب لأنه شرط في العمل به لا يثبت الحكم دونه فكان كجزء العلة، والمختار أنه لا يجب لأن الترجيح على ما يعارضه خارج عن الدليل.
(ص): ولا يقوم القاطع على خلافه وفاقاً، ولا خبر الواحد عند الأكثرين.
(ش): أما اشتراط الأول: فوجهه أن القياس مظنون فلا يعارض القطعي.
وأما الثاني: فهي مسألة معارضة القياس لخبر الواحد وقد سبقت في باب الأخبار.
(ص): وليساو الأصل، وحكمه حكم الأصل فيما يقصد من عين أو جنس، فإن خالف فسد القياس. وجواب المعترض بالمخالفة ببيان الاتحاد.

(3/195)


(ش): من الشروط أن يساوي حكم الأصل حكم الفرع فيما يقصد المساواة فيه، من عين الحكم أو جنس الحكم، أما العين فكقياس القصاص في النفس بالمثقل عليه في القتل بالمحدود، فالحكم في الفرع هو الحكم في الأصل بعينه وهو القتل وأما الجنس فكقياس إثبات الولاية على الصغيرة في نكاحها على إثبات الولاية عليها في مالها، فإن ولاية النكاح من جنس ولاية المال فإنها سبب لنفاذ التصرف وليست عينها لاختلاف التصرفين فإن خالف أي كان حكم الفرع مخالفاً لحكم الأصل فسد القياس كقولنا: الظهار يوجب الحرمة في حق الذمي كالمسلم، فيقول الحنفي: الحرمة متناهية بالكفارة، والحرمة في الذمي مؤبدة لأنه

(3/196)


ليس من أهل الكفارة فيختلف الحكم فيهما وجواب هذا المعترض بالمخالفة بأن يبين المستدل الاتحاد وهو منع كون الذمي ليس من أهل الكفارة.
(ص): ولا يكون منصوصاً بموافق خلافاً لمجوز دليلين ولا بمخالف إلا لتجربة النظر,
(ش): من الشروط أن لا يكون حكم الفرع منصوصاً عليه وإلا لم يكن للقياس فائدة، كذا أطلق جماعة، والتحقيق ما نقله الشيخ الهندي وتابعه المصنف أن للمسألة صورتين:
إحداهما: أن يكون النص على موافقة القياس، فإما أن يكون النص الدال على ثبوت حكم الفرع هو بعينه الذي دل على حكم الأصل، قال: فينبغي أن يكون القياس باطلاً إذ ليس جعل تلك الصورة أصلاً والأخرى فرعاً أولى من العكس، وليس هذا القسم مراد المصنف، وإما أن يكون غيره وهو مراده، فأطلق جماعة المنع

(3/197)


وقالوا: لا يجوز القياس (13/ك) على المنصوص عليه مطلقاً لقضية معاذ فإنها تفهم امتناع القياس عند وجدان النص، ولكن الأكثرين هنا كما قاله الهندي على الجواز لأن ترادف الأدلة على مدلول واحد جائز لإفادة زيادة الظن ويخالف ما إذا كان النص الدال على حكم الأصل والفرع واحداً، فإن القياس في هذه الصورة لا

(3/198)


يفيد زيادة الظن أصلاً، لأن الفرع لا يؤكده أصله بخلاف ما إذا كانا متغايرين.
الثانية: أن يكون ذلك الحكم المنصوص عليه مخالفاً للقياس فيمتنع مطلقاً، وإلا لزم تقديم القياس على النص، وقوله: إلا لتجربة يعني لا فائدة للقياس، ولا يعمل به لكنه قياس صحيح في نفسه، ولهذا نقول: إذا تعارض النص والقياس فالنص مقدم، وإنما يتعارضان عند صحتهما، وفائدته حينئذ التمرين ورياضة الذهن في المسائل لا غير.
(ص): ولا متقدما على حكم الأصل وجوزه الإمام عند دليل آخر.
(ش): من الشروط أن لا يتقدم على حكم الأصل كقياس الوضوء على التيمم في النية لأن التعبد بالتيمم إنما ورد بعد الهجرة، وكان التعبد بالوضوء قبلها

(3/199)


وإنما شرط ذلك لئلا يلزم ثبوت حكم الفرع قبل ثبوت العلة لتأخير الأصل وفصل أبو الحسين في (المعتمد) وتابعه الإمام الرازي (93/ز) وأتباعه قالوا: إذا تقدم حكمه فإن لم يدل على ثبوت حكمه إلا القياس على ذلك الأصل، لم يصح، لأنه لا يجوز، أن لا يكون لنا على الحكم دليل في الحال، وإن دل على حكم الفرع دليل متقدم لم يبطل ذلك القياس، لأنه يجوز أن يدلنا الله تعالى على الحكم بأدلة مترادفة، ألا ترى أن المعجزات تتواتر بعد المعجزة المقارنة لابتداء الدعوة ولك أن تقول الكلام في تفرعه عن الأصل المتأخر، وذلك لا يمكن سواء كان عليه دليل غيره أم لا؟ قلت: ولم يحفظ المصنف في هذه المسألة خلافاً سوى تفصيل الإمام، وقد أطلق ابن الصباغ في العدة امتناع هذا الشرط، وجوز أن يكون الحكم عليه

(3/200)


أمارات متقدمة ومتأخرة، قال: فإن الدليل على الشيء يجوز تأخيره عن ثبوته، ولهذا معجزات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها ما قارن نبوته، ومنها ما تأخر عنه، ويجوز الاستدلال على نبوته بما نزل من القرآن بالمدينة فكذا في الأحكام المظنونة.
(ص): ولا يشترط ثبوت حكمه بالنص جملة خلافاً لقوم.

(3/201)


(ش): منهم أبو هاشم حيث شرطوا ثبوته بالنص في الجملة لا التفصيل، ويطلب بالقياس تفصيله، فلولا العلم بورود ميراث الجد جملة لما جاز القياس في توريثه مع الإخوة والجمهور على أنه ليس بشرط فإن العلماء قاسوا أنت علي حرام تارة على الطلاق فتحرم وتارة على الظهار فيوجب الكفارة، وتارة على اليمين فيكون إيلاء، ولم يوجد النص في الفرع جملة ولا تفصيلاً.
(ص): ولا انتفاء نص أو إجماع يوافقه خلافاً للغزالي والآمدي.
(ش): أي لا يشترط انتفاء نص، ويكون فائدة القياس زيادة معرفة العلة أو الحكم، وفائدة النص ثبوت الحكم، فإن قيل: ما هذا من قول المصنف قبله، وأن

(3/202)


لا يكون منصوصاً فالجواب أن ذلك في الفرع نفسه يشترط أن لا يكون منصوصاً عليه، إذ لا يبقى للقياس فائدة، وههنا في أنه لا يكون منصوصاً على شبهه وفرق بين شبه الشيء والشيء.
(ص): الرابع العلة قال أهل الحق المعرف، وحكم الأصل ثابت بها لا بالنص خلافاً للحنفية، وقيل: المؤثر بذاته، وقال الغزالي بإذن الله وقال الآمدي: الباعث.
(ش): لم يحك المصنف خلافا ًفي ركنية العلة، وفيه خلاف شاذ حكاه ابن السمعاني أنه يصح القياس من غير علة إذا لاح بعض الشبه وهو باطل، وقد اختلفوا في تعريف العلة على أقوال:

(3/203)


أحدها: وهو قول السنة أنها المعرف للحكم، أي بأن تكون دالة على وجود الحكم وليست بمؤثرة، لأن المؤثر هو الله تعالى، فقيل لهم: المعرف هو النص، فأجابوا: بأن الوصف معرف لفرد آخر غير الأصل، وحكم الأصل أي المعلل ثابت بالعلة المشتركة بينه وبين الفرع عند أصحابنا، وقالت الحنفية بالنص وإنما ذكر المصنف هذه المسألة بعد هذا التعريف لينبه على توهم ابن الحاجب وغيره أن أصحابنا ذكروا هذا على أنها بمعنى الباعث، وليس كذلك، بيانه أن الأصحاب لما قالوا:

(3/204)


إنه ثابت بالعلة، قيل لهم: هذا لا يتأتى إلا إذا فسرت العلة بالمؤثر أو الباعث، فإن كونه منصوصاً عليه حينئذ لا ينافي أن يكون معللاً بهذا المعنى، أما إذا فسرت بالمعرف فكونه منصوصا عليه ينافي التعليل بهذا المعنى، وعلى هذا جرى ابن الحاجب وقال: إنما عنت الشافعية أنها بمعنى الباعث، وليس كما قال، وإنما دعاه إلى ذلك أنه يجعلها فرعاً للأصل أصلاً للفرع خوفاً من لزوم الدور، فإنها مستنبطة من النص فلو كانت معرفة له وهي إنما عرفت به جاء الدور، ونحن لا نفسرها بالباعث، بل بالمعرف، وليس معنى كونها معرفاً إلا أنها نصب أمارة يستدل بها المجتهد على وجدان الحكم إذا لم يكن عارفاً به، ويجوز أن يتخلف في حق العارف كالغيم الرطب أمارة على المطر، وقد يتخلف، وتخلف التعريف بالنسبة إلى العارف لا يخرج الأمارة عن كونها أمارة، فوضح أن العلة هي المعرف في الأصل والفرع، وليس الدور بلازم، وقالت الحنفية: ثابت بالنص، فإن أرادوا أن النص إنشاء الحكم فخطأ، لأن الحاكم في الحقيقة هو الناص، وإن أرادوا أنه عرفه فهو إنما يعرف من عرفت منه، أما من عرف من العلة فلم يعرفه، هذا حاصل ما قرره المصنف وما أنكره على ابن الحاجب في نقله عن الأصحاب ممنوع، فإن الغزالي قد ذكره فقال بعد نقله عن الأصحاب إن الحكم يضاف إلى العلة وهو نزاع لا تحقيق تحته، فإنا لا نعني بالعلة إلا باعث الشرع على الحكم فنقول: إن الحكم يضاف إلى الخمر والنبيذ بالنص لكن إضافة الحكم إليه معلل بالشدة بمعنى أن باعث الشرع على التحريم هي الشدة، ونازعه العبدري وقال: إنما الباعث على وضعها أمارة حفظ العقول لا الشدة، وأما ما قاله المصنف أولاً فيخالف كلام الهندي فإنه قال: فسروا العلة بالمعرف لا بمعنى أنها تعرف حكم الأصل، فإن ذلك يعرف بالنص، بل حكم الفرع، لكن يخدشه ما هو المشهور من قول أصحابنا، لأن حكم الأصل تعلل بالعلة بينه وبين الفرع مع أنه غير معرف بها، وقال في المسألة
الخلافية إن عنى بالعلة المؤثر أو الباعث، فلا شك أن كونه منصوصاً عليه لا ينافي أن يكون معللاً بالعلة بهذا المعنى، وعليه ينزل قول أصحابنا: إن الحكم

(3/205)


المنصوص عليه ثابت بالعلة ولا أظن أن الخصم ينكره، وإن عنى بالعلة المعرف فلا شك أن كونه منصوصاً عليه ينافي التعليل بالعلة بهذا المعنى، والخصم إنما ينكر كونه معللاً بالعلة بهذا المعنى، وأصحابنا لا ينكرون ذلك فلا خلاف، ـ ثم إن الآمدي وابن الحاجب والهندي ذكروا أنه لا خلاف في المعنى بل هو لفظي، وليس كما قالوا، بل له فوائد كثيرة منها: التعليل بالقاصرة والخلاف فيها يصح ترتيبه على هذا الأصل فإن أصحابنا لما أثبتوا الحكم في محل النص بالعلة لم تعر القاصرة عن فائدة فاعتبرت، والحنفية لما أثبتوا الحكم في محل النص به عرت القاصرة عن فائدة (94/ز) لأن أثرها لم يظهر في محل النص ولا في غيره، فلم يعتبر القول.
الثاني: أنها بمعنى المؤثر بذاته لا بجعل الله تعالى، وهو قول المعتزلة بناء على قاعدتهم في التحسين والتقبيح العقليين.

(3/206)


الثالث: أنها المؤثرة لا بذاتها ولا لصفة ذاتية ولكن بجعل الشارع إياها مؤثرة، وهو قول الغزالي، وزيفه الإمام بأن الحكم قديم والعلة حادثة والحادث لا يؤثر في القديم وبنى البحث على أنه هل يعقل تأثير من غير أن يكون المؤثر مؤثراً بذاته أو بصفة قائمة به أو لا يعقل ذلك؟ وعلى هذا تبنى مسألة خلق الأفعال فأصحابنا ينكرون تأثير العبد في فعله، ويقولون الصادر عنه فعل الله تعالى، والمعتزلة يقولون بتأثيره بذاته أو بصفة، وشذوذ منا توسطوا فقالوا بمثل كلامهم هنا في السببية ويلزمهم.

(3/207)


والرابع أنها الباعث على التشريع، بمعنى أنه لا بد وأن يكون الوصف مشتملاً على مصلحة صالحة، وأن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم، وهو اختيار الآمدي وابن الحاجب، وهو مأخذ القائلين بأن الرب تبارك وتعالى يعلل أفعاله بالأغراض، والمنصوص عند الأشرعية خلافه، فإن الرب تعالى لا يبعثه شيء على شيء، وقال الإمام تقي الدين أبو العز المقترح، من فسر العلة بالباعث للشارع على الحكم والحاملة أو الداعية، إن أراد به إثبات غرض حادث له فهو محال قررنا بطلانه في علم التوحيد، وإن أراد به أن يعقبها حصول الصلاح في العادة فسميت باعثة تجوزاً فهذا لا

(3/208)


يجوز إطلاقه على الباري تعالى، لما فيه من الإيهام بالمحال، إلا أن يتحقق إذن من الشارع في إطلاقه ولا سبيل إليه.
(ص): وقد تكون دافعة أو رافعة أو فاعلة الأمرين.
(ش): الوصف المجعول علة ثلاثة أقسام:
الأول: يكون دافعاً للحكم فقط، كالعدة فإنها دافعة لحل النكاح إذا وجدت في ابتدائه وليست رافعة له إذا وجدت في أثنائه، فإن الموطوءة بشبهة تعتد وهي باقية على الزوجية.
الثاني: أن يكون رافعاً للحكم فقط كالطلاق فإنه يرفع حل الاستمتاع ولكن لا يدفعه، إذ الطلاق لا يمنع وقوع نكاح جديد.
الثالث: أن يكون رافعاً دافعاً كالرضاع، فإنه يمنع من ابتداء النكاح ومن دوامه إذا طرأ، وإنما كانت موانع النكاح تمنع في الابتداء والدوام لتأبدها واعتضادها بكون الأصل في الأوضاع هو الحرمة.
(ص): ووصفاً حقيقاً ظاهراً منضبطاً أو عرفياً مطرداً وكذا في الأصح لغوياً أو حكماً شرعياً، وثالثهما إن كان المعلول حقيقاً.
(ش): العلة باعتبار ذاتها تارة تكون وصفاً حقيقاً وتارة تكون شرعياً وتارة تكون لغويا، وتارة تكون عرفياً، ولا يخلو معلوم بوضع علة عن هذه الأقسام، ووجه

(3/209)


الحصر فيها هو أن ما لم يعلم لا يخلو إما أن يتوقف العلم به على وضع أم لا فإن لم يتوقف على وضع وإخبار فهو المسمى في الاصطلاح وصفاً حقيقياً وهو الذي يعقل باعتبار نفسه، وما يتوقف على وضع إما أن يكون الواضع الشرع أو غيره.
فالأول: الحكم الشرعي.
والثاني: إن كان العرب فاللغوي، أو من بعدهم فالعرفي.
أما الوصف الحقيقي فلا خلاف في التعليل به إذا اشتمل على ما ذكره المصنف كقولنا: مطعوم فيكون ربوياً، والطعم يدرك بالحس، وهو أمر حقيقي أي لا تتوقف معقوليته على معقولية غيره، فاحترز بالظاهر عن الخفي، والمنضبط عن غيره، وما خلا منها سيذكر الخلاف فيه، والمراد بالمنضبط أن يتميز عن غيره، وأما الأوصاف العرفية وهي الشرف والخسة، والكمال والنقص، فيجوز التعليل بها حيث أمكن كما في الكفاءة وغيرها، فإن الشرف يناسب التعظيم والتكريم والإهانة، والخسة تناسب ضد هذه الأحكام، ويشترط أن يكون مطردا أي لا يختلف باختلاف الأوقات، فإنه إن لم يكن كذلك لجاز أن لا يكون ذلك العرف حاصلاً باختلاف الأوقات، فإنه إن لم يكن كذلك لجاز أن لا يكون ذلك العرف حاصلاً في زمان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحينئذ لا يجوز التعليل به وهي من مسائل (المحصول).

(3/210)


وأما بالأمر الغوي كقولنا في النبيذ: إنه مسمى الخمر، فيحرم كالمنعصر من العنب وأما الشرعي فذهب الأكثرون، إلى تجويز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي، كتعليل حرمة بيع الكلب بنجاسته لأن العلة هي العرف، فلا بدع في جعل الحكم معرفاً للآخر، وقيل: يمتنع لأنه معلول فكيف يكون علة، وعلى الأصح فلو كان الحكم حقيقياً فهل يجوز تعليله بالحكم الشرعي؟ على قولين حكاهما في (المحصول)، وأصحهما كما قاله الهندي وغيره الجواز، لأن المراد من العلة المعرف ولا يبعد أن يكون الحكم الشرعي يعرف الحكم الحقيقي، وفي المسألتين يتحصل ثلاثة

(3/211)


مذاهب ومثال الحقيقي قولنا في إثبات الحياة في الشعر بأنه يحرم بالطلاق ويحل بالنكاح فيكون حياً كاليد.
(ص): أو مركباً وثالثها لا تزيد عن خمس.
(ش): تنقسم العلة باعتبار كميتها إلى الوصف الواحد، ولا خلاف في التعليل به، وإلى المركبة من أوصاف، والتعليل به جائز عند المعظم، فإنا نعلل القصاص بوجود القتل العمد العدوان الذي لا شبهة فيه، وهذه أوصاف مناسبة فلا يبعد أن تكون الهيئة الاجتماعية ينشأ عنها الحكم، وقيل: يمتنع لأنه يفضي إلى تخلف المعلول عن العلة العقلية، أو تحصيل الحاصل وهما محالان، وفي المسألة قول ثالث غريب: إنه لا تزيد الأوصاف على خمسة، وعزاه صاحب (الخصال) إلى الجرجاني من الحنفية،

(3/212)


وحكاه أبو إسحاق وغلط قائله، وأما الإمام فذكر أن الشيخ حكاه سبعة.
(ص): ومن شروط الإلحاق بها اشتمالها على حكمة تبعث على الامتثال وتصلح شاهداً لإناطة الحكم، ومن ثم كان مانعها وصفاً وجودياً يخل بحكمتها.
(ش): وجه اشتراط اشتمالها على الحكمة ظاهر، وقوله: تبعث (15/ك) على الامتثال، فيه بيان للمراد بقول الفقهاء: الباعث على الحكم كذا أنهم لا يريدون بعث الشارع بل إن العلة باعثة للمكلف على الامتثال، مثاله: حفظ النفوس فإنه علة باعثة على القصاص (95/ز) الذي هو فعل المكلف المحكوم به من جهة الشرع، فحكم الشرع لا علة باعثة عليه، لأنه قادر أن يحفظ النفوس، بدون ذلك بخلاف المكلف فإذا انقاد المكلف امتثالاً لأمر الله تعالى إلى حفظ النفوس، كان لهم أجران، أجر على القصاص، وأجر على حفظ النفوس وكلاهما مأمور به من جهة الله تعالى أحدهما: بقوله: {كتب عليكم القصاص} والثاني: بالإيماء من قوله

(3/213)


تعالى: {ولكم في القصاص حياة} وقوله: (ومن ثم كان مانعها) أي مانع العلة وهو مراد الأصوليين بمانع السبب فإنهم جعلوا من خطاب الوضع الحكم على الوصف بالمانع وقسموه إلى قسمين مانع الحكم وقد ذكره المصنف في صدر الكتاب ومانع السبب وذكره المصنف هنا، وهو منعه لسبب الحكم لحكمة تخل بحكم السبب كالدين المانع للزكاة عند القائل به، فإن الدين وصف مانع لسبب الحكم، والحكم وجوب الزكاة، والسبب هو الاستغناء عن قدر النصاب، فالدين مانع من الاستغناء الذي هو السبب ومنعه كذلك لحكمة هي احتياج مالكه إليه، وهذه الحكمة تخل بحكم السبب في وجوب الزكاة، فإن الحكمة التي لأجلها

(3/214)


وجبت الزكاة في ذلك النصاب وهي الاستغناء أزالها الدين، فإن المديون ليس مستغنياً عن النصاب الذي ملكه.
(ص): وأن تكون ضابطاً لحكمة وقيل: يجوز كونها نفس الحكمة، وقيل إن انضبطت.
(ش): لفظ الحكمة يطلق في استعمالهم لمعنيين.
أحدهما: بإزاء المصلحة المقصودة لشرع الحكم.
والثاني: بمعنى الوصف الضابط لها إذا كان خفياً وهذا مجازاً، لأنه ضابط الحكمة لا نفس الحكمة من باب تسمية الدليل باسم المدلول، فأما الحكمة بالمعنى الأول فلا يصح نصبها أمارة الحكم، إذ هي متأخرة عن الحكم في الوجود، فكيف يعرف الشيء بما لا يوجد إلا بعد وجوده، وكيف يعلل الحكم بفرع ثبوته؟ وأما بالمعنى الثاني فيمتنع التعليل بها لخفائها واضطرابها فإن كان الوصف الحقيقي مستقلاً كانت مظنته مستقلة هكذا قاله المقترح وحاصل ما ذكره المصنف في جواز التعليل بالحكمة ثلاثة مذاهب.
أحدها: وهو الأصح عند الإمام: الجواز.

(3/215)


والثاني: المنع.
والثالث: التفصيل.
فإن كانت ظاهرة منضبطة بحيث يجوز ربط الحكم بها جاز التعليل بها، وإلا فلا، واختاره الهندي وصححه ابن الحاجب لأنا نعلم قطعاً أنها هي المقصود للشارع، وإنما عدل عن اعتبارها لمانع خفائها واضطرابها فإذا زال المانع جاز اعتبارها.
(ص): وأن لا تكون عدما في الثبوتي وفاقاً للإمام وخلافاً للآمدي.
(ش): مثاله: بيع الآبق باطل لعدم القدرة على التسليم، وقد صار كثيرون إلى امتناعه، فإنه لا يناسب الحكم ولا يشعر به، فإن المناسبة، ما تقتضيه مصلحة عادة، والعادة مطردة في أن الإنسان لا يقنع بالنفي المحض، ووجهه بعض الجدليين: بأن العدم طرد، والتعليل بالطرد ممتنع، قال: ولو قال الشارع أثبت حكم كذا لعدم كذا ـ كان للتأقيت بمعنى إذا انعدم فاعرفوا ثبوت الحكم لا للتعليل فإنه غير صالح للتعليل، وجوزه آخرون لجواز كون العدم مظنة لمعنى مناسب فصح أن يكون علته،

(3/216)


ووجهه الإمام في الرسالة البهائية بتوجيه حسن فقال: الوصف إذا كان ضابطاً لمصلحة يلزم حصول المفسدة عند ارتفاعها، فكان عدم ذلك الوصف ضابطاً لتلك المفسدة، فيكون ذلك العدم مناسباً للحرمة، قال المقترح، والصحيح الأول، لأن العدم لا يصلح أن يكون مظنة، لأنه إما أن يكون مطلقا ًأو مضافاً، فالعدم المطلق نسبته إلى كل الأحكام متساوية ضرورة، فلا مطمع في جعله مظنة لمعين ـ وإن كان مضافاً وهو عدم أمر ما فهذا الذي قدر عدمه إن كان وجوده منشأ مصلحة فلا يناسب تعليق الحكم على عدمه، وإن كان وجوده منشأ مفسدة فهو تابع ولا بد من مقتضى، وإن لم يكن منشأ شيء فلا فرق بين وجوده وعدمه، ونبه على أنه ليس المراد بالوجود المشترط الذات المتحققة كما يريده الأصوليون، بل هو أمر تعليقي أو نسبي أو إضافي، إذا علمت هذا فنسبة المصنف المنع للإمام والجواز للآمدي معكوس وهو سبق قلم، فإن الإمام قال في (المحصول): يجوز التعليل بالعدم خلافاً لبعض الفقهاء، وقال الآمدي في (الإحكام): المختار أن العدم لا يصلح أن يكون علة بمعنى الباعث، وعول في دليله على أن العلة أمر وجودي، لأن (لا علة) أمر عدمي، ولا يقال: فالإمام اختار في المعالم المنع، لأنا نقول لم يختر الآمدي الجواز على أن في ثبوت الخلاف بينهما نظراً، لعدم تواردهما على محل واحد، فإن الإمام بناه على رأيه أن العلة بمعنى المعرف، وهو بهذا التفسير
لا ينبغي أن يقع فيه خلاف، إذ لا امتناع في أن يكون العدم علة للموجود، والآمدي بناه على أنها بمعنى الباعث.

(3/217)


وذكر ابن التلمساني بناء هذه المسألة على تخصيص العلة فمن منع التخصيص جوز هنا، ومن جوز التخصيص يقول العلة ضابط المصلحة والعدم لا شيء والمصلحة شيء.
تنبيه: أهمل المصنف أن يكون العدم جزءاً من العلة، وقد (ذكر هذا) ابن الحاجب والخلاف فيه كالخلاف في أصل المسألة، فلو قال: وأنه لا تكون عدما هي أو أجزاؤها، لكان أشمل، والعجب من المصنف كيف أسقط المسألة في (شرح المختصر) وهي ثابتة في (المختصر الكبير) و (الصغير)؟ وجعل ـ أعني المصنف ـ ما جعله ابن الحاجب دليلاً لهذه المسألة دليلاً لمسألة التعليل بالمحل وهو عجيب، وكلام ابن الحاجب في الكبير مصرح بخلافه.
(ص): والإضافي عدمي.

(3/218)


(ش): الوصف الإضافي: هو ما يعقل باعتبار غيره كالأبوة والبنوة والتقدم والتأخر والمعية والقبلية والبعدية، وسيأتي في المباحث الكلامية الخلاف في الإضافيات هل هي وجودية أو عدمية؟ فإذا قلنا عدمية وهو المختار، فهل يجوز التعليل بها؟ والعلة بمعنى الأمارة أم لا؟ فيه خلاف مفرع على الأمر العدمي هل يجوز أن يكون علة للأمر الوجودي أم لا؟ ووجه التفريع ظاهر فمن منع هناك منع هنا لاستوائها في العدم في الخارج، وإنما يفترقان (16/ك) في أن الإضافة وجودها ذهني فقط، أي موجود في الأذهان مقدرة في الأعيان، والأوصاف العدمية عدم مطلقاً في الذهن والخارج.
(ص): ويجوز التعليل بما لا يطلع (96/ز) على حكمته، فإن قطع بانتفائها في صورة فقال الغزالي وابن يحيى، يثبت الحكم فيها للمظنة وقال الجدليون: لا.
(ش): يجوز التعليل بما لا يطلع على حكمته لأنه لا يخلو عنها في نفس الأمر، وليس التعبدي عبارة عما لا علة له، بل عما لا نعلم علته، فينظر لذلك، وما لا تعقل فيه المناسبة نسميه أمارة، فإن قطع بانتفائها في بعض الصور: كاستبراء الصغيرة، فإن الاستبراء شرع لتيقن براءة الرحم وهو مفقود في الصغيرة، فقال الغزالي رحمه الله

(3/219)


وصاحبه محمد بن يحيى: يثبت له الحكم للمظنة، فإن الحكم قد صار معلقاً بها، وذهب الجدليون إلى أنه لا يثبت لانتفاء الحكمة فإنها روح العلة واقتصار المصنف في نقل الخلاف عمن ذكر هو باعتبار الممكن في نظر الأصوليين، وإلا فالخلاف في هذه المسألة ثابت بين الأصحاب فإنهم قالوا: يكره لمن قام من نوم وشك في طهارة يده غمسها في الإناء قبل غسلها ثلاثاً فلو تيقن طهارتها فلا يكره له الغمس قبل الغسل، وقال إمام الحرمين: يكره، وإن كان قد علق الغسل في الخبر على توهم النجاسة، وقال: يجوز أن يكون للتوهم ثم يعم ما وجد منه ذلك، وما عدم كالعدة شرعت لبراءة الرحم في موضع يعلم فيه البراءة قال الشاشي في (المعتمد)

(3/220)


والمذهب الأول، لأنه علق على علة، معلومة وهي توهم النجاسة، وما علق على معنى معلوم قصر عليه، ولا يلحق به ما لم يوجد المعنى فيه، هذا هو الأصل في العلل، قال: وقد أبعد المزني في تشبيهه بالعدة، وإلحاقه بالنجاسة المحققة أولى، فإنها تؤثر في المنع من غمس اليد في الإناء، ثم لا يثبت هذا الحكم فيه إذا كانت النجاسة متوهمة، أو يجعل توهم النجاسة كتحققها كما قال أحمد في المنع، ويلحق ذلك بالعدة، فإذا لم يلحق حال توهم النجاسة بالعدة في وجوب المنع فلأن يلحق حال تحقق الطهارة في الاستحباب بالعدة أولى، والعدة فيها ضرب من التعبد، وحال تحقق البراءة حالة نادرة فألحقت بالغالب، لعدم إمكان الضبط، وتيقن الطهارة ليس بنادر والأصل طهارة اليد انتهى، ومن أمثلة المقطوع بانتفائها أيضاً: ما لو قال أنت طالق في آخر حيضتك أو مع آخر حيضتك
فهل هو سني أو بدعي؟

(3/221)


وجهان:
أصحهما: سني ونسبه الإمام في النهاية للقياسين.
والثاني: بدعي قال الإمام: وهذا القائل يعتضد بالرجوع إلى التوقف بالتعبد. انتهى.
ومأخذ الأول: أن الحكم في تحريم طلاق الحائض تطويل العدة، وهو مقطوع بانتفائه في هذه الصورة فلا يثبت الحكم.
ومأخذ الثاني: أن الحكمة وإن انتفت فالعلة وهي الحيض ثابتة فيعلق بها، وليس معنى قول الإمام بالتعبد أنه لا علة له، ولا يخفى أن العلة الحيض فقد يكون الشيء متعبداً من وجه معقولاً من وجه، وطلاق الحائض من ذلك، فمن علقه بمسمى الحيض، فقد قضى بالتعبد من حيث إرادته الحكم على هذا الاسم سواء وجد معه تطويل العدة أم لا، وكل من تعلق بالمظنة شرط اشتمالها على الحكمة، وهذا هو الجاري على المعنى، واعلم أن أصحابنا ذكروا خلافاً في باب صلاة العيد أن ما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعنى وزال هل تبقى سنيته أم لا؟ على وجهين كالرمل ونحوه، وليس هو هذا الخلاف المذكور هنا، لأنا حيث قلنا تبقى سنيته

(3/222)


فلا بد له من علة، وهو جار على قولنا: يجوز تعليل الحكم الواحد في حال بعلة وفي أخرى بغيرها.
(ص): والقاصرة منعها قوم مطلقاً، والحنفية إن لم تكن بنص أو إجماع والصحيح جوازها، وفائدتها معرفة المناسبة، ومنع الإلحاق، وتقوية النص، قال الشيخ الإمام: وزيادة الأجر عند الامتثال لأجلها.
(ش): العلة القاصرة وهي التي لم تتعد عن محل النص بل مقتصرة عليه إن عرفت عليتها بنص أو إجماع جاز التعليل بها، ونقل الاتفاق عليه جماعة منهم القاضي أبو بكر لكن القاضي عبد الوهاب طرد فيها الخلاف الآتي وإليه أشار بقوله: منعها قوم مطلقاً وإن عرفت عليتها بغيرهما كتعليل الربا في النقدين بجوهريتهما، فذهب الحنفية إلى بطلانها، وذهب الجمهور منهم الأئمة الثلاثة إلى

(3/223)


الصحة لأنها مناسبة للحكم فيصح، والمانعون قالوا: لو كانت صحيحة كانت مفيدة لكنها غير مفيدة، لأن الحكم في الأصل ثابت بغيرها، وليس لها فرع إذ هي قاصرة، وهذا منقوض بالقاصرة بنص أو إجماع، فإن الخصم وافق على تجويزه فلو صح ما قالوه كان النص عليها عبثاً، والإجماع عليها خطأ، وبأن الفائدة غير منحصرة فيما ذكرتم من إثبات الحكم بها، بل لها فوائد، فقول المصنف: فائدتها هو جواب عن سؤال الخصم وذكر لها أربع فوائد.
أحدها: معرفة حكمة الحكم فيكون أدعى إلى القبول والانقياد مما لا تعلم مناسبته، ونازع المقترح في هذه الفائدة بأن مشروعية حكم السببية لم يكن لذلك،

(3/224)


بل للتعريف فماذا ينفع النظر في فوائد لم يشرع لها الشيء.
ثانيها: أنها تفيد منع حمل الفرع على الأصل كما أن المتعدية تفيد إثبات الحمل فإنه إذا علمنا أنها قاصرة امتنع القياس عليه.
ثالثها: أنها تزيد النص قوة ويتعاضدان، ذكره القاضي أبو بكر وغيره، قال: وكذلك سبيل كل دليلين اجتمعا في مسألة، فيكون الحكم ثابتاً بالعلة والنص معاً، وينبغي أن يحمل هذا على ما إذا كان النص ظاهراً فيمكن أن يقال: إنها تقوي الظاهر وتعصمه من التأويل، فكأنها باقية في محل النصوصية منه متعدية إلى ما يقبل التأويل، أما إذا كان بقاطع فلا تقوية إذن، وقد صرح بذلك الإمام في (البرهان).
رابعها: إن المكلف يقصد الفعل لأجلها فيحصل له أجران: أجر قصد الفعل للامتثال وأجر قصد الفعل لأجلها فيفعل المأمور به لكونه أمراً وللعلة، ذكره والد المصنف،

(3/225)


وظهر بهذه الفوائد بطلان قول أبي زيد الحنفي، إنها لا تفيد علماً ولا عملاً.
(ص): ولا تعدى لها عند كونها محل الحكم (97/ز) أو جزأه الخاص أو وصفه اللازم.
(ش): علة الحكم إما محله الذي يثبت فيه أو جزء ماهيته الخاص، أو وصفه اللازم للموصوف.
فالأول: كقولنا: الذهب ربوي لكونه ذهباً، فإن علة ذلك الحكم ذلك المحل، وكذلك علة حرمة الخمر كونه معتصراً من العنب.

(3/226)


الثاني: كونه معتصراً فقط.
والثالث: كالنقدية في الذهب والفضة (17/ك) فإنه وصف لازم لهما، ومثله في (المستصفى) بالصغر يعني في الولاية عليه، وفيه نظر لأنه يزول بالكبر، فأشبه الشدة المسكرة في العروض، وهذه الثلاثة لا تكون إلا في العلة القاصرة، لاستحالة وجود خصوصية المحل أو جزئه الخاص أو وصفه اللازم له في غيره، وإما أن يكون جزء العام المشترك بينه وبين غيره لا يكون إلا في المتعدية، كتعليل إباحة البيع بكونه عقد معاوضة فعقد المعاوضة من حيث إنها جنسه جزء له لا يختص به، وعلم من كلامه جواز التعليل بمحل الحكم جزئه الخاص، وهو قول الأكثرين، وقال الهندي: الخلاف فيه مبني على جواز التعليل بالقاصرة، فإن جوز ذلك جوز هذا وإن منع منع، وقال الأصفهاني شارح (المحصول): ذهب

(3/227)


الأكثرون إلى جواز التعليل بالمحل وبجزئه، وقيل يمتنع فيهما، وقيل: يجوز بالجزء دون المحل ومختار الإمام: يجوز التعليل بالمحل في القاصرة دون المتعدية، وقد يقال: لا حقيقة لهذا المذهب، لأن العلة بالمحل هي القاصرة، وإطلاق الأول وإن أطلق فهو مخصوص بها فكيف يصح التفصيل.
(ص): ويصح التعليل بمجرد الاسم اللقب، وفاقاً لأبي إسحاق الشيرازي وخلافاً للإمام، وأما المشتق فوفاق، وأما نحو الأبيض فشبه صوري.
(ش): للتعليل بالاسم ثلاث صور:
أحدها: اسم اللقب، كما لو عللنا كون النقدين ربويين بأن اسمهما ذهب وفضة، قال الشيخ أبو إسحاق في (اللمع): يجوز أن يكون وصف العلة صفة كالطعم في البر واسماً كقولنا: تراب وماء، وقيل: لا يجوز أن يكون الاسم علة، وهو خطأ، لأن كل معنى جاز أن يعلق الحكم عليه من جهة النص، جاز أن يستنبط من النص، ويعلق الحكم عليه كالصفات والأحكام، وأما الإمام في (المحصول)

(3/228)


فقال: اتفقوا على أنه لا يجوز التعليل بالاسم كتعليل تحريم الخمر بأن العرب سمته خمراً، فإنا نعلم بالضرورة أن هذا اللفظ لا أثر له، فإن أريد به تعليله بمسمى هذا الاسم من كونه مخامراً للعقل، فذلك تعليل بالوصف لا بالاسم فتحصل طريقان:
أحدهما: القطع بالمنع.
والثانية: إثبات خلاف، والصحيح الجواز، وهو الذي صححه ابن السمعاني وغيره وقد استعمله الشافعي رضي الله عنه فقال في بول ما يؤكل لحمه: لأنه بول فأشبه بول الآدمي وذكر صاحب (الخصال) من الحنابلة: أن الإمام أحمد نص على التعليل به أيضاً.
الثانية: اسم اشتق من فعل كالسارق والقاتل فيجوز جعله علة، وحكاية المصنف فيه الاتفاق، ممنوع، ففي (التقريب) لسليم الرازي حكاية قول بمنع الاسم

(3/229)


مطلقاً لقباً ومشتقاً.
الثالثة: اسم اشتق من صفة كالأبيض والأسود، وقال ابن السمعاني فهذا من علل الاشتباه الصورية، فمن احتج بالشبه الصوري احتج به.
تنبيه: لك أن تسأل عن مسألة الفرق بين العلة القاصرة والتعليل بالمحل والتعليل بالاسم، والجواب: أن العلة القاصرة أعم من المحل لأن المحل ما وضع له اللفظ كالخمر والبر، والقاصرة وصف اشتمل عليه محل النص لم يوضع له اللفظ كالنقدية، فكل محل علة قاصرة وليس كل علة قاصرة محلاً، وأما الفرق بين المحل والاسم فقيل من وجهين.
أحدهما: أن المراد بالاسم الجامد الذي لا ينبئ عن صفة مناسبة، فيصح إضافة الحكم إليها بخلاف الخمر الدال على التخمير المناسب للتحريم، وهذا يشكل بالبر، فإنه يجوز التعليل به وهو جامد.
والثاني: أن يكون المراد التعليل بالتسمية نحو: حرمت الخمر لتسميتها خمراً، والتفاضل في البر لتسميته براً ونحوه، إذ التسمية لا تأثير لها بخلاف المعنى المستفاد من المحل بإشارة وتنبيه، وربما التفت الكلام ههنا إلى الاسم والمسمى، ثم قال: هما واحد أو متغايران، والمراد المسمى الذي هو مدلول الاسم فحكمه حكم سائر العلل، إن كان مؤثراً أو مناسباً علل به وإلا فلا، ومن أراد الاسم الذي هو اللفظ لم يعلل به قطعاً.

(3/230)


(ص): وجوز الجمهور التعليل بعلتين، وادعوا وقوعه وابن فورك والإمام في المنصوصة دون المستنبطة ومنعه إمام الحرمين شرعاً مطلقاً وقيل: يجوز في التعاقب، والصحيح القطع بامتناعه عقلاً مطلقاً للزوم المحال من وقوعه كجمع النقيضين.
(ش): يجوز تعليل الحكم الواحد نوعاً المختلف شخصاً بعلل مختلفة، وفاقاً، كتعليل إباحة قتل زيد بردته وعمرو بالقصاص، وخالد بالزنا، أما الواحد بالشخص فلا خلاف في امتناع تعليله بعلل عقلية، وأما بعلل شرعية كتحريم وطء الحائض المعتدة المحرمة، فعلى مذاهب:
أحدهما: وعليه الجمهور: جوازه مطلقاً ووقوعه فإن اللمس والبول والغائط والمذي يثبت بكل واحد منها الحدث، والقصاص والردة يثبت بكل منهما القتل، وكذلك إذا أرضعت صغيرة لبن زوجة أخيك وأختك، حرمت لكونك خالها وعمها دفعة، ويخرج المانع كل صورة على أنها أحكام متعددة كقولهم في القتل بأسباب: أن أشخاص القتل متعددة، وإن اتحد النوع بمحل، فإن القتل في صورة واحدة محال تعدده، إذ هو إزهاق الروح، وصورة العم والخال يدفع كل إشكال.
الثاني: المنع مطلقاً، واختاره الآمدي ونقله عن القاضي وإمام الحرمين.

(3/231)


والثالث: يجوز في المنصوصة دون المستنبطة وهو رأي الأستاذ ابن فورك، واختاره الإمام وأتباعه.
والرابع: يجوز عقلاً ولكنه يمتنع شرعاً، وهو ما نقله ابن الحاجب (98/ز) عن إمام الحرمين، وقال الصفي الهندي: إنه الأشهر عنه، يعني: بخلاف نقل الآمدي وعليه جرى المصنف، فإنه الموجود في (البرهان) حيث قال: ليس ممتنعاً عقلاً وتسويغاً، ونظراً إلى المصالح الكلية لكنه ممتنع شرعاً، وحاصله أنه جائز عقلاً لكنه لم يقع قط، وذكر أنه تصفح الشريعة فلم يجد ذلك، وقال: إن المختلفين في المسائل يختلفون في العلل كاختلافهم في الحكم كمسألة الربا هذا مع أنه في كتب الفروع قال في تدبير المستولدة: إنه يصح، ويكون لعتقها يوم موت السيد سببان، لكنه اعترف بأنه لا أثر لبقاء التدبير، وكأنه إنما منع اجتماع علتين معرفان أو مؤثران، فحيث لا يحصل التأثير لم يجتمع، وهل يجري هذا الخلاف في التعليل (18/ك) بعلتين سواء كانا متعاقبين

(3/232)


أو معاً، أو هو مختص بالمعية؟ كلام ابن الحاجب يقتضي الأول، والصواب عند المصنف الثاني، ولهذا ضعفه، بقوله: وقيل يجوز في التعاقب، واحتج عليه بأنه يلزم من شموله حالة التعاقب أن يكون في الأمة من يمنع أن اللمس والمس مثلاً ليسا بعلتين وإن وجد أحدهما بمفرده بل لا علة إلا واحد فقط، فلا يكون للحدث مثلاً غير علة واحدة، وهذا لا يقوله أحد، ثم الصحيح عند المصنف القطع بامتناعه عقلاً.
(ص): المختار وقوع حكمين بعلة إثباتاً كالسرقة للقطع والغرم، ونفياً كالحيض للصوم والصلاة وغيرهما، وثالثها: إن لم يتضاداً.
(ش): في تعليل الحكمين بعلة مذاهب:
أصحها: الجواز، سواء الإثبات كالسرقة، فإنها تناسب القطع زجراً للسارق حتى لا يعود، وتناسب التغريم جبراً لصاحب المال، وفي النفي كالحيض يناسب المنع من الصلاة والصوم وغيرهما من الأحكام كالطواف وقراءة القرآن، ومس المصحف.

(3/233)


والمذهب الثاني: المنع مطلقاً.
والثالث: الجواز إن لم يتضادا كالحيض لحرمة الصوم والصلاة دون ما إذا تضاداً، كما يكون مبطلاً لعقد مصححاً لآخر كالتأبيد في الإجازة والبيع.
(ص): ومنها أن يكون ثبوتها متأخراً عن ثبوت حكم الأصل خلافاً لقوم.
(ش): أي: من أهل العراق كما قاله القاضي عبد الوهاب كما يقال فيما أصابه عرق الكلب: أصابه عرق حيوان نجس فيكون نجساً كلعابه فيمنع كون عرق الكلب نجساً فيقال: لأنه مستقذر، فإن استقذاره إنما يحصل بعد الحكم بنجاسته وقال الهندي: الحق الجواز إن أريد بالعلة المعرف، وإن أريد بها الموجب أو الباعث فلا.
(ص): ومنها أن لا تعود على الأصل بالإبطال.

(3/234)


(ش): لأن العلة فرع هذا الحكم، والفرع لا يرجع إلى إبطال أصله، وإلا يلزم أن يرجع إلى نفسه بالإبطال، ولهذا ضعف مأخذ الحنفي في تأويله حديث: ((في أربعين شاة شاة))، أي: قيمة شاة، لأن القصد دفع الحاجة بالشاة أو القيمة، فإنه يلزم منه أن لا تجنب الشاة عينا فإن غير الشاة ليست بشاة، قال السهروردي: وأنصف أمير المتأخرين، يعني: الغزالي رحمه الله، فقال: ليس هذا دافعاً للنص وإنما يلزم أن لو جوزوا الترك مطلقاً إما إلى بدل فلا تخرج الشاة عن كونها واجبة، فإن من أدى خصلة من خصال الكفارة المخير فيها فقد أدى واجباً وإن كان الوجوب يتأدى بغيرها، فهذا موضع الوجوب لا إسقاط له، وأما تخصيص الشاة بالذكر فيجوز أن يكون لكثرة الوجود عندهم، كتخصيصهم الاستنجاء بذكر الحجر مع الجواز بالمدر، أو لسهولة الأداء على المالك، قلت: فيه رفع للنص من حيث إبطال تعلق الزكاة

(3/235)


بالعين، ونقلها إلى الذمة، ولئن سلم أنه لا يتضمن الإبطال لكنه يتضمن التغيير ولا يجوز تغير حكم النص بعلته لا سيما ومبنى الزكاة على التعبد.
(ص): وفي عودها بالتخصيص لا التعميم قولان.
(ش): الخلاف في عودها بالتخصيص ليس هو الخلاف في تخصيص العموم بالقياس كما توهمه بعضهم، لأن ذلك في قياس نص خاص إذا قابل عموم نص آخر، وهذا معناه أن العلة المستنبطة من أصل عام من كتاب أو سنة، هل يشترط أن لا تعود على أصلها بالتخصيص؟ فيه قولان للشافعي رضي الله عنه مستنبطان من اختلاف قوليه في نقض الوضوء بلمس المحارم.
أحدهما: لا ينقض نظراً إلى أن العلة مظنة الاستمتاع لا سيما إذا فسر الملامسة في الآية بالجماع فهذه العلة عادت على الأصل بالتخصيص.
والثاني: ينتقض تمسكاً بالعموم، وكذلك ورد النهي عن بيع اللحم

(3/236)


بالحيوان، وعمومه يقتضي عدم الفرق بين المأكول وغيره، والمعنى يقتضي تخصيصه بالمأكول لأنه بيع الربوي بأصله وما ليس بربوي لا مدخل له في النهي وللشافعي رضي الله عنه في بيعه بغير المأكول قولان مأخذهما هذا الأصل، والأصح المنع تمسكاً بالعموم وإنما لم يرجح شيئاًَ من القولين لأن الأصحاب لم يطردوا فيه ترجيحاً بل في بعض الصور يخصونه بالمعنى كالمحارم، وفي بعضها لا يخصونه كاللحم بالحيوان، وذكر الهندي في (الرسالة السيفية) أن القولين هما القولان في تخصيص العلة فقال: ما استنبط من الحكم يجب أن لا يبطله بالكلية لأنه فرعه، وإن اقتضى تخصيصه ففيه خلاف مبني على تخصيص العلة لأن التخصيص مناف، والفرع لا ينافي أصله ثم قال: قيل المستنبطة لا يجوز أن تكون مخصصة للكتاب والسنة المتواترة وهو بناء على أنه لا يجوز تخصيصهما بالقياس ومذهبنا صحته، وذكر في موضع آخر أن ما ثبت علته بالإيماء وهو ترتيب الحكم على الوصف لا يجوز أن يستنبط منه تخصيص الحكم قطعاً، وإن جوز ذلك في غيره وهو مصرح بتخصيص الخلاف بالعلة المنصوصة، وجزم في (المستصفى) بأن العلة إذا عكرت على الأصل بالتخصيص لا تقبل، واستثنى ما إذا سبق المعنى إلى الفهم فيجوز أن

(3/237)


يكون قرينة مخصصة للعموم، قال: أما المستنبطة بالتأمل ففيه نظر، وأما عودها (99/ز) على الأصل بالتعميم فمحل وفاق، وهو غالب الأقيسة، كاستنباط ما يشوش الفكر من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يقضي القاضي وهو غضبان)) قال القاضي أبو الطيب الطبري: وأجمعوا على أنه ليس لنا علة تعود على أصلها بالتعميم إلا هذا المثال وذلك جائز بالإجماع وفيما قاله نظر.
(ص): وأن لا تكون المستنبطة معارضة بمعارض مناف موجود في الأصل، قيل: ولا في

(3/238)


الفرع.
(ش): من الشروط إذا كانت مستنبطة أن لا تكون معارضة بمعارض مناف موجود في الأصل صالح للعلية ليس موجوداً في الفرع، فإنه متى كان للأصل وصفان متعارضان يقتضي كل منهما نقيض حكم الآخر لم يصح إعمال واحد منهما إلا بترجيح، ومثاله قول الحنفية، في التبييت: صوم عين فيؤدى بالنية قبل الزوال كالنفل فنقول: صوم فرض فيحتاط فيه ولا يبنى على السهولة، قيل: ولا في الفرع أي ويشترط أيضاً (19/ك) أن لا يكون في الفرع وصف معارض، وإلا فمتى عورضت لم يثبت الحكم لأنه من حيث إنه معارض مناف يلحقها بأصل آخر مثله في مسح الرأس: ركن في الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه، فيعارض الخصم فيقول: مسح فلا يسن تثليثه كالمسح على الخفين، وإنما قيد المعارض بالمنافي مع أن التعارض ظاهر في المنافي تحقيقاً، لأنه المراد هنا خلافاً لما ظن أن المراد به الإتيان بوصف آخر لا ينافي، وهو باطل فإنه لو كان المراد بالمعارض هنا غير المنافي لم يمتنع اجتماعهما، ويكونان علتين، وقد صرح المصنف بأن المعارض لا يكون منافياً فيما بعده، بقوله: والمعارض هنا وصف صالح إلى آخره، بقي أن قوله: قيل: ولا في الفرع يقتضي أن الراجح خلافه، ولا ينافيه قوله فيما سبق في شروط الفرع تقبل المعارضة على المختار، وذلك أن القول بأنه شرط في العلة: أن لا يعارض مستنبطها في

(3/239)


الفرع ضعيف عنده، وإليه أشار بقوله: وقيل: وهذا لأن انتفاء التعارض في الفرع شرط ثبوت حكم العلة فيه لا شرط صحة العلة في نفسها، فإنها في نفسها يجوز أن تكون صحيحة سواء ثبت الحكم في الفرع أم تخلف لسبب من الأسباب اقتضى تخلفه، فمن ادعاه شرطاًَ للعلة نفسها فقد وهم، وأما قبول المعارضة في الفرع فحق لأن ذلك دافع لغرض المستدل فكان قبوله والانفصال عنه حقاً، والحاصل أن انتفاء المعارض في الفرع شرط ثبوت الحكم لا شرط صحة العلة، فليس من قوادح العلة في شيء، وإن كان من قوادح القياس، قال المصنف: وليس في الكتاب أشكل من هذه المسألة،
قال: وفي الحقيقة قولنا هناك وتقبل المعارضة جواب سؤال مقدر وتقديره: إذا لم يشترط نفي المعارض في الفرع فهل تقبل المعارضة؟ وتقرير الجواب نعم تقبل لا لكونها قدحاً في العلة، بل لكونها قدحاً في القياس.
(ص): وأن لا تخالف نصاً أو إجماعاً.
(ش): لأنهما أولى من القياس ومثال مخالفة النص قول الحنفي: المرأة مالكة لبضعها فيصح نكاحها بغير إذن وليها قياساً على بيع سلعتها فهذه علة مخالفة

(3/240)


نص قوله عليه الصلاة والسلام: ((إيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل)) ومثال الإجماع: قياس صلاة المسافر على صومه في عدم الوجوب بجامع السفر الموجب للمشقة، فهذه علة مخالفة للإجماع.
(ص): ولا تتضمن زيادة عليه إن نافت الزيادة مقتضاه وفاقاً للآمدي.
(ش): أي زيادة على النص (بأن يكون النص) دالاً على علية وصف، ويزيد الاستنباط على ذلك الوصف قيداً، ثم منهم من أطلق ذلك، وقال الآمدي: إنما يشترط إذا نافت الزيادة مقتضى النص، واختاره المصنف، وقال الهندي: إنما يتجه الأول لو كانت الزيادة على النص نسخاً، وليس كذلك.

(3/241)


(ص): وأن تتعين خلافاً لمن اكتفى بعلية مبهم مشترك.
(ش): ذهب بعضهم إلى أنه يجوز الإلحاق بمجرد الاشتراك في وصف عام أو مطلق كقول عمر رضي الله عنه: (اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك) قالوا: ويكفي في كون الشيء شبهاً للشيء الاشتراك في وصف واحد قال الهندي وأطلق الجماهير على فساده لإفضائه إلى التسوية بين العامي والمجتهد في إثبات الأحكام الشرعية في الحوادث لأن ما من عامي جاهل بغرض إلا ويعلم أن هذا النوع أصل من الأصول في وصف عام وقد أجمع السلف على أنه لا بد في الإلحاق من الاشتراك بوصف خاص فإنهم كانوا يتوقفون في الحادثة ولا يلحقونها بأي أصل اتفق بعد عجزهم عن إلحاقها بما شاركها في وصف خاص.
(ص): وأن لا تكون وصفاً مقدراً وفاقاً للإمام.

(3/242)


(ش): مثاله أن يقول: جواز التصرف نحو البيع والهبة والوقف والإعتاق معلل بالملك، ولا وجود له حقيقة ولا تقديراً فيكون عدماً محضاً، وهو ممتنع فيكون الملك معنى مقدراً وشرعياً في المحل، أثره جواز التصرف المذكور، وما نقله المصنف عن الإمام صحيح وعبارته في (المحصول): الحق أنه لا يجوز التعليل بالصفات المقدرة خلافاً للفقهاء العصريين، بل قال صاحب (تنقيح المحصول): أنكر المصنف وجماعة تصور التقدير في الشرع فضلاً عن التعليل به.

(3/243)


(ص): وأن لا يتناول دليلها حكم الفرع بعموم أو خصوصه على المختار.
(ش): مثال العموم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((الطعام بالطعام مثلاً بمثل)) فإنه دال على علة الطعم، فلو قلنا: التفاح ربوي قياساً على البر بجامع الطعم، فإنه علة لهذا الحديث ـ لم يصح، لأن النص يتناول التفاح بحكم العموم فلا يحتاج إلى القياس، ثم إنه قد يحكم بجعل البر أصلاً والتفاح فرعاً وليس هو بأولى من العكس، ومثال الخصوص كما روي: ((من قاء أو رعف فليتوضأ)) فلو قيل في القيء خارج من غير السبيلين فينقض، كالخارج منهما، ثم استدل على أن الخارج منهما ينقض بهذا الحديث لم يصح، لأنه تطويل بلا فائدة.

(3/244)


(ص): والصحيح لا يشترط القطع بحكم الأصل.
(ش): شرط بعضهم في العلة أن تكون مستنطبة من أصل مقطوع بحكمه، وهو باطل، لأنه يجوز القياس على الذي ثبت حكمه بدليل ظني كخبر الواحد والبراءة الأصلية والعموم والمفهوم وغيرها.
(ص): ولا انتفاء مخالفة مذهب الصحابي.
(ش): شرط بعضهم ألا تكون مخالفة لمذهب الصحابي، وهو أيضاً باطل، لأنه ليس بحجة، وبتقدير كونه حجة فلا نسلم أرجحيته على القياس.
(ص): ولا القطع بوجودها في الفرع.
(ش): شرط بعضهم أن يعلم وجودها في الفرع على وجه القطع، وهو أيضاً باطلح= لأنه من جملة مقدمات القياس فجاز أن يكون ظنياً كغيره من المقدمات.
(ص): أما انتفاء المعارض فمبني على التعليل بعلتين.

(3/245)


(ش): قد سبق اشتراط انتفاء المعارض المنافي، وأما غير المنافي ففي اشتراطه خلاف مبني على التعليل بعلتين، صرح بذلك إمام الحرمين والآمدي وغيرهما، ثم شرع المصنف في بيان المراد بالمعارض غير المنافي (20/ك).
(ص): والمعارض هنا وصف صالح للعلية كصلاحية المعارض غير مناف، ولكن يؤول إلى الاختلاف كالطعم مع الكيل في الربا لا ينافي، ويؤول إلى الاختلاف.
(ش): أشار بقوله (هنا) إلى أن المعارضة تطلق ويراد بها شيئان.
أحدهما: الإتيان بوصف يقتضي مقابل ما اقتضاه المستدل، كما إذا اعتل بوصف يقتضي التحريم فعارضه بوصفه يقتضي الجواز، وهذا هو المراد بقوله فيما سبق: المعارضة في الفرع، بما يقتضي نقيض الحكم.
الثاني: الإتيان بعلة صالحة لأن يتعلق بها في الحكم كما صلحت علية المستدل، وينشأ الخلاف عنهما في الفرع لا في الأصل، وهو المراد بقوله هنا: وصف، أي يقابل وصف المستدل بوصف آخر صالح للعلية كصلاحية وصف المعارض غير مناف، أي: في الأصل، ولكن يؤول إلى الاختلاف، أي: بين المتناظرين في الفرع المعقود له مجلس المناظرة، وإيضاحه: أنهما إذا اتفقا مثلاً على كون البر ربوياً، واعتل أحدهما بالطعم، وبين وجه مناسبته ـ كان للمعترض أن يقول: لا، تعلقت

(3/246)


بالكيل، وهو أيضاً مناسب، وبين ذلك، وإذا لاحت مناسبتهما، واحتج إلى أن التعليق بأحدهما وترك الآخر تحكم، فإذا قال الشافعي: التفاح ربوي، قياساً على البر بجامع الطعم، فللمعترض أن يقول: إن العلة غير الطعم، وجاز أن تكون الكيل، فلا يكون التفاح ربوياً، فآل اعتراضه إلى النزاع في الفرع، وليس من شرط المعارضة أن تأتي بوصف تكون مناسبته أو شبهه مساوياً لمناسبة أو لشبه في وصف المستدل، بل يجوز كونه دونه في المناسبة والشبه إذا اشتركا في أصل المناسبة والشبه، فلا يفهم من قوله: كصلاحية وصف المعارض ـ أنه مساو له من كل وجه، بل المراد أصل المساواة في صلاحية التعليل.
(ص): ولا يلزم المعترض نفي الوصف عن الفرع، وثالثها: إن صرح بالفرق.
(ش): هل يلزم المعترض بيان نفي الوصف الذي عارض به الأصل عن الفرع؟ فيه مذاهب.
أحدها: لا يلزمه، وهو الصحيح.
والثاني: يلزمه لتنفعه دعوى التعليل به، إذ لولاه لم تنتف العلة في الفرع، وإذا لم تنتف ثبت الحكم فيه.
والثالث: يلزمه إن صرح المعترض بالفرق بين الأصل والفرع، لأنه إذا صرح به فقد التزمه فعليه الوفاء به، جرياً على قضية التزامه وإلا فلا وإنما قال المصنف: نفي

(3/247)


الوصف، ولم يقل: بيان نفي الوصف، كما عبر به ابن الحاجب وغيره، لنكتة حكاه عن والده رحمه الله وهي: النفي في اللغة له معنيان.
أحدهما: فعل الفاعل للنفي، تقول: نفيت الشيء فانتفى، وهذا هو أظهر المعنيين.
والثاني: نفس الانتفاء، تقول: نفيت الشيء هكذا سمع من اللغة، وعلى هذا المعنى الثاني يكون الإثبات والنفي نقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، ويكون المراد بالإثبات الثبوت كما أن المراد بالنفي الانتفاء، وأما إذا أردت بالنفي نفيك للشيء، وبالإثبات إثباتك له فيكونان ضدين لا نقيضين، لأنك لا تنفي ولا تثبت، إذا ثبت هذا فقوله: (نفي الوصف) أحسن من قوله: بيان نفيه، لأن ابن الحاجب أراد بالنفي الانتفاء وأظهر معنييه خلافه والمصنف أراد أظهر معنييه، فلذلك لم يحتج إلى لفظ بيان فكان أخصر وأحسن، ولا يقال: إن ابن الحاجب وغيره أراد بالنفي فعل الفاعل، لأنهم لو أرادوا ذلك لم يحتاجوا إلى لفظ بيان، بل كان حشوا.
(ص): ولا إبداء أصل على المختار.
(ش): أي: لا يلزم المعترض إبداء أصل يبين تأثير الوصف الذي هو

(3/248)


عارض به وشهد له بالاعتبار، كما تقول: العلة الطعم دون القوت بدليل الملح، لأن حاصل سؤاله نفي الحكم في الفرع لعدم العلة أو صد المستدل على التعليل بذلك الوصف لجواز تأثير هذا، وهو لا يدعي عليه ما أبداه حتى يحتاج إلى شهادة أصل.
(ص): للمستدل الدفع بالمنع والقدح وبالمطالبة بالتأثير أو الشبه إن لم يكن سبراً، وببيان استقلال ما عداه في صورة ولو بظاهر عام إذا لم يتعرض للتعميم.
(ش): للمستدل دفع المعارضة بوجوه:
أولها: منع وجود الوصف في الأصل فتقول مثلاً: لو عورض طعمية البطيخ بالكيل لا نسلم أنه مكيل، لأن العبرة بعادة زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان إذ ذاك موزوناً أو معدوداً.
ثانيها: القدح في الوصف بأنه يقول: ما ذكرت من الوصف خفي فلا يعلل به، أو غير منضبط، أو غير ظاهر، أو غير وجودي، ونحوه، والمراد هنا فساد العلة بطريق من طرق إفسادها، وليس المعنى به مطلق القدح في الدليل عليها، وإلا لم يعطفه على المنع مع أن المنع قدح، وكذلك المطالبة بالتأثير وما بعده، ومن هذا العطف يعلم أنه أراد قدحاً خاصاً، وأن اللفظ أطلق اختصاراً وهذان الجوابان يشملان التعليل بالمناسب والشبه والسبر وغيرها.

(3/249)


ثالثها: يختص (101/ز) بما إذا لم يكن الطريق الذي أثبت بها الوصف سبراً، وهو أن يطالبه بتأثير الوصف شبهاً كان أو مناسباً، أما إذا كان أثبت وصفه بطريق السبر والتقسيم فليس له أن يطالب المعترض بالتأثير، فإن مجرد الاحتمال كاف في دفع السبر، فعليه دفعه لتتم طريقة السبر.
رابعها: أن يبين المستدل أن ما عدا الوصف الذي عورض به مستقل في صورة من الصور، إما بظاهر من النصوص أو إجماع، فيمتنع لذلك أن يكون وصف المعترض عليه في موضع التعليل، لئلا يلزم إلغاء المستقل واعتبار غيره.
وقوله: إذا لم يتعرض للتعميم، قيد في هذا الرابع، أي: يشترط أن لا يتعرض للتعميم وإلا فتستحيل صورة المسألة، لأنه لو تعرض للتعميم لكان مثبتاً للحكم بالنص لا بالقياس، ويخرج عما نحن فيه، ويحصل بهذا اندفاع المعارضة بطريقين عامين وهما: المنع والقدح، وبطريق يختص بما إذا لم يكن القياس سبراً، وهو الثالث، وبطريق بشرط أن لا يتعرض فيه للتعميم (21/ك) لئلا تستحيل صورة المسألة وهو الرابع، وهذا هو السبر في إثباته بحرف الجر في الثالث والرابع حيث قال: وبالمطالبة وببيان وعدم إثباته في القدح.
(ص): ولو قال: ثبت الحكم مع انتفاء وصفك ـ لم يكف إذا لم يكن معه

(3/250)


وصف المستدل، وقيل: مطلقاً وعندي أنه منقطع لاعترافه ولعدم الانعكاس.
(ش): لو قال المستدل: ثبت الحكم في صورة مع انتفاء هذا الوصف الذي عارضتني به فتارة يأتي بصورة مشتملة على الوصف الذي ادعى هو أنه العلة، وتارة يأتي بصورة لا تشتمل عليه ـ فإن كان الأول فهو كاف، لأنه في الحقيقة قادح في وصف المعترض لعدم الانعكاس والعكس شرط بناء على منع تعدد العلل، وإن كان لم يكف، لأنه كما يفسد علية المعترض كذلك يفسد علية المستدل، لأن الانعكاس لازم لهما لوجدان الحكم بدون وصفهما، وعند المصنف المستدل ينقطع حينئذ بإيراد الصورة المشار إليها لاعترافه بعدم انعكاس علته، ـ قال: وينقطع سواء منعنا التعليل بعلتين أو جوزنا، إذا منعناه فواضح، وأما إن جوزناه فلأنه بإيراده الصورة التي لم تشتمل إلا على وصف المعترض، ولا على وصفه، واعترف بأنها قادحة، وإلا لم يكن لإيراده إياها وجه، وقدحها في وصفه كقدحها في وصف المعترض سواء، فإذا قدح بها وصف المعترض كان معترفاً ببطلان وصفه، وذلك عين الانقطاع، وأشار بقوله: إذا لم يكن معه وصف المستدل ـ إلى أنه يكفي إذا كان معه، فشمل كلامه الصورتين، وقوله: وقيل مطلقاً، يعني: قيل: إنه لا يكفي مطلقاً سواء اشتملت الصورة التي أوردها على وصفه أم لم تشتمل، وهذا ظاهر إطلاق ابن الحاجب حيث قال: ولا يكفي إثبات الحكم في صورة دونه لجواز علة أخرى.
(ص): ولو أبدى المعترض ما يخلف الملغى سمي تعدد الوضع، وزالت فائدة

(3/251)


الإلغاء ما لم يلغ المستدل الخلف بغير دعوى قصوره أو دعوى من سلم وجود المظنة ضعف المعنى خلافاً لمن زعمهما إلغاء.
(ش): لو أبدى المعترض أمراً آخر يخلف الوصف الذي ألغاه المستدل ويقوم مقامه ـ سمي تعدد الوضع، لتعدد أصل العلة فإنها تعددت بأصلين، لأن المعترض أورد الوصف، فلما ألغاه، عوض بآخر وصار معللاً بكل منهما، كقولنا فيما إذا أمن العبد حربياً: أمان مسلم عاقل فصح كالحر، لأن الإسلام والعقل مظنتان لإظهار مصالح الإيمان، فيعترض المعترض بالحرية مدعياً أنها جزء العلة، فالعلة أمان المسلم العاقل الحر، لا المسلم العاقل فقط، فإن الحرية مظنة الفراغ للنظر فيكون النظر فيها أكمل، فلا يجوز قياس العبد على الحر فيلغيها المستدل بالمأذون له في القتال، فإن الحنفية وافقونا على صحة أمانه، فيقول المعترض: خلف الإذن الحرية في صورة المأذون، فإن الإذن مظنة لبذل الوسع في النظر إذ لا شاغل له، وقول المصنف: وزالت فائدة الإلغاء أحسن من قول ابن الحاجب: فسد الإلغاء، فإن الإلغاء لا يفسد بل هو صحيح، وإذا أتى المعترض بما يخلفه فذلك اعتراف منه بصحته ولن إتيانه بما يخلفه يزيل فائدته التي هي سلامة وصف المستدل، لأنه المعترض، وقوله: ما لم يلغ ـ يشير إلى أن للمستدل إلغاء الخلف وإخراجه عن درجة الاعتبار بما بينا من الطرق، إلا طريقين:
أحدهما: عام لكل مستدل وهو دعوى أن الخلف الذي ذكره المعترض قاصر، فإن قصوره لا يخرجه عن كونه صالحاً للعلية، لجواز التعليل بالقاصرة ولكونها

(3/252)


للمتعدية، إذ لا ترجح العلة بتعديها، والخلاف فيها معروف، أما في التعليل بالقاصرة فسبق في القياس: وأما في أنه هل ترجح المتعدية أو القاصرة أو يستويان فذكره في باب التراجيح.
والثاني: خاص بمستدل سلم وجود المظنة، فلا يفيده، أن يقول: الوصف الثاني الذي عارضتني به ضعيف المعنى لأن ضعف معناه لا يضر بعد ثبوت المظنة التي بها التعليل.
وإلى الطريقين أشار بقوله: بغير دعوى قصوره أو دعوى من سلم وجود المظنة ضعف المعنى، أي: فإنه لا إلغاء بهذين و (ما) في قوله ما لم يلغ، مصدرية، أي: مدة إلغاء المستدل الخلف، وقوله خلافاً لمن زعمهما إلغاء، أي زعم أن دعوى القصور إلغاء، وهذا من قاله إما بناء على أن التعليل بالقاصرة باطل إذا كان يعتقد ذلك، أو على أنها دون المتعدية عند التعارض وأن رجحان وصف المستدل كان في دفع المعارضة، ورغم أن تسليم وجود المظنة لا يدفع الإلغاء لضعف المعنى، وهو مذهب ضعيف، وأشار بقوله: زعمهما إلغاء ـ إلى أن أحداً لا يقول: إنهما غير إلغاء، ويجوز للمستدل ذكرهما، وإنما يجوز للمستدل ذكرهما ويجعلهما رافعين للخلف من يعتقدهما إلغاء،

(3/253)


فعاد الخلاف إلى أنهما هل هما إلغاء أو لا؟ فمن قال: هما إلغاء ـ ادعاهما مفسدين للإلغاء، ومن قال: ليس بإلغاء ـ لا يمكنه إلا دعوى عدم قبولهما لعدم فائدتهما.
(ص): ويكفي رجحان وصف المستدل بناء على منع التعدد.
(ش): سبق أنه لا يشترط في الوصف المعارض كونه مساوياً لوصف المستدل بل يكفي اشتراكهما في أصل المناسبة أو الشبه، نعم إذا عارض بوصف (102/ ز) لا يكون مساوياً من كل وجه فللمستدل الدفع بأن وصفه أنسب وأخيل أو أكثر شبهاً إن كان القياس شبهاً، ويكفي رجحان وصف المستدل على وصف المعترض في دفع المعارضة، وهذا قاله (22/ك) المصنف بناء على اختياره منع تعدد العلل فمتى كان وصفان صالحان للعلة تعلقنا بأولاهما وحذفنا الآخر عن درجة الاعتبار، وأما ابن الحاجب فاختار أنه لا يكفي حيث قال: ولا يكفي رجحان المعين، أي: لا يكفي في جواب المعارضة كون الوصف المعين راجحاً على وصف المعترض وذلك بناء منه على جواز اجتماع علتين على معلول واحد، فكل منهما جرى على أصله.
(ص): وقد يعترض باختلاف جنس المصلحة وإن اتحد ضابط الأصل والفرع.
(ش): كقولنا في اللائط، أولج فرجاً في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً فحد

(3/254)


كالزاني، فيقال: الضابط وإن كان متحدا ًلكن الحكمة مختلفة، إذ حكمة الفرع الصيانة عن رذيلة اللواط، وفي الأصل دفع محذور الأنساب فقد يتفاوتان في نظر الشرع فيناط الحكم بإحدى الحكمتين دون الأخرى، وعلم من ذكر المصنف القدح باختلاف جنس المصلحة هنا أنه ضرب من المعارضة في الأصل لأنه أبدى، خصوصية فيه كأنه قال: بل العلة ما ذكرت مع كونه مؤدياً إلى اختلاف الأنساب واستغنى المصنف بذكر تعدد الوضع واختلاف جنس المصلحة هنا عن ذكرها في القوادح.
(ص): فيجاب بحذف خصوص الأصل عن الاعتبار.
(ش): أي بطريق من الطرق، فتكون العلة القدر المشترك، أو يبين أن حكم الفرع مثل حكم الأصل أو أكثر كما في مسألتنا فإن الزنا وإن أدى إلى ضياع المولود المؤدي إلى انقطاع النسل فاللواط يؤدي إلى عدم الولادة بالكلية.
(ص): وأما العلة إذا كانت وجود مانع أو انتفاء شرط فلا يلزم وجود المقتضى وفاقاً للإمام وخلافاً للجمهور.
(ش): وإذا كانت العلة لانتفاء الحكم، وجود مانع كعدم وجوب القصاص على الأب لمانع الأبوة.

(3/255)


أو انتفاء شرط كعدم وجوب الرجم لعدم الإحصان الذي هو شرط وجوب الرجم، لم يلزم وجود المقتضى، وهو اختيار الإمام في المحصول وأتباعه لم يتصور لأن التعليل بالمانع لا نتصوره فضلاً عن أن يكون مشروطاً ببيان وجود المقتضى أم لا وهو في هذا البناء متابع للإمام وفيه نظر، فقد يقول المانع من تخصيصها ما تسمونه بالمانع هو مقتضى عندي للحكم بالعدم، فالقتل المكافئ في غير الأب هو من العلة في إيجاب القصاص وقتل الأب بخصوصه هو المقتضى لعدم الإيجاب، ويعود الخلاف عند التحقيق لفظياً.
(ص): مسالك العلة: الأول الإجماع.
(ش): المراد بالمسالك الطرق الدالة على أن الوصف علة، وقدم الإجماع على

(3/256)


النص تبعاً للبيضاوي، لأنه مقدم عليه في العمل وقدم ابن الحاجب وغيره النص وهو الأولى لأنه أصل الإجماع فإذا أجمعوا على علية وصف إجماعاً قطعياً أو ظنياً تثبت علته، مثاله قوله عليه الصلاة والسلام ((لا يقضي القاضي وهو غضبان)) قال القاضي أبو الطيب: أجمعوا أن النهي فيه لأن الغضب يشغل قلبه.

(3/257)


(ص): الثاني النص الصريح مثل: العلة كذا، فلسبب، فمن أجل، فنحو: كي وإذن.
(ش): المراد بالنص هنا ما دل عليه من الكتاب والسنة على العلية وهو قسمان: صريح وعبر عنه البيضاوي بالقاطع، وهو ما يدل بالوضع على العلية من غير احتياج فيه إلى نظر واستدلال، وله ألفاظ منها: لعلة كذا أو بسبب كذا أو لأجل كذا كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)).
ومنها (كي) لقوله تعالى: {كي لا يكون دولة} أي: إنما وجب تخميسه كي لا يتداوله الأغنياء منكم فلا يحصل للفقراء شيء، ومنها: إذن لقوله عليه

(3/258)


الصلاة والسلام لأبي بن كعب وقد قال له أجعل لك صلاتي كلها قال ((إذن يغفر الله لك ذنبك كله)) وجعل ابن السمعاني لأجل وكي دون ما قبلهما في الصراحة، فلهذا أتى المصنف بفاء التعقيب المشعرة بتراخي الرتبة.

(3/259)


(ص): والظاهر كاللام ظاهرة فمقدرة نحو إن كان كذا، فالباء فالفاء في كلام الشارع فالراوي الفقيه فغيره.
(ش): الثاني من قسمي النص الظاهر وهو ما يحتمل غير العلية احتمالاً مرجوحاً، وله ألفاظ منها: اللام وهي إما مظهرة كقوله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} وإنما لم يكن صريحاً لاحتمال الاختصاص والملك وغيره، وإما مقدرة نحو: أن كان كذا بفتح أن كقوله: {عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين} لأن ذلك في تقدير اللام فهي في الحقيقة لام مقدرة، ولهذا جعلها المصنف بعد رتبة المظهرة، ومنها الباء كقوله تعالى: {جزاء بما كانوا يعملون} وإنما لم يكن صريحا لمجيئها لغير التعليل ومنها: ترتب الحكم على العلة بحرف الفاء لأنها ظاهرة في التعقيب، ويلزم من ذلك العلية غالباً لأنه لا معنى لكون الوصف علة إلا ما ثبت الحكم عقبه، وترتب عليه، وإنما لم

(3/260)


تكن صريحاً لأنها قد ترد بمعنى الواو، وقد تجئ للتعقيب من غير علة ثم هي ضربان.
أحدهما: أن تدخل الفاء على العلة فيكون الحكم مقدماً كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المحرم الذي وقصته ناقته: ((لا تمسوه طيباً ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)) متفق عليه، وهذا أولى من تمثيل ابن الحاجب بقوله: فإنهم يحشرون فإنه لا يحفظ بهذا اللفظ.
وثانيهما: أن تدخل على الحكم في كلام الشارع كقوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} أو في كلام الراوي مثل (سها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسجد).
وسواء كان الراوي فقيهاً أو غيره لكن هي في كلام الفقيه أقوى ممن ليس

(3/261)


بفقيه، كما أن الفاء في كلام الشارع أقوى دلالة على العلية منه، في كلام الراوي لتطرق احتمال الخطأ إليه، وهذا الترتيب مستفاد من تعقبة المصنف بينهن بالفاء، وجعل ابن الحاجب دلالة هذه الأقسام من باب الصريح، وخالفه المصنف، وقال ترتيب الحكم على الوصف (23/ك) بحرف الفاء يفيد العلية بوضع اللغة، ولم تضع العرب ذلك دالاً على مدلوله بالقطع والصراحة بل بالإيماء والتنبيه، وإنما يجعله صريحاً لتخلفه في بعض محاله عن أن يكون إيماء (301/ز) وهو حيث تكون الفاء بمعنى الواو فكانت دلالته أضعف ويقوي كلام ابن الحاجب إذا كان فيه صريح شرط أو معنى شرط كالنكرة الموصوفة، والاسم الموصول فإنه لا يمكن حمل الفاء فيهما على الواو العاطفة إذ العطف لا يحسن قبل تمام الجملة، ومن هنا يظهر لك أنه لا يصح تمثيلهم الظاهر بقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا} ((أحيا أرضاً ميتة فهي له)) لأن الأول فيه معنى الشرط، والثاني

(3/262)


صريحه فيكون نصاً في اعتبار الوصيف المذكور، نعم جعل ابن الحاجب: سها فسجد، وزنا ماعز فرجم من أمثلة الصريح، وهذا ليس بمسلم له، على أنه قد

(3/263)


يقال في الأول: وإن كان نصاً في الاعتبار فليس نصاً في الاستقلال، بل يجوز أن يعتبر جزاء آخر لم يذكر كقوله تعالى {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} والقيام لا يستقل بالوجوب بدون الحدث ولكن قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا} والسرقة لا تستقل بالوجوب نعم هو ظاهر في الاستقلال أو هو الأصل في الاتباع، والفاء في اللسان متبعة الثاني للأول وإنما يكون ذلك حقيقة عند الاستقلال
تنبيه: أطلقوا أن هذه الصيغ من قسم الظاهر، وهو باعتبار الأصل، لكن قد يدل بالصريح، وذلك فيما إذا تعذر حملها على غير التعليل في بعض المواضع لدليل خاص فتصير نصاً في التعليل، ذكره بعض الجدليين، قال: لذلك يكون حملها على غير التعليل يؤدي إلى حمل كلام الشارع على الركيك المستهجن، فحينئذ لا يحمل عليه ويصير نصاً في التعليل قلت: وكذا إذا كان فيه صريح شرط أو معناه كما سبق.
(ص): ومنه إن وإذا وما مضى من الحروف.
(ش): تجيء إن للتعليل كقوله تعالى: {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك} وقوله عليه الصلاة والسلام ((الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير)) وقد

(3/264)


أنكر التبريزي في (التنقيح) مجيئها للتعليل وسبقه إليه ابن الأنباري، ومما لم يذكره الأصوليون (إذا) قال ابن مالك: تجيء حرفاً للتعليل، كقوله تعالى: {وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف} {اذكروا نعمة الله عليكم

(3/265)


إذ جعل فيكم أنبياء} ومنها حروف أخر سبقت في فصل الحروف فلتراجع.
(ص): الثالث الإيماء وهو اقتران الوصف الملفوظ، قيل أو المستنبط بحكم ولو مستنبطاً، لو لم يكن للتعليل هو أو نظيره كان بعيداً.
(ش): الإيماء وهو الإشارة إلى التعليل: عبارة عن اقتران الوصف بحكم لو لم يكن للتعليل هو أي وصف أو نظيره كان ذلك، أي ذلك الاقتران بعيداً من الشارع تنزه عنه فصاحته، والوصف ستأتي أمثلته، والتقدير في النظير، لمن سألته الحج عن أبيها: ((أرأيت لو كان عليه دين فقضيته أكان ينفعه؟)) قالت: نعم

(3/266)


فنظيره في السؤال كذلك وفيه تنبيه على الأصل الذي هو دين الآدمي، والفرع

(3/267)


وهو الحج الواجب عليه، والعلة هي قضاء دين الميت، وأشار بقوله، قيل إلى أنه لا خلاف في إفادته العلية إذا ذكر الوصف والحكم معاً، فإن ذكر الحكم صريحاً والوصف مستنبط كما في أكثر العلل المستنبطة نحو: ((لا تبيعوا البر بالبر)) أو بالعكس، أي: ذكر الوصف صريحاً والحكم مستنبط، مثل: {وأحل الله البيع وحرم الربا} فإن الوصف الذي هو حل البيع مصرح به، والحكم وهو الصحة غير ملفوظ به، بل مستنبط من الحل، فإنه يلزم من حله صحته فاختلفوا على مذاهب: ثالثها، واختاره الهندي: أن
الأول: وهو التلفظ بالوصف، إيماء إلى تعليل الحكم المصرح به لا العكس، بل ادعى بعضهم الاتفاق على أن الثاني: ليس بإيماء ومال إليه الهندي، وقال: الخلاف فيه بعيد لفظاً ومعنى، لأنه يقتضي أن تكون العلة والإيماء متلازمين، لا

(3/268)


ينفك أحدهما عن الآخر.
(ص): كحكمه بعد سماع وصف، وكذكره في الحكم وصفاً لو لم يكن علة لم يفد، وكتفريقه بين حكمين بصفة مع ذكرهما أو ذكر أحدهما أو شرط أو غاية أو استثناء أو استدارك، وكترتيب الحكم على الوصف، وكمنعه مما قد يفوت المطلوب.
(ش): الإيماء على خمسة أوجه:
أحدها: أن يحكم عقب علمه بصفة المحكوم عليه، وقد انتهى إليه المحكوم عليه حاله، كقول الأعرابي، واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال: ((أعتق رقبة)) رواه ابن ماجه وأصله في الصحيح فإنه دليل أن الوقاع علة للتكفير كأنه قال: إذا واقعت فكفر أو أعتق رقبة لكونك واقعت، إذ الأمر بالعتق ابتداء من غير ترتيب

(3/269)


بعيد، وقد ثبت أن الوصف إذا رتب عليه الحكم في كلام الشارع بفاء التعقيب تحقيقاً، فإنه يكون علة، فكذلك، إذا رتب عليه بالفاء تقديراً.
ثانيها: أن يذكر الشارع في لفظه وصفاً لو لم يكن علة فيه لم يكن لذكره فائدة، فيدل على عليته إيماء، وإلا كان ذكره عبثاً، كقولك: إنك تدخل على بني فلان وعندهم هرة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات)) وفي هذا الحديث جهتان يدلان على التعليل بما ذكرنا وتقديره: فإن.

(3/270)


ثالثها: أن يفرق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين شيئين في الحكم إما بذكر صفة فاصلة، فهو تنبيه على أن الوصف الفاصل هو الموجب للحكم الذي عرف به المفارقة، ثم تارة يذكر القسمان كقوله: ((للفرس سهمان، وللراجل سهم)) رواه البخاري وتارة يقتصر على ذكر أحدهما مثل: ((القاتل لا يرث)) رواه الترمذي فإنه تقرر أن القريب وارث، فإذا بان أن القاتل لا يرث علم أن القتل هو

(3/271)


العلة في نفي الإرث، وإما أن يفرق بينهما بصيغة الشرط كقوله: إذا اختلف الجنسان، أو الغاية كقوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} أو الاستثناء {فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون} أو الاستدراك كقوله تعالى (24/ك) {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} فدل على أن التعقيد علة المؤاخذة، والمعتمد في هذا النوع على أنه لا بد للتفرقة من فائدة، وجعل الوصف سبب التفرقة فائدة، والأصل عدم غيره.

(3/272)


رابعها: ترتيب (104/ ز) الحكم على الوصف، كذا أطلق المصنف، وفي (المنهاج) قيده بالفاء، وحسن ذلك منه، لأنه لم يذكر الفاء في قسم النص، وابن الحاجب ذكر الفاء في قسم النص، وجعل هذا من الإيماء لكن عبر عنه بقوله: ذكر وصف مناسب مع الحكم، ومثله بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((لا يقضي القاضي وهو غضبان)) فإنه فيه إيماء إلى أن الغضب علة، لأنه يشوش الفكر، والأحسن في هذا المقصود عبارة ابن الحاجب، والفرق بين العبارتين أن الوصف تارة يعتبر من جهة خصوصه، وتارة من جهة عمومه، وأن يشتغل تارة بكون الوصف مذكوراً، وتارة لا يكون.
فالأول: هو المعبر عنه بترتيب الحكم على الوصف، وقد سبقت أمثلته، والوصف فيها كلها مذكور، ولهذا جعلت من قسم الظاهر الملفوظ به.
والثاني: هو المعبر عنه بذكر الوصف المناسب مع الحكم فإنه يشعر بأن الغضب علة لكيلا، نعلم أن خصوص كونه غضباً لا مناسبة فيه، فيلزم أن يكون معتبراً من جهة عمومه، وهو كونه مشوشاً للفكر، وهذا الوصف غير مذكور لكنه مناسب، فيلزم أن يلحق به ما في معناه من الجوع والعطش وغيرهما: وظهر بهذا أن العلة في الحقيقة إنما هي التشويش لا الغضب خلافاً لما وقع في عبارة كثير من الناس، وقال الإمام فخر الدين: لا ملازمة بين التشويش والغضب، لأن التشويش إنما ينشأ عن الغضب الشديد لا عن مطلقه، لأن مطلق الغضب لا يمنع، فلا يصح للدلالة على العلية،

(3/273)


والجواب: أن وصف الغضب مظنة التشويش الذي هو الحكمة، ولما كانت الحكمة التي هي تشويش الذهن غير منضبطة علق الحكم على مظنتها وهو الغضب كالسفر مع المشقة.
خامسها: إذا نهى عن فعل يمنع الإتيان به حصول ما تقدم وجوبه علينا، كان إيماء إلى أن علة ذلك النهي كونه مانعاً من الوجوب كقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} فإنه لما أوجب السعي ونهى عن البيع مع علمنا بأنه لو لم يكن المنهي عنه، لمنعه من السعي الواجب لما جاء ذكره في هذا الموضع لكونه يخل بالفصاحة، دل على إشعاره بالعلة، وقال القرافي: إنه يستفاد من السياق فإن الآية لم تنزل لبيان أحكام البياعات بل لتعظيم شأن الجمعة.
(ص): ولا يشترط مناسبة المومئ إليه عند الأكثر.
(ش): في اشتراط المناسبة في صحة علل الإيماء مذاهب:
أحدها: يشترط مطلقاً، واختاره الغزالي رحمه الله لأن تصرفات العقلاء المستندة إلى التعليل لا تتعدى التعليل بالحكمة فلا يصح أكرم الجاهل وأهن العالم.

(3/274)


الثالث: واختاره ابن الحاجب أن فهم التعليل من المناسبة كما في قوله: ((لا يقضي القاضي وهو غضبان)) اشترطت المناسبة لامتناع فهم التعليل منه بدون فهم المناسبة، وإن لم يفهم التعليل منها لم يشترط الامتناع وجود المناسبة من غير فهم التعليل، واعلم أن هذا الخلاف إنما هو بالنسبة إلى أنه هل يشترط ظهور المناسبة، وإلا فلا بد منهما في نفس الأمر قطعاً للاتفاق على امتناع خلو الأحكام من الحكمة إما وجوباً أو تفضيلاً على الخلاف الكلامي.
(ص): الرابع: السبر والتقسيم، وهو: حصر الأوصاف في الأصل وإبطال ما لا يصلح فيتعين الباقي.
(ش): أي: العلية تسمى بذلك لأن الناظر في العلة يقسم الصفات ويختبر صلاحية كل واحدة منها للعلية، والسبر في اللغة: الاختبار، لا يقال: كان الأولى

(3/275)


أن يقول: التقسيم والسبر لأنه يقسم ثم يسبر، لأنا نقول: ما ذكره أولى، وقولكم يقسم إلى آخره ـ صحيح لكنه ثاني سبر، لأنه يسبر المحل أولاً، هل فيه أوصاف أو لا؟ ثم يقسم ثم يسبر ثانياً، فيكون السبر والتقسيم علماً على السبر في الأصل، ويكون من القسمية بالمعطوف والمعطوف عليه.
(ص): ويكفي قول المستدل: بحثت فلم أجد، والأصل عدم ما سواها.
(ش): من طرق نفي العلة قول المستدل وهو أهل ثقة: بحثت فلم أجد سوى الأوصاف المذكورة، لأنه إذا كان عدلاً أهلاً للنظر غلب على الظن انتفاء ما سوى المذكور، أي: إلا أن يدل الدليل فإنه يحصل ظن الحصر فيما ذكره، فإن بين المعترض وصفاً آخر لزم المستدل إبطال كونه علة حتى يتم الاستدلال، هذا كله في حق المناظر، وحينئذ يكون الحكم بنفي وصف آخر مستنداً إلى الظن بعدمه لا إلى

(3/276)


عدم العلم به.
(ص): والمجتهد يرجع إلى ظنه، فإن كان الحصر والإبطال قطعياً فقطعي، وإلا فظني.
(ش): متى كان الحصر في الأوصاف، ودليل بعضها قطعياً فتعليل الناظر بالوصف الباقي، وحكم المجتهد قطعي، وقوله: وإلا يشمل صورتين: أن يكونا ظنيين أو أحدهما ظني والآخر قطعي، فتعليل المناظر بالوصف الباقي وحكم المجتهد به ظني.
(ص): وهو حجة للناظر والمناظر عند الأكثر، وثالثاً إن أجمع على تعليل ذلك الحكم وعليه إمام الحرمين ورابعها للناظر دون المناظر,
(ش): الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وهو الظني، فإنه متى كان الحصر والإبطال قطعياً كان دليلاً قطعياً بلا خلاف، وإنما اختلفوا في الظني على مذاهب:
أحدها: أنه حجة مطلقة لأنه يثير غلبة الظن، واختاره القاضي أبو بكر وقال: إنه أقوى ما تثبت به العلل.
والثاني: ليس بحجة مطلقاً وحكاه في (البرهان) عن بعض الأصوليين.

(3/277)


والثالث: حجة بشرط انعقاد الإجماع على تعليل حكم الأصل على الجملة واختاره إمام الحرمين، قال: فإذا أجمعوا على كون المحل معللاً فهنا يفيد السبر فإذا ما نفي علته أدى تقدير بطلانه وقد بطل غيره خطأ أهل الإجماع قيل له: فالقائسون بعض الأمة، قال: بل منكر القياس وليس من العلماء.
الرابع: أنه حجة للناظر دون المناظر (105/ز) واختاره الآمدي.
(ص): فإن أبدى المعترض وصفاً زائداً لم يكلف بيان صلاحيته للتعليل، ولا ينقطع المستدل حتى يعجز عن إبطاله.
(ش): إذا تم السبر بركنيه، وهو الحصر ظاهراً وإبطال سائر الأقسام، فللمعترض إبداء وصف آخر لم يدخل في حصر المستدل ويكفيه ذلك ولا يحتاج إلى بيان كونه علة أو صالحاً للتعليل، وعلى السابر إبطال التعليل به ولا يتم دليله إلا بذلك، وإلا فيحتمل أن تكون العلة ما أبداه المعترض، ولا يعد المستدل منقطعاً بمجرد بيان المعترض وصفاً آخر ما لم يعجز عن إبطاله، فإنه لم (25/ك) يدع القطع

(3/278)


بالحصر، بل جوز أن يكون ثم وصف آخر شذ عن سبره، فإذا ظهر فما لم يبطله لم يتعين ما استبقاه، وإنما لم يلزم من ذلك انقطاع المستدل فيما يقصده من التعليل بالوصف الباقي، إذ غايته منع مقدمة من مقدمات دليله، وقيل: ينقطع لأنه ادعى حصراً أظهر بطلانه، قال المصنف: وعندي أنه ينقطع إن كان ما اعترض به مساوياً في العلة لما ذكره في حصره وإبطاله لأنه ليس ذكر المذكور وإبطاله أولى من ذلك المسكوت عنه المساوي له، وإن كان دونه فلا انقطاع له لأن له أن يقول: هذا لم يكن عندي محتملاً البتة بخلاف ما ذكرته وأبطلته.
(ص): وقد يتفقان على إبطال ما عدا وصفين فيكفي المستدل التردد بينهما.
(ش): لو اتفق الخصمان على انحصار العلة في وصفين وإبطال ما عداهما لم يحتج المستدل إلى ذكر ما اتفقا على بطلانه في التقسيم، بل يردد بين الباقي ويثبت أن العلة أحدها، ولو قال: اتفقنا على أن هذا معلل، وأن العلة فيه أحد المعنيين، إما المعنى الذي ذكرته أنا الذي ذكرته أنت ومع علتي مرجح كذا، فقال القاضي أبو الطيب في مناظرته مع أبي الحسين

(3/279)


القدوري: لا يكفي، فإن اتفاقي معك على أن العلة أحد المعنيين لا يكفي في الدلالة على صحة العلة، لأن إجماعنا ليس بحجة، وإنما تنهض الحجة بإجماع الأمة، وقال القدروي: يكفي ذلك لقطع المنازعة.
(ص): ومن طرق الإبطال بيان أن الوصف طرد ولو في ذلك الحكم كالذكورة والأنوثة في العتق.
(ش): أي من طرق إبطال كون بعض الأوصاف علة بيان أن الوصف طردي من جنس ما علم من الشارع إلغاؤه إما مطلقاً، أي: في جميع أحكام الشرع، كالطول والقصر، فإنه لم يعتبره في القصاص، ولا في الكفارة، ولا الإرث، والعتق، ولا التقديم للصلاة ولا غيرها، فلا يعلل به حكم أصلاً، أو بالنسبة إلى ذلك الحكم كالذكورة في أحكام العتق، إذ هي ملغاة فيه مع كونها معتبرة في الشهادة والقضاء وولاية النكاح والإرث، فلا يعلل بها شيء من أحكام العتق وقد ينازع في هذا

(3/280)


بأن الشارع اعتبرها في حصول الأجر، فروى الترمذي: ((من أعتق عبداً مسلماً أعتقه الله من النار، ومن أعتق اثنين مسلمين أعتقه الله من النار)).
(ص): ومنها ألا تظهر مناسبة المحذوف ويكفي قول المستدل: بحثت فلم أجد موهم مناسبة، فإن ادعى المعترض أن المستبقى كذلك فليس للمستدل بيان مناسبته لأنه انتقال، ولكن يرجح سبره بموافقة التعدية.
(ش): من طرق الإبطال أن لا تظهر مناسبة الوصف المقصود حذفه بعد البحث، وإذا لم تظهر مناسبته سقط.

(3/281)


عن درجة الاعتبار، ويكفي أن يقول المناظر: بحثت فلم أجد مناسبة بينه وبين الحكم لغلبة الظن بذلك، فإن ادعى المعترض أن الوصف المستبقى كذلك، لأني بحثت فلم أجد مناسبة بينه وبين الحكم تعارضا، وليس للمستدل بيان مناسبته، لأنه حينئذ انتقال من السبر إلى المناسبة لكن المستدل يحتاج إلى إثبات مرجح يترجح به سبره على سبر المعترض بأن يبين أن سبره موافق لتعدية الحكم.
وسبر المعترض قاصر، وهو بناء على أن المتعدية أرجح من القاصرة وهو المختار، وقد نازع بعضهم في الترجيح، لأن المعترض إذا قال: بحثت عن المستبقى فلم أجد له مناسبة فلا يخلو، إما أن يتعرض إلى نفي مناسبة المحذوف أيضاً أو يسكت، فإن كان الأول كما هو ظاهر كلام ابن الحاجب فكل منهما سبر لمحذوف والمستبقى سبره المعترض فلم يجده مناسباً والمستدل لم يسبره فكيف يرجح عدم السبر على السبر أو سبر واحد على سبرين، وكل منهما يكفيه: بحثت فلم أجده مناسباً، ويمكن الجواب على ثبوت مقدمة وهو أنه لما ثبت أن الأحكام معللة، وكان سبر المستدل يؤدي إلى ثبوت العلة، ويتعدى الحكم إلى الفرع، وسبر المعترض يؤدي إلى قصور الحكم على محله لعدم ظهور علته، كان سبر المستدل أولى، وإن كان الثاني وهو

(3/282)


بيان عدم مناسبة المستبقى والسكوت، عن المحذوف، أو ادعى نقيضه للعلة، لأن المعترض حصر الأوصاف فقد تعارض السبران، فكيف يقدم سبر المستدل عليه، لا يقال: يمكن أن يكون الوصف المحذوف قاصراً والمستبقى متعدياً في سبر المستدل بخلاف المعترض فلذلك رجح سبر المستدل، لأنا نقول: المسألة عامة وهذا جزئي ولا يثبت الكلية بمثال جزئي.
(ص): الخامس: المناسبة والإخالة، ويسمى استخراجها تخريج المناط، وهو في الاصطلاح: تعيين العلة بإبداء مناسبة مع الاقتران والسلامة عن القوادح كالإسكار.
(ش): سميت بالإخالة لأنه بالنظر إليه يخال أنه علته أي: يظن، واستخراج المناط لأنه ابتداء ما نيط به الحكم، أي: علق عليه، وهو تعيين العلة، أي: في

(3/283)


الأصل بإبداء مناسبة بينها، وبين الحكم مع اقتران الحكم للوصف والسلامة عن القوادح، فخرج بقوله: بإبداء المناسبة تعين العلة بالطرد، وهو ما عدي عن المناسبة، وكذا تعينها (106/ز) بالشبه، وابن الحاجب قال: من ذاتية الأصل ليخرجه، فإن مناسبته بالتبع، وقوله: مع الاقتران قيد زائد، زاده على ابن الحاجب وهو لبيان اعتبار المناسبة لا لتحقيق ماهيتها بدليل قولهم: المناسبة مع الاقتران دليل العلية، ولو دخل الاقتران في ماهية المناسبة لما صح هذا، وتمثيله بالإسكار في تحريم الخمر فإن تحريمه منصوص، وعلته غير منصوص عليها، ولكن استنبطها الأئمة بالنظر والاجتهاد، فإن الإسكار لكونه مزيلا للعقل المطلوب حفظه يناسب التحريم وألحقوا به النبيذ، وهذا هو الاستنباط القياسي الذي عظم الخلاف فيه وأنكره أهل الظاهر وغيرهم،

(3/284)


وقيل في هذا التعريف دور، لأن معرفة إبداء المناسبة تتوقف على معرفة المناسبة، فكيف يعرف بها، وجوابه أن المناسبة المذكورة في التعريف لغوية بمعنى الملائمة، فلا دور،
(ص): ويتحقق الاستقلال بعدم ما سواه بالسبر.
(ش): أي ولا يكفي قوله بحثت فلم أجد، وإلا لزم الاكتفاء فيه بذلك ابتداء في مسألة خلافية، ولا قائل به بخلافه فيما سبق حيث اكتفي بذلك في جانب النفي لأنه لا طريق له سواه.
(ص): والمناسب الملائم لأفعال العقلاء عادة (26/ك) وقيل ما يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً وقال أبو زيد ما لو عرض على العقول لتلقته بالقبول، وقيل: وصف ظاهر منضبط يحصل عقلاً من ترتيب الحكم عليه ما يصلح كونه مقصوداً للشارع من حصول مصلحة أو دفع مفسدة.
(ش): للمناسب تعريفات.
أحدها: الملائم لأفعال العقلاء في العادة، أي ما يكون بحيث يقصد العقلاء تعقله على مجرى العادة لتحصيل مقصود مخصوص، كما يقال: هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة، وهذه الجبة تناسب هذه العمامة.
والثاني: ما يجلب نفعاً أو يدفع مضرة، والمراد بالنسبة للعبد لتعالي الرب عز

(3/285)


وجل عن الضرر والانتفاع وعليه اقتصر في (المنهاج)، والإمام ذكر التفسيرين واختلافهما باختلاف قول الناس في تعليل أفعال الله تعالى فمن أباه قال بالأول، ومن قال به قال بالثاني، ولما كان الحق قول الأشعري عدم التعليل صدر المصنف به.
والثالث: قول أبي زيد، قال في (البديع): وهو أقرب إلى اللغة وبنى عليه امتناع الاحتجاج به على العلة في قيام المناظرة دون النظر، لإمكان أن يقول الخصم: هذا لا يتلقاه عقلي بالقبول، وليس الاحتجاج على تلقي عقل غيري له أولى من الاحتجاج على ذلك الغير بعدم تلقي عقلي له بالقبول، ومنهم من اعتنى به، وقال الحاكم: ليس عقله ولا عقل مناظره بل العقول السليمة والطباع المستقيمة فإذا عرض عليها وتلقته انتهض دليلاً على مناظره.

(3/286)


والرابع: للآمدي وابن الحاجب بالظاهر المنضبط احتراز عن الوصف الخفي وما لا ينضبط فإنه لا يسمى مناسباً، (وما يصلح كونه مقصوداً) فاعل (يحصل) احتراز عن الوصف المستبقى في السبر والمدار في الدوران، وغيرهما من الأوصاف التي تصلح للعلية، ولا تكون متعددة بالمعنى المذكور، وهو حصول مصلحة أو دفع مفسدة وقوله: من حصول مصلحة أو دفع مفسدة بيان لما فيما يصلح، واعلم أن قوله: وصف، جرى على الغالب، وإلا فقد سبق أن العلة تكون حكماً شرعياً ووصف =عرفياً ولغوياً، فلو قال معلوم لعم ذلك.

(ص): فإن كان خفياً أو غير منضبط اعتبر ملازمه وهو المظنة.
(ش): الضمير إن كان يعود للوصف أي فإن كان الوصف الذي يحصل من ترتيب الحكم عليه المقصود خفياً أو غير منضبط لم يعتبر، لأنه لا يعلم به الحكم؟ فامتنع التعليل به فالطريق أن يعتبر ملازمه أي يعتبر وصف ظاهر منضبط ملازم الوصف الخفي الغير المنضبط أي يوجد بوجوده، ويعدم بعدمه، فيجعل معرفاً للحكم وهو المظنة أي مظنة المناسبة كالسفر للمشقة فإنه

(3/287)


المناسب لترتيب الرخص واعتبارها في نفسها متعذر لعدم انضباطها فنيط الترخيص بملازمها وهو السفر.
(ص): وقد يحصل المقصود من شرع الحكم يقيناً أو ظناً كالبيع والقصاص، وقد يكون محتملاً سواء كحد الخمر أو نفيه أرجح كنكاح الآيسة للتوالد، والأصح جواز التعليل بالثالث والرابع، كجواز القصر للمترفه.
(ش): لحصول المقصود من شرع الحكم مراتب.
أحدها: أن يحصل يقيناً كالبيع فإنه إذا كان صحيحاً حصل منه الملك الذي هو المقصود يقيناً.
الثاني: أن يحصل ظناً كالقصاص للانزجار، فإن مشروعيته تقلل الإقدام على القتل، وليس قطعياً لتحقق الإقدام عليه من شرع القصاص كثيراً.
الثالث: أن يكون حصول المقصود من شرع الحكم ونفي الحصول منه

(3/288)


متساويين، قال في البديع: ولا مثال له على التحقيق ويقرب منه ما مثل ابن الحاجب بالحد على الشارب لحفظ العقل، فإن حصول المقصود من ذلك مساو لنفيه، لأن كثرة المجتنبين له مساوية تقريباً لكثرة المقدمين عليه.
الرابع: أن يكون نفي المقصود من شرع الحكم أرجح من حصوله كنكاح الآيسة لمصلحة التوالد، فإنه وإن أمكن حصول الولد منها عقلاً، غير أنه بعيد عادة فكان نفي حصول المقصود في هذه الصورة أرجح من حصوله، فأما الأولان فظاهر كلام المصنف الاتفاق على الاعتبار بهما من القائلين بالمناسبة وهو كذلك، وأما الثالث والرابع، فقيل لا يعلل بهما، أما الثالث فلتردده بين حصول المقصود وعدمه من غير ترجيح، وكذا الرابع لرجحان نفي المقصود والأصح عنده وفاقاً لابن الحاجب الجواز، فإن السفر مظنة المشقة، وقد اعتبر، وإن انتفى الظن في الملك المترفه فدل على الاكتفاء في صحة التعليل لمجرد احتمال المقصود وقال في البديع: وأما الأخيران فاتفقوا على اعتبارهما إذا كان المقصود ظاهراً من الوصف في محال صور الجنس وإلا فلا.
(ص): فإن كان فائتاً قطعاً فقالت الحنفية: يعتبر، والأصح لا يعتبر سواء ما لا تعبد فيه كلحوق نسب المشرقي بالمغربية، وما فيه تعبد كاستبراء جارية اشتراها بايعها في المجلس.

(3/289)


(ش): لو كان القصد من شرع الحكم فائتاً قطعاً في بعض الصور النادرة (107/ز) مع حصوله في غالب الصور كلحوق نسب المشرقي بتزويج مغربية توكيلاً فأتت بولد مع القطع بأن الولد ليس منه، وإن كان لحوق الولد بالزوج ظاهراً فيما عدا هذه الصورة كذلك صورة الاستبراء فإنا نعلم قطعاً عدم العلوق منه في الأولى وبراءة الرحم في الثانية فلا وجه لاعتباره لأن شرع الحكم مع انتفاء الحكمة لا يكون مفيداً وإنما أوجب أصحابنا الاستبراء، والحالة هذه بمجرد نقل الملك على ما عرف في الفقهيات، وهو يؤول إلى ضرب من التعبد، فلهذا غاير المصنف بينه وبين الأولى، وليستحضر قوله في شرائط العلة، فإن قطع بانتفائها إلى آخره، وتحقيقه مع هذا.

(3/290)


(ص): والمناسب ضروري فحاجي فتحسيني، والضروري كحفظ الدين فالنفس فالعقل فالنسب فالمال والعرض.
(ش): المناسب إما أن يكون في محل الضرورة أو الحاجة، أو في محل الضرورة ولا الحاجة، بل كان مستحسناً في العادات، وهو التحسين، واستفيد من عطف المصنف بالفاء ترتيبها هكذا في التقديم عند التعارض، ومثال اجتماعها في وصف واحد وهو أن نفقة النفس ضرورية، والزوجة حاجية، والأقارب تتمية، وتكملة ولهذا فقد قدم الأول (27/ك) فالأول الضروري، وهو أعلاها في إفادة ظن الاعتبار بما تضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمسة التي دعيت في كل مسألة، ووجه الحصر فيها مستفاد من العادة وهي المجموعة في قوله تعالى: {على أن لا يشركن بالله ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} فحفظ الدين كقتل الكافر وعقوبة الداعين إلى البدع والنفس كالقصاص، والعقل كحد الشرب، والنسب كحد الزاني، والمال كعقوبة السارق والمحارب، هذا ما ذكره الأصوليون، وزاد المصنف سادساً ذكره الطوفي أيضاً وهو

(3/291)


العرض ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبة حجة الوداع: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)) الحديث وما من مصنف في الشرعيات إلا وفيه تحرم الأعراض، وهو أمر معلوم من الدين بالضرورة، وحفظه بحد القذف، أما كونه من الكليات فشيء آخر يحتمل أن يجعل في رتبة الأموال فيكون في مرتبة أدنى الكليات، وإليه يشير عطف المصنف إليه بالواو دون الفاء، ويحتمل أن يجعل فيما دونها، فيكون من الملحق بها، والظاهر أن الأعراض تتفاوت فيها ما هو في الكليات، وهي الأنساب، وهي أرفع من الأموال، فإن حفظ النسب بتحريم الزنا تارة وبتحريم القذف المؤدي إلى الشك المؤذي في أنساب الخلق

(3/292)


ونسبهم إلى أهلهم أخرى، وتحريم الأنساب مقدم على الأموال وفيها ما هو دونها وهو ما هو من الأعراض غير الأنساب.
(ص): ويلحق به مكمله كحد قليل المسكر.
(ش): يلحق بالضروري مكمل الضروري كالمبالغة في حفظ العقل بتحريم شرب قليل المسكر، والحد عليه، ووجه كونه مكملاً أن الكثير من المسكر مفسد للعقل، ولا يحصل إلا بإفساد كل واحد من أجزائه فحد شارب القليل، لأن القليل متلف لجزء من العقل، وإن قل، ومثله: المبالغة في حفظ الدين بتحريم البدعة، وعقوبة المبتدع، والمبالغة في حفظ النسب بتحريم النظر والمس، والتعزير عليه.
(ص): والحاجي كالبيع والإجارة وقد يكون ضرورياً كالإجارة لتربية الطفل.
(ش): الثاني ما يكون في محل الحاجة كتجويز البيع والإجارة والقراض ونحوها فليست ضرورية، إذا لا يلزم من فواتها فوات شيء من الضرورات الخمس، لكن الحاجة داعية إليها،

(3/293)


وادعى إمام الحرمين أن البيع ضروري فإن الناس لو لم يبادلوا ما بأيديهم لجر ذلك ضرورة فيلحق بمشروعية القصاص وقوله: وقد تكون أي قد يرقى بعضها إلى الضرورة وهذا نادر ولهذا أتى فيه بقد، ومثله تمكين الولي من شراء المطعوم والملبوس له.
(ص): ومكمله كخيار البيع.
(ش): يلحق بالحاجي مكمله كالخيار في البيع فإنه شرع للتروي، وإن كان أصل الحاجة حاصلة بدونه.
(ش): والتحسيني غير معارض القواعد كسلب العبد أهلية الشهادة، والمعارض كالكتابة.
(ش): الثالث التحسيني وهو قسمان.

(3/294)


أحدهما: ما لا تعارضه قاعدة معتبرة كسلب أهلية الشهادة عن العبد، لأنه نازل القدر، والشهادة منصب شريف فلا يليق بحاله.
والثاني: ما يعارضها قاعدة معتبرة كالكتابة فإنها وإن كانت مستحسنة في العادات لكن احتمل الشرع فيها جزم قاعدة سهلة، وهي امتناع بيع الرجل ماله بماله.
(ص): ثم إن المناسب إن اعتبر بنص أو إجماع عين الوصف في عين الحكم فالمؤثر وإن لم يعتبر بهما، بل بترتيب الحكم على وفقه ولو باعتبار جنسه في جنسه فالملائم، وإن لم يعتبر فإن دل الدليل على إلغائه فلا يعلل به وإلا فهو المرسل.
(ش): الوصف بحسب شهادة الشرع له بالاعتبار وعدمه ينقسم ثلاثة أقسام:

(3/295)


إما أن يعلم أنه اعتبره أو ألغاء، أو لا يعلم واحد منهما،
الأول: المعتبر وهو إما أن يعتبر عين الوصف في عين الحكم بنص أو إجماع، أو بترتيب الحكم على وفقه في أصل بنص أو إجماع، فالأول، هو المؤثر، سمي بذلك لظهور تأثيره فيهما، فإنه إذا ثبت بالنص أو الإجماع أن الوصف يؤثر لم يحتج إلى المناسبة حتى لو ثبت بهما أن إيلاج الفرج في الفرج المحرم يؤثر في وجوب الحد، ووجدنا هذا المعنى في اللائط حكمنا بالحد وإن لم نجد مناسبة حفظ الأنساب مثال اعتباره بالنص مس الذكر، فإن الشارع اعتبر عين مس المتوضئ ذكره في عين الحدث بنصه عليه في قوله: ((من مس ذكره فليتوضأ)) ومثال اعتباره بالإجماع

(3/296)


الصغر، فإنه اعتبر عينه في عين ولاية المال بالإجماع وقول المصنف: (بنص أو إجماع) تابع فيه ابن الحاجب وغيره، وهو يخرج ما علم اعتباره بطريق الإيماء والتنبيه وحكى الهندي فيه خلافاً منهم من جعله قسيم المؤثر، ومنهم من جعله من قسيم الملائم.
الثاني: أن لا يعتبر عين الوصف في عين الحكم بالنص أو الإجماع، بل بترتيب (108/ز) الحكم على وفقه، فقط أن يثبت معه في المحل من غير نص ولا إجماع على كونه علة لعين الحكم المرتب عليه، وذلك صادق على ثلاث صور، أن يعتبر النص أو الإجماع عين الوصف في جنس الحكم، أو جنسه في عين الحكم، أو جنس الوصف في جنس الحكم، وهو الملائم سمي بذلك لكونه موافقاً لما اعتبره الشرع، وهذه المسألة مستفادة من قول المصنف وإن لم يعتبر بهما، ففاعل (يعتبر) هو ما سبق في قوله: عين الوصف في عين الحكم، وانتفاء هذا يصدق بالصور الثلاث وصرح منها بالثالث بلو لأنه أبعدها فإنه يكون في تعليل الأحكام بالحكمة التي لا تشهد لها أصول معينة، ومثلوه بحد القذف مع حد الشرب، فإن الشرب مظنة الافتراء، كما أن الخلوة بالأجنبية مظنة وطئها، فألحق حد الشرب بحد القذف إقامة للشرب مقام الافتراء الذي هو مظنة الافتراء، فقد أثر جنس المظنة في جنس

(3/297)


الحرمة ومثال تأثير عين الوصف في جنس الحكم ثبوت ولاية النكاح على الصغير كما ثبتت ولاية المال لوصف الصغر، وهو واحد، والحكم الولاية وهو جنس فاعتبر عين الصغر في جنس الولاية، ومثال تأثير جنس الوصف في عين الحكم: المشقة فإنها جنس أثر في نوع، وهو إسقاط صلاة، أما في الحيض فبالكلية، وأما السفر فإسقاط (28/ ك) شطر الرباعية، وهذه الأنواع متفاوتة، وتأثير النوع في الجنس مقدم على تأثير الجنس في النوع، وهو مقدم على تأثير الجنس في الجنس وقول المصنف: إن لم يعتبر بهما، يوهم اشتراط نفي اجتماعهما، وليس كذلك، غير أن وضوح أن كلا من النص والإجماع حجة بمفرده يزيل هذا الإبهام، وأيضاً فالضمير بين المتعاطفين بـ (أو) يجب إفراده.
الثاني: قد يعلم أن الشارع ألغاه فلا يعلل به بالاتفاق كقول بعضهم

(3/298)


لبعض الملوك وقد سأله عن وقاعه في رمضان فأفتاه بصوم شهرين متتابعين وقال: لو أفتيته بالعتق لاستحقره في مقابلة شهوة الجماع لاتساع ماله، وانتهك حرمة الشرع كلما شاء، فكانت المصلحة في الصوم لينزجر، فهذا وإن كان مناسباً لكن الشرع ألغاء بإطلاقه لإيجاب الترتيب على كل مكلف من غير فرق بين المكلفين.
الثالث: أن لا يعلم أن الشرع اعتبره ولا ألغاه فهو المرسل، ويسمى بالمصالح المرسلة، فإن قيل يلزم على هذا أن يكون كل المرسل ملائماً، لأن كل مرسل لا بد أن يكون مشتملاً على مصلحة، وقد اعتبر الشارع جنس المصالح في جنس الأحكام قلنا: المراد بالوصف هنا الأقرب دون الأبعد فإن جنس المصالح يعتبر في جنس الأحكام وليس بملائم.
فائدة: قال الشيخ عز الدين في (الفوائد) ملك جارية لابن بإحبال الأمة مفسدة في حق الابن مصلحة الأب لا أعرف لها مشاهداً بالاعتبار.

(3/299)


(ص): وقد قبله مالك مطلقاً، وكاد إمام الحرمين يوافقه مع مناداته عليه بالنكير، ورده الأكثر مطلقاً وقوم في العبادات، وليس منه مصلحة ضرورية كلية قطعية، لأنها مما دل الدليل على اعتبارها، فهي حق قطعاً واشترطها الغزالي، للقطع بالقول به لا الأصل القول به، قال: والظن القريب من القطع كالقطع.
(ش): الضمير في (قبله) عائد إلى أقرب مذكور، وهو مرسل، لأن المؤثر مقبول بالاتفاق والملغى مردود بالاتفاق، كما نقل ابن الحاجب، ومن ظن أن مالكاً يخالف فيه فقد أخطأ، وقد قال إمام الحرمين في كتاب (التراجيح): لا نرى التعلق عندنا بكل مصلحة، ولم ير ذلك أحد من العلماء، ومن ظن بمالك فقد أخطأ انتهى، وإنما الخلاف في المرسل بالتفسير السابق، وفيه مذاهب.
أحدها: المنع منه مطلقاً وعليه الأكثرون.
والثاني: قبوله مطلقاً لأنه يفيد ظن العلية، لأن الحكم إن ثبت لا العلة فهو بعيد، أو بعلة غير ظاهرة فكذلك فتعين هذه الظاهرة وهو المنقول عن مالك،

(3/300)


وقول المصنف كاد الإمام يوافقه، يعني لاعتباره المصلحة في الجملة، لكنه لم يعتبر جنس المصلحة مطلقاً كمالك، بل قد بالغ في (البرهان) في الرد عليه، وقال: الذي ننكر من مذهبه تركه رعاية ذلك، وجريانه على استرساله في (الاستصواب) من غير اقتصاد، ونحن نعرض على مالك، واقعة نادرة لا يعهد مثلها، ونقول: لو رأى ذو نظر فيها جدع أنفه، أو اصطلام سيفه، وأبدى رأيه لا تنكره العقول صائراً إلى أن العقوبة شرعت لحسم الفواحش وهذه العقوبة لائقة بهذه النازلة للزمك التزام هذا لأنك تجوز لأصحاب الإيالات القتل في التهمة العظيمة، حتى نقل عنك الثقات أنك قلت: أقتل ثلث الأمة في استبقاء ثلثيها، ثم إنا نقول له ثانياً: لا يجوز التعلق بكل رأي فإن أبى ذلك لم نجد مرجعاً يفد عنه إلا ما ارتضاه الشافعي رضي الله عنه من اعتبار المصالح المشبهة بما علم اعتباره، وإن لم يذكر ضابطاً، وصرح بأن كل ما لا نص فيه، ولا أصل له فهو مردود إلى الرأي، واستصواب ذوي العقول، فهذا اقتحام عظيم، وخرج عن الضبط، ومصير إلى إبطال أبهة الشريعة، وأن كلا يفعل ما يرى ثم يختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان ولصيانة الخلق وهو في الحقيقة خروج عما درج عليه الأولون.

(3/301)


المذهب الثالث: التفصيل بين العبادات وغيرها مما يتعلق بالبيع والنكاح وفصل الخصومات في القصاص والحدود، وظهر فيه المعنى المناسب اعتبر، وما لا يظهر فيه وهو العبادات فلا يعلل فيها بالمعاني القريبة، وإن كانت ظاهرة، لأنا لم نعتمد على نفس المعنى بخلاف المعاملات، وهذا التفصيل قاله الأبياري في (شرح البرهان) وقال: إنه الذي يقتضيه مذهب مالك.
الرابع: إن كانت تلك المصلحة ضرورية كلية قطعية كتترس الكفار بأسارى المسلمين أعتبرت وإلا فلا، وهذه ثلاث قيود ضرورية أي لا يمكن تحصيلها بطريق آخر، كلية: أي راجعة إلى كافة الأمة، قطعية: أي حاصلة بشرع

(3/302)


الحكم قطعاً ويقيناً، لا ظناً ولا تخميناً، واختاره البيضاوي وأخذه من الغزالي، فإنه قال (109/ز): يحصل قتالهم بهذا الطريق، وهو قتل من لم يذنب، لم يشهد له أصل معين فيقدح اعتبار هذه المصلحة باعتبار الأوصاف الثلاثة وهي كونها ضرورية قطعية كلية فليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم، فإنه لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة بنا إلى أخذ القلعة، فيعدل عنها، وليس في معناها، ما إذا لم يقطع بظفرهم فإنها ليست قطعية بل ظنية، وهذا منه إشارة إلى اعتبار القطع بحصول المصلحة ونازع المصنف في اشتراط القطع، وقد حكى الأصحاب في مسألة التترس وجهين من غير تصريح منهم باشتراط القطع وعللوا وجه المنع أن غاية الأمر أن نخاف على أنفسنا، ودم المسلم لا يباح بالخوف، وهذا تصريح بجريان الخلاف في صورة الخوف ولا قاطع فيه، وقد يقال: إن المسألة في حالة القطع مجزوم باعتبارها، والخلاف إنما هو في حال الخوف، وقد صرح الغزالي بذلك في (المستصفى) فقال: إنما يجوز ذلك عند القطع أو ظن قريب من القطع وقول المصنف: وليس منه رد على الإمام والآمدي وغيرهم في قولهم إن الشافعي رضي الله عنه لم يقل بالمرسل إلا في هذه المسألة وعلى تفصيل (المنهاج) فإنه لم

(3/303)


يلاق موضوع المسألة فإن هذا ليس من المرسل الذي لم يعتبر، بل مما دل الدليل على اعتباره، فإن قول القائل: هذا سفك دم معصوم يعارضه أن في الكف عنه إهلاك دماء معصومة لا حصر لها، ونحن نعلم أن الشرع يؤثر حفظ الكلي على الجزئي، وأن حفظ أصل الإسلام عن اصطلام الكفار، أهم في مقصود الشرع، فقد رجعت المصلحة (29/ك) فيه إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصوداً بالنص والإجماع، فليس هذا خارجاً من الأصول، لكنه لا يسمى
قياساً بل مصلحة مرسلة، إذ القياس له أصل معين، وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا لدليل واحد بل بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال تسمى لذلك مصلحة مرسلة، قال الغزالي، وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف فيها، بل نقطع بكونها حجة، وحيث جاء خلاف فهو عند تعارض مصلحتين ومقصودين فيرجح الأقوى ولذلك قطعنا بكون الإكراه مبيحاً لكلمة الكفر، والشرب لأن الحذر من سفك دم أشد من هذه الأمور، ولا يباح به الزنا لأنه في مثل محذور الإكراه.
(ص): مسألة المناسبة تنخرم بمفسدة تلزم راجحة أو مساوية خلافاً للإمام.
(ش): لا خلاف أن الوصف إذا اشتمل على المصلحة الخالية عن المفسدة، والراجحة عليها يكون مناسباً ويعتبر تناسبه، وأما إذا اشتمل على مفسدة تلزم من الحكم راجحة على المصلحة أو مساوية لها، هل تنخرم مناسبته بترك المفسدة فيه

(3/304)


مذهبان:
أحدهما - واختاره ابن الحاجب والصفي الهندي -: نعم.
والثاني - وبه جزم الإمام والبيضاوي: المنع والمراد بانخرامها وبطلانها: هو ما لا يقضي العقل بمناسبتها للحكم إذ ذاك، فلا يكون لها أثر في اقتضاء الأحكام لأنه يلزم خلو الوصف عن استلزام المصلحة، وذهابها عنه، فإن ذلك لا يكون معارضاً، واعلم أن اشتراط الترجيح في تحقيق المناسبة، يتحقق على قول من يمنع تخصيص العلة، وأما من يجوزه ويجوز إحالة انتفاء الحكم على تحقيق المانع المعارض مع وجود المقتضى فلا بد له من الاعتراف بالمناسبة سواء كانت المصلحة مرجوحة أو مساوية، وإلا لكان انتفاء الحكم لانتفاء المناسبة، لا لوجود المانع المعارض، ومن الفروع المرتبة هذه المسألة لو سلك السائر الطريق البعيد لا لغرض لا يقصر لانخرام المناسبة.

(3/305)


(ص): السادس الشبه منزلة بين المناسب والطرد، وقال القاضي: هو المناسب بالتبع.
(ش): جعله المصنف بين منزلتين لأنه يشبه المناسب الذاتي من حيث التفات الشارع إليه، ويشبه الوصف الطردي من حيث إنه غير مناسب، ويتميز عن الطردي بأن وجوده كالعدم بخلاف الشبه فإنه معتبر في بعض الأحكام، ويتميز عن المناسب بأن مناسبته عقلية، وإن لم يرد شرع كالإسكار في التحريم بخلاف الشبه، وهذا مما لا خلاف فيه، وإن أكثر الأصوليون والجدليون في تعاريفه وقد اعترف إمام الحرمين بأنه لا يتحرر فيه عبارة مستمرة في صناعة الحدود، وقال القاضي: إنه

(3/306)


المناسب بالتبع، أي بالالتزام كالطهارة لاشتراط النية فإن الطهارة من حيث هي لا تناسب اشتراط النية لكن تناسبها من حيث إنها عبادة، والعبادة مناسبة لاشتراط النية، وقال بعض الجدليين: الأوصاف ثلاثة وصف علم مناسبته فلا كلام فيه، ووصف لم تعلم مناسبته، وينقسم إلى ما علم عدوله عن المناسبة وهو الطردي وإلى ما لم يعلم عدوله عن المناسبة وهو الشبه.
(ص): ولا يصار إليه مع إمكان قياس العلة إجماعاً فإن تعذرت فقال الشافعي رضي الله عنه حجة، وقال الصيرفي والشيرازي: مردود.
(ش): أجمع الناس كما قاله القاضي في (التقريب) على أنه لا يصار إلى القياس الشبه مع إمكان قياس العلة، فإن تعذر قياس العلة، ولم يصادف في محل الحكم إلا الوصف الشبهي، وهو محتمل للمناسبة فاختلفوا فيه، فظاهر مذهب الشافعي قبوله لأنه يغلب على الظن عليته حينئذ، فإنا بين أمور ثلاثة: إما أن نقول لا علة لهذا الحكم وهو مستحيل، فإن الحكم لا بد أن يكون مشروعاً لحكمة، وإما أن نقول العلة غير هذا وهذا وإن كان ممكناً لكنا لم نصادفه، فتعين الثالث وهو أن العلة هذا الوصف الشبهي وكان قدماء الأصحاب يستعملونه في المناظرات

(3/307)


وحكي عن الحليمي والأستاذ أبي إسحاق أنه حجة إذا انضم إليه السبر، قال ابن السمعاني: وقد أشار الشافعي رضي الله عنه إلى الاحتجاج به في مواضع من كتبه لقوله في إيجاب النية في الوضوء كالتيمم طهارتان كيف يفترقان ورده القاضي أبو بكر والصيرفي وأبو إسحاق المروزي (110/ز) وأبو إسحاق الشيرازي.
ونازع في صحة القول به عن الشافعي رضي الله عنه وقال: إنما أراد قياس العلة، وأنه يرجح أحد العلتين في الفرع بكثرة الشبه ثم اختلف القائلون

(3/308)


بقياس الشبه فمنهم من اعتبره مطلقاً ومنهم من شرط في اعتباره أن يجتذب الفرع أصلان فيلحق بأحدهما بغلبة الأشباه، ويسمونه قياس غلبة الأشباه، وهو ما يدل عليه نص الشافعي في (الأم).
(ص): وأعلاه قياس غلبة الأشباه في الحكم والصفة، ثم الصوري، وقال الإمام المعتبر حصول المشابهة لعلة الحكم أو مستلزمها.
(ش): لا شك أن رتب الشبه عند القائل به متفاوتة، فأعلاه قياس غلبة الأشباه وهو أن يتردد الفرع بين أصلين، ويشبه أحدهما في أكثر الأحكام،

(3/309)


فيلحق به وعليه اعتمد الشافعي رضي الله عنه في إيجاب القيمة في قتل العبد ما بلغت، لأنه يشبه الأموال في أكثر الأقسام ويشبه الأحرار في قليل منها، فوجب اعتبار الكثير ومنهم من يعتبر الأشباه الحكمية ثم الراجعة إلى الصفة، ومنهم من يسوي بينهما، ثم شبه الصورة كقياسنا الخيل على البغال والحمير في سقوط الزكاة، وقياسهم في حرمة اللحم، وقال الإمام في (المحصول): المعتبر حصول المشابهة فيما يظن أنه علة الحكم، أو مستلزم لعلته سواء كان ذلك في الصورة، أو في الحكم عملاً بموجب الظن واعلم أن ظاهر كلام المصنف أن هذه المراتب من القائلين بحجيته، وليس كذلك فإن الشافعي رضي الله عنه لا يقول بالشبه الصوري كما بينه ابن برهان وغيره.

(3/310)


(ص): السابع الدوران: وهو أن يوجد الحكم عند وجود وصف وينعدم عند عدمه، قيل: لا يفيد، وقيل قطعي، والمختار وفاقاً للأكثر ظني.
(ش): إنما قال (عند وجود وصف) ولم يقل بوجود وصف كما عبر في (المنهاج) وغيره لئلا يوهم المناسبة والكلام في الدوران المجرد المناسبة، والمراد من كون الحكم يوجد عند وجود الوصف وكونه يحال تعذره إما (30/ ك) حقيقة أو تقديراً، وإن تقدم عليه في التصوير حتى تدخل حركة الأصبع فإنها ملازمة لحركة الخاتم، ومثال الحرمة مع وصف الإسكار في العصير، فإنه إذا وجد فيه الإسكار حرم، وإذا عدم وصار خلاً عدمت الحرمة،

(3/311)


وفيه مذاهب:
أحدها: أنه لا يفيد بمجرد ظن العلة ولا القطع بها لجواز أن يكون الوصف الدائر ملازماً للعلة لا نفسها، إلا أن يدل دليل على أن هذا الوصف معتبر في إثبات الحكم فحينئذ يكون حجة، وهو قول القاضي وأبي الطيب الطبري، واختاره ابن السمعاني والغزالي، والآمدي، وابن الحاجب.
والثاني: يفيد القطع بها ونقل عن بعض المعتزلة.
والثالث: أنه يفيد الظن بها وعليه الأكثر منهم القاضي والإمام الرازي قال: ونعني بالدوران الذي يقيم دليلاً على أنه ليس من دوران العلة مع المعلول، فإن قيل الاطراد وحده لا يكفي والعكس غير معتبر شرعاً قلنا: المجموع غيرهما.

(3/312)


فائدة: نص ابن الحاجب والحريري وغيرهما على أنه لا يجوز أن يأتي بالفعل مطاوعاً لفعل لازم، وقولهم: انعدم الشيء وانفسد وانضاف لحن، فلو قال المصنف: وينتفي عند انتفائه لاستقام.
(ص): ولا يلزم المستدل بيان نفي ما هو أولى منه.
(ش): لا يجب على المستدل نفي ما هو أولى منه بالعلة، لأنه من قبل نفي المعارض، ولا يجب على المستدل بيان نفي المعارض وعلى من يدعي وصفاً آخر إبداؤه بخلاف الشبه كما سبق، هذا ما أطبق عليه الجدليون معتلين بأنه لو لزم المستدل ذلك للزمه بيان السلامة على سائر القوادح، وأن لا يبقى للخصم كلام، وينتشر الكلام ويخرج عن الضبط، وذهب القاضي أبو بكر إلى أنه يلزمه ذلك، قال الغزالي في (شفاء الغليل): وكان من عادة القاضي في المناظرة ذلك فكان يستقصي في

(3/313)


أول الأمر كل ما يتوهم تعلق الخصم به بطريق السبر ويبطله بحيث كان لا يبقي للخصم متعلقاً، قال وهذا بعيد في حق المناظر لما ذكرنا، متجه في حق المجتهد، إذ على المجتهد تمام النظر لتحل له الفتوى، وليس على المعلل الارتقاء مرتبة من مراتب النظر إلى أن ينزل عنه إلى مرتبة أخرى بالمعاونة والمناظرة فتحصلنا على ثلاثة مذاهب.
(ص): فإن أبدى المعترض وصفاً آخر ترجح جانب المستدل بالتعدية، وإن كان متعدياً إلى الفرع ضر عند مانع العلتين أو إلى فرع آخر طلب الترجيح.
(ش): لو أبدى المعترض وصفاً آخر مثل الأول تعادلا، وترجح جانب المستدل بأن دورانه موافق لتعدية الحكم، والوصف الحادث قاصر، وهو بناء على أن المتعدية أرجح من القاصرة، وأن المتعدي إلى فروع أولى من المتعدي إلى فرع واحد، فإن كان الوصف الذي أبداه المعترض متعدياً إلى الفرع المتنازع فيه انبنى على التعليل بعلتين، فإن منعنا ضر وإلا فلا، إذ يجوز اجتماع معرفين على معرف واحد، وإن كانت علته متعدية إلى فرع آخر غير صورة النزاع تعادلا وطلب الترجيح من خارج، أما إذا كان الوصف الذي أبداه المعترض مناسباً، والأول غير مناسب قدم قطعاً.
فائدة: استدل المالكية على طهارة الكلب بأن الحياة علة للطهارة، فإن الشاة ما دامت حية فهي طاهرة، فإذا زالت الحياة زالت الطهارة، واعترض على الدوران بالمزكى والجلد المدبوغ، فأجابوا: بأن العلل الشرعية يخلف بعضها بعضاً فالزكاة والدباغ علتان للطهارة، خلفتا الحياة، وأقوى من إيراد المزكى والمدبوغ إيراد السمك والجراد، فإنه لا يتجدد فيها سوى الموت، ولا يمكن إحالة طهارتهما على شيء آخر

(3/314)


يخلف الحياة.
(ص): الثامن الطرد: وهو مقارنة الحكم للوصف والأكثر على رده، قال علماؤنا: قياس المعنى مناسب والشبه تقريب، والطرد تحكم وقيل: إن قارنه فيما عدا صورة النزاع أفاد وعليه الإمام وكثير، وقيل: تكفي المقارنة في صوره وقال الكرخي: يفيد المناظر دون الناظر,
(ش): ما عرف به الطرد ذكره القاضي فقال: المقارن للحكم إن ناسب بالذات فهو المناسب أو بالتبع فهو الشبه، وإن لم يناسبه مطلقاً فهو الطرد، وإنما لم يصرح المصنف بنفي المناسبة لأنه معلوم مما قبله ومثاله: قول بعضهم في إزالة النجاسة بنحو خل مائع لا تبنى القنطرة عليه فلا يجوز إزالة النجاسة به كالدهن، وقولهم: في عدم نقض الوضوء بمس الذكر: طويل مشقوق فأشبه البوق وقولهم

(3/315)


في طهارة الكلب: حيوان مألوف له شعر كالصوف فأشبه الخروف وظاهر كلام المصنف اعتبار المقارنة في جميع الصور ولهذا قال صاحب (البديع): قيل: إنه الموجود عند (111/ز) الوجود ولكن الذي في (المنهاج) اعتبار المقارنة فيما سوى صورة النزاع، فيقول: يثبت فيها إلحاقاً للفرد بالأعم الأغلب وعزاه في (المحصول) للأكثرين، قال: وبالغ بعضهم فقال يكفي الاقتران في صورة واحدة وهو ضعيف ثم فيه مذاهب:
أحدها: أنه مردود مطلقاً، وعليه الجمهور كما قاله إمام الحرمين وغيره فإنه لا يفيد علماً ولا ظناً فهو تحكم قال القاضي والأستاذ من طرد عن غرة فجاهل، ومن مارس الشريعة واستجازه فهازئ بالشريعة، قال: ومثل الحليمي فساد الوضع والمخيل والطرد.

(3/316)


فالأول: كمن تنسم نسيماً بارداً فقال: وراءه حريق.
والثاني: كمن رأى دخاناً فقال: وراءه حريق، والثالث كمن رأى غباراً فقال: وراءه حريق، وما حكاه المصنف عن علمائنا هو الذي أورده ابن السمعاني في (القواطع) فقال: قياس المعنى: تحقيق والشبه تقريب والطرد تحكم ثم قال: فقياس المعنى ما يناسب الحكم ويستدعيه، ويؤثر فيه، والطرد عكسه، والشبه أن يكون فرع تجاذبه أصلان فيلحق بأحدهما بنوع شبه مقرب، أي يقرب الفرع من الأصل في الحكم المطلوب من غير تعرض لبيان المعنى، وهو حسن.
الثاني: إن قارن الحكم في جميع صور حصوله غير صورة النزاع أفاد العلية وإلا فلا، واختاره الإمام في (المحصول)، وقال: إنه قول كثير من فقهائنا.
والثالث: أنه حجة مطلقاً ولا يشترط ذلك بل تكفي المقارنة ولو في صورة واحدة.
والرابع: قول الكرخي: إنه يفيد المناظر دون المجتهد، قال في (البرهان): وقد

(3/317)


ناقص إذ المناظرة بحث عن المآخذ الصحيحة فإذا كان مذهبه أنه لا يصلح مأخذاً فهذا مراد خصمه في الجدل وليس في الجدل ما يقبل مع الاعتراف بأنه باطل.
(ص): التاسع تنقيح المناط: وهو أن يدل ظاهراً على التعليل (31/ك) بوصف فيحذف خصوصه عن الاعتبار بالاجتهاد، ويناط بالأعم أو تكون أوصاف فيحذف بعضها ويناط بالباقي.
(ش): التنقيح لغة: التخليص والتهذيب، يقال نقحت العظم ـ إذا استخرجت مخه والمناط ما نيط به الحكم أي علق عليه، والمناط اسم للعلة من حيث ارتباط الحكم بها يقال: نيطت به الأمور إذا علقت به وهو الاجتهاد في تعيين السبب الذي أناط الشارع الحكم به، وأضافه إليه وهو قسمان:
أحدهما: أن يرد ظاهر في التعليل بوصف ينحذف ذلك الوصف بخصوصه عن الاعتبار بالاجتهاد ويناط بالأعم، وهذا كما فعل مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى في حديث المجامع.

(3/318)


فإنهما حذفا خصوص الوقاع واجتهدا فعلقا الكفارة بوصف عام وهو مطلق الإفطار.
والثاني: أن يدل لفظ ظاهر على التعليل بمجموع أوصاف، فيحذف بعضها عن درجة الاعتبار إما لأنه طردي أو لثبوت الحكم على بقية الأوصاف بدونه، ويناط بالباقي فهو بمنزلة لفظ عام أخرج بعضه وبين المراد به بالاجتهاد، كتعيين وقاع المكلف لاعتبار الكفارة من الأوصاف المذكورة في حديث الأعرابي من كونه أعرابياً أو كون الموطوءة زوجة أو أمة، أو في قبلها، وكونه شهر تلك السنة فإنها كلها طردية حاشا الوقاع في نهار رمضان، وحذف مالك وأبو حنيفة خصوص الوقاع وأوجبا الكفارة في الأكل والشرب، ولا بد لهما من دليل على الحذف، وتنقيح المناط قال به أكثر منكري القياس حتى إن أبا حنيفة ينكر القياس في الكفارة واستعمل تنقيح المناط فيها، وسماه استدلالاً، وحاصله تأويل ظاهر بدليل قال ابن التلمساني، واعتراف منكري القياس بهذا النوع بناء على مسألة أخرى، وهي أن النص على

(3/319)


التعليل نص على التعميم أم لا فمن قال: نعم اعترف بهذا وأنكر القياس.
(ص): أما تحقيق المناط فإثبات العلة في آحاد صورها كتحقيق أن النباش سارق وتخريجه مر.
(ش): عادة الجدليين يتعرضون للفرق بين الثلاثة تنقيح المناط، تحقيق المناط، وتخريج المناط، وقد عرفت التنقيح، وأما تحقيق المناط فهو أن يتفق على علية وصف بنص أو إجماع، وتختلف في وجوده في صورة النزاع فتحقق وجودها مثاله أن يقال أخذ المال خفية علة القطع وهو موجود في النباش والحياء علة الاكتفاء للبكر في تزويجها بالسكوت، وهو موجود فيمن زالت بكارتها بغير نكاح، وهل يشترط القطع بتحقيق المناط أم يكتفى فيه بالظن؟ حكى ابن التلمساني فيه أقوالاً ثالثها الفرق بين أن تكون ذات العلة وصفاً شرعياً أو وصفاً حقيقياً أو عرفياً، إن كان شرعياً جاز إثباته بطريق الظنون وإن كان عقلياً أو عرفياً فلا بد من القطع بوجوده، قال: وهذا أعدل الأقوال وأما تخريج المناط فقد مر أي في مسلك المناسبة، وهو الاجتهاد في استنباط علة الحكم الثابت بنص أو إجماع من غير تعرض لبيان

(3/320)


علته لا بالصراحة، ولا بالإيماء، كقوله: ((لا تبيعوا البر بالبر)) فإنه ليس فيه ما يدل على أن العلة الطعم لكن المجتهد نظر فاستنبطها فكأنه أخرج العلة من خفاء، فلذلك سمي تخريج المناط بخلاف تنقيح المناط فإنه لم يستخرجها لكونها مذكورة في النص بل نقح النص، وأخذ منه ما يصلح للعلية، وترك ما لا يصلح.
(ص): العاشر إلغاء الفارق كإلحاق الأمة بالعبد في السراية وهو الدوران والطرد ترجع إلى ضرب شبه إذ تحصل الظن في الجملة ولا تعين جهة المصلحة.
(ش): إلغاء الفارق هو بيان أن الفرع لم يفارق الأصل إلا فيما لا يؤثر فيلزم اشتراكهما في المؤثرة، هو بالضد من قياس العلة فإن القياس هناك عين جامعاً بين الأصل والفرع وعين هنا الفارق بينهما، وكما أن السبر عين هناك الجامع، فالسبر عين هنا الفارق، فإذا تعين بحيث لا يبقى فارق آخر فحينئذ يبحث عما بين له، والذي يسبر أن الفارق لا أثر له، هو أن يكون طرداً محضاً أو ملغى، فإن حصل ذلك عن دليل قاطع، فالإلحاق بمعلوم وإلا فمظنون مثال: المقطوع به: النهي عن البول في الماء الراكد يعطي أن صب البول من كوز في معناه، وكذلك صب

(3/321)


غير البول من النجاسات، وقد خص بعض النظار هذا النوع بالقياس في معنى الأصل والمظنون بنفي الفارق، والأمر فيه قريب، ونحو منه قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أعتق شركاً له في عبد قوم عليه)) فالأمة في معناه، وقد تخيل قوم أن هذا من قبيل المعلوم، وليس كذلك، لاحتمال أن يلاحظ الشرع (112/ز) في عتق العبد أنه إذا أعتق استقل بنفسه في الجهاد والجمعة وغيرهما مما لا مدخل للمرأة فيه، لكن الأظهر فيه أن المقصود التخلص من موت الرق وإحياؤه بالحرية فهو إذن ظاهر قوي وفسر في (المنهاج) تنقيح المناط: بالغاء الفارق: نحو لا فارق بين العبد والأمة في سراية العتق فوجب استواؤهما فيه، والتحقيق التغاير بينهما، وإنما أخره عن تنقيح المناط إذا لم يعتضد بظاهر في التعليل بمجموع أوصاف واعتضد به تنقيح المناط، نعم قد يكون السبر الدال على نفي الفارق قاطعاً والفارق المحقق طرداً محضاً

(3/322)


فبلغ نفي الفارق رتبة المؤثر بدليل قاطع، وبين في غير المؤثر بدليل ظاهر كما سبق.
(ص): خاتمة: ليس تأتي القياس بعلية وصف ولا العجز عن إفساده دليل عليته على الأصح فيهما.
(ش): هذان طريقان ظن بعض الأصوليين أنهما يفيدان العلية ختم المصنف بهما.
أحدهما: أن يقال: هذا الوصف على تقدير عدم عليته لا يتأتى معه ذلك
فوجب أن يكون علة ليمكن الإتيان (. .) (1) بالمأمور به، وهو دور لأن تأتي القياس متفق على ثبوت العلة فلو أثبتنا العلة (. .) (2) ثبوت العلة عليه، ولزم الدور.
الثاني: عجز الخصم عن إفساد كون الوصف علة دليل على كونه علة، بدليل أن المعجزة، من أقوى الأدلة، وإنما انتهضت دليلاً على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لعجز الناس عن معارضتها، وإذا كان العجز دليلاً في المعجزة التي هي عصام الأدلة فبطريق الأولى ما نحن فيه، وهو فاسد لأنه ليس جعل العجز عن الإفساد على الصحة أولى من جعل العجز على التصحيح دليلاً على الإفساد، وليس نظيراً لعجزه لأن العجز هناك من الخلق، وهنا من الخصم وحده فمن أين له أن سائر الناس كذلك.
(ص): القوادح.
(ش): مراده بالقوادح ما يقدح في الدليل بجملته سواء العلة وغيرها.
_________
(1) (*) كلمة ساقطة من الأصل.
(2) (*) كلام ساقط من الأصل.

(3/323)


(ص): منها تخلف الحكم عن العلة وفاقاً للشافعي رضي الله عنه وسماه النقض، وقالت (32/ك) الحنفية: لا يقدح وسموه تخصيص العلة، وقيل: في المستنبطة، وقيل: عكسه، وقيل: يقدح إلا أن يكون لمانع أو فقد شرط وعليه أكثر فقهائنا، وقيل: يقدح إلا أن يرد على جميع المذاهب كالعرايا وعليه الإمام، وقيل: يقدح في الحاضرة، وقيل في المنصوصة: إلا بظاهر عام، والمستنبطة إلا لمانع أو فقد شرط، وقال الآمدي: إن كان التخلف لمانع أو فقد شرط أو في معرض الاستثناء أو كانت منصوصة بما لا يقبل التأويل لم يقدح.
(ش): النقض وجود المدعى علة مع تخلف الحكم عنه، وفي (المحصول) هو وجود كالعلة، ولا حكم، لا وجود الحكم ولا علة فيه مذاهب:
أحدها: أنه يقدح مطلقاً بناء على أن شرط العلة الاطراد وعزاه المصنف

(3/324)


للشافعي رضي الله عنه لكن قال الغزالي في (شفاء الغليل): إنه لا يعرف له فيها نص، وعمدة المصنف فيما نقله ابن السمعاني في (القواطع) أن ذلك مذهب الشافعي رضي الله عنه وجميع أصحابه إلا القليل منهم قال:
وهو قول كثير من المتكلمين وقالوا: تخصيصها نقض لها ونقضها يتضمن إبطالها وعلى هذا فالفرق بينها وبين اللفظ العام حيث جاز تخصيصه: أن العام لغة يجوز إطلاقه على بعض ما تناوله فإذا أورد لم ينافه، وأما العلة المستنبطة فإنها منتزعة بالقياس من الأصل ومقتضاه الاطراد هكذا رأيته في كتاب القفال الشاشي وهو صحيح.
والثاني: لا يقدح وهو المشهور عن الحنفية ولا يسمونه نقضاً بل تخصيص العلة لكن ابن السمعاني عزاه للعراقيين منهم وادعى أبو زيد أنه مذهب أبي حنيفة

(3/325)


وأصحابه قال وأما الخراسانيون منهم فقالوا بالأول، حتى قال أبو منصور الماتريدي: تخصيص العلة باطل، ومن قال بتخصيصها فقد وصف الله تعالى بالسفه والعبث، فأي فائدة في وجود العلة ولا حكم.
والثالث: يقدح في المستنبطة دون المنصوصة، ومثلوا تخصيص المنصوصة بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما ذلك دم عرق)) مع القول بعدم النقض بالخارج

(3/326)


النجس من غير السبيلين، فإنه تخصيص لعلة منصوصة، ومثلوا تخصيص المستنبطة بقولنا: القتل العمد العدوان علة القصاص مع القول بعدم استيفائه في قتل الأب.
الرابع: عكسه هكذا حكاه المصنف تبعاً لابن الحاجب، لكن قال في شرحه: إن مراده لا يقدح في المستنبطة إذا كان لمانع أو عدم شرط دون المنصوصة.
الخامس: يقدح إلا أن يكون لمانع أو فقد شرط فلا يقدح مطلقاً سواء العلة المنصوصة والمستنبطة، واختاره البيضاوي والهندي.
السادس: يقدح إلا أن يرد على سبيل الاستثناء ويعترض على جميع المذاهب كالعرايا، وعزاه المصنف للإمام والذي في (المحصول)، أنه إن تخلف لمانع لم يقدح وإلا قدح، ثم قال: فإن كان وارداً على سبيل الاستثناء هل يقدح؟ قال قوم: لا يقدح سواء كانت العلة معلومة أو مظنونة، أما المعلومة فلأنا نعلم أن من لم يقدح على جناية لم

(3/327)


يؤاخذ بضمانها، ثم هذا لا ينقض بضرب الدية على العاقلة، وأما المظنونة فالتعليل بالطعم فإنه لا ينقض بمسألة العرايا فإنها وردت على سبيل الاستثناء رخصة، قال الإمام: واعلم أنا إنما نعلم ورود النقض على سبيل الاستثناء إذا كان لازماً جميع المذاهب مثل مسألة العرايا فإنها لازمة على جميع العلل ـ كالقوت والكيل والمال والطعم، وإنما قلنا إن الواردة على مورد الاستثناء لا يقدح في العلة، لأن الإجماع لما انعقد على أن حرمة الربا لا تعلل إلا بأحد الأمور الأربعة ومسألة العرايا واردة عليها أربعتها فكانت هذه المسألة واردة على علة قطعنا بصحتها والنقض لا يقدح في مثل هذه العلة، وأما أنه هل يجب الاحتراز عنه في اللفظ؟ فقد اختلفوا فيه والأولى الاحتراز عنه انتهى.
والسابع: إن كانت علة حظر لم يجز تخصيصها وإلا جاز حكاه القاضي عن بعض المعتزلة.
والثامن: يقدح في المنصوصة إلا إذا كان بظاهر عام، وإنما قال بظاهر، لأنه لو كان بقاطع لم يتخلف الحكم عنه، وإنما قال عام لأنه لو كان خاصاً بمحل الحكم لم يثبت التخلف وهو خلاف المقدر، والحاصل يجوز في النص الظني، ولو قدر مانع أو فوات شرط ولا يجوز في القطعي، أي لا يمكن وقوعه.

(3/328)


وأما المستنبطة: فيجوز في صورتين لا يقدح فيهما، وهما ما إذا كان التخلف لمانع أو انتفاء شرط، ولا يجوز في صورة واحدة فيقدح فيها (113/ز) وهي ما إذا كان التخلف دونهما وهو مختار ابن الحاجب.
والتاسع: إذا كان التخلف لمانع أو فقد شرط أو في معرض الاستثناء أو كانت منصوصة بما لا يقبل التأويل لم يقدح وإلا قدح وهو رأي الآمدي، فإن قيل كيف يقبل النص التأويل؟ قلت: مراده بالنص ما هم أعم من الصريح والظاهر ولا يخفى قبول الظاهر للتأويل.
فائدة معرض: بكسر الميم وفتح الراء.
(ص): والخلاف معنوي لا لفظي خلافاً لابن الحاجب ومن فروعه التعليل بعلتين والانقطاع وانخرام المناسبة بمفسدة وغيرها.
(ش) زعم إمام الحرمين في (البرهان) وابن الحاجب وغيرهما أن الخلاف في

(3/329)


هذه المسألة لفظي لا فائدة فيه، لأن من جوز تخصيص العلة، ومن لم يجوزه اتفقوا على اقتضاء العلة للحكم لا بد فيه من عدم المخصص، وسلموا أن المعلل لو ذكر القيد في ابتداء التعليل لاستقامت العلة، فلم يبين الخلاف إلا ذلك القيد العدمي، هل يسمى جزء العلة أم لا؟ ورد الإمام في (المحصول) هذه المقالة.
وقال: إذا فسرنا العلة بالداعي أو الموجب لم نجعل العدم جزءاً من العلة بل كاشفاً عن حدوث جزء العلة، ومن يجوز التخصيص لا يقول ذلك، وإن فسرنا العلة بالأمارة ظهر الخلاف في المعنى أيضاً، لأن من أثبت العلة بالمناسبة يبحث عن ذلك القيد العدمي، فإن وجد فيه مناسبة صحح العلة وإلا أبطلها، ومن يجوز التخصيص لا يطلب المناسبة البتة، من هذا القيد العدمي، وذكر المصنف لها فوائد منها: أن يترتب عليها مسألة التعليل بعلتين، وقد سبقت.
ومنها: انقطاع الخصم، وأنه لا تسمع منه بعد ذلك دعوى أنه إنما أراد بالعموم الخصوص، وباللفظ المطلق ما وراء محل النقض، لأنه يشبه الدعوى بعد الإقرار فلا يسمع إلا ممن له قدرة على الإنشاء في الوصفين، والقائلون بجواز التخصيص يقبلون دعواه، كذا قال المصنف، وفيه نظر، فإن إمام الحرمين قال في (البرهان) إذا ذكر لفظ مقتضياً عموم العلة فورد نقض فقال: اخصص لفظي، نظر فإن كان النقض مبطلاً لم يقبل فيه التخصيص، وإن كان غير مبطل فمن الجدليين من جعله منقطعاً إذا لم يف بظاهر لفظه، قال: والمختار لا يكون منقطعاً، لكنه خالف الأحسن، إذ كان ينبغي له أن يشير إليه فيقول هذه علة ما لم يستثن (33/ك).
(ص): وجوابه منع وجود العلة أو انتفاء الحكم إن لم يكن انتفاؤه مذهب المستدل وعند من يرى نفي الموانع بيانها.
(ش): جواب النقض بوجوه.
أحدها: منع وجود العلة في محل النقض بناء على وجود قيد مناسب أو مؤثر في العلة، وهو غير حاصل في صفة النقض، كما لو قيل في الحلي: مال معد للاستعمال مباح فلا يجب فيه الزكاة كثياب البذلة، فإن نقض بالمعد لاستعمال محرم أو مكروه فدفعه واضح لأنه غير معد لاستعمال مباح.
ثانيها: يمنع انتفاء الحكم عن صورة النقض إذا لم يكن انتفاؤه مذهب

(3/330)


المستدل، فأما إذا كان مذهباً للمستدل فقط أو مذهباً له وللمعترض لم يكن ذلك.
ثالثها: أن يبين المعلل مانعاً من ثبوت الحكم في صورة النقض فيدفع النقض بذلك عند من يجعل تخلف الحكم لمانع لا يقدح.
ورابعها: وكان ينبغي للمصنف ذكره: دفعه بورود صورة النقض على سبيل الاستثناء فإنه مانع عند من يجعله غير قادح.
(ص): وليس للمعترض الاستدلال على وجود العلة عند الأكثر للانتقال،

(3/331)


وقال الآمدي ما لم يكن دليل أولى بالقدح.
(ش): إذا منع المستدل وصف العلة في صورة النقض فهل يمكن المعترض من الاستدلال على وجودها فيه مذاهب:
أحدها: وعليه الأكثر منهم الإمام الرازي وأتباعه: لا، لأنه انتقال من مسألة قبل تمامها إلى أخرى.
وثانيها: نعم، لأن فيه تحقيقاً للنقض فكان من متمماته.
وثالثها: قال الآمدي: إنه يمكن ما لم يكن للمعترض دليل أولى بالقدح من النقض، فإن أمكنه القدح بطريق آخر هو أفضى إلى المقصود فلا.
وحكى ابن الحاجب:
رابعاً: يمكن ما لم يكن حكماً شرعياً، وإنما لم يحكه المصنف لقوله في شرح المختصر: إنه لا يوجد لغيره، وهو عجب، فلم يذكر الإمام أبو منصور البروي تلميذ محمد بن يحيى في كتاب (المقترح) غيره، فقال: إن كان حكماً شرعياً كما لو علل الحنفي في مسألة المضمضة بأنه عضو يجب غسله عن الخبث، فيجب في الجنابة،

(3/332)


فإذا نقض تعليله بالعين فله منع وصف العلة بأن العين لا يجب غسله من الخبث فليس للمعترض أن يثبت عليه وجوب غسل العين من الخبث فإنه وضع للكلام، في مسألة أخرى استدلالا من الابتداء، وإن كان وصف العلة أمراً حقيقياً فله ذلك كما إذا علل الحنفي مسألة الأجرة بأنه عقد على منفعة فلا يملك عوضه بنفس العقد كالمضاربة، فإذا انتقض بالنكاح منع ورود النكاح على المنفعة قلنا إثباته بالدليل انتهى وجرى عليه شارحه الإمام أبو العز جد ابن دقيق العيد لأمه فقال: لأن الأمر الحقيقي يمكن الاستدلال عليه لقربه من الأحكام الشرعية إذا كانت مختلفة فهي في مظنة تشعب الظنون، والوصف الحقيقي يكون في الغالب من جهة عدم تصور حقيقة=.
(ص): ولو دل على وجودها بموجود في محل النقض ثم منع وجودها فقال ينتقض دليلك فالصواب أنه لا يسمع لانتقاله من نقض العلة إلى نقض دليلها.
(ش): ولو دل المستدل (على وجود العلة في محل التعليل بدليل موجود في محل النقض، ثم منع بعد ذلك وجودها في صورة النقض) فقال المعترض:

(3/333)


ينتقض دليلك على العلة، لم يسمع منه عند الجدليين، لأنه انتقال من نقض العلة بنفسها إلى نقض دليلها، مثاله قول الحنفي في التبييت آتي بمسمى الصوم فصح كما في النفل، واستدل على وجود العلة بالإمساك مع النية، فيقول المستدل: لا نسلم وجود العلة فيما إذا نوى بعد الزوال فيقول ينتقض دليلك الذي استدللت به على وجود العلة في محل التعليل ومقابل الصواب احتمال ابن الحاجب بجواز الانتقال لأن المعترض في مكان دفع العلة فليكن له القدح فيها تارة وفي دليلها أخرى، ولا يكون انتقالاً ممنوعاً.
(ص): وليس له الاستدلال على تخلف الحكم في الأصح وثالثها إن لم يكن طريق أولى.
(ش): لو منع المستدل تخلف الحكم عن العلة، فإن كان عدم الحكم في صورة النقض مجمعاً عليه أو مذهبه لم يسمع منعه وإلا سمع، وإذا سمع منعه فهل يتمكن المعترض من إقامة الدليل على تخلف الحكم؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: نعم إذ به يتحقق نقض العلة.
وثانيها: المنع لما فيه من قلب القاعدة بانقلاب المستدل معترضاً والمعترض مستدلاً وعليه أكثر النظار.

(3/334)


وثالثها: يتمكن من ذلك ما لم يكن له (114/ز) طريق (أولى بالقدح في كلام المستدل من ذلك، أما إذا كان له طريق) آخر أفضى إلى المقصود فلا.
(ص): ويجب الاحتراز منه على المناظر مطلقاً وعلى المناظر إلا فيما اشتهر من المستثنيات فصار كالمذكور، وقيل يجب مطلقاً، وعلى الناظر إلا في المستثنيات مطلقاً.
(ش): إذا قلنا: إن النقض يقدح فهل يجب على المستدل الاحتراز في دليله منه ابتداء؟ على مذاهب.
أحدهما: وعزاه الهندي للأكثرين لا يجب، لأن المستدل مطالب بذكر الدليل فقط، وليس ذلك إلا في الوصف أو حكمته، وأما نفي المانع فمن قبل دفع المعارض فلم يجب كما في سائر المعارض.
والثاني: يجب مطلقاً لأنه مطالب بالمعرف للحكم وليس هذا الوصف فقط، بل هو مع عدم المانع.
والثالث: يجب إلا في الصور المستثناة من القاعدة كالعرايا، والمختار عند

(3/335)


المصنف الوجوب، لكنه قيده بقيد حسن، وهو أن لا يكون مشتهراً وإلا فالمشتهر منزل منزلة المذكور، فلا حاجة للتصريح به، وجعل محل الخلاف في المجتهد الناظر، أما المناظر فيجب الاحتراز منه مطلقاً، وقال صاحب (المقترح): إن كانت صورة النقض مستثناة، فالاتفاق لم يكلف الاحتراز عنها، وإن اتفق الخصمان على أنها مستثناة فإن كان اعتماده على إيماء النص في ثبوت القول بالتعليل فلا يجوز أن يتحرز إلا بوصف يشهد له الإيماء، وإن كان بطريق الاستنباط فلا فرق بينهما عند الاعتذار إلا بوصف هو موجود في صورة النقض حتى يصلح كونها مانعاً فيكون تأويلاً لدلالة تخلف الحكم من الوصف، ولا يلزم الاحتراز ابتداء، بل إن ورد عليه النقض احترز عنه.
(ص): ودعوى صورة معينة أو مبهمة أو نفيها ينتقض بالإثبات أو النفي العامين وبالعكس.
(ش): المقصود من هذا التنبيه على ما يتجه من النقوض، ويستحق الجواب، وما ليس كذلك.
اعلم: أن المقصود من ثبوت الحكم إما إثباته ونفيه معاً أو أحدهما، فإن كان الأول ولم يتعرض له المصنف وجب أن يكون الحكم مطرداً ومنعكساً مع علته، كالحد مع المحدود، فمتى ثبت عند عدمه أو عدم عند وجوده، توجه عليه النقض، وإن كان الثاني فالمدعى إما ثبوت الحكم أو نفيه، وكل منهما، إما أن يكون في بعض الصور أو جميعها، وإذا كان في بعض الصور فإما أن يكون في (34/ك) صورة معينة أو مبهمة، فهذه أربعة أقسام داخلة في كل من القسمين، أعني ثبوت الحكم أو نفيه

(3/336)


في صورة أو ثبوته أو نفيه مطلقاً، والحاصل أن الحكم إذا ثبت في صورة معينة كقولنا (زيد كاتب، أو في صورة غير معينة كقولنا) إنسان ما كاتب، فالثبوت في هاتين الصورتين يناقضه النفي العام، كقولنا: لا شيء من الإنسان كاتب، وكذلك قولنا: زيد ليس بكاتب، أو إنسان ما ليس بكاتب، يناقضه كل إنسان كاتب، وإذا ادعينا الثبوت العام كقولنا: كل إنسان كاتب، ناقضه النفي عن صورة معينة، كقولنا: زيد ليس بكاتب، أو مبهم كقولنا: إنسان ما ليس بكاتب، وكذلك إذا ادعينا النفي العام كقولنا: لا شيء من الإنسان بكاتب, ناقضه الثبوت في صورة معينة، كقولنا: زيد كاتب أو مبهمة، كقولنا: إنسان ما كاتب فعلم أن الثبوت في الصورة المعينة أو المبهمة يناقضه النفي العام، وبالعكس، وأن النفي غير صورة معينة أو مبهمة يناقضه الإثبات العام وبالعكس.
(ص): ومنها الكسر قادح على الصحيح، لأنه نقض المعنى وهو إسقاط وصف من العلة إما مع إبداله كما يقال في الخوف صلاة يجب قضاؤها فيجب أداؤها كالأمن، فيعترض بأن خصوص الصلاة ملغى فليبدل العبادة ثم ينقض بصوم الحائض، أو لا يبدل فلا يبقى علة إلا يجب قضاؤها وليس كل ما يجب قضاؤه يؤدى دليله الحائض.

(3/337)


(ش): اختلف في تعريف الكسر ففي (المنهاج) أنه عدم تأثير أحد جزأي العلة ونقض الآخر المؤثر، وهو قضية كلام الإمام، وعبر الآمدي وابن الحاجب عن هذا بالنقض المكسور وهو تعبير حسن، وجعلا الكسر إبداء الحكمة بدون الحكم، قال الآمدي: وهو نقض على العلة دون ضابطها وقال الأكثرون من الأصوليين والجدليين: الكسر عبارة عن إسقاط وصف من أوصاف العلة المركبة وخارجه عن الاعتبار، أي يتبين أن أحد جزأي العلة لا أثر له، على هذا جرى المصنف، قال الشيخ أبو إسحاق في (الملخص): هو سؤال مليح، والاشتغال به ينتهي إلى بيان الفقه، وتصحيح العلة، واتفق أكثر أهل العلم على صحته، وإفساد العلة به، ويسمونه النقض من طريق المعنى، والإلزام من طريق الفقه وأنكر ذلك طائفة من الخراسانيين انتهى، ولهذا صححه المصنف، وذكر للكسر صورتين:

(3/338)


إحداهما: أن يبدل ذلك الوصف الخاص بوصف عام ثم ينقضه عليه.
الثانية: أن لا يفعل ذلك، بل يعرض عن ذلك الذي أسقطه بالكلية، ويذكر صورة النقض، ومثاله: قولنا في إثبات صلاة الخوف، صلاة يجب قضاؤها فيجب أداؤها كصلاة الأمن، فيقول المعترض: خصوص كونها صلاة ملغى لا أثر له، لأن الحج كذلك، وليس بصلاة فلم يبق إلا الوصف العام، وهو كونها عبادة وينقضه، فهذا كسر، ثم هو بالخيرة بين أمرين: إما أن يأتي بكسره على الصورة الأولى فيلزمه بالتعليل بكونها عبادة، ويقول: كأنك قد قلت عبادة إلى آخر ما ذكرت، ويلزمك صوم الحائض فإنه عبادة يجب قضاؤها، ولا يجب أداؤها، بل يحرم، وأما على الصورة الثانية، فيقول: إذا أسقط وصف الصلاة الذي هو أحد أوصاف علتك، فلم يبق إلا قولك: يجب قضاؤها إلى آخره، وليس كل ما يجب قضاؤه يجب أداؤه بدليل الحائض، وقد ظهر لك أنه نقض يرد على المعنى، وبذلك صرح ابن الحاجب في الاعتراضات، وإن كان هنا سماه النقض المكسور، واختار، أنه لا يبطل، وهو اسم لا يعرفه الجدليون فإنهم لا يعرفون إلا الكسر،

(3/339)


وهو أن يبين عدم التأثير، وذكر الآمدي أن الأكثرين على أن الكسر لا يقدح، وليس كذلك (فقد ذكر) أستاذ أرباب الجدل أبو إسحاق الشيرازي وتبعه ابن السمعاني وغيره أن الأكثر أنه قادح وهو كما قال، لأنه نقض، فالكلام فيه كالكلام في النقض سواء بسواء، والشيخ الهندي قال: الكسر نقض يرد على بعض أوصاف العلة وذلك هو ما عبر عنه الآمدي بالنقض المكسور، ثم قال الهندي: وهو مردود عند الجماهير (إلا إذا بين الخصم إلغاء القيد، قال المصنف (115/ ز): ونحن لا نعني بالكسر إلا إذا بين، أما إذا لم يبين فلا خلاف في أنه) مردود، كيف وهو كلام غير موجه؟ وكل ما كان كذلك فهو رد على قائله.
فائدة: قال الشيخ في (المهذب) لو ماتت الأمهات أو بقي منها دون النصاب ونتجت تامة وجبت الزكاة، وقال الأنماطي ينقطع الحول بموت كل الأمهات، قال الشيخ: وينكسر عليه بأم الولد فإن يثبت لولدها حكمها في الاستيلاد مع بقائها حتى تعتق بموت السيد كما تعتق هي بموته، ولو ماتت قبل السيد لم

(3/340)


يبطل هذا الحكم في حق الولد، وإن بطل في حقها.
(ص): ومنها العكس وهو انتفاء الحكم لانتفاء العلة فإن ثبت مقابله فأبلغ وشاهده قوله صلى الله عليه وسلم: ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) في جواب: أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟.
(ش): ما ذكره المصنف في التعريف ذكره ابن الحاجب وغيره وقال الهندي: إنه الأولى، قال: وإنما قلنا لانتفاء العلة ولم نقل: لانتفاء علته، لأنه يقتضي أن يشعر بانتفاء جميع علته، ولا نزاع في أن العكس بهذا المعنى يضر وعرفه في (المنهاج) تبعاً للإمام في (المحصول): بحصول مثل هذا الحكم في صورة أخرى لعلة تخالف العلة الأولى، ورده الهندي بأنه ليس من شرط العكس أن يحصل مثل ذلك الحكم في صورة أخرى، بل لو حصل في تلك الصورة بعينها لعلة أخرى كان ذلك عكساً أيضاً وهو أبلغ في قياس العكس، وإليه أشار المصنف بقوله: فإن ثبت مقابله فأبلغ واستشهد له بقوله صلى الله عليه وسلم حين عدد لأصحابه

(3/341)


وجوه الصدقة: ((وفي بضع أحدكم صدقة)) قالوا: يا رسول الله! أو يأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟ قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام)) يعني أكان يعاقب؟ قالوا: نعم قال: ((فكذلك إذا وضعها في حلال يؤجر)) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم نقيض حكم الوطء المباح وهو الإثم في غيره، وهو الوطء الحرام لافتراقهما في علة الحكم، وهو كون هذا مباحاً وهذا حراماً.
(ص): وتخلفه قادح عند مانع علتين.
(ش): لأنه حينئذ لا يكون للحكم إلا دليل واحد فينتفى عند انتفاء العلة لانتفاء الحكم عند انتفاء دليله، فإن قلنا: لا يجوز فليس بقادح، وهذا البناء ذكره القاضي أبو بكر والجمهور وجعله في (المنهاج) بالتفسير السابق مبنياً على منع تعليل الحكم الواحد بالنوع بعلتين، وبناؤه ظاهر لأن النوع باق (35/ك) فيه.
(ص): ونعني بانتفائه انتفاء العلم أو الظن إذ لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول.
(ش): أي لا يلزم من انتفاء الدليل على شيء انتفاؤه عن نفسه، بل انتفاء العلم

(3/342)


به فقط، فلا يلزم من انتفاء الدليل على وجود الصانع انتفاء الصانع.
(ص): ومنها عدم التأثير أي أن الوصف لا مناسبة فيه ومن ثم اختص بقياس المعنى وبالمستنبطة المختلف فيها.
(ش): عرف عدم التأثير بكون الوصف لا مناسبة فيه، أي لثبات الحكم ولا نفيه، ووجهه أن التأثير، وهو إفادة الوصف أثره، فإذا لم يفده فهو عدم التأثير، وعرفه في (المحصول) و (المنهاج) بثبوت الحكم بدون الوصف وتعريف المصنف أعم ويبنى على هذا التفسير أن هذا السؤال إنما يقدح في قياس المعنى دون الشبه، والطرد وفي المستنبطة المختلف فيها دون المنصوصة أو المستنبطة المجمع عليها.
واعلم أن الوصف إنما يكون عديم التأثير (إذا لم يفد فائدة أصلاً، فإن كان فيه فائدة دفع النقض بأن يشير إلى أن الفرع حال مما يمنع ثبوت الحكم فيه أو إلى اشتمال الفرع على شرط الحكم فلا يكون عديم التأثير) كقوله: في التبييت صوم مفروض، فافتقر إلى التبييت قياساً على القضاء فإن كونه مفروضاً يتحقق به شرط اعتبار النية في الفرع، وهو صوم رمضان، وأنه خال عما يمنع، ثبوت التبييت فيه،

(3/343)


ويندفع به النقض بالنفل إذ لو قال: صوم فافتقر إلى التبييت لا ينتقض بالنفل، لأنه صوم ولا يفتقر إليه، مع أن فرضية الصوم بالنسبة إلى تبييت النية طردي لا مناسبة فيه.
(ص): وهو أربعة.
(ش): عدم التأثير ينقسم إلى أربعة أقسام: ما لا تأثير له مطلقاً، وما لا تأثير له في ذلك الأصل، وما اشتمل على قيد لا تأثير له، وما لا يظهر فيه شيء عن ذلك، ولكن لا يطرد في محل النزاع، فعلم من ذلك عدم تأثيره، ولكل قسم اسم.
(ص): في الوصف بكونه طردياً.
(ش): الأول عدم التأثير في الوصف بكونه طردياً، كقولهم في الصبح صلاة لا تقصر فلا يقدم أذانها كالمغرب لأن عدم القصر في نفي التقديم طردي لا مناسبة له ولا شبه، ولذلك كان الحكم الذي هو منع تقديم الأذان على الوقت موجوداً فيما قصر من الصلوات ويرجع حاصله إلى سؤال المطالبة بالدلالة على كون العلة علة.
(ص): وفي الأصل مثل مبيع غير مرئي فلا يصح كالطير في الهواء فيقول لا أثر لكونه غير مرئي، فإن العجز عن التسليم كاف وحاصله معارضة في الأصل.
(ش): الثاني عدم التأثير في ذلك الأصل بأن يقع الاستغناء عنه بوصف آخر

(3/344)


كقولنا في بيع الغائب: بيع مرئي فلا يصح كالطير في الهواء بجامع عدم الرؤية، فيقول الخصم لا أثر لكونه غير مرئي، فإن العجز عن التسليم في الطير كاف بأمارة الحكم فكونه غير مرئي وإن ناسب نفي الصحة لا تأثير له هنا، كذا أطبقوا على هذا المثال، وأنه قادح، وقال القاضي أبو الطيب الطبري في تعليقه في الكلام على بيع الغائب: لنا أنه باع عيناً لم ير منها شيئاًَ فلا يصح كما لو باع النوى في التمر، فإن قيل: قولكم: لم ير منها شيئاً لا تأثير له، لأن بعض النوى إذا كان ظاهراً يراه، وبعضه غير ظاهر، فإن البيع لا يصح، فالجواب: أنه ليس من شرط التأثير أن يكون موجوداً في كل موضع، وإنما يكون وجود التأثير في موضع واحد، وتأثيره في بيع البطيخ واللوز فإنه يرى بعضها ويكون بيعها صحيحاً، وقال الإمام في البرهان: عدم التأثير في الأصل هو تقييد علة الأصل بوصف لا أثر لأصله في الأصل كقول الشافعي رضي الله عنه في منع نكاح الأمة الكتابية: أمة كافرة فلا تنكح كالأمة المجوسية فلا أثر للرق في الأصل، قال: والمحققون على فساد العلة بذلك وقيل بصحتها إذ للرق على الجملة أثر في المنع وشبهه بالشاهد الثالث المستظهر به وهو ضعيف، إذ الثالث منهي لوقوعه، وكذا عند تعذر أحد الشاهدين بخلاف (116/ز)

(3/345)


الرق ثم نبه الإمام على أن ذلك الوصف إذا لم يكن له أثر ولا عرض فيه، فهو لغو ولا يبطل العلة لاستقلالها مع حذف القيد، وهو قول المصنف: وحاصله معارضة في الأصل أي بإبداء علة أخرى، وهو العجز عن التسليم، ولذلك بناه بانون على التعليل بعلتين.
(ص): وفي الحكم وهو أضرب لأنه إما أن لا يكون لذكره فائدة كقولهم في المرتدين مشركون أتلفوا مالا في دار الحرب فلا ضمان كالحربي، ودار الحرب عندهم طردي فلا فائدة لذكره، إذ من أوجب الضمان أوجبه وإن لم يكن في دار الحرب، وكذا من نفاه فيرجع إلى الأول لأنه يطالب بتأثير كونه في دار الحرب أو تكون له فائدة ضرورية كقول معتبر العدد في الاستجمار بالأحجار: عبادة متعلقة بالأحجار ولم يتقدمها معصية فاعتبر فيها العدد كالجمار فقوله لم يتقدمها معصية عديم التأثير في الأصل والفرع لكنه مضطر إلى ذكره لئلا ينتقض بالرجم، أو غير ضرورية فإن لم تغتفر الضرورية لم يغتفر وإلا فتردد مثاله

(3/346)


الجمعة صلاة مفروضة فلم يفتقر إلى إذن الإمام كالظهر فإن مفروضه حشو إذ لو حذف لم ينتقض بشيء لكنه ذكر لتقريب الفرع من الأصل بتقوية الشبه بينهما إذ الفرض بالفرض أشبه.
(ش): الثالث عدم التأثير في الحكم المعلل وهو أضرب.
أحدها: أن لا يكون لذكره فائدة، أي ولا تأثير له أصلاً لا في الأصل ولا في الفرع ووجه تسميته عدم التأثير في الحكم: أنه لا مدخل له في الحكم ولا تعلق له به، مثاله: قولهم في المرتدين: مشركون أتلفوا مالا في دار الحرب فلا ضمان عليهم كالحربي، ودار الحرب عندهم طردي فلا فائدة في ذكره، فإن من أوجب الضمان أوجبه مطلقاً، ومن نفاه نفاه مطلقاً، سواء كان في دار الحرب أم غيرها فيرجع إلى القسم الأول، لأنه مطالب بتأثير كونه في دار الحرب، إذ لا تأثير للوصف بالنسبة إلى الحكم المذكور في القسمين فلا فرق بينهما.

(3/347)


الثاني: أن لا يكون له تأثير فيها، ولكن لذكره فائدة ضرورية، كقول من اعتبر العدد في الاستجمار بالأحجار عبادة متعلقة بالأحجار لم يتقدمها معصية (فاعتبر فيها العدد كرمي الجمار في الحج، فقوله لم يتقدمها معصية) عديم التأثير في الأصل والوصف، والمعلل مضطر إلى ذكره إذ لو حذفه لانتقضت عليه بالرجم فإنه عبادة تتعلق بالأحجار ولا يعتبر فيها العدد، وهو كالذي قبله في رجوعه إلى الأول فلا فرق.
الثالث: أن يكون له فائدة، لكل المعلل لا يضطر إليه ويسمى الحشو، فإن اغتفر له ذكر ما اضطر إليه اغتفر له هذا وإلا ففيه خلاف مثاله، قولنا في الجمعة تصح بغير إذن الإمام لأنها صلاة مفروضة فلم تفتقر إقامتها إلى إذنه كالظهر، فنقول: هذا قيد زائد لا لإثبات الحكم بل لتقريب الفرع من الأصل وتقوية الشبه بينهما إذ الغرض (36/ك) بالفرض أشبه من غيره.
(ص): الرابع في الفرع مثل زوجت نفسها (بغير كفء فلا يصح كما لو زوجت) من غير كفء وهو كالثاني إذ لا أثر للتقييد بغير الكفء ويرجع إلى المناقشة في الفرض وهو تخصيص بعض صور النزاع بالحجاج والأصح جوازه، وثالثها بشرط البناء أي بناء غير محل الفرض عليه.

(3/348)


(ش): الرابع عدم التأثير في الفرع من جهة أن الوصف لا يطرد في جميع صور النزاع، كقولنا: في ولاية المرأة: زوجت نفسها من كفء فلا يصح كما لو زوجت من غير كفء، فالتزويج من غير كفء وإن ناسب البطلان إلا أنه لا اطراد له في صورة النزاع إذ النزاع فيمن زوجت نفسها مطلقاً فبان أن الوصف لا تأثير له في الفرع المتنازع فيه، وحاصله كالثاني، أي من حيث إن حكم الفرع هنا إلى غير الوصف المذكور فيه كما أن حكم في الأصل= في القسم الثاني مضاف إلى غير الوصف المذكور، وهو في ذلك متابع لابن الحاجب في مختصره الصغير، لكنه قال في الكبير إنه كالثالث، وقيل إنه الصواب، وقوله: ويرجع إشارة إلى أن قبول هذا مبنى الفرض فمن منع جواز الفرض في الدليل رده، ومن لم يمنع من ذلك قبله، والفرض تخصيص بعض الصور النزاع بالدليل كما إذا قال المسؤول عن نفوذ عتق

(3/349)


الراهن: أفرض الكلام في العسر أو عن من زوجت نفسها أفرض فيمن زوجت من غير كفء فإذا خصص المستدل تزويجها نفسها من غير الكفء بالدليل فقد فرض دليله في بعض صور النزاع وفيه مذاهب:
أحدها: المنع منه وهو قول ابن فورك وقال: من شرط الدليل أن يكون عاماً لجميع مواقع النزاع ليكون دفعاً لاعتراض الخصم مطابقاً للسؤال.
والثاني: وهو الذي عليه الجمهور الجواز، لأنه قد لا يساعده على الكل أو يساعده غير أنه لا يقدر على دفع كلام الخصم بأن يكون كلامه في بعض الصور أشكل، فيستفيد من الفرض غرضاً صحيحاً وليس منه ما يوجب فساد الجواب، فإن من يسأل عن الكل فقد سأل عن البعض وقال ابن الحاجب: إن كان الوصف المجهول في الفرض طرداً فمردود وإلا فمقبول وقال ابن التلمساني: الوجه أن يقال: قد يستفاد بالفرض تضييق مجاري الاعتراض على الخصم، وهو من مقصود الجدل أو وضوح التقرير، ولهذا المعنى عدل الخليل عليه الصلاة والسلام في تقرير الاستدلال على النمرود بالأثر على المؤثر من صورة إن الله يحيي ويميت لما اشتبه

(3/350)


عليه إلى أوضح منها عند النمرود فقال: {إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} الآية.
الثالث: يجوز بشرط البناء، أي: بناء ما خرج عن محل الفرض إلى محل الفرض واختلفوا في طريق البناء، فقيل: يكفيه فيه أن يقول: إذا ثبت الحكم في بعض الصور لزم القول بثبوته في الباقي ضرورة إذ لا قائل بالفرق، وقيل: لا يكفيه ذلك بل يحتاج إلى رد ما خرج عن محل الفرض إلى محل الفرض لجامع صحيح كما هو قاعدة القياس، وقيل: إن كان الفرض في صورة السؤال فلا يحتاج إلى البناء، وإن عدل في الفرض إلى غير محل السؤال فعند ذلك لا بد من بناء على السؤال على محل الفرض بطريق القياس.
(ص): ومنها القلب وهو دعوى أن ما استدل به في المسألة على ذلك الوجه عليه لا له إن صح، ومن ثم أمكن معه تسليم صحته، وقيل هو تسليم للصحة مطلقاً، وقيل: إفساد مطلقاً.

(3/351)


(ش): قوله: في المسألة. أي: في تلك المسألة بعينها (ليخرج ما يدل عليه في غير تلك المسألة التي استدل هو به عليها فلا يسمى قلباً وقوله على ذلك الوجه ليخرج ما يدل عليه (117/ز) في تلك المسألة لكن على غير ذلك الوجه مثل: أن يستدل المستدل بنص بطريق الحقيقة، والمعترض يستدل به عليه في تلك المسألة بطريق التجوز، وكان ينبغي إسقاط قوله: لا له، ولهذا قال الآمدي: قلب الدليل: هو أن يبين القلب، أن ما ذكره المستدل يدل عليه لا له أو يدل عليه وله قال: والأول قل ما يتفق له مثال في الأقيسة، ومثله بالمنصوص من استدلال الحنفي في توريث الخال بقوله عليه الصلاة والسلام ((الخال وارث من لا وارث له)) فأثبت إرثه عند

(3/352)


عدم وارث غيره، فيقول المعترض: هذا يدل عليك لا لك، إذ معناه نفي توريث الخال بطريق المبالغة أي: الخال لا يرث كما يقال: الجوع زاد من لا زاد له، والصبر حيلة من لا حيلة له، أي: ليس الجوع زاداً ولا الصبر حيلة، والثاني: وهو يدل على المستدل وله، إما أن يتعرض القالب فيه لتصحيح مذهب نفسه كمسألة الاعتكاف أو إبطال مذهب المستدل صريحاً كمسح الرأس أو التزاماً كمسألة الخيار، وقول

(3/353)


المنصف: إن صح أي على تقدير الترك ولهذا يمكن مع القلب تسليم صحة الدليل (وقيل: هو تسليم للصحة مطلقاً) أي تسليم لأن الجامع دليل صحيح، وإنما اختلفوا في أنه دليل للمستدل أو عليه، وقيل: إنه إفساد العلة مطلقاً، وتبين أنه لا يصح التعلق بها لواحد منهما لأن الشيء الواحد، لا يجوز أن يعتبر بالشيء وضده.
واعلم: أن الخلاف هكذا لا يوجد صريحاً، وإنما المصنف أخذ الأول من ظاهر قول من سمى القلب معارضة، فإن المعارضة لا تفسد العلة، بل تمنع من التعلق بها إلى أن يثبت رجحانها من خارج، وأخذ الثاني: من قول بعض أصحابنا: القلب شاهد زور كما يشهد لك يشهد عليك، وقول ابن السمعاني توجيه سؤال القلب: أن يقال: إذا علق على العلة ضد ما علقه المستدل من الحكم، فلا يكون أحد الحكمين أولى من الآخر، ويبطل تعلقها بهما قلت: كذا ذكره

(3/354)


المصنف في (شرح المختصر) أنه استنبط الخلاف من ذلك، وقال الإمام في (البرهان): ذهب ذاهبون إلى رده لكون ما جاء به القالب ليس مناقضاً لما صرح به المعلل بل كالمعارضة الجامدة، وقيل: بقبوله لكون العلة وقلبها مشتملين على حكمين يستحيل الجمع بينهما، فهو مناقض للمقصود، قال: ولا يمكن القالب أن يعتقد صحة قلبه لكون قياس العلل قلباً له بل هو عنده من باب معارضة الفاسد بالفاسد بخلاف المعارضة إذ قد تكون صحيحة لترجيحها على قياس المعلل، ونازعه بعضهم في ذلك وقال: ربما كان القلب أرجح من قياس المعلل فيكون صحيحاً فهو كالمعارضة، وقد أشار الإمام فيما بعد إلى ذلك، وقال النيلي في جدله القسم الأول من القلب، وهو ما يدل على (37/ك) المستدل لا له من قبل الاعتراضات ولا يتجه إلى قبوله خلاف، وأما الثاني وهو ما يدل على المستدل من وجه آخر كمثال الاعتكاف، ومسح الرأس، وبيع الغائب، فاختلفوا فيه هل هو اعتراض أو معارضة؟ فزعم قوم أنه معارضة، لأن المعترض يعارض دلالة المستدل بدلالة أخرى فحقيقة المعارضة موجودة فيه، وذكر لهذا الخلاف فوائد منها: أنه إذا قيل معارضة جازت الزيادة في علته كقوله في بيع الغائب: عقد معاوضة مقتضاه التأبيد، فلا ينعقد على خيار الرؤية

(3/355)


كالنكاح، وإن قيل: هو اعتراض لم تجز الزيادة، انتهى.
والفرق بين المعارضة والاعتراض أن المعارضة كدليل مستقل فلا يتعذر بدليل المستدل، بخلاف الاعتراض فإنه منع للدليل فتمتنع الزيادة عليه إذ يكون كالكذب على المستدل حيث يقول ما لم يقل ومنها إن قلنا: معارضة جاز قلبه من المستدل كما يعارض العلة كما سيأتي في بيع الفضولي، ومن قال: إنه اعتراض لم يجز ذلك، لأنه منع والمنع لا يمنع، ومنها إن قلنا: (إنه معارضة جاز أن يتأخر عن المعارضة لأنه كالجزء منها وإن قلنا) اعتراض لم يجز ووجب تقديمه عليها، لأن المنع مقدم على المعارضة، ومنها إن قلنا: معارضة قبلنا فيها الترجيح، وإن قلنا: اعتراض فلا، لأن المعارضة تقبل الترجيح كالدليل المبتدأ، والمنع لا يقبل الترجيح.
(ص): وعلى المختار فهو مقبول معارضة عند التسليم قادح عند عدمه، وقيل: شاهد زور لك وعليك.
(ش): أي إذا قلنا: إنه لا يفسد العلة، فإن كان لتسليم صحة الدليل فهو معارضة بقياس بجامع المستدل وأصله فيجاب عنه بالترجيح، وإن لم يكن فهو اعتراض قادح قال علماؤنا: المعارضة قد تكون لعلة أخرى وهي ما عدا القلب، وقد تكون لعلة المستدل نفسها وهي القلب، وتسمى مشاركة في الدليل، وقال الهندي: يمتاز القلب عن مطلق المعارضة بأمرين لا غير:
أحدهما: أنه لا يمكن فيه الزيادة في العلة، وسائر المعارضات يمكن.
وثانيهما: أنه لا يمكن منع وجود العلة في الفرع والأصل، لأن أصل القالب

(3/356)


وفرعه هما أصل المستدل وفرعه ويمكن ذلك في سائر المعارضات وقول المصنف: وقيل: شاهد زور هو القول الذي حكاه أولاً بالإفساد.
(ص): وهو قسمان الأول لتصحيح مذهب المعترض إما مع إبطال مذهب المستدل صريحاً كما يقال في بيع الفضولي: عقد في حق الغير بلا ولاية فلا يصح كالشراء، فيقال: عقد فيصح كالشراء أولاً مثل لبث فلا يكون بنفسه قربة كوقوف عرفة، فيقال: فلا يشترط فيه الصوم كعرفة).
(ص): القلب لتصحيح مذهب المعترض ضربان:
أحدهما: أن يدل مع ذلك على بطلان مذهب المستدل بالصراحة، كقولنا: في بيع الفضولي عقد في حق الغير بلا ولاية ولا نيابة فلا يصح، قياساً على ما إذا اشترى شيئاً لغيره بغير إذنه، فيقول الخصم: أنا أقل هذا الدليل، فأقول: تصرف في مال الغير بلا ولاية ولا نيابة فلا يقع عن أضافة =إليه كالشراء فإن الشراء لم يصح لمن أضيف له وهو المشتري له بل صح للمشتري وهو الفضولي.

(3/357)


والثاني: أن لا يدل مع ذلك على إبطال مذهب المستدل صريحاً كقول الحنفي في الاعتكاف: لبث في محل مخصوص فلا يكون قربة بنفسه كالوقوف بعرفة، وغرضه التعرض لاشتراط الصوم فيه، ولكنه لم يتمكن من (118/ز) التصريح باشتراطه إذ لو صرح به لم يجده أصلاً، فيقول الشافعي: لبث في محل مخصوص فلا يشترط فيه الصوم كالوقوف بعرفة، فقد تعرض للعلة بتصريحه بنقض المقصود وقد تكلم إمام الحرمين في هذا المثال، وقال: الصوم عبادة مستقلة، فوقوعه شرطاً بعيداً وليس تعبداً، فإن الإيمان مقصود في نفسه، وهو شرط في كل عبادة
(ص): الثاني لإبطال مذهب المستدل بالصراحة عضو وضوء فلا يكفي أقل ما يطلق عليه الاسم كالوجه، فيقال: فلا يتقدر غسله بالربع كالوجه، أو بالالتزام عقد معاوضة فيصح مع الجهل بالعوض كالنكاح فيقال: فلا يشترط خيار الرؤية كالنكاح.
(ش): القلب لإبطال مذهب المستدل ضربان: ضرب بالصراحة وضرب بالالتزام فالأول كقولك في مسح الرأس عضو وضوء فلا يكتفى فيه بأقل ما ينطلق عليه اسم المسح كغيره (من أعضاء الوضوء، فيقول الشافعي فلا يتقدر بالربع)

(3/358)


كغيره.
والثاني: كقوله في بيع الغائب، عقد معاوضة فيصح مع الجهل بالعوض كالنكاح، فيقول الشافعي: فلا يشترط فيه خيار الرؤية كالنكاح فقد تعرض لإبطال مذهب المستدل بالالتزام، لأنه أبطل لازم الصحة وهو خيار الرؤية لأن من قال في بيع الغائب بالصحة، قال بخيار الرؤية، فالخيار لازم للصحة، فإذا انتفى اللازم، وهو خيار الرؤية انتفى الملزوم وهو الصحة.
(ص): ومنه ـ خلافاً للقاضي ـ قلب المساواة مثل طهارة بالمائع، فلا تجب فيها النية كالنجاسة، فيقول: فيستوي جامدها ومائعها كالنجاسة.
(ش): يلحق بالقسم الآخر نوع يقال له قلب المساواة وهو أن يكون في الأصل قسمان.
أحدهما: منتف في الفرع باتفاق الخصمين، والآخر متنازع فيه بينهما فإذا أراد أن يثبته في الفرع قياساً على الأصل فيقول المعترض تجب التسوية بينهما في

(3/359)


الفرع بالقياس على الأصل، ويلزم من وجود التسوية في الفرع عدم ثبوته فيه كقولهم في نية الوضوء: طهارة بالماء فلا يفتقر إلى النية كإزالة النجاسة، فنقول يستوي جامدها ومائعها في النية كإزالة النجاسة، وقد اختلف فيه فذهب الأكثرون منهم الأستاذ أبو إسحاق وإمام الحرمين، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي إلى قبوله أيضاً وذهب القاضي أبو بكر، وابن السمعاني وطائفة ممن قبل أصل القلب إلى رده، لأنه لا يمكن التصريح فيه بحكم العلة، فإن الحاصل في الأصل نفي، وفي الفرع إثبات، ألا ترى المستدل يعتبر الوصفين في الأصل، والمعترض لا يعتبرهما، بمقتضى القلب، والأول هو المختار عند المصنف، فإن القياس على الأصل إنما هو حيث عدم الاختلاف، وهو ثابت فيه، فلا يضر كونه في الأصل الصحة، وفي الفرع عدمها، إذ هذا الاختلاف غير مناف لأصل الاستواء الذي جعل جامعاً.

(3/360)


(ص): ومنها: القول بالموجب وشاهده {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} في جواب {ليخرجن الأعز منها الأذل} وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع كما يقال في المثقل: قتل بما يقتل غالباً فلا ينافي القصاص كالإحراق، فيقال: سلمنا عدم المنافاة، ولكن لم قلت يقتضيه وكما يقال: التفاوت في الوسيلة لا يمنع القصاص كالمتوسل إليه، فيقال مسلم، ولكن لا يلزم إبطال مانع انقضاء الموانع ووجود (38/ك) الشرايط والمقتضى.
(ش): الموجب بفتح الجيم أي القول بما أوجبه دليل المستدل، واقتضاه، أما الموجب بكسرها فهو الدليل المقتضي للحكم، وهو غير مختص بالقياس ومنه الآية الكريمة، أي صحيح ما يقولونه من أن الأعز يخرج الأذل والنزاع باق فإن العزة لله ولرسوله فالله ورسوله يخرجانكم، وتعريف المصنف له: بتسليم الدليل تبع فيه ابن الحاجب.

(3/361)


وقال بعضهم: ينبغي أن يقال: تسليم مقتضى الدليل لأن تسليم الخصم، إنما هو لمقتضى الدليل وموجبه، لا لنفس الدليل إذ الدليل ليس مراداً لذاته، بل لكونه وسيلة إلى معرفة المدلول وهو أقسام.
أحدها: أن يستنتجه ما يتوهم أنه محل النزاع أو ملازمه، كقولنا في القتل بالمثقل، قتل بما يقتل غالباً، فلا ينافي وجوب القصاص كالإحراق، فيقول المعترض: عدم المنافاة ليست محل النزاع ولا تقتضيه، وأنا أقول بموجب ما ذكرته، وإنما النزاع في وجوب القصاص، وهو ليس عدم المنافاة ولا ملازمة.
الثاني: تستنتجه إبطال ما يتوهم أنه مأخذ مذهب الخصم، كقولنا في القتل بالمثقل أيضاً التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص، كالتفاوت في المتوسل إليه، فيقول الخصم: أنا أقول بموجب هذا الدليل وأن التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص، ولكن لا يلزم من ذلك وجوب القصاص الذي هو محل النزاع، إذ لا يلزم من إبطال كون التفاوت في الوسيلة مانعاً، انتفاء كل مانع لوجوب القصاص، فلا يلزم وجود جميع شرايطه، ووجود مقتضيه، فيجوز أن لا يجب القصاص لمانع آخر آو لفوات شرط، أو لعدم المقتضى.

(3/362)


(ص): والمختار تصديق المعترض في قوله: ليس هذا مأخذي.
(ش): لأنه أعرف بمذهبه، وقيل: لا يصدق إلا ببيان مأخذ آخر، إذ ربما كان ذلك مأخذه، ولكنه يعاند قصداً لإيقاف كلام خصمه، والصحيح الأول، كيف؟ وإنا لو أوجبنا عليه إبداء المأخذ فإن ملكنا المستدل من إبطاله لزم قلب المستدل معترضاً، والمعترض مستدلاً وإن لم نملكه فلا فائدة في إبداء المأخذ لإمكان ادعائه ما لا يصلح ترويجاً لكلامه.
(ص): وربما سكت المستدل عن مقدمة غير مشهورة مخافة المنع فيرد القول بالموجب.
(ش): من أنواع القول بالموجب أن يسكت عن الصغرى، وهي غير مشهورة كقول الشافعي في افتقار الوضوء إلى النية، ما ثبت أنه قربة فشرطه النية كالصلاة وسكت عن قوله والوضوء قربة مخافة المنع فيرد القول بالموجب، أي فيقول المعترض: أنا أقول بموجب ما ذكرته، ولكن مقدمة واحدة لا تنتج، فلا يثبت

(3/363)


مدعاك، فلو ذكرها فقال: والوضوء قربة، وكلما ثبت كونه قربة شرط النية كالصلاة، فينتج أن الوضوء شرط النية فلا يرد عليه إلا منع الصغرى (119/ز) أو الكبرى، فيقول: لا نعلم أن الوضوء قربة، ويكون حينئذ منعاً للصغرى لا قولاً بالموجب، وإنما قال: غير مشهورة، لأنها لو كانت مشهورة كانت بمنزلة المذكورة فيمتنع، أو كانت متفقاً عليها فلا يتأتى المنع أصلاً وإن صرح بذكرها.
فائدة: جعله القلب من مفسدات العلة ذكره الآمدي والهندي، ووجهوه بأنه إذا كان تسليم موجب ما ذكره من الدليل لا يرفع الخلاف علمنا أن ما ذكره ليس بدليل الحكم، ونازع المصنف في (شرح المنهاج) فيه، وقال: هذا التقرير يخرج لفظ القول بالموجب عن إجرائه على قضيته، بل الحق أن القول بالموجب تسليم له وهذا ما اقتضاه كلام الجدليين، وإليهم المرجع في ذلك، وحينئذ لا يتجه عده من مبطلات العلة، قلت: وبه صرح إمام الحرمين في (البرهان) فقال متى تحقق انقطع المستدل، وليس اعتراضاً في الحقيقة لاتفاق الخصمين فيه على صحة العلة، وإنما ينشأ من اعتناء المعلل بالموجب.

(3/364)


(ص): ومنها القدح في المناسبة وفي صلاحية إفضاء الحكم إلى المقصود، وفي الانضباط وفي الظهور، وجوابها بالبيان.
(ش): هذه أربعة قوادح في العلة، وإنما جمعها المصنف في موضع واحد لاختصاصها بالمناسبة.
أولها: القدح في المناسبة هو إبداء مفسدة راجحة أو مساوية لما مر أن المناسبة تنخرم بالمعارضة، وهذه المسألة عين تلك، فلا فرق وإنما أعيدت لتعداد صور القوادح وجوابه: بيان رجحان تلك المصلحة على تلك المفسدة تفصيلاً أو إجمالاً.
ثانيها: القدح في صلاحية إفضائه إلى المصلحة المقصودة من شرع الحكم له كما لو علل حرمة المصاهرة على التأبيد في حق المحارم بالحاجة إلى ارتفاع الحجاب المؤدي إلى الفجور فإذا تأبد التحريم انسد باب الطمع المفضي إلى مقدمات الهم، فيقول المعترض، بل سد باب النكاح أفضى إلى الفجور والنفس مائلة إلى الممنوع، وجوابه: بيان أن التأبيد يمنع عادة من ذلك لانسداد باب الطمع، فيصير بتطاول الأمر وتماديه كالطبيعي بحيث لا يبقى المحل مشتهى كالأمهات.
ثالثها: كون الوصف غير منضبط مثل الجرح يجعل علة للفطر، والمشقة في القصر، والزجر في التعذير فإنها لا تتميز، وتختلف بالأشخاص والأحوال والزمان، ولا يمكن تعيين القدر المقصود منها، وجوابه: ببيان أنه منضبط إما بنفسه كما يقول في المشقة والمضرة: إنه منضبط عرفاً، وإما بوضعه كالمشقة في السفر والزجر بالحد.

(3/365)


ورابعها: كون الوصف غير ظاهر كالرضى في العقود، والقصد في الأفعال الدالة على الإزهاق في وجوب القصاص فإن الحكم الشرعي خفي، والخفي لا يعرف الخفي، وجوابه: أن يبين ظهوره بصفة ظاهرة كضبط الرضى بما يدل عليه من الصيغ، وضبط القصد بفعل يدل عليه عادة كاستعمال الجارح والمثقل، ولما اشتركت هذه القوادح في أن جوابها بالبيان بالمعنى السابق جمع المصنف في الجواب بذلك.
(ص): ومنها الفرق، وهو راجع إلى المعارضة في الأصل أو الفرع، وقيل إليهما معاً والصحيح أنه قادح، وإن قيل: إنه سؤالان.
(ش): من القوادح في العلة الفرق بين الأصل والفرع فينقطع به الجمع كقول الحنفي في التبييت (39/ك) صوم عين فيتأدى بالنية قبل الزوال كالنفل فيقال: ليس المعنى في الأصل ما ذكرت، بل إن النفي يبنى على السهولة، فجاز بنية متأخرة بخلاف الفرض، وهو في التحقيق راجع إلى سؤال المعارضة في الأصل أو الفرع فحكمه رداً وقبولاً حكمها، واستغنى المصنف بذلك عن التعرض لتعريفه،

(3/366)


وفي جواب المستدل عنه وعند كثير من المتقدمين: هو معارضة في الأصل والفرع معاً، حتى لو اقتصر على أحدهما لا يكون فرقاً وذكر إمام الحرمين أنه وإن اشتمل على معارضة، لكن ليس المقصود منه المعارضة، وإنما الغرض منه المناقضة للجمع، فالكلام في الفرق وراء المعارضة وخاصيته وسر نفيه تناقض أصل الجمع، وقد رده من يقبل المعارضة، وأشار بقوله: والصحيح إلى أنه اختلف في قبوله على قولين:
أحدهما: أنه مردود فلا يكون قادحاً وعزاه ابن السمعاني للمحققين، وقال: إنه ليس مما يمس العلة التي نصبها المعلل بوجه ما ووجهه غيره بأن الوصف الواقع فرقاً إن استقل بالمناسبة فهو علة أخرى ولا تناقض بينهما، وإن لم يستقل، بل كان محل المصلحة، فلا حاجة إلى هذه الزيادة، بل المستقل هو المعتبر وأصحهما: أنه مقبول لأنه على أي وجه ورد يوهن غرض المستدل من الجميع، ويبطل مقصوده، وذكر الشيخ أبو إسحاق في (الملخص): أنه أفقه شيء يجري في النظر، وبه يعرف فقه المسألة،

(3/367)


وذكر إمام الحرمين أنه الذي عليه جماهير الفقهاء لأن شرط علة الخصم خلوها من المعارض، والحق أنه إن كان معارضة في الفرع فهو قادح قطعاً، وإن كان في الأصل انبنى على التعليل بعلتين: فمن منع رآه اعتراضاً قادحاً وإلا للزم تعدد العلة، ومن لم يمنعه لم ير ذلك قادحاً، إذ لا امتناع في إبداء معنى آخر، واجتماع علتين القدر المشترك والتعيين الخاص وقوله: وإن قيل إنه سؤالان، إشارة إلى الخلاف في أنه سؤال واحد أو سؤالان فقال ابن سريج: إنه سؤالان لاشتماله على معارضة علة الأصل بعلة، ثم معارضة علة الفرع بعلة مستنبطة في جانب الفرع، وقيل: سؤال واحد لاتحاد المقصود منه، هو قطع الجمع فإن قلنا بهذا: فهو مقبول قطعاً، وإن قلنا: سؤالان ففي قبوله خلاف فمنهم من منعه لجمعه بين أسئلة مختلفة المراتب، فإنه منع لعلة الأصل، فهو سؤال مستقل وإبداء لعلة أخرى موجودة في الأصل، وهو المعارضة في الأصل، وموجودة في الفرع وهي المعارضة في الفرع، وكل واحد منها سؤال مستقل فلا وجه للجمع فينبغي أن يورد كل سؤال على حياله، والصحيح (120/ز) القبول، وجاز الجمع بينهما لأنه أضبط للغرض، وأجمع لشعب الكلام، وقال إمام الحرمين: حاصل القول في مذهب الجدليين يؤول إلى ثلاثة مذاهب:
أحدها: رده، وإنما يستمر مع القول برد المعارضة في الأصل والفرع وهو

(3/368)


مذهب ساقط.
والثاني: ويعزى إلى ابن سريج واختاره الأستاذ أبو إسحاق أن الفرق ليس سؤالاً على حياله، وإنما هو معارضة معنى الأصل بمعنى، ومعارضة الفرع بعلة مستقلة، ومعارضة العلة بعلة مقبولة وإن تردد في معارضة.
والثالث: وهو المختار عندنا وارتضاه كل من ينتمي إلى التحقيق أنه صحيح مقبول، وإن اشتمل على معنى معارضة الأصل ومعارضة علة الفرع بعلة، فليس المقصود منه المعارضة، بل مناقضة الجمع إذا علمت هذا فالقائل بأنه سؤالان لم يقبله على أنه فرق بل معارضة، فكلام المصنف ينخدش بهذا.
(ص): وأنه يمتنع تعدد الأصول للانتشار، وإن جوز علتان.
(ش): القائلون بأنه من القوادح اختلفوا في أنه هل يجب على الفارق نفيه عن الفرع فمنهم: من أوجبه لأن قصده افتراق صورتين، وقيل: لا يجب، وقيل: بالتفصيل إن صرح في أفراد الفرق بالافتراق بين الأصل والفرع فلا بد من نفيه عنه، وإن لم يصرح بل قصد المعارضة، ودليله غير تام فلا، وقال المقترح: إنه أقرب إلى الصواب، هذا إذا كان المقيس عليه واحداً منهما وهو المختار عند المصنف، وإن جوزنا علتين، ومنهم من جوز ذلك لما فيه من تكثير الأدلة هو أقوى في إفادة الظن.
(ص): قال المجيزون: ثم لو فرق بين الفرع وأصله منها كفاه وثالثها

(3/369)


إن قصد الإلحاق بمجموعها (ثم في اقتصار المستدل على جواب أصل واحد قولان).
(ش): المجوزون للتعداد اختلفوا في أنه إذا فرق المعترض بين واحد وبين الفرع هل يكفيه ذلك أم لا؟
والأصح كما قاله الهندي: الاكتفاء، لأن إلحاق الفروع بتلك الأصول بأسرها غرض المستدل وإلا لم يعدده، وهو غير حاصل ضرورة أنه لم يكن ملحقاً بالأصل الذي فرق المعترض بينه وبين الفرع فلم يكن ملحقاً به بأسرها.
والثاني: لا يكفيه بل يحتاج إلى أن يفرق بين الفرع وبين كل واحد من تلك الأصول ثم اختار الهندي تفصيلاً.
ثالثاً: وهو أنه إن كان غرض المستدل من الأقيسة المتعددة إثبات المطلوب بصفة الرجحان، وغلبة الظن المخصوص، فالفرق المذكور قادح في غرضه ومحصل لغرض المعترض، وإن كان غرضه إثبات أصل المطلوب أو إثباتها برجحان ما فيها في قياس واحد أو التزامه سليماً عن الفرق لم يقدح ذلك في غرضه، ولا يحصل به غرض المعترض.

(3/370)


(ص): ومنها فساد الوضع بأن لا يكون الدليل على الهيئة الصالحة لاعتباره في ترتيب الحكم كتلقي التخفيف من التغليظ والتوسيع من التضييق والإثبات من النفي مثل: القتل جناية عظيمة فالتكفير كالردة.
(ش): ينبغي أن تعرف أولاً وضع القياس حتى تسهل معرفة فساد وضعه، فإن معرفة الضد تعين على معرفة الضد الآخر، وصحة وضع القياس أن يكون (40/ك) على هيئة صالحة، بحيث يترتب عليه ذلك الحكم المطلوب إثباته، وحينئذ ففساد الوضع أن يكون على هيئة غير صالحة لأن يترتب عليه ذلك الحكم، سواء كان على هيئة تصلح لأن يترتب عليه ضد ذلك الحكم من النفي أو الإثبات أو التخفيف أو التغليظ كما إذا كان المذكور في القياس وصفاً مشعراً بضد ذلك الحكم أو لم يصلح لذلك أيضاً كما إذا كان المذكور في القياس وصفاً لا يصلح للعلية كالطردي فمثال تلقي التخفيف من التغليظ: قول الحنفي القتل العمد جناية عظيمة فلا يجب فيه الكفارة، كما في غيره من الكبائر نحو الردة والفرار من

(3/371)


الزحف، فإن كونه جناية عظيمة يناسب التغليظ لا التخفيف، ومثال التوسيع من التضييق: كقولهم في أن الزكاة على التراخي مال وجب على وجه الإرفاق لدفع الحاجة، فكان على التراخي كالدية على العاقلة، فإن كونه وجب لدفع الحاجة يقتضي أن يكون واجباً على الفور لا التراخي ومثال الإثبات من النفي: قولنا في بيع المعاطاة في المحقرات: بيع لم يوجد فيه سوى الرضى فوجب أن لا ينعقد كما في غير المحقرات، فإن حصول الرضى مما يناسب الانعقاد لا عدمه.

(3/372)


(ص): ومنه كون الجامع ثبت اعتباره بنص أو إجماع في نقيض الحكم.
(ش): أي أن المقيس عليه يشعر بنقيض الحكم كقول الحنفي في تنجيس سؤر السباع: سبع ذو ناب فكان سؤره نجساً كالكلب فيقول: علقت على العلة ضد مقتضاها لأن كونه سبعاً علة للطهارة بدليل أنه صلى الله عليه وسلم دعي إلى دار قوم فأجاب دون دار آخرين، فقال: ((إن في دراهم كلباً)) قيل: وفي دار الذين أجبتهم هرة، فقال: ((الهرة سبع)) فجعل السبع علة للطهارة.
واعلم أن ابن الحاجب لم يذكر لفساد الوضع غير هذا القسم فكأن المصنف

(3/373)


قصد التنبيه على الاعتراض عليه في اقتصاره على نوع منه، وتفسيره الكل بالجزء، وقال إمام الحرمين في (البرهان): فساد الوضع نوعان:
أحدهما: بيان أن القياس مخالف لمتمسك تقدم عليه لمخالفة النص.
والثاني: أن يشعر المعنى بنقيض الحكم، وهو أوضح فساداً من الطرد.
(ص): وجوابهما بتقرير كونه كذلك.
(ش): أي جواب النوعين بتقرير المدعى أما في الأول: فلأنه قد يكون للوصف وجهتان يناسب بإحداهما التغليظ، والأخرى التخفيف، وأما الثاني فبأن يمنع كون علته تقتضي نقيض ما علق عليه، أو نسلم ذلك، ولكن تبين وجود مانع في أصل المعترض.
(ص): ومنها فساد الاعتبار بأن يخالف نصاً أو إجماعاً، وهو أعم من فساد الوضع وله تقديمه على المنوعات وتأخيره.
(ش): النص يشمل الكتاب والسنة، مثال ما خالف الكتاب: (121/ز) قولنا: في التبييت صوم مفروض فلا يصح بنية من النهار كالقضاء، قال: هذا فاسد الاعتبار لمخالفة قوله تعالى: {والصائمين والصائمات} فإنه يدل على أن كل من صام يحصل له الأجر العظيم وذلك يستلزم الصحة.

(3/374)


ومثال ما خالف السنة: قولنا: لا يصح السلم في الحيوان لأنه عقد يشتمل على الضرر فلا يصح كالسلم في المختلطات فيقال: هذا فاسد الاعتبار لمخالفته ما روي أنه صلى الله عليه وسلم رخص في السلم ومثال ما خالف الإجماع، قول الحنفي: لا يجوز للرجل أن يغسل زوجته لأنه يحرم النظر إليها كالأجنبية فيقال: هذا فاسد الاعتبار لمخالفته الإجماع السكوتي وهو أن علياً

(3/375)


رضي الله عنه غسل فاطمة رضي الله عنها.
واعلم أن اقتصار المصنف على تفسيره المخالفة بالنص أو الإجماع غير واف بحقيقته، بل منه كما قال الهندي وغيره: أن يكون أحد مقدماته مخالفاً للنص أو الإجماع، أو كان الحكم مما لا يمكن إثباته بالقياس كإلحاق المصراة، بغيرها من المعيب في حكم الرد وعدمه ووجوب بدل لبنها الموجود في الضرع، لأن هذا القياس مخالف لصريح النص الوارد فيها، أو كان تركيبه مشعراً بنقيض الحكم المطلوب سمي بذلك لأن اعتبار القياس مع مخالفته النص أو الإجماع اعتبار له مع دليل أقوى

(3/376)


منه، وهو اعتبار فاسد لحديث معاذ فإنه أخر الاجتهاد عن النص وقوله: (وهو أعم جواب= عن سؤال مقدر، وهو أن هذا النوع يؤول إلى ما قبله لاشتراكهما في أنه اجتهاد في مقابلة النص فما وجه تميزه عنه، وأجاب بأن بينهما عموم وخصوص مطلقاً، وهذا أعم فإن من جملة أقسام فاسد الاعتبار: كون تركيبه مشعراً بنقيض الحكم المطلوب، وهذا قاله الجدليون في ترتيب الأسئلة، قالوا: يقدم بعد الاستفسار سؤال فساد الاعتبار، لأنه نظر في فساد القياس من حيث الجملة، وهو قبل النظر في تفصيله، ثم سؤال فساد الوضع لأنه أخص من فساد الاعتبار، لأن فساد وضع القياس يستلزم عدم اعتبار القياس لأنه قد يكون بالنظر إلى أمر خارج عنه.

(3/377)


واعلم أن الأعمية ذكرها الصفي الهندي أيضاً، ولكن ظاهره على تفسيره فساد الاعتبار بما ذكرنا، وأما على تفسير المصنف لمخالفة النص أو الإجماع، وتفسير فساد الوضع بأن لا يكون على الهيئة الصالحة، وبأن يعتبر الجامع في نقيض الحكم فهذا يقتضي أن فساد الوضع أعم فلينظر، وللمستدل تقديم هذا السؤال على سؤال المنوعات لأنه لما كان فاسد الاعتبار أغنى ذلك عن منع مقدماته، وله أن يؤخره لأن المستدل يطالب أولاً بتصحيح مقدمات ما ادعاه من صحة القياس، فإذا قام به فبعد ذلك إن أمكن إثبات مقتضاه أثبت وإلا رد لعدم اعتباره.

(3/378)


(ص): وجوابه الطعن في سنده أو المعارضة له أو منع الظهور أو التأويل.
(ش): للجواب عن هذا السؤال طرق منها: الطعن في النص الذي ادعى أن القياس على خلافه إما بمنع صحته لضعف إسناده، وإما بمنع دلالته ولهذا أطلق ابن الحاجب الطعن وقيده المصنف (41/ك) بالسند، وحمله في شرحه كلام ابن الحاجب عليه وليس كذلك.
ومنها: المعارضة بنص آخر مثله حتى يتساقطا، فيسلم قياسه.
ومنها: منع ظهور دلالته ما يلزم منه فساد القياس.
ومنها: إن سلم ظهوره أن يدعي أنه مؤول بدليل يرجحه على الظاهر، وهذا الذي ذكره المصنف ليس للحصر.

(3/379)


فمنها: القول بالموجب بأن يبقيه على ظاهره، ويدعي أن مدلوله لا ينافي القياس، وغير ذلك.
(ص): ومنها منع علية الوصف ويسمى المطالبة بتصحيح العلة، والأصح قبوله.
(ش): من القوادح منع كون الوصف علة، وهو من أعظم الأسئلة لعمومه في كل ما يدعى عليته، ويسمى المطالبة بتصحيح العلة بل إذا أطلق في عرفهم المطالبة لم يفهم سواه، ومتى أريد غيره ذكر مقيداً قيل المطالبة بكذا، واختلف فيه فقيل لا يقبل وإلا أدى إلى الانتشار وعدم الضبط، والأصح نعم وإلا أدى الحال إلى اللعب في التمسك بكل وصف طردي.
(ص): وجوابه بإثباته.
(ش): جواب هذا السؤال بأن يثبت المستدل علية الوصف بأحد المسالك من

(3/380)


الإجماع أو النص والمناسبة والسبر غيره.
(ص): ومنه منع وصف العلة كقولنا في إفساد الصوم بغير الجماع الكفارة للزجر عن الجماع المحذور في الصوم فوجب اختصاصها به كالحد فيقال: بل عن الإفطار المحذور منه.
(ش): من جملة المنوع القوية منع وصف العلة، كقولنا: في إفساد صوم رمضان بالأكل والشرب: لا يوجب الكفارة لأنها شرعت زجراً عن ارتكاب الجماع الذي هو محذور الصوم، فوجب أن يختص به كالحد، فيقول المعترض: لا نسلم أن الكفارة شرعت زجراً عن الجماع الذي هو محذور الصوم لخصوصيته بل زجراً عن الإفطار الذي هو محذور الصوم، وهو شامل للموضعين أعني الجماع والإفطار.

(3/381)


(ص): وجوابه تبيين اعتبار الخصوصية، وكأن المعترض ينقح المناط والمستدل يحققه.
(ش): جوابه أن يبين أن ذلك الوصف حاصل في العلة، لأنه عليه الصلاة والسلام رتب الكفارة على الجماع، لأن الأعرابي لما سأله عن ذلك، أوجب عليه الكفارة فكان نازلاً منزلة قوله: جامعت في نهار رمضان فكفر، وترتب الحكم على الوصف يشعر بالعلية، فوجب أن تكون العلة هي الجماع بخصوصيته لا الإفطار بعمومه، لأنه ترتب على عموم الإفطار، وكأن المعترض ينقح المناط لأنه حذف خصوص الجماع، وأناط بالأعم وهو الإفطار: والمستدل يحققه، أي يحقق وصف الخصوصية المتنازع فيه، ولك أن تقول: كل منهما من مسالك العلة وذلك يؤدي إلى التوقيف للتعارض، وجوابه أن التحقيق يترجح لأنه يرفع النزاع.
(ص): ومنع حكم الأصل، وفي كونه قطعاً للمستدل مذاهب ثالثها: قال: الأستاذ: إن كان ظاهراً وقال الغزالي: يعتبر (122/ز) عرف المكان، وقال أبو إسحاق الشيرازي لا يسمع.
(ش): مثال منع حكم الأصل: قول الشافعي: الخل مائع لا يرفع حكم الحدث، فلا يزيل حكم النجاسة كالدهن، فيقول الحنفي: لا أسلم الحكم في

(3/382)


الأصل: فإن الدهن عندي مزيل لحكم النجاسة، واختلفوا في أن هذا بمجرده، هل يكون قطعاً للمستدل؟ على مذاهب:
أصحها: ليس قطعاً له، لأنه منع مقدمة من مقدمات القياس، فيمكن إثباته كسائر المقدمات.
والثاني: ينقطع لأنه انتقال من حكم الفرع إلى حكم الأصل فلا يتم مقصوده فينقطع.
والثالث: إن كان المنع جلياً بحيث يعرفه أكثر الفقهاء صار منقطعاً في بناء الفرع عليه، لأنه بنى المختلف فيه على المختلف فيه وإن كان المنع خفياً لا يعرفه إلا الخواص فلا، وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق، نقل ابن برهان في (الأوسط) عنه أنه استثنى من الجلي ما إذا تقدم منه في صدر الاستدلال بهذه الشريطة بأن يقول:

(3/383)


إن سلمت، وإلا نقلت الكلام إليه فلا يعد منقطعاً وهذا وارد على نقل المصنف.
والرابع: يتبع في ذلك عرف المكان فإن عدوه منقطعاً فذاك وإلا لم ينقطع، قالوا: وللجدل عرف ومراسم في كل مكان فيتبع، ونقل عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أن سؤال المنع لا يسمع ولا يجب عليه ذكر الدلالة على الحكم أيضاً، بل له أن يقول: أنا قست على أصلي، وهو بعيد، لأن القياس على أصل غير ثابت حكمه عند الخصم لا بطريق الاعتقاد ولا بطريق الدلالة على علية، لا ينهض دليلاً على الخصم، نعم يستقيم ذلك إذا فرع على مذهب نفسه، لكن لا يتصور في ذلك منع، ولا تسليم وما نقله المصنف عن الشيخ أبي إسحاق تابع فيه ابن الحاجب وغيره، ولكن الموجود في الملخص له سماع المنع، ثم كان ينبغي أن يعكس فيحكي الخلاف في أنه هل يسمع أم لا؟ وإذا قلنا: بالسماع فهل ينقطع أم لا؟
(ص): فإن دل عليه لم ينقطع المعترض على المختار، بل له أن يعود ويعترض.
(ش): إذا قلنا إن المنع يسمع وعلى المستدل إقامة الدليل عليه، فإذا أقام الدلالة، فقيل ينقطع المعترض بمجرد الدلالة لأن اشتغاله بالاعتراض على دليل المنع خارج عن المقصود الأصلي، والمختار أنه لا ينقطع، بل للمعترض أن يعود ويعترض على دليل المنع محل المنع، إذ لا يلزم من وجود صورته دليل صحته.
(ص): وقد يقال: لا نسلم حكم الأصل، سلمنا ولا نسلم أنه مما يقاس فيه، (سلمنا ولا نسلم أنه معلل، سلمنا ولا نسلم أن هذا الوصف علته، سلمنا ولا نسلم وجوده فيه) سلمنا ولا نسلم أنه متعد، سلمنا ولا نسلم وجوده في الفرع.

(3/384)


(ش): هذه سبع اعتراضات، ثلاثة تتعلق بالأصل، ثلاثة بالعلة وواحدة بالفرع، وعلم من إيرادها هكذا وجوب الترتيب، لأنه المناسب للترتيب الطبيعي فيقدم من الاعتراضات ما يتعلق بالأصل من منع حكمه أو كونه مما لا يقاس عليه، أو ليس بمعلل وغيره، ثم بعده العلة لأنها كمستنبطة منه فتكون فرعاً عليه فيمنع وجودها في الأصل، أو كونه غير متعد أو ظاهر أو منضبط، ثم بعد ما يتعلق بالفرع لانبنائه عليهما كمنع وجود العلة في الفرع، ومخالفة حكمه حكم الأصل وسؤال القلب وغيره.
(ص): (فيجاب بالدفع بما عرف من الطرق) ومن ثم عرف جواز إيراد المعارضات من نوع، وكذا من أنواع وإن كانت مترتبة أي يستدعي تاليها تسليم متلوه، لأن تسليمه تقديري، وثالثها التفصيل (42/ك).
(ش): علم مما سبق أمران.
أحدهما: الترتيب وقد ذكرناه.
وثانيهما: جواز إيراد المعارضات، وتفصيل القول بأنها كانت من نوع واحد بأن يورد نقوضاً كثيرة، أو معارضات في الأصل والفرع، فيجوز بلا خلاف، ولا يلزم منه تناقض، ولا انتقال من سؤال إلى آخر، بل الكل بمنزلة سؤال واحد، وإن كانت من أنواع مختلفة كالمنع والمطالبة والنقض والمعارضة نظر، فإن كانت غير مرتبة أي لا يستدعي تاليها تسليم متلوه كالنقض مع عدم التأثير فإن كلا منهما يقدح

(3/385)


في أن الوصف ليس بعلة ولا ترتيب بينهما إذ يجوز أن يقال: ما ذكرت من الوصف ليس بعلة لأنه منقوض أو غير مؤثر، فالجمهور على جواز التعدد لما سبق، ومنع منه أهل سمرقند للانتشار وأوجبوا الاقتصار على سؤال واحد، قال الهندي: ويلزمهم ذلك في النوع الواحد، ولهم أن يفرقوا فإن الانتشار في المختلفة أكثر منه في المتفقة، فلا يلزم من ذلك المنع عند الكثرة المنع عند القلة، وإن كانت مرتبة، أي يستدعي تاليها تسليم متلوه كالمعارضة مع منع وجود الوصف في الأصل، فإن المعارضة إنما تكون بعد تسليم وجود الوصف في الأصل، فالجمهور على المنع لما فيه من التسليم المتقدم، فإن السؤال الثاني يتضمن تسليم الأول، والثالث يتضمن تسليم الثاني، وهلم جرا، لأنك تقول: لا نسلم ثبوت الحكم في الأصل، ولئن

(3/386)


سلمناه، فلا نسلم أن العلة فيه ما ذكره ففي الآخر تسليم الأول فتعين الآخر للجواب، فلا يستحق ما قبله الجواب، والمختار الجواز قال الهندي وهو الحق وعليه العمل في المصنفات، لأن التسليم ليس بتحقيقي بل تقديري، ومعناه ولو سلم الأول فالثاني وارد وذلك لا يستلزم التسليم في نفس الأمر، وعلى هذا فيجب ترتيب الأسئلة، وإلا كان إيرادها بلا ترتيب منعاً بعد تسليم، فإنك لو قلت: لا نسلم أن الأصل معلل بكذا فقد سلمت ضمناً ثبوت الحكم، فكيف تمنعه بعد؟ ومن هذا الخلاف في المسألتين، أعني في الأنواع المترتب وغيرها يجمع مذاهب.
ثالثها: التفصيل فيجوز في المترتبة، ويمنع في غيره.
(ص): ومنها اختلاف الضابط في الأصل والفرع لعدم الثقة بالجامع وجوابه: بأن القدر المشترك أو بأن الإفضاء سواء، لا إلغاء التفاوت.
(ش): حاصل (123/ز) هذا السؤال يرجع إلى منع وجود علة الأصل في الفرع، مثاله: قولنا في شهادة الزور بالقتل: تسببوا بالشهادة إلى القتل عمداً فوجب عليهم القصاص كالمكره فيقول المعترض: الضابط في الفرع الشهادة، وفي

(3/387)


الأصل الإكراه، فلا يتحقق التساوي بينهما في ضبط الحكمة، فلا يصح الإلحاق ولم يحك المصنف تبعاً لابن الحاجب خلافاً في كونه قادحاً، وحكى أبو العز في (شرح المقترح) في قبوله قولين، قال: ومدار الكلام فيه ينبني على شيء واحد وهو أن المعتبر في القياس القطع بالجامع أو ظن وجود الجامع كاف، وينبني على ذلك القياس في الأسباب، فمن اعتبر القطع منع القياس فيها، إذ لا يتصور عادة القطع بتساوي المصلحتين، فلا يتحقق جامع بين الوصفين باعتبار يثبت حكم السببية بكل واحد منهما، ومن اكتفى بالظن صحح ذلك، إذ يجوز تساوي المصلحتين، فيتحقق الجامع، ولا يمنع القياس ولم يذكر المصنف اختلاف جنس المصلحة، كما فعل ابن الحاجب بهذا السؤال عنه، لأن تعدد الضابط في الأصل والفرع تارة يكون مع اتحاد المصلحة، وتارة يكون مع اختلافها، فإذا قدح مع الاتحاد فلأن يقدح مع اختلاف الجنس في التأثير فإنه يحصل جهتين في التفاوت، جهة في كمية المصلحة ومقدارها، وجهة في إفضاء ضابطها إليها، فالتساوي يكون أبعد.
وجوابه بأن يبين أن الجامع هو عموم ما اشترك فيه الضابطان بين التسبب المضبوط عرفاً، وإما بأن يبين أن إفضاء الضابط في الفرع إلى المقصود مثل: إفضاء ضابط الأصل إليه أو أرجح وهو معلوم من اقتصار المصنف على

(3/388)


المساواة من باب أولى، وقوله ولا إلغاء التفاوت أي لا يفيد قوله إن التفاوت في الصورتين ملغى، مراعاة لحفظ النفس كما ألغي التفاوت بين قطع الأنملة إذا أسرى إلى النفس، وقطع الرقبة في وجوب القصاص لحفظ السبب، وإن كان قطع الرقبة أشد إفضاء، وإنما لم يفده ذلك لأنه من إلغاء تفاوت القابل إلغاء كل تفاوت.
(ص): والاعتراضات راجعة إلى المنع.
(ش): قال الجدليون: الاعتراضات ترجع إلى المنع في المقدمات أو المعارضة في الحكم لأنه متى قصد الجواب عنها تم الدليل، ولم يبق للمعترض مجال فيكون ما سواهما من الأسئلة باطلاً، فلا يسمع، وقال المصنف: لقائل أن يقول كلها راجعة إلى المنع وحده، لأن المعارضة منع العلة عن الجريان.
قلت: وهذا صار إليه بعض الجدليين، فقال: إن المعارضة ترجع إلى المنع فعلى هذا تكون سائر الاعتراضات ترجع إلى المنع، واستثنى بعضهم الاستفسار لأنه طلب بيان المراد من اللفظ ويمكن رجوعه إلى المنع، لأن الكلام إذا كان مجملاً لا يحصل غرض المستدل إلا بتفسيره، فالمطالبة بتفسيره يستلزم منع تحقق الوصف، ومنع لزوم الحكم عنه.

(3/389)


(ص): ومقدمها الاستفسار وهو طلب ذكر معنى اللفظ حيث غرابة أو إجمال.
(ش): هو استفعال من الفسر وهو لغة: طلب الكشف والإظهار، ومنه التفسير لأنه يفسر عن باطن الألفاظ، وفي الاصطلاح ما ذكره المصنف فأما الغرابة فتارة تكون بحسب الاصطلاح، بأن يذكر في القياس الفقهي لفظ الدور والتسلسل والهيولي والمادة والمبدأ، والغاية ونحوه من اصطلاح المتكلمين، فيقول مثلاً: في شهود القتل إذا رجعوا لا يجب القصاص، لأن وجوب القصاص تجرد مبدؤه عن غاية مقصودة فوجب أن لا يثبت، فإن لفظ المبدأ، والغاية باصطلاح المتكلمين أشبه منهما باصطلاح الفقهاء، إلا أن يعلم من خصمه معرفة ذلك فلا غرابة، وتارة يكون

(3/390)


بحسب الوضع (43/ك) بذكر وحشي الألفاظ، كقوله: لا يحل السيد يعني الذئب فيقال: ما تعني بذلك، وأما الإجمال، فلأنه لا يفيد معنى معيناً، مثل أن يقول يجب على المطلقة أن تعتد بالأقراء فيقول، ما تعني بالأقراء، وقول المصنف: حيث غرابة أو إجمال لا ينحصر في ذلك، وقد قال القاضي: ما ثبت فيه الاستبهام صح عنه الاستفهام، حكاه ابن الحاجب في مختصره الأكبر عنه، وإنما كان هذا مقدم الاعتراضات لأنه إذا لم يعرف مدلول اللفظ استحال منه المنع أو المعارضة، وكان شيخنا عماد الدين الإسنوي رحمه الله يقول: في كون الاستفسار من جملة الاعتراضات: نظر، إذ الاعتراض: عبارة عما يخدش به كلام المستدل،

(3/391)


والاستفسار ليس من هذا القبيل، بل هو معرف المراد، ومبين له ليتوجه عليه السؤال، فإذا هو طليعة السؤال، وليس بسؤال، قلت: وحكى الهندي عن بعض المتأخرين من الجدليين أنه أنكر هذا السؤال.
(ص): والأصح أن بيانهما على المعترض ولا يكلف بيان تساوي المحامل، ويكفيه أن الأصل عدم تفاوتهما.
(ش): على المعترض بيان اشتمال اللفظ على إجمال أو غرابة ليصح منه الاستفسار فتثبت، الغرابة بعدم شهرته لغة أو شرعاً، وإجماله بصحة وقوعه على متعدد، وقيل بل على المستدل، لأن شرط الدليل عدم إجماله أو غرابته فليكن عليه، والصحيح الأول، لأن الأصل، عدم الإجمال والغرابة، فليبرهن عليه المعترض، ولا يكلف بيان تساوي المحامل، أي تساوي إطلاق اللفظ على المعاني المتعددة من المقصودة وغيره لأنه يعسر عليه ذلك، وقوله: ويكفيه أي في البيان أن يقول:

(3/392)


التفاوت بينهما يستدعي ترجيحاً بأمر والأصل عدم ذلك الأمر وهذا تابع فيه ابن الحاجب فإنه قال: إنه جيد، وفي (جودته نظر فإنا لا نسلم أن الأصل عدمه، بل وجوده لأن ذلك الأمر المرجح هو الأصل عدم الإجمال) والأصل وجوده فإذا ثبت أن الأصل عدم الإجمال فيثبت مقابله، وهو الظهور، فتسقط جودة هذا الدليل ويبقى سؤال الاستفسار وارداً.
(ص): فيبين المستدل عدمهما أو يفسر اللفظ بمحتمل قيل: وبغير محتمل، وفي قبول دعواه (124/ ز) الظهور في مقصده دفعاً للإجمال لعدم الظهور في الآخر خلاف.
(ش): جواب المستدل أن يبين عدم الإجمال والغرابة بطريقه فيثبت ظهور اللفظ في مقصده بالنقل عن أهل اللغة أو الشرع أو بالعرف، أو يفسره بمحتمل في اللغة أو العرف، فإن فسره بما لا يحتمل ذلك، وهي المسألة المعروفة بالعناية، فقد: قيل يقبل لأن غاية الأمر أنه ناطق بلغة جديدة قال الجوادي: وهو الحق

(3/393)


والأصح عند كثيرين المنع لأن مخالفة ظاهر اللفظ من غير قرينة بعيد عن الإرشاد، والمناظرة ينبغي أن تكون على وجه يحسم مادة العناد، وفي قبوله فتح باب لا ينسد ولو قال المستدل الأصل خلاف الإجمال فيلزم ظهور اللفظ فيما قصدت لأنه غير ظاهر في معنى آخر اتفاقاً إذ هو مجمل عندك، وعندي ظاهر فيما ادعيته دون غيره فقد صوبه بعض الجدليين دفعاً للإجمال، ومنعه آخرون: لأنه لا يلزم من عدم ظهوره في الآخر ظهوره في مقصوده، لجواز عدم الظهور فيهما جميعاً.
(ص): ومنها التقسيم: وهو كون اللفظ بين أمرين أحدهما: ممنوع والمختار وروده.
(ش): التقسيم في الاصطلاح، تردد اللفظ بين احتمالين متساويين أحدهما: مسلم لا يحصل المقصود، والآخر ممنوع وهو يحصل المقصود، وأهمل المصنف

(3/394)


تبعاً لابن الحاجب كون الممنوع هو المحصل للمقصود ولا بد له منه، لأن كلاهما لو كانا مسلمين يحصلان المقصود أو لا يحصلانه لم يكن للتقسيم معنى لأن المقصود حاصل على التقديرين أو غير حاصل على التقديرين، نعم لو كانا يحصلان المقصود ويرد على أحدهما من القوادح بخلاف ما يرد على الآخر، كان من التقسيم أيضاً لأنه له حينئذ غرضاً صالحاً في التقسيم.
مثاله: أن يستدل على ثبوت حصول الملك للمشتري في زمن الخيار بأنه وجد سبب ثبوت الملك للمشتري، فوجب أن يثبت وتبين وجود السبب بالبيع الصادر من الأهل المضاف إلى المحل، فيعترض بأن بالسبب مطلق البيع، أو البيع المطلق الذي لا شرط فيه، والأول ممنوع، والثاني مسلم، لكنه مفقود في صورة

(3/395)


النزاع، ضرورة أنه مشروط بالخيار.
وقول المصنف: متردد بين أمرين (أي على السواء، إذا لو كان ظاهراً في أحدهما وجب تنزيله على ما هو الظاهر فيه وقوله (بين أمين) ليس لشرط، بل إن كان متردداً بين ثلاثة فصاعداً جاز، كما لو استدل في المرأة بأنها بالغة عاقلة، فيصح منها إنكاح، كالرجل، فيقول المعترض: ما الذي تعني بالعاقلة؟ التي لها التجربة، أو التي لها حسن الرأي والتدبير، أو التي لها عقل غريزي، والأول والثاني ممنوع، والثالث مسلم، ولكن لم يكف، إذ للصغيرة عقل غريزي، ولا يصح منها النكاح، ثم اختلفوا في هذا الاعتراض، فقيل: لا يرد، وسؤال الاستفسار كان، والمختار وروده لكن بعدما يبين المعترض الاحتمالين.

(3/396)


(ص): وجوابه أن اللفظ موضوع ولو عرفا أو ظاهر ولو بقرينة في المراد.
(ش): جواب هذا السؤال بأمور:
أحدها: أن يبين أن اللفظ موضوع لهذا المعنى المقصود إثباته بالنقل عن أئمة اللغة، أو بالاستعمال، فإنه دليل الحقيقة.
ثانيها: إن لم يمكن دعوى ذلك ادعى أنه ظاهر بحسب عرف الاستعمال كما في الألفاظ الشرعية والعرفية العامة والمجازات الراجحة بعرف الاستعمال.
ثالثها: أن يدعي ظهور أحد احتمالي اللفظ بسبب ما انضم إليه من القرينة من لفظ المستدل إن كان هناك قرينة لفظية وإلا فيدعي قرينة عقلية أو حالية.
فائدة: لا نظن أن المصنف أهمل التركيب فقد تقدم في شروط حكم الأصل: أنه راجع إلى منع حكم الأصل أو منع العلة أو وجودها، ولا التعدية، وتعدد الوضع واختلاف جنس المصلحة لرجوعها إلى المعارضة، فإنها معارضة خاصة.
(ص): ثم المنع لا يعترض الحكاية بل الدليل، إما قبل تمامه لمقدمة منه أو بعده: والأول إما مجرد أو مع المستند كلا نسلم ولم لا يكون كذا أو إنما يلزم كذا، لو كان كذا وهو المناقضة فإن احتيج لانتفاء المقدمة فغصب لا يسمعه المحققون، والثاني إما مع منع دليل بناء على تخلف حكمه، فالنقض

(3/397)


الإجمالي، أو مع تسليمه والاستدلال بما ينافي ثبوت المدلول فالمعارضة فيقول: ما ذكرت وإن دل فعندي ما ينفيه وينقلب مستدلاً.
(ش): لما أنهى القوادح شرع في شرح ألفاظ يتداولها أهل الجدل، وذكر لها ضابطاً، وهو: أن المنع في الدليل إما أن يمنع قبل تمامه لمقدمة من مقدماته، أو بعده والأول إما أن يكون مجرداً عن المستند أو مع المستند وهو المناقضة، ولهذا قال الجدليون: المناقضة منع مقدمة الدليل سواء ذكر معنى المستند أو لم يذكر، قالوا: ومسند المنع هو ما يكون المنع مبنياً عليه لقوله: لا نسلم كذا أو لم لا يكون كذا، أو لا نسلم لزوم كذا وإنما يلزم هذا أن لو كان كذا، وأشار بقوله: وإن احتيج إلى تفسير الغصب أي غصب منصب التعليل، فهو عبارة عن تصدي المعترض لإقامة دليل على فساد مقدمة من مقدمات الدليل، وهو غير مسموع عند النظار لاستلزامه الخبط في البحث، نعم يتوجه ذلك من المعترض بعد إقامة المستدل الدليل على تلك المقدمة.
والثاني: أي وهو المنع بعد تمامه، فإما أن يكون مع منع الدليل بناء على تخلف حكمه فهو النقض الإجمالي وإنما قيده بالإجمالي، لأن الجدليين عرفوا النقض: بتخلف الحكم عن الدليل ثم قسموه إلى إجمالي وتفصيلي فالإجمالي هو تخلف الحكم عن الدليل بالقدح في مقدمة من مقدماته (على التعيين والتفصيلي: هو تخلف الحكم عنه في مقدمة معينة من مقدماته) وإما أن يكون مع تسليم الدليل والاستدلال مما ينافي ثبوت المدلول فهو المعارضة فهي تسليم للدليل وممانعة لدلالته

(3/398)


(125/ز) وعلم منه أن المعارضة إنما تكون بعد تسليم الدليل، فلا يسمع منه بعدها منع، فضلاً عن سؤال الاستفسار، وتوجهه أن يقول المعترض: ما ذكره من الدليل، وإن دل على ما يدعيه فعندي ما ينفيه، أو يدل على نقيضه ويثبته بطريقته، وأشار بقوله: فينقلب مستدلاً، إلى الخلاف في قبوله فلم يقبله بعضهم لما فيه من انقلاب دست المناظرة ضرورة إذ يصير المستدل معترضاً والمعترض مستدلاً، ولأن وظيفة المعترض الهدم لا البناء والصحيح قبوله، لأنها بناء بالعرض، هدم بالذات، والمستدل مدع بالذات معترض بالعرض والمعترض عكسه، فصارا كالمتخالفين مثاله: المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه كالوجه فيعارضه قائلاً مسح فلا يسن تثليثه كالمسح على الخفين.
(ص): وعلى الممنوع الدفع بدليل فإن منع ثانياً فكما مر وهكذا وهلم إلى إفحام المعلم إن انقطع بالمنوع أو إلزام المانع بالانتهاء إلى ضروري أو يقيني مشهور.
(ش): (على المعلل وهو الممنوع دفع الاعتراض عنه بدليل ولا يكفيه المنع المجرد، فإن ذكر دليله، ومنع) ثانياً فكما سبق.

(3/399)


وهكذا إلى أن ينتهي الأمر إما إلى الإقحام أو الإلزام، والإفحام عندهم عبارة عن انقطاع المستدل بالمنع أو المعارضة، والالتزام: عبارة: عن انتهاء دليل المستدل إلى مقدمات ضرورية أو يقيني مشهور، يلزم المعترض الاعتراف به ولا يمكنه جحده فينقطع بذلك، فإذا الإلزام من المستدل للمعترض، والإفحام من المعترض للمستدل.
(ص): خاتمة: القيام مع الدين، وثالثها حيث يتعين.
(ش): الأقوال الثلاثة غريبة جداً وقد ظفرت بها في المعتمد لأبي الحسين فقال: وأما كون القياس دين الله فلا ريب فيه إذا عنى أنه ليس ببدعة، وإن أريد غير ذلك فعند الشيخ أبي الهذيل، لا يطلق عليه، وذلك لأن اسم الدين يقع على من هو ثابت مستمر، وأبو علي الجبائي يصف ما كان واجباً منه بذلك وبأنه إيمان دون ما كان منه ندباً، والقاضي عبد الجبار يصف بذلك واجبه ومندوبه، وكلام المصنف ظاهر في ترجيح مقالة عبد الجبار والحق إن عنوا الأحكام المقصودة لأنفسها بالوجوب والندب فليس القياس كذلك، فليس بدين، وإن عنوا ما تعبدنا

(3/400)


به فهو دين.
(ص): ومن أصول الفقه خلافاً لإمام الحرمين.
(ش): شبهته أن أصول الفقه: أدلته، وأدلته إنما تطلق على المقطوع بها والقياس لا يفيد إلا الظن، وهذا ممنوع لأن القياس، قد يكون قطعياً، سلمنا لكن لا نسلم أن أصول الفقه عبارة عن أدلته فقط وهذا ممنوع سلمنا لكن لا نسلم أن الدليل لا يقع إلا على المقطوع به.
(ص): وحكم المقيس، قال ابن السمعاني يقال: إنه دين الله تعالى وشرعه ولا يجوز أن يقال: قاله الله تعالى.

(3/401)


(ش): قال ابن السمعاني يقال: إنه دين الله تعالى أو دين رسول صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يقال: قول الله تعالى أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم.
(ص): ثم هو فرض كفاية يتعين على مجتهد احتاج إليه.
(ش): القياس فرض كفاية مع تعدد المجتهدين، وفرض عين على من تعين عليه الاجتهاد مع ضيق الوقت، ومندوب فيما يجوز حدوثه، ولم يحدث بعد كغيره من الأدلة الشرعية، لا سيما، وقد ورد قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} وقوله تعالى: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} والاعتبار اعتبار الشيء بغيره واجراء حكمه عليه والاستنباط إخراج المعنى المودع في النص، وقول معاذ: أجتهد برأيي عند فقد الكتاب والسنة وإن كان خبر واحد تكلم في سنده، لكن العلماء تلقوه بالقبول.
(ص): وهو جلي وخفي، فالجلي: ما قطع فيه بنفي الفارق أو كان

(3/402)


احتمالاً ضعيفاً، والخفي خلافه، وقيل: الجلي هذا، والخفي: الشبه، والواضح بينهما، وقيل الجلي الأولى، والواضح المساوي، والخفي الأدون.
(ش): القياس ينقسم باعتبار القوة والضعف إلى جلي، وخفي، فالجلي ما قطع فيه بنفي الفارق أو كان احتمال الفارق فيه ضعيفاً، مثال الأول (45/ك) إلحاق الأمة بالعبد في التقويم على العتق، وكقياس الصبية على الصبي في الأمر بالصلاة، فإنا نقطع بعدم اعتبار الشرع الذكورة والأنوثة فيه، ونقطع أن لا فارق سوى ذلك، ومثال الثاني: إلحاق العمياء بالعوراء في حديث المنع من التضحية بالعوارء ونقل ابن

(3/403)


برهان أن فيهم من سمى الأول أجلى والثاني جلياً، والخفي: بخلافه فيهما، ومن أصحابنا من قسمه إلى ثلاثة أقسام: جلي وواضح وخفي، فالجلي الأولى، والخفي قياس الشبه، والواضح ما بينهما، وقيل: الجلي ما كان ثبوت الحكم في الفرع أولى من الأصل، والواضح ما كان مساوياً لثبوته في الأصل كالنبيذ مع الخمر، والخفي ما كان دونه كقياس اللينوفر على الأرز لجامع الطعم، وكونه ينبت في الماء وهذه أمور اصطلاحية.
(ص): وقياس العلة ما صرح فيه بها، وقياس الدلالة ما جمع فيه بلازمها فأثرها فحكمها، والقياس في معنى الأصل الجمع بنفي الفارق.

(3/404)


(ش): ينقسم باعتبار العلة إلى: قياس علة وقياس دلالة وقياس في معنى الأصل، لأنه إما أن يكون بذكر الجامع، أو بالغاء الفارق، إن كان بذكر الجامع فذلك الجامع إن كان هو العلة فهو قياس العلة، سمي بذلك لكون المذكور في الجمع بين الأصل والفرع يتضمن العلة، كقولنا في المثقل: قتل عمد عدواني فيجب فيه القصاص، كما في صورة الجارح، ويسمى في المنطق بالقياس الجلي، وقياس التمثيل، وفي علم الكلام برد الغائب إلى الشاهد، وإن كان الجامع وصفاً لازماً من لوازم العلة، وأثراً من آثارها أو حكماً من أحكامها فهو قياس الدلالة، سمي بذلك لكون المذكور في الجمع بينهما ليس عين العلة، بل شيء يدل عليها.
فمثال الأول: قياس تحريم النبيذ على تحريم الخمر بجامع الرائحة الفائحة الملازمة للشدة، المطربة، وهي ليست نفس العلة، بل هي لازمة من لوازمها.
ومثال الثاني: قولنا في المثقل قتل أثم به صاحبه من حيث كونه قتلاً فوجب أن يجب فيه القصاص كالجارح، فكونه آثماً به ليس هو نفس العلة، بل أثر من آثارها.
(ومثال الثالث: قولنا في قطع الأيدي) باليد قطع فوجب كوجوب الدية عليهم فيكون واجباً كوجوب القصاص عليهم، كما لو قتل جماعة واحداً

(3/405)


فوجوب الدية على المباشر ليس نفس العلة الموجبة للقصاص، بل هو حكم من أحكام العلة الموجبة للقصاص، بدليل اطرادها وانعكاسها، كما في القتل العمد، والخطأ وشبه العمد (126/ز)، وإن كان بإلغاء الفارق فهو قياس في معنى الأصل كإلحاق البول في الكوز، وصبه في الماء الدائم بالبول فيه، في النهي عنه، وقد سبق من المصنف تسميته تنقيح المناط، وهذه الأنواع متفق عليها بين القائلين بالقياس، لكن أبا الحسين في المعتمد لما حكى عن الشافعي رضي الله عنه تقسيم القياس إلى ما تحقق فيه العلة، وإلى ما لم يتحقق كإيجابه الجمعة على من هو خارج المصر إذا سمع النداء، ثم قال ويبعد أن يستدل على الأحكام بطريق

(3/406)


مستنبطة لا تحقق فيها للعلة، لأن العلة هي الطريق إلى الحكم، فما لا يتحقق لا يمكن التوصل فيه إلى الحكم، وقال إمام الحرمين في باب التراجيح: حكينا خلافاً فيما هو في معنى الأصل، هل يسمى قياساً، والمختار إن كان في اللفظ إشارة إليه فليس بقياس، كإلحاق الأمة بالعبد، وإلا فقياس، كإلحاق عرق الكلب بلعابه في التعدد والتعفير.

(3/407)