تيسير التحرير

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

الْبَاب الثَّانِي من الْمقَالة الثَّانِيَة

فِي أَحْكَام الْمَوْضُوع فِي أَدِلَّة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة (أَدِلَّة الْأَحْكَام الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس) بِحكم الاستقراء، وَجه الضَّبْط الدَّلِيل الشَّرْعِيّ: إِمَّا وَحي أَو غَيره، وَالْوَحي إِمَّا متلوّ فَهُوَ الْكتاب، أَو غير متلوّ فَهُوَ السّنة، وَغير الْوَحْي إِمَّا قَول كل الْأمة من عصر فَهُوَ الْإِجْمَاع، وَإِلَّا فَالْقِيَاس، ويندرج فِي السّنة قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفعله وَتَقْرِيره (وَمنع الْحصْر) أَي إِبْطَاله (بقول الصَّحَابِيّ على قَول الْحَنَفِيَّة) فَإِنَّهُم يقدمُونَ قِيَاس الصَّحَابِيّ على قياسهم لما عرف فِي مَحَله، وَهُوَ لَيْسَ من الْأَرْبَعَة. (وَشرع من قبلنَا) من الْأَنْبِيَاء (وَالِاحْتِيَاط والاستصحاب والتعامل مَرْدُود) خير الْمُبْتَدَأ (بردهَا) أَي برد هَذِه الْمَذْكُورَات ثَانِيًا (إِلَى أَحدهَا) أَي الْمَذْكُورَات هُوَ أَولا حَال كَون ذَلِك الْأَحَد الْمَرْدُود إِلَيْهِ (معينا) فَمَا سوى الِاحْتِيَاط والاستصحاب كَقَوْل الصَّحَابِيّ فَإِنَّهُ مَرْدُود إِلَى السّنة، وَشرع من قبلنَا فَإِنَّهُ مَرْدُود إِلَى الْكتاب إِذا قصه الله تَعَالَى من غير إِنْكَار، وَإِلَى السّنة إِذا قصه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَلِك، وَهُوَ أَيْضا فِي الْحَقِيقَة رَاجع إِلَى الْكتاب لقَوْله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} - فَتَأمل. والتعامل فَإِنَّهُ مَرْدُود إِلَى الْإِجْمَاع (ومختلفا فِي الِاحْتِيَاط والاستصحاب) فَإِن مرجع كل مِنْهُمَا غير مُتَعَيّن، بل تَارَة من الْكتاب، وَتارَة من السّنة، وَتارَة من غَيرهمَا، هَذَا هُوَ الظَّاهِر فِي تَفْسِير التعين وَالِاخْتِلَاف، وَالْمَفْهُوم من كَلَام الشَّارِح غير أَنه لَا يظْهر تأثيرهما بالاختلاف مَعَ أَن شرع من قبلنَا أَيْضا كَذَلِك فَتَأمل وَسَيَأْتِي تفصيلها فِي خَاتِمَة هَذِه الْمقَالة (وَمعنى الْإِضَافَة) فِي أَدِلَّة الْأَحْكَام (أَن الْأَحْكَام النّسَب الْخَاصَّة النفسية) إِذْ هِيَ تعلقات الْكَلَام النَّفْسِيّ الْقَدِيم الْقَائِم بِالذَّاتِ المقدسة بِأَفْعَال الْمُكَلّفين: اقْتِضَاء، أَو تخييرا، أَو وضعا (وَالْأَرْبَعَة) أَي الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس (أدلتها) أَي النّسَب الْمَذْكُورَة (وَبِذَلِك) أَي بِسَبَب كَونهَا أَدِلَّة (سميت) الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة (أصولا) لِأَن الأَصْل مَا يبْنى عَلَيْهِ غَيره، والمدلول مَبْنِيّ على الدَّال (وَجعل بَعضهم)

(3/2)


أَي الْحَنَفِيَّة (الْقيَاس أصلا من وَجه) لَا يثبت الحكم عَلَيْهِ ظَاهرا (فرعا من وَجه) آخر (لثُبُوت حجيته بِالْكتاب وَالسّنة) . قَالَ الشَّارِح وَإِجْمَاع الصَّحَابَة، وَلَعَلَّه لم يذكرهُ لعدم الْجَزْم بإجماعهم، وَإِنَّمَا قُلْنَا لابتنائه عَلَيْهِ ظاهرأ لِأَن الْقيَاس مظهر لَا مُثبت. ثمَّ إِن قَوْله وَجعل مُبْتَدأ خَبره (يُوجب مثله) أَي الْكَوْن أصلا من وَجه فرعا من آخر (فِي السّنة) لثُبُوت حجيتها بِالْكتاب كَقَوْلِه - {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} -: إِلَى غير ذَلِك (وَالْإِجْمَاع) لثُبُوت حجيته بِالْكتاب وَالسّنة، فَلَا مُوجب للاقتصار على الْقيَاس. وَقيل إفرد بِالذكر لِأَنَّهُ أصل فِي الْفِقْه فَقَط، وَهِي أصل لَهُ ولعلم الْكَلَام (وَالْأَقْرَب) أَي إِفْرَاده بِالذكر (لاحتياجه فِي كل حَادِثَة إِلَى أَحدهَا) إِذْ لَا بُد لَهُ من عِلّة مستنبطة من أَحدهَا، وَعدم احتياجها إِلَيْهِ على هَذَا الْوَجْه (وَلَا يرد الْإِجْمَاع) نقضا على التَّعْلِيل الْمَذْكُور بِنَاء (على عدم لُزُوم الْمُسْتَند) لَهُ: يَعْنِي لَا يُقَال أَن الْإِجْمَاع أَيْضا مُحْتَاج إِلَى أَحدهَا إِذا قُلْنَا أَنه لَا يلْزم أَن يكون لَهُ مُسْتَند كَمَا ذهب إِلَيْهِ قوم وَقَالُوا: يجوز أَن يخلق فيهم علما ضَرُورِيًّا، ويوفقهم جَمِيعًا لاختيار الصَّوَاب، وَهَذَا ظَاهر (وَلَا) يرد أَيْضا (على لُزُومه) أَي على القَوْل بِلُزُوم الْمُسْتَند فِي الْإِجْمَاع كَمَا هُوَ قَول الْجُمْهُور (لِأَن الْمُحْتَاج إِلَيْهِ) أَي الْمُسْتَند (قَول كل) أَي كل وَاحِد وَاحِد (وَلَيْسَ) قَول كل وَاحِد (إِجْمَاعًا، بل هُوَ) أَي الْإِجْمَاع (كلهَا) أَي مَجْمُوع الْأَقْوَال (المتوقف على) قَول (كل وَاحِد، وَلَا يحْتَاج) الْمَجْمُوع إِلَى مُسْتَند (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك بِأَن يحْتَاج الْمَجْمُوع إِلَى مُسْتَند (كَانَ الثَّابِت لَهُ) أَي بِالْإِجْمَاع (بمرتبة الْمُسْتَند) أَي فِي رتبته، وَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن الثَّابِت بِهِ قَطْعِيَّة الحكم، وَالثَّابِت بالمستند ظنيته، وَأَيْنَ الْقطع من الظَّن؟ . وَقد يُقَال: سلمنَا أَنه لَا يحْتَاج إِلَيْهِ بِنَفسِهِ، لكنه يحْتَاج بِوَاسِطَة مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ، وَبِه ثَبت الفرعية من وَجه وَيصير كالقياس. وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن حجية الْإِجْمَاع، وإفادته الْقطع يسْتَند إِلَى عصمَة الْكل عَن الْخَطَأ استنادا يضمحل بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ اعْتِبَار مدخلية السَّنَد الْمَذْكُور فِي أصل انْعِقَاده بِحَسب مَا يَجْعَل مُحْتَاجا إِلَيْهِ فِي حجيته، وَهَذَا أولى مِمَّا قيل: أَن الْإِجْمَاع إِنَّمَا يحْتَاج إِلَى الْمُسْتَند فِي تحَققه لَا فِي نفس الدّلَالَة على الحكم، فَإِن الْمُسْتَدلّ بِهِ لَا يلْتَفت إِلَيْهِ بِخِلَاف الْقيَاس فَإِن الِاسْتِدْلَال بِهِ لَا يُمكن بِدُونِ مُلَاحظَة الثَّلَاثَة فَتدبر.
(الْكتاب) هُوَ (الْقُرْآن) تعريفا (لفظيا) فَإِنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ عرفا، غير أَن الْقُرْآن أشهر (وَهُوَ) أَي الْقُرْآن (اللَّفْظ الْعَرَبِيّ الْمنزل للتدبر والتذكر الْمُتَوَاتر) فاللفظ جنس يعم الْكتب السماوية وَغَيرهَا، والعربي يخرج غير الْعَرَبِيّ من الْكتب السماوية وَغَيرهَا، والمنزل بِلِسَان جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخرج مَا لَيْسَ بمنزل من الْعَرَبِيّ. وَقَوله للتدبر والتذكر لزِيَادَة التَّوْضِيح، والتدبر: التفهم

(3/3)


للاطلاع على مَا يتبع ظَاهره من التأويلات الصَّحِيحَة، والمعاني المستنبطة من الْأَحْكَام الْأَصْلِيَّة والفرعية، وَالْحكم الإلهية إِلَى غير ذَلِك، والتذكر الاتعاظ بقصصه، وَأَمْثَاله، ودلائله الدَّالَّة على وجود الصَّانِع الْخَبِير، ووحدانيته، وَكَمَال قدرته، وَلُزُوم التَّجَافِي عَن دَار الْغرُور، والتهيئ لدار السرُور، وَنَحْو ذَلِك وَقيل: التدبر لما لَا يعلم إِلَّا من الشَّرْع، والتذكر لما لَا يسْتَقلّ بِهِ الْعقل، وَبِقَوْلِهِ الْمُتَوَاتر خرج مَا لَيْسَ بمتواتر كَقِرَاءَة ابْن مَسْعُود - فَاقْطَعُوا أيمانهما وأمثالهما - وَبَعض الْأَحَادِيث الإلهية الَّتِي أسندها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الله تَعَالَى على لِسَان جِبْرِيل، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَخرجت الْأَحَادِيث القدسية) أَي الإلهية (والإعجاز) وَهُوَ ارتقاؤه إِلَى حد خَارج عَن طوق الْبشر حَيْثُ أعجزهم عَن معارضته (تَابع لَازم لأبعاض خَاصَّة مِنْهُ لَا) يتَقَيَّد (بِقَيْد سُورَة) كَمَا قَالَ بعض الْأُصُولِيِّينَ، وَالْإِضَافَة بَيَانِيَّة (وَلَا) هُوَ لَازم (كل بعض نَحْو {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} الْآيَة، فَإِنَّهَا جمل لَا إعجاز فِيهَا (وَهُوَ) أَي لفظ الْقُرْآن (مَعَ جزئية اللَّام) فِيهِ: أَي مَأْخُوذ مَعَ اللَّام الْمشَار بهَا إِلَى الْمَفْهُوم الْخَارِجِي، فِي الأَصْل صَار مَوْضُوعا (للمجموع) من الْفَاتِحَة إِلَى آخر سُورَة النَّاس فِي عرف الشَّرْع فَلَا يصدق على مَا دونه من آيَة وَلَا سُورَة (وَلَا مَعهَا) أَي اللَّفْظ الْمَذْكُور بِدُونِ اقترانه بهَا: تَعْرِيفه (لفظ إِلَى آخِره) أَي عَرَبِيّ منزل للتدبر والتذكر متواتر (فَيصدق على الْآيَة) وعَلى كل بعض يصدق عَلَيْهِ مَا ذكر فِي التَّعْرِيف (وَهَذَا) التَّعْرِيف (للحجة الْقَائِمَة) أَي مُنَاسِب لِلْقُرْآنِ من حَيْثُ أَنه حجَّة من الله قَائِمَة على الْعباد، إِذْ ثَبت بإعجازه نبوة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبَين الْأَحْكَام أصولا وفروعا، وبتواتره سد طَرِيق إنكارهم بُلُوغهَا إِلَيْهِم (و) تَعْرِيفه (بِلَا هَذَا الِاعْتِبَار) أَي كَونه حجَّة (كَلَامه تَعَالَى الْعَرَبِيّ الْكَائِن للإنزال) أَي الثَّابِت فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ أثْبته الله تَعَالَى هُنَاكَ لمصْلحَة الْإِنْزَال بِلِسَان جِبْرِيل على نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا ينْقض بِالْحَدِيثِ الْقُدسِي وَالْقِرَاءَة الشاذة لكَونهَا فِي اللَّوْح لقَوْله تَعَالَى - {وَلَا رطب وَلَا يَابِس إِلَّا فِي كتاب مُبين} - لأننا لَا نسلم أَنَّهَا أَثْبَتَت هُنَاكَ للإنزال فليتدبر (وللعربي) أَي ولاعتبار قيد الْعَرَبِيّ فِي ماهيته (رَجَعَ أَبُو حنيفَة) بَعْدَمَا تحقق عِنْده اعْتِبَار فِيهِ (عَن الصِّحَّة) أَي صِحَة الصَّلَاة (للقادر) على الْعَرَبِيّ إِذا عبر عَن الْمَضْمُون القرآني (بِالْفَارِسِيَّةِ) أَي بِالْفَارِسِيَّةِ مثلا، فَيدْخل مَا عدا الْعَرَبِيّ، وَذَلِكَ (لِأَن الْمَأْمُور) بِهِ فِي قَوْله - {فاقرءوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} - (وَقِرَاءَة مُسَمّى الْقُرْآن) وَقد عرفت أَن قيد الْعَرَبِيّ مُعْتَبر فِي مَفْهُوم مُسَمَّاهُ، وَلم يسم بِهَذَا الِاسْم إِلَّا الْمَوْجُود فِي الْخَارِج الْعَرَبِيّ على مَا رَوَاهُ عَنهُ نوح بن مَرْيَم وَعلي بن الْجَعْد، وَعَلِيهِ الْفَتْوَى حَتَّى قَالَ الإِمَام أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْفضل: لَو تعمد ذَلِك فَهُوَ مَجْنُون فيداوى، أَو زنديق

(3/4)


فَيقْتل (وَقَوْلهمْ) أَي بعض الْحَنَفِيَّة فِي التَّعْلِيل الْمَذْكُور لرجوعه توجيها لما ذهب إِلَيْهِ أَولا: أَن النّظم الْعَرَبِيّ (ركن زَائِد) لِلْقُرْآنِ بِمَعْنى كَونه يحْتَمل السُّقُوط، فَلَا يتَوَقَّف على جَوَاز الصَّلَاة لِأَنَّهُ مَقْصُود للإعجاز، وَالْمَقْصُود من الْقُرْآن فِي الصَّلَاة الْمُنَاجَاة لَا الإعجاز، فَلَا يكون النّظم لَازِما فِيهَا (لَا يُفِيد) دفع الِاعْتِرَاض عَنهُ، وَهُوَ كَونه مُخَالفا للنَّص الْمَذْكُور (بعد دُخُوله) أَي الرُّكْن الْمَذْكُور فِي مُسَمَّاهُ، فَإِن النَّص يطْلب الْعَرَبِيّ وَلَا يُجِيز غَيره، وَالتَّعْلِيل يُجِيزهُ، ولخصوصية الإعجازية مزية مَقْصُودَة للشارع فَلَا وَجه لإلغائه بِمثل هَذَا التَّعْلِيل، كَيفَ وَلَا يجوز معارضته النَّص بِالْمَعْنَى (وَدفعه) أَي هَذَا التعقيب (ب) أَن (إرادتهم الزِّيَادَة على مَا يتَعَلَّق بِهِ الْجَوَاز) للصَّلَاة من الْقُرْآن (مَعَ دُخُوله) أَي النّظم الْعَرَبِيّ (فِي الْمَاهِيّة) القرآنية، إِذْ لَا مُنَافَاة بَين كَونه ركنا لماهيته، وزائدا على مَا يتَعَلَّق بِهِ جَوَاز الصَّلَاة مِنْهُ (دفع) خبر الْمُبْتَدَأ: أَعنِي دَفعه يَعْنِي (بِعَين) مَادَّة (الْإِشْكَال لِأَن دُخُوله) أَي النّظم الْعَرَبِيّ فِي مَاهِيَّة الْقُرْآن هُوَ (الْمُوجب لتَعلق الْجَوَاز بِهِ) أَي بالنظم الْمَذْكُور، لِأَن الْمَأْمُور بِهِ قِرَاءَة الْقُرْآن، وَلَا يتَحَقَّق مُسَمَّاهُ إِلَّا بِهِ فَلَا جَوَاز بِدُونِهِ (على أَن معنى الرُّكْن الزَّائِد عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة (مَا قد يسْقط شرعا) كَمَا فِي الْإِقْرَار بِالنِّسْبَةِ إِلَّا الْأَيْمَان، فَإِنَّهُ يسْقط بعد الْإِكْرَاه الملجئ فِي حق من لم يجد وقتا يتَمَكَّن فِيهِ من الادعاء (فادعاؤه) أَي السُّقُوط شرعا (فِي النّظم) الْعَرَبِيّ (عين النزاع، وَالْوَجْه فِي الْعَاجِز) عَن النّظم الْعَرَبِيّ (أَنه) أَي الْعَاجِز عَنهُ (كالأمي) لِأَن قدرته على غير الْعَرَبِيّ كلا قدرَة، فَكَانَ أُمِّيا كَمَا هُوَ أحد الْقَوْلَيْنِ فِيهِ فِي الْمُجْتَبى.
وَاخْتلف فِيمَن لم يحسن الْقِرَاءَة بِالْعَرَبِيَّةِ وَيحسن بغَيْرهَا الأولى أَن يُصَلِّي بِلَا قِرَاءَة أَو بغَيْرهَا أهـ، وعَلى أَنه يُصَلِّي بِلَا قِرَاءَة الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة، بل يسبح ويهلل (فَلَو أدّى) الْعَاجِز (بِهِ) أَي بالفارسي (قصَّة) من الْقَصَص الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن، أَو أمرا، أَو نهيا (فَسدتْ) الصَّلَاة لِأَنَّهُ تكلم بِكَلَام غير قُرْآن (لَا) تفْسد أَن أدّى الْعَاجِز بالفارسي (ذكرا) أَو تَنْزِيها: وَكَذَا غير الْعَاجِز إِلَّا إِذا اقْتصر على ذَلِك لإخلاء الصَّلَاة عَن الْقِرَاءَة حِينَئِذٍ قَالَ الشَّارِح: وَهَذَا اخْتِيَار المُصَنّف، وَإِلَّا فَلفظ الْجَامِع الصَّغِير مُحَمَّد عَن يَعْقُوب عَن أبي حنيفَة فِي الرجل يفْتَتح للصَّلَاة بِالْفَارِسِيَّةِ، أَو يقْرَأ بِالْفَارِسِيَّةِ، أَو يذبح ويسمي بِالْفَارِسِيَّةِ وَهُوَ يحسن الْعَرَبيَّة قَالَ يُجزئهُ فِي ذَلِك كُله. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: لَا يُجزئهُ فِي ذَلِك كُله إِلَّا فِي الذَّبِيحَة، وَإِن كَانَ لَا يحسن الْعَرَبيَّة أَجزَأَهُ. قَالَ الصَّدْر الشَّهِيد فِي شَرحه: وَهَذَا تنصيص على أَن من يقْرَأ الْقُرْآن بِالْفَارِسِيَّةِ لَا تفْسد الصَّلَاة بِالْإِجْمَاع، وَمَشى عَلَيْهِ صَاحب الْهِدَايَة. وَأطلق نجم الدّين النَّسَفِيّ وقاضيخان نقلا عَن شمس الْأَئِمَّة الْحلْوانِي الْفساد بهَا عِنْدهمَا (وَعنهُ) أَي عَن التَّعْرِيف

(3/5)


الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن حَيْثُ أَخذ فِيهِ التَّوَاتُر (يبطل إِطْلَاق عدم الْفساد) للصَّلَاة (بِالْقِرَاءَةِ الشاذة) فِيهَا، إِذْ هِيَ غير متواترة، فَلَا يصدق عَلَيْهِ أَنه قُرْآن، فَيلْزم الإخلاء عَن الْقِرَاءَة فتفسد.
وَاخْتلف فِي المُرَاد بالشاذة، فَقيل: لغير أَئِمَّة الْقِرَاءَة فِيهَا قَولَانِ: أَحدهمَا أَنَّهَا مَا عدا الْقرَاءَات لأبي عَمْرو وَنَافِع وَعَاصِم وَحَمْزَة وَابْن كثير وَالْكسَائِيّ وَابْن عَامر. وَثَانِيهمَا مَا وَرَاء الْقرَاءَات الْعشْر للمذكورين وَيَعْقُوب وَأبي جَعْفَر وَخلف. وَقَالَ ابْن حبَان: لَا نعلم أحدا من من الْمُسلمين حظر الْقرَاءَات بِالثلَاثِ الزَّائِدَة على السَّبع. وَقَالَ غَيره: قد اتّفق المتفقون سلفا وخلفا على أَن الْقرَاءَات الثَّلَاث المنسوبة إِلَى الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة متواترة قرئَ بهَا فِي جَمِيع الْأَمْصَار والأعصار من غير نَكِير فِي وَقت من الْأَوْقَات. قَالَ السُّبْكِيّ: الْمُعْتَمد عِنْد أَئِمَّة الْقِرَاءَة أَن المُرَاد بِالْقِرَاءَةِ الَّتِي لَيست بشاذة كل قِرَاءَة يساعدها خطّ مصحف الإِمَام مَعَ صِحَة النَّقْل ومجيئها على الفصيح من لُغَة الْعَرَب. قَالَ أَبُو شامة: مَتى اخْتَلَّ أحد هَذِه الْأَركان الثَّلَاثَة أطلق على تِلْكَ الْقِرَاءَة شَاذَّة. فِي الدارية لَو قَرَأَ بِقِرَاءَة لَيست فِي مصحف الْعَامَّة كَقِرَاءَة ابْن مَسْعُود وَأبي تفْسد صلَاته عِنْد أبي يُوسُف وَالأَصَح أَنَّهَا لَا تفْسد، وَلكنه لَا يعْتد بِهِ من الْقِرَاءَة. وَفِي الْمُحِيط تَأْوِيل مَا روى عَن عُلَمَائِنَا أَنه تفْسد صلَاته إِذا قَرَأَ هَذَا وَلم يقْرَأ شَيْئا آخر، لِأَن الْقِرَاءَة الشاذة لَا تفْسد الصَّلَاة فَإِن قيل: كَيفَ لَا تجوز الصَّلَاة بِقِرَاءَة ابْن مَسْعُود وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رغبنا فِي قِرَاءَة الْقُرْآن بقرَاءَته قُلْنَا إِنَّمَا لَا يجوز بِمَا كَانَ فِي مصحفه الأول، لِأَن ذَلِك قد انتسخ، وَابْن مَسْعُود أَخذ بِقِرَاءَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي آخر عمره، وَأهل الْكُوفَة أخذُوا بقرَاءَته الثَّانِيَة، وَهِي قِرَاءَة عَاصِم فَإِنَّمَا رغبنا فِي تِلْكَ الْقِرَاءَة، كَذَا ذكره الطَّحَاوِيّ وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: تجوز الْقِرَاءَة بالشاذة إِن لم يكن فِيهَا تَغْيِير معنى وَلَا زِيَادَة حرف وَلَا نقصانه (وَلزِمَ فِيمَا لم يتواتر) من الْقرَاءَات (نفي القرآنية) عَنهُ (قطعا غير أَن إِنْكَار الْقطعِي إِنَّمَا يكفر) بِهِ الْمُنكر (إِذا كَانَ) ذَلِك الْقطعِي (ضَرُورِيًّا) من ضروريات الدّين على مَا هُوَ التَّحْقِيق (وَمن لم يشرطه أَي كَون الْقطعِي الَّذِي يكفر منكره ضَرُورِيًّا كالحنفية يكفر منكره (إِذا لم يثبت فِيهِ) أَي فِي ذَلِك الْقطعِي (شُبْهَة قَوِيَّة) لقُوَّة مَا يُورثهَا، وَاحْتَاجَ دَفعهَا إِلَى مُقَدمَات كَثِيرَة كَمَا يظْهر فِي الْمِثَال كإنكار ركن من أَرْكَان الْإِسْلَام مثلا مِمَّا لَيْسَ فِيهِ شُبْهَة (فَلِذَا) أَي لاشْتِرَاط انْتِفَاء الشُّبْهَة الْمَذْكُورَة فِي التَّكْفِير (لم يتكافروا) أَي لم يكفر كل من الْمُخَالفين (فِي التَّسْمِيَة) الآخر لوُجُود الشُّبْهَة القوية فِي كل طرف لقُوَّة دَلِيله، لِأَن الْمُنكر حِينَئِذٍ غير مكابر للحق، وَلَا قَاصد إِنْكَار مَا ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَإِن قلت كل من النَّفْي وَالْإِثْبَات يحْتَاج إِلَى دَلِيل قَطْعِيّ، إِذْ لَا يجوز نفي قرآنيتها وَلَا إِثْبَاتهَا إِلَّا بِهِ

(3/6)


وَهل يتَصَوَّر وجود دَلِيل كَذَا فِي الْجَانِبَيْنِ قلت كَون كل مِنْهُمَا قَطْعِيا بِحَسب ظن صَاحبه لَا بِحَسب نفس الْأَمر، إِذْ قُوَّة الشُّبْهَة تخرجه عَن الْقطع بِحَسبِهِ، فَيرجع كل مِنْهُمَا إِلَى ظن قوي، فَمنع قُوَّة الشُّبْهَة التَّكْفِير فِي الْجَانِبَيْنِ مَعَ أَنهم أَجمعُوا على تَكْفِير من يُنكر شَيْئا من الْقُرْآن، وعَلى تَكْفِير من يلْحق بِالْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. ثمَّ لما جعل الِاشْتِرَاط الْمَذْكُور سَببا لعدم تَكْفِير كل من الْفَرِيقَيْنِ الآخر اتجه أَن يُقَال لَا يصلح سَببا لَهُ: إِذْ لَا يَخْلُو هَذَا الِاخْتِلَاف من أحد الْأَمريْنِ: إِمَّا إِنْكَار جُزْء من الْقُرْآن، وَإِمَّا إِلْحَاق مَا لَيْسَ مِنْهُ بِهِ أجَاب عَنهُ بقوله: (لعدم تَوَاتر كَونهَا فِي الْأَوَائِل) أَي فِي أَوَائِل السُّور (قُرْآنًا) يَعْنِي أَن تَكْفِير الْمُنكر عِنْد كَون القرآنية متواترا وَلم يُوجد فِي التَّسْمِيَة، وَكَذَا تَكْفِير من يلْحق بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ عِنْد الْقطع بِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْهُ، وَيحْتَمل أَن يكون تَقْدِير الْكَلَام: وَذهب إِلَى نفي قرآنيتها فِي غير النَّمْل من ذهب كمالك لعدم إِلَى آخِره، يُؤَيّدهُ مَا سَيَأْتِي من قَوْله: وَالْآخر.
وَلما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ أَنه كَيفَ يُنكر قرآنيتها فِي أَوَائِل السُّور مَعَ شدَّة اهتمام السّلف بتجريد الْمَصَاحِف أجَاب عَنهُ بقوله (وكتابتها) فِي أَوَائِل السُّور (لشهرة الاستنان بالافتتاح) أَي بِالتَّسْمِيَةِ لكل سُورَة سوى بَرَاءَة، فالاستنان سَبَب الْكِتَابَة، والشهرة دافعة لتوهم كَونه قُرْآنًا (بهَا فِي الشَّرْع) بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" كل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَهُوَ أقطع ": رَوَاهُ ابْن حبَان وَحسنه ابْن الصّلاح (وَالْآخر) أَي الْمُثبت لقرآنيتها فِي الْأَوَائِل يَقُوله: (إِجْمَاعهم) أَي الصَّحَابَة (على كتَابَتهَا) أَي التَّسْمِيَة بِخَط الْمُصحف فِي الْأَوَائِل (مَعَ أَمرهم بتجريد الْمَصَاحِف) عَمَّا سواهُ حَتَّى لم يثبتوا آمين فقد قَالَ ابْن مَسْعُود: جردوا الْقُرْآن وَلَا تخلطوه بِشَيْء: يَعْنِي فِي كِتَابَته. قَالَ الشَّارِح: قَالَ شَيخنَا الْحَافِظ حَدِيث حسن مَوْقُوف أخرجه ابْن أبي دَاوُد يُوجِبهُ: أَي كَونهَا من الْقُرْآن (والاستنان) لَهَا فِي أَوَائِل السُّور (لَا يسوغه) أَي الْإِجْمَاع على كتَابَتهَا بِخَط الْمَصَاحِف فِيهَا (لتحققه) أَي الاستنان (فِي الِاسْتِعَاذَة وَلم تكْتب) فِي الْمُصحف (والأحق أَنَّهَا) أَي التَّسْمِيَة فِي محالها (مِنْهُ) أَي الْقُرْآن (لتواترها فِيهِ) أَي فِي الْمُصحف (وَهُوَ) أَي تواترها فِيهِ (دَلِيل) تَوَاتر (كَونهَا قُرْآنًا) . ثمَّ لما أَقَامَ دَلِيلا على تواترا أَنَّهَا قُرْآن، وَهُوَ تواترها فِي الْمُصحف أَفَادَ أَنه لَا يلْزم إِثْبَات قرآنيتها تَوَاتر الْأَخْبَار بِكَوْنِهَا قُرْآنًا، فَقَالَ (على أَنا نمْنَع لُزُوم تَوَاتر كَونهَا قُرْآنًا فِي القرآنية) أَي فِي إِثْبَات قرآنيته فِي الْأَوَائِل (بل التَّوَاتُر فِي مَحَله فَقَط) كَاف فِي إِثْبَات قرآنيته، يَعْنِي لَا يلْزم أَن ينْقل إِلَيْنَا خبر متواتر أَنَّهَا فِي تِلْكَ الْمَوَاضِع قُرْآن، بل يَكْفِي فِي ثُبُوت قرآنيتها نقل الْقُرْآن الثَّابِت فِي التَّسْمِيَة فِي أَوَائِل سُورَة على سَبِيل التَّوَاتُر (وَإِن لم يتواتر كَونه) أَي مَا هُوَ قُرْآن

(3/7)


(فِيهِ) أَي فِي مَحَله (مِنْهُ) أَي من الْقُرْآن إِذْ يَكْفِي ثُبُوته فِيهِ، وَهَذَا مَوْجُود فِي التَّسْمِيَة (وَعنهُ) أَي عَن كَون الشَّرْط مُجَرّد التَّوَاتُر فِي مَحَله (لزم قرآنية المكررات) كَقَوْلِه تَعَالَى - {فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ} - (وتعددها قُرْآنًا) مَعْطُوف على قرآنيتها: أَي وَلُزُوم تعددها من حَيْثُ أَنَّهَا قُرْآن، فَكل وَاحِد من ذَلِك المتعدد قُرْآن على حِدة (وَعَدَمه) أَي عدم التَّعَدُّد (فِيمَا تَوَاتر فِي مَحل وَاحِد فَامْتنعَ جعله) أَي مَا تَوَاتر فِي مَحل وَاحِد (مِنْهُ) أَي الْقُرْآن (فِي غَيره) أَي غير ذَلِك الْمحل (ثمَّ الْحَنَفِيَّة) الْمُتَأَخّرُونَ على أَن التَّسْمِيَة (آيَة وَاحِدَة منزلَة يفْتَتح بهَا السُّور) عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يعرف فصل السُّور حَتَّى ينزل عَلَيْهِ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم إِلَّا أَنه قَالَ: لَا يعرف انْقِضَاء السُّورَة، وَقَالَ صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ مَعَ مَا فِي صَحِيح مُسلم وَغَيره عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الله عز وَجل " قسمت الصَّلَاة بيني وَبَين عَبدِي ": الحَدِيث. وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي مبدأ الْوَحْي أَن جِبْرِيل أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ - {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق خلق الْإِنْسَان من علق اقْرَأ وَرَبك الأكرم} -. فَقَالَ شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ أَنَّهَا نزلت للفصل لَا فِي أول السُّورَة وَلَا فِي آخرهَا، فَيكون الْقُرْآن مائَة وَأَرْبع عشرَة سُورَة، وَآيَة وَاحِدَة لَا مَحل لَهَا بخصوصها (وَالشَّافِعِيَّة) على أَنَّهَا (آيَات فِي السُّور) أَي آيَة كَامِلَة من أول كل سُورَة على الْأَصَح عِنْدهم فِيمَا عدا الْفَاتِحَة وَبَرَاءَة، فَإِنَّهَا آيَة كَامِلَة من أول الْفَاتِحَة بِلَا خلاف وَلَيْسَت بِآيَة من بَرَاءَة بِلَا خلاف (وَترك نصف الْقُرَّاء) أَي ابْن عَامر وَنَافِع وَأَبُو عمر وَلها فِي أَوَائِل السُّور مُطلقًا وَحَمْزَة فِي غير الْفَاتِحَة، وَترك مُبْتَدأ خَبره (تَوَاتر) لأجل (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَركهَا) أَي ترك قرَاءَتهَا فِي أَوَائِل السُّور عِنْد قصد قرَاءَتهَا (وَلَا معنى) أَي وَلَا وَجه (عِنْد قصد قِرَاءَة سُورَة أَن يتْرك أَولهَا) أَي لِأَن تَركه (لَو لم يحث) على قِرَاءَة السُّورَة من أَولهَا، على أَن الْمَعْرُوف من الْحَث (على أَن يقْرَأ) الْقَارئ (السُّورَة على نَحْوهَا) أَي طبق ثُبُوتهَا فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، فَإِن هَذَا التَّرْتِيب الْمَوْجُود فِي الْمَصَاحِف على طبق ذَلِك (وتواتر قرَاءَتهَا) أَي التَّسْمِيَة فِي أَوَائِل السُّور (عَنهُ) أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بِقِرَاءَة الآخرين) من الْقُرَّاء فِي أَوَائِل السُّور (لَا يستلزمها) أَي لَا يسْتَلْزم كَون التَّسْمِيَة (مِنْهَا) أَي السُّورَة (لتجويزه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (للافتتاح) بهَا فَإِن قلت هَب أَن قِرَاءَة الآخرين لَا يسْتَلْزم جزئيتها من السُّور كَيفَ التَّوْفِيق بَين التواترين، تَوَاتر تَركه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قرَاءَتهَا فِي الْأَوَائِل، وتواتر قرَاءَتهَا فِيهَا، قلت يجوز ذَلِك بِاعْتِبَار الْأَوْقَات تَعْلِيما للْجُوَاز وَعدم الْجُزْئِيَّة. وَعَن شمس الْأَئِمَّة الْحلْوانِي وَغَيره أَن أَكثر مَشَايِخنَا على أَنَّهَا آيَة من الْفَاتِحَة، وَبهَا تصير سبع آيَات. وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ

(3/8)


لَيْسَ عَن أَصْحَابنَا رِوَايَة منصوصة على أَنَّهَا من الْفَاتِحَة، أَو لَيست آيَة مِنْهَا إِلَّا أَن شَيخنَا أَبَا الْحسن الكرحي حكى مَذْهَبهم فِي ترك الْجَهْر بهَا فَدلَّ على أَنَّهَا لَيست آيَة مِنْهَا عِنْدهم، وَإِلَّا لجهر بهَا كَمَا يجْهر بِسَائِر آي السُّور، وَقطع بِهِ البُخَارِيّ فِي شرح مَعَاني الْآثَار (وَمَا عَن ابْن مَسْعُود من إِنْكَار) كَون (المعوذتين) من الْقُرْآن (لم يَصح) عَنهُ كَمَا ذكره الطرطوسي وَغَيره (وَإِن ثَبت خلو مصحفه) مِنْهُمَا (لم يلْزم) كَون خلوه (لإنكاره) أَي ابْن مَسْعُود قرآنيتهما (لجوازه) أَي كَون خلوه (لغاية ظهورهما) . وَفِيه أَن ظُهُور الْإِخْلَاص مثلا أَكثر مِنْهُمَا فَتَأمل (أَو لِأَن السّنة عِنْده) أَي ابْن مَسْعُود (أَن لَا يكْتب مِنْهُ) أَي الْقُرْآن (إِلَّا مَا أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بكتبه وَلم يسمعهُ) أَي أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك أَقُول وَلَو قيل أَنه كَانَ يعلم أَنَّهَا كَلَام الله تَعَالَى بِلَا شُبْهَة، لَكِن اشتبهت جزئيته من الْقُرْآن، وَإِنَّمَا ارْتَفَعت هَذِه الشُّبْهَة بعد كِتَابَته ذَلِك الْمُصحف بِالْإِجْمَاع. ثمَّ تَوَاتر بعد ذَلِك إِمَّا بعد زَمَانه، أَو فِي زَمَانه، وَلم يتَّفق لَهُ إدخالهما فِيهِ وَلم يَتَرَتَّب عَلَيْهِ مَحْذُور وَالله أعلم.
مسئلة

(الْقِرَاءَة الشاذة حجَّة ظنية خلافًا للشَّافِعِيّ لنا) أَنَّهَا (مَنْقُول عدل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فَيجب قبُوله كَسَائِر منقولاته (قَالُوا) أَي الشَّافِعِيَّة: أَنَّهَا (مُتَيَقن الْخَطَأ، قُلْنَا) الْخَطَأ (فِي قرآنيته لَا) فِي (خبريته مُطلقًا) لعدم الْخَطَأ فِي أصل مضمونه (وَانْتِفَاء الْأَخَص) وَهُوَ كَونه خَبرا قرآنيا (لَا يَنْفِي الْأَعَمّ) وَهُوَ كَونه خَبرا صَحِيحا مَنْقُولًا (فَكَمَا لأخبار الأحاد) مِمَّا لم ينْسب إِلَى الْقُرْآن وَلم يبلغ حد التَّوَاتُر والشهرة، ثمَّ المفاد من كَلَام الْفَرِيقَيْنِ الْجَزْم بالْخَطَأ فِي قرآنيتها وَعدم التَّوَاتُر لَا يسْتَلْزم الْقطع بِالنَّفْيِ، غَايَة الْأَمر النَّفْي بِالْقطعِ بقرآنيتها فَمن أَيْن يحكم بالْخَطَأ فِيهَا؟ وَقد بَقِي فِي قَوْله تَعَالَى - {إِنَّا نخن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} - يُفِيد حفظه عَن وُقُوع الشُّبْهَة فِيهِ فَتَأمل (ومنعهم) أَي مانعي حجيتها (الْحصْر) الَّذِي ادَّعَاهُ مثبتوها فِي كَونه قُرْآنًا أَو خَبرا ورد بَيَانا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَظن قُرْآنًا فَألْحق بِهِ، وعَلى هَذَا التَّقْدِيرَيْنِ يجب الْعَمَل بِهِ (بتجويز ذكره) أَي الصَّحَابِيّ ذَلِك (مَعَ التِّلَاوَة) حَال كَون هَذَا الْمَذْكُور الَّذِي أدرجه فِي أثْنَاء تِلَاوَته الْقُرْآن (مذهبا) لَهُ غير أَن يسمعهُ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل لما أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده فَذكره فِي معرض الْبَيَان (بعيد جدا لِأَن نظم مذْهبه مَعَه) أَي الْقُرْآن (إِيهَام) ظن (أَن مِنْهُ) أَي الْقُرْآن (مَا لَيْسَ مِنْهُ) أَي الْقُرْآن وَهَذَا نوع تلبيس لَا يَلِيق بشأن الصَّحَابِيّ (لَا جرم أَن) القَوْل (الْمُحَرر) أَي الْمُسْتَقيم الْمَرْوِيّ (عَنهُ) أَي الشَّافِعِي (كَقَوْلِنَا بِصَرِيح لَفظه) قَالَ: ذكر الله الْأَخَوَات

(3/9)


من الرَّضَاع بِلَا تَوْقِيت، ثمَّ وقتت عَائِشَة الْخمس وأخبرت أَنه مِمَّا نزل من الْقُرْآن فَهُوَ وَإِن لم يكن قُرْآنًا يقْرَأ فَأَقل حالاته أَن يكون عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الْقُرْآن لَا يَأْتِي بِهِ غَيره، فَهَذَا عين قَوْلنَا وَعَلِيهِ جُمْهُور أَصْحَابنَا كَمَا نَقله الأسنوي وَغَيره حَتَّى احْتَجُّوا بِقِرَاءَة ابْن مَسْعُود - فَاقْطَعُوا أيمانهما - على قطع الْيُمْنَى (ومنشأ الْغَلَط) فِي أَن مذْهبه عدم حجيته كَمَا نسبه إِلَيْهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَتَبعهُ النَّوَوِيّ (عدم إِيجَابه) أَي الشَّافِعِي (التَّتَابُع) فِي صَوْم الْكَفَّارَة (مَعَ قِرَاءَة ابْن مَسْعُود) فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات. نقل الشَّارِح عَن المُصَنّف أَنه قَالَ: وَهَذَا عَجِيب لجَوَاز كَون ذَلِك لعدم ثُبُوته عِنْده أَو لقِيَام معَارض انْتهى، وعَلى هَذَا مَشى السُّبْكِيّ فَقَالَ: لَعَلَّه لمعارضة ذَلِك مَا قالته عَائِشَة نزلت - فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات - فَسَقَطت مُتَتَابِعَات أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ إِسْنَاد صَحِيح.
مسئلة

(لَا يشْتَمل) الْقُرْآن (على مَا لَا معنى لَهُ خلافًا لمن لَا يعْتد بِهِ من الحشوية) قيل بِإِسْكَان الشين، لِأَن مِنْهُم المجسمة، والجسم محشو، وَالْمَشْهُور فتحهَا، لأَنهم كَانُوا يَجْلِسُونَ أَيَّام الْحسن الْبَصْرِيّ فِي حلقته فَوجدَ كَلَامهم رديئاً فَقَالَ: ردوا هَؤُلَاءِ إِلَى حَشا الْحلقَة: أَي جَانبهَا (تمسكوا بالحروف الْمُقطعَة) فِيهِ أَي الْقُرْآن فِي أَوَائِل السُّور (وَنَحْو إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ) إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِد (ونفخة وَاحِدَة قُلْنَا التَّأْكِيد كثير وإبداء فَائِدَته قريب) فِي الْكَشَّاف الِاسْم الْحَامِل لِمَعْنى الْإِفْرَاد والتثنية دَال على شَيْئَيْنِ: الجنسية وَالْعدَد الْمَخْصُوص، فَإِذا أريدت الدّلَالَة على أَن الْمَعْنى بِهِ مِنْهُمَا وَالَّذِي سَاق لَهُ الحَدِيث هُوَ الْعدَد شفع بِمَا يؤكده، فَدلَّ بِهِ على الْقَصْد إِلَيْهِ والعناية بِهِ، أَلا ترى أَنَّك لَو قلت إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَلم تؤكده بِوَاحِد لم يحسن، وخيل أَنَّك تثبت الإلهية انْتهى، ثمَّ فَائِدَة التَّأْكِيد تَحْقِيق مَفْهُوم الْمُؤَكّد بِحَيْثُ لَا يظنّ بِهِ غَيره، وَدفع توهم التَّجَوُّز والسهو وَعدم الشُّمُول إِلَى غير ذَلِك (وَأما الْحُرُوف) الْمُقطعَة فِي أَوَائِل السُّور (فَمن الْمُتَشَابه وأسلفنا فِيهِ) أَي الْمُتَشَابه (خلافًا) فِي (أَن مَعْنَاهُ يعلم أَولا) وَظهر ثمَّة أَنه عِنْد الْجُمْهُور لَا يعلم فِي الدُّنْيَا وَأَنه الْأَوْجه (فاللازم) للمتشابه عِنْدهم (عدم الْعلم بِهِ) أَي بِمَعْنَاهُ (لَا عَدمه) أَي الْمَعْنى (وَقيل مُرَادهم) أَي الحشوية بقَوْلهمْ يشْتَمل على مَالا معنى لَهُ (لَا يُوقف على مَعْنَاهُ) كَمَا هُوَ ظَاهر صَنِيع عبد الْجَبَّار وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ من جَوَاز اشْتِمَال الْقُرْآن على مَالا يفهم المكلفون مَعْنَاهُ (فكقول النَّافِي) أَي فَقَوْل الحشوية حِينَئِذٍ كَقَوْلِنَا فِي إِدْرَاك الْمَعْنى (فِي الْمُتَشَابه فَلَا خلاف) بَين الْجُمْهُور وَبينهمْ، وَقَالَ ابْن برهَان: يجوز أَن يشْتَمل على مَالا يفهم

(3/10)


مَعْنَاهُ إِلَّا أَن يتَعَلَّق بِهِ تَكْلِيف وَإِلَّا كَانَ تكليفا بِمَا لَا يُطَاق، وَفِي شرح البديع للشَّيْخ سراج الدّين أَن الْمُخْتَار عِنْد أَكثر الْعلمَاء أَنَّهَا أَسمَاء للسور فلهَا معَان.
مسئلة

(قِرَاءَة السَّبْعَة مَا) كَانَ (من قبيل الْأَدَاء) بِأَن كَانَ هَيْئَة اللَّفْظ يتَحَقَّق بِدُونِهَا وَلَا يخْتَلف خطوط الْمَصَاحِف بِهِ (كالحركات والإدغام) فِي المثلين أَو المتقاربين: وَهُوَ إدراج الأول مِنْهُمَا سَاكِنا فِي الثَّانِي، هَكَذَا ذكره الشَّارِح، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بهيئة اللَّفْظ كَيْفيَّة تحصل من تركيب الْحُرُوف والتقديم وَالتَّأْخِير بَينهَا مَعَ قطع النّظر عَن خصوصيات الحركات والسكنات، وَنَظِير ذَلِك فِي صُورَة الْخط، وَإِلَّا فَلَا شكّ فِي التَّغَيُّر فِيهَا بتبدل الحركات والإدغام (والإشمام) وَهُوَ الْإِشَارَة بالشفتين إِلَى الْحَرَكَة بعيد الإسكان من غير تصويت فيدركه الْبَصِير لَا غير (وَالروم) وَهُوَ إخفاء الصَّوْت بالحركة (والتفخيم والإمالة) وَهُوَ الذّهاب بالفتحة إِلَى الكسرة (وَالْقصر وَتَحْقِيق الْهمزَة وأضدادها) أَي الْمَذْكُورَات من الفك وَعدم الإشمام وَالروم والترقيق وَعدم الإمالة وَالْمدّ وَتَخْفِيف الْهمزَة (لَا يجب تواترها، وخلافه) أَي خلاف مَا كَانَ من قبيل الْأَدَاء (مِمَّا اخْتلف بالحروف كملك) فِي قِرَاءَة من عدا الْكسَائي وعاصما (وَمَالك) فِي قرائتهما (متواتر وَقيل مَشْهُور) أَي آحَاد الأَصْل متواتر الْفُرُوع (وَالتَّقْيِيد) لما هُوَ خلاف مَا كَانَ من قبيل الْأَدَاء مِنْهَا (باستقامة وَجههَا فِي الْعَرَبيَّة) كَمَا فِي شرح البديع (غير مُفِيد لِأَنَّهُ إِن أُرِيد) باستقامة وَجههَا فِي الْعَرَبيَّة (الجادة) وَهِي فِي اللُّغَة مُعظم الطَّرِيق، وفسرها الشَّارِح بالظاهرة فِي التَّرْكِيب، وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بِهِ قرآنيتها الْمَشْهُورَة الَّتِي أَكثر الِاسْتِعْمَال عَلَيْهَا (لزم عدم القرآنية فِي قتل أَوْلَادهم شركائهم) بِرَفْع قتل وَنصب أَوْلَادهم وجر شركائهم على أَن قتل مُضَاف إِلَى شركائهم وَفصل بَينهمَا بالمفعول الَّذِي هُوَ أَوْلَادهم، هَذَا يدل على أَنه حمل الحركات على غير الإعرابية وَإِلَّا فَهُوَ من الْقسم الأول (لِابْنِ عَامر) لِأَن الجادة فِي سَعَة الْكَلَام أَنه لَا يفصل بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ بِغَيْر الظّرْف، وَالْجَار وَالْمَجْرُور (أَو) أُرِيد بهَا الاسْتقَامَة وَلَو (بتكلف شذوذ وَخُرُوج عَن الْأُصُول) أَي قوانين الْعَرَبيَّة (فممكن) أَي فَهَذَا التَّكْلِيف متيسر (فِي كل شَيْء) إِذْ لَا يَقع بِهِ الِاحْتِرَاز عَن شَيْء فَلَا فَائِدَة فِي التَّقْيِيد (وَقد نظر فِي التَّفْصِيل) الْمَذْكُور فِي مَحل التَّوَاتُر والناظر الْعَلامَة الشِّيرَازِيّ. وَجه النّظر أَن الْقُرْآن بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ متواتر فَلَا يخص التَّوَاتُر، بِخِلَاف مَا هُوَ من قبيل الْأَدَاء (لِأَن الحركات وَمَا مَعهَا) من الْمَذْكُورَات (أَيْضا قُرْآن) وَالْقُرْآن بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ متواتر، ثمَّ اسْتَزَادَ المُصَنّف فِي النّظر فَقَالَ (وَلَا يخفى أَن الْقصر وَالْمدّ من قبيل

(3/11)


الثَّانِي) أَي خلاف مَا كَانَ من قبيل الْأَدَاء (فَفِي عدهما من) قبيل (الأول) أَي مَا كَانَ من قبيل الْأَدَاء (نظر، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يجعلا من قبيل الثَّانِي بل من الأول (لزم مثله) وَهُوَ أَن يَجْعَل من الأول (فِي مَالك وَملك) إِذْ لَا يزِيد مَالك عَن ملك إِلَّا بالمدة الَّتِي هِيَ الْألف (لنا) فِي أَن مَا هُوَ من قبيل الثَّانِي متواتر أَنه (قُرْآن فَوَجَبَ تواتره) وَالْقُرْآن كُله متواتر إِجْمَاعًا (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بِأَن مَا كَانَ من الْقسم الثَّانِي من قِرَاءَة السَّبْعَة مَشْهُور آحَاد الأَصْل (الْمَنْسُوب إِلَيْهِم) أَي الَّذين نسب إِلَيْهِم قِرَاءَة السَّبْعَة: وهم السَّبْعَة (آحَاد) لأَنهم سَبْعَة نفر والتواتر لَا يحصل بِهَذَا الْعدَد فِيمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ فضلا عَمَّا اخْتلفُوا فِيهِ (أُجِيب بِأَن نسبتها) أَي القراآت السَّبع إِلَيْهِم (لاختصاصهم) أَي الْقُرَّاء السَّبْعَة (بالتصدي) للاشتغال بهَا وَتَعْلِيمهَا واشتهارهم بذلك (لَا لأَنهم النقلَة) خَاصَّة بِأَن تكون رِوَايَتهَا مَقْصُورَة عَلَيْهِم (بل عدد التَّوَاتُر) كَانَ مَوْجُودا (مَعَهم) فِي كل طبقَة إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَلِأَن الْمدَار) لحُصُول التَّوَاتُر (الْعلم) أَي حُصُول الْعلم عِنْد الْعدَد (لَا الْعدَد) الْخَاص (وَهُوَ) أَي الْعلم (ثَابت) وَثُبُوت مدَار الشَّيْء مُسْتَلْزم لحصوله.
مسئلة

(بعد اشْتِرَاط الْحَنَفِيَّة الْمُقَارنَة فِي الْمُخَصّص) الأول للعام (لَا يجوز) عِنْدهم (تَخْصِيص الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد) لما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال وَهُوَ أَنه كَيفَ يتَصَوَّر هَذَا بعد لُزُوم الْمُقَارنَة، فَإِن خبر الْوَاحِد إِنَّمَا يتَحَقَّق بعد زمَان الشَّارِع ونزول الْكتاب فِي زَمَانه قَالَ (لَو فرض نقل الرَّاوِي) للمخبر الْمَذْكُور (قرَان الشَّارِع) مفعول النَّقْل وإضافته لفظية لِأَن الشَّارِع قَارن وَالْقرَان مُتَعَدٍّ مَفْعُوله (الْمخْرج بالتلاوة) صلَة الْقُرْآن بِأَن يرْوى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام قرن كلَاما دَالا على خُرُوج بعض أَفْرَاد الْكَلَام بتلاوته حَال كَون ذَلِك الْمخْرج (تقييدا) لإِطْلَاق عُمُوم المتلو (مفَاد الغيرية) أَي حَال كَون ذَلِك الْمخْرج بِحَيْثُ أفيد غيريته للمتلو قُرْآنًا سَوَاء كَانَت هَذِه الإفادة بِلَفْظ أَو بِقَرِينَة، وَتقدم أَن الِاشْتِرَاط الْمَذْكُور قَول أَكثر الْحَنَفِيَّة وَبَعْضهمْ كالشافعية على عدم اشْتِرَاطهَا فِي التَّخْصِيص مُطلقًا، لَكِن لم يعلم بَينهم الْخلاف فِي عدم تَجْوِيز تَخْصِيص الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد، وَفَائِدَة ذكره هَهُنَا بَيَان أَن الْمَنْع لَيْسَ لعدم قُصُور الشَّرْط: أَي الْمُقَارنَة بالغرض الْمَذْكُور (وَكَذَا) لَا يجوز (تَقْيِيد مطلقه) أَي الْكتاب (وَهُوَ) أَي تَقْيِيد مُطلقَة (الْمُسَمّى بِالزِّيَادَةِ على النَّص) بِخَبَر الْوَاحِد (عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة (و) لَا يجوز أَيْضا (حمله) أَي الْكتاب (على الْمجَاز لمعارضته) أَي خبر الْوَاحِد للْكتاب لأجل الْجمع بَينهمَا،

(3/12)


وَهَذَا عِنْد الْقَائِلين من الْحَنَفِيَّة بِأَن الْعلم قَطْعِيّ كالقراءتين ظَاهر (وَكَذَا الْقَائِل بظنية الْعَام مِنْهُم) أَي الْحَنَفِيَّة كَأبي مَنْصُور لَا يجوز ذَلِك عِنْده (على الْأَصَح) كَمَا ذكره صَاحب الْكَشْف وَغَيره (لِأَن الِاحْتِمَال) ثَابت (فِي ثُبُوت) نفس (الْخَبَر) يَعْنِي يحْتَمل أَن لَا يكون ثَابتا فِي نفس الْأَمر (وَالدّلَالَة) أَي ودلالته على المُرَاد مِنْهُ (فَرعه) أَي فرع ثُبُوت الْخَبَر (فاحتماله) أَي احْتِمَال ثُبُوت الْخَبَر احْتِمَال (عدمهَا) أَي الدّلَالَة لِأَنَّهُ على تَقْدِير عدم ثُبُوت الْخَبَر تنعدم الدّلَالَة بالطريقة الأولى (فَزَاد) خبر الْوَاحِد احْتِمَالا على احْتِمَال الْكتاب (بِهِ) أَي بِسَبَب الِاحْتِمَال فِي ثُبُوته. (لنا) فِي أَنه لَا يجوز تَخْصِيص الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد أَن خبر الْوَاحِد (لم يثبت ثُبُوته) أَي مثل ثُبُوت الْكتاب لِأَن ثُبُوته قَطْعِيّ وَثُبُوت خبر الْوَاحِد ظَنِّي (فَلَا يسْقط) خبر الْوَاحِد (حكمه) أَي الْكتاب (عَن تِلْكَ الْأَفْرَاد) الَّتِي يُخرجهَا خبر الْوَاحِد من عُمُوم الْكتاب على تَقْدِير أَن يخصصه (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك بِأَن يسْقط الْكتاب عَنْهَا (قدم الظني) أَي لزم تَقْدِيم الدَّلِيل الظني (على) الدَّلِيل (الْقَاطِع) وَهُوَ بَاطِل (بِخِلَاف مَا لَو ثَبت) الْخَبَر (تواترا أَو شهرة) فَإِنَّهُ يجوز تَخْصِيص الْكتاب بِهِ (للمقاومة) بَين الْكتاب وَبَينهمَا، أما بَينه وَبَين الْمُتَوَاتر فبالاتفاق، وَأما بَينه وَبَين الْمَشْهُور على رَأْي الْجَصَّاص وَمن وَافقه فَإِنَّهُ يُفِيد علم الْيَقِين فَظَاهر، وَأما على رَأْي ابْن أبان وَمن وَافقه فِي أَنه علم طمأنينة فَلِأَنَّهُ قريب من الْيَقِين، وَالْعَام لَيْسَ بِحَيْثُ يكفر جاحده فَهُوَ قريب من الظَّن، وَقد انْعَقَد الْإِجْمَاع على تَخْصِيص عمومات الْكتاب بالْخبر الْمَشْهُور كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا يَرث الْقَاتِل شَيْئا " وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وَلَا خَالَتهَا " وَغير ذَلِك (فَثَبت) كل من الْخَبَر الْمُتَوَاتر وَالْمَشْهُور (تَخْصِيصًا وَزِيَادَة) أَي من حَيْثُ التَّخْصِيص بِعُمُوم الْكتاب وَمن حَيْثُ الزِّيَادَة على مطلقه حَال كَونه (مُقَارنًا) لَهُ إِذا كَانَ هُوَ الْمُخَصّص الأول (و) ثَبت كل مِنْهُمَا (نسخا) أَي من حَيْثُ الناسخية حَال كَونه (متراخيا) عَمَّا يُعَارضهُ (وَعنهُ) أَي اشْتِرَاط الْمُقَارنَة فِي الْمُخَصّص (حكمُوا بِأَن تَقْيِيد الْبَقَرَة) فِي قَوْله تَعَالَى - {اذبحوا بقرة} - بالمقيدات الْمَذْكُورَة فِي الْأَجْوِبَة عَن أسئلتهم (نسخ) لإطلاقها لتأخر المقيدات عَن طلب ذبح مُطلقهَا، فنسخ حكم بقرات غير مَوْصُوفَة بِتِلْكَ الْقُيُود: وَهُوَ الْأَجْزَاء عَمَّا هُوَ الْوَاجِب (كالآيات الْمُتَقَدّمَة فِي بحث التَّخْصِيص) {كأولات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} بِالنِّسْبَةِ إِلَى - {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا} - الْآيَة - وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ} - بِالنِّسْبَةِ إِلَى - {وَلَا تنْكِحُوا المشركات} - (وَعَن لُزُوم الزِّيَادَة بالآحاد) أَي كأخبار الأحاد (منعُوا) أَي الْحَنَفِيَّة (إِلْحَاق الْفَاتِحَة وَالتَّعْدِيل) للأركان (وَالطَّهَارَة) من الْحَدث والخبث (بنصوص الْقِرَاءَة)

(3/13)


أَي قَوْله تَعَالَى: {فاقرءوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} - (والأركان) أَي ارْكَعُوا واسجدوا (وَالطّواف) أَي وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق حَال كَون الملحقات (فَرَائض) لما ألحقت بهَا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ الْفَاتِحَة، وَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل الْمَسْجِد فَدخل رجل فصلى ثمَّ جَاءَ فَسلم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " ارْجع فصل فَإنَّك لم تصل فساقه إِلَى أَن قَالَ فَقَالَ: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ نَبيا مَا أحسن غير هَذَا فعلمني فَقَالَ:
إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فَكبر ثمَّ اقْرَأ مَا تيَسّر مَعَك من الْقُرْآن ثمَّ اركع حَتَّى تطمئِن رَاكِعا من ارْفَعْ حَتَّى تطمئِن قَائِما ثمَّ اسجد حَتَّى تطمئِن سَاجِدا ثمَّ اجْلِسْ حَتَّى تطمئِن جَالِسا ثمَّ افْعَل ذَلِك فِي صَلَاتك كلهَا " وَبِمَا روى ابْن حبَان وَالْحَاكِم عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" الطوف بِالْبَيْتِ صَلَاة إِلَّا أَن الله قد أحل فِيهِ الْمنطق فَمن نطق فَلَا ينْطق إِلَّا بِخَير (بل) ألحقوها حَال كَونهَا (وَاجِبَات) للصَّلَاة وَالطّواف مكملات لَهما لَا يحكم ببطلانهما بِدُونِهَا (إِذْ لم يرد) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (بِمَا تيَسّر) من الْقُرْآن (الْعُمُوم الاستغراقي) وَهُوَ جَمِيع مَا تيَسّر (بل) المُرَاد (هُوَ) أَي مَا تيَسّر (من أَي مَكَان) تيَسّر من الْقُرْآن سَوَاء كَانَ (فَاتِحَة أَو غَيرهَا) فَلَو قيل لَا يحوز بِدُونِ الْفَاتِحَة وَالتَّعْدِيل وَالطَّهَارَة الصَّلَاة وَالطّواف بِهَذِهِ الْأَخْبَار لَكَانَ نسخا لهَذِهِ الاطلاقات بهَا وَهُوَ لَا يجوز لما عرفت، ثمَّ كَون التَّعْدِيل وَاجِبا قَول الْكَرْخِي وَقَالَ الْجِرْجَانِيّ سنة (وَتَركه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المسئ) صلَاته بعد أول رَكْعَة حَتَّى أتم (يرجح تَرْجِيح الْجِرْجَانِيّ الاستنان) إِذْ يبعد تَقْرِيره على مَكْرُوه تَحْرِيمًا، وَقَالَ فِي شرح اهداية الأول أولى، لِأَن الْمجَاز حِينَئِذٍ يكون أقرب إِلَى الْحَقِيقَة فَإِنَّهَا فِي الصِّحَّة، وَالْمَكْرُوه التحريمي أقرب إِلَيْهَا من التنزيهي، وللمواظبة، وَقد سُئِلَ مُحَمَّد عَن تَركهَا فَقَالَ: إِنِّي أَخَاف أَن لَا يجوز، وَفِي الْبَدَائِع عَن أبي حنيفَة مثله، ثمَّ شبه منع إلحاقهم المكملات الْمَذْكُورَة لضعف دَلِيله بِمَنْع إلحاقهم الْمَذْكُورَات بعد قَوْله (كَقَوْلِهِم) أَي الْحَنَفِيَّة (فِي تَرْتِيب الْوضُوء وولائه وَنِيَّته) أَنَّهَا سنة (لضعف دلَالَة مقيدها) لما عرف فِي مَحَله (بِخِلَاف وجوب الْفَاتِحَة) إِذْ (نفي الْكَمَال) أَي إِرَادَته (فِي خَبَرهَا) أَي الْفَاتِحَة: وَهُوَ الحَدِيث الْمَذْكُور (بعيد عَن معنى اللَّفْظ) لِأَن مُتَعَلق الْجَار وَالْمَجْرُور الْوَاقِع خَبرا إِنَّمَا هُوَ الثُّبُوت والكون الْعَام، وَالْمعْنَى لَا صَلَاة كائنة وَعدم الكينونة شرعا هُوَ عدم الصِّحَّة وَبَين عدم الصِّحَّة وَعدم الْكَمَال بون بعيد، فمدلوله عدم الصِّحَّة غير أَنه لما كَانَ خبر الْآحَاد نزل عَن دَرَجَة الْقطع إِلَى دَرَجَة الظَّن صَارَت وَاجِبَة (وبظني الثُّبُوت وَالدّلَالَة) كأخبار الْآحَاد الَّتِي مدلولاتها ظنية يثبت (النّدب وَالْإِبَاحَة وَالْوُجُوب) يثبت (بقطعيها) أَي الدّلَالَة (مَعَ ظنية الثُّبُوت) كأخبار الْآحَاد الَّتِي مفهوماتها قَطْعِيَّة (وَقَلبه) أَي وبظنيها مَعَ قَطْعِيَّة الثُّبُوت: كالآيات المؤولة (وَالْفَرْض) يثبت (بقطعيهما) أَي الثُّبُوت وَالدّلَالَة

(3/14)


كالنصوص المفسرة والمحكمة وَالسّنة المتواترة الَّتِي مفهوماتها قَطْعِيَّة (وَيشكل) على أَن بظنيتهما يثبت النّدب وَالسّنة (استدلالهم) أَي الْحَنَفِيَّة لوُجُوب الطَّهَارَة فِي الطّواف كَمَا هُوَ الْأَصَح عِنْدهم (بِالطّوافِ) مَرْفُوع على الْحِكَايَة: أَي بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الطّواف (بِالْبَيْتِ صَلَاة لصدق التَّشْبِيه) أَي تَشْبِيه الطّواف بِالصَّلَاةِ (بالثواب) أَي بِاعْتِبَارِهِ بِأَن يكون وَجه الشّبَه هُوَ الثَّوَاب، قَوْله لصدق التَّشْبِيه يَعْنِي لَو حمل الْكَلَام على الْحَقِيقَة لزم عدم الصدْق وَلَو حمل على التَّشْبِيه صدق فَيتَعَيَّن التَّشْبِيه والتشبيه ثَابت بِمُجَرَّد اشتراكهما فِي الثَّوَاب وَلَا يلْزم من صدقه اشتراكهما فِي جَمِيع الْأَحْكَام كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهر الِاسْتِثْنَاء الْمَذْكُور بعده كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَقَوله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد قَوْله " الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة " (إِلَّا أَن الله أَبَاحَ فِيهِ الْمنطق) : أَي النُّطْق (لَيْسَ) مَحْمُولا (على ظَاهره) وَهُوَ كَون الِاسْتِثْنَاء مُتَّصِلا وَأَن الْمَعْنى الطّواف كَالصَّلَاةِ فِي جَمِيع الْأَحْكَام، إِلَّا أَن الله تَعَالَى أَبَاحَ فِيهِ الْمنطق ليَكُون (مُوجبا مَا سواهُ) أَي النُّطْق (من أَحْكَام الصَّلَاة فِي الطّواف) حَتَّى يدْخل فِيهِ وجوب الطَّهَارَة، وَوجه الْإِشْكَال أَن الحَدِيث ظَنِّي لكَونه خبر آحَاد ودلالته على اشْتِرَاط الطَّهَارَة فِي الطّواف أَيْضا ظَنِّي بل ضَعِيف (لجَوَاز نَحْو الشّرْب) فِيهِ تَعْلِيل لكَونه غير مَحْمُول على الظَّاهِر، فَالظَّاهِر أَنه كَمَا لَا يشْتَرط فِيهِ ترك نَحْو الشّرْب لَا يشْتَرط فِيهِ الْوضُوء، وَكَذَا قَالَ ابْن شُجَاع: هِيَ سنة (فَالْوَجْه) الِاسْتِدْلَال لَهُ (بِحَدِيث عَائِشَة حِين حَاضَت مُحرمَة) فَقَالَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" اقضي مَا يقْضِي الْحَاج غير أَن لَا تطوفي بِالْبَيْتِ " مُتَّفق عَلَيْهِ رتب منع الطّواف على انْتِفَاء الطَّهَارَة (وَادعوا) أَي الْحَنَفِيَّة (للْعَمَل بالخاص لفظ جَزَاء) فِي قَوْله تَعَالَى - {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا جَزَاء بِمَا كسبا} - وَقَوله لفظ جَزَاء عطف بَيَان للخاص، ومفعول ادعوا (انْتِفَاء عصمَة الْمَسْرُوق حَقًا للْعَبد) أَي انْتَفَى عصمته من حَيْثُ أَنه حق للْعَبد (لاستخلاصها) أَي عصمته حَقًا لله تَعَالَى (عِنْد الْقطع) لما يَأْتِي قَرِيبا (فَإِن قطع) السَّارِق (تقرر) خلوصها لله تَعَالَى قبيل فعل السّرقَة الْقبلية الَّتِي علم الله تَعَالَى أَنَّهَا تتصل بهَا السّرقَة كَانَ الْقطع مُبينًا لنا ذَلِك (فَلَا يضمن) الْمَسْرُوق (باستهلاكه لِأَنَّهُ) أَي الْجَزَاء الْمُطلق (فِي الْعُقُوبَات) يكون (على حَقه تَعَالَى خَالِصا بالاستقراء) لِأَنَّهُ الْمجَازِي على الْإِطْلَاق، وَلذَا سميت الْآخِرَة دَار الْجَزَاء، وَلَا تراعى فِيهِ الْمُمَاثلَة كَمَا روعيت فِي حق العَبْد مَالا كَانَ أَو عُقُوبَة وَلَا يَسْتَوْفِيه إِلَّا حَاكم الشَّرْع وَلَا يسْقط بِعَفْو الْمَالِك، وَإِذا كَانَ حَقه تَعَالَى كَانَت الْجِنَايَة وَاقعَة على حَقه فَيسْتَحق العَبْد جَزَاء من الله تَعَالَى فِي مُقَابلَة مَا فَاتَ من مَاله وَمن ضَرُورَة تحول الْعِصْمَة الَّتِي هِيَ مَحل الْجِنَايَة من العَبْد إِلَى الله تَعَالَى عِنْد فعل السّرقَة حَتَّى تقع جِنَايَة فِي حَقه تَعَالَى أَن يصير المَال فِي حق العَبْد مُلْحقًا بِمَا لَا قيمَة لَهُ كعصير الْمُسلم إِذا تخمر

(3/15)


فَإِنَّهُ لَا يضمن من سَرقه، وَقد استوفى بِالْقطعِ مَا وَجب بالهتك فَلم يجب عَلَيْهِ شَيْء آخر، وروى الْحسن عَنهُ أَنه يجب الضَّمَان، لِأَن الِاسْتِهْلَاك فعل آخر غير السّرقَة وَأجِيب بِأَنَّهُ وَإِن كَانَ فعلا آخر فَهُوَ اتمام الْمَقْصُود بهَا، وَهُوَ الِانْتِفَاع بالمسروق فَكَانَ معدودا مِنْهَا، وَأَيْضًا الْمَسْرُوق سَاقِط الْعِصْمَة لما قُلْنَا وَمَا يُؤْخَذ من السَّارِق غير ساقطها فَلَا مماثلة، وَالضَّمان يعْتَمد عَلَيْهَا بِالنَّصِّ، ثمَّ هَذَا فِي الْقَضَاء، وَأما ديانَة فَفِي الْإِيضَاح قَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يحل للسارق الِانْتِفَاع بِهِ بِوَجْه من الْوُجُوه وَفِي الْمَبْسُوط عِنْد مُحَمَّد يُفْتى بِالضَّمَانِ للحوق الخسران للْمَالِك من جِهَة السَّارِق. قَالَ أَبُو اللَّيْث، وَهَذَا القَوْل أحسن (وَلَا يخفى أَنه) أَي لفظ جَزَاء (حِينَئِذٍ) أَي حِين يكون خَاصّا بالعقوبة على الْجِنَايَة على حَقه تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ (بعادة الِاسْتِعْمَال، وَالْخَاص) إِنَّمَا يكون (بِالْوَضْعِ) لَا بعادة الِاسْتِعْمَال. ثمَّ عطف على قَوْله لاستخلاصها قَوْله (أَو لِأَنَّهُ) أَي الْجَزَاء (الْكَافِي فَلَو وَجب) الضَّمَان مَعَ الْقطع (لم يكف) الْقطع، وَالْفَرْض أَنه كَاف (وَفِيه نظر، إِذْ لَيْسَ الْكَافِي جَزَاء الْمصدر الْمَمْدُود بل) الْكَافِي (المجزئ من الْأَجْزَاء أَو الجازئ من الْجُزْء وَهُوَ الْكِفَايَة) كَمَا هُوَ الْمَذْكُور فِي كتب اللُّغَة الْمَشْهُورَة (فَهُوَ) أَي سُقُوط الضَّمَان عَن السَّارِق بعد الْقطع (بالمروى) عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ على مَا ذكره الْمَشَايِخ (لَا غرم على السَّارِق بعد مَا قطعت يَمِينه على مَا فِيهِ) من أَنه لَا يعرف بِهَذَا اللَّفْظ، وَأقرب لفظ إِلَيْهِ لفظ الدَّارَقُطْنِيّ " لَا غرم على السَّارِق بعد قطع يَمِينه " ثمَّ أَن رَاوِيه الْمسور بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن جده مَقْبُول، فإرساله غير قَادِح (وَالْحق أَنه) أَي عدم وجوب الضَّمَان مَعَ الْقطع (لَيْسَ من الزِّيَادَة) بِخَبَر الْوَاحِد على النَّص الْمُطلق الَّذِي هُوَ الْقطع (لِأَن الْقطع لَا يصدق على نفي الضَّمَان وإثباته فيكونا) أَي نفي الضَّمَان وإثباته (من مَا صدقَات الْمُطلق) يَعْنِي لَو كَانَ الْقطع كالطواف الصَّادِق على طواف لَا طَهَارَة فِيهِ وَطواف فِيهِ طَهَارَة صَادِقا على نفي الضَّمَان وإثباته بِحَيْثُ يكونَانِ فردين لَهُ لَكَانَ يلْزم الزِّيَادَة بالْخبر الْمَذْكُور، لكنه لَيْسَ كَذَلِك (بل هُوَ) أَي نفي الضَّمَان (حكم آخر) غير مندرج تَحت الْقطع (أثبت بِتِلْكَ الدّلَالَة) الاستقرائية لجزاء (أَو بِالْحَدِيثِ) الْمَذْكُور، وَقد يُقَال وَكَذَلِكَ اشْتِرَاط الطَّهَارَة حكم آخر لَا يصدق عَلَيْهِ الطّواف فَإِن قلت مَا صدق عَلَيْهِ الطّواف إِنَّمَا هُوَ طواف لَيْسَ فِيهِ طَهَارَة قُلْنَا كَذَلِك هَهُنَا مَا صدق عَلَيْهِ الْقطع إِنَّمَا هُوَ قطع لَا تضمين فِيهِ، فَكَمَا أَن مُوجب إِطْلَاق الطّواف حُصُول الِامْتِثَال بإيقاع طواف بِلَا طَهَارَة وَمُوجب الْخَبَر عدم حُصُوله فبينهما تدافع، كَذَلِك مُوجب إِطْلَاق الْقطع حُصُول الِامْتِثَال بِقطع مَعَه ضَمَان وَمُوجب الْخَبَر عدم حُصُوله. فَالْجَوَاب أَنا لَا نسلم عدم حُصُول الِامْتِثَال بِالْقطعِ مَعَ التَّضْمِين بِمُوجب الْخَبَر الْمَذْكُور لِأَن الِامْتِثَال لأمر فَاقْطَعُوا يحصل بِالْقطعِ على أَي وَجه كَانَ، غَايَة الْأَمر أَنه لَا يحصل الِامْتِثَال.

(3/16)


للنَّهْي عَن تغريم السَّارِق، بِخِلَاف الحَدِيث الدَّال على اشْتِرَاط الطَّهَارَة فِي الطّواف فَإِن مُقْتَضَاهُ عدم حُصُول الِامْتِثَال لأمر - وليطوفوا - بِلَا طَهَارَة، وَهُوَ مُبين للمراد من الطّواف الْمَأْمُور بِهِ فَافْهَم (بِخِلَاف قَوْلهم) أَي الْحَنَفِيَّة (وَجب لَهُ) أَي لأجل الْعَمَل بالخاص (مهر الْمثل بِالْعقدِ فِي المفوضة) بِكَسْر الْوَاو الْمُشَدّدَة، من زوجت نَفسهَا أَو زَوجهَا غَيرهَا بِإِذْنِهَا بِلَا تَسْمِيَة مهر، أَو على أَن لَا مهر لَهَا، ويروى بِفَتْحِهَا وَهِي من زَوجهَا وَليهَا بِلَا مهر بِغَيْر إِذْنهَا (فَيُؤْخَذ) مهر الْمثل (بعد الْمَوْت بِلَا دُخُول عملا بِالْبَاء) الَّذِي هُوَ لفظ خَاص فِي الإلصاق حَقِيقَة فِي قَوْله تَعَالَى - {أَن تَبْتَغُوا بأموالكم} - (لإلصاقها) أَي الْبَاء (الابتغاء وَهُوَ العقد) الصَّحِيح (بِالْمَالِ، وَحَدِيث بروع) وَهُوَ مَا عَن ابْن مَسْعُود فِي رجل تزوج امْرَأَة فَمَاتَ عَنْهَا وَلم يدْخل بهَا وَلم يفْرض لَهَا الصَدَاق. قَالَ لَهَا الصَدَاق كَامِلا، وَعَلَيْهَا الْعدة، وَلها الْمِيرَاث، فَقَالَ معقل بن سِنَان: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُفْتِي بِهِ بروع بنت واشق: أخرجه أَصْحَاب السّنَن وَاللَّفْظ لأبي دَاوُد، وَالْمرَاد صدَاق مثلهَا كَمَا صرح بِهِ فِي رِوَايَة لَهُ وَلغيره، وَسَيَأْتِي فِي الْكَلَام فِي جَهَالَة الرَّاوِي. فِي التَّلْوِيح بروع بِفَتْح الْبَاء وَأَصْحَاب الحَدِيث يكسرونها. وَفِي الْغَايَة بِكَسْر الْبَاء وَفتحهَا وَالْكَسْر أشهر، وَفِي الْمغرب بِفَتْح الْبَاء وَالْكَسْر خطأ (مؤيد) لِمَعْنى الْبَاء على صِيغَة الْفَاعِل، وَكَذَلِكَ فِي قَوْله (فَإِنَّهُ) أَي الحَدِيث الْمَذْكُور (مُقَرر لَهُ) . قَوْله بِخِلَاف قَوْلهم إِلَى آخِره مربوط بقوله أَو بِالْحَدِيثِ مَعَ مَا قبله، فَإِن مدَار نفي الضَّمَان هُنَاكَ على ذَلِك الحَدِيث، لَا على الْعَمَل بالخاص، وَهَهُنَا وجوب الْمهْر بِالْعَمَلِ بِهِ، والْحَدِيث مُقَرر لَهُ (بِخِلَاف ادِّعَاء تَقْرِير أَقَله) أَي الْمهْر (شرعا) أَي فِي الشَّرْع، أَو تَقْديرا شَرْعِيًّا (عملا بقوله تَعَالَى قد علمنَا مَا فَرضنَا) عَلَيْهِم فِي أَزوَاجهم، لِأَن الْفَرْض لفظ خَاص وضع لِمَعْنى خَاص، وَهُوَ التَّقْدِير، وَالضَّمِير الْمُتَّصِل بِهِ لفظ خَاص يُرَاد بِهِ ذَات الْمُتَكَلّم، فَدلَّ على أَن الشَّارِع قدره إِلَّا أَنه فِي تعْيين الْمِقْدَار مُجمل (فالتحق) قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا مهر أقل من عشرَة) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَابْن أبي حَاتِم وَسَنَد ابْن أبي حَاتِم حسن (بيانابه) فَصَارَت عشرَة دَرَاهِم من الْفضة تَقْديرا لَازِما، لِأَنَّهُ الْمُتَيَقن (إِذْ يدْفع) كَون المُرَاد من الْآيَة، هَذَا تَعْلِيل لما يفهم من قَوْله بِخِلَاف إِلَى آخِره مُتَعَلق بقوله مُقَرر: أَي لَا يُقرر ادِّعَاء تَقْدِير الْأَقَل حَدِيث لَا مهر إِلَى آخِره: إِذْ كَونه مقررا لَهُ فرع كَون الْفَرْض بِمَعْنى التَّقْدِير وَهُوَ غير مُسلم (بِجَوَاز كَونه) أَي الْمَفْرُوض الْمَدْلُول عَلَيْهِ بِمَا فَرضنَا (النَّفَقَة وَالْكِسْوَة وَالْمهْر بِلَا كمية خَاصَّة فِيهِ) أَي فِي الْمهْر (لَا تنقص) تِلْكَ الكمية (شرعا) . قَوْله لَا تنقص صفة كمية (كَمَا فيهمَا) أَي كالمفروض فِي النَّفَقَة وَالْكِسْوَة فِي عدم الكمية الْخَاصَّة (وَتعلق

(3/17)


الْعلم) بالمفروض فِي قَوْله - {قد علمنَا مَا فَرضنَا} -. (لَا يستلزمه) أَي التَّعْيِين فِي الْمَفْرُوض (لتَعَلُّقه) أَي الْعلم (بضده) وَهُوَ غير الْمعِين أَيْضا (وَأما قصر المُرَاد) بالمفروض (عَلَيْهِمَا) أَي النَّفَقَة وَالْكِسْوَة (لعطف مَا ملكت أَيْمَانهم) على أَزوَاجهم فِي قَوْله تَعَالَى - {قد علمنَا مَا فَرضنَا عَلَيْهِم فِي أَزوَاجهم وَمَا ملكت أَيْمَانهم} - للْعلم بِعَدَمِ مُشَاركَة المملوكات فِي الْمهْر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَلَا مهر لَهُنَّ) على ساداتهن (فَغير لَازم) لجَوَاز أَن يكون الْمَفْرُوض بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأزْوَاج الْأُمُور الثَّلَاثَة، وبالنسبة إِلَى الْإِمَاء الْأَوَّلين (فَإِنَّمَا هُوَ) أَي تَقْدِير الْمهْر شرعا ثَابت (بالْخبر) الْمَذْكُور حَال كَونه (مُقَيّدا لإِطْلَاق المَال فِي أَن تَبْتَغُوا) بأموالكم، لَا بِالْعَمَلِ الْخَاص الَّذِي هُوَ لفظ فَرضنَا، غير أَنه يلْزم حِينَئِذٍ الزِّيَادَة على الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد كَمَا ذكره المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة (وَكَذَا ادِّعَاء وُقُوع الطَّلَاق فِي عدَّة الْبَائِن للْعَمَل بِهِ) أَي بالخاص (وَهُوَ الْفَاء لإفادتها) أَي الْفَاء (تعقيب) الطَّلَاق فِي قَوْله تَعَالَى (فَإِن طَلقهَا الافتداء) غير مُسلم (بل) هِيَ (لتعقيب) مَدْخُول الطلقتين المدلولتين بقوله (الطَّلَاق مَرَّتَانِ لِأَنَّهَا) أَي آيَة فَإِن طَلقهَا (بَيَان الثَّالِثَة: أَي الطَّلَاق مَرَّتَانِ فَإِن طَلقهَا) بعد ذَلِك طَلْقَة (ثَالِثَة فَلَا تحل حَتَّى تنْكح، وَاعْترض) بَينهمَا إِفَادَة (جَوَازه) أَي الطَّلَاق مُطلقًا (بِمَال) . ثمَّ بَين الْإِطْلَاق بقوله (أولى) أَي طَلْقَة أولى (كَانَت أَو ثَانِيَة أَو ثَالِثَة) دلَالَة على أَن الطَّلَاق يَقع مجَّانا تَارَة، وبعوض أُخْرَى (وَلذَا) أَي لأجل أَن الْفَاء لتعقيب مَا بعْدهَا لما ذكر لَا للافتداء (لم يلْزم فِي شَرْعِيَّة الثَّالِثَة تقدم خلع) يرد عَلَيْهِ أَنه يدل على أَنه لَو أفادت تعقيب الثَّالِثَة للافتداء للَزِمَ مشروعيته تقدم الْخلْع وَفِيه نظر، لِأَنَّهَا لَا تفِيد حِينَئِذٍ إِلَّا مَشْرُوعِيَّة الثَّالِثَة بعد الْخلْع، وَأما الْحصْر فَلَا تفيده: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يَدعِي عدم دَلِيل آخر على مشروعيتها بِدُونِ تقدم الْخلْع، وإثباته مُشكل (وَأما إِيرَاد أثبتم التَّحْلِيل) للزَّوْج الثَّانِي (بلعن الْمُحَلّل) فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لعن الله الْمُحَلّل والمحلل لَهُ ": رَوَاهُ ابْن مَاجَه، فَإِن الْمُحَلّل من يثبت الْحل كالمحرم من يثبت الْحُرْمَة (أَو بقوله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لزوجة رِفَاعَة الْقرظِيّ لما أَتَتْهُ فَقَالَت: كنت عِنْد رِفَاعَة الْقرظِيّ فطلقني، فَأَبت طَلَاقي، فَتزوّجت عبد الرَّحْمَن بن الزبير، وَإِن مَا مَعَه مثل هدبة الثَّوْب (أَتُرِيدِينَ) أَن تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَة (لَا، حَتَّى تَذُوقِي) عُسَيْلَته وَيَذُوق عُسَيْلَتك، رَوَاهُ الْجَمَاعَة إِلَّا أَبَا دَاوُد (زِيَادَة على الْخَاص لفظ حَتَّى فِي حَتَّى تنْكح) زوجا غَيره لِأَنَّهُ وضع لِمَعْنى خَاص وَهُوَ الْغَايَة، فنكاح الثَّانِي غَايَة للْحُرْمَة الثَّابِتَة بِالثلَاثِ لَا غير، فَلَا يثبت الْحل الْجَدِيد بِهِ، فإثباته بِأحد الْخَبَرَيْنِ زِيَادَة على الْخَاص مبطلة لَهُ، وَهَذَا الْإِيرَاد من فَخر الْإِسْلَام وَغَيره من قبل مُحَمَّد وَزفر وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة فِي مسئلة الْهدم: وَهِي الْمُطلقَة وَاحِدَة أَو ثِنْتَيْنِ إِذا انْقَضتْ

(3/18)


عدتهَا وَتَزَوَّجت بآخر وَدخل بهَا ثمَّ طَلقهَا ثمَّ رجعت إِلَى الأول حَيْثُ قَالُوا: ترجع إِلَيْهِ بِمَا بَقِي من طَلاقهَا، وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف قَالَا: ترجع إِلَيْهِ بِثَلَاث قِيَاسا على الْمُطلقَة الثَّلَاث عملا بِكُل من الْخَبَرَيْنِ (فَلَا وَجه لَهُ إِذْ لَيْسَ عدم تَحْلِيله) أَي الزَّوْج الثَّانِي الزَّوْجَة للْأولِ (و) عدم (الْعود) أَي عودهَا (إِلَى الْحَالة الأولى) وَهِي ملك الأول الثَّلَاث عَلَيْهَا (من مَا صدقَات مدلولها) أَي حَتَّى فِي الْآيَة (ليلزم إِبْطَاله) أَي مدلولها (بِالْخَيرِ) فَهُوَ: أَي إِثْبَات التَّحْلِيل بِالثَّانِي (إِثْبَات مسكوت الْكتاب بالْخبر، أَو بِمَفْهُوم حَتَّى على أَنه) أَي مفهومها: يَعْنِي الْعَمَل بِهِ (اتِّفَاق) أَي مُتَّفق عَلَيْهِ، أما عِنْد غير الْحَنَفِيَّة فَظَاهر، وَأما عِنْدهم فَلِأَنَّهُ من قبيل الْإِشَارَة على مَا ذكر فِي البديع وَغَيره (أَو بِالْأَصْلِ) الْكَائِن فِيهَا قبل ذَلِك (وعَلى تَقْدِيره) أَي كَونه إِثْبَات مسكوت الْكتاب بِأحد هَذِه الْمَذْكُورَات (يرد) أَن يُقَال (الْعود) إِلَى الْحَالة الأولى (والتحليل إِنَّمَا جعل) كل مِنْهُمَا (فِي حرمتهَا بِالثلَاثِ وَلَا حُرْمَة قبلهَا) أَي لَا يتَحَقَّق حُرْمَة الثَّلَاث قبل الثَّلَاث (فَلَا يتصوران) أَي الْعود والتحليل، إِذْ لم تحرم فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَة تِلْكَ الْحُرْمَة حَتَّى تعود، فَلَو أثبت حل بِهَذَا التَّزْوِيج كَانَ تحصيلا للحاصل (فَلَا يحصل مقصودهما) أَي أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف، وَهُوَ (هدم الزَّوْج) الثَّانِي (مَا دون الثَّلَاث خلافًا لمُحَمد) . (وَلَا يخفى تضاؤل) أَي تصاغر (أَنه) أَي مَا دون الثَّلَاث (أولى بِهِ) أَي بِالْحلِّ الْجَدِيد من الثَّلَاث (أَو) أَنه ثَابت (بِالْقِيَاسِ) عَلَيْهَا، أما الأول فَلِأَنَّهُ لما أثبت الزَّوْج الثَّانِي حلا جَدِيدا فَلحقه الطلقات الثَّلَاث فِي الأغلظ كَانَ أَن يُثبتهُ فِي الأخف أولى، وَأما الثَّانِي فيجامع أَنه نِكَاح زوج ثَان بالغاء كَونه فِي حُرْمَة غَلِيظَة، ثمَّ أَن التضاؤل إِنَّمَا هُوَ بِسَبَب أَن مورد النَّص الدَّال على تَحْلِيل الزَّوْج الثَّانِي بِزَوْج كَائِن بعد اسْتِيفَاء الطلقات، وَلَا دَلِيل على إِلْغَاء هَذِه الخصوصية فَلَا مجَال للْقِيَاس فضلا عَن الْإِثْبَات بِالطَّرِيقِ الأولى، يُؤَيّد أَنه هُنَاكَ احتجنا إِلَى إِثْبَات حل جَدِيد وترتب عَلَيْهِ أَن يملك الثَّلَاث، وَهَهُنَا لَا يحْتَاج إِلَى ذَلِك لِأَنَّهُ حَاصِل كَمَا مر، وَلذَلِك (فَالْحق هدم الْهدم) الْمَبْنِيّ على الْوَجْهَيْنِ الضعيفين.