(ص) المبعوث إلى الخلق أجمعين.
ش: لقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} وقوله صلى
الله عليه وسلم: ((بعثت إلى كل أحمر وأسود)) والمكلف من
الخلق ثلاثة: الجن والإنس والملائكة، فأما (179/ز) بعثه
للجن فلأنهم قصدوه وسمعوا منه القرآن وأخذوا عنه الشرائع،
وقال: ((لكم كل عظم وما لم يذكر اسم الله عليه ونهى عن
الاستنجاء بالعظم)) لذلك ذكر الإمام فخر الدين الرازي في
تفسير سورة البقرة الإجماع على شمول رسالته للجن وأما دخول
الملائكة في دعوته صلى الله عليه وسلم فذكر البيهقي في
الباب الرابع من (شعب الإيمان) أن النبي صلى الله عليه
وسلم أرسل إلى الجن والإنس دون الملائكة، ونقله عن الحليمي
ولم ينكره وهي مسألة وقع النزاع فيها بين فقهاء مصر مع
فاضل درس عندهم، وقال: لا هم الملائكة ما دخلت في دعوته
فقاموا عليه وقد ذكر فخر الدين في تفسير سورة
(4/748)
الفرقان الدخول محتجا بقوله تعالى: {ليكون
للعالمين نذيرا} والملائكة داخلون في هذا العموم.
(ص) المفضل على جميع العالمين.
ش: لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر))
ونقل الإمام في تفسيره الإجماع عليه واستثنوه من الخلاف في
التفضيل بين الملك والبشر.
(ص) وبعده الأنبياء.
ش: يتضمن أمرين:
أحدهما: أفضلية نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر
الأنبياء واحتج بعضهم على أفضلية الأنبياء بقوله تعالى:
{أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} فهو
(4/749)
مأمور بالاقتداء بجميعهم وفعل ما فعلوه ولا بد
أنه امتثل والواحد إذا فعل مثل ما فعل الجماعة كان أفضل
منهم، قال الطوفي: ويحكى أن هذه المسألة وقعت في زمن ابن
عبد السلام فقال: إنه عليه السلام كان أفضل من كل واحد
منهم، لأنه أفضل من جميعهم فتمايل جماعة من علماء عصره على
تكفيره فعصمه الله منهم وأما حديث النهي عن التفضيل بين
الأنبياء فقال البيهقي في (دلائل النبوة): إنما هي في
مجادلة أهل الكتاب في تفضيل نبينا عليه السلام على
أنبيائهم، لأن المفاضلة إذا وقعت بين أهل دينين مختلفين لم
يؤمن أن يخرج أحدهما إلى الازدراء بالآخر فيكفر بذلك فأما
تطلب ذلك ليعرف الشيء بما هو عليه فالمنع منه، قال: وهذا
قول الحليمي وغيره.
الثاني: أن الأنبياء عليهم السلام أفضل البشر بعده صلى
الله عليه وسلم وهذا مما لا خلاف فيه، وما يعزى إلى بعض
الصوفية من تفضيل الولي، فقد تأوله هو وغيره بأن كل نبي
ولي قطعا وهو من حيث إنه ولي أفضل من حيث إنه نبي لأن
ولايته وجهته إلى الخلق. وفي هذا من النزاع والشناعة ما لا
يخفى وقال والد
(4/750)
المصنف في بعض تعاليقه: غلط بعض من ينسب إلى
الصوفية في هذه الأعصار فزعم أن الولاية أعلى، لأنها نسبة
العبد من الله تعالى، وهذا جهل من قائله خفي عليه أن
النسبة في النبي صلى الله عليه وسلم أكمل، وفي الرسول أكمل
وإنما يصح ما قال هذا الجاهل لو لم يكن في الرسول والنبي
بعد حصة الولاية كمال آخر، وهيهات قد عمي بصر هذا القائل
عن ذلك، فلو نظر إلى خصائص الأنبياء والكمالات الحاصلة لهم
فوق الأولياء لأبصر الأولياء في الحضيض الأسفل وإن كانوا
على خير، وأخذ بحجز الكمال الذي للأنبياء.
(ص) ثم الملائكة عليهم السلام.
ش: أما تفضيل الأنبياء على الملائكة فهو عقيدة الأشعري
وجمهور أصحابه وهو أحد أقوال أبي حنفية فيما ذكره شمس
الأئمة، لاجتماع العصمة مع التركيب المعرب للنوائب التي
يجب الصبر عليها، والشهوات التي يجب الصبر عنها ومن أحسن
الأدلة قوله تعالى بعد ذكر جماعة من الأنبياء: {وكلا فضلنا
(4/751)
على العالمين} والملائكة من العالمين فدل على
أنهم أفضل منهم، وقوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن}
وأراد بني آدم، لأن الملائكة لا يجازون بل هم خدم أهل
الجنة وقال الشيخ عز الدين: خير البرية أي خير الخليقة،
والملائكة من جملة الخليقة لا يقال: الملائكة من الذين
آمنوا وعملوا الصالحات لأن هذا اللفظ مخصوص في عرف الشرع
بمن آمن من البشر فلا يندرج فيه الملائكة بعرف الاستعمال.
انتهى.
وما ذكرنا أحسن ولأن بهم قامت حجة الله على خلقه بخلاف
الملائكة حتى قال تعالى: {ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا}
ولأن آدم صلى الله عليه وسلم أبا البشر سجد له الملائكة
والمسجود له أفضل من الساجد ثم من الأنبياء من هو أفضل من
آدم صلى الله عليه وسلم ولأن الناس في الموقف إنما
يستشفعون بالأنبياء لا بالملائكة، وذهب المعتزلة إلى تفضيل
الملائكة، واختاره القاضي أبو بكر (100/ك) والأستاذ أبو
إسحاق والحافظ أبو عبد الله الحاكم، والحليمي والإمام
الرازي في (المعالم) وأبو شامة المقدسي من المتأخرين وقال
البيهقي في (شعب الإيمان) وقد روى أحاديث المفاضلة بين
الملك والبشر، وقال: ولكل دليل ووجه، ثم قال:
(4/752)
والأمر فيه سهل وليس فيه من الفائدة إلا معرفة
الشيء على ما هو به واستفدنا منه أنه لا يجب ذلك في
العقيدة خلاف ما يقتضيه صنيع المصنف، وأن في المسألة قولا
ثالثا بالوقف وإليه صار إلكيا في تعليقه وحكى صاحب
(التعرف) قولا رابعا: أن مذهبهم السكوت عن التفاضل بينهم
وقالوا: الفضل لمن فضله الله تعالى وليس ذلك بالجوهر ولا
بالعمل، ولم يروا أحد الأمرين أوجب من الآخر بخبر ولا عقل
وليست المسألة مما كلفنا الله تعالى بمعرفة الحكم فيها،
فليفوض إلى الله تعالى ويعتقد أن الفضل لمن فضله الله
تعالى، ونقل بعضهم قولا خامسا: أن خواص البشر أفضل من خواص
الملائكة وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر وعزاه
للمحققين والظاهر أنه تنقيح مناط الخلاف وإليه يشير كلام
المصنف، فإنه جعل المسألة بين الأنبياء والملائكة، لا بين
البشر والملائكة وقال الإمام أبو المظفر الإسفراييني في
كتابه (التوجيه): اتفقوا على أن العصاة من المؤمنين دون
الأنبياء والملائكة، فأما المطيعون فاختلفوا في المفاضلة
بينهم وبين الملائكة على قولين وقال ابن يونس في (مختصر
الأصول) بعد ذكر القولين وقال (180/ز) الأكثرون
(4/753)
منا: المؤمن الطائع أفضل من الملائكة، وقيد
الإمام في الأربعين
الملائكة بالسماوية وقال ابن منير: مذهب أهل السنة أن
الرسول أفضل من الملك باعتبار الرسالة لا باعتبار عموم
الأوصاف البشرية، ولو كانت البشرية بمجردها أفضل من
الملائكة لكان كل بشر أفضل من الملائكة معاذ الله، وقال
الشيخ عز الدين في (القواعد): إن فاضل بينهم مفضل من جهة
تفاوت الأجساد التي هي مساكن الأرواح فلا شك أن أجساد
الملائكة أفضل، فإن أجسادهم من نور، وأجساد البشر من لحم
ودم، وإن فاضل بينهم أراوح البشر وأرواح الملائكة مع قطع
النظر عن الأجساد فأرواح الأنبياء أفضل وقال في موضع آخر:
وأما أرواحهم وإن كانت أعرف بالله وأكمل أحوالا من أحوال
البشر فهم أفضل من البشر وإن استوت الأرواح في ذلك فقد
فضلوا على البشر بالأجساد وفضل البشر من نعيم الجنان
والنظر إلى الديان، قال: ولا شك أن للبشر طاعات لم تثبت
مثلها للملائكة كالجهاد والغزو، ومخالفة الهوى، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على البلايا والمحن
والرزايا وقد ثبت أنهم يرون ربهم ويبشرهم بإحلال رضوانه
عليهم ولم يثبت مثل هذا للملائكة وقال في موضع آخر: لا
يفضل الملائكة إلا هجام
(4/754)
بنى التفضيل على حالات توهمها، ولا شك أن
القليل من أعمال الأعرف خير من الكثير من أعمال العارف ثم
قال: وليس لأحد أن يفضل أحدا على أحد ولا أن يسوي أحدا
بأحد حتى يقف على أوصاف التفضيل والتساوي، وذكر الإمام فخر
الدين أن الخلاف في التفضيل بمعنى أنهما أكثر ثوابا على
الطاعات ورد بذلك احتجاج الفلاسفة على أفضلية الملائكة
فإنها نورانية علوية، والجسمانية ظلمانية سفلية، وقال: هذا
لم يلق محل النزاع وهذا يزيل الإشكال في المسألة.
(ص): والمعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدث مع عدم
المعارضة والتحدي: الدعوى.
ش: لما قدم الإرسال بالمعجزات احتاج إلى تعريفها ولأن
ظهورها طريق إلى معرفة صدق النبي وسميت بذلك لما فيها من
تعجيز الذين معهم التحدي عن المقابلة بمثلها قال الإمام في
الرسالة النظامية: تسميتها بذلك تجوز، فإن المعجز في
الحقيقة خارق، ولكن سميت بذلك، لأنه تبين بها أن من ليس
نبيا يعجز عن الإتيان بما يظهره الله تعالى على النبي
فقوله: (أمر) جنس يشمل الخارق وغيره، وإنما عبر به لشموله
القول والفعل والإعدام، لأن المعجز قد يكون إيجادا وإعداما
(4/755)
كما لو تحدى بأن يعدم جبلا فينعدم وكمنع إحراق
النار ولهذا قال بعضهم: فعل أو ما يقوم مقامه، لأن العدم
ليس بفعل وقوله: (خارق للعادة) فصل، لأنه نزل من الله
تعالى منزله التصديق بالقول، وأما ما لا يكون خارقا للعادة
كطلوع الشمس كل يوم، فلا يكون دالا على الصدق وإلا لادعى
كل كاذب أنه نبي، وألبس علينا النبي والمتنبي وعلم من
إطلاقه أنه لا يشترط في الخارق أن يكون معينا، ونقل الآمدي
فيه الاتفاق وقوله: (مقرون بالتحدي) أي دعوى النبوة أي
يشترط أن لا تتقدم المعجزة على دعواه ولا تتأخر، لتخرج
الكرامات لأنها لا تكون مع التحدي، ويرج الإرهاص وهو
العلامة الدالة على بعثة النبي صلى الله عليه وسلم قبل
البعثة كالنور الذي ظهر من جبين عبد الله أبي النبي صلى
الله عليه وسلم وقوله: مع عدم المعارض أي يشترط العجز
الآتيان= بمثلها من الخلق ليخرج السحر والشعبذة وليس
المراد عدم مطلق المعارضة فإنه قد يدعي المعارضة بما لا
تصح المعارضة به بل المراد اشتراط نفي ما يصح أن يكون
معارضا.
(4/756)
قال الآمدي ووجه اشتراط كون المبعوث إليه
متعذرا عليه المعارضة: أنه لو لم يكن كذلك لكان مساويا لمن
ليس بنبي في ذلك، ويخرج المعجز عن كونه نازلا من الله
منزلة التصديق، قال: وهل يشترط أن يكون المعارض مماثلا لما
أتي به الرسول؟ ينظر: فإن كان تحديه بخارق معين وأن أحدا
لا يقدر على الإتيان بالخارق فأكثر أصحابنا اشترطوا
المماثلة والذي اختاره القاضي: أنها غير مشروطة، قال
الآمدي: وهو الحق لتبيين المخالفة فيما ادعاه، وهذا القيد
وارد على تعريف المصنف ويرد عيه أيضا الخارق المكذب كما لو
أنطق جمادا أو أحيا ميتا فأخبر أنه كاذب فاجتنبوه فإنه لا
يدل على صدقه على الصحيح، كما قاله أبو إسحاق الشيرازي
وجزم به إمام الحرمين في (الرسالة النظامية)، فلو كان
تصديقا للهزل يخرج هذا ولعله إنما لم يذكره لأنه يختار قول
من قال: إن ذلك لا يقدح لأنه خارق ظهر على وفق دعواه وكذلك
التكذيب من (102/ك) الأمور المعتادة، والحق كما قاله صاحب
(الصحائف): إنه قادح لأن خلق المعجز لتصديق النبي وهذا
ينافيه وجعل الأبياري في (شرح البرهان) للخارق المكذب
صورتين:
أحدهما: أن يدعي أن آيته أن ينطق فينطق بكذبه.
والثانية: أن يتحدى بإحياء ميت فيحيى ويكذبه.
وأما الأولى فمتفق على أنها لا تكون معجزة لأنه بمثابة ما
لو قال الذي أنه رسول: آية صدقه أن يكلم الملك رعيته على
خلاف عادته ثم يستدعي ذلك من الملك فيقول هو كاذب فيما
قال، فلا يشك الحاضرون في كونه لم يصدقه في نطقه إن كان
خارقا لعادته، وأما الثانية ففيها نظر، إذ يمكن أن يحتج
المدعي بأن
(4/757)
الخارق قد وجد ولما حيي هذا صار من جملة
المعاندين، والمختار أنه لا يكون مصدقا في ذلك، وزاد بعضهم
قيدا آخر وهو زمن التكليف، لأن ما يقع في القيامة من
الخوارق ليس بمعجز، لأن الآخرة ليست دار تكليف قاله
الأستاذ أبو إسحاق وقال الأستاذ في كتاب الحدود: والمعجز
كل أمر دل على صدق مدعي النبوة، وقيل: أمر خارق للعادة
يظهر على وفق مدعي النبوة زمان التكليف مقترنا بالتحدي في
دعوى النبوة على جهة الابتداء متضمنا لتصديقه ولهذا قلنا:
إن المعجز لا يكون ظهوره على أيدي الكذابين لأن المعجز ما
دل على الصدق فيستحيل وجوده على يد الكذاب. فيخرج بقولنا:
يظهر على مدعي (181/ز) النبوة ما يظهر من جنس المعجزات لا
على مدعي النبوة فليس بمعجزة كالكرامات وخرج بزمن التكليف
خرق العادة في القيامة، قال: ومعنى أن يتحدى بها أن يقول:
لا يقدر على ذلك أحد وإن كان في قدرة أحد ما يظهر على يدي
فهاتوا ألا ترى إلى قوله تعالى: {قل فأتوا بسورة مثله} {قل
فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} {قل لئن اجتمعت الإنس والجن
على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} وقوله على
جهة الابتداء يخرج من مضى في وقتنا هذا إلى بلد بعيد عن
الإسلام وقرأ عليهم وتحداهم به، وادعى النبوة فلا يدل على
صدقه مع وجود الشرائط كلها، لأنه ما أتى به (لا على) وجه
الابتداء. وقوله متضمنا لصدقه، يخرج ما لو قال: آية صدقي
أن هذه الأسطوانة تتكلم فتكلمت غير أنها قالت: إنه كاذب
فلا يدل على صدقه على الصحيح وقول المصنف: والتحدي الدعوى،
أي دعوى النبوة مخالف ما سبق عن الشيخ أبي إسحاق في تفسير
التحدي.
وقيل: التحدي لغة: المماراة
(4/758)
والمنازعة فحصل من كلامه أن شروط المعجزة
أربع: كونها خارقة للعادة, والعجز عن الإتيان بمثلها من
الخلق، واقترانها بدعوى الرسول، وأن لا تتقدم على دعواه
ولا تتأخر، ويعلم مما سبق ما يزيد على ذلك وزاد بعضهم
كونها مطابقة لدعواه وأن يحد لها وقتا قريبا فتقع في الوقت
الذي حد.
ص: والإيمان تصديق القلب ولا يعتبر إلا مع التلفظ
بالشهادتين من القادر، وهل التلفظ شرط أو شطر؟ فيه تردد.
ش: الإيمان في اللغة التصديق، وفي الشرع قال الأشعري:
التصديق بكل ما علم بالضرورة مجيء الرسول به، لأن منكر
الاجتهاديات لا يكفر إجماعا، وتابعه أكثر المتكلمين
كالقاضي أبي بكر والأستاذ أبي إسحاق، وعلم من هذا أن
الإيمان الشرعي من قبيل العلوم، والمخالف فيه المعتزلة
فإنهم جعلوه من قبيل الأعمال حيث فسروه بالعبادات قال
الأشاعرة: ولا يكفي مجرد التصديق بالقلب مع القدرة على
الإقرار باللسان ولا ينتفي الكفر إلا بهما، لأن القول
مأمور به كالعقد قال تعالى: {قولوا آمنا بالله} الآية.
وقال عليه الصلاة والسلام: ((أمرت أن أقاتل
(4/759)
الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)) فلا بد
من العقد والقول جميعا، وعلى هذا فالتلفظ شرط لا ركن، فمن
صدق بقلبه ولم يتلفظ بالشهادتين إن عجز عن التلفظ لخرس أو
اقتران منية قبل التمكن منه فهو من الناجين وإن قدرعليه
بأن عرض عليه التلفظ وأبى لم ينفعه التصديق القلبي
بالاتفاق كأبي طالب وإن لم يعرض عليه أو لم يتفق له التلفظ
ومات مصدقا بقلبه فالجمهور على أن مجرد التصديق لا ينجيه
والحالة هذه ومال الغزالي إلى أنه ينجيه وقال: كيف يعذب من
قلبه مملوء بالإيمان وهو المقصود الأصلي؟ غير أنه لخفائه
ينط الحكم بالإقرار الظاهر، وعلى هذا فهو مؤمن عند الله
تعالى غير مؤمن في أحكام الدنيا، وهذا كما في المنافق لما
وجد منه الإقرار باللسان دون التصديق كان مؤمنا في أحكام
الدنيا كافرا عند الله، وهذا هو ظاهر كلام شيخه في
(الإرشاد) أيضا، ومن حجته أن حقيقة الإيمان التصديق وأنه
عمل القلب ومنهم من فصل فقال: من صدق بقلبه ثم اخترم قبل
اتساع وقته للتلفظ بالشهادتين فهو محكوم بإيمانه، وأما من
صدق بقلبه وطالت مهلته ولم يتلفظ
(4/760)
فلا لتفريطه وينبغي تنزيل كلام الإمام الغزالي
على هذا، ويشهد له عبارته في (الاقتصاد) حيث قال: من عرف
الله بالدليل ومات عقب معرفته حكم له بالإيمان انتهى.
وذهب أكثر السلف إلى أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب
والإقرار باللسان والعمل بالأركان ونقل عن الشافعي رضي
الله عنه وأبي حنيفة رحمه الله وعلى هذا فالتلفظ ركن له
وماهية الإيمان مركبة من الثلاثة، وإلى هذا أشار المصنف
بقوله: شرط أو شطر فعلى قول المتكلمين شرط وعلى قول السلف
شطر ويدل على أن الإقرار جزء الإيمان ظواهر النصوص الدالة
على كون كلمة الشهادة من الإيمان وبأن النبي صلى الله عليه
وسلم لم يعتبره إلا بها، ويجيء من كلام الغزالي السابق
مذهب ثالث: وهو أن اللفظ واجب من الواجبات الإيمانية لا
جزء له ولا شرط، وحديث جبريل يدل له حيث جعل الإسلام:
شهادة وأعمالا والإيمان تصديقا واعتقادا ولم يذكر اللفظ
إلا في الشرائع الإسلامية، واحتج الأولون على أن
(4/761)
الأعمال ليست جزءا من حقيقة الإيمان وإلا لكان
تقييد الإيمان بالطاعة متكررا، وهو باطل لقوله تعالى: {إن
الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وقوله تعالى: {الذين آمنوا
ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} ولما صح جعل القلب محلا (103/ك)
للإيمان إذ الطاعات ليست جميعها من أفعال القلوب لكنه باطل
بقوله تعالى: {كتب في قلوبهم الإيمان} ولأن من صدق ومات
قبل أن يشتغل بطاعة مؤمن بالإجماع، ولأن جبريل سأل النبي
صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فأجابه بالتصديق المجرد،
وهو قوله: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله)) أي أن
تصدق بذلك والمذكور في جواب ما هو، يكون كمال الحقيقة
المسؤول عنها.
وصارت المعتزلة إلى أن الإيمان هو الطاعات أعني امتثال
الواجبات واجتناب المنهيات واحتجوا بنحو ما سبق من إطلاق
الإيمان على الأعمال ونحن لا ننكر ذلك، إنما النزاع في أنه
لا يطلق الإيمان إلا ويراد به الأعمال ولا دليل عليه، وقال
الآمدي الحق في هذه المسألة غير خارج عن مذهب الشيخ، وهو
أن الإيمان التصديق وأن التصديق من أقوال النفس أو من
ضرورته المعرفة وكأنه يشير إلى أن الخلاف لفظي، وفيه نظر،
وفروع هذا الأصل كثيرة.
(4/762)
منها أن الإيمان هل يقبل الزيادة والنقص أم
لا، فإن قلنا: حقيقته التصديق المجرد لم يقبلهما، وإن:
قلنا التصديق مع العمل قولا وفعلا قبلهما، لأن القول
والفعل جزء الإيمان وهما يقبلان الزيادة والنقص وقد يقال
على الأول: الإيمان هو التصديق الاعتقادي لا العلمي.
والاعتقاد يقبل التفاوت قوة وضعفا أو بحسب قوله للتشكيك
وعدمه.
ومنها تكفير تارك الصلاة والزكاة والحج ونحوهم من العبادات
مع الاعتراف بوجوبها إن قلنا: إن هذه الأعمال ركن من
الإيمان انتفى بتركها لأن الجملة تنتفي بانتفاء جزأيها،
وإن قلنا: ليست (182/ز) ركنا فيه فهو باق بعدها كما كان
قبلها في حقيقته وإن فات بتركها كماله الوصفي.
تنبيه: وقع بين جمع من المتأخرين نزاع في تفسير التصديق
المعتبر في الإيمان هل هو التصديق الذي قسم العلم إليه
وإلى التصوير في علم المنطق وغيره والظاهر أنه هو حاصله
إذعان وقبول لوقوع النسبة أو لا وقوعها، ولهذا يسميه ابن
سينا
(4/763)
تسليما وهو يوضح المقصود وأن من جعله مغايراً
للتصديق المنطقي قد وهم وحصوله للكفار ممنوع، فإن قيل:
فعلى هذا يكون من المتكسبات دون الأفعال الاختيارية فكيف
يصح الأمر بالإيمان؟ قلت: باعتبار اشتماله على الإقرار
وعلى صرف القوة وترتيب المقدمات ودفع الموانع، واستعمال
الفكر في تحصيل تلك الكيفية ونحوه من الأفعال الاختيارية
كما يصح الأمر بالعلم والتيقن ونحوه، وذكر بعضهم أن
التصديق أمر اختياري وهو نسبة الصدق إلى المخبر اختياراً
حتى لو وقع في القلب صدق المخبر ضرورة من غير أن ينسبه
إليه اختيارا لم يكن تصديقا ونحن إذا قطعنا النظر عن فعل
اللسان لا يفهم من نسبة الصدق إلى المتكلم إلا قبول حكم
الإذعان إليه.
ص: الإسلام أعمال الجوارح ولا تعتبر إلا مع الإيمان.
ش: الإسلام لغة بمعنى الاستسلام وشرعا أعمال الجوارح كما
فسره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام،
وهو أدل دليل على التغاير بينهما ولا يعتبر إلا مع
الإيمان، أي بأن يوجد معه تصديق بالقلب وهذا كقوله فيما
سبق في الإيمان لا يعتبر إلا مع النطق بالشهادتين والحاصل
أن وجود كل منهما
(4/764)
شرط في صحة الاعتداد بالآخر، فمن تحقق منه
الإيمان القلبي، ولم ينطق بالشهادتين لم يعتد بإيمانه إلا
على ما سبق عن الإمام الغزالي، وكذلك من تحقق إسلامه، ولم
يتصف بالتصديق المعتبر فلا اعتداد بإسلامه بالإجماع، لكنه
يجرى عليه حكم الإسلام عند فرض خفاء العلم بعدم إيمانه،
بخلاف الأول ومن هنا نشأ الخلاف في أن لفظ الإيمان هل يطلق
على الإسلام بالوضع الشرعي وبالعكس حتى يكون اللفظان حقيقة
في كل واحد منهما بالاشتراك أولا، والصحيح التغاير،
فالإيمان: التصديق وهو عمل القلب وأعمال الجوارح شرط فيه،
والإسلام: التزام العمل بالأركان الخمسة وذلك عمل بالجوارح
ويشهد لذلك حديث جبريل فإنه لما سأل عن الإيمان وعن
الإسلام أجابه عليه الصلاة والسلام عن كل واحد منهما
بحقيقته، وكذلك حديث سعد (قوله يا رسول) الله صلى الله
عليه وسلم ما لك لم تعط فلانا، فوالله إني لأراه مؤمنا
فقال صلى الله عليه وسلم: ((أو مسلم)) وأجابوا عن حديث وفد
(4/765)
عبد القيس حيث فسر فيه الإيمان بما فسر به
الإسلام في حديث جبريل غير الحج وزاد عطاء والحسن بأنه
إطلاق مجازي لارتباط أداء أحدهما بالآخر، وفي ذلك جمع بين
الأحاديث ولهذا قال تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم
تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}
فتبين أنه ليس في قلوبهم تصديق الرسول ولكنهم أظهروا
القبول مخافة ولم يحكوا خلافا في أن الإيمان شرط في
الإسلام أو شطر.
(4/766)
ص: والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم
تكن تراه فإنه يراك.
ش: قاله النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، وقصد
المصنف الجمع بين الحقائق الثلاثة المذكورة فيه لقوله في
آخره: ((هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم)) فالإيمان مبدأ
والإسلام وسط، والإحسان كمال، والدين الخالص شامل للثلاثة،
ومن يحقق مقام الإحسان لم يقع منه عصيان ولا خلل في
الطاعة، فإنه إذا هم بمعصية وعلم أن الله يراه كف ورجع
لحصول البرهان الآجلي عنده، وإنما العبد يزهل عن نظر الله
تعالى أو يكون جاهلا فيظن أن الله تعالى بعيد منه فيقع في
المعصية، وإذا علم العبد أن سره موضع نظر الله تعالى منه
وجب عليه تصفية سره لمولاه ونفسه مما يكره الله أن يراه
حتى يكون كالمرآة المجلوة لتجلي النظر من الله فيه، وهناك
يشرف على مقام القرب فيصير سمعه وبصره وجاءته السعادة من
كل جانب.
واعلم أن بعضهم فسر الإحسان بالإخلاص قال: وهو شرط في صحة
الإيمان والإسلام وفيما قاله نظر، فإن الحديث تضمن تفسير
الإحسان بما هو فوق الإخلاص وهو مشاهدة لعزة المعبود حال
(104/ك) التعبد وذلك يوجب تحسين العبادة بالإخلاص وغيره.
ص: والفسق لا يزيل الإيمان.
ش: اتفق أهل السنة على أن المؤمن لا يخرج من الإيمان
بارتكاب شيء من الكبائر إذا لم يعتقد إباحتها، وخالف في
ذلك طائفتان، الخوارج فقالوا: يكفر بذلك والمعتزلة فقالوا:
لا يوصف بأنه مؤمن ولا كافر والصحيح أنه مؤمن
(4/767)
مطيع بإيمانه عاص بفسقه وليس بين الإيمان
والكفر وساطة، لأنا فسرنا الإيمان بالتصديق وإنما قالت
المعتزلة ليس بمؤمن ولا كافر بناء على تفسيرهم له بالطاعات
فتتحقق الواسطة، لأن من صدق الرسول وترك شيئا من العبادات
لا يكون مؤمنا ولهذا سموه منزلة بين المنزلتين قال الراغب
في (الذريعة) وردت الشريعة بإطلاق اسم الإيمان على من
أظهره من غير فحص عن قائله بخلاف ما ادعاه المعتزلة فإنه
لا يصح إطلاق اسم المؤمن عليه ما لم يختبر في الأصول
الخمسة انتهى وفي هذا فائدة وهو أن الرجل ليس بمعتزلي
العقيدة خلافا لما يتوهمه كثير من الناس ولنا قوله تعالى:
{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت
إحداهما على الأخرى} الآية. فسماهم مؤمنين مع إثبات البغي
من إحداهما وحكى ابن عقيل عن أحمد
(4/768)
رواية أنه يخرج بالفسق من الإيمان إلى الإسلام
وروي عن ابن عباس لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني
الزاني حين يزني وهو مؤمن)) واستشكل مذهب السلف فإنهم
جعلوا الإيمان عبارة عن الثلاثة السابقة ثم إذا فات العمل
مع بقاء التصديق لا يسمونه كافرا بل هو مؤمن والحقيقة
تنتفي بانتفاء جزئها كذا قاله الإمام في المعالم ولم يجب
عنه، وقال: إن المعتزلة طردوا أصلهم ويمكن أن يجاب (183/ز)
بحمل كلامهم على الإيمان الكامل عبارة عن المجموع المذكور
فإن لفظ الإيمان يطلق على أصله الذي هو التصديق مع
الإقرار، وعلى المجموع المركب من أصله وفرعه كما تسمى
الشجرة المتناولة لأصلها وحده، وله مع أغصانها وقد يتوسع
فيطلق لفظ الإيمان على الفروع كما في قوله تعالى: {وما كان
الله ليضيع إيمانكم} أي صلاتكم إلى بيت المقدس.
(4/769)
ص: والميت مؤمنا فاسقا تحت المشيئة إما أن
يعاقب ثم يدخل الجنة وإما أن يسامح بمجرد فضل الله أو مع
الشفاعة.
ش: المعتزلة كما جعلوه منزلة بين منزلتين قالوا: إذا مات
على فسقه فهو مخلد في النار وقال أهل السنة: إنه تحت
المشيئة لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر
ما دون ذلك لما يشاء} ولا يجوز أن يفرض في خبر الله خلف
وفي الصحيح: ((من أصاب شيئا من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو
كفارة له وإن ستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر له
وإن شاء عذبه)) ثم التعذيب لا يكون مؤبدا بدليل أخبار
الشفاعة، قال البيهقي: والأحاديث تواترت في أن المؤمن لا
يخلد في النار بذنوبه غير أن القدر الذي يبقى فيها غير
معلوم، والذي تلحقه الشفاعة ابتداء حتى لا يعذب أصلا غير
معلوم، والذنب خطره عظيم وشأنه جسيم وربنا غفور رحيم
وعقابه شديد أليم، وأنكرت المعتزلة الشافعة بناء على أصلهم
الفاسد أن
(4/770)
العبد يستوجب العقوبة بالمعصية وأنه لا يجوز
العفو عنه وقد روى الدارقطني مرفوعا وموقوفا على أنس: (من
كذب بالشفاعة لم يكن له فيها نصيب) وهذه الشفاعة بعد قطع
الصراط وهي إجازة الصراط، ويلزم منها النجاة من النار،
وكلام القاضي عياض مصرح بأن هذه الشفاعة لا تختص بنبينا
صلى الله عليه وسلم وجوز الشيخ محيي الدين النووي رحمه
الله اختصاصها به، ولم يرد تصريح بالاختصاص، وعليك أن
تتأمل هذه المسألة مع قول المصنف فيما سبق إلا أن يغفر.
ص: وأول شافع وأولاه حبيب الله سيدنا محمد المصطفى صلى
الله عليه وسلم.
ش: لما في الصحيحين من طرق: ((أنا أول شافع وأول مشفع))
وهذه
(4/771)
الشفاعة لأهل الجمع في تعجيل الحساب والإراحة
من طول الوقوف والغم، وهي الشفاعة العظمى وهي المراد
بالمقام المحمود قال البيهقي: ثبت ذلك عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهي مختصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم
ولم ينكرها أحد، وفي (صحيح مسلم): ((اللهم اغفر لأمتي
اللهم اغفر لأمتي وتأخير الدعوة الثالثة إلى يوم يرغب إلي
فيه الخلق حتى إبراهيم عليه السلام)) وله صلى الله عليه
وسلم بعد ذلك شفاعات:
أحدها: في قوم يدخلون الجنة بغير حساب جعلني الله منهم
بجاهه صلى الله عليه وسلم قال الشيخ محيي الدين النووي
رحمه الله: وهي مختصة به قال ابن دقيق العيد: لا أعلم
الاختصاص فيها أو عدمه.
ثانيها: في أقوام استوجبوا النار كما سبق وفي صحيح مسلم:
((وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي فهي نائلة إن شاء الله
تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا)).
ثالثها: فيمن يدخل النار من الموحدين وفي الصحيحين: ((إن
الله يخرج
(4/772)
قوما من النار بالشفاعة)) وصحح الحاكم حديث:
((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) وقال: هذه شفاعة فيها قمع
للمبتدعة المفرقة بين الشفاعة لأهل الصغائر والكبائر قال
البيهقي: وهذه يشاركه فيها غيره من الأنبياء والملائكة
والصديقين، وقد قيل: إنه مخصوص بها من بينهم.
ورابعها: في زيادة الدرجات في أهل الجنة.
خامسها: التخفيف عن بعض الكفار وهي من خصائصه كما في أبي
طالب وأبي لهب.
وسادسها: التخفيف من عذاب القبر ففي رواية أنه صلى الله
عليه وسلم قال: ((إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي
أن يرزفه عنهما ما دام هذان
(4/773)
الغصنان رطبين)).
ص: ولا يموت أحد إلا بأجله.
ش: أما غير المقتول فبالإجماع وأما المقتول فكذلك عند أهل
الحق وصادف قتله الأجل المضروب له ولم يتضمن القتل قطع
أجله، فلو قدر عدم قتله لمات، ولا فرق بين قتله وموته حتف
أنفه إلا أن السبب في القتل اختياري وفي الموت اضطراري
ووافقنا من المعتزلة الجبائي وابنه، وذهب الباقون من
المعتزلة إلى (105/ك) أن القاتل قطع أجله المضروب له، وأنه
مات بغير أجله، ثم اختلفوا في أنه لولا القتل لكان يعيش أو
يموت بفعل الله تعالى على قولين، ولنا قوله تعالى: {فإذا
جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} وقد نهى الله
تعالى المؤمنين عن مثل قول المعتزلة ونسبه إلى الكفر بقوله
تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا
وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا
عندنا ما ماتوا وما قتلوا} وأما قوله صلى الله عليه وسلم:
((من سره أن يبسط له في
(4/774)
رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)) وينسأ أي
يؤخر، والأثر الأجل لأنه تابع الحياة، فقال الشيخ محيي
الدين النووي رحمه الله تعالى: فيه أجوبة: أصحها: أن هذه
الزيادة بالبركة في عمره والتوفيق للطاعات وصيانة أوقاته
عن الضياع، وقيل: بالنسبة لما يظهر للملائكة في اللوح
المحفوظ فيظهر لهم أن عمره ستون إلا أن يصل رحمه فيزداد
أربعين، وأما بالنسبة إلى علم الله تعالى وما علم أنه سيقع
فالزيادة مستحيلة، وقيل: المراد بقاء ذكره الجميل بعده
فكأنه لم يمت وأما حديث: ((أن المقتول يتعلق بقاتله يوم
القيامة ويقول ربي ظلمني وقتلني وقطع أجلي)) فرواه
الطبراني وقد تكلم في سنده، ولو صح حمل على مقتول سبق في
علم الله أنه لو لم يقتل لكان يقسم له أجلا زائدا.
تنبيه: قيل: الخلاف في هذه المسألة لفظي لأنه لا خلاف
بيننا وبينهم أنه لا يجوز وجود شيء بخلاف ما قد علم الله
تعالى، ولا خلاف أيضا أن كل وقت يموت المكلف فيه فإن الله
تعالى قادر على أن يبقيه (184/ز) ولا يميته، ذكره
(4/775)
القاضي أبو يعلى في (المعتمد).
ص: والنفس باقية بعد موت البدن.
ش: هذا مبني على أن النفس غير البدن وهو المعروف وأشار
الإمام في (المطالب) إلى شذوذ فيه لا اعتداد به، وقال: إن
الكتاب والسنة مملو بالتغاير إذا علمت هذا فبقاء النفس بعد
فناء الأبدان إما في السعادة أو الشقاوة وهو قول أهل الحق
لقوله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك
راضية مرضية} الآية وقوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت}
والذائق لا بد أن يبقى بعد المذوق، وقوله تعالى: {كلا إذا
بلغت التراقي وقيل من راق} الآية وهو نص في بقاء الأرواح
وسوقها إلى الله تعالى يومئذ وقوله: {فلولا إذا بلغت
الحلقوم} الآية فإنه لا يقال برجوعها إلا لما هو موجود،
وظاهر الآية أن هذه أحوالهم بعد الموت على الاتصال وقوله
تعالى: {أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون} وقوله
تعالى: {قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي} والقول لا
يصح إلا من حي، وقوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في
سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم} وفي الصحيح: (كان
النبي صلى الله عليه وسلم يزور القبور ويسلم عليهم)
والأحاديث فيه كثيرة، فوجب القول به ومن جهة العقل: أن
النفس
(4/776)
بمثابة الساكن في الدار فإذا هدمت الدار لم
يلزم موت الساكن فيها وبطلانه في هذا معلوم بالضرورة،
وإنما جاءت الشبهة من اعتقاد أنها سارية في البدن فسبق
حينئذ الوهم إلى موته بموت البدن، ونحن نقول: إنما هي جوهر
مجرد ليس بينه وبين البدن مناسبة إلا من جهة الحيز وذلك لا
يقتضي عدم الجوهر ولا يغير حاله، ولأنها لو ماتت بموت
البدن لضعفت بضعفه واختلت اختلاله واللازم منتف فالملزوم
مثله، ولم تخالف فهي إلا الفلاسفة
بناء على إنكارهم الميعاد الجسماني ومن اعترف بالميعاد
لزمه القول ببقاء النفس قال الإمام في (المعالم): وطريقنا
في إطباق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عليه ونحن نجري
معهم بالإقناعات العقلية، فإن عندهم الرياضة الشديدة تلوح
للنفس الأنوار ويكشف لها العيان مع أنه يضعف البدن جدا وكل
ما كان يضعف البدن آكد كانت قوة النفس أكمل فوجب عقلا
بقاؤها بعد فناء البدء=، وقال بعض المحققين: اتفق العقلاء
كلهم على إثبات حياة بعد الموت وأما كون الإنسان مطلقا بعد
الموت له وجود وبقاء وإدراك وشعور وعلوم لذات هي جوهر
روحاني فالمتشرعون على إثباته وأن نوع الإنسان بذاته
الحقيقية ثابت باق بعد اضمحلال جسده، وأما مخالفة الفلاسفة
فالظاهر أنهم إنما تكلموا فيما هو موضوع علمهم وهو ذات
الإنسان الظاهرة وقالبه الطين المركب من العناصر الأربعة
ويكون الروح الحيواني الحامل للغذاء الكائن لتنمية الأعضاء
ومبدأ علمهم فيما دون فلك القمر من الفيض الناري وغايته
النظر في الروح الحيواني، وذلك كله من عوالم الأجساد
الكثيفة فليس لهم علم فيما وراء ذلك لا نفيا ولا إثباتا،
إلا أن يجهل جاهل منهم فينفي ما بعد ذلك وليس هو من دأبه،
إنما حكمه أن ينفي العلم بما وراء ذلك لا أن يعلم النفي
(4/777)
به، وبينهما فرق إذ الأولى سالبة والثانية
معدولة، ويجهل من ينقل عنهم إذا لم يثبتوا شيئا وراء ذلك
أنهم يقولون بنفيه وذلك غفلة من ناقله وعلى مثل هذه
الجهالة ينقلون عنهم عدم الحشر الجسماني وحقيقة مذهبهم ما
قلناه، إنهم لا يتعرضون لشيء من ذلك لا نفيا ولا إثباتا
ومن اطلع على حقيقة علمهم علم ذلك علما ظاهرا ولهذا كان
المنقول عن رئيسهم جالينوس أنه من الموافقين في المعاد
الجسماني وهذا من وفائه لقانون علمه وتبحره فيه، قال: وهذه
نكتة ينبغي أن يتنبه لها، والمقصد الإعلام بقيام الإجماع
من سائر الملل على إثبات ذلك شرعا ولم يتكلم فيه الفلاسفة.
ص: وفي فنائها عند القيامة تردد قال الشيخ الإمام: والأظهر
لا تفنى أبدا.
ش: هذا التردد لوالد المصنف ذكره في تفسيره فقال: إذا
قلنا: إن الأرواح تبقى وهو الحق فهل يحصل لها عند القيامة
فناء ثم تعاد فتوفي بظاهر قوله تعالى: {كل من عليها فان}
(105/ك) أو لا بل يكون من المستثنين في قوله تعالى: {إلا
من شاء} والأقرب أنها لا تفنى من المستثني كما قيل في
الحور العين
(4/778)
واعلم أن الحليمي وغيره نصروا القول بأن
الاستثناء للشهداء لحديث رواه زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي
هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل
جبريل عليه السلام فقال: ((من الذي لم يشأ الله أن يصعقوا
قال: هم شهداء الله)) وقال ابن العربي إنه صحيح، وقال
القرطبي: إنه أولى ما في المسألة
(4/779)
لأنه نص وضعف الحليمي قول من زعم أن الاستثناء
لأجل بعض الملائكة لأنهم ليسوا من سكان السماوات والأرض،
لأن العرش فوق السماوات فلم يدخلوا في الآية، وهذا لا يدخل
فيه الولدان والحور العين، في الجنة لأن الجنة فوق
السماوات والآية في سكان السماوات وقال غيره: الصحيح أنه
لم يرو في تعيينهم خبر صحيح والكل محتمل.
ص: وفي عجب الذنب قولان وقال المزني الصحيح يبلى وتأول
الحديث.
ش: حجة من قال لا يبلى بل يبقى إلى يوم يبعث فيركب منه وهو
المشهور ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى
الله عليه وسلم: ((كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب
منه خلق ومنه يركب)) وهو بفتح العين وإسكان الجيم وآخره
باء وقد تبدل الباء ميما وحكى اللحياني تثليث العين
(4/780)
فيهما حكى ذلك أبو الطيب اللغوي عنه فتحصل ست
لغات وفسروه: بأنه عظم كالخردلة في أصل الصلب عند العجب
وهو رأس العصعص وفي صحيح ابن حبان قيل: وما هو يا رسول
الله؟ قال: ((مثل حبة خردل منه ينشأ)) وحجة من قال يبلى:
ظاهر قوله تعالى: {كل من عليها فان} وهو قول المزني وتأول
الحديث فقال: خلق الله الخلائق لا غيره فمنه ما خلق بعضه
ببعض ومنه ما أفنى بعضه ببعض، ومنه ما أنشأه لا ببعض
وأفناه لا ببعض، وقد حكم الله تعالى بالموت على جميع خلقه
فقال: {يتوفاكم ملك الموت} فإذا (185/ز) لم يبق إلا ملك
الموت توفاه الله تعالى بلا ملك موت، فغير مستنكر أن يكون
كذلك يفني الله تعالى الإنسان بالتراب فإذا لم يبقى إلا
عجم الذنب أفناه الله تعالى بلا تراب كما أمات ملك الموت
بلا ملك الموت. انتهى.
ولا يشكل عليه رواية مسلم الأخرى: ((إن في الإنسان عظما لا
تأكله الأرض أبدا منه يركب يوم القيامة)) قالوا: أي عظم يا
(4/781)
رسول الله؟ قال: ((عجم الذنب)) لأنه ليس في
الحديث تعرض إلا لعدم فنائه بالأرض، والمزني يقول به وليس
فيه تعرض لفنائه بغير الأرض، والكلام فيه وقد وافقه ابن
قتيبة وقال: إنه آخر ما يبلى من الميت ولم يتعرضوا لوقت
فناء العجب هل هو عند فناء العالم أو قبل ذلك وكلاهما
محتمل، والأقوى في النظر أنه لا يبلى عملا بظاهر الحديث،
ويشهد له ما صح في الحديث ((إنه ينزل من السماء ماء
فتنبتون منه كما ينبت البقل)) وقال تعالى: {ونزلنا من
السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل
باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا
كذلك الخروج} وقد قال بعض العلماء: إن عجب الذنب بالنسبة
إلى الإنسان كالبذر بالنسبة إلى جسم النبات، ولهذا قال
تعالى: {كذلك الخروج}
فإن قيل: فما فائدة إبقاء هذا العظم دون سائر الجسد؟ أجاب
ابن عقيل فقال: لله سبحانه وتعالى في هذا سر لا نعلمه، لأن
من ينحت الوجود من العدم لا يحتاج إلى أن يكون لفعله شيء
يبنى عليه ولا خميرة، فإن علل هذا فيجوز أن يكون الباري
سبحانه جعل ذلك للملائكة علامة على أنه يحيي كل إنسان
بحواهره بأعيانها ولا يحصل العلم للملائكة بذلك إلا بإبقاء
عظم من كل شيء ليعلم أنه إنما أراد بذلك إعادة الأرواح إلى
تلك الأعيان التي هذا جزء منها، كما أنه لما أمات عزيرا
وحماره أبقى عظام الحمر وكساها ليعلم أن هذا المنشأ ذلك
الحمار لا غير ولولا إبقاء شيء
(4/782)
لجوزت الملائكة أن تكون الإعادة للأرواح إلى
أمثال الأجساد لا إلى أعيانها.
ص: وحقيقة الروح لم يتكلم عليها سيدنا محمد صلى الله عليه
وسلم فتمسك عنها.
ش: هذه طريقة المحتاطين كالجنيد رضي الله عنه فإنه قال:
الروح شيء استأثر الله تعالى بعلمه، ولم يطلع عليه أحدا من
خلقه، فلا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود لقوله تعالى:
{قل الروح من أمر ربي} وعلى ذلك جرى خلق من أئمة التفسير
كالثعالبي وابن عطية قال الشيخ شهاب الدين السهروردي بعد
ذكره كلام الناس في الروح: وكان الأولى الإمساك عن ذلك
والتأديب بأدب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ما قاله
الجنيد، قلت: وعليه حملوا قوله تعالى: {قل الروح من أمر
ربي} ولم يأمره أن يبينه لهم، وأما المتكلمون على الروح
فأجابوا عن هذه الشبهة بوجوه:
أحدها: أن اليهود قد قالوا إن أجاب عنها فليس بنبي وإن لم
يجب فهو صادق
(4/783)
فلم يجب لأن الله تعالى لم يأذن فيه ولا أنزل
عليه بيانه في وقته تأكيدا لمعجزته وتصديقا لما تقدم من
وصفه في كتبهم لا لأنهم لا يمكن الكلام فيه.
وثانيهما: أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم سؤال تعجيز
وتغليظ إذ كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان
وجبريل وملك آخر يقال له الروح وصف من الملائكة والقرآن
وعيسى ابن مريم، فقصد اليهود أن يسألوه فبأي شيء أجابهم،
قالوا: ليس هذا فجاء الجواب مجملا كما سألوه مجملا، فإن
أمر ربي تصديق على كل واحد من مسميات الروح وقال عبد
الجليل القصري في (شعب الإيمان) - وكان من ذوي المعارف
والأحوال - اختلف الناس في معرفة الروح فقيل: لا تعلم
أصلا، لقوله تعالى: {من أمر ربي} قال: وقائل هذا أراد أنه
(106/ك) لا يعرف ولا يحاط بمقداره وأما إنكار معرفته أصلا
من جميع الوجوه فذلك جهل عظيم ممن قاله، فإنه معروف
بالوجود بالضرورة قال: والآية التي احتج بها حجة عليه فإن
الجواب بقوله: {من أمر ربي} على حسب السؤال عن الروح بقول
اليهود: يا أبا القاسم، ما الروح؟ فأجابهم بمن ولم يسألوه
عن وجوده
(4/784)
فيقول: نعم أو لا، ولا كيف هو كالأجسام أم على
صفة كذا، ولو كان لأجابهم بصفته كما أجاب ربه حين سألوه
عنه فنزل {قل هو الله أحد} قال: والروح أمر من أمر الله
والأمر هو الصادر عن الإرادة: فالروح إرادة منه أن تكون
على هذه الصورة فهو كلمة الله وذكر الشيخ شهاب الدين
السهروردي إمساك الصوفية وخوض غيرهم في الروح ثم قال:
ويجوز أن يكون كلامهم في ذلك بمثابة التأويل لكلام الله
تعالى حيث حرم تفسيره وجوز تأويله، إذ لا يسوغ القول في
التفسير إلا نقلا، وأما التأويل فتمتد العقول إليه بالباع
الطويل وهو ذكر ما تحتمل الآية من غير القطع بذلك قال:
وإذا كان كذلك فللقول فيه وجه وعمل، ونوزع في ذلك: بأن هذا
ظاهر إذا لم يكن في الآية ما يمنع القول فيها لكن ظاهرها
المنع من السؤال عن الروح والخوض في طلب العلم بها بدليل
قوله: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} أي فاجعلوا حكم
الروح من الكثير الذي لم تؤتوه ولا تسألوا عنه، فإنه سر من
أسراري ومنهم من حمل قوله
تعالى: {من أمر ربي} على أن المراد به كون الروح من عالم
الأمر وهو عالم الغيب، وعالم الملكوت، ومقابله عالم الخلق
الذي هو عالم الشهادة وعالم الملك وحمل قوله تعالى: {ألا
له الخلق والأمر} على العالمين المذكورين وأراد بعالم
الأمر عالم المجردات لأنها وجدت بمجرد الأمر الذي هو قول
(كن) ومقابله الجسمانيات وإذا كان الروح من باب الأمر فقد
انفتح باب الكلام فيها فذهب كثير من الصوفية إلى أنها ليست
بجسم ولا عرض بل هو جوهر مجرد قائم بنفسه، غير متحيز، وله
تعلق خاص بالبدن للتدبير والتحريك، غير داخل في البدن ولا
خارج عنه وهذا هو رأي الفلاسفة وذهب جمهور المتكلمين إلى
أنه جسم لطيف قال إمام الحرمين: مشتبك
(4/785)
بالأجسام الكثيفة اشتباك الماء بالعود (186/ز)
الأخضر قال النووي في (شرح مسلم): إنه الأصح عند أصحابنا
وذهب كثير منهم إلى أنه عرض وإنه هو الحياة التي صار البدن
بوجودها حيا، قال السهروردي: ويرد على هذا الأخبار الدالة
على أنه جسم لما ورد فيه من الهبوط والعروج والتردد في
البرزخ والعرض لا يوصف بهذه الأوصاف ونقلهم عن الصوفية
الإمساك مرادهم الأقدمون وإلا فقد تكلم عليها المتأخرون
فقال الشيخ العارف أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: من ظن
أن علم الروح وغيره مما ذكر ومما لم يذكر لم تحط به الخاصة
من
(4/786)
العلماء أهل البدء الأعلى فقد وقع في عظمتين:
تجهيل أولياء الله إذ وصفهم بالقصور عن ذلك وظن بربه أنه
منعهم وكيف يجوز أن يطلق على مخصوص؟ ويسري به التكذيب إلى
القدرة والشرع بقوله عن اليهود أو عن العرب كما تضمن
الخلاف {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} فما
الدليل لك منها على جهل الصديقين وأهل خاصة الله العليا؟
والكشف عن هذا أن السؤال يقع بأربعة أحرف: بهل، وكيف، ولم،
ومن، فـ (هل) يقع السؤال بها عن الشيء أموجود هو أو معدوم
و (كيف) يقع السؤال بها عن الشيء و (لم) عن علته، وليس في
الآية شيء من ذلك، فإنك إن قلت: فيها
معنى (هل) فهل يقتضي: هذا الروح موجود أو معدوم؟ وقد عرفنا
وجوده من قبل ولولا ذلك ما قال: يسألونك عن الروح، فثبت
أنهم عرفوا وجوده فبطل هذا، وليس فيها سؤال عن الحال، كيف
هو؟ ولا سؤال عن العلة لم كذا وكذا؟ ولو كان سؤالهم عن
هذين لما قنعوا بقوله: {قل الروح من أمر ربي} فثبت أن
السؤال إنما هو عن الشيء من أين هو؟ بدليل الجواب والبيان
الظاهر الشافي بقوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي} إذ
الرسول عليه السلام عالم بما سألوا عنه فأجاب عن الله
سبحانه بذلك كما تقول آدم نسألك عنه وفهم المسؤول السؤال
فقال: آدم من تراب فإذا رضي الجواب قنع، وليس يرجع العدو
إلا بفهم عظيم من الحق العظيم الذي لا مرد له، فكيف يزعم
الزاعم أنه لا يعرف ولا يجوز أن يعرف؟ فقد أوجب الله
سبحانه وتعالى علينا معرفته ولا مثل له ولو ضيعناها كنا
كفارا أو عصاة، فكيف بموجود ومخلوق أمثاله كثيرة؟ هذا عين
الجهل أن يقال: لا يجوز أن يعرف من له المثل والنظير وهو
روح، ويوجب معرفة من لا شبيه له ولا نظير، والذي نقول به:
إن لله تعالى أسرارا لا يسع فيها الوهم ولا يليق بها الكتم
لوضوحها وشدة
(4/787)
ظهورها انتهى.
وحاصله أن المقدار الذي ينبغي أن يطلب من يعرف الروح إنما
هو عالمه ومن أين هو، فأوجب الشيخ معرفة مثل هذا من الروح
وهو كون الحياة والحركة والعقل مثلا تابعا لها لا معرفة
حقيقتها، وإنما عرف الآية فيها عالما فقط أعني من أين هي؟
ولم يقع الجواب بتعريف الحقيقة، وفرق الغزالي بين عالم
الخلق وعالم الأمر فإن ما يقع عليه مساحة وتقدير وهي
الأجسام وعوارضها من عالم الأمر، والخلق هنا بمعنى التقدير
لا بمعنى الإيجاد وما لا كيفية له ولا تقدير له يقال له:
أمر رباني، وأرواح البشر والملائكة من عالم الأمر فعالم
الأمر عبارة عن الموجودات الخارجة عن الحس والخيال والجهات
والمكان (107/ك) والتحيز قال: ولا يتوهم من هذا أن الروح
قديم بل هو مخلوق بمعنى أنه محدث، وقد نسب القاضي ابن
العربي هذا إلى الصوفية واستنكر قولهم العالم عالمان: عالم
الخلق وعالم الأمر، وأن الروح من عالم الأمر وقال: إنهم
تلقوه من الفلاسفة ومقصود الفلاسفة منه: أن الخلق ما كان
كماً مقدرا والأمر ما لم يكن مقدرا، والروح عندهم لا يكون
محدثا، قال: وقد أوضحنا أن العالم وكل ما سوى الله مخلوق
داخل في الكمية،
(4/788)
وقال: ويقال: هذا القول تحليقا على مذهب
الحلولية واعتصاما بمذهب النصارى في عيسى، وعجب من حكاية
الغزالي له، قال: وتسور القاضي عليها وأبان أنها مخلوقة
بالدليل وأشار إلى أنها عرض ومال الجويني إلى أنها جسم
تعويلا على ظواهر الشرع فيما أضاف إليها من الأفعال
والانتقال والأكل من الجنان، ومال جماعة إلى أنها تفارق
البدن، وهي عرض متقوم بجزء من الجسم يضاف إليه هذه الأوصاف
كلها التي تسحيل على الأعراض، لعل النبي صلى الله عليه
وسلم إنما أشار إلى هذا بقوله في الصحيح: ((كل ابن آدم
يبلى إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب)) قال ولما تعارضت
هذه الأعراض المشار إليها توقف قوم عنها والمتحصل من ذلك
كله أمران:
أحدهما: أنها بالدليل القاطع العقلي مخلوق ويكفر جاحد ذلك.
والثاني: أنها بالدليل القاطع السمعي باقية لا فناء لها،
ثم النظر بعد في أنها جوهر أو عرض فمحل اجتهاد، والأقوى
أنها عرض فإن التحامل على الألفاظ وتأويلها، وصرفها إلى
المجاز أقرب في النظر من الاضطراب في الأدلة العقلية التي
(4/789)
توجب أنها لا تقوم بنفسها. قلت: وصنف الحافظ
أبو عبد الله محمد بن إسحاق ابن منده كتابا في الروح
والنفس ذكر فيه عن الإمام محمد بن نصر المروزي إجماع
المسلمين على أن الروح التي في ابن آدم مخلوقة وإنما يذكر
القول بقدمها عن بعض غلاة الرافضة والمتصوفة وقال إمام
الحرمين في (الرسالة النظامية): إنه جمع فيه كتابا سماه
كتاب (النفس)، وأنه يشتمل على قريب من ألف ورقة.
(ص) وكرامات الأولياء حق، قال القشيري: ولا ينتهون إلى نحو
ولد دون والد.
(ش) كون الكرامات حقا هو قول أهل الحق، وقال أبو تراب
النخشبي: من لا يؤمن بها فقد كفر، ولعله يرى تكفير
المبتدعة، والدليل على الجواز أنه لا يلزم
(4/790)
من فرضه محال، والدليل على الوقوع قصة أصحاب
الكهف ولم يكونوا أنبياء بالإجماع وكذلك كرامات مريم عليها
السلام متواترة ولم تكن نبية عند الجمهور لقوله تعالى:
{وأمه صديقة} ولو كانت نبية لما عدل عن ذكرها بالوصف
الأعلى إلى ما لم يبلغ ذلك لأن درجة النبوة (187/ز) أعلى
من درجة الصديقية إجماعا وادعى الشيخ محيي الدين النووي
الإجماع على عدم ثبوتها وليس كما قال، فقد نقل القرطبي في
تفسيره كونها نبية عن الجمهور، ويشهد له أن الملائكة
خاطبتها بالوحي قال تعالى: {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن
الله اصطفاك} ولأن الله تعالى ذكرها مع الأنبياء في سورة
الأنبياء والذي أوقع الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله في
ذلك إمام الحرمين في (الإرشاد) فإنه ادعى الإجماع على عدم
نبوة أهل الكهف ثم قال: وكذلك مريم فظن الشيخ الإجماع فيها
أيضا وليس كذلك، وينبغي أن يكون مراده أنها ليست نبية لا
دعوى الإجماع ونقل ابن حزم عن ابن فورك والأشعري أنه كان
يقول في النساء أربع نبيات وتوقف بعض
(4/791)
المحققين في صحة هذا النقل عنه قال: فإن صح
فلعله مع حديث: ((ولم يكمل من النساء إلا أربع)) ولم يسمع
تفصيل الحديث فإنه ذكر فيهن خديجة وفاطمة ولا يمكن القول
بأنهن نبيات، والقول بنبوة مريم إنما يقوى إذا فسرنا النبي
بمن يوحى إليه، وأطلقنا فأما إذا قيدنا بأمر خاص وهو الوحي
بالشريعة كما فسره الحليمي فلا وإنما أطلت في هذا الموضع
لأني رأيت من نسب إلى الأشعرية القول بنبوتها من غير تحقيق
إذا علمت هذا فقد استفاض في العالم وقوع الخوارق من
الصحابة والتابعين فمن بعدهم ولم يزل شأن الأنبياء
والصديقين التصديق بها، وفي الصحيحين: أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: ((بينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها إذا
التفت فقالت: إني لم
أخلق لهذا إنما خلقت للحرث)) فقال الناس: سبحان الله بقرة
تتكلم فقال
(4/792)
النبي صلى الله عليه وسلم: ((آمنت بهذا وأبو
بكر وعمر وما هما)) ثم (وحلية الأنبياء) لأبي نعيم
(والصفوة) لأبي الفرج وغيرهما مجموع لذلك.
وكذلك الآجري في كتابه (براهين الصالحين) والمنكرون لها
كلها المعتزلة ومنهم من نقل عنهم إنما أنكروا خرق العادات
وتأولوا ما جرى لمريم عليها السلام ونحوه بأنه كان إرهاصا
لنبوة عيسى، يعني تأسيسا وهو بالصاد المهملة مأخوذ من
الرهص وهو السياق الأول من الحائط فيكون من مقدمات النبوة
ومعجزاتها وما جرى في زمن نبي كإحضار الذي عنده علم من
الكتاب لعرش بلقيس جعلوه
(4/793)
معجزة لذلك النبي مستندين في ذلك إلى أن
تجويزه لغير الأنبياء يؤدي إلى التباس النبي بغيره.
وأجيب بالفرق بين المعجزة والكرامة بأن الأنبياء مأمورون
بإظهارها والتحدي بها بخلاف الكرامة ويتميز النبي عنه
بدعوى النبوة، وقيل: باختيار الخارق وقيل غير ذلك، ثم
القائلون بالكرامات اختلفوا هل تعم سائر الخوارق أم يختص
ذلك بما لم يظهر معجزة لنبي؟ فالجمهور على التعميم وذهب
بعض أصحابنا إلى أن كل ما وقع معجزة لنبي لا يصح أن يقع
كرامة لولي كإحياء الموتى وقلب العصا حية وفلق البحر ونحوه
وهذا هو مذهب الأستاذ أبي إسحاق، وبه يظهر غلط الإمام فخر
الدين (108/ك) وغيره ممن نقل عنه إنكاره على الإطلاق
كالمعتزلة والذي رأيته في كتبه التصريح بإثباتها إلا أنها
لا تبلغ مبلغ المعجزات الخارقة للفرق بينها وبين
(4/794)
المعجزة، قال: وكل ما كان تقديره معجزة لنبي
لا يجوز ظهور مثله كرامة لولي، قال: وإنما مبالغ الكرامات:
إجابة دعوة أو موافاة ماء في بادية في غير موضع المياه،
ونحو ذلك مما لا ينحط عن خرق العادات، وهذا حكاه عنه إمام
الحرمين والآمدي في أبكار الأفكار، وهذا هو عين ما نقله
المصنف عن القشيري فقال في (الرسالة): إن كثيرا من
المقدورات يعلم اليوم قطعا أنه لا يجوز أن تظهر كرامة لولي
لضرورة أو لشبه ضرورة يعلم ذلك منها حصول إنسان لا من
أبوين وقلب جماد بهيمة، وأمثال هذا يكثر. انتهى وإلى قلب
الجماد أشار المصنف بقوله: نحو يتعجب منه في أمرين:
أحدهما: مغايرته بين هذا القول وقول الأستاذ كما فعله في
(منع الموانع) ولهذا لم ينقله هنا عن الأستاذ مع أنه أقدم
منه وأحق بالذكر.
وثانيهما: اعتقاد أن هذا قيد في الجواز لمن أطلقه فقال في
(منع الموانع الكبير): وبهذا يصح أن قولهم ما جاز أن يكون
معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي ليس على عمومه، وأن قول
من قال: لا تفارق المعجزة الكرامة إلا بالتحدي ليس على
وجهه.
قلت: وليس كما ظن، بل الذي قاله القشيري مذهب ضعيف
والجمهور على خلافه وقد أنكروا على القشيري حتى ولده أبو
نصر في كتابه (المرشد) فقال:
(4/795)
قال بعض الأئمة ما وقع معجزة لنبي لا يجوز
تقدير وقوعه كرامة لولي كقلب العصا ثعبانا وإحياء الموتى
والصحيح تجويز جملة خوارق العادات كرامة للأولياء هذا
لفظه، وذكر إمام الحرمين في (الإرشاد) مثله وتابعه شراحه،
وقال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله في (شرح المسلم)
في باب البر والصلة: إن الكرامات تجوز بخوارق العادات على
جميع أنواعها ومنعه بعضهم وادعى أنها تختص بمثل إجابة دعاء
ونحوه وهذا غلط من قائله وإنكار للحس، بل الصواب جريانها
بقلب الأعيان ونحوه.
انتهى وقال المقترح بعد حكاية مذهب الأستاذ وغيره، وهؤلاء
زعموا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يأتي أحد
بمثل ما أتيت به)) يمنع وقوع شيء من معجزات الأنبياء على
أيدي الأولياء لئلا يؤدي إلى تكذيب من ثبت صدقه، وهذا
يندفع فإن تحدي النبي مقيد بأنه لا يظهر ما أتي به على يد
من يبغي معارضته ومناقضته ولا على مفتر كذاب، والدليل عليه
أن ظهور جنس واحد من المعجزات على يد شخص لا يقدح في ثبوت
معجزة من ظهر على يده من ذلك الجنس قبله، وفي المسألة مذهب
ثالث صار إليه ابن بطال في (شرح البخاري): وهو التفصيل بين
زمان الأنبياء وما بعدهم فقال في حديث خبيب لما
(4/796)
أسر رئي يأكل من قطف عنب وإنه لموثق بالحديد
وما بمكة من ثمرة) قال ابن بطال: فهذا يمكن أن يكون آية
لله تعالى على الكفار وبرهانا (188/ز) لنبيه صلى الله عليه
وسلم من أجل ما كانوا عليه من تكذيبه، فأما من يدعي اليوم
مثل هذا بين ظهراني المسلمين فليس لذلك وجه، إذ المسلمون
قد دخلوا في دين الله أفواجا فأي معنى لإظهار الآية عندهم؟
لا سيما وقد يشكك به المرتاب القائل: إذا جاء ظهور هذه
الخوارق على يد غير النبي فكيف نصدقها من نبي؟ فلو لم يكن
في هذا القول إلا رفع الارتياب عن قلوب أهل النقص، والجهل
لكان قطع الذريعة واجبا ولا معنى لها في الإسلام بعد تأصله
إلا أن يكون مما لا يخرق عادة ولا يقلب عينا مثل إكرام
الله عبده بإجابة دعوة في أمر عسير ودفع بأس نازل ونحوه
قال أخبرني أبو عمران الفقيه الحافظ بالقيروان أنه أوقف
أبا بكر بن الطيب الباقلاني
(4/797)
على تجويزه لهذه المعجزات وقال: أرأيت إن قالت
لنا المعتزلة: إن برهاننا على تصحيح مذهبنا وما ندعيه من
المسائل المخالفة لكم هو ظهور هذه الآية على يدي رجل صالح
منا، قال أبو عمران: فأطرق عني ومطلني بالجواب ثم أقبضته
في مجلس آخر فقال لي: كل ما اعترض من هذه الأشياء من أمر
الدين أو السنن أو ما عليه صحيح العلم فلا يقبل أصلا على
أي طريق جاء، وهذا آخر ما رجع إليه ابن الطيب.
قلت: وقد وقفت للقاضي أبي بكر على تصنيف في مجلد سماه
(البيان في الفرق بين المعجزات والكرامات والسحر والشعوذة)
قال في خطبته كان بعض أصحابنا المغاربة ذكر لنا من إنكار
شيخنا أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله
للكرامات فلم يثبت عليه عندنا ولعله إن قال ذلك فإنما أنكر
منه ما يجب إنكار مثله، فإنا لا نجيز الكرامات للصالحين
لجميع الأجناس وبمثل سائر آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام
أو لعله أنكر ذلك لمثل من لا يجوز ظهوره على مثله لأن في
فضل علمه وما نعرفه من دينه واطلاعه ما يبعد عندنا خلافه
في هذا الباب. انتهى، وما صار إليه ابن بطال قد حكاه
القاضي أبو الفرج النهرواني في كتابه (الجليس
(4/798)
الصالح) فقال: وكان أبو بكر بن الأخشاذ من
جملة المعتزلة يجيز الكرامات إذا أبديت على وجه يرجع إلى
النبي صلى الله عليه وسلم والشهادة بصحة رسالته قال: ورأيت
من شاهدته من نظار المعتزلة يجيز إظهاره للصالحين وعلى
أيدي الأبرار المخلصين، قال ومن المتكلمين من أجاز ظهورها
على يد من يدعي الربوبية على وجه الفتنة وتغليظ المحنة
كالمروي في أمر الدجال ولا يجيز ذلك على مدعي النبوة لما
فيه من فساد الأدلة. انتهى.
فروع: تقع الكرامة باختيار الولي وطلبه على الصحيح عند
أصحابنا المتكلمين، وقيل: لا تقع باختيارهم وطلبهم، قال
الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله: وقال أصحاب القاضي:
الكرامة لا تشهد بالولاية على القطع لئلا (109/ك) يأمن
العواقب وقال: هيبته كخوفه وقد بشر صلى الله عليه وسلم
العشرة بالجنة، قال الشيخ شهاب الدين السهروردي: ومن ظهر
على يده شيء من الخوارق وهو على غير الالتزام ليزداد يقينه
في مطاوي الانكسار والحياء. وذلك الانكسار والانفعال هو
غاية الاتصال فيقول بعضهم الاستسلام عند التلاقي جرأة
والانبساط في محل الأنس عزة، واللياذ بالهرب من علم الدنو
وصلة.
(4/799)
تنبيه: إنما لم يعرف المصنف الكرامة، لأن
تعريفها يعلم من تعريف المعجزة فيما سبق.
ص: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة.
ش: أي بشيء من الذنوب، كذا جعله القصري من شعب الإيمان
وأورد فيه حديث: ((ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال لا
إله إلا الله، ولا يكفر بذنب ولا يخرج من الإيمان بعمل))
قال: فجعل الكف عن أهل التوحيد أصلا من أصول الإيمان، ومن
لا يري ذلك فهو من أهل الزيغ والضلال الذين يكفرون بالذنب
غلوا في تعظيم الذنب حتى خرجوا عن الحد لكن في كتاب
(التوبيخ والتنبيه): للحافظ أبي محمد بن حبان: سئل الإمام
أحمد بن حنبل عن حديث ((لا نكفر أحدا من أهل التوحيد
بذنب)) فقال: موضوع لا أصل له، كيف بحديث
(4/800)
النبي صلى الله عليه وسلم: ((من ترك صلاة فقد
كفر))؟ وفي صحة هذا عن أحمد نظر، فإن معناه ثابت في
الصحيحين عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال لهم في بيعة النساء: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله
شيئا، ولا تسرقوا ولا تزنوا، فمن وفى منكم فأجره على الله،
ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من
ذلك شيئا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر له وإن
شاء عذبه)) وروى البيهقي بسند صحيح إلى جابر (189/ز) بن
عبد الله أنه سئل: هل كنتم تسمون من الذنوب كفرا أو شركا
أو نفاقا؟ قال: معاذ الله! ولكنا نقول: مؤمنين مذنبين وأما
حديث ((من ترك الصلاة فقد كفر)) فلم يكن إجراؤه على ظاهره
لمعارضة ما ذكرنا، فلا بد من تأويله إما على أنه يعامل
معاملة المرتد في وجوب القتل ولهذا خص الصلاة بالذكر كما
قاله البيهقي وإما
(4/801)
على أن تركها أول بداية الكفر، لأن اعتبار ذلك
يؤدي إلى جحدها، فأطلق عليه اسم النهاية، كما قال ابن حبان
في صحيحه قالوا: لو كان ترك الصلاة كفرا لما أمر الشارع
بقضائها وجعله كفارة دون تجديد إيمان. إذا علمت هذا فههنا
أمران:
أحدهما: في بيان المراد بهذه العبارة وقد قال والد المصنف
رحمهما الله تعالى: يعني هذه العبارة إنا لا نكفر بالذنوب
التي هي المعاصي كالزنا والسرقة وشرب الخمر خلافا للخوارج
حيث كفروهم أما تكفير بعض المبتدعة بعقيدة تقتضي كفره حيث
يقتضي الحال القطع بذلك أو ترجيحه، فلا يدخل في ذلك وهو
خارج بقولنا: بذنب، غير أني أقول شيئا وهو أنه ما دام
الإنسان يعتقد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول
الله فتكفره صعب، وما يعرض في قلبه بدعة إن لم تكن مضادة
لذلك لا يكفر، وإن كانت مضادة فإذا فرضت غفلته عنها
واعتقاده للشهادتين، مستمر، فأرجو أن ذلك يكفيه في الإسلام
وأكثر أهل الملة كذلك ويكون كمسلم ارتد ثم أسلم، إلا أن
يقال: ما كفر به لا بد في إسلامه من توبته عنه فهذا محل
نظر، وجميع هذه العقائد التي يكفر به أهل القبلة قد لا
يعتقد بها صاحبها إلا عن بحثه فيها لشبهة تعرض له أو
مجادلة أو غير ذلك، وفي أكثر الأوقات يغفل عنها وهو ذاكر
للشهادتين، لا سيما عند الموت انتهى. وفيما قاله نظر لأن
الحكم منسحب عليه وإن لم يستحضره كما تجرى أحكام الإسلام
على المسلم وإن لم يكن مستحضر الأركان، وأما ذكره أولا
فينازع فيه كلام لابن القشيري حيث
(4/802)
جعل ذلك في العقائد فقال في (المرشد): فمن كان
من أهل القبلة وانتحل شيئا من البدع كالمجسمة والقدرية
وغيرهم هل يكفر؟ للأصحاب فيه طريقان وكلام الأشعري يشعر
بهما وأظهر مذهبيه ترك التكفير وهو اختيار القاضي، ومن قال
قولا أجمع المسلمون على تكفير قائله أو فعل فعلا أجمعوا
على تكفير فاعله كفرناه وإلا فلا.
والطريقة الثانية: تكفير المتأولين، ومثال المسألة من قال:
إن الله ليس بعالم كفر بإجماع الأمة على تكفيره، ومن قال:
هو عالم وليس له علم فهذا موضع الخلاف إذ لا إجماع هنا
بخلافه ثم من قال بتكفير المتأولين يلزمه أن يكفر أصحابه
في نفي البقاء أيضا كما يكفر في نفي العلم وغيره من
المسائل المختلف فيها، قال: وإذا لم يكفر فلا أقل من
التفسيق والتضليل، ومن أصحابنا من لا يرى التفسيق أيضا،
قال: وهذه الطريقة التي هي نفي التكفير مبنية على أن الشيء
الواحد يجوز أن يكون معلوما (110/ك) من جهة مجهولا من وجه
آخر. انتهى.
الثاني: أن معنى هذه العبارة نقلوها عن الإمام الشافعي رضي
الله عنه وأبي حنيفة رحمه الله والأشعري: فأما أبو حنفية
فصح عنه التصريح به وكذلك الأشعري قال في كتاب (المقالات):
إن المسلمين اختلفوا بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم في
أشياء ضلل بعضهم بعضا وتبرأ بعضهم عن بعض، فصاروا فرقا شتى
إلا أن الإسلام يعم جميعهم انتهى، وقال الشيخ عز الدين في
(القواعد): رجع الأشعري عند موته عن تكفير أهل القبلة، لأن
الجهل بالصفات ليس جهلا بالموصوفات، وقال: اختلفنا
(4/803)
في عبارة، والمشار إليه واحد وقال القاضي ابن
العربي: اختلف العلماء في إكفار المتأولين على قولين، فذهب
شيخ السنة وإليه صنعو= القاضي في أشهر قوليهما أن الكفر
يختص بالجاحد والمتأول ليس بكافر، وأما الشافعي رضي الله
عنه فأخذ ذلك من قوله: لا أرد شهادة أهل البدع والأهواء
إلا الخطابية فإنهم
(4/804)
يعتقدون جواز الشهادة لأوليائهم على أعدائهم
زورا، وقال بعضهم: هذا لا يدل على إطلاق عدم التكفير، إذ
لا يلزم من عدم تكفير أهل البدع والأهواء عدم التكفير
مطلقا فإن مخالفة الحق في الديانات تارة توجب البدعة
والضلال، وتارة توجب الكفر، والمخالف في الأول هو المسمى
بأهل البدع والأهواء دون الثاني.
قلت: وقد صح عن الشافعي رضي الله عنه إطلاق القول بتكفير
القائل بخلق القرآن لكن جمهور أصحابه أولوه على كفران
النعمة كما قاله النووي وغيره وحكى ابن المنذر عن الشافعي
رضي الله عنه أن القدري لا يستتاب ذكره القاضي عياض في
(الشفاء) وأما مالك وأحمد فقد نقل عنهما ما يوهم الخلاف في
ذلك، وقال ابن العربي: من أعظم أصول الإيمان القدر فمن
أنكره فقد كفر نص عليه مالك رحمه الله فإنه سئل عن نكاح
القدرية فقال: قد قال الله تعالى: {ولعبد مؤمن خير من
مشرك} وقال القاضي عياض: أكثر قول مالك وأصحابه ترك القول
بتكفيرهم لكن يؤدبون ويستتابون وأما أحمد فنقل عنه القاضي
عياض تكفيرهم وقال: إن عليه أكثر السلف ونقل عنه تكفير
تارك الصلاة وإن اعتقد وجوبها، واحتج بعضهم على عدم
التكفير بقوله صلى الله عليه
(4/805)
وسلم: ((إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء
به أحدهما)) ولأنا لو كفرناه كفرنا بعض أصحابنا في نفي
البقاء ونحوه، ولأن الكفر عبارة عن إنكار ما علم بالضرورة
مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم وليس المراد بالضرورة:
ضرورة العقل بل إنه لشهرته والاتفاق عليه كالضروري كالصلاة
والزكاة، وعلى هذا فلا نكفر أحدا من أهل القبلة، لأن كونهم
جاحدين لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم غير معلوم
بالضرورة بل بالنظر أي لم يشتهر اشتهارا يصير به كالضروري.
ولم يتفق عليه وهذا تحقيق جيد بين على تفسير المتكلمين
الإيمان بما علم أنه من دين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
بالضرورة فسبق تقريره وقد قال القاضي في كتابه المسمى
(بإكفار المتأولين) أما مسائل الوعد والوعيد والرؤية وخلق
الأفعال وبقاء الأعراض والتولد وشبهها (109/ك) من الدقائق
فالمنع، من إكفار المتأولين فيها أوضح، إذ ليس في الجهل
بشيء من ذلك جهل بالله تعالى ولا أجمع المسلمون على إكفار
من جهل منها شيئا، وقد نقله عنه القاضي عياض وغيره.
(4/806)
قلت: ولعل هذا مأخذ الشيخ عز الدين في فتياه
أنه لا يكفر مثبت الجهة قال: ولا مبالاة بمن كفرهم
لمزاحمته لما عليه الناس، وحمل بعضهم كلام القاضي السابق
فيمن جهل شيئا منها، أما من قال بجملته وكان علمه به على
خلاف ما هو عليه أهل السنة فجهله هذا جهل مركب فهو أشد من
جهله بسيطا، وأطلق الآمدي في التكفير حكاية قولين ثم قال:
والحق التفصيل وهو إن كان من البدع المضللة والأقوال
الممكنة يرجع إلى اعتقاد وجود غير الله تعالى وحلوله في
بعض الأشخاص كالنسبة لبعض غلاة الشيعة، أو إلى إنكار
الرسالة أو إلى استباحة المحرمات فلا نعرف خلافا بين
المسلمين في التكفير به وأما ما عدا ذلك من المقالات
المختلفة فلا يمتنع أن يكون معتقدها مبتدعا غير كافر وذلك
لأنه لو توقف الإيمان على أمر غير التصديق بالله تعالى
ورسوله وما جاء به من معرفة المسائل المختلف فيها في أصول
الديانات كما عددناه لكان الواجب على النبي صلى الله عليه
وسلم أن يطالب الخلق بمعرفته كالشهادتين، ولم ينقل ذلك
وجرى عليه الصحابة والتابعون فالجهل به لا يكون كفرا
انتهى. والأول يخرج بقول المصنف: عن أهل القبلة فإن صاحب
هذه المقالات ليس منها، لكن حصره التكفير فيما ذكره ممنوع،
بل من أنكر ما يعلم مجيء الرسول به ضرورة في الحشر والعلم
بالجزئيات وحدوث العالم ونحوه، لا شك في تكفيره واعلم أنه
وقع في كلام الطحاوي زيادة مذهب في هذه العقيدة واستغنى
المصنف عنه بأنه إن لم يكن بذنب لم يقع كلام في التكفير.
(4/807)
فرع: من لم نكفره من أهل الأهواء والبدع لا
نقطع بخلوده في النار وهل نقطع بدخوله إياها فيه وجهان
حكاهما القاضي الحسين في باب إمامة المرأة من تعليقه. وقال
المتولي: هناك: ظاهر المذهب أنه لا يقطع به، وعليه يدل
كلام الشافعي رضي الله عنه.
ص: ولا يجوز الخروج على السلطان.
ش: هذا الإطلاق يشمل ما إذا كان عادلا ولا خلاف فيه، وأما
إذا كان جائرا وهو المشهور في الأصول ونقلوا عن المعتزلة
تجويزه بناء على أن الإمام ينعزل بالظلم والفسق، ونقل صاحب
(البيان) من أصحابنا في باب قتال أهل البغي أن لا ينعزل
بالجور، وسواء كان الخارج عليه عادلا أو خارجا لأن الخروج
عليه جور وهو ظاهر نص الشافعي رضي الله عنه في البويطي،
لكن كلام الرافعي يقتضي
(4/808)
تخصيص المنع بالعادل ويشهد له قوله صلى الله
عليه وسلم: ((إن أمر عليكم عبد مجدع يقودكم لكتاب الله
فاسمعوا وأطيعوا)) رواه مسلم في كتاب الحج (111/ك) عن أم
الحصين وهو مقيد للمطلقات وقال أبو القاسم الأنصاري في باب
الأمر بالمعروف في شرحه للإرشاد: إذا جار والي الوقت وظهر
ظلمه وغصبه للمال فهل يجوز منعه من ذلك؟ فإن كان ممن ثبتت
ولايته وانعقدت إمامته ففي خلفه وانخلاعه كلام يأتي في باب
الإمامة، وإن كان متغلبا فقد صار بعض الفقهاء والمحدثين
إلى أنه لا يجوز للرعية منابذته، قال الإمام: وعندي أن
المتغلب وإن كثرت عدته فسبيله فيما يفعله من الجور والظلم
سبيل البغاة في الأرض بالفساد وقطاع الطريق يجوز منابذته
ودفعه بأقصى المجهود كما يجوز في كل متلصص ونحوه، قال
القاضي: والذي عليه أكثر أصحاب الحديث: الانقياد والطاعة
لكل إمام عادل أو جائر وإن فعل المنكر وعطل الحدود، قال:
وتمسكوا في ذلك بأخبار وآيات قال القاضي: والظاهر أنها في
منع الخروج على من تثبت إمامته، فأما المتغلب فيجب الإنكار
عليه.
ص: ونعتقد أن عذاب القبر وسؤال الملكين والحشر والصراط
والميزان حق.
ش: أما عذاب القبر فأجمع سلف الأمة أن الميت يحيا فيعذب في
قبره وهو من لوازم القول ببقاء النفس بعد البدن وقد قال
تعالى: {النار يعرضون عليها غدوا
(4/809)
وعشيا} أي في البرزخ بدليل قوله بعده: {ويوم
تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} وقال تعالى في
المنافقين: {سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} وفي
(صحيح مسلم) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى:
{يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا}
نزلت في عذاب القبر وفيه: ((قد أوحي إلي أنكم تفتنون في
القبور قريبا من فتنة الدجال)) وتواترت الأحاديث واستعاذ
النبي صلى الله عليه وسلم منه، والمسألة سمعية فوجب
الإيمان به، وأنكره أكثر المعتزلة، بناء على أن شرط الحياة
البنية ولما انقضت البنية لم يكن حيا، والميت لا يعذب.
(4/810)
وعارضهم أصحابنا بأن: هذا استبعاد ومنعوا كون
البنية شرطا في الحياة لجواز أن يخلق الله الحياة في جزء
منفرد كما يجوز أن يجعلها في بنية، على أن عبد الجبار في
الطبقات أنكر هذا عن المعتزلة وقال إنما أنكره ضرار بن
عمرو ولما كان من أصحاب واصل نسب للمعتزلة وإنما ينكرون
تعذيبهم وهم موتى وقال بعضهم: لا خلاف في أن الإيمان به
ركن من أركان العقد الديني الذي لا يصح إلا به، والمعتزلة
وإن خالفوا فيه فليس خلافهم فيما قررناه، وإنما المفهوم من
مذهبهم استبعاد تعجيل جزاء قبل يوم القيامة، ولم يبلغ
السمع عندهم مبلغ العلم وقام عند غيرهم ذلك، ولعذاب القبر
ببعض المعاصي خصوصية، وهي: البول ولهذا ورد فيه: ((تنزهوا
من البول فإن عامة عذاب القبر منه)) وكذلك (النميمة
(4/811)
والغيبة) حتى قيل: إن عذاب القبر في هذه
الثلاثة، وأما الكيفية فقال الحليمي: إن عذاب القبر يكون
بعد إحياء الميت بجملته لقوله تعالى: {أمتنا اثنتين
وأحيينا اثنتين} فإن (191/ز) مراده بإحدى الإماتتين ما في
الدنيا وبالثانية ما في القبر بعد الإحياء فيه، وهو أحد
الإحياءين، والثاني يوم القيامة، وقيل: بالإحياء في القبر
لأقل جزء يحتمل الحياة فيه والعقل لا إلى جميعه، ونقل عن
ابن جرير الطبري قال الحليمي: فإن صح فلا جزء أولى به من
القلب الذي كان ينبوع الحياة ومحل العقل.
قلت: وهو اختيار إمام الحرمين فقال: الظاهر سؤال آخر يعلمه
الله تعالى من القلب أو غيره وقيل: الروح تعذب لا غير،
وقيل: تتألم كما يتألم النائم والحق
(4/812)
أن الميت يحيا في القبر للأحاديث الصحيحة في
عود روحه إلى جسده، وأن الملكين يأتيانه فيقعدانه.
وقول الملحد: إنا نراقب الميت أياما لا نشاهد فيه شيئا يدل
على الحياة ولا التعذيب فالجواب: أن عدم الشهود لا يدل على
عدم الوجود كما حجبنا على الملائكة والجن وليس بأعجب من
استخراج الله تعالى الذر مع خطابهم وجوابهم وكان جبريل
عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وينزل عليه
بالوحي بمحضر من الصحابة وهو صلى الله عليه وسلم عليه وسلم
يراه ويخاطبه وهم لا يشاهدونه إلى غير ذلك من الأحوال
الخارقة، ومن أنكر خارقا ورد عليه سائر الخوارق، على أن
الواجب في هذه المسألة أن يقتصر على الإيمان بما صح من
عذاب القبر ووقوعه، وأما الكيفية فلم يصح فيها شيء غير عود
روحه في جسده، رواه أبو داود من حديث البراء بن
(4/813)
عازب وصححه أبو عوانة وابن مندة والبيهقي
والحاكم وغيرهم وأما سؤال الملكين فهو حق وورد الخبر به في
الصحيحين عن أنس قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((إن
العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه يسمع قرع
نعالهم إذا انصرفوا، قال: يأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان
له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ قال: فأما المؤمن فيقول
أشهد أنه عبد الله ورسوله.
قال: فيقال له: انظر مقعدك من النار قد أبدلك الله به
مقعدا من الجنة)) قال نبي الله صلى الله عليه وسلم:
((فيراهما جميعا، وأما المنافق والكافر فيقول: لا أدري كنت
أقول ما يقول الناس عنه - فيقال: لا دريت ولا تليت، ثم
يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من
يليه إلا الثقلين)) وفي رواية الترمذي ((يقال لأحدهما:
المنكر والآخر النكير)) وقال: حسن غريب وقال إمام تاج
(4/814)
الدين بن يونس: منكر ونكير للمذنب لإنكارهما،
وأما المطيع فملكاه مبشر وبشير، وأنكر بعض المعتزلة
وجودهما وقالوا: لا يجوز تسمية الملائكة بمنكر ونكير،
وأنكروا دخولهما القبر للعادة، فإنه مسدود، قال أصحابنا:
لا ينكر دخولهما من تحت الأرض ويكون الله قد وسع لهما وقد
علمنا أن الملائكة ليسوا (112/ك) على كثافة بني آدم وأنهم
لسلطانهم متمكنون من دخولهم الأماكن على غير الوجه الذي
نقدر نحن عليه، وقد ورد: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم
مجرى الدم)) قال الحليمي: والذي يشبه أن يكون ملائكة
السؤال جماعة كثيرين يسمى بعضهم منكرا وبعضهم نكيرا فيبعث
إلى كل ميت اثنان منهم كما كان الموكل عليه لكتابة عمله
ملكين، ويشهد له رواية النسائي: ((منكر ونكير وأنكر وناكور
وسيدهم دومان)).
(4/815)
واعلم أن المساءلة لم ترد إلا للمدفون،
والظاهر أن الخطاب وقع بحسب الغالب وإنما المسألة تقع
للحريق والغريق ومن أكله السباع، وكيف مات على اختلاف
الأحوال ابتلاء من الله تعالى لعباده، وهو من جملة منازل
الآخرة ومرافقها ولا يستثنى من ذلك إلا الشهيد وقد ثبت في
(صحيح مسلم) أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال:
((كفى ببارقة السيوف شاهدا)) وأما الحشر فذكر أبو الخير
الطالقاني في العروة الوثقى أنه عبارة عن معنيين:
أحدهما: إحياء الله تعالى الخلق بعد الإماتة والجمع بعد
التفريق وذلك واقع لا
(4/816)
محالة، قال تعالى: {وحشرناهم فلم نغادر منهم
أحدا}
والثاني: إيجاد وإعادة بعد العدم والفناء وكلا المعنيين
للحشر جائزان من الله والعقل يجوزهما جميعا، والسمع لم يرد
قطعا بأحدهما، ولعل الغالب على ما دل عليه السمع ظاهرا: أن
الحشر الواقع هو الإحياء بعد الإماتة والجمع بعد التفريق.
قلت: يريد بالثاني ابتداء من غير جمع ما قد تفرق ويشهد لما
قال من ورود السمع حديث المسرف على نفسه لما أوصى بأن يحرق
ويذر نصفه في البحر ونصفه في البر، فأمر الله تعالى البحر
فجمع ما فيه وفي رواية ((فقال للأرض: أدي ما أخذت)) وفي
رواية ((قال الله لكل من أخذ منه شيئا: رد ما أخذت منه،
وقال: كن فإذا رجل قائم)) رواه الشيخان واللفظ الأول لمسلم
قال: وأما النشر فهو عبارة عن بعث الله الخلق من القبور
وجمعهم جميعا في عرصة القيامة، والحشر والنشر لهذه الأجساد
حق خلافا للفلاسفة حيث أحالوا حشر الأجساد وردوها إلى حشر
الأرواح، والنصوص في القرآن والسنة متواترة على حشر
الأجساد. انتهى.
وأما الصراط فوردت فيه الأخبار الصحيحة واستفاضت وهو محمول
على
(4/817)
ظاهره بغير تأويل والله أعلم بحقيقته، وفي
الصحيحين ((أنه جسر يضرب على ظهراني جهنم تمر عليه جميع
الخلائق وهم في جوازه متفاوتون)) قالوا: ومن الحكمة فيه أن
يظهر للمؤمن من عظم فضل الله النجاة من النار وتصير الجنة
بعد أسر لقلوبهم، ولتحسر الكفار بفوز المؤمنين بعد
اشتراكهم في الورود، ولم يحكوا فيه الخلاف فيه النار هل هو
مخلوق الآن أم فيما بعد، وجوز القاضي عياض أن الله يحدثه
حينئذ، وأن يكون مخلوقا الآن كجهنم، وقال الحليمي: لم يثبت
أنه يبقى إلى خروج الموحدين من النار ليجوزوا عليه إلى
الجنة أو يزال ثم يعاد لهم أو لا يعاد، أو تصعد به
الملائكة إلى السور الذي في الأعراف، وفي بعض الروايات
((إنه أدق من الشعر وأحد من السيف)) فإن ثبت فهي محمولة
على ظاهرها لمنافاته الحديث الآخر من قيام الملائكة على
سلمه وكون الكلاليب والحسك فيه وإعطاء المار إليه من النور
قدر موضع قدميه للدلالة على أن المار من مواطئ الأقدام
ومعلوم أن دقة
(4/818)
الشعر لا يحتمل ذلك فيجوز أن تؤول أدق من
الشعر، فإن يسر الجواز عليه وعسره على قدر الطاعات
والمعاصي، ولا يعلم حدود ذلك إلا الله وقد جرت العادة بضرب
دقة الشعر مثلا للغامض الخفي، وضرب حد السيف لإسراع
الملائكة إلى المضي لامتثال أمر الله في إجازة الناس عليه،
وقال البيهقي: هذا اللفظ لم أجده في الروايات الصحيحة
وإنما يروى عن بعض الصحابة.
قلت: في (صحيح مسلم) عن أبي سعيد الخدري: ((بلغني أنه أدق
من الشعر وأحد من السيف)) قال الحليمي: وزعم بعض العلماء
أن الكفار لا يمرون على الصراط لأنهم للنار وهي في الأرض
وهم فيها.
وأما الميزان فهو حق والمراد به نصب الميزان ذا كفتين
ولسان ويوزن فيه الأعمال والكتاب والسنة واردان به،
والأعمال وإن كانت أعراضا لا تقبل الوزن، فالوزن للصحف
التي للأعمال مكتوبة فيها، أو الأعراض نفسها توزن على ما
(4/819)
سبق ومقصود الموازنة: تعريف العباد مقادير
أعمالهم إذ لو أدخلهم الدارين قبل الموازنة ربما ظن المطيع
أن نيله لدرجات الجنة عن الاستحقاق، وتوهم المعذب أن عذابه
فوق دينه، فتوزن أعمالهم ليتفقوا على مقادير أجزائها فيعلم
الصالح أن ما ناله من الدرجات بفضل الله لا بمجرد عمله،
وليتيقن المجرم أن ما ناله من العذاب دون ما ارتكب من
الحرام، وأن الله لا يظلمه والمعتزلة أنكرت ذلك.
ص: والجنة والنار مخلوقتان اليوم.
ش: لقوله تعالى: {وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت
للمتقين} وفيه دلالتان:
إحداهما: قوله عرض، لأن المعدوم لا عرض له.
والثاني: أعدت بلفظ الماضي وكذا قوله في النار: {أعدت
للكافرين} والمعدوم لا يقال فيه أعد، وفي الصحيحين ((اشتكت
النار إلى ربها وقالت: أكل بعضي بعضا، فأذن لها في نفسين
نفس في الشتاء ونفس في الصيف)) وقوله صلى الله عليه وسلم
إنه رأى في الجنة قصرا ذكره لعمر ورأى عمر بن
(4/820)
لحي: ((يجر قصبه في النار)) وإسكان آدم الجنة
وخروجه منها دليل على أنها وجدت وهي ذات الثواب بإجماع أهل
السنة فيما حكاه ابن بطال عن بعضهم، وشذ من زعم أنها
غيرها، وفي الصحيح من محاجة آدم موسى عليهما السلام أن
موسى قال لآدم: أنت أشقيت بنيك وأخرجتهم من الجنة ولم
ينازعه آدم) بل احتج بالقضاء والمنكر لها طائفة من
المعتزلة كعبد الجبار وأبي (113/ك) هاشم لأن إيجادها قبل
الحاجة إليها عبث.
(4/821)
وأجيب بالمنع بل في ذلك ترغيب وترهيب، وقد ثبت
بقواطع الشرع أن الله عجل بعض بني آدم إلى الجنة كالشهداء،
وببعض عصاتهم إلى النار كآل فرعون، وأجمع المسلمون على ذلك
قبل ظهور هؤلاء المبتدعة، قال ابن القشيري: وأما أين
محلها؟ فذلك ما يعلمه الله ويحتمل أنهما فوق السماوات إذ
الجنة في عالم علوي والنار في عالم سفلي.
قلت: روى أبو نعيم في تاريخ أصبهان، من طريق عبيد المكتب
عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ((إن جهنم محيطة بالدنيا وإن الجنة من ورائهما))
فلذلك كان الصراط على جهنم طريقا إلى الجنة لكن حديث
الإسراء يدل على أن الجنة في السماء السابعة ومما يجب
اعتقاده أن كل ما ورد من نعيم أهل الجنة من الحور العين
والقصور والولدان والغلمان
(4/822)
والأنهار والأشجار، وقص جميع ذلك على ما ورد
(أن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام) فاعلم أن
ذلك حق وهناك أعظم مما لا عين رأت ولا إذن سمعت ولا خطر
على قلب بشر، وإنما أخبرت بيسير من كثير على قدر فهمك
وخيالك وضيق وعائك، لأنك ما دمت في هذا العالم مقيدا بعقال
العقل الذي لا يقبل الشيء إلا بالبرهان، ومن اعتمد ذلك هلك
فالعقل تابع والشرع متبوع.
ص: ويجب على الناس نصب إمام ولو مفضولا.
ش: أما وجوب نصبه فهو قول أهل الحق وإلا لفسد نظام الناس،
وقد أجمع الصحابة عليه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
وعندنا يجب شرعا، وقالت المعتزلة: عقلا، وذهبت الخوارج إلى
أنه لا يجب ومنهم من فصل فقال: يجب عند ظهور الفتن دون وقت
الأمن، وعكس آخرون وأشار المصنف بقوله:
(4/823)
(على الناس) إلى وجوبه على الخلق خلافا
للإمامية حيث قالوا: واجب على الله وأشار بقوله: (ولو
مفضولا) إلى انعاقد إمامة المفضول وهو الصحيح عند جمهور
الأصحاب، ومنهم ابن خزيمة وذهب الأشعري في جماعة من قدماء
أصحابه إلى المنع وإن اجتمعت فيه الشرائط إذا وجد أفضل منه
فيها، وأنه إن عقدوا له الإمامة لم تنعقد نعم يكون ملكا لا
إماما فتمضي أحكامه، وهذا يدل على أن المسألة عندهم
اجتهادية، لأنها لو كانت قطعية لوجب القول بتعصية العاقدين
وبه
(4/824)
صرح الإمام في (الإرشاد).
ص: ولا يجب على الرب سبحانه شيء.
ش: لأنه لوجب= عليه لكان لموجب ولا حاكم غير الله، ولا
يجوز أن يكون بإيجابه على نفسه لأنه في حقه غير معقول،
وأما نحو قوله تعالى: {كتب على نفسه الرحمة} {حقا علينا
نصر المؤمنين} ونحو ((ما حق العباد على الله)) فليس مما
نحن فيه، لأنه مما يقتضي رحمته إحسانا وتفضلا لا إيجابا
والتزاما والمعتزلة أوجبوا على الله أمورا:
منها: اللطف، وهو فعل ما يقرب العبد إلى الطاعة، ومنها:
الثواب على الطاعة جزاء للعمل، ومنها: العقاب على الكبائر
قبل التوبة، ومنها: فعل الأصلح لعباده في الدنيا، قال
أصحابنا: ومن زعم ذلك بطل قوله بنفسين أمات أحدهما مؤمنا
وأمات الآخر بالغا كافرا مع علمه أنه إن بلغ كان كافرا، أو
نفسين أمات أحدهما مؤمنا وأبقى الآخر سنة أخرى حتى كفر مع
علمه بأنه يكفر.
(4/825)
ص: المعاد الجسماني بعد الإعدام حق.
ش: وقد أخبر به جميع الرسل، وزعم بعض الفلاسفة أنه لم يخبر
به إلا محمد وعيسى، ويرد عليهم قوله تعالى حكاية عن نوح:
{والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم
إخراجا} وإخبار الله به عن مؤمن آل فرعون بقوله: {إني أخاف
عليكم يوم التناد} وقال تعالى: {قالوا يا ويلنا من بعثنا
من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} والقرآن مملوء
منه، ولقد أحسن الرازي في الأربعين إذ قال الجمع بين إنكار
الجسماني وبأن القرآن حق: متعذر، فإن نصوص الكتاب والسنة
تواترت به تواترا لا يقبل التشكيك. انتهى، وقد قدر الله
براهين المعاد بضروب:
أحدها: قياس الإعادة على الابتداء {كما بدأكم تعودون} {كما
بدأنا أول خلق نعيده} {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده}
{أفعيينا بالخلق الأول}.
ثانيها: قياس الإعادة على خلق السماوات والأرض بطريق أولى
نحو: {أو ليس
(4/826)
الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق
مثلهم} {على أن يحيي الموتى} {لخلق السماوات والأرض أكبر
من خلق الناس} {أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها}
ثالثها: قياس الإعادة على إحياء الأرض بعد موتها بالمطر
والنبات وهو في كل موضع ذكر فيه إنزال المطر غالبا نحو:
{ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون}
رابعها: قياس الإعادة على إخراج النار من الشجر الأخضر وقد
ورد أن أبي بن خلف جاء بعظام بالية ففتها وذرها في الهواء
وقال: يا محمد، من يحيي العظام وهي رميم؟، فأنزل الله
تعالى: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم}
فعلم سبحانه كيفية الاستدلال بدليل النشأة الأخرى إلى
الأولى، والجمع بينهما بعلة الحدوث، ثم زاد في الحجاج
بقوله: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا} وهذا في غاية
البيان في رد الشيء إلى نظيره والجمع بينهما من حيث تبديل
الأعراض عليهما، وهذا تنبيه على الاستدلال بالعقل المحض،
والقول
(4/827)
بالمعاد من لوازم القول ببقاء النفس بعد الموت
حتى ترد إلى بدنها في الوقت المؤقت لها عند الله تعالى،
وعود النفس إليه يسمى معاداً حقيقياً كالذي يسافر عن وطنه
ثم يعود إليه إذ الإعادة عود على بدء، ولو قدر عدم النفس
لكان ذلك إعادة للمثل لا لعين الشيء إذ العدم نفي محض.
واعلم أن الناس في المعاد على أقوال: منهم: من أثبت المعاد
الجسماني والروحاني (114/ك) وهم المسلمون: ومنهم: من أثبت
الروحاني دون الجسماني وهم الفلاسفة وطائفة من النصارى،
ومنهم: من أنكرهما جميعا وهم الدهرية والملحدة قالوا: {ما
يهلكنا إلا الدهر} فهو باق بعدنا ولا رجعة لنا وتوقف
جالينوس في هذه المذاهب.
أما المعاد الجسماني دون الروحاني فلا نعلم قائلا به
لاستحالته وإن وقع في كلام الرازي في الأربعين أن طائفة
ذهبوا إليه لكن لم أتعقله لا يقال ينبغي للمصنف أن يقول:
لا جسماني والروحاني، لأنا نقول قوله بعد الإعدام صريح في
إرادته، والمثبتون له اختلفوا في معناه، فالصحيح وعليه
الأكثر أن الله تعالى يعدم الذوات بالكلية ثم يعيدها،
وقيل: يفرق أجزاءه= الأصلية ثم يركبها مرة أخرى، وقال
(4/828)
الآمدي: الحق إمكان كل من الأمرين والسمع لم
يوجب أحدهما بالتعيين.
قلت: قد سبق حديث الذي أوصى بإحراقه فاستحضره هنا،
واختلفوا في إعادة الأعراض فمنهم من منع منها، لئلا يلزم
قيام العرض بالعرض، والأكثرون وإليه ميل الأشعري في جواز
إعادتها مطلقا، والقول به ينفع أهل السنة في إثبات وزن
الأعمال، ويغنيهم عن حمله على وزن الصحائف أو الأعمال ثم
اختلفوا هل يجوز إعادتها في غير محالها؟ والكثيرون نعم،
وذهب الفلاسفة إلى امتناع إعادة ما عدم عقلا، وأما الوقوع
فمنعته الفلاسفة، وذهب المسلمون إلى وجوبه، ثم منهم من قال
يجب عقلا وهم المعتزلة بناء على وجوب الإثابة والعقاب،
والأشاعرة سمعا وكفروا الفلاسفة في إنكاره، قال بعضهم: من
العجب أن الكفار الذين جاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم
وقاتلهم وقتلهم ولم يقرهم بالجزية، لم يكن سبب كفرهم إلا
جحودهم ما علم به مجيئه من إنكار حشر الأجساد، وهذه الفرقة
الخبيثة المتفلسفة قالوا بذلك، وزادوا عليه بقدم العالم
وعدم علمه بالجزئيات، وكذبوا جميع الأنبياء ثم تستروا
بالإسلام، والناس غافلون عن ثلبهم وقدحهم في الدين، وهنا
مسألتان:
إحداهما: جوز جماعة في الأجساد المبعوثة أن تكون على غير
هذه، وقال آخرون: إنه خلاف ظاهر القرآن، ولو كانت غيرها
فكيف تشهد الأيدي والأرجل على الكفار إلى غير ذلك مما
يقتضي أن أجساد الدنيا هي التي تعود.
الثانية: قال العلماء يحشر العبد وله من الأعضاء ما كان له
يوم ولد، فمن قطع منه عضو يعود إليه في القيامة عليه حتى
الختان، قال الحليمي: وسأل سائل عن
(4/829)
مسلم قطعت يده ثم ارتد ومات على ذلك أيبعث
بيده أم بلا يد؟ فإن قلتم يبعث بيده فكيف تلج النار يد لم
يذنب بها صاحبها؟ وإن قلتم: بلا يد فقد أجزتم أن لا يبعث
بعضه والجواب: أنه يبعث تام الخلق كامل البدن، لأن اليد
تابعة للبدن لا حكم لها على الانفراد في طاعة ولا معصية.
ص: ونعتقد أن خير الأمة بعد نبيها محمد صلى الله عليه وسلم
أبو بكر خليفته، فعمر فعثمان أمراء المؤمنين رضي الله عنهم
أجمعين.
ش: تضمن أمورا:
أحدها: أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الناس بعد محمد صلى
الله عليه وسلم وقد نقل الإمام أبو منصور السمعاني وغيره
الإجماع عليه، وإنما خالف فيه الروافض بتقديمهم عليا حتى
قالوا: إنه أفضل الخلق بعد محمد صلى الله عليه وسلم وحكى
عن قوم تفضيل العباس ولعلهم قاسوه على الميراث، وقد قال
ثور بن يزيد
(4/830)
عن مكحول عن سعيد بن المسيب أنه قال: (العباس
خير هذه الأمة وارث النبي صلى الله عليه وسلم وعمه).
قال الذهبي: إسناده صحيح.
قلت: وتأويله يتعين لا سيما قوله وارث النبي، ولا يظن
بسعيد أنه يقدم العباس على الشيخين، ومن الدليل عليهم قوله
تعالى: {من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن
أولئك رفيقا} فذكر مراتب أوليائه وبدأ بالأعلى منهم وهم
النبيون ثم ثنى بالصديق، ولم يجعل بينهما واسطة، وأجمع
المسلمون على تسمية أبي بكر صديقا كما أجمعوا على تسمية
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وفي البخاري عن محمد بن
الحنفية، قال قلت لأبي (أي الناس خير بعد رسول الله
(4/831)
صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر وأحسن
الحافظ في قوله: يكفي في تفضيل الصديق أنه قام مقام رسول
الله صلى الله عليه وسلم فما نقص عنه، وما قام أحد مقام
أبي بكر إلا ونقص عنه.
والثاني: أنه الخليفة بعده صلى الله عليه وسلم وفي القرآن
إشارات إلى ذلك في مواضع منها: {قل للمخلفين من الأعراب}
الآية، فإن أبا بكر هو الذي دعا الأعراب إلى جهاد بني
حنيفة، وكانوا أولي بأس شديد ولم يقاتلوا للجزية وإنما
قوتلوا ليسلموا، وكان قتالهم بأمر أبي بكر وسلطانه ثم قال:
{فإن تطيعوا
(4/832)
يؤتكم الله أجرا حسنا} فأوجب عليهم الطاعة
لأبي بكر رضي الله عنه، قال السهيلي: وهي كالنص على خلافته
انتهى. ولا خلاف فيه وإنما اختلفوا هل كانت خلافته بالنص
أو بإجماع الصحابة؟ فقيل بالنص، فإنه عليه السلام استخلفه
في الصلاة أيام مرضه، وما عزله فوجب أن يبقى على خلافته
وإذا ثبتت خلافته في الصلاة فكذا في سائر الأمور إذ لا
قائل بالفرق وهذا ما تمسك به عمر رضي الله عنه في إثبات
إمامته فقال: (قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا
أفلا نقدمكم= لدنيانا) ولأن الصحابة كانوا يخاطبونه يا
خليفة رسول الله وممن قال ذلك الحسن البصري كما حكاه عبد
الله بن مسلم بن قتيبة في كتاب (السياسة والإمامة) فقال
ثنا: المبارك بن فضالة.
(4/833)
ثنا: محمد بن الزبير قال: أرسلني عمر بن عبد
العزيز إلى الحسن البصري أسأله: أكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم استخلف أبا بكر؟ قال: فسألته، فاستوى جالسا
فقال: أي والذي لا إله إلا هو استخلفه، ولهو كان أعلم
بالله وأتقى له من أن يتوثب عليها لو لم يأمره، واختاره
ابن حزم وابن حبان في صحيحه، واحتج بما في الصحيح عن جبير
(115/ك) ابن مطعم قال: (أتت امرأة النبي صلى الله عليه
وسلم فأمرها أن ترجع إليه فقالت: إن جئت ولم أجدك - تعني
الموت - قال: ((إن لم تجديني فأتي أبا بكر)) قال الشافعي:
في هذا الدليل على أنه الخليفة بعد
(4/834)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الصحيحين عن
عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت على رسول الله صلى الله
عليه وسلم في اليوم الذي بدئ فيه فقلت وارأساه قال:
((لوددت أن ذلك كان وأنا حي فأصلي عليك وأدفنك)) قالت
غيرى: كأني بك ذلك اليوم معرسا ببعض نسائك فقال: ((أنا
وارأساه ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا فإني
أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل ويأبى الله والمؤمنون إلا
أبا بكر)) قال البيهقي: أخرجه البخاري عن القاسم عنها
ومسلم عن عروة عنها، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم يقول: ((بينما أنا نائم رأيتني على
قليب عليها دلو فنزعت منها ما شاء الله ثم أخذها ابن أبي
قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر
له ضعفه، ثم استحالت غربا فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقريا
من الناس ينزع نزع عمر حتى ضرب الناس بعطن)) قال البيهقي:
قال الشافعي: ورؤيا الأنبياء وحي
(4/835)
وقوله: (في نزعه ضعف) أي لقصر مدته وشغله
بالحرب لأهل الردة عن الافتتاح والتزيد الذي بلغه عمر في
طول مدته، وقوله: (ذنوبا أو ذنوبين) إخبار عن مدته، فإنها
كان سنتين وأشهرا وهو شك من الراوي والمراد ذنوبان كما جاء
في الرواية الأخرى من غير شك، وذهب آخرون إلى أنها لم تكن
بنص بل بإجماعهم واحتجوا بما في مسلم عن عمر
لما طلب منه الاستخلاف قال: (إن أستخلف فقد فعله من هو خير
مني (يعني أبا بكر) وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني)
يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينص على خليفة وهو
إجماع أهل السنة وغيرهم، قال القاضي: وخالف في ذلك بكر ابن
أخت عبد الواحد فزعم أنه نص على أبي بكر قال:
(4/836)
وابن الراوندي: نص على العباس، وقالت الشيعة
والرافضة نص على علي، قال: وهذه دعاوى باطلة وجسارة على
الافتراء ومكابرة للحس، فإن الصحابة أجمعوا على اختيار أبي
بكر وعلى تنفيذ عهده إلى عمر وعلى تنفيذ عمر الشورى، ولم
يخالف في شيء من هذا أحد، ولم يدع أبو بكر ولا علي ولا
العباس وصية في وقت من الأوقات، فمن ادعى خلافه فقد نسب
الأمة إلى إجماعها على الخطأ، ولو كان شيء لنقل، انتهى،
وما قاله فيما عدا أبا بكر فمسلم، وأما في أبي بكر فمردود
وليس هذا قول جميع أهل السنة لما سبق، والحق أن النبي صلى
الله عليه وسلم لم يستخلف أحدا بالنص عليه، وإنما أشار إلى
ذلك ونبه عليه إشارة تقرب في دعوى القطع من النص، وإلى ذلك
أشار البيهقي في سننه.
الثالث: أنه يلي أبا بكر في الفضيلة عمر ثم عثمان ثم علي،
وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر قال: (كنا نخير الناس
في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم
عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان) وهذا في حكم المرفوع عند
الأكثرين لإضافته إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم،
(4/837)
وروى البخاري أيضا عن محمد بن الحنفية قال:
(قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم؟، قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال عمر.
قال: وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت، قال: ما أنا إلا
رجل من المسلمين) وروى أبو داود والترمذي عن الحسن عن أبي
بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: ((من رأى
منكم رؤيا؟)) فقال رجل أنا رأيت كأن ميزانا نزل من السماء
فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت أبا بكر، ووزن أبو بكر وعمر
فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان
فرأينا الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم)
وقال: حسن صحيح وظهور الكراهة منه يحتمل لما يظهر من حال
هذه الرؤيا من التفضيل بينهم المؤدي إلى البغض، من أحدهم
كما كره التفاضل بين الأنبياء، ويحتمل أنه لرفع الميزان
قبل أن يعلم الراجح منهم فيكون كقوله في قصة موسى والخضر:
(وددنا لو صبر حتى قص علينا من أمرهما) ويحتمل أنه لكونه
لم يذكر عليا في هذا الأمر، قال بعضهم: وليس فيه دليل على
فضيلة الثلاثة على علي، بل هو مسكوت عنه، ونقل ابن عبد
البر
(4/838)
إجماع أهل السنة على أن أفضل الناس بعد النبوة
أبو بكر ثم عمر، ووقف أوائلهم= في عثمان وعلي، قال: فأما
اليوم فلا يختلفون أن الترتيب ثم علي، قال: وعليه عامة أهل
الحديث من زمن أحمد بن حنبل، وهلم جرا، واختلف في أن
التفضيل المذكور قطعي أم لا؟ وهل هو في الظاهر والباطن أم
في الظاهر فقط؟ وممن قال بالقطع الأشعري، قال: وهم في
الفضل على ترتيبهم في الإمامة، وممن قال بالظن ابن
الباقلاني، وقيل: هذا الخلاف إن قلنا: لا يصح إمامة
المفضول مع وجود الفاضل، فأما إن صححناها فلا سبيل إلى
القطع بتفضيل البعض على البعض.
فرع من سب الشيخين أو الختنين هل يكفر أو يفسق؟ فيه وجهان
في باب إمامة المرأة من تعليق القاضي الحسين والختنين بخاء
معجمة.
(4/839)
ص: وبراءة عائشة من كل ما قذفت به.
ش: لأن الله عز وجل أنزل براءتها في كتابه وشهد بأنها من
الطيبات، ولهذا قال صاحب (الكافي) من أصحابنا: لو قذف
عائشة كان كافرا بخلاف غيرها من الزوجات، لأن القرآن نزل
ببراءتها وعند مالك من سبها قتل، قال القاضي: ولهذا إن
الله لما ذكر في القرآن ما نسبه إليه المشركون سبح لنفسه
فقال: {وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه} ولما ذكر عائشة
فقال: {ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا
سبحانك} فسبح نفسه في تنزيه عائشة كما سبح نفسه لتنزيهه.
ص: ونمسك عما جرى بين الصحابة ونرى الكل مأجورين.
ش: هذا قول المحتاطين من أهل السنة، لأن النبي صلى الله
عليه (116/ك) وسلم مدحهم وشهد لهم، ومن شهد له النبي صلى
الله عليه وسلم مقطوع بسلامته في عاقبته، وفي الحديث:
((إياكم وما شجر بين الصحابة فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا
ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) وفي الصحيحين في قصة حاطب بن
(4/840)
أبي بلتعة لما أخبر قريشا ببعض أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم واعتذاره قال: (لم أفعل ذلك رغبة عن
الإسلام، ولكن كنت امرأ ملصقا في قريش فاتخذت عندهم يداً
لأحمي قرابتي. فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقال
عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ((إنه شهد بدرا، وما يدريك يا عمر لعل الله
اطلع على هل بدر وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) قال
بعض الأئمة: كفى بهذا الحديث معظما شأن الصحابة، وكافا كل
لسان عن القول، ومانعا كل قلب عن التهمة، وباعثا على ذكر
محاسنهم، وأن الحامل لهم على تلك الوقائع إنما هو أمر
الدين، وقد قال الشافعي: لولا علي ما عرف حكم الله في
الخوارج، وبالغ قوم في التنزيه حتى أنكروا وقوع الفتن
بينهم أصلا حتى أنكروا واقعة الجمل
(4/841)
وصفين هذا مع القطع بتخطئة مقاتلي علي، وكل من
خرج على من اتفق على إمامته، لكن التخطئة لا تبلغ إلى حد
التفسيق عند القاضي أبي بكر، وقالت الشيعة بالتفسيق، ونسبه
الآمدي لأكثر أصحابنا، وقال ابن دقيق العيد في عقيدته: وما
نقل فيما شجر بينهم واختلفوا فيه فمنه ما هو باطل وكذب فلا
يلتفت إليه، وما كان صحيحا أولناه على أحسن التأويلات،
وطلبنا له أجود المخارج لأن الثناء عليهم من الله سابق،
وما نقل محتمل للتأويل، والمشكوك لا يبطل المعلوم، وقال
غيره وقد ذكر الفتن بينهم: وهي بالنسبة إلى فضائلهم كقطرة
كدرة في بحر صاف، ونقل عن أحمد ما يقتضي الوقف قال
الحليمي:
(4/842)
ولم يرد الوقف وإنما أراد الإمساك عن النظر
فيه، وإذا كانت العترة على الإطلاق لا يذكرون إلا بخير،
فالصحابة الذين أمرنا بالاستغفار لهم ونسأله أن لا يجعل في
قلوبنا غلا لهم أولى، واعلم أن الإمساك عن ذلك من القائل
إما لعدم ظهور دليل التخطئة والتصويب، أو لقصد كف اللسان
عن ذكر مساوئ المخطئ فيها مع عدم إيجابه، وهذا هو الظاهر،
فإن السكوت عما لا يلزم الكلام فيه أولى من الخوض فيه
وأبعد من الزلل، وقال أحمد وقد سئل عن أمر علي وعائشة
فقال: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا
تسألون عما كانوا يعملون} ولهذا قال بعض المعتبرين: تلك
دماء طهر الله منها سيوفنا فلا نخضب بها ألسنتنا.
فإن قيل: قد بنى الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة مسائلهما
في قتال البغي على سيرة علي رضي الله عنه وذلك تصويب له
وتخطئة لمعاوية وخصومه، قلنا: لاضطرارهم إلى معرفة الأحكام
خاضوا فيه، ولهذا لما أنكر ابن معين ذلك على
(4/843)
الشافعي قال أحمد: ويحك فماذا عسى أن يقال في
هذا المقام إلا هذا؟ يريد أنا لما أردنا أن نتكلم في نوع
ذلك العمل لأجل عملنا عينا المصيب والمخطئ، وأما الكلام في
تعيينهما لا لأجل علمنا فلا حاجة لنا إليه، ونحن وإن علمنا
أن أحدهما مخطئ فليس علينا أن نعلمه بالشخص، فإنا لم نكلف
به، وأكثر ما في علمه غل القلب ليكون إثمه أكثر من نفعه
وقال صاحب (تاريخ إربل): أردت أن أسمع كاتب (مقتل عثمان)
لابن أبي الدنيا على أبي المظفر الخزاعي أحد الأئمة الزهاد
فأبى علي وقال: لو رأيناه ما رويناه.
ص: وأن الشافعي ومالكا وأبا حنيفة والسفيانين وأحمد
والأوزاعي وإسحاق وداود وسائر المسلمين على هدى من ربهم.
ش: أي خلافا لبعض المبتدعة في قدحهم في أئمة الدين
واختلافهم عليهم ما يزري بالمسلمين، وكلهم رضي الله عنهم
بريؤون= من العقائد الفاسدة، وجلالتهم في الإسلام وعظمهم
في النفوس أقوى دليل على ذلك، بل انتدبوا للرد على أهل
البدع والضلال، وقد صنف الشافعي (كتاب القياس) رد فيه على
من قال بقدم العالم من الملحدين وكتاب (الرد على البراهمة)
وغير ذلك، وأبو حنيفة كتاب (الفقه الأكبر) وكتاب (العالم
والمتعلم) رد فيه على المخالفين، وكذلك مالك سئل عن
(4/844)
مسائل من هذا العلم فأجاب فيها بالطريق
القويم، وكذلك الإمام أحمد رضي الله عنه، وكان قد امتحن
بالداهية الصماء فنجاه الله سبحانه وتعالى وثبته وكان
كلامه في هذا العلم كأكل الميتة على قدر الضرورة حسما
لمادة الفساد، وقد عظم أبو زرعة الرازي كتب الشافعي، وقال:
لم أر فيها شيئا من هذا الفضول الذي قد أحدثوه، ولا أراه
امتنع من ذلك إلا ديانة وعاب على داود خوضه في ذلك، وقد
ذكر الشيخ أبو إسحاق داود من الأئمة المتبوعين وعظم شأنه،
ولا عبرة بقول أصحابنا: إنه لا يعتد بخلافه في الفروع على
الإطلاق.
واعلم أن كثيرا من أتباع الأئمة الأربعة يذكرون حديثا في
تقديم إمامهم، والحق أن حديث الحنفية والحنابلة باطلان، لا
أصل لهما وأما المالكية والشافعية
(4/845)
فجيدان فحديث الشافعية ((تعلموا من قريش ولا
تعلموها)) وفي لفظ ((لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض
علما)) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده من حديث ابن مسعود
والبيهقي في (المعرفة) من طرق ثم قال: وقد حمله جمع من
أئمتنا على أن هذا العالم هو الشافعي، روي ذلك عن أحمد بن
حنبل وقاله أبو نعيم عبد الملك بن محمد الفقيه الاستراباذي
(4/846)
وغيرهما قال: ولا يجوز أن يكون المراد بقوله:
((فإن عالمها يملأ الأرض علما)) كل من كان عالما من قريش
فقد وجدنا جماعة منهم كانوا علماء ولم ينتشر علمهم في
الأرض، وإنما أراد بعضهم دون بعض، فإن كان المراد به كل من
ظهر علمه وانتشر في الأرض ذكره من قريش، فالشافعي من جملة
الداخلين في الخبر، وإن كان المراد به زيادة ظهور وانتشار
(117/ك) فلا نعلم أحدا من قريش أحق بهذه الصفة من الشافعي
فهو الذي صنف من جملة قريش في الأصول والفروع ودونت كتبه
وحفظت أقاويله، وظهر أمره حتى انتفع بعلمه وأفتى بمذهبه
عالمون وحكم بحكمه حاكمون، وقام بنصرة قوله ناصرون حين
وجدوه فيما قال واجدون مصيبا، وبكتاب الله متمسكا ولنبيه
صلى الله عليه وسلم متبعا، وبآثار الصحابة مقتديا، وبما
دلوه عليه من المعاني مهتديا فهو الذي ملأ الأرض من قريش
علما ويزداد على ممر الأيام تبعا، فهو إذن أولاهم بتأويل
هذا الخبر مع دخوله في قوله صلى الله عليه وسلم: ((الأئمة
من قريش)) وقوله: ((الفقه يمان والحكمة يمانية ومولده
بغزة)) وإن كانت من الأرض المقدسة فعدادها في اليمن لنزول
بطن من اليمن بها، ومنشؤه بمكة والمدينة وهما يمانيتان.
انتهى.
(4/847)
وفي (ذم الكلام) للهروي عن حميد بن زنجويه
سمعت أحمد بن حنبل يقول: حديث ((إن الله يمن على أهل دينه
رأس كل مائة برجل من أهل بيتي يبين لهم أمر دينهم)) وإني
نظرت في مائة سنة فإذا هو عمر بن عبد العزيز، وفي رأس
المائة الثانية فإذا هو الشافعي.
وأما حديث المالكية: ((يضربون أكباد الإبل ويطلبون العلم
فلا يجدونه عالما أعلم من عالم المدينة)) رواه النسائي
والحاكم وصححه وقال: كان سفيان بن عيينة يقول: نرى هذا
العالم مالك بن أنس. انتهى، وبالغ ابن حزم في إنكار ذلك،
وقال: كان بالمدينة من هو أجل منه كابن المسيب فهذا الحديث
أولى به، وقد ضربت آباط الإبل أيام عمر، ولم يكن على وجه
الأرض أحد أعلم منه، وحكى غير الحاكم أن سفيان بن عيينة
أقام على ذلك زمانا ثم رجع بعد فقال: أراه عبد الله بن عبد
العزيز العمري قال ابن عبد البر: ليس العمري هذا ممن يلحق
في العلم
(4/848)
والفقه مالك بن أنس، وإن كان عابدا شريفا.
ص: وأن أبا الحسن علي بن إسماعيل الأشعري إمام في السنة
مقدم.
ش: أي ولا التفات لما نسبه إليه الكرامية والحشوية، فالقوم
أعداء له وخصوم وهو إما مفتعل أو لم يفهموا عنه حقيقة
مراده، وقد بين ذلك ابن عساكر في كتابه (تبيين كذب المفتري
فيما نسب للأشعري) ولقد عجبت من الهروي في كتابه (ذم
الكلام) حيث قدح فيه بكلام أعدائه، وقد أثنى عليه أئمة
الإسلام قال الإمام أبو بكر الإسماعيلي: أعاد الله هذا
الدين بعد ما ذهب يعني أكثره بأحمد بن حنبل وأبي الحسن
الأشعري وأبي نعيم الاستراباذي وقال أبو إسحاق
(4/849)
المروزي: سمعت المحاملي يقول في أبي الحسن
الأشعري: لو أتى الله تعالى بتراب الأرض ذنوبا رجوت أن
يغفر الله له، لدفعه عن دينه، وقال ابن العربي: كانت
المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله الأشعري فحجرهم في
أقماع السماسم وقال القاضي أبو بكر: أفضل أحوالي أن أفهم
كلام أبي الحسن وقال السهيلي سمعت أبا الحسن السدوي يقول:
قام الأشعري عشرين سنة يصلي الصبح بوضوء العتمة، وقال
الحافظ البيهقي: أما بعد، فإن بعض أئمة الأشعري رضي الله
عنه ذاكرني بمتن الحديث وذكر إسناده عن شعبة عن سماك بن
حرب عن عياض الأشعري قال: (لما نزلت {فسوف يأتي الله بقوم
يحبهم
(4/850)
ويحبونه} أومأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى
أبي موسى رضي الله عنه فقال: ((هم قوم هذا)) قال البيهقي:
وفي ذلك من الفضيلة الجليلة والمزية الشريفة لأبي الحسن
فإنه من قوم أبي موسى وأولاده الذين أتوا العلم والفهم.
ومما يدل على شرف أصله والإشارة على ما ظهر من علمه ما
خرجه البخاري في الصحيح عن عمران بن حصين، قال: (أتيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأعقلت ناقتي بالباب ثم دخلت
فأتاه نفر من بني تميم، فقال: ((اقبلوا البشرى)) قالوا
بشرتنا فأعطنا، فجاء نفر من أهل اليمن، فقال: ((اقبلوا
البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها إخوانكم من بني تميم))
قالوا: قبلنا يا رسول الله أتيناك نتفقه في الدين ونسألك
عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال: ((كان الله ولا شيء معه
ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ثم كتب في الذكر كل
شيء ثم خلق السماوات والأرض)) قال: ثم أتاني رجل فقال:
أدرك ناقتك فقد ذهبت، فخرجت فوجدتها تنقطع دونها السراب
وايم الله، إني لوددت أني كنت تركتها قال البيهقي: في
سؤالهم دليل على أن الكلام في علم الأصول
(4/851)
وحدوث العالم ميراث لأولادهم عن أجدادهم
وقوله: ((وكان الله ولم يكن شيء غيره)) يدل على أنه لم يكن
شيء غيره لا الماء ولا العرش ولا غيرهما، وقوله: {وكان
عرشه على الماء} يعني ثم خلق الماء وخلق العرش على الماء
ثم كتب في الذكر كل شيء.
انتهى وذكر عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي موسى
الأشعري وقد وضع يده الكريمة على كتفه،: ((قل لا حول ولا
قوة إلا بالله)) فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أوتيت كنزا من كنوز
الجنة)) قال أهل العلم: الكنز ما يبقى بعد صاحبه ففهم من
هذا الحديث الإشارة إلى ما خرج من ظهر أبي موسى، وهو
الإمام أبو الحسن يذب الفرق الضالة عن القدح في هذه
الكلمة، لأن القدري يقول: تحولي عن المعصية إلى الطاعة،
والجبري يقول: قولكم: إلا بالله استثنيتم القوة بعد النفي،
فيه إثبات قوة للعبد، وأنا لا أؤمن بذلك، فما آمن بالكلية
على تحقيقيها وعضدها بالبرهان إلا أبو الحسن ومن قال بقوله
لا جبري ولا قدري، وقد أفرد البيهقي فصلا في (رسالة
العميد) بالثناء على الأشعري وبيان عقيدته وأنه اعتقاد أهل
السنة من بين سائر الطوائف وذكر غيره أنه إنما كان يقرر
مذاهب السلف من أهل السنة قال أبو الوليد الباجي: قد ناظر
ابن عمر منكر القدر، واحتج عليهم بالحديث، وناظر ابن عباس
الخوارج
(4/852)
وناظر عمر بن عبد العزيز وربيعة الرأي: غيلان
القدري في القدر والشافعي حفص الفرد وسائر الأئمة، وألف
فيه مالك قبل أن يخلق الأشعري وإنما بين الأشعري ومن بعده
من أصحابهم: منهاجهم ووسع أطناب الأصول التي أصلوها فنسب
المذهب بذلك إليه كما نسب مذهب الفقه على رأي أهل المدينة
إلى مالك، ورأي الكوفيين (118/ك) إلى أبي حنيفة لما كان هو
الذي صحح من أقوالهم ما رضي به الناس، فمن الأكاذيب عليه
ما حكاه ابن حزم في (الملل): أنه كان
(4/853)
يرى النبوة عرضا من الأعراض لا يبقى زمانين،
وأن النبي إذا مات زالت نبوته وانقطعت دعوته قال الأستاذ
أبو القاسم القشيري وإمام الحرمين وغيرهما من الأئمة، وهذا
كذب على الرجل، ثم استدل الإمام على أن النبوة ليست بعرض
وإنما هي حكم الله برسالته وإخباره عن سفارته وذكر ابن حزم
أن ابن فورك قتل على هذه المقالة، وأن
أبا الوليد الباجي أخبره بذلك، قال الأستاذ أبو جعفر
اللبلي وهذه الحكاية لعمري من الكذب البائر، وإيراد مثلها
يدل على العقل الفاسد، ومعاذ الله أن يقول الباجي هذه
المقالة وابن فورك أجل قدرا من هذا، ولم يمت مقتولا كما
تخرص وقد ذكر ابن عساكر عن الشيخ أبي الحسن عبد الغفار بن
إسماعيل
(4/854)
أنه دعي إلى غزنة وحدث له بها مناظرات وكان
شديد الرد على الحنابلة ولما عاد من غزنة سم في الطريق
ودفن في الحيرة ثم نقل إلى نيسابور، ومشهده اليوم بها يزار
ويستجاب الدعوة عنده (1) قال: وابن حزم كثيرا ما يتقول على
الأشعرية وغيرهم ويحكي عنهم ما لا يقولونه، على ما ذكره
الإمام أبو عبد الله بن طلحة أنه كان يأخذ العلم من
الصحائف لا من الشيوخ، وقد قال عن الترمذي صاحب الجامع:
إنه رجل مجهول، وقد صحف أحاديث وبنى عليها أحكاما بينها
الحافظ أبو بكر بن مفوز ومن مصائب كتابه (الملل والنحل)
قوله إن الله قادر على أن يتخذ لنفسه ولدا، ويقول إن
القدرة القديمة تتعلق بالمحال فيجوز عنده اجتماع الضدين في
محل واحد وزمن واحد، وظن في مقالته هذه إذا لم يقل بتعلق
القدرة بالمستحيل لزم العجز، والذي يتعقله كل عاقل أن
متعلق القدرة الجائز وعدم تعلقها بالمستحيل لا يؤدي إلى
العجز، لأنه لا يتصور وقوعه كما أن القدرة لا تتعلق
بالواجب لوجوده وثبوته.
_________
(1) (*) هذا الكلام مخالف للعقيدة ويعد من الشرك.
(4/855)
ص: وإن طريق الشيخ الجنيد وصحبه طريق مقوم.
ش: فإن طريقهم دائرة على التسليم والتفويض والتبرئ من
النفس والتوحيد بالحق، قال بعض المطلعين: لم يكن لأحد من
المبتدعة في علوم التصوف والإشارات حظ، بل كانوا محرومين
مما فيه من الراحة والحلاوة والسكينة والطمأنينة، وقد ذكر
أبو عبد الرحمن السلمي من مشايخ الصوفية قريبا من ألف، ولم
يوجد في جملتهم قط من نسب إلى شيء من بدع القدرية والروافض
والخوارج وذلك من عناية الله بالقوم، وقد جمع الأستاذ أبو
القاسم القشيري في الرسالة والكلاباذي في كتاب (التعرف
بمذاهب أهل التصوف) جملا عظيمة من عقائدهم، وإنما خص
المصنف الجنيد رضي الله عنه بالذكر، لأنه سيد الطائفة
ويحكى أن أبا العباس بن سريج اجتاز بمجلسه فسمع كلامه فقيل
له: ما تقول في هذا؟ فقال: لا أدري ما أقول، ولكن أرى لهذا
الكلام صولة ليست بصولة مبطل، ثم صحبه ولازمه وكان إذا
تكلم في الأصول والفروع أذهل العقول، ويقول: هذا ببركة
مجالسة أبي القاسم الجنيد وقيل لعبد الله بن سعيد بن كلاب:
إنك تتكلم على كلام كل أحد وههنا رجل يقال له: الجنيد
فانظر هل يعترض هل= عليه أم لا؟ فحضر حلقته فسأل الجنيد عن
التوحيد، فأجابه فتحير عبد الله وقال: أعد علي ما قلت،
فأعاد ولكن لا بتلك العبارة فقاله= عبد الله: هذا شيء آخر
لم أحفظه أعده علي مرة أخرى فأعاده بعبارة
(4/856)
أخرى، فقال: عبد الله ليس يمكنني حفظ ما تقول،
أمله علي، فقال: إن كنت أجزته فأنا أمليه فقام عبد الله
وقال بفضله واعترف بعلو شأنه ومن كلام الجنيد الطريق إلى
الله عز وجل مسدود على خلقه إلا على المقتفين آثار رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقال: من لم يحفظ القرآن ويكتب
الأحاديث لم يقتد به في هذا الأمر، لأن علمنا مقيد بالكتاب
والسنة، وقال: إني لتخطر لي النكتة من نكت القوم فلا
أقبلها إلا بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة.
(4/857)
(ص) ومما لا يضر جهله وتنفع معرفته: الأصح أن
وجود الشيء عينه، وقال كثير منا: غيره.
ش: ترجم القاضي أبو يعلى في (المعتمد) هذه المسألة في
الحدوث ودوامه ليس بقدر زائد على وجوده خلافا لبعض
الأشعرية في قولهم: إنه أمر زائد على وجوده وأنه معلل
بوجوده، وقد اختلفوا في وجود كل شيء هل هو عين ماهيته أو
زائد عليها؟ على مذاهب:
أحدها: أنه عينه مطلقا يعني في الواجب والممكن وهو قول
الأشعري وغيره من أئمة السنة إلا أنهم يتسعون في عد الوجود
من الصفات.
والثاني: أنه زائد على الماهية مطلقا ونسب المعتزلة
واختاره فخر الدين ونسبه صاحب (الصحائف) للمحققين.
والثالث: أنه عين الماهية في القديم وزائد عليها في الحادث
وهو رأي الفلاسفة وإنما لم يحكه المصنف لأن خلافهم غير
معتبر، والصحيح الأول لأنه لو كان زائدا لكان موجودا
مشاركا للموجودات في الوجود مخالفا لهذه الماهية وما به
الاشتراك غير ما به الامتياز فيكون للوجود وجود ويتسلسل
وكان الشيخ تاج الدين التبريزي رحمه الله يستشكل تحقيق محل
الخلاف، لأنه لا يخلو إما أن يراد بالوجود العرض العام، أو
الوجود المختص بكل فرد، والثاني باطل لما تحقق عند
(4/858)
الجمهور أن الوجود أمر واحد مشترك بين
الماهيات، وامتناع أن يكون الوجود والشخص مشترك فيه،
والأول باطل أيضا لامتناع أن يكون العرض الخارج عن ماهية
شيء هو نفس ذلك الشيء، أو يكون العرض العام للشيئين نفس
أحدهما عرضا للآخر، ومن فروع هذا الخلاف في أن الوجود
مفهوم واحد مشترك بين الموجودات أم لا، فالفلاسفة يقولون:
إنه على سبيل التشكيك لاعتقادهم أن وجود الواجب قائم بنفسه
دون سائر الموجودات والأشاعرة يقولون: على الاشتراك
اللفظي، والمحققون على المعنوي، وهو التواطؤ واعلم (119/ك)
أن المرجح عندهم أن الوجود وصف مشترك بين الواجب والممكن،
واتفق الكل على أن وجوده تعالى وتقدس علة لوجود الممكنات،
والقول بالاشتراك مع العلية لا يعقل، لأن العلة لا تخلو من
أن تكون بمطلق الوجود أو بوجود خاص، والأول باطل وإلا يلزم
أن يكون الوجود مقدما على نفسه لوجوب تقدم العلة على
المعلول وهو محال أيضا، والثاني باطل لأن الوجود الخاص هو
مطلق الوجود مع القيد الموجب للتخصيص، والوجود الخاص لازم
التقدم لكونه علة، فيلزم أن يكون مطلق الوجود لازم التقدم
لكونه جزءا لما يجب تقديمه، وجزء المتقدم على الشيء مقدم
على ذلك الشيء، فلو كان الوجود الخاص علة لزم تقدم الشيء
على نفسه على ما قلنا وهو محال، فيلزم إما أن لا يكون
الوجود علة أو لا يكون أمرا مشتركا فيه على تقدير كونه
مشتركا فيه وكلاهما محال.
(ص) فعلى الأصح المعدوم ليس بشيء ولا ذات ولا ثابت وكذا
على الآخر عند أكثرهم.
ش: فرع المصنف على هذا الخلاف مسألة فلنشرحها ثم نبين وجه
التفريع فنقول: المعدوم إن كان ممتنع الوجود لذاته،
كاجتماع الضدين وقلب الحقائق فلا خلاف أنه عدم محض ونفى
صرف، ولا يطلق عليه الشيء لفظا وإن كان ممكن الوجود كسائر
الممكنات المعدومة فهو محل الخلاف فذهب الأشاعرة إلى أنه
ليس شيء في نفسه دلالة حقيقية في حال عدمه، كما في المعدوم
الممتنع الوجود، ولا حقيقة له وراء وجوده، بل وجوده ذاته
وذاته وجوده، وإذا أوجده الله تعالى فهو
(4/859)
موجد الذوات والصفات، وبه قال أبو الحسين
البصري، وذهب أكثر المعتزلة إلى أنه حالة العدم شيء وذات
وحقيقة حالة الوجود والعدم حتى قالوا: إن الجوهر قبل وجوده
جوهر، والعرض عرض، ويقولون: إن هذه الصفات كلها مستحيلة
قبل الوجود، وإذا وجدت لم تزد في صفاتها بل هي في حالة
العدم كالوجود وهذا يجر بها إلى القول بقدم العالم،
والخلاف راجع إلى معنى الوجود، فعندنا لا فرق بين الوجود
والثبوت، فلا يكون المعدوم شيئا، لأن كل ما ليس بموجود لا
يكون ثابتا فهو معدوم، وعندهم الثابت أعم من الموجود
والمعدوم، وفسروه بكون الماهية متقدرة في كونها تلك
الماهية مثلا وقالوا: المعنى بكون السواد المعدوم ثابتا
كونه حالة العدم سوادا، وسلموا أن المعدوم الممتنع نفي
محض، وسموه منفيا، فقسموا الثابت إلى الموجود والمعدوم،
وجعلوا الموجود مقابل المعدوم، والثابت في مقابلة المنفي
واحتجوا بأن المعدوم معلوم، وكل معلوم ثابت.
وجوابه: إن أريد في الخارج فلا نسلم، وفي العقل لا نزاع
فيه، ولنا قوله تعالى: {خلقتك من قبل ولم تك شيئا} فدل على
أن الممكن قبل أن لا يوجد لا يسمى شيئا، إذ لو كان يقع على
المعدوم لصار معنى الكلام: ولم تكن معدوما وهو محال وعلى
هذا فشيء مساو لقولنا موجود لا أعم منه وما وقع في القرآن
من إطلاق شيء على المعدوم كقوله: {إن زلزلة الساعة شيء
عظيم} وقوله
(4/860)
تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه} ونحوه
فباعتبار ما يؤول إليه، ولما تحقق الوجود نزل منزلة
الموجود، لقوله تعالى: {أتى أمر الله} وإنما قال: ولا ذات،
لأن بعض المعتزلة قال يسمى شيئا وليس بذات، ورده ابن
القشيري في (المرشد) بأن العقل لا يدل على الأسامي، وليس
هنا نقل حقيقة من أهل اللغة وإن أراد الخصم أنه يسمى شيئا
تجوزا عاد الخلاف إلى اللفظ.
إذا علمت هذا فوجه التفريع: أن إن قلنا: وجود الشيء عينه
فالمعدوم ليس بشيء، لأنه متى زال الوجود لزم القطع بزوال
الماهية فلا يكون المعدوم شيئا ولا يمكن معه القول بأنه
شيء في الخارج، وإلا لزم اجتماع النقيضين، وهو اجتماع
الوجود والعدم، وإن قلنا: زائد على الماهية، فقيل: إنه شيء
لانفكاك الماهيتين عن الوجود وقال الأكثرون: ليس بشيء وإن
قلنا بالزائد لتلازمهما.
ص: وأن الاسم عين المسمى.
ش: أي عين المسمى وذاته، والعبارة التي عبر بها عن الاسم
بالمسمى هذا قول الأشعري ومن الحجة له إجماع المسلمين على
أن الحالف باسم من أسماء الله تنعقد يمينه كالحالف بالله،
ولو كان اسم الله غير الله لكان الحالف به حالفا بغير الله
(4/861)
فلا ينعقد يمينه وبقوله تعالى: {ولله الأسماء
الحسنى فادعوه بها} فهو سبحانه مدعو بها، باعتبار أن
المدعو هو المسمى، وإنما يدعى باسمه، وجعل الاسم مدعوا
باعتبار أن المقصود به المسمى، وقال تعالى: {اسمه يحيى} ثم
نادى الاسم فقال: {يا يحيى} وقال: {ما تعبدون من دونه إلا
أسماء سميتموها} وأراد الأشخاص المعبودة، لأنهم كانوا
يعبدون المسميات، وقال تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى}،
{تبارك اسم ربك} وهو كثير وعند المعتزلة أنه غيره، ومنهم
من فصل بين الأسماء الوصفية فلا يقال هو المسمى ولا غيره،
وبين الأسماء النفسية يقال هو لا غيره ونسب للأشاعرة وقال
الأستاذ أبو إسحاق في قوله تعالى: {إني أنا الله} إن
المسمى يقول أنا الله ذات الله، وقول الله لا يقال فيه هو
الله ولا غيره، وقال ابن عطية في تفسيره: مر بي أن مالكا
سئل عن
(4/862)
الاسم أهو المسمى فقال: ليس به ولا غيره، يريد
دائما في كل موضع، وفي المسألة مذهب آخر وهو الوقف حكاه
الواحدي في (البسيط) عن ثعلب قال: سئل أحمد بن يحيى عن
الاسم أهو المسمى أم غيره؟ فقال: قال أبو عبيدة: الاسم هو
المسمى، وقال سيبويه: الاسم غير المسمى، قيل له: فما قولك؟
قال: ليس لي فيه قول، واعلم أنه كثر نقل الناس هذا الخلاف
من غير بحث عن تحقيقه، والمراد منه حتى شنعوا على من قال:
إنه عينه، أن يحترق فم من تلفظ بالنار إلى غير ذلك من
الهذيان، وذكر صاحب (الصحائف): أن النزاع لفظي لأنهم إن
أرادوا بالاسم اللفظ الدال على شيء مجرداً عن الأزمنه فلا
شك أنه غيره، وإن أرادوا به غير ذلك فلا يصح أن يكون غير
المسمى فلا نزاع فيه، وذكر الإمام في (نهاية العقول) نحوه،
وقال في تفسيره: إن كان
المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات، وبالمسمى تلك
الذوات في أنفسها (120/ك) فهو غير المسمى، وإن كان المراد
بالاسم ذات المسمى وبالمسمى أيضا تلك الذات كان قولنا:
الاسم هو المسمى، معناه أن ذات الشيء عين ذلك الشيء، وهذا
وإن كان حقا إلا أنه من الواضحات فثبت أن الخوض في هذه
(4/863)
المسألة على جميع التقديرات يجري مجرى العبث،
انتهى. وكذا قال ابن الحاجب في (شرح المفصل): لا خلاف أنه
يطلق الاسم على المسمى وهو التسمية، وإنما الخلاف هل هو في
التسمية مجازا وفي المسمى حقيقة أو العكس؟ والأول مذهب
الأشعري والثاني مذهب المعتزلة، وهذا خلاف لفظي لا يتعلق
باعتقاد ولا بحقيقة وفي القرآن ظواهر في المذهبين قال
تعالى: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء}، {سبح اسم ربك
الأعلى}، وهذا على مذهب الأشعري وقال تعالى: {أنبئوني
بأسماء هؤلاء}، {اسمه المسيح عيسى ابن مريم} وهذا على مذهب
المعتزلة انتهى.
وليس كما قال بل مطلع الخلاف في هذه المسألة: أن المعتزلة
لما أحدثوا القول بخلق القرآن وأسماء الله قالوا: إن الاسم
غير المسمى تعريضا بأن أسماء الله غيره، وكل ما سواه
مخلوق، كما فعلوا في الصفات حيث لم يثبتوا حقائقها، بل
أحكامها تعلقا بأن الصفة غير الموصوف، فلو كان له صفات لزم
تعدد القديم، وموهوا على الضعفة بأن: الاسم من جنس الألفاظ
والمسمى ليس بلفظ، وقالوا: الاسم اللفظ، فليس لله في الأزل
اسم ولا صفة فلزمهم نفي الصفة الإلهية تعالى الله عن ذلك
ولما رأى أهل الحق ما في هذه المقالة من الدسيسة أنكروها
(4/864)
ونفروا عنها، حتى قال يونس بن عبد الأعلى:
سمعت الشافعي يقول إذا رأيت الرجل يقول: الاسم غير المسمى
فاشهد عليه بالزندقة، وعارضهم من قال الاسم هو المسمى، ولم
يقصدوا به أن نفس اللفظ هو حقيقة الذات، فإن فساد ذلك
معلوم بالبديهة وإنما قصدوا به تمويههم، وأن الاسم حيث ذكر
بوصف أو أخبر عنه فإنما يراد به نفس المسمى ولولا هو لم
يذكر أصلا واستشهدوا بقوله {سبح اسم ربك الأعلى} وإنما سبح
الرب سبحانه وتعالى وقوله: {نبشرك بغلام اسمه يحيى} ثم
قال: {يا يحيى} فنادى الاسم، وإنما المقصود المسمى، وبقوله
{هو الرحمن الرحيم} فأخبر عن هذه الصفات بهذه الألفاظ،
وفرق من فصل بين النفسية والوصفية، فإن الأسماء والصفات
تفيد الإشارة إلى الذات وإلى معاني قائمة بالذات، وتلك
المعاني هي المقصودة بتلك الأسماء بخلاف ما يقصد به نفس
الذات، قال بعض المتأخرين: وفصل الخطاب في هذه المسألة أن
لفظ غير لا يطلق غالبا إلا على المباين المنفصل فإذا قيل:
هذا غير هذا، أي مباين له، ويطلق أيضا فيما سوى الهوية،
وعلى الأول فبين الغيرية والهوية مرتبة فمنع أهل السنة أن
الاسم غير المسمى أو الصفة غير الموصوف، لما فيه من إيهام
المعنى الأول الذي قد دعت به المعتزلة إلى مذهبها، وصدق
قولهم لا هو هو ولا هو غيره إذ
(4/865)
قد ظهر بين الهوية والغيرية مرتبة، فإذا
نظر الناظر في هذه المسألة تبادر ذهنه إلى الحال الأصلية،
فحكم بالتغاير وغفل عن كون الاستعمال أفاد التلازم
والاتحاد، فلا يقال زيد إلا ويراد به نفس الذات، ولما رأى
المحققون ما في الغيرية من الدخل وفي الهوية من فتح الظاهر
المفتقر للتأويل تأدبوا بأدب الله ورسوله، فقالوا الاسم
للمسمى، كقوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى} وقوله صلى
الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسما)) انتهى. وذكر
البيهقي في (الشعب) عن الأستاذ أبي إسحاق أن أسماء الله
على ثلاثة أقسام:
قسم منها: للذات، وقسم: لصفات الذات، وقسم: لصفات الفعل،
فالأول الاسم والمسمى واحد كإله وملك وقديم، ومعنى قولنا:
هو المسمى أنه لا يثبت بالاسم زيادة صفة للمسمى، بل هو
إثبات للمسمى، والثاني: الاسم صفة قائمة بالمسمى كالعالم
والقادر، فلا يقال هو المسمى ولا غير المسمى، لأن الاسم هو
العلم والقدرة، والثالث: صفات الفعل كالخالق والرازق
فالاسم فيه غير المسمى لأن الخلق والرزق غيره فأما التسمية
إذا كانت من المخلوق فهي فيها غير الاسم، والمسمى وإذا
كانت التسمية من الله فإنها صفة قائمة بذاته، وهو كلامه،
ولا يقال: إنها المسمى ولا غيره، وذهب بعض أصحابنا من أهل
الحق في جميع أسماء الله إلى أن الاسم والمسمى واحد، قال:
والاسم في قولنا عالم وخالق لذات الباري التي لها
(4/866)
صفات الذات من العلم والقدرة وصفات الفعل
كالخلق والرزق، ولا نقول لهذه الصفات: إنها أسماء بل الاسم
ذات هو الله الذي له هذه الصفات قال البيهقي: وإلى هذا ذهب
الحارث المحاسبي فيما حكاه ابن فورك، قال: ويصح ذلك عندي
بما شهد له اللسان ألا ترى لقوله تعالى: {بغلام اسمه يحيى}
يخاطب اسمه فعلم أن اسمه هو وكذلك قوله تعالى: {ما تعبدون
من دونه إلا أسماء سميتموها} وأراد المسميات، ولأنه لو كان
المسمى أو غيره لكان القائل إذا قال عبدت الله، والله اسمه
أن يكون عبد اسمه إما غيره، وإما أن لا يقال إنه هو، وذلك
محال، وقوله: ((إن لله تسعة وتسعين اسما)) معناه تسميات
العباد لله لأنه في نفسه واحد، ومن أصحابنا من أجرى
الأسماء مجرى الصفات، قال البيهقي: والمختار من هذه
الأقاويل ما اختاره الشيخ ابن فورك.
ص: وأن أسماء الله توقيفية.
ش: في هذه المسألة مذاهب:
أحدها: وهو قول الأشعري أنه لا يجوز إطلاق شيء من الأسماء
والصفات
(4/867)
على الله تعالى إلا بإذن من الكتاب والسنة أو
الإجماع وعليه حمل ابن فورك قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن
لله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة)) قال: معنى
أحصاها على الاختصاص، ولم يخص معها غيرها ولم يزد فيها ولم
ينقص منها، ووقف حيث وقف تنبيها بذلك على أنه لا مدخل
للقياس على أسمائه، وأنه لا يتعدى ما ورد به الشرع ولهذا
قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين
يلحدون في أسمائه} والملحد فيها هو الجائر بأحد الطريقين:
إما بأن يزيد فيها ما لم يأذن فيه كقول المجسم: إنه كائن
في جهة، وإما (121/ك) بأن ينقص منها ما قد أذن فيه كقول
الجهمي: لا يقال له شيء ولا موجود ولا سميع ولا بصير
انتهى. وعلى هذا فاشترط بعضهم القطع، والصحيح كما ابن
القشيري في (المرشد) والآمدي وغيرهما: الاكتفاء بالظواهر
وأخبار الآحاد كما في سائر الأحكام، وهو أن يكون ظاهراً في
دلالته وفي صحته ليكون التجويز والمنع من الأحكام الشرعية
فيكتفى به كسائر الأحكام العملية قال ابن القشيري: نعم لا
يجوز إطلاق اسم ووصف في حق الرب بالأقيسة الشرعية وإن كانت
من
(4/868)
مقتضيات العمل قال: ثم هل يكتفى في كون الكلمة
اسما من أسماء الله تعالى لوجودها في كلام الشارع من غير
تكرار ولا كثرة أو لا بد منه؟ فيه رأيان.
الثاني: كل ما دل على ما يليق بجلاله صح بلا توقيف، وقال
القاضي أبو بكر كل لفظ أوهم نقصا ممتنع وكل ما صح من
الألفاظ فإن ورد الشرع بالمنع منه منعناه، وإن لم يرد إذن
ولا منع توقفنا وغيره جزم بأنه إذا دل على صفة كمال جاز
الإطلاق وهم لا يحملون الألف واللام في قوله: {ولله
الأسماء الحسنى} على الجنس بل للعهد.
والثالث: واختاره الغزالي أنه لا يجوز في الاسم إلا
بالتوفيق= والصفات لا تتوقف، ففرق بين الاسم والصفة، لأن
وضع الاسم في حق الواحد منا غير لائق ففي حق الله أولى،
وأما الصفات والألفاظ مختلفة فهو جائز في حقنا من غير منع،
وكذا في حق الباري وقال بعض المحققين: لو تركنا ومقتضيات
العقول لم نسم الباري سبحانه وتعالى باسم، ولا وصفناه
بوصف، فإن عباراتنا واقعة على معان قاصرة، وأنى لهذا
النقصان أن يعبر عن ذلك الجلال أو الكمال وقد ضل في هذه
الملة طائفتان:
طائفة: حكموا مبادئ العقول ولم يعولوا على الشرع المنقول
فقالوا: لا
(4/869)
نسمي الله باسم ولا نصفه بصفة، وهم الفلاسفة
فعطلوا.
وطائفة: أطلقوا عليه كل اسم ونسبوا إليه كل فعل، والحق
الطريقة الوسطى فنصفه بما وصف به نفسه، ولهذا قال إمام
الحرمين: ورأيي المخالف والموافق لا سبيل إلى إطلاق لفظ
حقيقة في أسماء الباري وصفاته، وإنما ذلك كله مجاز، فإن
المعاني الإلهية تقصر عنها الأسماء الحادثة، فكل لفظ يعبر
به عن موجود محدث لا يجوز إطلاقه على القديم الذي يعبر به
عن المحدث، فالعقل لا حكم له إلا في المعاني لا العبارات،
ولا يجري ذلك إلا فيما طريقه النفي إذ لا يحصره ضبط وربما
ضبط بأن يقول: أنفي عنه ما يؤدي إلى حدوثه أو حدوث معناه
فيه أو التشبيه بخلقه، أو تكذيبه في خبره أو تجويزه في
فعله، فكل ذلك لا يتوقف على السمع وكذلك كل صفة تعلم
بالعقل ككونه حيا عالما وغيرها من الصفات الذاتية، أو لم
يخل العقل عن توقف ووحي، وإذا كان آدم صلى الله عليه وسلم
قد نبي= بالأسماء فالعقول قاصرة لا تستقل بذواتها في إدراك
صانعها على التفصيل حتى يمدها الله بنوره على ألسنة الرسل.
ص: وأن المرء يقول أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، خوفا من
سوء الخاتمة والعياذ بالله لا شكا في الحال.
ش: في الاستثناء في الإيمان مذاهب:
(4/870)
أحدها: عدم الجواز وهو رأي أبي حنيفة جماعة
لأنه شك، والشك في الإيمان كفر.
والثاني: الوجوب نظرا إلى الموافاة وهي مجهولة.
والثالث: الجواز وهو قول أكثر السلف وحكي عن عمر وابن
مسعود رضي الله عنهما، وعليه الشافعية والمالكية والحنابلة
والأشعري وأصحاب الحديث كسفيان الثوري وأحمد واحتج له
بقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((إني لأرجو أن أكون
أتقاكم لله)) وقال في الميت: ((وعليه يبعث إن شاء الله)).
وفي المسألة: مذهب آخر: وهو التفصيل بين الإيمان والإسلام
يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، ولا يقول أنا مسلم
ويستثني، حكاه محمد بن نصر المروزي في كتاب (تعظيم قدر
الصلاة) عن أحمد بن حنبل وهو غريب، وعجب من أبي
(4/871)
حنيفة في إنكارها فإنها صحت عن ابن مسعود وهو
شيخ شيخه، وقال بها الماتريدي من الحنفية، والكل متفقون
على أن ذلك ليس معنى الشك والتردد في الماضي ولا فيما هو
راجع إلى الآن، ولا في المستقبل بالنسبة إلى العقد
والتصميم وذكروا له محامل.
أحدها: تزكية النفس والإيمان على صفات المدح، والاستثناء
مضعف لها.
الثاني: التبرك بذكر الله تعالى وإن لم يكن مشكوكا فيه،
كقوله تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله} وقوله
صلى الله عليه وسلم: ((وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)).
الثالث: أن المشيئة راجعة إلى كمال الإيمان فإنه يكون قد
أخل ببعضه فيستثني لذلك.
الرابع: أنها راجعة إلى ما يقع من الأعمال إذا جعلنا
الأعمال من الإيمان، وهو قريب مما قبله فالإيمان مجزوم به
والترديد في الأعمال، وتوقف والد المصنف في هذا فقال: ولك
أن تقول دخول الأعمال عندهم في كماله لا في أصله وليس من
شرط اسم الفاعل كماله إلا أن يقال حشو إكمال إيهام الإيمان
أو أن اسم الفاعل
(4/872)
يقتضي زيادة ثبوت ودوام على أصل الفعل.
الخامس: أنها ترجع إلى حسن الخاتمة والموافاة، لأنها الأصل
الذي عليه التعويل كما أن الصائم لا يصح عليه الحكم بالصوم
إلا إلى آخر النهار، فلو طرأ المفطر في أثنائه لم يكن
صائما، وهو معنى ما روي عن ابن مسعود لما قيل له: إن فلانا
يقول: أنا مؤمن ولا يستثني فقال: (قولوا له: أهو في الجنة؟
فقال: الله أعلم، فقال: هلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية)
وكان أخو المصنف الشيخ بهاء الدين رحمهما الله يقول: إن
حقيقة أنا مؤمن، هو جواب الشرط أو دليل الجواب، وكل منهما
لا بد أن يكون مستقبلا، فمعناه أنا مؤمن في المستقبل إن
شاء الله، وحينئذ فلا حاجة إلى تأويل ذلك بل تعليقه واضح
مأمور به بقوله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا
إلا أن يشاء الله} وهذا قد يعكر عليه أنه مأمور به في
المستقبل بالعقد والتصميم والتعليق ينافيه (122/ك) ويحصل
من هذا كله أن النزاع في هذه المسألة لفظي لاتفاقهم على أن
أمر الخاتمة مجهول وأن الاعتقاد الحاضر يضره أدنى تردد،
وأن الانتفاع به مشروط بالموافاة عليه، فلم يبق إلا أنه هل
يسمى إيمانا وذلك أمر لفظي، وجعل أبو الليث السمرقندي في
كتاب (البستان)
(4/873)
المنع منه أمرا صناعيا، وهو أن الاستثناء
يستعمل للاستقبال ولا يستعمل للماضي ولا للحال، فلا يصح أن
يقال: هذا ثواب إن شاء الله تعالى، فلا يصلح: أنا مؤمن إن
شاء الله وعزى جماعة هذا إلى غيره من الطاعات فكانوا
يقولون: صليت إن شاء الله بمعنى القبول، بل صاروا يستثنون
في كل شيء.
واعلم أن المصنف اقتصر من المحامل على الخامس، وقد يعكر
عليه قول الحليمي: إن المؤمن لا ينبغي أن يمتنع من تسمية
نفسه مؤمنا في الحال لما يخشاه من سوء العاقبة نعوذ بالله
منه، لأن ذلك لا يقلب الموجود من الإيمان معدوما، وإنما
يحبط أجره فالردة الطارئة والعياذ بالله لا ترفع الإيمان
السابق، بل تقطعه من حين وجودها وتحبط أجر ما مضى لا عينه،
يعني بدليل أنه لو عاد إلى الإسلام لا يلزمه قضاء ما فعله
قبل الردة، وإنما حسن الاستثناء إذا قال: أنا مؤمن وأعيش
مؤمنا وأموت مؤمنا وعليه يحمل قول ابن مسعود: قل: إني في
الجنة، فإنه الذي يعلم كونه في الجنة لا من كان مؤمنا ساعة
أو يوما أو سنة في عمره.
فائدة: عن سفيان الثوري لا يجوز لأحد أن يقول: أنا مؤمن في
علم الله لأن علم الله لا يتغير وقد يتبدل حال الإنسان
فيصبح مؤمنا ويمسي كافرا وبالعكس، قال المحب الطبري: وفي
إطلاق هذا نظر، فإن من قال: أنا في علم الله الآن مؤمن وهو
يعلم من نفسه الإيمان، فهو محق وعلم الله متعلق بالمعلوم
على ما هو به في كل وقت بحسبه ولا يتغير ولا يتبدل، ولا
يقال: علمه في الوقت الثاني بعدم إيمانه فيه محدث، لأن
علمه الثاني غير الأول، لأنا نقول: علمه قديم بالمكان في
الوقتين على اختلاف صفته وإنما تعلقه بالمعلوم فيها محدث،
فالتعلق قديم والمتعلق والمتعلق حادثان ومثله قوله تعالى:
{ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} أي
(4/874)
تنزيله محدث والذكر قديم ولا يجوز أن يقطع في
حق أحد بجنة إلا في حق الأنبياء ومن شهد له الرسول بها،
لأن خبره حق.
ص: وأن ملاذ الكافر استدراج.
ش: هل لله تعالى على الكافر نعمة؟ اختلف فيه على مذاهب:
أحدها: نعم لقوله حكاية عن قوم هود: {فاذكروا آلاء الله}،
{يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها}.
والثاني: لا وإنما أعطوه من متاع الدنيا استدراجا لا نعمة،
فهو كالعسل المسموم ونسب للأشعري.
والثالث: إثبات الدنيوية دون الدينية. قال القاضي أبو يعلى
في (المعتمد): إنه ظاهر كلام أصحابهم وقال الآمدي في
(الأبكار): لا نعلم خلافا بين أصحابنا أن الله تعالى ليس
له على من علم إصراره على الكفر نعمة دينية، وأما النعمة
الدنيوية فاختلفوا فيها وللأشعري قولان، وميل القاضي أبو
بكر إلى الإثبات، وأجمعت المعتزلة على أن لله على الكافر
النعمة الدينية والدنيوية، ثم أشار إلى أن الخلاف لفظي،
فإن من نفى النعم مطلقا لا ينكر الملاذ في الدنيا وتحقيق
أسباب الهداية، غير أنه لا يسميها نعما لما يعقبها من
الهلاك، ومن أثبت كونها نعما لا ينازع في تعقيب الهلاك
لها، غير أنه سماها نعما للصورة.
قلت: وهو كما قال، ويرجع إلى تفسير النعمة بماذا هل هي
مجرد الملاذ والتنعم؟. فعلى الكافر نعم عظيمة أو التنعم مع
سلامة العاقبة فيه فلا نعم عليهم، بل
(4/875)
هي نقمة، والأول أقوى في النظر، لأن الله
تعالى سماها نعمة وآلاء بقوله: {وإن تعدوا نعمة الله لا
تحصوها} ثم قال: {إن الإنسان لظلوم كفار} دل على أن نعمه
على القبيلين، وإن كان إحداهما في الحقيقة استدراج كما قال
تعالى: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع له في
الخيرات بل لا يشعرون} {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم}
والاستدراج ضرب من ضروب القدر بل بحر من بحاره غرق فيها
الخلق إلا من تداركه الله فأنقذه منه أو حفظه ابتداء عنه،
ولقد أحسن أبو العباس السياري فيما حكاه القشيرى في
(الرسالة): قال عطاؤه على نوعين: كرامة واستدراج، فما
أبقاه عليك فهو كرامة، وما زاله عنك فهو استدراج، فقل: أنا
مؤمن إن شاء الله، ومنه يظهر مناسبة ذكر المصنف هذه
المسألة عقب ما قبلها.
ص: وأن المشار إليه بأنا الهيكل المخصوص.
ش: في حقيقة النفس الإنسانية، والمراد به ما يشير إليه كل
أحد بقوله (أنا) اختلفوا فيه فذهب كثير من المتكلمين إلى
أنه الهيكل المخصوص وقال صاحب (المطالب) إنه قول جمهور
الخلق والمختار عند أكثر المتكلمين، لأن كل عاقل إذا قيل
له: ما الإنسان وما حقيقته فإنه يشير إلى هذه البنية
المخصوصة، ولأن الخطاب متوجه إليها، والثواب والعقاب
والمدح والذم متوجهان إليها ولو أن أحدا قال: إنما المأمور
(4/876)
والمنهي والمنهي غيرهما لأنكره العقل، وضعفه
صاحب (الصحائف) بأن الإنسان باق من أول عمره إلى آخره،
والهيكل دائما في التبدل والتحلل خارجا داخلا، وقال صاحب
(التحرير): إذا تأملت حق التأمل وجدت إشارتك إلى ذاتك
بقولك: أنا مفهوم غير مفهوم قولك: هو، وأنت عند قولك أنا
تشير إلى ذاتك فإذا أشرت إلى كل واحد من أعضائك وأجزاء
بدنك فإنما تقول هو هذه الأشياء منفصلة خارجة عما هو أنا،
فليست أنا ولا جزء أنا، إذ ليس أنا عبارة عن مجموع الهويات
لجواز أن تكون حقيقة الأجزاء غير حقيقة الجملة، فإذا
إشارتك بأنا تقتضي أن تكون شيئا غير جسدك وغير كل واحد من
أجزائه وتوابعه وذلك الغير يسمى نفسا وقال أبو المظفر
الإسفراييني في كتاب (التوجيه): اعلم أن الإنسان هو هذه
الجملة المصورة والأعضاء المركبة أعلى الهيئة المخصوصة،
والاسم راجع إلى هذه الجملة يطلق عليها سواء فيه القليل
والكثير والذكر والأنثى، فإن كان ناقصا بعضو أو أكثر
انطلقت (123/ك) عليه التسمية كتعريف الجنس مع التقييد بما
يدل على النقص، والتكليف يتوجه إلى الجملة، لا يدخل فيه
العقل والروح الحياة، وكذلك الثواب والعقاب يرجع إلى هذه
الجملة لا إلى شيء مما قام به من الأعراض كالعلم والعقل
والحياة ولو قطعت يد الكافر ثم أسلم ومات على إيمانه وصل
إليه يده وأثاب الجملة على طاعاته، وكذا في الردة وقال
غيره: اختلف الناس في الإنسان هل هو اسم لمجموع النفس
والبدن كما أن الكلام اسم لمجموع اللفظ والمعنى،
أو لمخصوص اللفظية المودعة فيه وهي الروح أو
(4/877)
النفس؟ على قولين، والثاني حكاه الأشعري في
المقالات عن بعض المعتزلة والمشهور في عرف القرآن واللغة
الأول، قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين}
والمخلوق من الطين إنما هو البدن، وقال الآمدي في
(الأبكار): اختلفوا في معنى النفس الإنسانية هل هي عرض أو
جوهر والقائلون بالأول اختلفوا فمنهم من قال لأنها عرض خاص
من الأعراض ولم يعينه، وهو مذهب جمع من المتكلمين ونصره
إلكيا الهراسي، ومن قدماء الفلاسفة من قال: إنها المزاج
الخاص بأبدان نوع الإنسان، ولهذا يقولون: باختلاف ذلك
المزاج، وقيل: من جملة القوى الفعالة في الأجسام وقيل هي:
صفة الحياة، ومنهم من قال: عبارة عن الشكل الخاص والتخطيط
والقائلون بأنها جوهر اختلفوا فقيل: مركب فيكون جسما،
وقيل: بسيط لا تركيب فيه والقائلون بالجسم اختلفوا فقيل:
إنها جسم في داخل هذه الجثة، ثم اختلفوا فقيل: مركب من
العناصر وقيل: إنها الدم لأنها أشرف أخلاط البدن، وقال
الأطباء: النفس هي الروح وهو جسم لطيف بخاري ناشئ عن تجويف
الأيسر من القلب
(4/878)
فيثب في جميع القلب وهو منبع الحياة والنفس
والبصره= ومال القاضي أبو بكر إليه، والقائلون بالجوهر
البسيط اختلفوا فقيل: جوهر معقول غير متحيز مجرد عن المادة
دون علائقها وهو مذهب فحول الفلاسفة وقيل: جوهر فرد متحيز
واختاره الغزالي.
قلت: الذي حكاه الإمام في (المطالب العالية) عن الغزالي أن
الإنسان عبارة عن جوهر مجرد ليس بمتحيز ولا حال في
المتحيز، وقال: إنه قول أكثر المحققين من الصوفية وحكاه في
موضع آخر عن الحليمي والراغب واختاره البيضاوي في
(الطوالع) وقال ابن القشيري: قال الأستاذ أبو إسحاق: الروح
عرض وهي الحياة وظاهر كلام الأشعري أنه جسم لطيف وهو
الأظهر عند الأئمة وجاءت به الأحاديث وفي الصحيح: ((أرواح
الشهداء في حواصل طير خضر)) وقد سبق عند قوله: يجب الإمساك
عنها أقوال أخر، وأعجب من المصنف في شيئين:
أحدهما: اقتصاره على إيراد قول الهيكل مع أن بعضهم قال:
إنه مسمى على إنكار النفوس بعد المفارقة وهو قول ضعيف سبق
من المصنف الجزم بخلافه وقد سئل المصنف عن الجمع بين
المسألتين فقال: لا ارتباط بينهما حتى يسأل عن الجمع
بينهما، وفيه نظر فإن القائل: بأن النفس المشار إليه إنما
هو الهيكل إذا كان حيا
(4/879)
وبزوال الحياة يزول التركيب كما سبق عن الآمدي
في حكاية هذا المذهب، وكذا حكاه غيره.
والثاني: أنه سبق منه اختيار الإمساك عن الكلام وفي الروح
فكيف تكلم عليها هنا؟
وانفصل المصنف عن هذا بأنهما مسألتان:
إحداهما: في حقيقة الروح هل هي عرض أو جوهر أو غير ذلك؟ من
الأقوال وهو موضع ما سكت عنه.
والثانية: أن المشار إليه بأنا هل هو هذه الجثة أو الروح؟
فمن قال الروح الجثة فلا إشكال عنده، وأما من لم يقل بأنها
الجثة بل المشار إليه بأنا الجسد إذا كانت النفس قائمة بها
لتخرج جثة الميت، ولا يخفى ما فيه من التعسف مع خروجه عن
طريقة الناس في حكاية هذا المذهب، وقد أورد الإمام في
(المطالب) سؤالا هو أن أعرف المعارف العلم المشار إليه
بقوله: أنا، وهو نفسه المعينة وذواته المخصوصة فكيف وقع
فيه هذا الخلاف الكبير؟ قال: وقد رأيت في الرسالة المسماة
(بالتفاحة الجارية) من أرسطاطاليس عند موته فقيل له: كيف
يعقل أن يسأل الإنسان غيره عن حال نفسه فأجاب الحكيم بأنه
مثل سؤال المريض الطبيب عن دائه والأعمى عن لونه ثم أجاب
الإمام: بأن العلم بوجود النفس من حيث إنها شيء غير العلم
بأنها ما هي على التفصيل والأول غني عن التعريف بخلاف
الثاني.
(4/880)
(ص) وأن الجوهر الفرد وهو الجزء الذي لا يتجزأ
ثابت.
(ش) ذهب أهل الحق إلى أن الجسم مركب من أجزاء لا تتجزأ
بالفعل ولا بالوهم، وتسمى تلك الأجزاء جواهر مفردة، والجسم
مؤلف من تلك الجواهر، ولا يقبل الانقسام إلى غير نهاية لا
تقطعا لصغره ولا كسرا لصلابته، ولا وهما للعجز عن تمييز
طرف منه، ولا فرض لاستلزام خلاف المقدور وخالف ذلك معظم
الفلاسفة والنظام والكندي من المعتزلة: وقالوا: الجوهر
المتحيز وإن انتهى إلى حد لا يقبل القمة بالفعل فلا بد أن
يكون قابلا لها في الوهم والتعقل وهو مذهب فاسد، لأنه يؤدي
إلى وجود اتصالات لا نهاية لها ويؤدي إلى أن يكون أجزاء
الخردلة مساوية لأجزاء الجبل، لأن كل واحد منهما لا يتناهى
ويؤدي إلى أن ما نهاية له أعظم مما لا نهاية له، وذلك
محال، وقولهم: إن المدرك له الوهم لا يعقل فإن الوهم لا
يدرك الأشياء التي لا تدرك بالحواس على ما هي عليه،
والجوهر يدرك بدليل العقل دون الحس لأنه بلغ من صغره إلى
أن فات الحس، فلهذا لا يحكم عليه الوهم إلا بحكم ما شاهده
من المحسوسات وذلك كحكمه على الواحد الحق الذي لا جهة
(124/ك) له في قضية العقل بأنه لا بد أن يكون له لون
ومقدار ومكان وقرب وبعد ووضع إلى ما سوى ذلك من سائر عوارض
الأجسام التي ألفها وأنس بها فيحكم على ما لم يشاهده بحكم
ما شاهده فيها، والتخلص من غلط الوهم عزيز يختص به الآحاد،
فهذا وجه الغلط في هذه المسألة وهو أن الوهم يحكم على
الجوهر الفرد بحكم الجسم
(4/881)
في قبول القسمة ويفضي بأنه قابل للانقسام إلى
غير نهاية، والعقل يحكم بإحالته لقيام الدليل على ذلك،
وقال المقترح: اختلف العقلاء في إثبات موجود في نفسه متميز
لا يقبل القسمة فالذي ذهب إليه أكثر المسلمين من أهل السنة
والاعتزال إلى إثباته، وذهب النظام إلى أن الجسم ينقسم إلى
أجزاء لا نهاية لها وذهب الفلاسفة إلى أن الجسم لا أجزاء
فيه بالعقل وإنما الأجزاء فيه بالقوة، بمعنى أنه يستبعد
لأن ينقسم لا أن فيه تجزئة في الحال وفي المسألة مذهب آخر
وهو الوقف قال فخر الدين الرازي وهو قضية كلام إمام
الحرمين قال المقترح: وهو المختار، فإن الوجود المعروف لم
يفهم حقيقته فيحكم عليه باعتبارها وليس فيما علمنا متوقفا
عليه، فتعذر العلم به بخلاف ما يقول في الصانع فإنه وإن لم
تعلم حقيقته إلا أن ما علمناه متوقفا وجوده عليه يستند
العلم بوجوده إليه.
فإن قيل: وأي فائدة في إثبات الفرد وما القصد بهذه
المسألة؟
فالجواب: أنه من مقدمات حدوث العالم فإن الجسم إذا ثبت أنه
مركب من أجزاء مفردة استحال خلوه عن الألوان التي هي عبارة
عن الحركة والسكون والاجتماع والافتراق وهي معان حادثة
فيرتب عليه أن ما لا يخلو من الألوان الحادثة لا يسبقها،
وما لا يسبق الحادث فهو حادث أو يؤدي إلى ما لا أول له من
الحوادث وهو محال، وهي طريقة أئمتنا في إثبات حدوث العالم
إذا بسطت وحققت والقصد بهذه المسألة حصر العالم في الجواهر
والأعراض وزعمت الفلاسفة: أن
(4/882)
الموجودات الممكنة لا تنحصر في الأجرام
والقائم بها لكن الجوهر عندهم عبارة عن موجود لا في موضوع،
والموضوع هو المتقدم بنفسه ولا يتقدم بما حل فيه، وقال
الإمام في (المطالب): وأما الثالث من أقسام الموجودات وهو
الموجود الذي لا يكون متحيزا ولا حالا في المتحيز فقد ثبت
بالدلائل النقلية أن الله تعالى كذلك، وهل حصل في الممكنات
موجود هذا شأنه أم لا؟ فالحكماء أثبتوه والمتكلمون أنكروه
وليس من المتكلمين ما يدل على فساد هذا القسم ودليلهم، على
حدوث العالم إنما يتناول المتحيزات والأعراض القائمة بها
ولا يتناول هذا الثالث، فعلى هذا دعواهم أن كل ما سوى الله
تعالى محدث إنما يتم بإبطال هذا الثالث، أو بذكر دليل يدل
على حدوث هذا الثالث بتقدير ثبوته وإن لم يذكروا شيئا في
هذين المقامين فيبقى كلامه ناقصا، وقال في موضع آخر
القائلون بإثبات الجسم الذي لا يتجزأ يتفرع عليه فروع:
الأول: اختلفوا في أنه هل يعقل وقوع الجزء الواحد على
الجزأين فأباه الجبائي والأشعري وجوزه أبو هاشم والقاضي
عبد الجبار.
الثاني: أن الجوهر الفرد هل له شكل أم لا؟ فأباه الأشعري.
وأما أكثر المعتزلة فأثبتوا له شكلا، ثم اختلفوا فقيل: إنه
أشبه بالمثلث والأكثرون أنه أشبه بالمربع، والحق أنهم
شبهوه بالمكعب، لأنهم أثبتوا له جوانب ستة، وزعموا أنه
يمكن أن يتصل به جواهر ستة من جوانب ستة وهذا يوجب أن يكون
شكله المكعب.
الثالث: أن الجوهر الواحد له حظ من الطول العرض؟ فأنكره
الكل إلا أبو الحسين الصالحي من قدماء المعتزلة فإنه زعم
أنه لا بد من أن يحصل له قدر من الطول والعرض والعمق.
(4/883)
الرابع: أن الجوهر الفرد هل يقبل الحياة وسائر
الأعراض المشروطة بالحياة كالعلم والقدرة والإرداة
فالأشعري وجماعة من المعتزلة قالوا به، والمتأخرون من
المعتزلة أنكروه وهذه هي المسألة المشهورة فى علم الكلام
بأن البنية هل هي شرط للحياة وللأعراض المشروطة بالحياة أم
لا؟
الخامس: أن الخط المؤلف من الأجزاء التي لا تتجزأ، هل يمكن
جعله دائرة أم لا؟
أما الأشعري فقد أنكره في كتاب (النوادر) وجوزه إمام
الحرمين في (الشامل).
السادس: كل من أثبت الجوهر الفرد زعم أن حجر الرحى يتفكك
عند الاستدارة ثم ذكر الإمام أنه صنف رسالة مفردة في مسألة
الجوهر الفرد.
فائدة: قال بعضهم جرت العادة بأن الجوهر الفرد لا نراه،
ولا نرى لونه إلا مع انضمامه إلى غيره ولا ينضبط أقل عدد
المرئي فيها حتى لو نقص من ذلك العدد شيء لم ير ولكن يجوز
رؤية الجوهر الفرد من غير ائتلاف إذا انخرقت العادة.
(ص) وإنه لا حال أي لا واسطة بين الموجود والمعدوم خلافا
للقاضي وإمام الحرمين.
(ش) الجمهور على أنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم، وأثبت
المعتزلة واسطة وسموها بالحال، وقسموا الغائب إلى الموجود
والمعدوم، والحال عرفوها بأنها: صفة لموجود لا يوصف بوجود
ولا عدم، ووافقهم القاضي أبو بكر وإمام الحرمين في أحد
قوليهما، وقالا: كل
(4/884)
صفة قامت بالذات فإنها توجب لها حالا، سواء إن
كانت مشروطة بالحياة أو لا، فالمكانية معللة بالكون، وكذلك
الأسودية والعالمية، وقد حكى الآمدي عن القاضي القولين،
وأما أمام الحرمين فرجع عن ذلك فقال في كتابه المسمى
(بالمدارك): اخترنا في (الشامل) المشي على أساليب الكلام
في القطع بإثبات الأحوال ونحن نقطع بنفيها فإطلاق المصنف
النقل عنهما ليس بجيد، وذهب الأستاذ أبو إسحاق وابن دهان
متكلم الأندلس إلى نفي المعنوية منها والوقف في النسبية،
وجمع بعض الأئمة بين قولي النافي والمثبت بأنها ليست
موجودة في الأعيان، ولا معدومة في الأذهان (125/ك) أي لا
بد من تعلق العلم بها، وهي عند مثبتها تنقسم إلى نسبية
ومعنوية، والذي يظهر من كلام الأستاذ أن قوله بالنفي يختص
بالمعنوية دون صفات النفس الموجودات، لأن أكثر دلائله مبني
عليها، وسماها وجوها واعتبارات ولا مشاحة في التسمية،
ومثلها إمام الحرمين في (الإرشاد) بكون الوجود عرضا لونا
سوادا وهذا بين إثباتها لأن معقولية كون هذا الوجود عرضا
ليست معقولية كونه لونا، وإلا لكان كل عرض لونا، وليس
كذلك، ومنهم من قال: ليست معقولية ولا مجهولية ومنهم من
قال: ليست بمطلوبة فقط، قال الأستاذ: وجرى هذا الفصل مع
مقدم لهم يعنى يقولوا: إنها لا تعلم، فقلت: إذ لم تكن
الأحوال معلومة
(4/885)
فقد تخصص ما أوجب العالم بها أوجب القادر، وما
أوجب القادر بما أوجب العاجز، وغير ذلك يداخل المختلفات
والمتضادات، وهذا من كلامه يدل على إثبات الأحوال النفسية
منها، وقال القاضي أبو يعلى في (المعتمد): الأحوال ليست
بأشياء موجودة بل هي حكم الأشياء، قال: ويصح العلم أو
يتعلق
بالأحوال مفردة وبالذوات مفرده، ويصح أن يجعل الأحوال من
عرف الذوات خلافا لابن الجبائي في قوله: إن الأحوال ليست
بمعلولة ولا مجهولة بل تعلم الذوات عليها، ولنا أن الواحد
منا يعلم ذات الشيء أو لا ولا يعلم مع ذلك ما هي عليه من
الأحوال التي تختص بها إلا بنظر آخر انتهى. والقصد بهذه
المسألة أن أصحابنا لما تكلموا مع المعتزلة في صفات الله
تعالى، احتجوا عليهم في إثباتها باعتبار الغائب بالمشاهد،
وقدروا ذلك بطرق منها إثبات الأحوال، ولا شك أن الأعراض
القائمة بالذات توجب لمحالها أحوالا بأن العلم يقتضي لجملة
البدن حالا، وهو العالمية، والقدرة حالا وهي القادرية،
وكذا باقي الصفات، ومعنى قولهم إن الأحوال لا توصف بالوجود
ولا بالعدم أنها غير موجودة في الأعيان، ولولا معدومة في
الأذهان، واحتج مثبتها بالأدلة القائمة على ثبوت الأعراض
عند نفاة الأحوال والعجب منهم كيف صرحوا بأنها غير موجودة
ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة، ثم استدلوا عليها،
وغاية الاستدلال إثبات العلم بوجود شيء أو عدمه، فما لا
وجود له ولا عدم كيف يستدل عليها؟ إذ لا يمكن تعلق العلم
به.
واحتج فخر الدين على نفيها بأن تلك الواسطة إن كان لها
ثبوت بوجه ما، كانت موجودة وإن لم تكن فمعدومة وأشار في
(الطوالع) إلى أن البحث لفظي يرجع إلى تفسير الحال، فعلى
تفسيرهم تثبت الواسطة، فقال: لنا: أن التصور إما أن يتحقق
بوجوب وهو الوجود أو لا وهو العدم، فإن غيروا التفسير
فالبحث لفظي، وقال
(4/886)
الغزالي في أوائل (المستصفى): هذه المعاني
المطلقات المجردات الشاملة لأمور مختلفة كالفرس المطلق
الذي يشترك فيه الصغير والكبير والأشهب والكميت وغيرها هي
التي يعبر عنه المتكلمون بالأحوال والوجوه والأحكام، ويعبر
عنها المنطقيون بالقضايا الكلية المجردة ويزعمون أنها
موجودة في الأذهان لا في الأعيان، وتارة يعبرون عنها بأنها
غير موجودة من خارج بل من داخل، يعنون خارج الذهن وداخله،
ويقول أرباب الأحوال إنها أمور ثابتة ثم تارة يقولون إنها
موجودة معلومة وتارة يقولون: لا موجودة ولا معلومة ولا
مجهولة، وقد دارت فيه رؤوسهم وحارت فيه عقولهم، والعجب أنه
أول منزل ينفصل فيه المعقول عن المحسوس إذ من ههنا يأخذ
العقل الإنساني في التصرف وما كان قبله كان يشارك التخيل
البهيمي فيه التخيل الإنساني، ومن تحير في أول منزل من
منازل العقول كيف يرجئ= فلا حاجة في تصرفاته.
(ص) وأن النسب والإضافات أمور اعتبارية لا وجودية.
(ش) الأمور النسبية وهي المفهومات التي تعلقها بالنسبة إلى
المعنى، وهي سبع في المشهور: الإضافة والأين ومتى والوضع
والملك والأفعال والانفعال واختلفوا فيها فقالت الفلاسفة:
إنها وجودية، وذهب أكثر المتكلمين إلى أنها عدمية لا وجود
لها في الخارج واستثنوا الأين كما قاله في (الطوالع) وغيره
وهو حصول الجسم في
(4/887)
المكان فإنهم يسمونه الكون، ويقولون بوجوده في
الخارج فكان حق المصنف أن يستثنيه.
واحتج المتكلمون: أنها لو كانت موجودة لوجدت في محلها وذلك
إضافة أخرى عارضة لها فيحتاج هو أيضا إلى محل آخر،
ويتسلسل.
واحتج الحكماء بأن كون السماء فوق أمر حاصل في نفس الأمر،
سواء وجدت الأرض والأغيار أم لا، وليس عدميا لصدق نقيضه
على المعدومات وعارضهم المتكلمون بأنها لو كانت وجودية لما
وجدت وإلا لزم تقديمها على نفسها، وقال صاحب (الصحائف):
الحق أن بعضها عدمي كالمنافي فإنه لا يجتمع مع الآخر
وبعضها وجودي كالمنع فإنه عبارة عن شيء موجود عند كون
الآخر موجودا.
(ص) وأن العرض لا يقوم بالعرض.
(ش) العرض: هو ما لا يقوم بنفسه بل يفتقر في وجوده إلى محل
يقوم به كالحركة والسكون والبياض والسواد.
واختلف هل يقوم بالعرض؟ وأهل الحق على استحالته لأن العرض
لا يقوم بنفسه بل يحتاج إلى محل يقوم به كالجسم، فلو قام
العرض بعرض لكان المحل جواهر فيلزم أن يكون عرضا لا عرضا
ولا جسما لا جسما وهو محال، ولأنه لو قام به للزم حصوله
على حيز العرض الذي هو محله تبعا لحصوله، وحيزه هو الجوهر
فهما حاصلان في حيز الجوهر تبعا لحصوله فيه، فهما قائمان
وإن كان قيام أحدهما به مشروطا بقيام الآخر كما في الأعراض
المشروطة بالحياة وصارت الفلاسفة إلى جوازه
(4/888)
واختاره الإمام في (المحصل) وصاحب (الصحائف)
لأن السرعة والبطء عرضان قائمان بالحركة وليسا قائمين
بالجسم، إذ يقال: جسم بطيء في حركته، ولا يقال: جسم بطيء
في جسميته، وكذلك لون كثيف ورقيق، فالكثافة والرقة أعراض
قامت باللون.
وأجاب المانعون بأن السرعة والبطء قائمان بالمتحرك بواسطة
الحركة لا نفس الحركة، والحاصل أن هذه الأعراض (126/ك)
إنما قامت بالجواهر بواسطة الأعراض فحاصل الأمر أن الأعراض
لا تقوم بالجواهر، نعم تارة بلا وساطة كالحركة وتارة
بواسطة كالسرعة قامت بالجواهر بواسطة الحركة، ويمنع كون
البطء صفة للحركة، وإنما هو عبارة عن تحلل السكنات، وكذلك
السرعة عبارة عن عدم التحلل، فرجع حاصله إلى أن الجسم يسكن
في بعض الأحيان ويتحرك في بعضها، فيكون ذلك صفة للجسم لا
للحركة، ويقولون: أيضا إن ما ذكره الخصوم لا يتأتى على
مذهبهم أيضا لجواز أن تكون طبقات الحركات أنواعا مختلفة
وليس ثم إلا الحركة المخصوصة، وأما السرعة والبطء فمن
الأمور النسبية، ولذلك تكون بطيئة بالنسبة إلى حركة
الإنسان مثلا سريعة بالنسبة إلى أخرى كالفرس.
واعلم أن الفلاسفة إنما قالوا بقيام الأعراض بأنفسها
وانتقالها عن محل إلى آخر، لأن المتكلمين استدلوا على حدوث
الأجسام بأنها لا تخلو عن الحركة والسكون، وأنهما عارضان
حادثان وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث، فقالوا لهم: لا
نسلم حدوث الحركة والسكون ولم لا يجوز أن يكونا قبل هذه
الأقسام قديمين،
(4/889)
إما قائمان بأنفسهما أو كانا قائمين بمحل آخر،
ثم بعد ذلك انفصل إلى هذه الأجسام المنفية، لم قلتم: إنه
ليس كذلك لا بد له من دليل.
(ص) ولا يبقى زمانين.
(ش) هذه المسألة مبنية على التي قبلها فلهذا عقبها بها،
واتفقت الأشاعرة على أن الأعراض غير باقية بل هي على النقض
والتجدد وأن الله تعالى قادر على خلق كل واحدة من آحادها
أي وقت شاء من غير تخصيص بوقت قال الغزالي في (تهافت
الفلاسفة): ذهبت الأشعرية إلى أن الأعراض تفنى بأنفسها ولا
يتصور بقاؤها وأما الجواهر فليست باقية بأنفسها ولكنها
باقية ببقاء زائد على وجودها، فإذا لم يخلق الله سبحانه
البقاء انعدم العدم المبقي، ومنهم من قال: باقية بأن لا
يخلق الله فيها حركة ولا سكونا فيعدم لاستحالة ذلك، وذهبت
الفلاسفة: إلى بقاء جميع الأعراض دون الأزمنة والحركات،
وذهب الجبائي وابنه إلى بقاء الألون والطعوم والروائح دون
العلوم والإرادات والأصوات، والقائلون ببقائه قالوا: لا
يكون له بقاء كبقاء الجواهر، واحتج أصحابنا بأن البقاء عرض
فلو بقي العرض لزم قيام العرض بالعرض، ولأنه لو صح بقاء
العرض لامتنع فناؤه وزيفه الغزالي وقال: إنه فاسد
(4/890)
لما فيه من مناكرة المحسوس، فإن السواد لا
يبقى والبياض كذلك، وأنه متجدد الوجود والعقل ينبئ عن هذا
كما ينبئ عن قول القائل: إن الجسم متجدد الوجود في كل
حالة، والعقل القاضي بأن الشعر الذي على رأس الإنسان في
يومه هو الشعر الذي كان بالأمس لا مثله، يقضي أيضا في سواد
الشعر، قال: وكأنهم توافقوا على أن الإعدام ليس بفعل،
وإنما هو كف عن الفعل لما لم يعقلوا كون العدم فعلا ولهذا
اختار الإمام والبيضاوي إمكان بقائه، لأنها كانت جائزة
الوجود في الزمن الأول فكذا في جميع الأزمنة.
وأجاب الجمهور بأنه لا نزاع في إمكان وجودها في جميع
الأزمنة، بل في بقائها وهو استمرارها على أنها موجودة في
الزمن الثاني متصلة بالوجود الأول، ثم هو منقوض بالأصوات
والحركات فإنه يمتنع بقاؤها بالاتفاق، وما المانع من أن
الله يخلق الأعراض متوالية على توالي الأزمان بلا فترة
بينهما فتتابع حتى يظنها الناظر لها باقية وهي بالحقيقة
متجددة، وقد صنف الإمام أبو الحجاج يوسف الأزدي جزءا أسماه
(بيان الغرض في إحالة بقاء العرض).
تنبيه: الغرض من هذه المسألة نفي قدم العالم، والفلاسفة
جعلوها إحدى مقدماتهم على عدم حدوثه، ولما رأى أصحابنا ذلك
لازما نفوه، لأنه إذا ثبت أنه لا يبقى زمانين تبين أن
العالم لا يستقل بنفسه زمانا واحدا، بل يفتقر إلى الله
سبحانه وتعالى على مرور الأزمان، وإليه الإشارة بقوله
تعالى: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله} فالجوهر
مفتقر إلى الفاعل في إيجاده ثم يفتقر إليه في إبقائه
وإمداده بأعراضه، بأن يوالي عليه صفاته التي يحتاج إليها
في استمرار وجوده، فلو كان
(4/891)
العرض باقيا لما افتقر الجوهر إلى الفاعل، إذ
هو موجود ولا حاجة به إلى فاعل يفعله وصفاته، فلو ثبتت
وبقيت فلا حاجة بها إلى فاعل، واللازم باطل وليس بقاء
الجوهر في ثان زمان حدوثه بأولى من عدمه، لولا الفعل
المخصص فانظر إلى هذه الدسيسة التي أسست عليها هذه
المسألة، واستغفر لمن استخرجها بحقائق المسألة.
(ص) ولا يحل محلين.
(ش) العرض الواحد لا يحل بمحلين خلافا لأبي هاشم فإنه زعم:
أن التأليف عرض واحد حال في محلين، ووافقنا على أنه يستحيل
بقاؤه بأكثر من محلين.
واحتج الأصحاب بأنه: لو جاز قيام العرض الواحد بمحلين
لأمكن حلول الجسم الواحد في مكانين في حالة واحدة وإنه
محال.
(ص) وأن المثلين لا يجتمعان كالضدين بخلاف الخلافين، وأما
النقيضان فلا يجتمعان ولا يرتفعان.
(ش) المعلومات تنحصر في أربعة أقسام:
الأول: مثلان وهما اللذان لا يجتمعان ويمكن ارتفاعهما مع
التساوي في الحقيقة كالبياض والبياض، واحتج أصحابنا على أن
المثلين لا يجتمعان: بأن المحل
(4/892)
لو قبل المثلين لزم أن يقبل الضدين، بيانه أن
القابل للشيء لا يخلو عنه أو عن مثله أو ضده، فلو قبل
المثلين لجاز وجود أحدهما في المحل وانتفاء الآخر، فيخلفه
ضده فيجتمع الضدان، وهو محال.
الثاني: الضدان وهما اللذان لا يجتمعان وقد يرتفعان وإليه
أشار بقوله: (كالضدين) وهذا التعريف مدخول بالجوهرين
فإنهما لا يجتمعان أي لا يكون أحدهما لجنب الآخر، قد
يرتفعان وقيل: هما الشيئان اللذان لا يجتمعان على موضوع
واحد وبينهما غاية الخلاف فإن قيل: الحركة والسكون والموت
والحياة ضدان ولا يمكن ارتفاعهما عن الحيوان قلنا: إمكان
الارتفاع أعم من إمكان الارتفاع مع بقاء المحل فنحن نقول
يمكن ارتفاعهما من حيث الجملة وهما ممكنا الرفع مع ارتفاع
المحل فقيل العالم (127/ك) لا متحرك ولا ساكن ولا حي ولا
ميت.
الثالث: الخلافان وهما اللذان يجتمعان ويرتفعان كالحركة
والسكون وقد يتعذر ارتفاعهما لخصوص حقيقة كونهما خلافين،
فالعشرة مع الزوجية والخمسة مع الفردية خلافان، ويستحيل
ارتفاعها ولا تنافي بين إمكان الارتفاع بالنسبة إلى الذات
وتعذره بالنسبة لأمر خارج عنها.
الرابع: النقيضان وهما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان
كوجود زيد وعدمه, ودليل الحصر أن المعلومين إما أن يمكن
اجتماعهما أو لا، فإن أمكن فهما الخلافان وإن لم يمكن فإما
أن يمكن ارتفاعها أو لا، والثاني النقيضان والأول لا يخلو
إما أن يختلفا في الحقيقة أو لا، والأول الضدان، والثاني
المثلان.
قال القرافي: وفائدة حصر المعلومات في هذه الأربع حتى لا
يخرج منها شيء
(4/893)
إلا ما توحد الله تعالى به وتفرد به فإنه ليس
ضد الشيء ولا نقيضا ولا مثلا ولا خلافا لتعذر الرفع، وهذا
حكم عام في ذاته وصفاته المقدسة.
واعلم أن هذا التقسيم حاصر على رأي أئمتنا جار على إنكار
الأحوال ولا يرد عليه المتساويان والمتضايفان والعدم
والملكة وغيرها، لأن ذاك تقسيم الحكماء وفيه طول، وهذا
تقسيم مشايخ السنة.
(ص) وأن أحد طرفي الممكن ليس أولى به.
(ش) اختلف في أن أحد طرفي الممكن من الوجود والعدم، هل
يكون أولى به من الطرف الآخر؟ فأنكره أكثر المحققين، وقال
الباقون: نعم. ثم اختلفوا فقيل: العدم أولى به لذاته،
وقيل: إن العدم أولى بالموجودات السيالة لذاتها، وهو
الزمان والحركة والصوت وعوارضها، ومنهم من قال: إن الواقع
من الطرفين أولى به، وقيل: الوجود أولى عند وجود العلم دون
الشرط، والصحيح أن الوجود والعدم بالنسبة إلى ماهية الممكن
على السوية والدليل عليه: أنه لو كان أحد الطرفين أولى به
فإذا تحقق سبب الطرف الآخر فإن لم تبق تلك الأولوية لا
تكون تلك من ذاته، وإن بقيت فإن لم يصر الطرف الآخر أولى
به لم يكن السبب سببا، وإن صار فيكون كلا الطرفين أولى لكن
الأولى بالذات والثانية بالغير، وما بالذات أقوى، فلو تحقق
الطرف الآخر كان ما بالغير أقوى وحينئذ لا يكون السبب
سببا، هذا خلف، وقد قيل على هذا: إن الأولوية الطرف الآخر
ينتهي إلى الوجوب لكونه مع السبب دون أولوية الأول فيكون
(4/894)
أقوى والغرض من هذه المسألة: إثبات العلم
بالصانع وأنه يكفي في وجوده عدم أمر وجودي يقتضي عدمه.
(ص) وأن الباقي محتاج إلى السبب وينبني على أن علة احتياج
الأثر إلى المؤثر الإمكان أو الحدوث أو هما جزآ علة أو
الإمكان بشرط الحدوث وهي أقوال.
(ش) اختلف في الممكن حالة بقائه هل يحتاج إلى مؤثر كما
يحتاج إليه في ابتداء وجوده؟ لا بمعنى أن المبقي يعطيه
حالة البقاء وجودا آخر بل بمعنى أنه يدوم ذلك الوجود لدوام
ذلك المؤثر الأول، فالأكثرون على الاحتياج خلافا للفلاسفة
والدليل عليه: أن علة الحاجة إلى المؤثر الإمكان كما
سنذكره والإمكان من لوازم الممكن وإلا لجاز انفكاكه عن
الماهية الممكنة، وجاز أن يصير الموصوف بالإمكان في الجملة
واجبا لذاته أو ممتنعا لذاته، وأنه محال وإذا كان الإمكان
للممكن ضروريا لا ينفك، لزم بالضرورة تحقق علة الحاجة إلى
المؤثر حال البقاء فيلزم الحاجة إليه في تلك الحالة عملا
بالعلة.
احتجوا بأنه إن احتاج إليه في وجوده لزم تحصيل الحاصل أو
لأمر جديد فمحال وأجيب بأن تأثير المؤثر في بقاء الوجود
واستمرار الزمن الثاني، البقاء المحوج إليه، ولا يلزم
تحصيل الحاصل، قال بعضهم: ولقائل أن يقول ببقاء الوجود،
ولا شك أنه لم يكن حالة الاتحاد حاصلا فالتأثير فيه تأثير
في أمر لم يتجدد وهو إبقاء الأثر، فيكون المراد بالتأثير
تحصيلا لهذا المعنى، ولو قيل: إن التأثير في وجود متجدد
متصل بالوجود الأول، وهكذا لكان متجها إذ هو موجب
الاستمرار واتحاد المعلول
(4/895)
وأما إذا فرضنا أن تأثير المؤثر في البقاء
يلزم أن يكون الإمكان علة الاحتياج إلى البقاء وهو علة
الاحتياج إلى التأثير هذا خلف.
قلت: وهذا هو المراد بمذهب الأصحاب كما سبق تحريره من كلام
الإمام وغيره، وقوله وينبني أي أن هذا الخلاف مبني على
خلاف آخر وهو علة الحاجة إلى المؤثر وفيه أربعة مذاهب:
أحدها: أن علة الحاجة إلى المؤثر الإمكان ولا مدخل للحدوث
فيها وهو اختيار الإمام، ونقله عن أكثر الأصوليين، ونسبه
صاحب (الصحائف) لجمهور المحققين، ووجهه: أنا إذا رفعنا
الإمكان عن الوهم نفي الوجوب بالذات أو الامتناع بالذات،
وكل منهما يحيل الحاجة إلى المؤثر فدل على أن علة الحاجة
ليس غير الإمكان.
والثاني: إنها الحدوث، وهو الخروج من العدم إلى الوجود وهو
قول باطل لما يلزم عنه مما سنذكره.
والثالث: مجموع الإمكان والحدوث فالعلة مركبة منهما.
والرابع: أن العلة الإمكان فقط والحدوث شرط والفرق بين
الإمكان والحدوث: أن الإمكان عبارة عن كون الشيء في نفسه
بحيث لا يمتنع وجوده ولا عدمه امتناعا واجبا ذاتيا،
والحدوث عبارة عن كون الوجود مسبوقا بالعدم، وممن ذكر
البناء صاحب (الصحائف).
(4/896)
تنبيهات - الأول: الغرض من هذه المسألة أنه
وقع للفلاسفة خلاف في تعلق المفعول بالفاعل، وفي علة
احتياج الفعل إلى الفاعل، فالمبطلون منهم وقع أوهامهم: أن
تعلق المفعول بالفاعل هي من الجهة التي يستمر بها المفعول
مفعولا والفاعل فاعلا، وهو كونه أوجد فعلا بعد ما لم يكن
موجودا له، ولهذا قالوا: إذا وجد الفعل من الفاعل لم يبق
إلى الفاعل حاجة، ومثلوا ذلك ببقاء البناء بعد البناء
وربما ارتكبوا أمرا شنيعا في فرضهم المحال، وقالوا: لو جاز
عدم الصانع تعالى الله عما يقول الظالمون لما ضر ذلك وجود
العالم فإنه قد أخرجه من العدم إلى الوجود وهذا كان
احتياجه إليه، وهؤلاء هم القائلون: بأن علة احتياج الفعل
إلى الفاعل هي مجرد الحدوث وأما المحققون منهم ومن غيرهم
(128/ك) فإنهم ذهبوا إلى تعلق المفعول بالفاعل من حيث كون
الفاعل لذاته فاعلا والمفعول لذاته مفعولا، وإذا كان
التعلق بمقتضى ذات كل واحد منهما كان على الاتصال ببقاء
ذاتيهما، ولذلك ذهبوا إلى علة احتياج الفعل إلى الفاعل هي
الإمكان، فإن الفاعل إذا كان فعله لذاته لم يكن احتياج
فعله في تحققه إلا إلى كون الشيء ممكنا في ذاته، ولا خلاف
بين المتكلمين أن الحوادث اقتضت تعلقا بالمحدث، وإنما
الخلاف بينهم في أن علة ذلك الاقتضاء ما هي.
الثاني: أن كثيرا من المتكلمين قالوا: إن العلم بوجود
الصانع يحصل بطريقين، وهما طريق الجواز وطريق الحدوث،
فأوهم هذا الكلام أن ذنيك الطريقين معتبران عند جميع
المتكلمين، وليس الأمر كذلك، بل الأمر فيه مبني على الخلاف
السابق، فمن يرى أن علة الحاجة إلى المؤثر هي الإمكان يقول
بأن الطريق المؤدي إلى العلم بثبوت الصانع هي الحدوث فظهر
أنه لا يتأتى لجميع المتكلمين التمسك بكل واحد من هذين
الطريقين، كما أوهمه كلام أكثر المصنفين في هذا الشأن،
وإنما ذلك على الخلاف السابق، وقد نبه على ذلك شيخنا جمال
الدين الإسنوي رحمه الله.
(4/897)
الثالث: أنه ينبني على هذا الأصل أيضا استصحاب
الأصل، وهو بقاء ما كان على ما كان، فإن قلنا: الباقي لا
يحتاج إلى مؤثر كان الاستصحاب حجة وإن قلنا: يحتاج لم يكن
حجة لجواز التغير لعدم المؤثر، ويشكل على المرجح هنا.
(ص) والمكان قيل: السطح الباطن للحاوي المماس للسطح الظاهر
المحوى، وقيل: بعد موجود ينفذ فيه الجسم، وقيل: بعد مفروض
وهو الخلاء.
(ش) ذكر المصنف هنا من علم الحكمة البحث عن ثلاثة أشياء:
المكان والخلاء والزمان أما المكان: فهو الشيء الذي يكون
فيه الشيء ويفارقه بالحركة ولا يسعه معه غيره، وتتوارد
المحركات عليه على سبيل البدل، فهذا القدر هو المعلوم
بالضرورة ثم اختلفوا في هذا الشيء هل يكون أمرا ينفذ فيه
ذات الجسم ويسري فيه أو لا يكون كذلك؟ بل يكون هذا السطح
الباطن بين الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم
المحوي، والأول هو القول بأن المكان هو البعد والفضاء وهو
مذهب أفلاطون وأكثر العقلاء والثاني هو القول بأنه السطح
الحاوي، هذا ما حكاه الإمام في (المطالب) وقال: ليس فيه
إلا هذان القولان، إما الفضاء وإما السطح الحاوي فقط وأما
الآمدي وغيره وتابعهما المصنف فحكوا فيه أقوالا:
(4/898)
أحدها: أنه السطح الباطن للجسم الحاوي للماس
للسطح الظاهر من الجسم المحوي عليه كالسطح الباطن من الكون
المماس للسطح الظاهر من الماء الذي فيه، وهذا القائل يقول:
إنه عرض، لأن السطح عرض، قال الراغب: المكان عند أهل
اللغة: الموضع الحاوي للشيء، وعند بعض المتكلمين أنه عرض،
وهو اجتماع جسمين حاوي ومحوي وذلك أن يكون سطح الجسم
الحاوي محيطا بالمحوي، فالمكان عندهم هو المماسة بين هذين
الجسمين، قال تعالى: {مكاناً سوى} وهذا القول هو الذي جنح
الغزالي في كتاب (مقاصد الفلاسفة) إلى تصويبه، وقال: إنه
الذي استقر عليه رأى أرسطاطاليس، قال: وهو الذي رجع إليه
الكل، وقال الإمام: قال به أرسطاطاليس وجمهور أتباعه
كالفارابي وابن سينا، وقال الآمدي في (الأبكار) إنه الأشبه
على أصول الفلاسفة، قال: وأما على اللائق بأصول أصحابنا
بأن يكون الجواهر المجتمعة المختصة بالجواهر أو الجسم
المحاط به، قال: وإن كنت لم أجد عنهم في ذلك نصا.
والقول الثاني: أنه الأبعاد التي بين غايات الجسم وإليه
أشار بقوله: وقيل: بعد موجود.
والثالث: أنه بعد مفروض مقدر، وهو قول من أنكر وجود المكان
من قدماء الفلاسفة وقد نسب منكر وجود المكان إلى حجة
الضرورة.
الرابع: أن المكان هو الخلاء قال الإمام: القائلون بأن
المكان هو الفضاء هم فريقان:
(4/899)
أحدهما: المتكلمون وهم يقولون: هذا الفضاء،
وهذا الخلاء عدم محض ونفي صرف ليس له وجود البتة.
والثانية: الفلاسفة وهم يقولون: هذا الخلاء أبعاد موجودة
قائمة بنفسها، وهي أمكنة الأجسام، وهو اختيار أفلاطون
وغيره، ثم اختلفوا فقيل: لا امتناع في بقاء هذا الفضاء
خاليا عن الأجسام، وقيل: إنه ممتنع انتهى، وهذا الخلاف
فائدته: معرفته، ولا يتحصل منه طائل والاشتغال بغيره أنفع،
وقد رد على من أنكر المكان بأن العقل والحس متطابقان على
أن الأجسام زائلة عن ناحية إلى ناحية غيرها والانفصال لا
يكون عن لا شيء ولا إلى لا شيء، بل لا بد وأن يكون مستدعيا
لما عنه الانتقال وإليه، وذلك هو المعني بالمكان، فهو
موجود ضروري الوجود، ولما كان ما ينتقل منه وإليه، منه ما
يكون فيه الجسم ويكون محيطا به، ومنه ما يعتمد الجسم عليه
ويستقر، لكن المعنى الأول هو المراد للطباعيين وهو ما كان
حاويا للمتمكن مساويا له، وعند حركته يفارقه، ولذلك
يرسمونه بأنه السطح الباطن على ما سبق في التعريف الأول،
هذا بالنسبة للعلم الطبيعي وأما بالنسبة إلى اللغة فقال
ابن جني: المكان ما استقر فيه أو تصرف عليه، لأن التصرف هو
الأخذ في جهات مختلفة كتصريف الرياح فكأنه قال: المكان ما
وجد فيه سكون أو حركة، وقالوا: السكون هو الحصول في حيز
أكثر من زمان واحد، والحركة انتقال من حيز إلى حيز فأفضى
إلى الدور، وهو فعال من التمكن فالميم فيه أصلية بإزاء
السين في سحاب، ولا يجوز أن يكون مفعلا من الكون كالمقال
من القول كما صار إليه الجوهري، لأنهم قالوا في جمعه أمكن
وأمكنة وأماكن وأفعل وأفاعل وأفعلة، إنما هي لجمع ما الفاء
أوله،
(4/900)
ولأنهم قالوا: تمكن ولو كان من الكون لقالوا:
تكون كتقول من القول فأما تمسكن وتدرع فقليل.
(ص) والخلاء جائز والمراد منه: كون الجسمين لا يتماسان ولا
بينهما ما يماسهما.
ش: إنما وسط المصنف بذكره بين المكان والزمان (129/ك)
لذهاب قوم إلى أن المكان هو الخلاء كما سبق وعرفه: بحصول
جسمين لا يتلاقيان ولا يتوسط بينهما ما يلاقيهما وقد سبق
خلاف في أنه عدم محض أو أبعاد أو امتدادات، والأصح الثاني
والتفريع عليه وقد اختلف فيه أنه هل يجوز في داخل العالم
وخارجه خلاء وهل للعالم مكان؟ فجوزه أكثر أهل الحق وكثير
من قدماء الفلاسفة وأثبتوه وراء سطح العالم وداخله أيضا،
وقال متأخروهم: ليس داخل العالم خلاء، وأما خارجه فلا خلاء
ولا ملاء.
واحتج النافون فقالوا الدليل على أنه ليس في داخله خلاء:
أنه إذا كانت له منافس يخرج الهواء منها عند اعتماد الماء
عليه، فإن لم يكن لها منافس منع ما فيها من الهواء بكثرته
لبعد مسافته في جريان الماء، ولأن الماء إذا صب في إناء
مشبك الأعلى فإن الهواء يخرج إذ ذاك من الإناء ويزاحم
الماء حتى تسمع لها صوتا عند تزاحمهما، وهو أمر معلوم
بالمشاهدة والدليل على أنه ليس في خارجه خلاء: أن الخلاء
تابع للملاء فإذا كان الملاء متناهيا كان الخلاء متناهيا.
(4/901)
والصحيح إثباته لأنه لا يمتنع في العقل فرض
عوالم يوجدها الله خارج هذا العالم، ومعلوم أنه لا يوجدها
إلا في مكان وهو الخلاء، إذا كان الخلاء عبارة عن: بعد
يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة قائمة، لا في ملاء من شأنه
أن يملك جسم ويخلو عنه، وموضع الخلاف في أنه هل يسمى
مكانا؟ إنما هو في هذا النوع إذا تمكن فيه جسم، ولا خلاف
أن سطح الجسم الأسفل الذي يستقر عليه الشيء الثقيل يسمى
مكانا، وكذلك السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح
الظاهر من الجسم المحوي، فعلى هذين الوجهين ليس للعالم
مكان، وله مكان على الوجه الأول، وهو الخلاء الذي يشغله
وجود العالم.
فروع على القول بالخلاء ذكرها الإمام في (المطالب).
الأول: اتفق جمهور القدماء على أن الخلاء لا يقبل العدم
البتة، وخالفهم المحققون لأن هذه الابعاد ممكن الوجود، وكل
ممكن قابل للعدم.
الثاني: اتفقوا على أن حصوله خارج العالم غير متناه، وزعم
أرسطاطاليس وأصحابه: أنه محال فإن القول بوجود أبعاد
متناهية غير محال.
الثالث: القائلون بحدوث العالم لا بد أن يقروا بأن هذا
الفضاء قبل حدوث العالم كان فضاء متشابها، أعني أنه كان
جانب منه فوقاً وجانباً= منه تحتا، لأن الفوقية والتحتية
لا يعقل حصولها إلا عند حصول جسم آخر، فإذا لم يوجد شيء من
الأجسام البتة امتنع اختلاف آخر هذا الخلاء بالفوقية
والتحتية بكل كان خلاء متشابه الأحوال بالكلية.
الرابع: أن القصد من هذه المباحث: أن إله العالم يمتنع أن
يكون مختصا بشيء من الأمكنة.
(4/902)
(ص) والزمان قيل: جوهر ليس بجسم ولا جسماني،
وقيل: فلك معدل النهار، وقيل: عرض، فقيل حركة معدل النهار،
وقيل مقدار الحركة والمختار أنه مقارنة متجدد موهوم لمتجدد
معلوم إزالة للإيهام.
(ش) اختلف أيضا في الزمان هل هو معدوم أو موجود بتقدير
وجوده هل وجوده في الأعيان أو الأذهان، فقيل جوهر قائم
بنفسه مستقل بذاته غني عن وجود الحركة ولواحقها، ثم إنه
ليس بجسم لأنه كل ما كان جسما فإنه يكون قريبا من جسم
وبعيدا عن آخر، وبديهة العقل شاهدة بأن نسبة جميع الزمان
إلى جميع الأشياء على السوية، وعند هذا ينعقد قياس من
الشكل الثاني وهو أن كل ما كان زمانا فإن نسبته إلى جميع
الأجسام بالقرب والبعد على السواء، ولا شيء مما يكون جسما
كذلك ينتج فلا شيء من الزمان بجسم، فثبت أنه جوهر مغاير
للجسم وهذا القول
(4/903)
اختاره الإمام في (المطالب العالية) ونصره
وقول المصنف ولا جسماني أي ليس بجسم، ولا حال في الجسم،
وقال آخرون عرض، ثم اختلفوا فمنهم من قال: نسبة الموجود لم
يزل ولا يزال إلى ما ليس بأزلي ويزول، وقيل: مفارقة موجود
لموجود وقيل حركة الفلك وقيل مقدار الحركة الفلكية من جهة
التقدم والتأخر، قال الإمام في (المطالب): وهو قول
أرسطاطاليس وارتضاه المعتبرون من أتباعه كالفارابي وابن
سينا.
قال: وقيل: عبارة عن نفس حركة الفلك الأعظم وقال أبو
البركات البغدادي: مقدار امتداد الوجود، انتهى. والمختار
عند المنصف= هنا: أنه مقارنة متجدد موهوم لمتجدد معلوم
إزالة للإيهام، وإليه مال الآمدي في (الأبكار) قال: ولا
بعد في قول القائل كل الزمان هو مما يقدره المقدر ويفرضه
الفارض من مقارنة موجود لموجود ثم قال: وهو ما يعبر عنه
بقولهم: كان كذا وقت طلوع الشمس، أنه قارن وجوده لطلوعها،
ثم مال المصنف آخرا في غير هذا الكتاب إلى أنه عرض، وأنه
مقدر فإن لم يكن حركة لم يكن زمان في الوجود، وإن لم تحس
النفس بالحركة لم تحس بالزمان كما كان في حق أصحاب الكهف،
وإليه يرشده كلام الغزالي في (المقاصد) قال: وكل من نام
صحوة وانتبه صحوة فلا يحس بانقضاء زمان إلا أن يحس في نفسه
بتغيير علم بالعادة، وأن ذلك لا يكون إلا في زمان، وهذا
بالنسبة
(4/904)
لاصطلاح الحكماء، وأما اللغة فقال أبو علي
الفارسي: الزمان المدة التي هي الليل والنهار، لا يجوز أن
يكون عدد حركات فيكون مختلفا لأنه قد تكون حركة أسرع من
حركة أخرى، ولا زمان أسرع من زمان ولا أبطأ قال: وليس بين
الزمان والدهر فرق إلا أن الدهر أزمنة كثيرة، وقال ابن
جني: الزمان مرور الليل والنهار ورد بأن الليل والنهار زمن
مخصوص فقد عرف الشيء بما لا يعرف إلا بعد معرفته، ويلزم أن
لا يكون أزمانا لأن مرورها صفة قائمة بها، والصفة غير
الموصوف، وقيل بل هو: عبارة عن الليالي والأيام، قال أبو
ذؤيب:
هل الدهر إلا ليلة أو نهارها ... وإلا طلوع الشمس ثم
غيارها
وقيل الزمان مقدار حركة الفلك الأعظم، وقال المعري في
(رسالة الغفران): قولهم الزمان حركة الفلك لفظ لا حقيقة
له، وفي كلام سيبويه ما يدل على أنه مضي الليل والنهار،
وقد حددته بأنه أقل جزء منه (130/ك) يشتمل على
(4/905)
جميع الموجودات وهو في ذلك ضد المكان لأن أقل
جزء منه لا يشتمل على شيء.
(ص) ويمتنع تداخل الأجسام.
ش: اتفق جميع العقلاء على امتناع تدخل الجواهر ووجود جوهر
تحت جوهر آخر، خلافا للنظام فإنه ذهب إلى اللون والطعم
والرائحة، كل منها جسم لطيف فإذا تداخلت هذه الأجسام
اللطيفة حصل من مجموعها جسم كثيف وقال ابن أبي جمرة في
حديث: (إرسال الله الملك إلى الرحم لينفخ فيه الروح)
(4/906)
وهذا يرد على من قال: إن الجوهر لا يدخل في
جوهر، لأن الملك جوهر ويدخل في الرحم ليصور، والرحم جوهر
ولا يشعر صاحبه به.
(ص) وخلو الجوهر عن جميع الأعراض.
(ش) ذهب أهل الحق إلى أن الجواهر يستحيل خلوها عن كل جنس
من الأعراض، وعن جميع أضداده، وإن كان له ضد واحد لم يخل
الجوهر عن أحد الضدين، فإن قدر عرض لا ضد له لم يخل الجوهر
عن قبول واحد من جنسه، وذهب بعض الفلاسفة إلى خلو الجوهر
عن جميع الأعراض والصور، وقالوا بقدمها وحدوث الصور
والأعراض ابتداء، ومنع معتزلة البصرة خلوها عن الألوان،
وجوزوه فيما عداها، وقال الكعبي وشيعته من البغداديين يجوز
الخلو عن الألوان ويمتنع غير الألوان قال ابن القشيري
وغيره وسلم الكل استحالة خلو الجواهر عن الأعراض بعد تنزل
الجواهر لها وقيامها بها وهذه المسألة من مقدمات حدوث
العالم.
(ص) والجوهر غير مركب من الأعراض.
(ش) أي خلافا للنظام والنجار حيث قالا: الجواهر أعراض
مجتمعة
(4/907)
وبنوا قولهم هذا على أن الجواهر ليست مشتركة
في تمام الماهية ولا متماثلة في حقيقة الجوهرية بل هي
أجناس مختلفة لأن الجواهر أعراض مجتمعة، والأعراض مختلفة
والجواهر أعراض لا تكون حينئذ متماثلة.
وحجة الجمهور: أن الجوهر لو تركب من الأعراض لما قام بها،
لكن الأعراض قائمة بالجواهر، أما الأولى فلأنه لو قامت
الأعراض بالجوهر لكانت قائمة بالعرض وهو محال، وأما
الثانية فللاتفاق على أن الجوهر يصح اتصافه بالحياة والعلم
والقدرة وغير ذلك من الأعراض.
(ص) والأبعاد متناهية.
(ش) أبعاد الأجسام المتناهية يعني بالنهاية حد الشيء وهو
الطرف الذي إذا تحرك إليه متحرك وقف عنده، بحيث لا يجد
بعده شيئا آخر مما له ذلك الطرف، مثل النقطة للخط، وإذا
علم تفسير النهاية بهذا كان أن لا نهاية عبارة عما لا يفرض
فيه حد إلا وبعده حد آخر، وكذلك أبدا لا يقف عند شيء وهو
حد، والذي عليه أهل الحق أن كل بعد فهو متناه، خلافا لبعض
الأوائل في إثباتهم أبعادا لا نهاية لها، ومنهم من أثبت
أقساما لا نهاية، وهم الهند قال صاحب (الصحائف): والحق أن
القول بأبعاد غير متناهية باطل سواء كانت مادية أو مجردة
وذلك لأنه لو وجدت أبعاد
(4/908)
غير متناهية لاستحال وجود الحركة للمستديرة
والثاني باطل فكذا المتقدم.
(ص) والمعلول قال الأكثر يقارن علته زمانا، والمختار وفاقا
للشيخ الإمام يعقبها مطلقا وثالثها إن كانت وضعية لا
عقلية، أما الترتيب رتبة فوفاق.
(ش) اتفقوا على أن العلة تتقدم المعلول بالرتبة، واختلفوا
هل تسبقه في الزمان أو تقارنه على مذاهب:
أحدها: أنها تقارنه وإن كان بينهما ترتب عقلي فهو في
التسمية بل هو كحركة الخاتم فإنه مع حركة اليد وإن كان
معلولا وقال الرافعي في كتاب الطلاق إنه الذي ارتضاه إمام
الحرمين ونسبه للمحققين وعبر عنه في (الروضة) بالصحيح
وأجاب إمام الحرمين والرافعي عن قول القائل: إن جئتني
أكرمتك بأن الإكرام فعل منشأ ولا يتصور إنشاؤه إلا متأخرا
عن المجيء فلزم الترتيب ضرورة، وأما وقوع الطلاق فإنه حكم
شرعي لا يفتقر إلى زمان محسوس، فسبيله سبيل العلة مع
المعلول.
والثاني: أنها تسبقه واختاره الشيخ السبكي وللرافعي إليه
ميل ظاهر، قال إمام الحرمين في (النهاية): وسواء هذا الحكم
في المذهب يدل له، فإنه لو قال لغير المدخول بها إذا طلقتك
فأنت طالق ثم قال: أنت طالق، طلقت هذه فقط ولم تطلق
(4/909)
الطلقة المعلقة، لأنها بانت بالطلقة الموقعة
فلم يلحقها ما بعدها، ولو كانت معه لوقع طلقتان لقوله أنت
طالق طلقتين، وأيضا لو قال لغانم: مهما أعتقتك فسالم حر،
ثم أعتق غانما في المرض والثلث لا يفي بهما لم يعتق سالم
شيء، بخلاف ما لو أعتقهما جميعا فإنه يقرع بينها، وأجاب
الغزالي عن هذا فقال وإنما لم يقع قبل الدخول طلقتان، لأن
مقتضاه وقع مع أول حال البينونة، وكذلك لو قال: أنت طالق
طلقة لم يقع إلا واحدة على أدق الوجهين، بخلاف أنت طالق
طلقتين، لأن البينونة معلول لمجموع الطلقتينن وقوله طلقتين
كالتفسير لقوله طالق، وكذا لا يعتق سالم لأن عتقه معلول
عتق غانم، وربما خرجت القرعة على سالم فيعتق دون غانم،
فثبت المعلول دون العلة: قال وهذا كلام دقيق عقلي ربما
يقصر نظر الفقيه عنه انتهى.
والثالث: أن العلة العقلية تقارن معلولها لكونها مؤثرة
بذاتها، والوضعية تسبق المعلول والشرعية من الوضعية وهو
ظاهر نص الشافعي في (الأم) في كتاب الطلاق، وللخلاف فوائد
كثيرة مذكورة في الفروع في الطلاق والكفارة وغيرها، وقال
الشيخ عز الدين في (القواعد): الأسباب القولية التي يستقل
بها المتكلم كالطلاق والعتاق، الأصح أن أحكامها تقترن بآخر
جزء منها فتقترن الحرية بالراء من قوله: أنت حر، والطلاق
بالقاف من قوله: أنت طالق، وهذا اختيار الأشعري والحذاق من
أصحاب الشافعي، وهو مطرد في جميع الألفاظ كالأمر والنهي،
فإذا
(4/910)
قال: اقعد كان أمرا مع الدال من قوله اقعد،
وإذا قال لا تقعد كان ناهيا مع الدال من قوله لا تقعد،
وكذا الأقارير والشهادات وأحكام الحكام، وقال بعض
الشافعية: لا تقترن هذه الأحكام بشيء من هذه الألفاظ، بل
تقع عقبها من غير تخلل زمان قال: ويدل على الاقتران إن سمع
حرفا من آخر حروف الكلمة فإنه يحكم على مطلقها بموجبها عند
آخر حرف من حروفها.
(ص) واللذة حصرها الإمام والشيخ الإمام في (المعارف).
(ش) ذهب الإمام (131/ك) فخر الدين الرازي إلى أن اللذة
منحصرة في العلوم والمعارف العقلية، فإنها خالصة شريفة غير
متناهية باقية على الآباد، وأما اللذات الحسية منحصرة
منقضية مشوبة بأكدار مظلمة طبيعية، والحاصل منها دفع
الآلام، فلذة الأكل والشرب لدفع ألم الجوع والعطش، ولذلك
قال الحسن: الإنسان صريع جوع وقتيل عطش، وهكذا الجماع
واللبس وغيرهما من اللذات الجسمانية والخيالية، وصنف في
ذلك رسالة سماها (تحقير اللذات الجسمانية) وقال: إن اللذات
المطلوبة في هذه الحياة العاجلة محصورة في ثلاثة: فأدونها
اللذات الحسية، وهي قضاء الشهوتين ويشارك فيها الآدمي غيره
من الحيوانات، وأوسطها اللذات الخيالية وهي الحاصلة من
الاستعلاء والرياسة لدفع ألم القهر والغلبة، وهي أشدهما
التصاقا بالعقلاء إذ لم ينالوا رتبة الأولياء، ولذلك قال
بعضهم: آخر ما يخرج من
(4/911)
رؤوس الصديقين حب الرياسة، وأعلاها اللذات
العقلية وهي الحاصلة بسبب معرفة الأشياء والوقوف على
حقائقها وهي اللذة على الحقيقة وهذا أخذه من كلام الغزالي
قال الغزالي: والعقلية هي أقلها وجودا وأشرفها، أما قلتها
فلأن الحكمة لا يستلذ بها إلا الحكيم وقصور الرضيع عن
إدراك لذة العسل والطيور السمان والحلاوة لا يدل على أنها
ليست بلذيذة واستطابته للبن لا يدل على أنه أطيب الأشياء
والناس كلهم إلا النادر مقيدون في صبأ الجهل غير بالغين في
رتبة العلوم، فلذلك لا يستلذون:
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا.
وأما شروطها: فلأنها لازمة لا تزول ودائمة لا تمل وثمرتها
في الدار الآخرة، والقادر على الشريف إذا رضي بالخسيس
الفاني كان مصابا في عقله مجزوما بشقاوته أقل أمر فيه أن
الفضائل لا سيما العلم والعمل لا يحتاجان إلى أعوان وحفظة
بخلاف المال فإن العلم يحرسك وأنت تحرس المال والعلم يزيد
بالإنفاق والمال ينقص به والعلم نافع في كل حال والمال
تارة يجذب إلى الرذيلة، ولذلك ذمه الله في القرآن في مواضع
وإن سمي خيرا في مواضع وذكر الشيخ عز الدين في (القواعد)
قريبا منه فقال: هذا مختص بدار المحنة وأما دار الكرامة
وهي الجنة فإن اللذة تحصل
(4/912)
فيها من غير ألم يتقدمها أو يقترن بها لأن
الأمل واللذة عرضان متلازمان في هذه الدار بحكم العادة
المطردة وتلك الدار قد خرقت فيها العادة كما خرقت في
المخاط والبصاق والبول والغائط والتفاخر والتحاسد ومساوئ
الأخلاق، وكذلك تخرق العادة في وجدان لذاتها من غير ألم
سابق أو مقارن فيجد أهلها لذة الشرب من غير عطش ولا ظمأن=،
ولذة الطعام من غير جوع ولا نصب قال: وكذلك خرقت العادة في
العقوبات فإن أقل عقوبات الآخرة لا يبقى معه في هذه الدار
حياة، وأما في تلك الدار فإن أحدهم لتأتيه أسباب الموت من
كل مكان وما هو بميت.
(ص) وقال ابن زكريا هي: الخلاص من الألم وقيل: إدراك
الملائم، والحق أن الإدراك من ملزومها.
(ش) ذهب محمد بن زكريا إلى أن اللذة أمر عدمي، وهو الخلاص
من الألم، وزيفه الإمام بما إذا وقع البصر على صورة حسنة
فإنه يلتذ بإبصارها مع أنه لم يكن له شعور بتلك الصورة قبل
ذلك حتى يجعل تلك اللذة خلاصا عن ألم الشوق إليها، ولذلك
قد يحصل للإنسان لذة عظيمة بالعثور على كنز مال فجاءة
وأجيب عنه: بأنا لا نسلم أنها ما كان يحصل ألم الاشتياق
إلى النظر،
(4/913)
ولذلك يقل الالتذاذ بها مع كثرة الصحبة وقال
ابن سينا في بعض كتبه: اللذة إدراك الملائم والألم إدراك
المنافي، قال الصفي الهندي: وهو لا يخلو عن شائبة الدور
لأن إدراك أحدها يتوقف معرفته على إدراك الآخر، وهذا فيه
نظر: إذ قد يدرك المنافي من لم يدرك أحدها ويعرفه وكذا
بالعكس، وقال ابن سينا في (الشفاء) إدراك الملائم من حيث
هو ملائم، والملائم هو الكمال الخاص للشيء ورد بأنا نجد من
أنفسنا حالة مخصوصة، ونعلم أنا ندرك ملائما ولا نعلم أن
تلك الحالة هي نفس الإدراك أو غيره والمختار أن اللذة
والألم لا يحدان لكونهما من الأمور الوجدانية فلا يحتاج في
حصولهما إلى نظر وفكر، وقال في (المحصول) في باب القياس
عند الكلام في المناسب: إنه الصواب وجرى عليه البيضاوي في
(الطوالع) وعلى التحديد فمرادهم الإدراك بحادث فإن
الكيفيات المستقرة لا يلتذ بها لاستقرارها وعدم تحددها، إذ
لا يبقى للنفس بها شعور، بل تذهل عنها في أكثر الأوقات،
واللذة إنما هي بحصول وشعور، فالحصول بعد ما لم يكن
كالمريض إذا حصل الصحة دفعة وجد بذلك أعظم اللذة لتجددها
بعد الزوال، وما قال المصنف: إنه الحق أخذه من (الصحائف)
للسمرقندي فقال: بل الحق أن الإدراك ليس هو نفس اللذة بل
ملزومها.
(ص) ويقابلها الألم.
(4/914)
(ش): أي فيكون على القول الأول أمر وجودي وهو
الوقوع في الألم، وعلى الثاني إدراك غير الملائم، وفيه ما
سبق، وقال الإمام في (المطالب): اختلف في أن الألم هل هو
نفس إدراك المنافي أو حالة زائدة وكذلك النفرة والشهوة هل
هما نفس الإرادة والكراهة أو جنسان مغايران لهما؟
(ص): وما تصوره العقل إما واجب أو ممتنع أو ممكن، لأن ذاته
إما أن تقتضي وجوده في الخارج أو عدمه أو لا تقتضي شيئا.
(ش): هذا التقسيم قدمه صاحب (المصباح) والصحائف وغيرهما
والمصنف أخره لأهمية السابق، وحاصله أن ما تصوره العقل فهو
بالنسبة إلى الخارج إما واجب أو ممتنع أو ممكن، لأن ذاته
إن اقتضت وجوده في الخارج فهو الواجب، وإلا فإن اقتضت عدمه
فهو الممتنع، وإن لم تقتضي شيئا فهو الممكن، وكل واحد من
هذه الثلاثة لا ينقلب إلى الآخر لأن مقتضى (132/ك) الذات
لازم لها، وفي رفعها للذات، فلا يصير الواجب لذاته ممكنا
ولا الممكن واجبا، ولا كل واحد منها ممتنعا، ولا الممتنع
شيء منها، وبعضهم جعل القسمة ثنائية وأن الإمكان في
المشهور يطلق على مقابلة الامتناع فكل ما ليس بممتنع
يسمونه ممكنا، وكل شيء إما ممتنع
(4/915)
أو ممكن وعلى هذا الاصطلاح فالواجب مندرج في
الممكن لأنه ليس بممتنع، لكن المحققين لما أطلقوا اسم
الممكن على ما ليس بممتنع ولا واجب جعلوا القسمة ثلاثية
وهذا الممكن أخص من الممكن في المشهور لاستلزامه إياه من
غير عكس، وأورد بعض الناس عليه شكا وهو: أن الواجب لذاته
إن كان ممكنا وكل ممكن هو ممكن أن لا يكون، فالواجب لذاته
يمكن أن لا يكون هذا خلف، وإن لم يكن ممكنا وكل ما ليس
بممكن فهو ممتنع، فالواجب لذاته ممتنع هذا خلف.
والجواب: أن الواجب لذاته ممكن بالمعنى الأعم، ولا يلزم من
صدق كونه ممتنعا بالمعنى الأعم أن لا يكون، وإنما يلزم ذلك
أن لو كان ممكنا بالمعنى الأخص، وليس الواجب لذاته ممكنا
بالمعنى الأخص ولا يلزم من نفى كونه ممكنا بالمعنى الأخص
كونه ممتنعا، وإنما يلزم ذلك أن لو كان غير ممكن بالمعنى
الأعم، أورد عليه أيضا أن الممكن إن كان موجودا امتنع عدمه
لاستحالة اجتماع الوجود والعدم، وإن كان معدوما امتنع
وجوده لما ذكرنا، فلا إمكان، وأيضا إن خص سبب وجوده وجب
وجوده، وإلا امتنع وجوده.
وأجيب: بأن الممكن هو الذي بالنظر إلى ماهيته من حيث هي هي
لا يجب وجوده ولا عدمه.
(ص) خاتمة:
(ش) هذه الخاتمة في علم التصوف، وختم به ليكون الدعاء إلى
تطهير القلب
(4/916)
خاتمة أمره، وتابع في ذلك (صاحب الشامل
الصغير) فإنه جعل ذلك في آخره، ومنه استمد المصنف وزاد
عليه.
(ص): أول الواجبات المعرفة وقال الأستاذ: النظر المؤدى=
إليها والقاضي: أول النظر، وابن فورك وإمام الحرمين: القصد
إلى النظر.
(ش) اختلف في أول ما يجب على المكلف على بضعة عشر قولا:
أحدها قول الأشعري: العلم بالله ورسوله ودينه لقوله تعالى:
{فاعلم أنه لا إله إلا الله}، {وليعلموا أنما هو إله واحد}
قال ابن السمعان: وهو قول عامة أهل الحديث وسلكوا طريق
السلف، ونهوا عن ملابسة الكلام، وزعموا أنه محدث ومخترع
بعد انصرام زمن الصحابة والتابعين وأنكروا قول أهل الكلام:
أول واجب النظر ولو قال الكافر: أمهلوني لأنظر وأبحث فإنه
لا يمهل ولا ينظر، ولكن يقال له: أسلم في الحال وإلا أنت
معروض على السيف قال: ولا أعلم في هذا خلافا بين الفقهاء
وقد نص عليه ابن سريج
(4/917)
والثاني قول الأستاذ: النظر المؤدي إلى العلم
به، إذ لا يتوصل إليه إلا بالنظر وما لا يتم الواجب إلا به
فهو واجب، وفي القرآن غير آية، في وجوب النظر والتنبيه على
الآيات والعلامات.
والثالث: قول القاضي: إنه معرفة الأوائل والمقدمات التي لا
يتم النظر إلا بها.
والرابع: قول ابن فورك وإمام الحرمين: القصد إلى النظر، إذ
لا يحصل النظر من العالم إلا بالقصد إليه.
الخامس: قول أبي هاشم: الشك، ونقل عن ابن فورك لامتناع
النظر من العالم فإن الحاصل لا يتعلق به طلب، ولا يمتنع من
الشاك والظان فإنه متردد بين معتقدين فيجب النظر لتحصيل
اليقين، ورده القاضي أبو بكر بأنه لا يمتنع في العقل
الهجوم على النظر من غير سبق تردد.
(4/918)
والسادس: الإقرار بالله ورسوله.
والسابع: النطق بالشهادتين.
والثامن: قبول الإسلام والعزم على العمل ثم النظر بعد
القبول ليعلم به صحة المقبول.
والتاسع: اعتقاد وجوب التعليل والعاشر: التقليد.
والحادي عشر: أن النظر لا يجب إلا عند الشك فيما يجب
اعتقاده فيلزم البحث عنه والنظر فيه إلى أن يعتقده، قال
الشيخ عز الدين في (القواعد): وهو الأصح وذكر الإمام في
(المحصل) وغيره أن الخلاف لفظي يرجع إلى أنه هل المراد
الواجب لعينه أو لغيره؟ فمن أراد الأول قال: إنه المعرفة،
ومن أراد الواجب بالقصد الثاني قال: إنه النظر أو القصد
إلى النظر قلت: بل هو معنوي تظهر فائدته في التعصية= بترك
النظر على من أوجبه دون من لم يوجبه هذا إذا فسرنا المعرفة
بموافقة المعتقد، وإن لم يكن عن دليل، وقال الآمدي:
المعرفة الواجبة تنقسم إلى ما حصولها عن معرفة الدليل جملة
لا من حيث القدرة على تقريره ونفي المعارض عنه، وإلى معرفة
الدليل مع التقرير، فقيل: هي بالأول واجبة على الأعيان،
وبالثاني على الكفاية، وقيل: على الأعيان في الثاني أيضا
لكن لو ترك النظر فصاحبه مؤمن عاص،
(4/919)
وسهل الغزالي في بعض مؤلفاته النظر فقال هو
طويل عند من لا يعرف وجيز عند العارف به، فإنك إذا عرفت
أنك محدث فالمحدث لا يستغني عن المحدث، فقد حصل لك البرهان
على الإيمان بالله فما أقرب هاتين المعرفتين، أعني أنك
محدث وأن المحدث لا يحدث.
تنبيهات - الأول: ما نقلنا أولا عن الشيخ هو المشهور وفي
(المقنع) للأستاذ أبي منصور حكاية الثاني عن أكثر الأصحاب،
قال: وهو ظاهر مذهب شيخنا واستدل عليه بأن قال: العبادات
متعلقة بالنية، والنية لا بد فيها من قصد المعبود، والقصد
لا يصح إلا بالمعرفة، والمعرفة لا تصح إلا بالنظر فثبت أنه
أول واجب، قال: وذهب بعض القدماء من أصحابنا إلى أنه
المعرفة المقصودة والنظر يقع تبعا والتابع لا يعد في نفسه،
قال: ومن قال: إنه القصد للنظر فهو قياس ما تعلق به شيخنا،
فإن القصد يقع أولا فإذا أعد النظر أولا لوقوعه قبل
المعرفة لزم أن يعد القصد أولا لوقوعه قبل النظر، قال:
وحكى شيخنا عن بعض أصحابنا أنه أول واجب: الإقرار بالله
ورسوله، فقيل: أراد بعض المتكلمين لأمر يختص به من أصحابه،
ويحتمل أنه أراد بعض أصحابنا وأنه يجب عليه ذلك على الفور،
فإن أصحابنا يوجبون الفور، ويخالفون المعتزلة في القول
بمهلة النظر، ولهذا سأل شيخنا نفسه عمن وراء الصين ورأى
الاختلاف ماذا يلزمه قال: فيه جوابان:
أحدهما: يلزمه النظر وليعلم الحق (133/ك) فيتبعه.
والثاني: يلزمه إتباع الحق وقبول الإسلام.
الثاني: علم منه أن لا طريق إلى المعرفة إلا بالنظر
والاستدلال وهو باتفاق
(4/920)
وحكى الإمام في (المطالب) عن الصوفية أن طريق
معرفته الرياضة وتصفية الباطن وهو المراد بالإلهام، الذي
ذكره المصنف في باب الاستدلال.
الثالث: قيل: إن هذه المسألة أصل للمسألة السابقة أول
العقيدة في التقليد في أصول الدين، فإنا إذا أوجبنا
المعرفة امتنع التقليد.
قلت: إن أريد بالمعرفة الجملة فلا شك أنها في فطرة كل أحد
فإن معرفة الله الظاهرة مذكورة في النفوس، فإن كل عاقل
يعلم أنه مفعول لفاعل، ومعرفته المكتسبة هي التي دعت
الأنبياء إليها وهي معرفة ما يجب له وما يستحيل عليه فدعوا
كلهم إلى قول لا إله إلا الله وهي على ثلاثة أضرب لا يدركه
إلا نبي أو صديق وذلك معرفته بالنور الإلهي من حيث لا
يعتريه شك بوجه، كما قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين
آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا} وضرب يدرك بغلبة الظن
الذي يفسره أهل اللغة باليقين كما قال تعالى: {الذين يظنون
أنهم ملاقو ربهم} وضرب يدرك بالتقليد المحض كما قال تعالى:
{وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} فالأول يجري مجرى
إدراك الشيء من قرب ولهذا قال في وصفهم: {لمن كان له قلب
أو ألقى السمع وهو شهيد} والثاني يجري مجرى إدراكه من بعد،
وقد تعرض فيه شبهة لكنها تزول بأدنى تأمل كما قال تعالى:
{إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم
مبصرون} والثالث: يجري مجرى رؤية الشيء من وراء ستر كثيف
فلا ينفك من شبهات كما أخبر سبحانه وتعالى عمن هذه
(4/921)
حاله بقوله: {إن نظن إلا ظنا وما نحن
بمستيقنين} وسبق عند قول المصنف: ليست حقيقة معلومة كما
ينبغي استحضارها هنا.
(ص): وذو النفس الأبية يربأ بها عن سفساف الأمور ويجنح إلى
معاليها.
(ش): لأن الأول يكرهه الله والثاني يحبه فروى البيهقي في
(شعب الإيمان) من طرق عن سهل بن سعد: قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يحب معالي الأمور
ويكره سفسافها)) قال ابن الأثير: السفساف: الأمر الحقير
الردئ من كل شيء، وهو ضد المعالي وأصله ما يطير من غبار
الدقيق إذا نخل، والتراب إذا انتثر وقوله: يربأ هو بالهمزة
آخره أي يرفعها قال الجوهري: وقولهم إني لأربأ بك عن هذا
الأمر أي أرفعك عنه قلت: ومنه قول
(4/922)
بعضهم:
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له فأربا بنفسك أن ترعى مع الهمل
والمعالي والسفساف كلمتان جامعتان لمدرجي السعادة
والشقاوة، والغرض أن من نظر إلى الدنيا بعين الحقيقة وأنها
لو كانت كلها مباحة لألهته عما خلق له، وهي لأجله، وهو
العبادة انكف عن دني الطريق، وتخلق بالحقائق فإن أبي النفس
لا يرضى أن يكون أدنى، وهو يقدر على أن يكون أعلى ولا يميل
إلى العوج، وقد هدى إلى الطريق المعلى، فإن سبب المرض
المانع من معرفة الله تعالى الإقبال على الشهوات، والحرص
على الدنيا، ولهذا قال الشافعي: لو أوصى لأعقل الناس صرف
إلى الزهاد وقال يحيى بن معاذ: لو كانت الدنيا تبرا تفنى
والآخرة خزفا تبقى لكان ينبغي للمعامل إيثار الخزف الباقي
على التبر الفاني فكيف والدنيا خزف فإن الآخرة تبر باق
ومما يرغب في الزهد فيها خسة شركائها وقلة وفائها، وكثرة
بلائها، وتحقق فنائها ومن أعظمها الغفلة عن الله، وما أحسن
قول بعضهم لولده: يا بني لا تغبطن أهل الدنيا على دنياهم،
فوالله ما نالوها رخصة والله ما نالوها حتى فقدوا الله،
(4/923)
وكان شيخنا العارف ولي الدين قدس الله روحه
يقول: وجود الدنيا يضر بالقلب بالخاصية حتى في الفهم
والذكاء، وحسن الاعتداد لإدراك الحقائق من الهدى ودين الحق
ولقد وجدت من ذلك آثارا عجيبة في إقبال القلب وإدباره
ورأيت أكابر أهل علم قلوبهم متعلقة بالدنيا تصير عقولهم من
البلادة كعقول النساء والصبيان، فالحذر الحذر من فضول
الدنيا، والقناعة باليسير ففيه راحة القلب وسلامة الدين
والدنيا.
تنبيه: قد يستخرج من تصدير المصنف بإيجاب المعرفة وخلائق
النفس إلى ما قاله بعض المحققين: إن علم التصوف يلتفت إلى
أصلين النظر في التوحيد والاعتبار في الموجودات ومن ذلك
النفس والحكم عليها، وعلى جسدها ظاهرا وباطنا وعلى ما يقوم
به وبهما، والعلم بالتخيير من صفاتها وما هي في ذاتها، فمن
ثم علم قدره وعلم فخره، وهو مستمد من نور البصيرة التي هي
مبدأ السعادة عند أهل الإرادة، التي أخبر الله عنها بقوله:
{ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} والمراد بالظاهر
علم الشريعة أصلا وفرعا وأحكامها، ثم معرفة النفس وآفاتها
وعللها وتهذيبها وتعذيب جماحها برياضتها وتصفية سرائرها.
(ص) ومن عرف ربه تصور تبعيده وتقريبه فخاف ورجى فأصغى إلى
الأمر والنهي فارتكب واجتنب، فأحبه مولاه، فكان سمعه وبصره
ويده التي
(4/924)
يبطش بها، واتخذه وليا إن سأله أعطاه، وإن
استعاذ به أعاذه.
(ش) العارف عندهم من عرف الحق بأسمائه وصفاته ثم صدق الله
في جميع معاملاته ثم تنقى عن أخلاقه المذمومة وآفاته، ثم
طال بالباب وقوفه ودام بالقلب عكوفه، فحظي من الله بجميع
آماله، وصدق الله في جميع أحواله وانقطع عنه هو حسن نفسه
ولم يصغ بقلبه إلى خاطر يدعوه إلى غيره، فعند ذلك يسمى
عارفا ويسمى حاله تفريدا، قال الشيخ عز الدين في
(القواعد): الطريق في إصلاح القلوب التي تصلح الأجساد
بصلاحها وتفسد بفسادها، تطهيرها من كل ما يباعد عن الله
وتحليها بكل ما يقرب إلى الله (134/ك) ويزلف لديه من
الأحوال والأقوال والأعمال وحسن الآمال ولزوم الإقبال عليه
والإصغاء إليه، والمثول بين يديه في وقت من الأوقات وحال
من الأحوال على حسب الإمكان من غير أداء إلى السآمة والملل
قال: ومعرفة ذلك هي الملقبة - بعلم الحقيقة وليست خارجة عن
الشريعة بل الشريعة طافحة بإصلاح القلوب بالمعارف والأحوال
والعزوم والنيات وغير ذلك وقال ابن عبد المعطي في (شرح
منازل السائرين)، وكان من أصحاب الأحوال
(4/925)
والمعارف الحقيقة عن القوم غلبة الأحوال والجد
في الطلب كما قال حارثة (وكأني) الحديث فسأله عليه السلام
عن حقيقة الأمر فأجابه بغلبة الأحوال فرضي بذلك منه وبه
قطع لحارثة ومن حذى حذوه رؤية فعل نفسه وإرشاد إلى فضل
الله ومنته عليه، وإذا كانت الدنيا حجاجا= على الآخرة فمن
انخرق له حجاب الدنيا بالعزوف عنها اطلع على الآخرة،
والوقوف على الكون حجاب يحجب العبد عن الله فمن أراد
المشاهدة فعليه بالعزوف عن الوقوف معها وقال صاحب (منازل
السائرين) اتفق علماء هذه الطريقة على أن النهايات لا تصح
إلا بتصحيح البدايات ومن إقامة الأمر على مشاهدة الإخلاص
ومتابعة السنة وتعظيم النهي على مشاهدة الخوف، ورعاية
الحرمة والشفقة على العالم ببذل النصيحة، وكف المؤنة
ومجانبة كل صاحب يفسد وكل سبب يفتن القلب. انتهى.
وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري: لا شيء أعظم على العبد
من الذكر، وهو أن يعتاد مناجاة الحق اعتياد أهل العباد
مخاطبة بعضهم لبعض، ثم يرتقي من ذلك فيخاطبه الرب وإلى هذا
أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لقد كان في الأمم محدثون
فإن يكن في أمتي منهم فعمر)) إذا علمت هذا اطلعت على تقريب
الله وتبعيده، والمراد بالقرب هنا: المعنوي، وهو معاملته
معاملة
(4/926)
القرب إليه بالطاعة والتعظيم، وإليه ذهب ابن
عبد السلام في كتاب (مقاصد الصلاة) وقد يراد تقرب العبد من
ربه قربه منه بالصفة فيتصف بما يمكنه الاتصاف به من صفات
الرب سبحانه وتعالى فقد روي: ((تخلقوا بأخلاق الله)) وفي
الصحيح: ((إن لله تسعا وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة))
وقال أهل المعرفة: أسماء الله تعالى كلها لأن يتخلق بها
العبد إلا واحد، فإنه للتعلق لا للتخلق، وهو الله سبحانه
وتعالى، قال الغزالي في (المقصد الأسنى) وبهذا التخلق
والاتصاف يكون العبد ربانيا أي قريبا من الرب ولقرب العبد
من ربه معنيان آخران:
أحدهما: قربه بالعلم والقدرة، ومنه قوله تعالى: {ما يكون
من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم}.
والثاني: قربه بالوجود والإحسان والفضل والامتنان كما قال
تعالى: {ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون} جعلنا
الله منهم، وقول المصنف: فخاف ورجى هما ثمرة المراقبة، وهي
ثمرة التقريب والتبعيد فإن الله تعالى جعل لكل معرفة حالا
تنشأ عنها، فمن عرف نعم الله كان حاله الخوف ومن عرف سعة
رحمته كان حاله الرجاء، وفي كلامه إشارة إلى الجمع بين
المقابلين فلا يقنط ولا
(4/927)
يتكل كما قال تعالى: {يرجون رحمته ويخافون
عذابه} ولهذا لما ذكر مسلم في صحيحه أحاديث، في سعة رحمة
الله أتبعها لحديث: ((دخول المرأة في هرة)) وقال: قال
الزهري: ذكرنا لئلا يتكل رجل ولا ييأس رجل قالوا: وليكن
الخوف أغلب، لأن النفس إليه أحوج فإن الرجاء يبعث على
الراحة والاتكال وإهمال بعض الأعمال، إلا عند الاحتضار،
فليكن رجاؤه أغلب، وإنما كان هذان المقامان من الأركان
لأنهما مدرجا العبودية، وأشار صاحب المنازل: إلى توقف في
عد الرجا من جملة المقامات، وقال: إنه أضعف منازل المريد،
لأنه معارضة من وجه وإعراض من وجه.
(4/928)
وهو وقوع في الرعونة في مذهب هذه الطائفة إلا
ما فيه من فائدة واحدة ولهذا نطق باسمه التنزيل والسنة
ودخل في مسالك المحققين تغشاه حرارة الخوف حتى لا يغدو إلى
الإياس قال الشيخ عبد القادر: ما من حال ومقام إلا وله خوف
ورجا كجناحي طائر لا يتم الإيمان إلا بهما، غير أن خوف كل
ذي حالة ورجاءها بما يليق بهما، وأما ما يحكى عن بعضهم:
لست أعبد الله رجاء في جنته ولا خوفا من ناره فإطلاقه
إسراف، كيف وقد مدح الله أصفياءه بقوله: {يرجون رحمته
ويخافون عذابه} وقال تعالى عن خليله: {واجعلني من ورثة جنة
النعيم} والحق أن هذا القول إن صدر إظهارا للاستغناء عن
فضل الله وعدم المبالاة بعقوبته، فهو خطأ كفر، وإن صدر
لاعتقاده تمحيص العبادة لله تعالى، حتى لو لم يكن هناك جنة
ولا نار لعبد، فهو محق وعليه ينزل كلام هذا القائل، فإن
للرب سبحانه صفتي جلال وكمال، فلو انتفى الخوف من جهة صفة
جلاله، وجبت عبادته من جهة كماله، وقوله: فأصغى إلى الأمر
والنهي جعل هذا مرتبا على الخوف والرجاء ومسببا عنه، فإنه
إذا تحقق المقامين أصغى لأوامر الله ونواهيه، فامتثل
أوامره واجتنب نواهيه، وعبر بالإصغاء للإرشاد إلى أنه لا
يكفي مجرد الامتثال بل لا بد من الميل إليه والانقياد
والانشراح والتلذذ به، وقوله: فأحبه أي أنه يوصل بذلك
(4/929)
إلى مقام المحبة فكأن الخوف والرجاء بداية،
والمحبة نهاية، ولهذا قال الشيخ عز الدين: المهابة
والإجلال أفضل من الخوف والرجاء، فإذا أردت أن تعرف فضائل
الأولياء فانظر إلى ما يظهر عليه من آثار المعارف
والأحوال، فأيهم غلب عليه أفضلها كالتعظيم والإجلال، فهو
أفضل الرجاء، وأيهم غلب عليه أدناها كالخوف والرجاء فهو
أدنى الرجاء انتهى.
وحكى الإمام الرازي في تفسير قوله تعالى: {ادعوا ربكم
تضرعا وخفية} عن المتكلمين (125/ك) أن من عبد الله لأجل
الخوف والعقاب والطمع والثواب لم تصح عبادته ولا دعاؤه
وحكى ابن الجويني في تفسير سورة الإخلاص قولين في ابتداء
المحبة من الله أو من العبد، واحتج الأول بقوله تعالى:
{يحبهم ويحبونه}، {ولقد كرمنا بني آدم}، {أني عاجل في
الأرض} فهو الذي أحبه أولا وأسجد له ملائكته.
واحتج للثاني بقوله: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}
وقوله: {إن الله لا يضيع أجر المحسنين} قال: والأول هو
الأصح، والتحقيق أن يقال: إن المحبة أولا من الله تعالى ثم
إن العبد إن قابل المحبة بالمحبة وأحب ربه زاد الله في
محبته، وإن قابل بغيرها قطع محبته، وبيانه أن الموجود من
الله تعالى تعلق الإرادة بخلقه، فإذا أراده أحسن إليه وهو
علامة المحبة، فإن شكر الله زاده، وإن كفر به أباده
(4/930)
قال المحققون: علامة محبة الله أن المرء يبغض
نفسه لأنها مانع من المحبوب، ثم إذا وافقته النفس في
المحبة أحبها لا لأنها نفسه بل لأنها محب محبوبه، إذا علمت
هذا فما قاله المصنف اقتبسه من الحديث الصحيح: ((وما يزال
عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه
الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله
التي يمشي بها)) وفي رواية: ((فإذا أحببته كنت له سمعا
وبصرا، فبي ينطق وبي يسمع وبي يبصر)) وذلك لأن من أحبه
تجرد عن صفات نفسه وتبرأ عن أفعاله وعن حوله وقوته في جميع
أحواله، وفوض أمره إلى الله تعالى فصارت حركته وسكناته
كلها بالله، كما قال تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله
رمى} فأما تأويل الحديث فهو أن الله يتولى من أحبه في جميع
(4/931)
أحواله كما يتولى الوالدن جميع أحوال الطفل،
فلا يمشي إلا برجل أحدهما ولا يأكل إلا بيده، ففنيت صفاته
وقامت صفات الوالدين مقامهما، لشدة اعتنائهما بحفظه،
وتسخير الله إياهما، فكذلك حال العبد الطائع مع الرب وفي
الحديث: ((اللهم كلاءة ككلاءة الوليد)) فمعنى ((كنت سمعه))
أحاطت عنايتي ولطفي به بحيث يصير فعله وإدراكه كأنه فعلي
وإدراكي، قيل: وأصل الكلام كأن سمعه سمعي أي صار، ثم حذف
أداة التشبيه وقلب التشبيه بعد ذلك فصار التقدير: كأن سمعي
سمعه ثم حذف المضاف من سمعي وأقيم المضاف إليه، وهو ضمير
المتكلم مقامه فانقلب الضمير المجرور مرفوعا واتصل بالفعل
فصار اللفظ كنت سمعه وهكذا تأويل
بقية الحديث وفيه حذف كثير، وأما ما يشير إليه أصحاب
الاتحاد من ادعائهم أن الحديث على ظاهره، وأن الحق ما زال
سمعا وبصرا ويدا للعبد حقيقة بدليل قوله: ((كنت)) وإنما
ظهرت له حقيقة الحال حينئذ فلا يخفى فساده لاستحالة كون
القديم صفة للحادث، وقوله: واتخذه وليا، وجعل حقيقة
الولاية: التجرد عن الصور والجهات والوقوف معه بالذات،
قالوا: وسمي الولي وليا لأنه تولى الله بطاعته، وقيل: لأن
الله تولاه بلطفه، فهو فعيل، إما بمعنى فاعل أو مفعول
وحينئذ يصير مجاب الدعاء مكاشفا بغيب الأرض والسماء،
مخاطبا بسائر الأسماع فلا يدع إلا إياه إليه، ولا يستدل
بغيره عليه، قال أبو سعيد الخراز: إذا أراد الله أن يوالي
(4/932)
عبده فتح عليه باب ذكره فإذا استلذ الذكر، فتح
عليه باب القرب ثم رفعه إلى مجالس الأنس، ثم أجلسه على
كرسي التوحيد ثم رفع عنه الحجب وأدخله دار القرب وكشف له
الجلال والعظمة، فإذا وقع بصره على الجلال والعظمة خرج من
حسه ودعاوى نفسه، ويحصل حينئذ في مقام العلم بالله، فلا
يتعلم من الخلق بل تعليم الله وتجلية لقلبه حينئذ، فيسمع
ما لم يسمع ويفهم ما لم يفهم قال بعض محققي الصوفية: لو
أنصفنا أصحابنا الأصوليون لما استبعدوا ذلك أعني حصول
العلم من العمل، لأن الصوفية يقولون: العلم يستفاد بأعمال
القلوب، وهي كيفية يظهر صدقها بالعمل بالجوارح فعمل
الجوارح حق حقيقة على القلب ولهذا لا يصح عمل النية إلا
بعمل القلب، أعني عملا مقبولا ولو نظروا رضي الله عنهم حق
النظر لعلموا أن المعارف العقلية لا تحصل إلا بصحة النظر،
وصحة النظر لا تحصل إلا بصحة البصيرة، وصحة البصيرة لا
تحصل إلا بزوال حاسة النفس وانقشاع غمام الجهل، وحصول
طهارة النفس كما قال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء
والمنكر} وقوله: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}
وقوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت}
ولهذا قال: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم
سبلنا}، {والذين اهتدوا زادهم هدى} وقال
(4/933)
في العبد الصالح: {آتيناه رحمة من عندنا
وعلمناه من لدنا علما} فدل سبحانه باختلاف العبارتين على
اختلاف المعنيين فسمى ما خولهم على ألسنة أنبيائه هداية،
وسمى ما أفاض عليهم من باطنهم بلا وساطة هدى، وقد حصل هذا
المدد لسادات الصحابة فقال علي رضي الله عنه: (لو كشف
الغطاء ما ازددت يقينا) وحصل لحارثة حيث قال النبي صلى
الله عليه وسلم: ((لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟))
الحديث فمن وفقه الله معرفة وحدانيته ببدائعه وحقائقه، كما
قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} فعند ذلك
يرى حسن الشريعة ونظامها فيعبده عند ذلك حق عبادته فيوليه
تقريبه ونجيبه، فيعرف حينئذ حقائق الموجودات، بموجدها
ودقائق المخلوقات بخالقها فيصير كما قيل لبعضهم: بم عرفت
الله؟ قال: عرفت الأشياء بالله، وقال بعضهم: ما نظرت منذ
عرفت الله إلى شيء إلا رأيت الله قبله.
(ص) ودنيء الهمة لا يبالي فيجهل فوق جهل الجاهلين، ويدخل
تحت ربقة المارقين.
(ش) دنيء الهمة: من جنح إلى سفساف الأمور وعدل عن معاليها،
قد قيدته الشهوة وأسرته المحظورات (136/ك) لا يبالي
بارتكاب الحرام ولا بالتدنس بالآثام، ولهذا قال العلماء:
الخسيس من باع دينه بدنياه وأخس منه من باع دينه بدنيا
غيره والمواقع له في هذا الجهل فإنه أول داء النفس، ثم حب
الأشياء، ثم قلة المبالاة ثم الجرأة، ثم قلة الحياء، ثم
تصديق النفس، ثم المنى لفوز الآخرة وهذا حال من ركبته
النفس الأمارة بالسوء، ولا يبالي الله أن يهلكه وأول منزل
من منازل السالك هو الفراغ من ذبح النفس بسكين الرياضات
فمن بادر إلى ذبح نفسه الغرة التي لم تحتنك
(4/934)
بعد السر فله حياة لا يموت بعدها ومن سوف في
ذلك وقد صارت نفسه قوية عوانا مختالة مكارة خداعة يظهر بزي
الصلحاء ويتسم بسمة الأتقياء وتعجب الناظرين بزخارفها فلا
بذل للحق ولا يدأب في العمل الصالح دأبا، ولا تكدح إلى
ربها كدحا فتخرج من الأمر خليعة العذار مرتدة مسلمة عن
تكليف الدين ليس فيها أثر سجود ولا سمة شهود، وهذه هي
الأمارة بالسوء الباغية الطاغية التي هي أعدى عدوك.
(ص) فدونك صلاحا أو فسادا ورضا أو سخطا وقربا أو بعدا
وسعادة أو شقاوة ونعيما أو جحيما.
(ش) هذا خطاب عام لما علم الفرق بين الحالين، وتباين هذين
الضدين وتضمن قوله: دونك تحذيرا وإغراء فالإغراء للصلاح
والرضى والقرب والسعادة والنعيم، والتحذير لمقابلها كما
قيل:
أنت القتيل بكل من أحببته ... فاختر لنفسك في الهوى من
تصطفي
(ص) وإذا خطر لك أمر فزنه بالشرع، فإن كان مأمورا فبادر،
فإنه من الرحمن، فإن خشيت وقوعه لا إيقاعه على صفة منهية
فلا عليك.
(ش) إذا عرض للسالك إلى الله في الطريق أمر فطريقه أن يزنه
بميزان
(4/935)
الشرع ويقصد باب العلم إذ لا عمل إلا بعلم،
ولا تخرج عن ثلاثة أقسام:
إما أن يكون مأمورا به أو منهيا عنه أو مشكوكا فيه،
والمصنف ذكر الثلاثة فإن وجده مأمورا به أعم من الواجب
والمندوب فليبادر إلى فعله فإنه من الرحمن، فإن خشيت وقوعه
على صفة منهية من عجب أو رياء، فلا عليك ولا تجعل هذا
الخاطر مانعا من العمل فإنه شيطاني، نعم إن أوقعته على تلك
الصفة المنهية كان ذلك محبطا له وهنا أمور:
أحدها: أن المصنف أجمل الخاطر من الرحمن وهم يقسمونه إلى
ملكي وإلهامي وروحي مع اشتراك الكل في الحق، فالخواطر
الملكية هي ما تعلق بالترغيب في العبادات على تفريق أوامر
الشرع والنهي عن المخالفات واللوم على ارتكاب المحظورات
والفرق بينه وبين الإلهام، أن الخواطر الملكية قد تزعمها
النفس والشيطان، فعلها إبداع بالهواجس والوساوس بخلاف
الخواطر الإلهامية فإنه لا يردها شيء تثتنارها النفس
والشيطان طوعا وكرها.
(4/936)
الثاني: علم من قوله: فبادر بفاء التعقيب إلى
السرعة، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: فإنك إن توقفت
برد الأمر وهبت ريح التكاس=، وقد حكى البوشنجي أنه كان في
حالة التفرغ فدعا من نزع قميصه عنه، وقال ادفعه إلى فلان،
فقيل له لو صبرت حتى يخرج، فقال: خفت أن يزول ذلك الخاطر
عن القلب.
الثالث: أشار المصنف بذلك إلى أن المدار على الأمر والنهي،
وقد قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في كتاب (الإشارات):
وقد سئل ما أول طريق الحق وآخره؟ فعلل أوله وآخره معانقة
ما أمرت به ومفارقة ما زجرت عنه، وما عداها فعبارات آيلة
فمبادرة الأمر ومحاذرة الزواجر والتوقي من المخالفات
والترقي إلى الطاعات.
ص: واحتياج استغفارنا إلى استغفار لا يوجب ترك الاستغفار
ومن ثم قال السهروردي: اعمل وإن خفت العجب مستغفرا منه.
(ش) هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أنه نقل عن رابعة
العدوية رضي الله عنها: استغفارنا يحتاج إلى استغفار وإذا
كان كذلك فلم نستغفر؟
(4/937)
والجواب: أن التلفظ المحض خير من الصمت،
فاحتياجه إليه لا يوجب الصمت عنه. قال الغزالي في
(الإحياء) في باب التوبة: لا يظن أن رابعة تذم حركة اللسان
بالاستغفار من حيث إنه ذكر الله تعالى بل تذم غفلة القلب
فهو محتاج إلى الاستغفار من غفلة قلبه لا من حركة لسانه
فإن سكت عن الاستغفار باللسان أيضا يحتاج إلى استغفارين لا
إلى استغفار واحد، قال: وهذا معنى قول القائل الصادق
(حسنات الأبرار سيئات المقربين) فإن هذه الأمور ثبتت
بالإضافة ينبغي أن يوجد من غير إضافة ولذلك اختيارات جريان
الاستغفار على اللسان مع الغفلة حسنة، لأنها خير من حركة
اللسان بغيبة مسلم أو فضول كلام، بل هو خير
(4/938)
من السكوت وإن كان ناقصا بالنسبة إلى عمل
القلب، ولذلك قال بعضهم لشيخه: إن لساني في بعض الأحيان
يجري بالذكر والقرآن، وقلبي غافل، فقال: اشكر الله إذا
استعمل جارحة من جوارحك في خير، وعوده الذكر، ولم يستعمله
في الشر والفضول.
وما قاله حق، فإن تعود الجوارح للخيرات حتى يصير لها طبعا
يدفع جملة من المعاصي فمتى تعود لسانه الاستغفار إذا سمع
من غيره كذبا سبق لسانه إليه، ومن تعود الاستعاذة إذا حدث
لظهور مبادئ شر قال بحكم اللسان: أعوذ بالله حتى يدفع بذلك
شر لعنته أو غيبته، فإياك أن تلمح في الطاعات مجرد الآفات
فتقل رغبتك في العبادات، فإن هذه مكيدة من الشيطان على
المغرورين وحكى الأستاذ أبو القاسم والقشيري في (الإشارات)
عن بعضهم: لا ينفع ذكر اللسان مع غيبة القلب ثم قال: بعض
الموفقين: إن الله أكرم أن لا يحفظ على العبد قلبه إذا حضر
هو بلسانه قال الأستاذ: وهذا هو التحقيق، وقال في موضع
آخر: عند المعظم يلقن العبد ذكرا في الابتداء حتى يتمرن
عليه اللسان، ثم يرد الذكر إلى القلب وقال (137/ك) ينبغي
أن يمتلئ القلب أولاً بذكر ثم تفيض منه على اللسان والكل
حق، وقوله: ومن ثم قال مشيرا إلى ما سأل بعض أئمة خراسان
للشيخ شهاب الدين السهروردي فقال: القلب مع الأعمال يداخله
العجب ومن ترك الأعمال يخلد إلى البطالة، فأجابه الشيخ لا
تترك الأعمال، وداوي العجب بأن تعلم أن ظهوره من النفس،
وكلم ألم بباطنه خاطر العجب يستغفر الله فإنه يصير ذلك
كفارة خاطر العجب، لا يدع العمل رأسا وكذا قال الإمام في
(المطالب): من مكائد الشيطان أن يترك العمل خوفا من أن
يقول الناس مرائي، وهذا باطل فإن تطهير العمل من نزغات
الشيطان بالكلية متعذر، فلو وقفنا العبادة على الكمال
لتعذر الاشتغال بشيء من العبادات، وذلك يوجب البطالة، وهي
أقصى غاية غرض الشيطان، بل الصواب
(4/939)
أنك ما دمت تجد باعثا دينيا على العمل فلا
تترك العمل فإن ورد في إتيانه خاطر بالرياء فجاهد نفسك،
واحتمل في إزالة ذلك الخاطر بقدر القدرة وقال الشيخ أبو
زكريا النووي: لو فتح الإنسان عليه ملاحظة الناس والاحتراز
من طرق ظنونهم الباطلة، لانسدل عليه أكثر أبواب الخير وضيع
على نفسه شيئا عظيما من مهمات الدين، وليس
هذا طريقة العارفين، ولقد أحسن من قال: سيروا إلى الله
عرجانا ومكاسير، ولا تنتظروا الصحة، فإن انتظار الصحة
بطالة، والعلم في هذا المعنى قول الإمام الشافعي رضي الله
عنه: إذا خفت على عملك العجب فاذكر رضى من تطلب، وفي أي
نعيم ترغب ومن أي عقاب ترهب، وأي عاقبة تشكر وأي بلاء
تذكر، فإنك إذا فكرت في واحدة من هذه الخصال صغر في عينيك
عملك، وههنا دسيسة قد تخفى، وهي: أن الشارع رتب على
الطاعات ثوابا ومدحا وثناء على فاعلها ورتب على المعاصي
عقابا وذما وقدحا في فاعلها، ثم طلب من الفاعل الإخلاص وهو
أن يفعل للامتثال لا لغرض أصلا فيقال: إن ذلك من جملة حظوظ
النفوس، فما الذي يحقق له الإخلاص ولو قالت له النفس: إنما
فعلت للامتثال كيف يصدقها وهي رواعة والجواب: طريقة السير
بأن تعرض عليها شوائب حظوظها في الفعل، فيعرض عليها المنع
فلا يجدها عنده، والثواب فكذلك ثم يعرض عليها الإقبال
المجرد فيجدها منبعثة ومنشرحة به، ويكتفي من النفس بهذا
المقدار للضرورة وقد اختلف الناس في حديث الثلاثة الذين
أول من تسعر بهم النار، حيث يقول: ((إنما قصدتك فيقول
الله: كذبت، إنما أردت ليقال)) هل كان هذا القائل روغ وكذب
متواطئا مع نفسه أو كان صادقا باعتبار ما عنده؟ لكن النفس
ليست عليه في معتقدها غير ذلك، وكان من حقه أن يتفقدها
وغرضها منه حتى يقع على الإخلاص، فكذب بهذا الاعتبار
لتقصيره، وهذا أولى
(4/940)
ما يحمل عليه الحديث، لأن ذلك المقام لا ينطق
فيه إلا بالصدق، والذي ينبغي للعاقل أن لا يثق بنفسه أبدا،
بل يتهمها قال يحيى بن معاذ: لا تسكن إلى النفس وإن دعتك
إلى الرغائب.
ص: وإن كان منهيا فإياك فإنه من الشيطان فإن ملت فاستغفر.
ش: القسم الثاني: أن تجده في الشرع منهيا عنه فلا تقربه
فإنه الشيطان فإن غلبك الأمر وفعلت فاستغفر، لأنها معصية
كفارتها الاستغفار وجعل المصنف كلا من الشيطان خلاف ما
عليه أكثر أئمة هذا الشأن من تقسيم الخواطر الباطلة إلى
نفس وشيطان، وفرقوا بينهما مع اشتراك الكل في الباطل بأن
النفساني علامته إذا طلب شيئا لا يرجع عنه، والشيطان قد
ينقله إلى مثله إذا عجز عن الأول، لأن قصده شغل القلب بغير
الله ووقوعه في الفتنة فلا يزال يزين الأشياء في نظره
ويدعوه إليها، فإن لم يلتفت إلى شيء زين آخر، وهكذا لأن
جميع المخالفات عنده سواء بخلاف خاطر النفس فإنها تصمم ولا
تسكن إلا عند استيفاء حظها أو يسكنها
(4/941)
إخلاص الطالب بصمصام التصديق كما قال بعضهم،
اشتهت نفسي أربعين سنة أن أغمس جزرة في الدبس وهذا الفرق
منقول معناه عن أستاذ الطائفة الجنيد رضي الله عنه ونبه
الشيخ شهاب الدين السهروردي على أن هذه الإشارات إلى
علامات الخواطر لا يرخص للمريد في الاشتغال بتمييزها فإن
ذلك يشوش الفكر ويزيل الجمعية، ويبطل فائدة الذكر، لا ليس
طريقه على نفي الخواطر بأسرها لئلا يصير الشيطان من جملة
خواطره بل حقه ردعها وردها بالمراقبة وبهذا يعتذر عن
المصنف في إجماله هذا المقام، وقد نقل القشيري الإجماع على
أن من يأكل الحرام لا يفرق بين الخاطر الملكي والشيطاني
ولما كان الميل تارة يكون مع التصميم وتارة لا معه بين
الحكم.
ص: وحديث النفس، ما لم يتكلم أو يعمل، والهم مغفوران:
ش: الواقع في النفوس من متعلقات المعاصي خمس مراتب.
الأولى: الهاجس وهو ما يلقى فيها، ولا يؤاخذ به بالإجماع
لأنه ليس من فعل العبد وإنما هو وارد لا يستطيع رفعه.
(4/942)
الثانية: جريانه فيها وهو الخاطر وسمى الراغب
الأول سانحا، وقال الشيخ وهو خاطر يعبر عنهما بالهاجس
وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إن للشيطان
لمة بابن آدم، وللملك لمة؛ فأما لمة الملك فوعد بالخير
وتصديق بالحق، وأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب
بالحق)).
الثالث: حديث نفسه وهو ما يقع من التردد، هل يفعل أو لا؟
وهذان مرفوعان بقوله صلى (138/ك) الله عليه وسلم: ((إن
الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل
به)) فإذا ارتفع حديث النفس ارتفع ما قبله بطريق أولى، قال
المحققون: وهذه المراتب الثلاث أيضا لو كانت في الحسنات لم
يكتب له بها أجرا، أما الأول فظاهر، وأما الثاني والثالث
فلعدم القصد.
(4/943)
الرابعة: الهم وهو ترجيح قصد الفعل: يقال:
هممت بالأمر أي قصدته بهمتي وهو مرفوع لقوله تعالى: {إذ
همت طائفتان} الآية ولو كانت مؤاخذة لم يكن الله وليهما،
ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((من هم بسيئة فلم يعملها لم
تكتب عليه)) وفي هذه الحالة تفترق الحسنة مع السيئة، فإنه
إن هم بالحسنة ولم يعملها كتب له حسنة كاملة كما ثبت في
الصحيحين، وحمل ابن حبان في صحيحه الهم على العزم، لأن
العزم نهاية الهم، قال: ويحتمل أن الله تعالى يكتب لمن هم
بالحسنة حسنة، وإن لم يعزم عليه، ولا عمله لفضل الإسلام.
الخامسة: العزم وهو قوة القصد والجزم به، فإن العزم لغة
الجد وعقد القلب وهو مؤاخذ به عند المحققين، وذهب بعضهم
إلى أنه مرفوع كالهم، والصحيح الأول لقوله صلى الله عليه
وسلم: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في
النار)) قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟
قال: ((إنه كان حريصا على قتل صاحبه)) فعلل بالحرص
والإجماع على المؤاخذة بأعمال القلوب كالحسد
(4/944)
بخلاف الهم وقال العبادي في فتاويه: لا خلاف
أن الآدمي مؤاخذ بعمل اللسان والسمع والبصر، أما الفؤاد
فقال الله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان
عنه مسؤولا} فمن الناس من يقول: يؤاخذ بما يسعى به الباطن
إلى أول خاطره وهو الهاجس والأصح أنه لا يؤاخذ بمساعي
الباطن لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عفى لأمتي عما
حدثت به أنفسها)) وقيل: إن اتصل بما تعمل تؤاخذ بالكل.
انتهى، وما أطلقه متعقب بما ذكرنا، وقال القاضي الحسين في
كتابه الصوم من تعليقه: كما يحرم النظر إلى الحرام يحرم
الفكر فيه لقوله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم
على بعض} فمنع أعنى= التمني فيما لا يحل كما منع من النظر
إلى ما لا يحل لقوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من
أبصارهم} وأشار المصنف بقوله: ما لم يتكلم إلى أن عدم
المؤاخذة بالهم، وحديث النفس ليس مطلقا، بل بشرط عدم
التكلم والعمل، حتى إذا عمل يؤاخذ بشيئين: همه وعمله، ولا
يكون همه مغفورا وحديث نفسه إلا إذا لم يعقبه العمل، هذا
هو ظاهر الحديث، وقوله: والهم أي: ما لم يتكلم أو يعمل
أيضا، ولم يحتج
(4/945)
إلى تقييده لأنه إذا قيد حديث النفس وهو دون
الهم كان الهم مقيدا بطريق أولى، هل يؤخذ= بهما إذا عمل
عملا غير المعصية التي هم أو حدث نفسه بها، أما إن كان ذلك
العمل أجنبيا لا ارتباط له بهما بالكلية كمن هم بالزنا ثم
أكل فلا ريب في عدم المؤاخذة وإن كان من مقدمات المعصية
كمن هم بالزنا بامرأة تقابله فمشى إليها ثم رجع من الطريق،
فهذا موضع نظر، قال الشيخ السبكي: يظهر المؤاخذة من إطلاق
النبي صلى الله عليه وسلم العمل، وكونه لم يقله أو يعمله،
قال: فيؤخذ منه تحريم المشي إلى معصية، وإن كان المشي في
نفسه مباحا لكن لانضمام قصد الحرام، وكل واحد من المشي
والقصد لا يحرم عند انفراده أما إذا اجتمعا فإن مع الهم
عملا لما هو من أسباب المهموم به فاقتضى إطلاق (أو يعمل)
المؤاخذة به، قال: فاشدد بهذه الفائدة يديك واتخذها أصلا
يعود نفعه عليك وهذا الذي قاله من المؤاخذة بالمقدمة إذا
انضمت إلى حديث النفس لإطلاق (أو يعمل) حسن لو لم يقيد في
حديث آخر، لكن جاء في رواية في الصحيحين (أو يعمل به)
ويحتمل أنه لما رجع عن فعل السيئة بعد فعل مقدمتها لله لم
يؤاخذ بالفعل، لقوله في الحديث: ((إن تركها فاكتبوها له
حسنة وإنما تركها من جراي=)) أي: من أجلي، رواه مسلم، وفي
لفظ لابن
حبان ((وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة)) وذكر في موضع
آخر أن قوله: (أو يعمل) ليس له مفهوم حتى يقال: إذا تكلمت
أو عملت يكتب عليها حديث النفس لأنه إذا كان الهم لا يكتب
فحديث النفس أولى، وهذا خلاف ظاهر الحديث وخلاف ما قاله
المصنف هنا، وقد نازعه ابنه وقال: يلزم منه
(4/946)
أن لا يؤاخذ عند انضمام عمل من مقدمات المهموم
به بطريق أولى قال فقوله: وإذا كان الهم لا يكتب فحديث
النفس أولى ممنوع، فلا نسلم أن الهم لا يكتب مطلقا بل عند
انضمام عدم العمل إليه.
(ص) فإن لم تطعك الأمارة فجاهدها.
(ش) أي كما تجاهد من يقصد اغتيالك بل أعظم، لأنها قصدت بك
الهلاك الأبدي قال بعضهم: معالجة المعصية إذا خطرت حتى
تذهب أهون من مرارة التوبة حتى تقبل لأن مجاهدتها في
البداية بكف الخواطر وفي النهاية بالندم والتأسف والبكاء،
ثم لا يدرى أقبلت أم لا؟ وإذا وقع العبد في المعصية لاهيا
عن الوعيد لم يحضر ذكره فهو من الذين {نسوا الله فأنساهم
أنفسهم} لأنه لا يحبب إليه أن يستحضر عظمة الرب في هذه
الحالة، فإذا لم يخلق الله له الذكر فقد أراد هلكته، وعليه
إثم الذاكر، لأن نسيانه لسبب انهماكه في المعصية وتعلق
شهوته، وإذا حضرت المعصية واستحضر عظمة من يعصيه والتحريم،
فإن كف عن الإقدام فذاك وإن أقدم تجريما فهالك أو تسويفا
وقال: أتوب بعد ذلك فمعذور
(4/947)
فإنه يجب عليه ملازمة الطاعة ومعالجة الشهوة،
وإنما خص المصنف هذا بالأمارة لأن النفوس ثلاث: أمارة
بالسوء وهي التي لا يلوح لها طمع إلا تعرضت له (139/ك) ولا
تبدو لها شهوة إلا تبعتها، لم تحكمها الرياضة ولم تسلك
سبيل الرشاد.
والثانية: اللوامة وهي التي تلوم صاحبها على التقصير في
الطاعة ولهذا أقسم الله تعالى بها: {ولا أقسم بالنفس
اللوامة}.
والثالثة: المطمئنة التي استقامت على الطاعة ولم تفترسها
غوايل الشهوات، واعلم أن النفس بطبعها تحب الراحة، والشهوة
فمتى أطلقت لجامها أهلكتك فتحتاج أن تكون ركابا فارسا بطلا
وإلا اغتالتك قال بعضهم: وقفت يوما بالطاحون وإذا ببعير
يدور على رحا فلما فقد صوت الطحان أبطأ في السير، فجاء
الطحان وصاح به كالزاجر له على البطء فرأيت البعير هاج
لصوته وتحرك كل عضو منه على حدته لانبعاثه ففهمت منه أن كل
روحاني فنفسه تبطئ به لميلها إلى الراحة فيحتاج إلى مؤاثرة
تزجره وتصوب به وتحثه على العمل، كذلك نفس ابن آدم محتاجة
إلى الموعظة والزجر.
(ص) فإن فعلت فتب.
(ش) أي على الفور وهو مفهوم من إتيانه بالفاء حتى لا يبقى
للمعصية في النفس أثر، لأن التوبة تجب ما قبلها وهي رحمة
من الله للمذنبين، قال العلماء:
(4/948)
والتوبة واجبة لا يجوز لمن عمل سيئة أن يؤخر
التوبة بل يلزمه إذا وقعت منه الندم والاستغفار وقل أن
يخلو المكلف من أمر يتوب منه حتى إن قوما من العلماء
يوجبون التوبة من الغفلة قال ابن الصباغ في كتاب (الطريق
السالم): وذلك ظاهر الحجة فإن من شأن المنعم عليه أن لا
يغفل عن المنعم، لأنه لا يخليه عن نعمة.
واعلم أن الإسلام يجب ما قبله قطعا، وأما التوبة فهل
تكفيرها الذنب قطعي أو ظني؟ فيه خلاف لأهل السنة واختار
إمام الحرمين أنه مظنون قال النووي في (شرح مسلم) وهو
الأصح وقال الأبياري في (شرح البرهان): الصحيح عندنا القطع
بالمحو، وسندنا الإجماع عليه وإن اختلفوا في القطع والظن،
فمن قال: إنها غير ماحية فقد خرق الإجماع، فإن قيل: فبعض
الأمة جازم بالظن فكيف ينتج القطع؟ قلنا: يلزم من هذا أن
الأمة إذا اجتمعت على قبول مظنون أن لا يكون حجة، ونحن
نختار أن الإجماع حجة على كل حال، وظن بعضهم يزيد على ظن
جميعهم قال الحليمي: ولا يجب على الله قبولها ولكنه لما
أخبر عن نفسه أنه يقبل التوبة عن عباده ولم يجز أن يخلف
وعده، علمنا أنه لا يرد التوبة الصحيحة على صاحبها
(4/949)
فضلا منه وقال والد المصنف في تفسير قبول
التوبة عن الكفر مقطوع به أعني أن الله يقبلها تفضلا قطعا
وفي القطع بقبول توبة العاصي قولان لأهل السنة، وقد نجد في
كلام الخلاف في وجوبها وليس مرادهم ما قالته المعتزلة
وإنما مرادهم القطع بوقوعها تفضلا كما ذكرناه وأن ذلك ثابت
بأدلة سمعية مقطوع بها بخلاف أحد القولين، ومظنونة وعلى
الثاني والأصح أنها ظنية، وعبارة ابن عطية في وجوبها قولان
لأهل السنة وهو محمول على ما قلناه. انتهى. وقد أورد الشيخ
عز الدين تشكيكا على تحقيق التوبة وتصويرها مع ملاحظة
توحيد الله بالأفعال خيرها وشرها مع أن التوبة ندم على
فعل، والندم على فعل الخير لا يتصور وأجابني بأن من رأى
للآدمي كسبا خص الندم بكسبه دون صنع ربه، ومن لا يرى
بالكسب خص الندم بحال الغفلة عن التوحيد قال: وهذا مشكل
جدا من جهة أنه يتوب عما يظنه فعلا له وليس بفعل له في نفس
الأمر.
(ص) فإن لم تقلع لاستلذاذ أو كسل فتذكر هازم اللذات وفجاءة
الفوات أو القنوط، فخف مقت ربك واذكر سعة رحمته وأعرض
التوبة ومحاسنها.
(ش) ذكر أن لعدم إقلاع النفس عن الذنب شيئين:
أحدهما: استلذاذ المعصية أو الكسل عن الإنابة فعلاجها
الإقماع بذكر هازم اللذات ومفرق الجماعات، إذ لا محيص عنه
ولا مهلة، فإنه يكدر العيش ويقصر الأمل ويبعث على العمل
كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا من ذكر هازم اللذات،
فإنه ما ذكر في كثير إلا قلله ولا في قليل إلا كثره)) وكان
بعضهم
(4/950)
يقول: شغل الموت قلوب المتقين عن الدنيا،
فوالله ما رجعوا فيها إلى سرور بعد معرفتهم بتكديره وغصته،
وقال بعض المسلكين: إذا اشتبه عليك أمر فلم تعلم هو مما
يجب أن يرغب فيه أو عنه فاحضر ببالك حضور باعث الموت فإن
بقي معك الأمر فابق معه وإن فارقك ففارقه وقيل لمحتضر: كيف
حالك؟ فقال: كيف حال من يريد سفرا بعيدا بلا زاد، وينزل
منزلا موشحا بلا مؤنس ويقدم على ملك جبار وقد أذنب إليه
بلا حجة.
الثاني: القنوط واليأس من رحمة الله لشدة الذنب أو استحضار
عظمة الرب وشدة بأسه فهذا مقت من الله وذنب آخر مضاف إلى
ذنب المعصية، وقد قال تعالى: {إنه لا ييأس من روح الله إلا
القوم الكافرون} وعلاج هذا الداء بما يضاده وهو استحضار
سعة رحمة الله كما قال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا
على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب
جميعا} وفي الصحيح: ((والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب
الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم)) ومنه
((لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل معه راحلته عليها طعامه
وشرابه بأرض فلاة فقام ...)) الحديث.
(4/951)
(ص) وهي الندم وتتحقق بالإقلاع وعزم أن لا
يعود وتدارك ممكن التدارك.
(ش) تفسير التوبة بالندم لأنه روحها وركنها الأعظم كقوله:
((الحج عرفة)) وروى ابن ماجه بإسناده ((الندم توبة)) وكانت
التوبة في بني إسرائيل بقتل النفس كما قال تعالى: {فتوبوا
إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} قال الواسطي توبتهم إفناء
نفوسهم، وتوبة هذه الأمة أشد وهي إفناء نفوسهم عن مرادها
مع بقاء رسوم (140/ك) الهياكل ومثل من أراد هذا الإفناء
الذي أشار إليه الواسطي كمثل من أراد كسر لوزة في قارورة
وذلك مع أنه صعب يسير على من يسره الله قال حملة الشريعة:
والمراد الندم لأجل ما وجب عليه، فلو تضرر بشرب الخمر وندم
فليس بتوبة لأنه ندم لأمر يعود إلى طبعه، ولهذا قال ابن
القشيري في (المرشد): التوبة في اصطلاح المتكلمين الندم
على الزلة لأجل باعث الندم له وهذا القيد لأنه ربما يندم
على الزلة لإضرارها به فهو نادم غير تائب، قال: وهذا الحد
ذكره القاضي
(4/952)
والأستاذ: وأما الفقهاء فذكروا له ثلاثة
أركان: الإقلاع في الحال، والعزم على أن لا يعود في
الاستقبال والندم انتهى وكأن المصنف أراد أنه لا يخالف بين
الطريقين فسالك طريق المتكلمين في تفسيرها بالندم، وجعل
كلام الفقهاء لا يخرج عنه لأن ذلك يتضمن الندم، إذ يستحيل
حصول الندم الحقيقي على شيء مع ملازمته في الحال والعزم
على معاودته، فلهذا قال: يتحقق أي إنما يتحقق بالإقلاع في
الحال والعزم في الاستقبال وإن تعلق بحق آدمي فلا بد من
الخروج عنه وإليه أشار بقوله: وتدارك ممكن التدارك، وهذا
قاله الفقهاء، وقال الإمام في (الشامل) إن لم يرد المظلمة
وندم فقد صحت توبته فإنها: الندم على ما سلف، وما تعلق برد
المظلمة حق آخر وجب عليه، فإذا لم يفعله لم يبطل ما أتي به
من حقيقة التوبة، وحكى ابن القشيري في (المرشد) عن والده
زيادة شرط آخر وهو تعين الذنب فلو أسلف ذنبا ونسيه فإن عين
ذنوبه في الجملة وعزم أن لا يعود إلى ذنب، لم تصح توبته
بما نسبه وما دام ناسيا لا يكون مطالبا بالتوبة، ولكن يلقى
الله وهو مطالب بتلك الزلة، وهذا كما لو كان عليه دين
لآدمي ونسي المديون ولم يقدر على الأداء فهو في الحال غير
مطالب مع النسيان ولكن يلقى الله وهو مطالب قال: وهذا مأخذ
ظاهر، لأن التوبة ندم والندم إنما يتحقق مع الذكر بما فعله
حتى يتصور الندم وقال القاضي: إن لم يتذكر التفصيل يقول:
إن كان لي ذنب لم أعلمه فإني تائب إلى الله منه، ولعله قال
هذا إذا علم أن له ذنوبا، ولكنه لا يتذكرها، فأما إذا لم
يعلم لنفسه ذنبا فالندم على ما لم يكن محال، وذكر المحاسبي
أنه يعين كل ذنب على انفراده ولا يخفى إشكاله وقال الشيخ
عز الدين: يتذكر من الذنوب السالفة ما يمكن تذكره وما تعذر
لا يجب عليه ما لم يقدر عليه.
ص: وتصح ولو بعد نقضها عن ذنب ولو صغيرا مع الإصرار على
آخر ولو كبيرا عند الجمهور.
(4/953)
ش: فيه مسائل أحدها: من تاب ثم نقض لم يقدح في
صحة الماضية ما طرأ من المنافي، وعليه المبادرة إلى تجديد
التوبة من المعاودة كقوله تعالى: {إن الله يحب التوابين}
والتواب بوزن فعال وهو للمبالغة ولا يطلق إلا على من أكثر
التوبة، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما أصر امرؤ ولو عاد
في اليوم سبعين مرة)) هذا هو المشهور وحكى الإمام عن
القاضي أن توبته الأولى انقضت حتى يلقى الله مؤاخذا بحكم
الزلة الأولى التي تاب منها والصحيح الأول، فإنه كمن ترك
الصلاة فقضاها ثم ترك أخرى فالأولى التي قضاها لا يطالب
بحكمها ثانيا وأجرى الواحدي في تفسير سورة النساء هذا
الخلاف في الكافر يؤمن ثم يكفر أنه يكون مطالبا بجميع كفره
على قول بعض الأصوليين، قال: وهو غلط لأنه صار بالإيمان
كمن لم يكفر فلا يؤاخذ به بعد أن ارتفع حكمه.
الثانية: تجب التوبة من الصغائر كما تجب من الكبائر خلافا
لأبي هاشم فإنه قال: لا تجب التوبة منها على من عرف أنه لا
عقاب فيها، وإن كانت الصغيرة محرمة لأن التوبة إنما تجب من
العقاب وهو محجوج بإجماع المسلمين على التوبة من الصغائر
والكبائر ولم يحفظ الإمام في (الإرشاد) خلاف أبي هاشم في
هذه المسألة، وتبعه تلميذه الأنصاري في شرحه فحكى الإجماع
على وجوب التوبة من الصغائر
(4/954)
وكان الشيخ السبكي يتردد في وجوب التوبة عيناً
في الصغائر ويقول: لعل وقوعها تكفره الصلاة واجتناب
الكبائر، يقتضي أن الواجب فيها أحد الأمرين من التوبة أو
فعل ما يكفرها وبتقدير الوجوب فيحتمل أن لا يجب على الفور،
بل حتى يمضي ما يكفرها، ويجتمع له في هذه المسألة احتمالات
وجوب التوبة فيها عيناً على الفور كالكبيرة، وهو مذهب
الأشعري، ووجوبها عيناً لكن لا على الفور بخلاف الكبيرة
ووجوب أحد الأمرين التوبة أو فعل المكفر لها، وكان يرد
الخلاف بين الأشعري وبين أبي هاشم إلى هذا، ويقول: ليس
مراد الأشعري تعين التوبة بل محو الذنب إما التوبة النصوح
أو فعل المكفرات لها، وقد خالفه ولده المصنف وقال: الذي
أراه وجوب التوبة عيناً على الفور من كل ذنب، نعم إن فرض
عدم التوبة عن الصغيرة، ثم جاءت المكفرات كفرت الصغيرتين
وهما تلك الصغيرة وعدم التوبة.
الثالث: تصح التوبة عن ذنب مع الإصرار على ذنب آخر خلافاً
للمعتزلة بناء على أصلهم التقبيح العقلي لأن الكل في القبح
على حد سواء ورد بأن الإسلام توبة حقيقية ثم من أسلم وهو
مقارف الكبائر لا يقال: لا يصح إسلامه، وأما قوله تعالى:
{وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئاً}
وقوله: {فمن يعمل
(4/955)
مثال ذرة خيراً يره} وقوله: {والوزن يومئذ
الحق} ولو صح قول المعتزلة للزم أن لا يوجد وزن الأعمال
نعم التصفية عن سائر المعاصي من أوصاف كمال التوبة لا من
شروطها وعند (141/ك) الصوفية التوبة من السالك لا تصير
مفتاحا للمقامات حتى يتوب عن جميع الذنوب، لأن كدورة بعض
القلب واسوداده بالذنب يمنع من السير إلى الله تعالى.
واعلم أن لأصحابنا في هذه المسألة خلافا وتفصيلا، قال
الحليمي: تصح التوبة من كبيرة دون أخرى من غير جنسها لم
يتب عنها، كما يصح إقامة الحد عليه لأجلها وإن كان عليه حد
آخر من غير جنسه وحكاه عنه البيهقي وسكت عليه وقضيته أنها
إذا كانت من جنسها لا تصح، وقال ابن القشيري: وأباه
الأصحاب وقال الإمام: إن كان معتقداً أن العقوبة على
أحدهما أعظم صحت التوبة من أحدهما دون الآخر، وإن استوت
الدواعي وهما مختلفا الجنس كالقتل والشرب فهما مثلان لا
تصح التوبة على أحدهما مع الإصرار على الآخر، وقال الأستاذ
أبو بكر: تصح التوبة من جنس مع الإصرار على جنس آخر، فتصح
التوبة من الزنا مع الإصرار على الشرب، وكذا العكس ولا يصح
من بعض أنواع الجنس مع الإصرار على البعض فلا تصح التوبة
عن الزنا بزينب مع الإصرار على الزنا بهند إذ لا يتصور
الندم في هذا ويتصور الندم في جنس مع المقام على جنس آخر،
وقال الأستاذ أبو إسحاق: التوبة من قبيح مع الإصرار على
مثله صحيحة حتى يصح أن يتوب عن الزنا بامرأة مع المقام على
الزنا بمثلها، وإذا زنا بامرأة مرتين صح أن يتوب عن مرة
دون أخرى، قال ابن القشيري: والأصحاب يأبون هذا فإن شرط
صحة التوبة الندم على أن لا يعود إلى
(4/956)
مثله، وذلك محال مع الإصرار على مثله.
فائدة: سئل بعضهم: ما علامة قبول التوبة؟ قال: أن يفتح
عليك بابا من الطاعة لم يكن لك قبل ذلك، ومثاله من الشاهد:
أن يأتي رجل إلى ملك فيقول: أنا أريد أن أكون طوع يدك
وأدخل تحت عبوديتك فمن علامة قبول الملك إياه أن يستعمله
على أدنى عمل من أعماله، فإذا علم أمانته ونصحه نقله إلى
ما هو أعلى منه إلى أن يصير جليسا له.
(ص) وإن شككت أمأمور أم منهي، فأمسك ومن ثم قال الجويني في
المتوضئ يشك أيغسل ثالثة أم رابعة لا يغسل.
(ش) القسم الثالث أن يشك في كونه مأمورا أو منهيا، فالواجب
الإمساك عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلى
ما لا يريبك)). وإنما اقتصر المصنف على هذه الأحوال
الثلاثة لأنها قطب العلم وعليها يدور رحى العمل وقد بلغني
عن بعض الأئمة أنه رأى في ابتداء أمره في المنام أنه حضر
الجامع فوجد متصدرا فجلس ليقرأ عليه فقال: أنت تقرأ علي
وقد علمك الله المسائل الثلاثة، فانتبه وأتى معبرا. فقال:
اذهب فستصير أعلم أهل زمانك، فإن المسائل الثالث التي أشار
إليها أمهات العلم في قوله صلى الله عليه وسلم: ((الحلال
بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات))
(4/957)
الحديث. وما حكاه عن الجويني مدركه فيه أن ترك
السنة أهون من ارتكاب البدعة، لكن الجمهور خالفوه، وقالوا:
إنما ذلك عند التحقيق ولهذا لو شك أصلى ثلاثا أم أربعا
فإنه يأتي برابعة مع احتمال الوقوع في منهي بالزيادة، وحكى
ابن السمعاني في تاريخه أن رجلا رأى الشيخ أبا إسحاق
الشيرازي يتوضأ على دجلة فغسل وجهه أكثر من ثلاث فأنكر
عليه، فقال الشيخ: لو صحت لي الثلاث لم أزد، وقسم الشيخ
أبو حامد الاسفراييني الشك إلى ثلاثة أضرب: شك طرأ على أصل
حرام فلا يحل، مثل أن يجد شاة مذبوحة ببلد فيه مسلمون
والمجوس كثير فإن الأصل في الحيوان التحريم حتى يتحقق
الزكاة المبيحة، وشك طرأ على أصل مباح مثل أن يجد إناء
متغيرا ويحتمل أن يكون بطول مكث وأن يكون بنجاسة، فالأصل
الطهارة إلى أن يتبين خلافها، ثم إن استند إلى سبب ظاهر
قدم على الأصل كمسألة بول الظبية في الماء إذا وجده
متغيراً، وإن لم يستند إلى سبب ظاهر، فإن كان بعيدا جدا لم
يكن له أثر في التحريم، بل يعمل بأصل الحل ولكن يندب
الورع، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأجد التمرة
ساقطة على فراشي فلولا أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها)).
فإن دخول الصدقة الواجبة إلى بيته صلى الله عليه وسلم
(4/958)
كان نادرا جدا، وهي محرمة عليه وعلى آله، ولكن
يحتمل أن يكون بعض الأطفال، دخل إلى بيته وفي يده شيء من
ذلك فوقعت منه التمرة وهو احتمال بعيد، وبين هذين
المرتبتين مراتب كطين الشارع وثياب ملامس النجاسة ويقوى
الورع عند قوة الشبهة.
والثالث: شك لا يعلم أصله كمعاملة من أكثر ماله حرام.
(ص) وكل واقع بقدرة الله وإرادته.
(ش) أي الخير والشر، وقد روي عن أبي هريرة قال: جاء مشركو
قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر
فنزلت هذه الآية: {إن المجرمين في ضلال وسعر} ... إلى ...
{إنا كل شيء خلقناه بقدر} ورواه ابن حبان، وقال: يخالفونه
في القدر ولقوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره
للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} فصرح بأنه
يريد الطاعة والمعصية، والإيمان والكفر كونا، وأن ذلك من
تقديره وقضائه، وصار من لم يتشرع من الفلاسفة إلى نفي
القدر جملة، حكاه المازري وغيره وصارت المعتزلة إلى نفيه
في الشر والمعاصي دون الطاعات، واختلفوا في المباحات، ولنا
إجماع المسلمين على
(4/959)
قولنا: ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن،
وقد سبقت المسألة، وأحسن متعلق عليهم إثبات العلم بها له
سبحانه وتعالى، ولهذا قال الشافعي: القدرية إذا سلموا
العلم خصموا.
وقد احتج عليهم مالك بقوله صلى الله عليه وسلم: ((الله
أعلم بما كانوا عاملين)).
فإن قيل: أتطلقون أن الله يريد المعصية؟ قيل اختلف فيه؛
فقال كثير من السلف: إنه يريد كل ما يجري في سلطانه، ويدخل
في ذلك المعصية على الجملة فأما ذكرها على التفصيل فلا
يجوز، وقال الأشعري أراد المعصية أن (142/ك) يكون معصية،
وأن يكون المتلبس بها عاصيا معذبا كذا حكى الخلاف الأستاذ
أبو منصور ثم قال: وأجمع أصحابنا على أنه لا يجوز أن يطلق
القول بأن الله يريد المعصية، وسكت؛ لأن هذا القدر يوهم
الخطأ، وإنما الخلاف في أنه هل يجوز أن يقال: يريد المعصية
بالمعنى المذكور على الجملة لا على التفصيل؟ قال: وقد يطلق
العامة ومن لا تحصيل له ذلك وهو خطأ، والغرض تحقيق المعنى
وتصحيح العبارة
(4/960)
ومراعاتها واجبة.
(ص) وهو خالق كسب العبد قدر له قدرة هي استطاعته تصلح
للكسب لا للإبداع، فالله خالق غير مكتسب والعبد مكتسب غير
خالق.
(ش) الفرق في هذه المسألة ثلاثة:
أحدها الجبرية قالوا: لا قدرة للعبد أصلا وهو باطل لما
نجده من أنفسنا من الاقتدار، ثم يلزمهم وقوع التكاليف على
ما لا يقدر عليه.
والثانية القدرية وهم جمهور المعتزلة قالوا: إن العبد
مستقل بإجاد فعله بقدرته وإرادته ودواعيه، ولولا ذلك لم
يحسن التكليف والثواب والعقاب، لكنهم قالوا: إن تلك القدرة
والداعية مخلوقتان لله، وقال كثير منهم: إن عند وجود تلك
الأشياء يجب الفعل وعند عدمها يمتنع، وإذا كان الفعل إما
واجبا وإما ممتنعا كان غير مقدور فوقعوا فيما فروا منه وهو
عدم حسن التكليف على قاعدتهم.
(4/961)
الثالثة: القائلون بأن العبد غير مستقل وهم
جميع أهل السنة وقالوا: الله خالق لأفعال العباد كما هو
خالق لأعيانهم كما قال تعالى: {قل الله خالق كل شيء}
وقالوا: لا خالق إلا الله كما قالوا: لا إله إلا الله.
{والله خلقكم وما تعملون}. وكلمة ما مع الفعل للمصدر
بإجماع أهل اللغة، وما يعمل ابن آدم ليس هو الصمم وإنما هو
حركاته، وأكسابه وقد حكم بأنه خلقنا وخلق ما نعمله، وفي
(4/962)
الحديث: ((إن الله خالق كل صانع وصنعته)).
ولأن المحدث لا يصح أن يحدث كما أن الحركة لا يصح أن
تتحرك، فالله تعالى خلق القادر وقدرته، فقدرة القادر
كتأثير الشمس بالحرارة فالشمس خلق الله وتأثيرها في
الأشياء خلق الله، لأن المؤثر إذا كان خلقا يكون الأثر
خلقا، وإذا كان الفاعل خلقا يكون الفعل خلقا، وإن قلت: إذا
كان الله تعالى خلق الفعل فكيف يعاقبه على شيء خلقه؟
فنقول: كما يعاقب خلقا خلقه فليس عقوبته على ما خلق بأبعد
من عقوبته من خلق، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد {لا يسأل
عما يفعل وهم يسألون} وعلى هذا أدرج السلف الصحابة
والتابعون، وصنف فيه البخاري كتاب (خلق أفعال العباد) إلى
أن أحدث القدرية القول بخلافه، والأولون نظروا إلى السبب
الأول وهو القدرة والإرادة القديمتان، والآخرون نظروا إلى
السبب الآخر وهو القدرة والإرادة الحادثتان، وتوسط أهل
السنة فمذهبهم بين الجبر والقدر، وقالوا: الأمر مزج لا بد
من اعتبار الأمرين جميعا فالفعل من الله خلقا ومنك كسبا
فهو اختيار ممزوج بجبر، وعبروا عن ذلك
(4/963)
بالكسب لقوله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن
الله رمى} فأثبت له الرمي ونفاه عنه، فإذا نسب الفعل إلى
القدرة القيمة سمي خلقا والقادر خالقا، وإذا نسب على
القدرة الحادثة سمي كسبا، والفاعل كاسبا، ولا بد من القول
بالكسب تصحيحا للتكليف والثواب والعقاب لامتناع الجمع بين
اعتقاد الجبر المحض والتكليف وحاصله أن الأفعال تثبت للخلق
شرعا لإقامة الحجة عليهم، ولا فاعل في الحقيقة إلا الله
تعالى فمراعاة الظاهر شريعة ومراعاة الباطن حقيقة وفي هذا
المذهب جمع بينهما وفي الكسب عبارات.
أحدها: الفعل القائم بحل القدرة عليه، احترازا من الخلق
وهو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه.
الثانية: أنه الفعل المقدور بالقدرة الحادثة والخلق الفعل
المقدور بالقدرة القديمة.
الثالثة: الكسب المقدور الذي يروم القادر عليه به جلب نفع
أو دفع ضر وهؤلاء لا يسمون فعل النائم كسباً.
(4/964)
الرابع: أنه المقدور الحاصل بالقدرة القديمة
في محل القدرة الحادثة وهذا أحسنها، وقيل: ما تعلقت به
القدرة الحادثة، وقال الأشعري: ما وقع بقدرة حادثة وتجنب
المحققون لفظ الوقوع لإيهامه، وإن كان الشيخ لم يرد
بالوقوع الحدوث، بل أراد تعلق القدرة به، قال الأستاذ أبو
منصور: والعبارة الأولى أصح لأن وصف الكسب ينطوي على
الحادث لأجل القدرة الحادثة المتعلقة به فتحديده به أولى،
ونازع بعضهم في العبارة الثانية، وقال: إنما يستقيم على
مذهب المعتزلة، وتأولها أن الباء بمعنى (مع) فيكون المعنى
الواقع مع القدرة الحادثة، وفسر الإمام فخر الدين الرازي
في تفسير سورة غافر الكسب: بكون الأعضاء سليمة صالحة للفعل
والترك، وهذا إنما قالوه في تفسير القدرة لا الكسب، وأنكر
أبو العباس ابن تيمية الكسب وقال: لا حقيقة له، وأكثر
الناس لا يعقل فرقا بين الفعل الذي نفاه عن العبد، والكسب
الذي أثبته، بل حقيقة هذا القول هو قول الجبرية أن العبد
لا قدرة له ولا فعل ولا كسب وقالوا: عجائب الكلام ثلاثة
طفرة النظام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري وأنشدوا مما
يقال:
ولا حقيقة عند معقولة ... تدنوا إلى الأفهام
لكسب عند الأشعري والحال عنـ ... ـد البهشمي وطفرة النظام
انتهى. ولك أن تقول أما أولا فقد قال بأن للعبد كسبا
الإمام أحمد فيما نقله
(4/965)
القاضي أبو يعلى في كتاب (المعتمد الكبير)
ونصره وأطال في الاستدلال عليه لقوله تعالى: {جزاء بما
كانوا يكسبون} وقوله: {فبما كسبت أيديكم} وغير ذلك مما
أضافه إليهم، وأما ثانيا: فما قاله غير لازم لأن تعلق
الكسب ليس تعلق إبراز من العدم إلى الوجود بل نسبة يعلمها
(143/ك) العبد بين قدرته ومقدوره في محله ضرورة، ويفارق
بها حال المجبر، فيحصل التمييز من غير تأثير بخلاف الفعل،
والأشعري يقول ما يقوم العبد من الصفات نوعان: نوع يوجد
الله فيه دون قدرته واختياره كحركة المرتعش، ونوع يوجد
الله فيه مع قدرته وإرادته كحركاته الاختيارية وهذه
التفرقة معلومة بالضرورة فيسمي الثاني كسبا لا يعبر عنه
إلا بلفظ الكسب، وإن كان اسم الفعل يشملهما لغة، كما أن
التفرقة بين اللذة والألم معلومة قطعا ولا يعبر عنهما إلا
بهاتين اللفظتين. على أن الأصحاب اختلفوا في أن الكسب هل
يسمى فعلا للعبد على وجهين حكاهما الأستاذ أبو منصور، قال:
فأطلقه عبد الله بن سعيد وطائفة، وقالوا: إن أحدنا فاعل
على الحقيقة لكن على سبيل الاكتساب، والباري تعالى فاعل
على سبيل الاختراع، وجوزوا وجود فعل من فاعلين باعتبارين،
وأما الأشعري فأبى ذلك وقال: عن أحدنا لا يفعل على الحقيقة
والفعل عنده هو الخلق والاختراع، وعلى هذا فأحدنا مكتسب
حقيقة وفاعل مجازا، وعلى هذا قسم بعضهم الأفعال قسمين:
حقيقي وحكمي أي محكوم على من صدر عنه بالثواب والعقاب،
وإنما قال الأشعري: بالكسب وباين بينه وبين الفعل لاعتقاده
أمرين:
أحدهما: أن العبد غير خالق لأفعاله.
والثانية: أن الله تعالى لا يعاقب إلا على ما فعله العبد
والثواب والعقاب واقعان
(4/966)
على الجوارح فأثبت حالة يتعلق بها التكليف
وسماه الكسب محافظة على هذا الأصل أي الثواب والعقاب،
واستمد ذلك من قوله تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}
وساعده عليها المشاهدة في الخارج وهي التفرقة الضرورية بين
حركة المرتعش والمريد، وهي في الحقيقة جمع بين الموجد، وهو
أنه لا خالق إلا الله والأدب في الشريعة وهو أن العبد
مكتسب مأمور منهي فله قدرة حادثة متعلقة بالمقدور على وجه
الكسب، لا على وجه الاختراع وهو أن الذي يعبر عنه الأكابر:
بالجمع بين الحقيقة والشريعة، وظن كثير من الناس أنه مخترع
لهذه المقالة وليس كذلك، بل قد قالها قبله علي بن موسى
الرضي بن جعفر الصادق رضي الله عنهم، وقد سئل أيكلف الله
العباد ما لا يطيقون؟ قال: هو أعدل من ذلك. قيل:
أفيستطيعون أن يفعلوا ما يريدون؟ قال: هم أعجز من ذلك. وهو
متقدم على الأشعري بما يزيد على مائة وعشرين سنة، وقال بعض
المحققين: القول بالكسب: هو قول جميع الفرق المثبتين
للقدرة لتظافر الآيات الكريمة عليه، مثل: {بما كانوا
يعملون}. {بما
(4/967)
كانوا يكسبون} {بما كسبت أيديهم} {فمن يعمل}
{من أعطى واتقى}، لكن اختص الأشعري بالكسب لغرابة رأيه
فيه، فإنه خالف المعتزلة في قولهم العبد مستقل بإيجاد فعله
الذي هو مقتضى الكسب عندهم، وقال الأشعري: لا يفعل شيئا
ولا أثر لقدرته في فعله البتة، قيل: له فما معنى الكسب
المذكور في القرآن؟ قال: وجود القدرة في المحل وتعلقها
بالفعل من غير تأثير كتعلق العلم بمعلومه، ففسر الكسب بما
يتبادر منه لغة، وهو التأثير في الفعل لما دل الدليل عنده
على خلافه فجاء تفسيره غريبا عن اللغة فاختص اصطلاحه
باسمه.
واعلم أن أهل السنة اتفقوا على ثبوت قدرة للعبد لكنهم
اختلفوا فالأشعري يقول: لا تأثير لقدرة العبد أصلا، غير
اعتقاد العبد تيسير الفعل عند سلامة الآلات وحدوث
الاستطاعة والقدرة، والكل من خلق الله تعالى، وألزموه أن
ذلك يؤول في المعنى إلى الجبر، وقال القاضي أبو بكر: أصل
المعنى بقدرة الله وكونه طاعة أو معصية بقدرة العبد، ومعنى
هذا أن الفعل له اعتبارات عقلية عامة وخاصة كالوجود
والحدوث وكونه حركة أو سكونا، وكون الحركة كتابة أو قولا
أو صلاة أو وزنا، وليس الفعل بذاته شيئا غير الإمكان
والباقي بالفاعل، فما كان منها عاما فنسبته إلى فاعله وهو
الله تعالى ولا يتجدد له به اسم، وما كان منها أخص
كالكتابة مثلا فنسبه
(4/968)
إلى العبد ويتجدد له به اسم كاتب، فهذا الوجه
الأخص هو الواقع بالقدرة الحادثة وهو المسمى بالكسب وهذا
لا يخرج عن قول الأشعري، إذ لم يثبت لقدرة العبد أثرا في
الاتحاد، وإن كان خارجا عنه في بعض الاعتبارات وهما متفقان
على تسمية الفعل من الجهة الخاصة لكن تلك النسبة عند
الأشعري لكونها قائمة، وعند القاضي لكونها صادرة منه
قائمة، ولا ينسب إلى الله تعالى لفظا بالاتفاق وإن كان
فاعلا لهما عند الأشعري، وقال الأستاذ قدرة العبد مؤثرة
فقيل: راجع إلى قول القاضي, وقيل: معناه أنه يقع بالقدرتين
وقال إمام الحرمين في (النظامية) إن الفعل واقع بقدرة
العبد المخلوق وإن خلقه منسوب إلى الله تعالى لا إلى
العبد, ومعناه جعل قدرة العبد كالآلة والوسائط, فالله خالق
لها, وقال الشهرستاني أخذ ذلك من الفلاسفة, وقصد به الفرار
من الجبر, والجبر ألزم عليه, هذا تلخيص أقوال الناس والذي
ينبغي اعتقاده: أن الله خالق أفعال العباد وأنها مكتسبة
لهم, وأن حجة الله قائمة عليهم وأنه لا يسأل عما يفعل, ولا
يطلب الوصول إلى غاية في ذلك, فلسنا مكلفين بها مع صعوبة
مرامها.
فائدة: مما يقصم المعتزلة قوله تعالى: {ثم شققنا الأرض
شقا} ولما رآها الزمخشري قال: أسند الشق إلى نفسه مجازا
إسناد الفعل إلى السبب قال صاحب (الإنصاف) ما رأيت كاليوم
هذا ينازع ربه قوله: {ثم شققنا} حقيقة
(4/969)
فجعله مجازا, ويضيفيها إلى الحراث حقيقة أخرى,
حكى أن سنيا ناظر معتزليا في (144/ك) مسألة القدر فقطع
المعتزلي تفاحة من شجرة فقال: أليس أنا فعلت هذا؟ فقال: إن
كنت فعلت قطعها فردها إلى ما كانت عليه فأفحم المعتزلي
وانقطع, قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: وإنما ألزمه ذلك
لأن القدرة التي يحصل بها الإيجاد لابد أن تكون صالحة
للضدين, فلو كان تفريق الأجزاء من جهته لكان قادرا على
وصلها.
(ص) ومن ثم الصحيح أن القدرة لا تصلح للضدين وأن العجز صفة
وجودية تقابل القدرة= تقابل الضدين لا العدم والملكة.
(ش) فيه مسألتان إحداهما: القدرة على الفعل لا تصلح للضدين
عند الأشعري وأكثر أصحابه؛ لأن الضدين يستحيل اجتماعهما
معا في محل واحد, وقالت المعتزلة: تصلح لهما قال ابن
القشيري وعند معظمهم تتعلق بالمختلفات التي
(4/970)
لا تتضاد, وقال القلانسي من أصحابنا: إنها
تصلح لهما على البدل ونقله الأستاذ أبو منصور عن أبي حنيفة
وابن سريج وتحقيق مذهبهم أن الاستطاعة إذا اقترنت بالايمان
صلحت له ولا تصلح للكفر، إذا اقترنت بالإيمان، ولكنها لو
اقترنت بالكفر بدلا من اقترانها بالإيمان لصلحت له بدلا من
صلاحها بالإيمان, ولهذا منعوا تكليف ما لا يطاق لأن قدرة
الكافر على كفره لو اقترنت بالإيمان بدلا من اقترانها
بالكفر لصلحت للإيمان بدلا من صلاحها للكفر, فهي تصلح
للإيمان على وجه فلم يكلف الكافر ما لا يطقيه إذا كلف
الإيمان, والمعتزلة لا يقولون بهذا, ومن هنا فارقهم من قال
من أصحابنا بصلاحيتها على البدل, وأما الأشعري رحمه الله
وجمهور الأصحاب فيأبون ذلك ويقولون: استطاعة الإيمان توفيق
واستطاعة الكفر خذلان, ولا تصلح إحداهما لما تصلح له
الأخرى لاستحالة اجتماع الضدين, واحتجوا بقوله تعالى:
{فضلوا فلا يستطيعون سبيلا} فدل على أن استطاعة الهدى لا
تصلح للضلال, وقوله صلى الله عليه وسلم: ((على عهدك ووعدك
ما استطعت)) فلا يستغني عن ربه في كل تنفسه وكل طرفة
يطرفها لافتقاره في ذلك إلى استطاعة
(4/971)
يخلقها الله عنده, ومقتضى مذهب القائل
بصلاحيتها لذلك الفعل ولغيره من الأفعال الاستغناء عن تجدد
الإمداد وهو محال, وقال الإمام في (المعالم): عندنا أنه إن
كان المراد من القدرة سلامة الأعضاء فهي صالحة للفعل
والترك, وإن كان المراد أن القدرة ما لم ينضم إليها
الداعية الجازمة المرجحة فإنها لا تصير ضدا لذلك إلا
مجردا, وعند حصول ذلك المجموع لا يصلح للضدين فهذا أحق.
واعلم أن الخلاف في هذه المسألة مبني على الاستطاعة مع
الفعل أو قبله, والصحيح عند الأشعري أنها معه؛ فلهذا منع
صلاحية القدرة للضدين, والدليل على أنها معه لا قبله ولا
بعده, أن الفعل إنما يكون كسبا لهما على طريق التأثير فوجب
كون الاستطاعة موجودة حال كونه كسبا فوجب أن يكون مع
الكسب, إذ هي عرض لا يبقى وقد قال تعالى: {لن تستطيع معي
صبرا} فنفى استطاعة الصبر عنه, فدل على أن وجود الاستطاعة
بوجود الصبر, وذلك يوجب أن تكون القدرة بالفعل.
الثانية: اختلف الأصوليون في العجز فذهب المتكلمون إلى أنه
صفة وجودية قائمة بالعاجز تضاد القدرة, والتقابل بينهما
تقابل الضدين, وذهب الفلاسفة إلى أنها عبارة عن عدم القدرة
مما من شأنه أن يكون قادرا والتقابل بينهما تقابل العدم
والملكة, وتوقف الإمام في (المحصل) = لعدم الظفر بدليل يدل
على شيء من ذلك, واختار في
(4/972)
(المعالم) الثاني محتجا بأنا متى تصورنا هذا
العدم حكمنا بكونه عاجزا وإن لم نعقل فيه أمرا آخر فدل على
أنه لا يعقل من العجز إلا هذا العدم.
ووجه بناء هاتين المسألتين على مسألة خلق الأفعال كما أشار
إليه المصنف بقوله: ومن ثم أي إنه لما كان ليس للعبد تأثير
بقدرته وأن القدر. في الحقيقة هي قدرة الله تعالى لزم منه
امتناع وقوع الفعل من قادرين, وأن العجز ضد القدرة, ولما
انتفى عن العبد تأثير القدرة ثبت له العجز, وبعضهم جعل هذا
المأخذ مبني على أن دخول مقدور تحت قدرتين محال، ومراده
بالاختراع وأما دخول مقدور تحت قدرتين إحداهما قدرة
الاختراع والثانية قدرة الاكتساب, فجائز, وثبت بهذا أيضا
أن المتولدات بخلق الله تعالى كالألم في المضروب والانكسار
في الزجاج ونحوه, وعند المعتزلة بخلق العبد ومن ثم قالوا:
إن المقتول لم يمت بأجله وعندنا القتل فعل بخلق الله تعالى
عقبة للحيوان الموت.
(4/973)
تنبيه: وجه إدخال المصنف هذه المسألة في مسائل
التصوف وهي من مسائل الكلام: شدة تعلقها بالحقيقة الباعثة
على العمل, فإنه إذا علم أن الله خلق العبد وأفعاله, وأرسل
الرسل وأنزل الكتب وأخفى على العباد ما علمه من أحوالهم,
فما كان في عمله وسابق مشيئته سعيدا يسر له بالطاعة وما
كان عكسه منعه منها, ثم الاعتبار بالخاتمة ومبناها على
السابقة فالشريعة خطابه لعباده بالحجة, وقيام المحجة,
والحقيقة تصريفه في خلقه بما شاء وكيف شاء وقد اجتمعا في
قوله تعالى: {لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن
يشاء الله رب العالمين} فهذه حقيقة فالحقيقة باطن الشريعة
ولا يغني باطن عن ظاهر, ولا ظاهر عن باطن, وقال الإمام في
(المطالب): هذه ليست مستقلة بنفسها بل هي بعينها مسألة
إثبات الصانع, وذلك لأن العمدة في إثبات الصانع: هو أن
الإمكان محوج إلى المؤثر والمرجح فوجب الحكم بافتقار كل
الممكنات إلى المؤثر والمرجح.
(ص) ورجح قوم التوكل وآخرون الاكتساب, وثالث الاختلاف
باختلاف الناس وهو المختار, ومن ثم قيل إرادة التجريد/
(145/ك) مع داعية الأسباب شهوة خفية وسلوك الأسباب مع
داعية التجريد انحطاط عن الذروة العلية, وقد يأتي الشيطان
باطراح جانب الله تعالى في صورة الأسباب أو بالكسل
والتماهن في صورة التوكل, والموفق يبحث عن هذين, ويعلم أنه
لا يكون إلا ما يريد ولا ينفعنا علمنا بذلك إلا أن يريد
الله سبحانه وتعالى.
(ش) في تفضيل التوكل على الاكتساب مذاهب.
أحدها: التوكل لأنه ينشأ عن مجاهدات, والأجر على قدر
النصب, ولأنه حاله صلى الله عليه وسلم, وحال أهل الصفة في
الحديث الصحيح في صفة
(4/974)
الداخلين إلى الجنة بغير حساب: {وعلى ربهم
يتوكلون}.
وثانيها: الاكتساب لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما أكل أحد
طعاما قط أطيب مما كسبت يده)) رواه البخاري ولأنه الجاري
من فعل الأكابر من الصحابة وغيرهم من السلف.
وثالثها: وهو المختار أنه يختلف باختلاف حال الشخص, فإن
كان ممن يؤثر طاعة الله على كسبه ولا يسخط عند تعذر الرزق
ولا يستشرف نفسه إلى أحد من الخلق, فالتوكل في حقه أفضل,
والله تعالى يقوم له بالكفاية إذا رآه على الطاعة كما
(4/975)
قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} وفي
الحديث ((لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق
الطير تغدوا خماصا وتروح بطانا)) أي: تغدوا جياعا من
المخمصة وتروح ممتلئة البطون, فمن غلبه الطير فهو المغلوب,
وفيه إشارة خفية إلى طلب ما يسد وقته خاصة, ولا يحمل هم
غده على يومه, فالمقتصر على ذلك هو المراد من الحديث ولله
در القائل:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل
الفقر
وإن كان ممن عساه أن يتسخط أو يضطرب قلبه, ويستشرف الناس
فالكسب أولى, لأن الاستشراف سؤال بالقلب وتركه أهم من ترك
الكسب, والسعي في طلب الرزق لا يقدح في التوكل؛ لأن السبب
من رزقه أيضا فإنه المقوي على الأعمال, وإنما المذموم
التكاسل الذي يسميه كثير من البطالين التوكل, وفي هذا
القول جمع بين أدلة الفريقين, وهو نظير جواز الصدقة بجميع
المال لمن قوي ووثق من نفسه, والمنع لمن لم يصل إلى هذه
الرتبة وحمل اختلاف الأحاديث على هاتين الحالتين, وهذا ما
نقله الحليمي في (المنهاج) وجعل الاستكثار من نوافل الصيام
والصلاة إذا لم يتبرم بها ولم يستثقلها نظير ذلك قال
البيهقي في (شعب الإيمان) وعليه أكثر
(4/976)
أهل المعرفة, وقد سئل ابن سالم بالبصرة: أنحن
متعبدون بالكسب أو بالتوكل؟ فقال: التوكل حال رسول الله
صلى الله عليه وسلم والكسب سنته وإنما استنزلهم الكسب
لضعفهم حين أسقطوا عن درجة التوكل ولم يسقطوا عن درجة طلب
المعاش بالمكاسب التي سنه, ولولا ذلك لهلكوا, وحكى الشيخ
عبد الله بن أبي جمرة إن فقيرا كتب فتوى: ما تقول الفقهاء
في الفقير المتوجه, هل يجب عليه الكسب؟ , فأجاب من نور
الله بصريته إن كان توجهه دائما لا فترة فيه فالكسب عليه
حرام, وإن كانت له في بعض الأوقات فترة فالتكسب عليه واجب,
قال الشيخ فتأمل هذا ما أبدعه! وكيف يعضده حديث ((إن الله
تكفل برزق طالب العلم)) أي: أنه لما استغرق بالطلب أوقاته
ولم يمكنه مع كسب يسر الله له الرزق بلا واسطة السبب, فهذا
وجه خصوصية العلم, وإن كان الله تكفل برزق جميع العباد,
وذكر البيهقي
(4/977)
قبل ذلك ما يخرج منه قول رابع, وعول عليه: وهو
تعاطي الأسباب مع اعتقاد أن المسبب هو الله تعالى, فإنه إن
شاء حرمه ثمرة السبب مع تعاطيه له فيكون ثقته بالله
واعتماده عليه في إيصال تلك المنفعة إليه مع وجود السبب,
ويكون فائدة السبب أنه غير مانع من التعدد، لا كما يزعم
كثير من الناس، وهذه طريقة الأنبياء
والأصفياء وفي (صحيح البخاري): ((كان داود عليه السلام لا
يأكل إلا من عمل يده)) وقال رجل: يا رسول الله, أرسل ناقتي
وأتوكل, قال: ((اعقلها وتوكل)) رواه البيهقي بطرق وهذا لأن
التوكل عمل يختص بالقلب, والتعرض بالأسباب أفعال البدن,
فلا تنافي بينهما, وروى معاوية بن قرة أن عمر بن الخطاب
أتى على قوم فقال: ما أنتم؟ فقالوا: نحن المتوكلون, فقال:
بل أنتم المتكلون, ألا أخبركم بالمتوكلين, رجل ألقى حبة في
بطن الأرض ثم توكل على ربه قال البيهقي: يعني المتكلين عل
أموال الناس, وقال الجنيد: ليس التوكل الكسب ولا ترك
الكسب, التوكل سكون القلب إلى موعود الله تعالى, قال
البيهقي: فعلى هذا ينبغي أن لا يكون تجدد هذا السكون عن
الكسب شرطا في صحة التوكل, بل يثبت بظاهر العلم معتمدا
بقلبه على الله تعالى, كما قال بعضهم: اكتسب ظاهرا وتوكل
باطنا, فهو مع
(4/978)
كسبه لا يكون معتمدا في كفاية أجره على الله
تعالى, وقال أبو عثمان: اليقين لا يمنع الموقن من الطلب
للحظ الكافي من الدنيا, وإنما يدل على ترك الفضول رضى
بالقليل وزهد في الكثير اتباعا لرسول الله صلى الله عليه
وسلم وأصحابه, فإنهم أئمة المتوكلين والزاهدين مع ما وصفا
من الأمن بما لك والإياس مما ليس لك, ومن زعم أن اليقين
يمنع طلب القوت والكفاف فقد جهل اليقين, وخالف سنن السلف
الصالحين, فقد يقدم في ذلك مع صدق التوكل الأنبياء
وأتباعهم وخلافهم (146/ك) خلاف الحق وموافقتهم موافقته,
وذكر القشيري في الإشارات: قيل هل يزداد الرزق بالتوكل؟
قيل: لا, قيل: فهل ينقص عنه؟ قيل: لا, قيل: فما فائدته؟
فقيل: راحة القلب في الحال, وكذلك الدعاء لا يغير القضاء
وفي الحال يتشرف بالمناجاة والتضرع بالافتقار, وقول
المصنف: ومن ثم قيل يشير إلى ما ذكره صاحب (التنوير) قي
إسقاط التدبير قال: طلبك التجريد مع إقامة الله إياك في
الأسباب من الشهوة الخفية, وطلبك الأسباب مع إقامة الله
إياك في التجريد انحطاط عن
الهمة العلية, وافهم _ رحمك الله أن من شأن العدوان أن
يأتيك فيما أنت فيه, فما أقامك الله فيه فيحقره عندك لتطلب
غير ما أقامك الله فيه, فيشوش قلبك ويكدر وقتك, وذلك أنه
يأتي للمتسببين فيقول: لو تركتم الأسباب وتجردتم لأشرقت
لكم الأنوار ولصفت منكم القلوب والأسرار, وكذلك صنع فلان
وفلان وفلان ويكون هذا
(4/979)
العبد ليس مقصودا بالتجريد ولا طاقة له به,
إنما صلاحه في الأسباب فيتركها فيتزلزل إيمانه ويذهب
إيقانه ويتوجه إلى الطلب (من الخلق وإلى) الاهتمام بالرزق,
وكذلك يأتي للمتجردين ويقول: إلى متى تتركون الأسباب؟ ألم
تعلموا أن تركها يطمع القلوب لما في أيدي الناس ولا يمكنك
الإيثار ولا القيام بالحقوق وعوض ما يكون منتظر ما يفتح به
عليك من الخلق, فلو دخلت في الأسباب بقي غيرك منتظرا ما
يفتح عليه منك, ويكون هذا العبد قد طاب وقته وانبسط نوره,
ووجد الراحة بالانقطاع عن الخلق ولا يزال به حتى يعود إلى
الأسباب فيصيبه كدرتها وتغشاه ظلمتها, ويعود القائم في
سببه أحسن حالا منه, وإنما قصد الشيطان بذلك أن يمنع
العباد الرضى عن الله تعالى فيما هم فيه, وأن يخرجهم عما
اختار لهم إلى مختارهم لأنفسهم وما أدخلك الله فيه تولى
إعانتك عليه, وما دخلت فيه بنفسك أوكلك إليه, {وقل رب
أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك
سلطاناً نصيرا}.
هذا كلامه وفيه التنبيه على مكيدة من مكائد الشيطان
وتلبيسه مقام التوكل بالاتكال, فتارة يحث على السبب ويوهم
أنه السنة, وقد دس فيه الركون إليه, واطراح جانب الرب,
وتارة يعكس هذه فيحثه على الترك ويوهمه أنه في مقام التوكل
وإنما هو عجز ومهانة, والسعيد من وفق للفرق بينهما, وحذر
من اغتياله.
وأنا استغفر الله الكريم العظيم من الكلام في هذا المقام,
لولا ضرورة البيان لأحجمت العنان, فقد قال بعض الأكابر: من
تكلم بكلام لم يبلغه حاله كان فتنة عليه, وعلى سامعه ومن
لم يكن علمه من حاله فهو ناقل.
يا واعظ الناس قد أصبحت متهما ... تعيب فيهم أمورا أنت
تأتيها
(4/980)
يا كاسي الناس من عري وعورته ... للناس بادية
ما إن يواريها
وأنا أسأل الله تعالى المنة بكل ما يقربني إليه ويجمعني
عليه مقرونا بالعوافي في الدارين برحمتك يا أرحم الراحمين,
ووافق الفراغ بحمد الله تعالى لتعليقه في اليوم المبارك
يوم الأربعاء الرابع عشر من شهر جمادى الأولى من شهور سنة
تسع وأربعين وثمانمائة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل
الصلاة والتسليم والبركات والتكريم وعلى آله وصحبه أجمعين
وذلك بالمدرسة الصلاحية بالقدس الشريف على يد العبد الفقير
المعترف بالتقصير الراجي عفو ربه الكريم أحمد بن عثمان بن
داود السعدي لطف الله به وعفى عنه وغفر له ولوالديه ولجميع
المسلمين والحمد لله رب العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تم فلك الحمد اللهم.
(4/981)