جزء من شرح تنقيح الفصول في علم الأصول

المبحث الثالث
الباعث على تأليف الكتاب وزمن تأليفه
المطلب الأول: الباعث على تأليف الكتاب
لمعرفة دواعي التأليف فوائد جمَّة، لها أثر في معرفة منهج المؤلف، ونوعية الدراسة التي قام بها.
وقد تعارف المؤلفون على أن يُصدِّروا كتبهم بمقدّمةٍ يكشفون فيها سبب تأليف الكتاب، وطرفاً من معالم منهجهم فيه، وما يهمُّ القاريء معرفته حتى يكون على درايةٍ فيما يقرؤه.
وقد استهلَّ القرافي كتابه بمقدمةٍ أعلن فيها هدفه بوضوح، فقال: ((أما بعد فإن كتاب " تنقيح الفصول في اختصار المحصول " كان قد يسَّره الله عليّ ليكون مقدمة أول كتاب الذخيرة في الفقه. ثم رأيت جماعةً كثيرة رغبوا في إفراده عنها واشتغلوا به، فلمَّا كثر المشتغلون به رأيت أن أضع له شرحاً يكون عوناً لهم على فهمه وتحصيله، وأبيّن فيه مقاصد لا تكاد تُعْلم إلاّ من جهتي، لأني لم أنقلها عن غيري، وفيها
غموض،. . .)) .
وإذا ربطنا هذه المقدِّمة مع مقدِّمة المتن " تنقيح الفصول " (1) باعتبار الكتاب وحدة واحدة أمكن استخلاص بواعث القرافي على تأليف الكتاب متناً وشرحاً كما يلي:
1 - أن قواعد الفقه وأصوله من أنفس العلوم التي يحتاج إليها الفقيه عوناً له على التحصيل، وابتناءً لفروعه على التأصيل، وفهماً لمدارك العلماء في الأحكام، ومآخذ الفقهاء في الحلال والحرام.
2 - كثرة المشتغلين بمتن الكتاب وتداوله بينهم إقراءً ومذاكرةً وشرحاً وتدريساً احتفاءً به واعترافاً بقدْره، هذا الشأن حدا بالمصنف أن يصنع لهم شرحاً له، ولاسيما أن المصنف انكشفت له بعض الملاحظات على المتن أو نُبّه عليها، فأراد إصلاحها في الشرح (2) .
_________
(1) انظر: الذخيرة 1 / 39، 55. وانظر مبحث التعريف بمتن الكتاب من هذا الفصل ص (63) القسم الدراسي.
(2) انظر أمثلة على ذلك في: الصفحات 180-183 من القسم الدراسي.

(1/82)


3 - لقد بالغ القرافي في مختصره الأصولي في إيجاز العبارة بالرمز والإشارة، مما جعل كتابه في مسيس الحاجة إلى الشرح والإيضاح، فشرَحه على وجهٍ لا يُفضي إلى الإطناب، ولا يُخلّ بشيء من لطائف الكتاب، فلم يكن مطوَّلاً فيُمِلُّ إملالاً،
ولا مختصراً فيُخِلُّ إخلالاً.
4 - مُكْنَة القرافي وأهليّته على إيفاء الكتاب حقّه، بتحرير معاقده، وتفسير مقاصده، وتذليل صعابه، وفكِّ غوامضه، وحلِّ ألفاظه، وتوضيح معانيه؛ لأن القرافي ضمَّن مختصره مباحث من بنات أفكاره دون أن ينقلها عن غيره، وفيها غموض لا يُزَال إلاّ من جهته.
5 - إشهار المذهب المالكي الأصولي بين سائر المذاهب الأخرى، لتسمو مكانتهم ومنزلتهم الأصولية كما بزغتْ شمسهم في الفروع، وليرتفع العتب والملام عن الأئمة الأعلام عند مخالفة أحدهم لأصله لمعارضٍ أرجح منه. قال في الذخيرة (1 / 39) : ((وبيّنتُ مذهب مالك في أصول الفقه ليظهر علوُّ شرفه في اختياره في الأصول، كما ظهر في الفروع، ويطّلع الفقيه على موافقته لأصله، أو مخالفته له؛ لمعارضٍ أرجح
منه، فيطلبه حتى يطّلع على مدركه، ويُطْلِع المخالفين في المناظرات على أصله)) .

(1/83)


المطلب الثاني: زمن تأليف الكتاب
ورَّث القرافي ثروة نفيسة من مؤلفاته في فنون متنوعة عبر مشوارٍ علمي حافل، ومعرفةُ زمن تأليف الكتاب له أثرٌ ملموس يظهر في تحديد سَبْق المؤلف إلى رأيٍ سديدٍ أو تحريرٍ مفيدٍ، كما يمكن تحديد مدى إفادة المعاصرين للمؤلف من مؤلَّفه (1) .
كما أن معرفة الظروف الزمانية المحيطة بتأليف الكتاب تفيد في معرفة الرأي الذي استقرَّ عليه المؤلف أخيراً، وتفيد أيضاً في الوقوف على الأقدار العلمية والأطوار الفكرية للمصنف، فما كتبه في صدر شبابه وبداية مشواره، ليس كالذي كُتِب في أوْج سِنِّه واستواء نُضْجه.
وكتاب شرح تنقيح الفصول لم يشر القرافي إلى بداية تأليفه له، ولا الفترة الزمنية المستغرقة في تأليفه، وإنما مشى المصنف مع ما جرت به عادة بعض المؤلفين من تسجيل تاريخ الفراغ من تصنيفه، فها هو يقول: ((كان الفراغ من تأليفه يوم الإثنين لتسع ليالٍ مضتْ من شهر شعبان سنة سبعٍ وسبعين وستمائة)) (2) .
فعلى هذا يعدُّ هذا الكتاب من أواخر مصنفاته، لم يبق بينه وبين وفاته سوى سبع سنوات عليه رحمة الله تعالى.
وفي الصفحة التالية مخطَّطٌ زمني يحدد موقعه ضمن تآليفه الأخرى:
_________
(1) برزت هذه الظاهرة بوضوح مع شمس الدين محمد بن محمد الأصفهاني (ت 688 هـ) . فقد كان ينقل في كتابه: " الكاشف عن المحصول " كثيراً من تقريرات القرافي على شرح المحصول، والإشكالات عليه، وأجوبتها دون أن يذكره باسمه ولو مرةً واحدة. انظر: القسم الدراسي للجزء الأول من كتاب نفائس الأصول تحقيق د. عياض السلمي ص 121. كما قرَّر ابن السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (8 / 101) بأن الأصفهاني أخذ محاسن ما في نفائس الأصول، ونقّحها، وحسَّنها أجود مما عند القرافي، ولكن الفضل يعود إلى القرافي في ابتكاره لها.
(2) انظر خواتيم بعض نسخ الشرح الخطية في الصفحات: 240، 253، 262.

(1/84)