روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد
بن حنبل ج / 2 ص -5-
باب: العموم
أعلم أن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة.
وقد يطلق على غيرها، كقولهم: عمهم القحط، أو المطر
والعطاء، لكنه مجاز، فإن عطاء زيد متميز عن عطاء عمرو،
وليس في الوجود فعل -هو عطاء- نسبته إلى زيد وعمرو واحدة،
وليس في الوجود معنى واحد مشترك بين اثنين.
وعلوم الناس وقُدَرهم، وإن اشتركت في أنها: علم وقدرة، لا
توصف بأنها عموم.
والرجل له وجود في الأعيان، والأذهان، واللسان.
فوجوده في الأعيان لا عموم له، إذ ليس في الوجود رجل مطلق،
بل إما زيد، وإما عمرو.
وأما وجوده في اللسان: فلفظة "الرجل" قد وضعت للدلالة
عليهما1.
ونسبتها في الدلالة عليهما واحدة، فسمي عامًّا لذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بعدها في بعض النسخ "عليها" وفي بعضها "عليهما" ولا
وجود لهما في المستصفى.
ج / 2 ص -6-
وأما الذي في الأذهان من معنى "الرجل" فيسمى "كليًّا"1،
فإن العقل يأخذ من مشاهدة زيد: حقيقة الإنسان وحقيقة
الرجل، فإن رأى عمرا: لم يأخذ منه صورة أخرى، وكان ما أخذه
من قبل نسبته إلى عمرو الحادث، كنسبته إلى زيد الذي عهده
أولًا.
فإن سمى عامًّا بهذا المعنى فلا بأس2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الكلي: هو ما لا يمنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه
كالإنسان.
2 وضح الطوفى -رحمه الله تعالى- مسألة كون العموم من عوارض
الألفاظ أو المعاني، ومذاهب العلماء في ذلك فقال:
"وهذا البحث يوجد في أكثر كتب الأصوليين غير محقق، ووجه
الكشف عنه: أنا إذا قلنا: هذا الشيء من عوارض هذا الشيء،
أي: مما يعرض له ويلحقه، واشتقاقه من العَرَض، وهو المعنى
الذي يذهب ويجيء، ولهذا سمي المال والمرض عرضًا؛ لأن كل
واحد منهما يذهب ويجيء".
ثم قال: "والعرض في اصطلاح المتكلمين: هو ما لا يدخل في
حقيقة الجسم ومفهومه، سواء كان لازمًا لا يفارق، كسواد
الغراب، أو مفارقًا يذهب ويجيء كالحركة والسكون.
وبهذا المعنى قولنا: العموم من عوارض الألفاظ، أي: أنه
يلحقها، وليس هو داخلًا في حقيقتها، وهو عرض لازم لما لحقه
من الألفاظ لا ينفك عنه، وهو خاص ببعض الألفاظ، وهي التي
وضعها الواضع لتدل على استغراق جميع ما وضعت له.
ومعنى قولنا: العموم من عوارض الألفاظ حقيقة، أي: أنه في
الحقيقة لا يعرض إلا لصيغة لفظية، كالمسلمين والمشركين،
ونحو ذلك من صيغه.... وإذا أضفنا العموم إلى المعاني،
كقولنا: هذا حكم عام، وخصب عام، أو جدب عام، أو بلاء أو
رخاء عام، وهذه مصلحة عامة، كان ذلك مجازًا، أي: لا يستحق
المعنى بحسب الأصل أن يوصف بالعموم، إنما هو بحسب
الاستعارة، إما من اللفظ، أو نظرًا إلى شمول مجموع أفراد
المعنى المذكور لمجموع =
ج / 2 ص -7-
فصل: [تعريف العام]
وحد العام: هو اللفظ الواحد الدال على شيئين فصاعدًا
مطلقًا1.
واحترزنا بالواحد عن قولهم: "ضرب زيد عمرًا" فإنه يدل على
شيئين، لكن بلفظين.
وبقولنا: "مطلقًا" عن قولهم: "عشرة رجال"، فإنه يدل على
شيئين فصاعدًا، لكن ليس بمطلق، بل هو إلى تمام العشرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= محالِّه.... قال: وعبارة الشيخ أبي محمد ملخصة من كلام
الشيخ أبي حامد. وحاصل ما ذكراه في معنى قولنا: "باعتبار
وجوديها" اللساني والذهني" هو أن الرجل -مثلًا- له وجود في
الأعيان، وفي اللسان، وفي الأذهان.
أما وجوده في الأعيان، فلا عموم له، إذ ليس في الوجود
الخارجي رجل مطلق، يعني كليًّا، بل إما زيد أو عمرو، أو
غيرهما، فهو مقيد بقيد التشخص والعَلمية.
وأما وجوده في اللسان: فلفظ الرجل وضع للدلالة على زيد
وعمرو وبكر وغيرهم، ونسبته إليه واحدة، وهذا معنى العموم.
وأما وجوده في الذهن فإن للرجل صورة كلية مطابقة له،
تتناول زيدًا وعمرًا وبكرًا وغيرهم، وتدل عليهم دلالة
واحدة، كدلالة لفظ الرجل عليهم، غير أن اللفظ يدل بالوضع،
والذهن يدرك بالتصور.
فقد ثبت أن معنى العموم والشمول موجود في اللساني والذهني،
دون العيني الخارجي.
ثم قال: وقال الآمدي: العموم من عوارض الألفاظ حقيقة
اتفاقًا، واختلفوا في المعاني، هل هو من عوارضها حقيقة؟
فنفاه الأكثرون، وأثبته الأقلون.
وقال ابن الحاجب: العموم من عوارض الألفاظ حقيقة، وفي
المعاني أقوال: أصحها أنه حقيقة فيها، أيضًا.
والثاني: ليس من عوارضها، شرح مختصر الروضة "2/ 449 وما
بعدها".
1 اللفظ: جنس يتناول العام والخاص والمشترك والمطلق وغير
ذلك، والقيود التي ذكرها المصنف -بعد ذلك- لإخراج ما عدا
العام.
ج / 2 ص -8-
وقيل: العام كلام مستغرق لجميع ما يصلح له1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو تعريف أبي الحسين البصري، وتابعه على ذلك أبو الخطاب
في التمهيد "2، 5، 6" واختاره الفخر الرازي وزاد عليه
قوله: "بحسب وضع واحد" ورجحه الشوكاني. انظر: المعتمد "1/
203"، المحصول حـ1 ق2 ص513، إرشاد الفحول "1/ 415".
وقد أورد الطوفي للعام عدة تعريفات، غير ما ذكره المصنف،
واعترض عليها كلها، واختار له تعريفًا مبنيًّا على التقسيم
فقال: "اللفظ إن دل على الماهية من حيث هي هي فقط، فهو
المطلق، أو على وحدة معينة، كزيد وعمرو، فهو العلم، أو غير
معينة، كرجل فهو النكرة، أو على وحدات متعددة، فهي إما بعض
وحدات الماهية، فهو اسم العدد كعشرين رجلًا، أو جميعها،
فهو العام، فإذن: هو اللفظ الدال على جميع أجزاء ماهية
مدلوله... ثم فرق بين العام وبين المطلق، والعلَم،
والنكرة، واسم العدد فقال:
فالمطلق هو اللفظ الدال على الماهية المجردة عن وصف زائد.
والعلَم: هو اللفظ الدال على وحدة معينة.
والنكرة: هو اللفظ الدال على وحدة غير معينة.
واسم العدد: هو اللفظ الدال على بعض وحدات ماهية مدلوله،
والعام ما ذكرناه"
انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 448 وما بعدها".
فصل: [أقسام العام والخاص]
ثم العام ينقسم إلى:
عام لا أعم منه، يسمى عامًّا مطلقًا، كالمعلوم، يتناول
الموجود والمعدوم
وقيل: الشيء
ج / 2 ص -9-
وقيل: ليس لنا عام مطلق؛ لأن "الشيء" لا يتناول المعدوم،
والمعلوم لا يتناول المجهول.
والخاص ينقسم إلى خاص، لا أخص منه، يسمى خاصًّا مطلقًا،
كزيد وعمرو، وهذا الرجل.
وما بينهما عام وخاص بالنسبة، فكل ما ليس بعام ولا خاص
مطلقًا: فهو عام بالنسبة إلى ما تحته، خاص بالنسبة إلى ما
فوقه.
فالموجود: خاص بالنسبة إلى المعلوم، عام بالنسبة إلى الجسم
والجسم: خاص بالنسبة إلى الجوهر، عام بالنسبة إلى النامي.
والنامي: خاص بالنسبة إلى الجسم، عام بالنسبة إلى الحيوان.
وأشباه ذلك يسمى عامًّا، لشموله ما يشملهن خاصًّا من حيث
قصوره عما شمله غيره1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة ذلك: أن كلًّا من العام والخاص ينقسم بحسب مراتبه
إلى ثلاثة أقسام: علو ونزولًا وتوسطًا فاللفظ إما عام
مطلق، وهو ما ليس فوقه أعم منه، أو خاص مطلق، وهو ما ليس
تحته أخص منه، أو عام وخاص إضافي، وهو المتوسط. مثال العام
المطلق: المعلوم أو الشيء؛ لأن المعلوم يتناول جميع
الأشياء قديمها ومحدثها، ومعدومها وموجودها، لتعلق العلم
بذلك كله.
والشيء: أخص من المعلوم؛ لأن كل شيء معلوم، وليس كل معلوم
شيئًا -عند أهل السنة والجماعة- أما المعتزلة فقالوا:
المعدوم شيء.
ولهذا أورد المصنف في كلامه "وقيل: الشيء" أي: أن العام
المطلق كالشيء، لا كالمعلوم، لما تقدم من أن المعلوم يشمل
الموجود والمعدوم، والعدم والمعدوم لا يتصفان بالعموم،
لأنهما معنيان محتاجان إلى ما يقومان به، ولذلك يجب أن
يكونا شيئًا.
وعبارة الإمام الغزالي في هذا المعنى أوضح مما ذكره المصنف
حيث قال: =
ج / 2 ص -10-
فصل: [في ألفاظ العموم]1
وألفاظ العموم خمسة أقسام:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"واعلم أن اللفظ إما خاص في ذاته مطلقًا، نحو: زيد، وهذا
الرجل. وإما عام بالإضافة، كلفظ "المؤمنين" فإنه عام
بالإضافة إلى آحاد المؤمنين، خاص بالإضافة إلى جملتهم، إذ
يتناولهم دون المشركين، فكأنه يسمى عامًّا من حيث شموله
للآحاد، خاصًّا من حيث اقتصاره على ما شملهن وقصوره عما لم
يشمله، ومن هذا الوجه يمكن أن يقال: ليس في الألفاظ عام
مطلق؛ لأن لفظ المعلوم لا يتناول المجهول، والمذكور لا
يتناول المسكوت عنه"
المستصفى "3/ 213" وانظر: شرح الطوفي "2/ 461" وما بعدها"
1 مذهب جمهور الأصوليين أن للعموم صيغ وألفاظ تخصه، حقيقة
فيه، وذهب بعض العلماء إلى نفي ذلك. وقد وضحه الشوكاني
فقال: "ذهب الجمهور إلى أن العموم له صيغة موضوعة له
حقيقة، وهي: أسماء الشرط، والاستفهام، والموصولات، والجموع
المعرفة تعريف الجنس، والمضافة، واسم الجنس، والنكرة
المنفية، والمفرد المحلى باللام، ولفظ "كل" و"جميع"
ونحوها. قال: لأن الحاجة ماسة إلى الألفاظ العامة؛ لتعذر
جمع الآحاد على المتكلم فوجب أن يكون لها ألفاظ موضوعة
حقيقة؛ لأن الغرض من وضع اللغة: الإعلام والإفهام".
ثم بعد أن استوفى أدلة الجمهور قال: "وقال محمد بن
المنتاب، من المالكية، ومحمد بن شجاع الثلجي، من الحنفية:
إنه ليس للعموم صيغة تخصه، وأن ما ذكروه من الصيغ موضوع في
الخصوص، وهو أقل الجمع: إما اثنان، أو ثلاثة -على الخلاف
في أقل الجمع- ولا يقتضي العموم إلا بقرينة.
قال القاضي في التقريب، والإمام في البرهان: يزعمون أن
الصيغ الموضوعة للجمع نصوص في الجمع محتملات فيما عداه،
إذا لم تثبت قرينة تقتضي تعديها عن أقل المراتب" إرشاد
الفحول "1/ 425-426" وانظر: البرهان "1/ 322". =
ج / 2 ص -11-
الأول:
كل اسم عرّف بالألف واللام لغير المعهود1.
وهو ثلاثة أنواع:
الأول: ألفاظ الجموع، كالمسلمين والمشركين، والذين.
والنوع الثاني: أسماء الأجناس، وهو ما لا واحد له من لفظه،
كالناس، والحيوان، والماء، والتراب.
والنوع الثالث: لفظ الواحد2: كالسارق، والسارقة، والزاني،
والزانية، و{إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْر}13.
القسم الثاني: من ألفاظ العموم: ما أضيف من هذه الأنواع
الثلاثة4 إلى معرفة، كعبيد زيد، ومال عمرو5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال الشوكاني: "ولا يخفاك أن قولهم: موضوع للخصوص. مجرد
دعوى ليس عليها دليل، والحجة قائمة عليهم لغة وشرعًا
وعرفًا، وكل من يفهم لغة العرب واستعمالات الشرع لا يخفى
عليه هذا".
1 لأن المعرف بلام العهد ليس عامًّا، وإنما يدل على ذات
معينة، مثل: "لقيت رجلًا، فقلت للرجل".
2 ويعبر عنه: بالمفرد المحلى باللام غير العهدية، وكونه من
صيغ العموم هو مذهب الشافعي وأحمد وابن برهان وأبي الطيب
والبويطي ونقله الآمدي عن أكثر العلماء، ونقله الفخر
الرازي عن الفقهاء والمبرد، وهو الذي رجحه البيضاوي وابن
الحاجب. انظر القواعد والفوائد الأصولية ص194، نهاية السول
"2/ 80"، شرح الكوكب المنير "3/ 133-134".
3 سورة العصر2. والدليل على أن اللام هنا للجنس: الاستثناء
الوارد بعدها، وهو قوله تعالى: {إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا
بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر}.
4 وهي: ألفاظ الجموع، وأسماء الأجناس، والمفرد المحلى
بالألف واللام.
5 المثال الأول: جمع منكر، مضاف إلى معرفة، والثاني: اسم
جنس مضاف لمعرفة أيضًا. =
ج / 2 ص -12-
القسم
الثالث: أدوات الشرط: كـ"مَن" فيمن يعقل، و"ما" فيما لا
يعقل، و"أي" في الجميع1، و"أين" و"أيان" في المكان2 و"متى"
في الزمان، ونحوه.
كقوله:
{وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه}3
و{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاق}4 و{أَيْنَمَا
تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْت}5، وقوله عليه السلام:
"أيُّما امرأةٍ نكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ
وَليِّهَا...."6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ومثال المفرد المحلى بالألف واللام: السارق، والزانية.
قال الطوفي: "وهو إذا أضيف إلى معرفة لا يقتضي العموم؛
لأنه لا جمع في لفظه، بخلاف عبيد، ومال؛ لأن فيهما جمعًا
حقيقيًّا في نحو: عبيد زيد أو معنويًّا في نحو: مال زيد،
والمال جنس يشمل أنواعًا، أما السارق والزاني ونحوهما، فلم
يوضع لفظه ليدل على جمع لفظي ولا معنوي، بل ليدل على ذات
متصفة بفعل صدر عنها، أو قام بها، وليس من لوازم ذلك: جمع
ولا إفراد إلا بطريق الفرض". شرح الطوفي "2/ 467".
1 أي: تشمل من يعقل ومن لا يعقل.
2 هكذا في جميع النسخ، ولعل ذلك من تحريف النساخ، فإن
"أيان" للزمان، دل على ذلك القرآن الكريم. قال الله تعالى:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف: 187، والنازعات: 42].
قال الشيخ الطوفي: "وجعل الشيخ أبو محمد أين وأيان جميعًا
للمكان، وهو سهو، بل أين وحدها للمكان، وأيان للزمان؛ لأن
أصلها: أيَّ أوَانٍ يكون كذا، ثم ركبت الكلمتان بعد الحذف
تخفيفًا، وجعلا كلمة واحدة...." شرح مختصر الروضة "2/ 471
وما بعدها".
3 سورة الطلاق من الآية "3".
4 سورة النحل من الآية "96".
5 سورة النساء من الآية "78".
6 أخرجه أبو داود: كتاب النكاح -باب الولي- من حديث عائشة،
رضي الله عنها =
ج / 2 ص -13-
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مرفوعًا بلفظ: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها
فنكاحها باطل". كما أخرجه عنها: الترمذي: كتاب النكاح، باب
ما جاء لا نكاح إلا بولي، وقال: "حديث حسن"، وابن ماجه:
كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، وأحمد في مسنده "6/
47"، كما رواه الدارمي والدارقطني والحاكم وغيرهم. انظر:
نصب الراية للزيلعي "3/ 184-185".
1 سورة آل عمران من الآية "185".
2 سورة الأعراف من الآية "34".
3 سورة الزمر من الآية "62".
4 سورة الأنعام من الآية "101"
5 سورة البقرة من الآية "255".
أما النكرة في سياق الأمر: ففيها خلاف بين العلماء، فمنهم
من قال: تفيد العموم مثل النكرة في سياق النفي، ومنهم من
قال: لا تفيد العموم، وهو رأي الجمهور.
ومن أمثلته: "أعتق رقبة" فالجمهور يقولون: إنه لا يفيد
العموم، لأنه مطلق، والمطلق ليس بعام، كما تقدم في تعريفه.
وقال البعض: إنه يعم؛ لأنه لو لم يكن عامًّا، لما خرج
المأمور عن عهدة الأمر بعتق أي رقبة كانت.
قال الطوفي: "وفي هذا نظر؛ لأنه إنما خرج عن عهدة الأمر
بذلك؛ لأنه مأمور برقبة مطلقة، والمطلق يكفي في امتثاله
إيجاد فرد من أفراده؛ لأن الواجب فيه تحصيل الماهية، وهي
حاصلة بفرد من أفراده، كما لو قال: صلِّ صلاةًَ، أو: صم
يومًا. والله تعالى أعلم". شرح مختصر الروضة "2/ 473".
ج / 2 ص -14-
قال
البستي1: الكامل في العموم: هو الجمع، لوجود صورته ومعناه،
وما عداه قاصر في العموم؛ لأنه بصيغته إنما يتناول واحدًا،
لكنه ينتظم جمعًا من المسميات معنى، فالعموم قائم بمعناها،
لا بصيغتها.
[هل للعموم صيغة تخصه حقيقة]2
واختلف الناس في هذه الأقسام الخمسة:
فقالت الواقفية: لا صيغة للعموم، بل أقل الجمع داخل فيه
بحكم الوضع، وفيما زاد عليه، فيما بين الاستغراق وأقل
الجمع: مشترك كاشتراط لفظ "النفر" بين الثلاثة والخمسة3.
وحكي مثل ذلك عن محمد بن شجاع الثلجي4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي، من أهل
"بست" من بلاد "كابول" فقيه محدث، من نسل زيد بن الخطاب
"أخي عمر بن الخطاب" ولد سنة "319هـ".
من مؤلفاته: معالم السنن في شرح سنن أبي داود، بيان إعجاز
القرآن. توفي سنة "388هـ" انظر: وفيات الأعيان "1/ 166"
والأعلام "2/ 304" وخلاصة رأيه: أن لفظ الجمع، كالمسلمين،
والمشركين، أكمل في باب العموم من غيره من ألفاظ العموم
الأخرى؛ لأن لفظ الجمع يفيد التعدد، كما أن معناه يفيد
التعدد أيضًا، بخلاف غيره، فإن التعدد في مدلوله، لا في
لفظه، انظر شرح ذلك بتوسع في شرح مختصر الروضة "2/
474-475".
2 سبق أن أوضحنا مذاهب العلماء في هذه المسألة في أول فصل:
ألفاظ العموم.
3 خلاصة رأي الواقفية: أن الصيغ المتقدمة لم توضع لعموم
ولا لخصوص، بل موضوعة لأقل الجمع "على الخلاف في أقله كما
سيأتي" وما زاد على أقل الجمع يكون مشتركًا بينه وبين
الاستغراق. انظر: المستصفى "3/ 250"، وشرح مختصر الروضة
"2/ 475" وما بعدها.
4 هو: محمد بن شجاع الثلجي البغدادي، أبو عبد الله، فقيه
العراق في وقته، من =
ج / 2 ص -15-
قالوا1: لأن أقل الجمع مستيقن، وفيما زاد مشكوك، يحتمل أن
يكون مرادًا، وأن لا يكون مرادًا، فيحمل على اليقين2.
ولأن3 وضع هذه الصيغ للعموم: إما أن يعلم بعقل، أو بنقل.
فالعقل لا مدخل له في اللغات.
والنقل: إما تواتر، وإما آحاد:
فالآحاد لا يحتج بها.
والتواتر لا يمكن دعواه.
ثم لو كان لأفاد علمًا ضروريًّا.
ولأنا4 لما رأينا العرب تستعمل الألفاظ المشتركة في جميع
مسمياتها: قضينا بأنها مشتركة، وأن من ادعى أنها حقيقة في
أحدهما، مجاز في الآخر: كان متحكمًا.
وهذه الصيغ تستعمل في العموم والخصوص، بل استعمالها في
الخصوص أكثر في الكتاب والسنة، وليس أحدهما أولى من الآخرن
فهما قولان متقابلان، فيجب تدافعهما، والقول والاعتراف
بالاشتراك.
ولأنه5 يحسن الاستفهام، فلو قال: "من دخل داري فأعطه
درهمًا"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أصحاب أبي حنيفة، شرح فقه الإمام أبي حنيفة، واحتج له،
كان يميل إلى الاعتزال، ولد سنة "181هـ" وتوفي سنة "266هـ"
انظر: الوافي بالوفيات "3/ 148" والأعلام "6/ 157".
1 أي: الواقفية ومن معهم. وهو منسوب لأبي الحسن الأشعري،
وأبي بكر الباقلاني، وبعض المتكلمين.
2 هذا هو الدليل الأول لهم.
3 هذا هو الدليل الثاني
4 هذا دليل ثالث لهم.
5 هذا دليل رابع.
ج / 2 ص -16-
حسن أن
يقول: "وإن كان فاسقًا"؟ ولو عم اللفظ: لما حسن الاستفسار.
ولنا دليلان1:
أحدهما: إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- فإنهم مع أهل اللغة
بأجمعهم، أجروا ألفاظ الكتاب والسنة على العموم، إلا ما دل
على تخصيصه دليل؛ فإنهم كانوا يطلبون دليل الخصوص، لا دليل
العموم: فعملوا بقوله تعالى:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُم}2 واستدلوا به على إرث فاطمة3 -رضي الله عنها- حتى نقل أبو بكر، رضي
الله عنه:
"نحنُ معاشِرَ
الأنْبِيَاءِ لا نُورَثُ، ما تَرَكْنَاه صَدَقة"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بدأ المصنف يستدل لمذهب الجمهور على أن الصيغ المتقدمة
موضوعة للعموم، فتحمل على عمومها، حتى يدل دليل على
الخصوص.
2 سورة النساء من الآية "11".
3 هي: فاطمة الزهراء بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
من السيدة خديجة -رضي الله عنها- ولدت قبل البعثة بستة
أشهر، وهي أصغر بنات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
تزوجها علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- بعد واقعة أحد، وهي
أم الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم، ولها مناقب عظيمة، فهي
سيدة نساء المؤمنين. توفيت -رضي الله عنها- سنة "11هـ" بعد
وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بستة أشهر. انظر:
الإصابة "4/ 377" والاستيعاب "4/ 373"، حلية الأولياء "2/
39".
4 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الخُمس- باب فرض الخُمس-
حديث"2" وكتاب فضائل الصحابة - باب مناقب قرابة رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- حديث "207" وكتاب المغازي - باب غزوة
خيبر حديث "256"، وكتاب الفرائض- باب قول النبي، صلى الله
عليه وسلم:
"لا نورث ما تركنا صدقة".
كما أخرجه مسلم: كتاب الجهاد -باب قول النبي، صلى الله
عليه وسلم:
"لا نورث ما تركنا فهو صدقة"، حديث "52/ 1759" عن عائشة -رضي الله عنها- أن فاطمة أرسلت إلى أبي
بكر -رضي الله عنه- تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله
عليه وسلم، مما أفاء الله عليه بالمدينة وفَدَك ومما بقي
من خمس خيبر. فقال أبو بكر: إن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- =
ج / 2 ص -17-
وأجروا
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة}1،
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}2،
و{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا}3، و{وَذَرُوا
مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا}4،
{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم}5 و{لا
تَقْتُلُوا الصَّيْد}6، و"لَا تُنْكَحُ المَرْأَة على عَمَّتِها"7، "ومَنْ أَغْلَقَ عليه بابَهُ فهو آمِنٌ"8، و" لا يَرِثُ القَاتِلُ"9، وغير ذلك مما لا يحصى على العموم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال: "لا نورث ما تركناه صدقة" وللحديث روايات أخرى
صحيحة. يراجع فيها: المنتقى ص524.
1 سورة المائدة من الآية "38".
2 سورة النور من الآية "2".
3 سورة الإسراء من الآية "33".
4 سورة البقرة من الآية "278".
5 سورة النساء من الآية "29".
6 سورة المائدة من الآية "95".
7 حديث صحيح: أخرجه البخاري -كتاب النكاح- باب لا تنكح
المرأة على عمتها- من حديث جابر وأبي هريرة -رضي الله
عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن تنكح المرأة
على عمتها أو خالتها، وفي رواية: نهى أن يجمع بين المرأة
وعمتها وبين المرأة وخالتها.
كما أخرجه مسلم: كتاب النكاح -باب تحريم الجمع بين المرأة
وعمتها أو خالتها في النكاح- من حديث أبي هريرة.
وأخرجه عنه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه
وغيرهم. انظر: نصب الراية "3/ 169/ 170".
8 أخرجه مسلم: كتاب الجهاد والسير -باب فتح مكة، وأبو
داود: كتاب الخراج والفيء والإمارة- باب ما جاء في خبر مكة
-ولفظه: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه
بابه فهو آمن" كما أخرجه أحمد في المسند "2/ 292، 538".
9 أخرجه مالك في الموطأ: كتاب العقول -باب ما جاء في ميراث
العقل والتغليظ =
ج / 2 ص -18-
ولما
نزل قوله تعالى:
{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}1 قال ابن أم مكتوم2: "إني ضرير البصر" فنزل:
{غَيْرُ أُولِي الضَّرَر} فعَقَل الضرير وغيره من عموم اللفظ3.
ولما نزل
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ
جَهَنَّمَ}4 قال ابن الزبعري5: لأخصمن محمدًا، فقال له: قد عُبدت الملائكة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فيه -عن عمر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- يقول: "ليس للقاتل شيء".
كما أخرجه أبو داود: كتاب الديات- باب ديات الأعضاء، وابن
ماجه: كتاب الديات- باب القاتل لا يرث، وأحمد في المسند
"1/ 49"، والبيهقي: كتاب الفرائض- باب لا يرث القاتل.
السنن الكبرى "6/ 220".
قال المصنف في المغني "9/ 150": "أجمع أهل العلم على أن
قاتل العمد لا يرث من المقتول شيئًا، إلا ما حكي عن سعيد
بن المسيب وابن جبير، أنهما ورّثاه، وهو رأي الخوارج، لأن
آية الميراث تتناوله بعمومها، فيجب العمل بها فيه. ولا
تعويل على هذا القول؛ لشذوذه، وقيام الدليل على خلافه".
1 سورة النساء، من الآية "95".
2 هو: عمرو بن أم مكتوم بن قيس بن زائدة، صحابي جليل، وهو
الذي نزل في حقه أول سورة "عبس وتولى"، وكان رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- بعدها يزيد في إكرامه، وكان يستخلفه
على الصلاة في المدينة في أكثر غزواته، روى أنه شهد
القادسية واستشهد بها، رضي الله عنه.
انظر: الإصابة "4/ 87، 4/ 600"، البداية والنهاية "7/ 49".
3 عبارة الغزالي في المستصفى "3/ 233": "فعَقل الضرير
وغيره عموم لفظ المؤمنين" وهي أوضح من عبارة المصنف.
4 سورة الأنبياء من الآية "98".
5 هو: عبد الله بن الزبعري بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم
القرشي السهمي، صحابي جليل، كان من شعراء قريش، ومن أشد
الناس عداوة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- =
ج / 2 ص -19-
والمسيح، أفيدخلون النار؟ فنزل:
{إِنَّ
الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ
عَنْهَا مُبْعَدُون}1.
فعقَل العموم، ولم ينكر عليه، حتى بين الله -تعالى- المراد
من اللفظ. ولما أراد أبو بكر -رضي الله عنه- قتال مانعي
الزكاة، قال له عمر: كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله، صلى
الله عليه وسلم:
"أُمِرْتُ أنْ أقاتِلَ الناس حَتَّى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وللمسلمين، ثم أسلم بعد فتح مكة، وحسن إسلامه، واعتذر
لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقبل عذره، انظر في
ترجمته "الإصابة 2/ 300-303"، أسد الغابة 3/ 239-240".
1 سورة الأنبياء الآية "101".
والقصة رواها الطبراني في الكبير "12739" عن ابن عباس -رضي
الله عنهما- قال: لما نزلت:
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ
جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُون} قال عبد الله بن الزبعري: أنا أخصم لكم محمدًا، فقال: يا محمد،
أليس فيما أنزل الله عليك:
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ
جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُون} قال: "نعم" قال: فهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيرًا،
وهذه بنو تميم تعبد الملائكة، فهؤلاء في النار؟ فأنزل
الله، عز وجل:
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ
عَنْهَا مُبْعَدُونَ}
كما أوردها السيوطي في الدر المنثور "5م 679"، والحاكم في
المستدرك
2/ 384-385"، وابن جرير في تفسيره "17/ 97-98" وعوّل على
أن "ما" في قوله تعالى:
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُون}
عند العرب لغير العاقل
أما ابن كثير فقال: "وهذا الذي قاله ابن الزبعري خطأ كبير؛
لأن الآية إنما نزلت خطابًا لأهل مكة في عبادتهم الأصنام
التي هي جماد لا تعقل، ليكون ذلك تقريعًا وتوبيخًا
لعابديها، ولهذا قال:
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ
جَهَنَّم} فكيف يورد على هذا المسيح والعزير ونحوهما ممن له عمل صالح ولم يرض
بعبادة من عبده"؟!
ج / 2 ص -20-
يقولوا:
يقولوا لا إِلَه إِلّا اللّهُ..."1
الحديث. فلم ينكر أبو بكر احتجاجه، بل قال: أليس قد قال:
"إِلّا بِحَقِّهَا" والزكاة من حقها.
واختلف عثمان وعلي في الجمع بين الأختين2:
فاحتج عثمان بقوله تعالى:
{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُم}3.
واحتج علي بعموم قوله تعالى:
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْن}4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الزكاة- باب وجوب
الزكاة، وفي كتاب الاعتصام- باب الاقتداء بسنن رسول الله
صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-
مرفوعًا ولفظه:
"أمرت أن
أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها
عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها".
كما أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى
يقولوا: لا إله إلا الله، وأبو داود: كتاب الجهاد، باب
علام يقاتل المشركون؟
كما أخرجه ابن ماجه، والترمذي، والنسائي وغيرهم.
2 أي: بملك اليمين، أما الجمع بين الأختين في الزواج فمجمع
على تحريمه، لقوله -تعالى- في آية المحرمات من النساء:
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْن}.
3 سورة المؤمنون "6" والمعارج "30".
4 سورة النساء من الآية "23".
فآية سورة "المؤمنون" و"المعارج" تفيد إباحة الجمع، وآية
سورة النساء تفيد التحريم، ولذلك روي عن عثمان -رضي الله
عنه- لما سئل عن الجمع بين الأختين، بملك اليمين قال: "لا
آمرك ولا أنهاك، أحلتهما آية وحرمتهما آية"، والتحريم
أولى" انظر: تفسير القرطبي "5/ 117"، والموطأ "3/ 148".
ج / 2 ص -21-
ولما
سمع عثمان بن مظعون1 قول لبيد2:
....................
وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحالَةَ زَائلُ
قال له: كذبت، إن نعيم
الجنة لا يزول3.
وهذا وأمثاله مما لا ينحصر كثرة، يدل على اتفاقهم على فهم
العموم من صيغته، والإجماع حجة.
ولو لم يكن إجماعهم حجة، لكان حجة من حيث إنهم أهل اللغة،
وأعرف بصيغتها وموضوعاتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب، القرشي الجمحي، أبو
السائب، صحابي جليل، هاجر الهجرتين، وشهد بدرًا، توفي سنة
"2هـ" ودفن بالبقيع. انظر: الإصابة "2/ 464" والاستيعاب
"3/ 58".
2 هو: لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن
ربيعة، أبو عقيل الشاعر المعروف، صاحب المعلقة. قال النبي،
صلى الله عليه وسلم: "أصدق كلمة قالها شاعر: كلمة لبيد:
أَلا كُلُّ شيءٍ ما خَلا اللّهَ باَطِلُ".
مات بالكوفة سنة "41هـ"
انظر الإصابة "5/ 675" والاستيعاب "3/ 1235". وقول لبيد
هذا: عجز بيت صدره:
ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل
................................
انظر: ديوان لبيد ص256،
الشعر والشعراء لابن قتيبة "1/ 297".
3 انظر: الموشح للمرزباني ص100، وقد نسب هذا التكذيب إلى
أبي بكر، رضي الله عنه.
والأدلة على أن نعيم الجنة دائم لا ينقطع كثيرة، منها قوله
تعالى:
{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا
دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ
رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:
108] وجاء في الصحيحين
"يؤتى بالموت
في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل
الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت".
انظر: تفسير ابن كثير "2/ 442" طبعة دار زمزم.
ج / 2 ص -22-
المسلك
الثاني1: أن صيغ العموم يحتاج إليها في كل لغة، ولا تختص
بلغة العرب.
فيبعد جدًّا أن يغفل عنها جميع الخلق، فلا يضعونها مع
الحاجة إليها.
ويدل على وضعه2: توجه الاعتراض على من عصى الأمر العام،
وسقوطه عمن أطاع، ولزوم النقض والخلف على الخبر العام،
وبناء الاستحلال3 والأحكام على الألفاظ العامة.
فهذه أربعة أمور تدل على الغرض.
وبيانها: أن السيد إذا قال لعبده: "من دخل داري فأعطه
رغيفًا" فأعطى كل داخل: لم يكن للسيد أن يعترض عليه.
ولو قال: "لِمَ أعطيت هذا وهو قصير" وإنما أردت الطوال؟
فقال: "ما أمرتني بهذا، وإنما أمرتني بإعطاء كل داخل" فعرض
هذا على العقلاء: رأوا اعتراض السيد ساقطًا، وعذر العبد
متوجهًا.
ولو أن العبد حرَم واحدًا، فقال له السيد: "لِمَ لم تعطه"؟
فقال: "لأن هذا أسود، ولفظك ما اقتضى العموم، فيحتمل أنك
أردت الأبيض" استوجب التأديب عند العقلاء، وقيل له: "ما لك
وللنظر إلى اللون، وقد أمرت بإعطاء كل داخل"؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الدليل الثاني على أن هذه الصيغ موضوعة للعموم، وكان
قد قال في بداية كلامه: "ولنا دليلان".
2 أي: مما يدل على أنها موضوعة للعموم: توجه الاعتراض على
من يعصي أمر المتكلم بكلام عام، وسقوط هذا الاعتراض عمن
أطاع.
3 أي: كونه حلالًا.
ج / 2 ص -23-
وأما
النقض: فإنه لو قال: "ما رأيت أحدًا" وكان قد رأى جماعة:
كان كلامه خلفًا1 ومنقوضًا وكذبًا.
ولذلك قال الله تعالى:
{... قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ
شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ
مُوسَى}2.
وإنما أورد هذا نقضًا على كلامهم، فإن لم يكن هذا عامًّا:
فلِمَ أورد النقض عليهم؟
فإن هم أرادوا3 غير موسى، فلِمَ لزم دخول موسى تحت اسم
البشر؟
وأما إثبات الاستحلال والأحكام: فإذا قال: "أعتقت عبيدي
وإمائي" ومات عقيبه، جاز لمن سمع أن يزوج عبيده، ويتزوج من
إمائه بغير رضا الورثة.
ولو قال: "العبيد الذين في يدي ملك فلان": كان إقرارًا
محكومًا "به"4 في الكل.
ولو ادعى على رجل دينًا فقال5: "مالك عليّ شيء" كان
إنكارًا لدعواه، ولو حلف على ذلك: بريء في الحكم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المصباح المنير "1/ 179": "الخَلْف: وزان فلس: الرديء
من القول، يقال: سكت ألفًا ونطق خلْفًا: أي: سكت عن ألف
كلمة، ثم نطق بخطإ. وقال أبو عبيد في كتاب الأمثال: الخلف
من القول: هو السقط الرديء، كالخلْف من الناس".
2 سورة الأنعام من الآية "91".
3 في جميع النسخ "فلعلهم أرادوا" وما أثبتناه من المستصفى
لوضوحه.
4 ما بين القوسين من المستصفى.
5 أي: المدعى عليه، والسبب في ذلك: أن الأصل براءة ذمته،
ولذلك اكتفى منه باليمين، بخلاف الصورة الآتية.
ج / 2 ص -24-
ولو
كان له عليه دين، فحلف هذه اليمين، كان كاذبًا آثمًا1.
وبناء أمثال هذه الأحكام على العموم لا ينحصر.
فإن قيل: إنما ثبت هذا الذي ذكرتموه بالقرائن، لا بمجرد
اللفظ.
قلنا: هذا باطل؛ فإنه لو قدر انتفاء القرائن: لفهم العموم:
فإنه لو قدر أن سيدًا أمر عبدًا له لم يعرف له عادة، ولا
عاشره زمانًا بأمر عام، ولا يعلم له غرضًا في إثباته
وانتفائه، لتمهد عذره في العمل بعمومه، وتوجه إليه اللوم
بترك الامتثال.
ولو قال: "كل عبد لي حرٌّ" ولم تعلم منه قرينة أصلًا:
حكمنا بحرية الكل.
وتقدير قرينة -ههنا- كتقدير قرينة في سائر أنواع أدلة
الكتاب والسنة، وهذا يبطلها بأسرها.
ولأن اللفظ لو لم يكن للعموم: لخلا عن الفائدة، واختلت
أوامر الشرع العامة كلها؛ لأن كل واحد يمكنه أن يقول: "لم
أعلم أنني مراد بهذا الأمر، ولا في اللفظ دلالة على أنني
مراد به، ولا يلزمني الامتثال". وكذلك النواهي، يقول: "لست
مخاطبًا بالنهي لعدم دلالته على العموم في حقي" فتختل
الشريعة، وتبطل دلالة الكتاب والسنة.
ولا يصح من أحد الاحتجاج بلفظ عام في صورة خاصة، لعدم
دلالته عليها. ولا يقدر أحد أن يأمر جماعة، ولا ينهاهم،
ولا يذكر لهم شيئًا يعمهم بلفظ واحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه أقر له بالحق، فالحق ثابت في ذمته، فلو حلف على أنه
أداه لم يقبل منه، فلا بد من البينة على أنه قد أداه، حتى
تبرأ ذمته. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى -وهي محل الشاهد-
أن الأول خاص والثاني عام.
ج / 2 ص -25-
وهذا
باطل يقينًا، وفاسد قطعًا، فوجب اطّراحه.
وأما حجة الواقفية: فحاصلها: مطالبة بالدليل، وليس بدليل1.
ثم قد ذكرنا وجه الدليل على التعميم، وأنها إنما تستعمل
على الخصوص مع قرينة.
وإنما حسن الاستفسار عن الفاسق؛ لأنه يفهم من الإعطاء:
الإكرام، ويفهم من عادة الناس أنهم لا يكرمونهم.
فلتوهم القرينة المخصصة: حسن السؤال.
ولذلك: لم يحسن في بقية الصفات، ولأنه لو لم يراجع، وأعطى
الفاسق: لكان عذره متمهدًا.
ثم إنه إنما حسن الاستفهام لظهور التجوز به عن الخصوص،
فلذلك كان للمستفهم الاحتياط في طلبه.
ولهذا دخل التوكيد في الكلام، لرفع اللبس، وإزالة الاتساع.
ولهذا يحسن الاستفهام في الخاص، فإذا قال: "رأيت الخليفة"
قيل له: "أنت رأيته"؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أن حجة الواقفية: هي مطالبة الجمهور بدليل يدل على
العموم، والمطالبة بالدليل لا تعتبر دليلًا، ومع ذلك أقام
المصنف الأدلة على أنها تفيد العموم، ولا تدل على الخصوص
إلا مع قرينة.
ج / 2 ص -26-
فصل: [في الخلاف في عموم بعض الصيغ]
وقد قال قوم بالعموم، إلا فيما فيه الألف واللام1.
وقال آخرون: بالعموم، إلا في اسم الواحد بالألف واللام2.
وقال بعض النحويين المتأخرين في "النكرة في سياق النفي" لا
تعم، إلا أن تكون فيه "مِنْ" مظهرة، كقوله تعالى:
{وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ}3، أو مقدرة، كقوله تعالى:
{لا إِلَهَ إِلَّا اللَّه}4، بدليل أنه يحسن أن يقال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حكى الطوفي في المسألة مذاهب أخرى حكاها عن الآمدي، بعد
أن نقل ما قاله المصنف، فقال: "وقال الآمدي: ذهبت المرجئة
إلى أن العموم لا صيغة له في اللغة تخصه. وذهب الشافعي
وأكثر الفقهاء إلى أن الصيغ المذكورة حقيقة في العموم،
مجاز فيما عداه.
ومنهم من عكس الحال، يعني: أنها مجاز في العموم، حقيقة
فيغيره.
ومنهم من خالف في عموم اسم الجمع، واسم الجنس المعرف دون
غيره، كأبي هاشم.
واختلف قول الأشعري في الاشتراك والوقف، ووافقه القاضي في
الوقف.
ومنهم من وقف في الأخبار والوعد والوعيد، دون الأمر
والنهي.
قال الآمدي: والمختار أن الصيغ المذكورة حجة في الخصوص
لتيقنه، والوقف فيما وراء ذلك" شرح مختصر الروضة "2/ 477".
2 مثل: الدينار خير من الدرهم.
3 سورة "ص" من الآية 65".
4 سورة الصافات من الآية "35" وتمام الآية:
{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
يَسْتَكْبِرُونَ}
وسورة محمد من الآية "19"
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ
وَمَثْوَاكُم}.
ج / 2 ص -27-
ما
عندي رجل، بل رجلان1.
ومن أنكر أن الألف واللام للاستغراق قال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا دليل بعض النحويين الذين أنكروا إفادة النكرة
للعموم، إلا إذا كانت هناك "من" مظهرة أو مقدرة.
وقد وضحه الطوفي فقال: "وتقرير حجته: أنه يحسن أن يقال: ما
عندي رجل، بل رجلان، ولا يحسن أن يقال: ما عندي من رجل، بل
رجلان، وذلك يدل على أن: ما عندي من رجل يعم، لامتناع
إثبات الزيادة عليه، لافضائه إلى التناقض في عرف اللسان،
وأن: ما عندي رجل، لا يعم، لجواز الزيادة عليه وعدم إفضائه
إلى التناقض في عرف اللسان، ولا فرق بين الصورتين إلا
إثبات "من" وعدمها" فدل على أنها هي المؤثرة في العموم في
هذا الباب، ويلحق بثبوتها تحقيقًا، ثبوتها تقديرًا
لاشتراكهما في المعنى.
وسر هذا التقدير: أن "من" موضوعة للدلالة على الجنس، فإذا
دخل النفي عليها تحقيقًا أو تقديرًا، كما سبق مثاله، أفاد
نفي الجنس، وهو معنى الاستغراق والعموم، وإذا لم يدخل
عليها، لم يفد نفي الجنس، بل نفي الشخص المذكور مبهمًا.
مثاله: "ما في الدار من رجل" يقتضي نفي جنس الرجال من
الدار، و"ما في الدار رجل" يقتضي نفي رجل واحد مبهم من جنس
الرجال...." شرح مختصر الروضة "2/ 486-487".
ثم أجاب عن هذا الاستدلال فقال: "إن النفي إذا وقع على
النكرة، اقتضى نفي ماهيتها، وماهيتها لا تنتفي إلا بانتفاء
جميع أفرادها، كما إذا قال: "لا صلاة بغير طهور" فإنه نفي
لماهية الصلاة، وهو لا يحصل إلا بانتفاء جميع أفراد الصلاة
بغير طهور في جميع الأوقات والأماكن. وهذا الدليل قاطع في
العموم، وحينئذ يجب تأويل ما ذكرت أيها الخصم من الدليل
على عدم العموم؛ لأنه غير قاطع، وما ذكرناه قاطع، وإذا
اجتمع القاطع وغيره، كان تقديم القاطع -ما لم يعارضه
معارض- أولى" المصدر السابق ص488.
ج / 2 ص -28-
يحتمل
أن تكون للمعهود.
ويحتمل أن تكون للاستغراق.
ويحتمل أنها لجملة من الجنس.
فما دليل التعميم؟1
ثم وإن سلم في البعض، فما قولكم في جمع القلة، وهو ما ورد
على وزن الأفعال، كالأحمال، والأَفْعُل، كالأكلُب،
والأكعُب، والأَفْعِلَة، كالأرغفة، والفِعلة، كالصبية؟
فقد قال أهل اللغة: إنه للتقليل وهو ما دون العشرة.
وقال ناس بالتعميم، إلا في لفظة المفرد المحلى بالألف
واللام؛ لأنه لفظ واحد، والواحد ينقسم إلى: واحد بالنوع،
وواحد بالذات.
فإذا دخله التخصيص علم أنه ما أراد الواحد بالنوع، فانصرف
إلى الواحد بالذات.
قلنا: ما ذكرناه من الاستدلال جار فيما فيه الألف واللام،
وفي النكرة في سياق النفي، فإنه إذا قال لعبده: "أعط
الفقراء والمساكين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا دليل القائلين بأن الصيغ المتقدمة تفيد العموم، ما
عدا المقترن باللام، وحجتهم على ذلك: أن اللام تستعمل
للمعهود تارة كما في قوله تعالى:
{... كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصَى
فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}
[المزمل: 15-16] كما تستعمل لبعض الجنس تارة، مثل: شربت
الماء، وأكلت الخبز، والمراد بعضه. وتستعمل للاستغراق، كما
في قوله تعالى:
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَر} [القمر: 54].
وإذا كانت تستعمل في هذه المعاني، كان اختصاصها بإفادة
العموم ترجيحًا بدون مرجح. انظر: شرح الطوفي "2/ 485".
وسيأتي رد المصنف على ذلك.
ج / 2 ص -29-
واقتل
المشركين1، واقطع السارق والسارقة، وارجم الزانية
والزاني2، ولا تؤذ مسلمًا، ولا تجعل مع الله إلهًا"3
واقتصر عليه، وانتفت القرائن، جرى فيه حكم الطاعة
والعصيان، وتوجه الاعتراض وسقوطه.
ولو قال: "والله لا آكل رغيفًا": حنث إذا أكل رغيفين.
وقد قال الله، تعالى:
{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَة}4،
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد}5
{وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}6،
{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة}7،
{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ
مِنْ نُور}8.
ولا يحل أن يقال في مثل هذا: إن اللفظ ما اقتضى التعميم9.
وقولهم: "إن الألف واللام للمعهود".
قلنا: إنما يصرف إلى المعهود عند وجوده، وما لا معهود فيه
يتعين حمله على الاستغراق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه أمثلة لما كان له واحد من لفظه.
2 هذه أمثلة لما كان لفظه واحد وقد دل على العموم.
3 هذان مثالان للنكرة في سياق النفي، وقد أفادت العموم
أيضًا.
4 سورة الأنعام من الآية "101".
5 سورة الإخلاص "4".
6 سورة الكهف من الآية "49".
7 سورة النساء من الآية "40".
8 سورة النور من الآية "40".
9 قصد المؤلف من إيراد هذه الأمثلة: أن يقيم الأدلة على أن
في الألفاظ العربية ما هو موضوع للعموم، ومنها ما هو موضوع
للخصوص، والقرآن الكريم نزل باللسان العربي، فيجب الاحتكام
إليه عند الاختلاف.
ج / 2 ص -30-
وهذا
لأن الألف واللام للتعريف، فإذا كان ثم معهود فحمل عليه
حصل التعريف.
وإن لم يكن ثم معهود فصرف إلى الاستغراق، حصل التعريف
أيضًا.
وإن صرف إلى أقل الجمع أو إلى واحد، لم يحصل التعريف، وكان
دخول اللام وخروجها واحدًا.
ولأنهما إذا كانا للعهد استغرقا جميع المعهود، فإذا كانا
للجنس يجب أن يستغرقا.
وأما جمع القلة: فإن العموم إنما يتلقى من الألف واللام.
ولهذا استفيد1 من لفظ الواحد في مثل: السارق والسارقة،
والدينار أفضل من الدرهم و"أهْلَك الناسَ الدينارُ والدرهمُ"2.
ولذلك صح توكيده بما يقتضي العموم، وجاز الاستثناء منه،
كقوله تعالى:
{إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}3، والاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت الخطاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: العموم.
2 حديث صحيح: أخرجه البخاري من حديث أبي بكر بن عياش، عن
أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعًا، وابن ماجه
بلفظ "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم"، وفي رواية "تعس عبد
الدينار وعبد الدرهم وعبد الحلة وعبد الخميصة". وفي لفظ
للعسكري، من حديث الحسن، عن أبي هريرة مرفوعًا: "لعن" بدل
"تعس".
انظر: المقاصد الحسنة ص257، كشف الخفا "1/ 366".
3 سورة العصر "2، 3".
ج / 2 ص -31-
فقوله:
"إنه يصح أن يقول: ما عندي رجل، بل رجلان"1.
قلنا: قوله: "بل رجلان" قرينة لفظية تدل على أنه استعمل
لفظ العموم في غير موضوعه.
ولا يمنع ذلك من حمله على موضوعه عند عدم القرينة، كما أن
لفظة "الأسد" إذا استعملت في الرجل الشجاع بقرينة، لا يمنع
من استعمالها في موضوعها وحملها عليه عند الإطلاق.
وأما لفظة "مِنْ" فهي من مؤكدات العموم، وتمنع من استعماله
في مجازه.
ولتأثيرها في التأكيد، ومنعها من التوسع، واستعمال اللفظ
في غير العموم: تطرق الوهم إلى القائل بنفي التعميم فيما
خلت منه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يريد المصنف أن يرد على من قال: إن النكرة في سياق النفي
لا تفيد العموم، إلا إذا كانت هناك "من" مظهرة أو مقدرة،
كما تقدم.
2 وهو رأي جمهور العلماء منهم: الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة
والشافعي وأحمد.
3 وكذلك الإمام مالك، ذكر ذلك القاضي عبد الوهاب، كما في
شرح تنقيح الفصول ص233.
4 هو: محمد بن داود بن علي بن خلف الظاهري، خلف والده في
حلقته بالتدريس =
ج / 2 ص -32-
وبعض
الشافعية1: أن أقله اثنان، لقوله تعالى:
{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُس}2 ولا خلاف في حجبها باثنين.
وقد جاء ضمير الجمع للاثنين في قوله تعالى:
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا}3،
{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا
الْمِحْرَابَ}4، وكانوا اثنين،
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}5 و{وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}6.
وقال النبي، صلى الله عليه وسلم:
"الاثنان فما فوقهما جماعة"7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وهو صغير، كان أديبًا شاعرًا، فقيهًا أصوليًّا، من كتبه:
"الوصول إلى معرفة الأصول". توفى سنة "297هـ" وفيات
الأعيان "2/ 272"، تاريخ بغداد "5/ 256".
1 كالغزالي وغيره، ولكن الصحيح عند الشافعية عمومًا هو
المذهب الأول.
2 سورة النساء من الآية "11".
3 سورة الحج من الآية "19".
4 سورة "ص" الآية "21".
5 سورة الحجرات من الآية "9".
6 سورة التحريم من الآية "4".
7 هذا الحديث روي عن أبي موسى الأشعري، وأنس بن مالك، وعبد
الله بن عمرو، والحكم بن عمير، وأبي هريرة، وأبي أمامة.
أما حديث أبي موسى: فأخرجه ابن ماجه حديث "972"
والدارقطني: باب الاثنان جماعة حديث "1"، والحاكم: كتاب
الصلاة، باب الاثنين فما فوقهما جماعة، من طريق الربيع بن
بدر بن عمرو بن جراد عن أبيه عن جده. قال الحافظ البوصيري
وابن حجر: ضعيف، وقال ابن حجر في جده "مجهول". وكذلك بقية
الطرق فيها ضعف أيضًا. يراجع فيه: تلخيص الحبير "3/ 81"،
ومجمع الزوائد "2/ 45".
ج / 2 ص -33-
ولأن
الجمع مشتق من جمع الشيء إلى الشيء وضمه إليه، وهذا يحصل
في الاثنين.
ولنا: ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال
لعثمان، رضي الله عنه: "حَجبتَ الأم بالاثنين من الإخوة،
وإنما قال الله تعالى:
{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُس}1، وليس الأخوان بإخوة في لسانك، ولا في لسان قومك؟"
فقال له عثمان: "لا أنقض أمرًا كان قبلي، وتوارثه الناس،
ومضى في الأمصار"2، فعارضه على أنه في لسان العرب ليس
بحقيقة في الاثنين، وإنما صار إليه للإجماع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء من الآية "11".
2 أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب الفرائض، باب ميراث
الإخوة من الأب والأم، ثم قال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم
يخرجاه، وتعقبه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير "3/ 85"
فقال: "وفيه نظر، فإن فيه شعبة مولى ابن عباس، وقد ضعفه
النسائي".
كما أخرجه البيهقي في سننه الكبرى: كتاب الفرائض -باب فرض
الأم- قال أبو يعلى في العدة "2/ 651": "وهذا يدل على أن
أقل الجمع ثلاثة؛ لأن ابن عباس قاله، وأقره عثمان عليه،
وإنما صرفه عنه بالإجماع الذي ذكره".
وقد بين الشيخ "ابن قدامة" في كتابه "المغني 9/ 19" أن
خلاف ابن عباس في ذلك لا يعول عليه؛ لأنه في مخالفة
الإجماع- فقال: "ولنا: قول عثمان هذا". فإنه يدل على أنه
إجماع ثم قبل مخافة ابن عباس؛ ولأن كل حجب تعلق بعدد كان
أوله اثنين كحجب البناتِ بناتِ الابن، والأخوات من الأبوين
الأخوات من الأب، والإخوة تستعمل في الاثنين، قال الله
تعالى:
{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْن}
[النساء: 176] وهذا الحكم ثابت في أخ وأخت".
ج / 2 ص -34-
دليل
آخر:
أن أهل اللسان فرقوا بين الآحاد، والتثنية، والجمع، وجعلوا
لكل واحد من هذه المراتب لفظًا وضميرًا مختصًّا به، فوجب
أن يغاير الجمع التثنية، كمغايرة التثنية الآحاد.
ولأن الاثنين لا ينعت بهما الرجال والجماعة في لغة أحد،
فلا تقول: رأيت رجالًا اثنين، ولا جماعة رجلين، ويصح أن
يقال: ما رأيت رجالًا، وإنما رأيت رجلين، ولو كان حقيقة
فيه لما صح نفيه.
وأما ما احتجوا به فغايته: أنه جاز التعبير بأحد اللفظين
عن الآخر مجازًا، كما عبر عن الواحد بلفظ الجمع في قوله
تعالى:
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا
لَكُم}1 و{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْر}2.
ثم إن "الطائفة" و"الخصم" يقع على الواحد والجمع، والقليل
والكثير، فرد الضمير إلى الجماعة الذين اشتمل عليهم لفظ
"الطائفة" و"الخصم".
وأما قوله: "الاثنان... جماعة" فأراد في حكم الصلاة، وحكم
انعقاد الجماعة، لأن كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- يحمل
على الأحكام، لا على بيان الحقائق3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران من الآية "173" والمراد بلفظ "الناس"
الأول: ركب عبد القيس، وبالثاني: أبو سفيان وقومه.
2 سورة الحجر من الآية "9".
3 ويؤيد ذلك رواية الإمام أحمد في المسند "5/ 254" عن أبي
أمامة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلًا يصلي،
فقال:
"ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه" فقام رجل يصلي معه فقال:
"هذان جماعة".
ج / 2 ص -35-
وقولهم: "إنه جمع شيء إلى شيء".
قلنا: الأسماء في اللغة لا يلزم فيها حكم الاشتقاق، على ما
مضى.
فصل: [في حكم العام الوارد على سبب خاص]
إذا ورد لفظ العموم على سبب خاص: لم يسقط عمومه1، كقوله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو رأي جمهور العلماء، حتى اشتهر بين العلماء: العبرة
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولا بد من تحرير محل النزاع
في المسألة فنقول: العام الوارد على سبب خاص له صورتان.
الصورة الأولى: أن تكون إجابة السائل غير مستقلة بنفسها،
بحيث لا تفيد شيئًا إلا إذا اقترنت بالسؤال، وهذه تابعة
للسؤال عمومًا بلا خلاف، وفي الخصوص- أيضًا- على أرجح
الأقول.
مثال العموم: ما لو سئل -صلى الله عليه وسلم- عمن جامع
امرأته في نهار رمضان، فقال: "يعتق رقبة" فهذا عام في كل
واطئ في نهار رمضان.
ومثال الخصوص: ما لو قال: وطئت في نهار رمضان عامدًا،
فيقول: "عليك الكفارة" فيجب قصر الحكم على السائل ما لم
يدل دليل على العموم.
الصورة الثانية: أن يكون الجواب مستقلًّا بنفسه بحيث لو
جاء منفردًا لأفاد معنى.
وتحت هذه الصورة ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون الجواب مساويًا للسؤال عمومًا
وخصوصًا، فهذا تابع للسؤال في العموم والخصوص.
الحالة الثانية: أن يكون الجواب أخص من السؤال، كما لو سئل
-صلى الله عليه وسلم- عن أحكام المياه عمومًا، فيقول: "ماء
البحر طهور" فإنه يخص ماء البحر فقط.
الحالة الثالثة: أن يكون الجواب أعم من السؤال. وتحته
نوعان:
النوع الأول: أن يكون أعم من السؤال في غير الحكم المسئول
عنه، كما سئل -صلى الله عليه وسلم- عن التوضؤ بماء البحر،
فأجاب: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" فقد أجاب =
ج / 2 ص -36-
-عليه السلام- حين سئل: أنتوضأ بماء البحر في حال الحاجة؟ قال:
"هُو
الطَّهُورُ مَاؤُه"1.
وقال مالك2، وبعض الشافعية3: يسقط عمومه:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عن الميتة وهي ليست مسئولًا عنها، فهذا لا خلاف في
عمومه.
النوع الثاني: أن يكون أعم من السؤال بالنسبة للحكم
المسئول عنه فقط، مثل ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- سئل
عن ماء بئر بضاعة، وهي بئر تلقي فيها الحيض والنجاسات،
فأجاب: "الماء طهور لا ينجسه شيء" فهذا النوع هو محل
الخلاف.
انظر: الإحكام للآمدي "2/ 318"، العدة "2/ 596 وما بعدها"
إرشاد الفحول للشوكاني "1/ 480 وما بعدها".
1 أخرجه أبو داود: كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر،
من حديث أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "هو الطهور ماؤه، الحل
ميتته".
كما أخرجه الترمذي: كتاب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر
أنه طهور، وابن ماجه: كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء
البحر، والنسائي: كتاب الطهارة، باب ماء البحر.... كذلك
أخرجه الدارقطني، والدارمي، ومالك في الموطأ، والشافعي،
والبيهقي وغيرهم، من طريق أبي هريرة وغيره.
انظر: تلخيص الحبير "1/ 9 وما بعدها" نصب الراية "1/ 96
وما بعدها"
2 الصحيح في النقل عن مالك أنه مع الجمهور، والعبرة بعموم
اللفظ لا بخصوص السبب.
قال صاحب مراقي السعود:
.............................
ودع ضمير البعض والأسبابا
قال الشيخ الشنقيطي في
نثر الورود على مراقي السعود "1/ 309": "هذه أربع مسائل
اختلف في التخصيص بهان والمعتمد عدم التخصيص...." ثم قال:
الثانية: سبب النزول لا يخصص العام النازل فيه...."
3 كالمزني، صاحب الإمام الشافعي، والقفال، والدقاق. وقال
إمام الحرمين: إنه =
ج / 2 ص -37-
إذ لو
لم يكن للسبب تأثير لجاز إخراج السبب بالتخصيص من العموم.
ولما نقله الراوي، لعدم فائدته.
ولما أخر بيان الحكم إلى وقوع الواقعة.
ولأنه جواب، والجواب يكون مطابقًا للسؤال.
ولنا: أن الحجة في لفظ الشارع، لا في السبب، فيجب اعتباره
بنفسه في خصوصه وعمومه1.
ولذلك: لو كان أخص من السؤال: لم يجز تعميمه، لعموم
السؤال.
ولو سألت امرأة زوجها الطلاق، فقال: "كل نسائي طوالق" طلقن
كلهن، لعموم لفظه، وإن خص السؤال.
ولذلك: يجوز أن يكون الجواب معدولًا عن سَنَن السؤال2، فلو
قال قائل: "أيحل أكل الخبز، والصيد، والصوم" فيجوز أن
يقول: الأكل مندوب، والصوم واجب، والصيد حرام، فيكون
جوابًا، وفيه: وجوب، وندب، وتحريم، والسؤال وقع عن
الإباحة.
وكيف ينكر هذا وأكثر أحكام الشرع نزلت على أسباب: كنزول
آية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الذي صح عندنا من مذهب الشافعي، وقد رد عليه العلماء
وبينوا سبب هذا النقل عن الإمام الشافعي، وصححوا أنه يقول
بالعموم. انظر: الإحكام للآمدي "2/ 218" المحصول "جـ1 ق3
ص189" والبحر المحيط للزركشي "3/ 204"، إرشاد الفحول "1/
484" هامش.
1 أي: اعتبار لفظ الشارع.
2 سنن السؤال: بفتح السين والنون: أي: طريقة السؤال عمومًا
وخصوصًا.
ج / 2 ص -38-
الظهار1 في أوس الصامت2، وآية اللعان3 في هلال بن أمية4
ونحو هذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي الآيات الأولى من سورة المجادلة.
2 هو الصحابي أوس بن الصامت بن قيس الأنصاري، أخو عبادة بن
الصامت، شهد بدرًا وما بعدها، كان شاعرًا، مات أيام عثمان
-رضي الله عنه- وعمره 85 عامًا، وقيل: توفي سنة "34هـ"
وقيل: غير ذلك.
انظر في ترجمته "الإصابة 1/ 85، أسد الغابة 1/ 172".
وقصة مظاهرته من زوجته التي تسمى "خولة" وقيل: اسمها
"جميلة" بنت عم له -روتها السيدة عائشة -رضي الله عنها-
قالت: "تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة
إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تكلمه وأنا في ناحية البيت
ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى آخر الآية". أخرجه أحمد في مسنده "6/ 411" وأبو داود "1/ 513"،
والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم. انظر، نيل الأوطار
"6/ 294".
"3"
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ
أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ
الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ
عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَيَدْرَأُ
عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ
بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةَ
أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ
الصَّادِقِينَ} [النور: 6-9].
4 هو: هلال بن أمية بن عامر بن قيس الأنصاري الواقفي، أحد
الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وتاب الله عليهم، وهم:
هلال بن أمية، وكعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهم الذين
نزل في حقهم قوله تعالى:
{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة 118]. انظر ترجمته في "الإصابة 3/ 606، أسد الغابة5/ 406".
وكون آية اللعان نزلت في هلال، هو إحدى الروايتين، وقيل:
نزلت في حق عويمر العجلاني. أخرج ذلك البخاري. كتاب
التفسير، باب سورة النور، ومسلم في أول كتاب اللعان، وأبو
داود: كتاب الطلاق، باب اللعان، وابن ماجه: كتاب الطلاق
باب اللعان. كما أخرجها النسائي والترمذي وغيرهما. انظر:
أسباب النزول للواحدي ص328 وما بعدها.
ج / 2 ص -39-
ولا
يلزم من وجوب التعميم: جواز تخصيص السبب، فإنه لا خلاف في
أنه بيان الواقعة، وإنما الخلاف: هل هو بيان لها خاصة، أم
لها ولغيرها؟
فاللفظ يتناولها يقينًا، ويتناول غيرها ظنًّا، إذ لا يسأل
عن شيء فيعدل عن بيانه إلى بيان غيره، إلا أن يجيب عن غيره
بما ينبه على محل السؤال، كما قال لعمر، لما سأله عن
القبلة للصائم:
"أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ؟"1
ولهذا كان نقل الراوي للسبب مفيدًا، ليبين به تناول اللفظ
له يقينًا، فيمتنع تخصيصه.
وفيه فوائد أخر، من معرفة أسباب النزول، والسير، والتوسع
في الشريعة.
وقولهم: لم أخر بيان الحكم؟
قلنا: الله أعلم بفائدته في أي وقت يحصل
{لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَل}2 ثم لعله أخره إلى وقت الواقعة، لوجوب البيان في تلك الحال، أو
اللطف، ومصلحة للعباد داعية إلى الانقياد، لا تحصل
بالتقديم ولا بالتأخير.
ثم يلزم لهذه العلة: اختصاص الرجم بماعز، وغيره من الأحكام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أحمد في المسند "1/ 52"، وأبو داود: كتاب الصوم.
باب القبلة للصائم، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم،
والدارمي، عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: هششت
يومًا فقبلت وأنا صائم، فأتيت رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فقلت: صنعت اليوم أمرًا عظيمًا فقبلت وأنا صائم،
فقال:
"أرأيت لو تمضمت بماء ثم مججته وأنت صائم؟" قلت: لا بأس، فقال: "ففيم"
2 سورة الأنبياء من الآية "23".
ج / 2 ص -40-
وقولهم: تجب المطابقة.
قلنا: يجب أن يكون متناولًا له.
أما أن يكون مطابقًا له، فكلا.
بل لا يمتنع أن يسأل عن شيء، فيجب عنه وعن غيره، كما سئل
عن الوضوء بماء البحر، فبين لهم حل ميتته1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد تقدم الكلام على الحديث الوارد في ذلك
وخلاصة ما تقدم: أن المصنف أورد للجمهور دليلين على أن
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:
الدليل الأول: أن الحجة إنما هي في لفظ الشارع لا في خصوص
السبب، ولذلك يقول الإمام الشافعي: ولا يصنع السبب شيئًا،
إنما يصنعه الألفاظ.
الدليل الثاني: أن أكثر أحكام الشرع واردة على أسباب خاصة،
فلو جعلت خاصة بمن نزلت فيه للزم على ذلك تعطيل هذه
الأحكام بالنسبة لغيرهم، وهذا غير صحيح.
ثم رد على أدلة المخالفين على النحو التالي:
قالوا: إنه لو لم يكن للسبب تأثير، لجاز إخراج السبب
بالتخصيص.
فرد عليهم المصنف بما خلاصته: أنه لا خلاف في أن الكلام
بيان للواقعة، والخلاف إنما هو في شموله لغير صاحب السبب،
فدلالة العام على السبب تعتبر دلالة نصية، ومقطوع بها، فلا
يجوز إخراجه بالتخصيص، كما في إجابته -صلى الله عليه وسلم-
عن القبلة للصائم.
قالوا: لو لم يكن قاصرًا على السبب لما كان لذكره فائدة.
فأجاب: بأنه لا وجه لجعل الفائدة: هي قصر العام على سببه،
بل له فوائد كثيرة منها:
1- معرفة تاريخ تشريع الحكم، وفي ذلك فائدة تتعلق بمعرفة
الناسخ والمنسوخ.
2- توسعة علم الشريعة بمعرفة الأحكام بأسبابها، فيكثر ثواب
المصنفين، كالمصنفين في أسباب النزول، وسعة المجال أمام
المجتهدين.
3 التأسي بوقائع السلف وما جرى لهم من أحداث، فمن زنت
زوجته وأراد =
ج / 2 ص -41-
..................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ملاعنتها، فإنه لا يجد غضاضة في ذلك، فيقول: قد لاعن من
هو خير مني.... قالوا: لو لم يكن خاصًّا به فلم أخره إلى
وقوع الحادثة؟
فأجاب عن ذلك: بأن تأخير بيان الحكم إلى وقوع السبب من
متعلقات العلم الأزلي، ولا علة له، فهو سبحانه
{لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون} لأن ذلك يجرنا إلى نقض الأحكام المبتدأة، فيقال: لم فرضت الصلاة
سنة كذا، دون ما قبلها وما بعدها؟ ومثل ذلك يقال في الصوم
والحج وهكذا.
ثم لعل في التأخير لطف ومصلحة للعباد، تدعو إلى الانقياد
والطاعة، ولا يحصل ذلك بالتقديم أو التأخير.
ثم أجاب عن قولهم: إن الجواب يجب أن يكون مطابقًا للسؤال،
بأن هذا ليس بلازم، بل اللازم أن يكون الجواب متناولًا
لمحل السؤال، لكن لا يمنع أن يزيد عليه، كما سئل -صلى الله
عليه وسلم- عن التوضؤ بماء البحر فأجاب عنه، وعن حل الميتة
ولم تكن واردة في السؤال، حيث قال، صلى الله عليه وسلم:
"هو الطهور ماؤه الحل ميتته".
وبذلك تتهاوى شبه المخالفين، ويثبت: أن العبرة بعموم
اللفظ، لا بخصوص السبب.
وقد لخص الإمام الطوفي في الحجة على أن العبرة بعموم اللفظ
في وجهين.
أحدهما: أن الحجة في لفظ الشارع لا في سببه، وإذا كان
الأمر كذلك، وجب مراعاة اللفظ عمومًا وخصوصًا، كما لو ورد
ابتداء على غير سبب، فلو سألت امرأة زوجها الطلاق، فقال:
"كل نسائي طوالق" عمهن الطلاق مع خصوص السبب، ولو سأله
جميع نسائه الطلاق، فقال: "فلانة طالق" اختص الطلاق بها،
وإن عم السبب.
الوجه الثاني: أن أكثر أحكام الشرع العامة وردت لأسباب
خاصة، كورود حكم الظهار في أوس بن الصامت، وحكم اللعان في
شأن هلال بن أمية، فلو كان السبب الخاص يقتضي اختصاص العام
به، لما عمت هذه الأحكام، لكنه باطل بالإجماع". انظر: شرح
مختصر الروضة "2/ 503-504".
ج / 2 ص -42-
فصل: [حكاية الفعل من الصحابي تقتضي العموم]
قول الصحابي: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن
المزابنة"1 و"قضى بالشفعة فيما لم يقسم"2: يقتضي العموم3.
وقال قوم: لا عموم له4؛ لأن الحجة في المحكي، لا في لفظ
الحاكي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المزابنة: بيع الثمر بالثمر كيلًا وبيع الكرم بالزبيب
كيلًا.
أخرجه مالك في الموطأ "2/ 624" والبخاري: كتاب البيوع، باب
بيع الثمر على رءوس النخل حديث "2185" ومسلم: كتاب البيوع،
باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا حديث "1542" عن
نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- نهى عن المزابنة.
2 حديث صحيح رواه البخاري: كتاب البيوع، باب بيع الأرض
والدور مشاعًا غير مقسوم حديث "2214" ومسلم: كتاب المساقاة
-باب الشفعة- حديث "1608" وأبو داود: كتاب البيوع، باب
الشفعة، والترمذي: أبواب الأحكام، باب ما إذا حدت الحدود،
والنسائي: كتاب البيوع، باب ذكر الشفعة وأحكامها، وأحمد في
المسند "3/ 296، 316، 372، 399"، عن جابر بن عبد الله -رضي
الله عنه- قال: "قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالشفعة
في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا
شفعة".
3 أي: يصح التمسك به في العموم في أمثال تلك القضية
المحكية، نحو "نهى عن بيع الغرر"، و"حكم بالشاهد واليمين".
وهو رأي الحنابلة، واختاره بعض المتكلمين: كالآمدي،
والشوكاني وغيرهما. انظر: "الأحكام، 2/ 255ط والمحصول جـ1،
ق2 ص647، وإرشاد الفحول "1/ 453 وما بعدها".
4 منهم: إمام الحرمين، والإمام فخر الدين الرازي، وأكثر
الأصوليين.
ج / 2 ص -43-
والصحابي يحتمل أنه سمع لفظًا خاصًّا، أو يكون عمومًا، أو
يكون فعلًا لا عموم له.
وقضاؤه بالشفعة، لعله حكم في عين، أو بخطاب خاص مع شخص،
فكيف يتمسك بعمومه؟
أم كيف يثبت العموم مع التعارض والشك1؟
ولنا: إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- فإنه قد عرف عنهم
الرجوع إلى هذا اللفظ في عموم الصور. كرجوع ابن عمر إلى
حديث رافع: "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن
المخابرة"2، واحتجاجهم بهذا اللفظ، نحو: "نهى رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- عن المزابنة، والمحاقلة، والمخابرة،
وبيع الثمر حتى يبدو صلاحه، والمنابذة"3 وسائر المناهي.
وكذلك أوامره، وأقضيته، ورخصه، مثل: "وأَرْخَصَ في
السَّلَمِ"4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة دليل القائلين بعدم العموم: أن الحجة إنما هي في
المحكى لا في لفظ الحاكي، والمحكي عبارة عن قضايا وأحكام
وقعت من النبي -صلى الله عليه وسلم- في محال معينة، فحكاها
الرواة عنه، فلا عموم في لفظها، ولا في معناها، فلا تقتضي
العموم، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: أن الحكم في هذه
القضايا يحتمل أنه كان خاصًّا بشخص معين، فوهم الراوي وظن
أنه عام، ومع وجود هذه الاحتمالات لا يكون اللفظ عامًّا.
وقد أجاب عنه المصنف بقوله -فيما بعد- بقوله: "ولنا".
2 تقدم تخريجه
3 سبق تخريج ذلك.
4 روى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قدم المدينة وهم يسلفون في التمر السنة
والسنتين والثلاث، فقال، صلى الله عليه وسلم:
"من أسلف فليسلف في كيل معلوم، وزن معلوم، إلى أجل معلوم".
أخرجه البخاري في السلم: السلم في النخل حديث "2249، 2250"
ومسلم في =
ج / 2 ص -44-
و "وضع
الجوائح"1.
وقد اشتهر هذا عنهم في وقائع كثيرة، مما يدل على اتفاقهم
على الرجوع إلى هذه الألفاظ.
واتفاق السلف على نقل هذه الألفاظ دليل على اتفاقهم على
العمل بها، إذ لو لم يكن كذلك: لكان اللفظ مجملًا.
ثم لو كانت القضية في شخص واحد: وجب التعميم، لما ذكرناه
في المسألة الأخرى2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المساقاة: السلم، حديث "1604" كما أخرجه أصحاب الكتب
الستة "جامع الأصول 2/ 17" والسلم والسلف بمعنى واحد، إلا
أن السلم لغة أهل الحجاز، والسلف لغة أهل العراق.
1 الجوائح: هي الآفات التي تصيب الثمار فتهلكها.
عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال:
"لو بعت من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحة، فلا يحل ذلك أن تأخذ منه شيئًا،
بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟"
رواه مسلم. انظر: سبل السلام "3/ 48".
2 وهي مسألة: العام الوارد على سبب خاص، وأن العبرة بعموم
اللفظ لا بخصوص السبب.
فصل: [الخطاب المضاف إلى الناس والمؤمنين يعم
العبيد والنساء]
وما ورد من خطاب مضافًا إلى "الناس" و"المؤمنين"1 دخل فيه
العبد، لأنه من جملة من يتناوله اللفظ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومثل ذلك: الأمة والمكلفين، وما أشبه ذلك.
ج / 2 ص -45-
وخروجه
عن بعض التكاليف1 لا يوجب رفع العموم فيه، كالمريض،
والمسافر، والحائض.
ويدخل النساء في الجمع المضاف إلى "الناس" وما لا يتبين
فيه لفظ التذكير والتأنيث، كأدوات الشرط2.
ولا يدخلن فيما يختص بالذكور من الأسماء، كالرجال والذكور.
فأما الجمع بالواو والنون، كالمسلمين، وضمير المذكرين،
كقوله، تعالى:
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا}3 فاختار القاضي أنهن يدخلن فيه4.
وهو قول بعض الحنفية وابن داود5.
واختار أبو الخطاب والأكثرون: أنهن لا يدخلن فيه، لأن الله
-تعالى- ذكر "المسلمات"6 بلفظ متميز، فيما يثبته ابتداء،
ويخصه بلفظ "المسلمين" لا يدخلن فيه إلا بدليل آخر، من
قياس، أو كونه في معنى المنصوص، وما يجري مجراه7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كعدم وجوب الحج، والجهاد، والجمعة، وغير ذلك لا يخرجه عن
هذا العموم؛ لأنها أمور عارضة، كالمرض والسفر، والحيض.
2 مثل: "من دخل دارك فأكرمه" فإنه يتناول النساء.
3 سورة الأعراف من الآية "31".
4 انظر: العدة: 2/ 351".
5 هو: محمد بن داود بن خلف الظاهري. تقدمت ترجمته.
6 قال الله تعالى:
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَات....} [الأحزاب: 35].
7 خلاصة الخلاف في هذه المسألة: أن ما اختص بالرجال،
كالرجال، والذكور والفتيان، والكهول، والشيوخ لا يتناول
النساء باتفاق الجميع.
وما يختص بالنساء، كلفظ النساء، والفتيات، والعجائز لا
يتناول الرجال باتفاق أيضًا. =
ج / 2 ص -46-
ولنا:
أنه متى اجتمع المذكر والمؤنث، غلب التذكير.
ولذلك: لو قال، لمن بحضرته من الرجال والنساء: "قوموا
واقعدوا" يتناول جميعهم.
ولو قال: قوموا، وقمن، واقعدوا، واقعدن: عُدَّ تطويلًا
ولكنه1.
ويبينه قوله تعالى:
{وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ}2، وكان ذلك خطابًا لآدم وزجته والشيطان.
وأكثر خطاب الله -تعالى- في القرآن بلفظ التذكير، كقوله
تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}3 و{يَا
عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا}4،
و{هُدىً لِلْمُتَّقِين}5،
{وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِين}6،
{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِين}7 والنساء يدخلن في جملته.
وذكره لهن بلفظ مفرد -تبيينًا وإيضاحًا- لا يمنع دخولهن في
اللفظ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وما يعم الذكور والإناث مثل: الناس، والبشر، والإنسان،
إذا أريد به النوع أو الشخص، وولد آدم وذريته، وكذلك أدوات
الشرط، فإن ذلك كله يدخل فيه النساء.
أما جمع المذكر السالم، وضمير الجمع المتصل بالفعل، مثل:
المسلمين، "وكلوا واشربوا" وقاموا وقعدوا، ويأكلون
ويشربون، فهذا هو محل النزاع انظر: شرح مختصر الروضة "2/
514 وما بعدها".
1 اللكنة: العيّ وثقل اللسان.
2 سورة البقرة من الآية "36".
3 آيات كثيرة وردت بهذا اللفظ، منها: البقرة "104"، "153"،
"172".
4 سورة الزمر من الآية "53".
5 سورة البقرة من الآية "2".
6 سورة البقرة "97" والنمل "2".
7 سورة الحج من الآية "34".
ج / 2 ص -47-
العام
الصالح لهن، كقوله تعالى:
{مَنْ
كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ
وَجِبْرِيلَ وَمِيكَال}1 وهما من الملائكة.
وقوله:
{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}2
وقد يعطف العام على الخاص، كقوله تعالى:
{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُم}3 والمال عام في الكل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة من الآية "98" وهو من عطف الخاص على العام.
2 سورة الرحمن آية "68" وهو من عطف الخاص على العام أيضًا.
3 سورة الأحزاب من الآية "27".
وقد اعترض الطوفي على دخول النساء في الصيغ المذكورة بأصل
وضع اللغة، ورجح أنها بقرائن تدل على ذلك فقال: "لا نسلم
أن تناول الصيغ المذكورة
للنساء في الوجوه التي ذكرتموها بأصل الوضع، بل بقرائن،
لشرف الذكورية في الوجه الأول والثالث، ويسمى: التغليب،
وهو أنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث، غلب المذكر في الخطاب،
لشرف الذكورية، كما غلب القمر على الشمس في قولهم:
القمران، لشرف الذكورية وخفتها، فالتغليب يقع في اللغة
لمعان: منها: شرف الذكورية، ومنها: خفة اللفظ، كتغليب
"عمر" على "أبي بكر" -رضي الله عنهما- في قولهم: "العمران"
لخفة الإفراد، وكذلك لو قال: يا عبادي وإمائي الذين آمنوا،
ويا أيها الذين آمنوا واللاتي آمنّ، وقوموا وقمن كان عيًّا
في عرف اللغة، فلقرينة لزوم العي من إفرادهن بالذكر حكمنا
بدخولهن في الخطاب المذكور، لا بوضع اللغة.
وكذلك في قوله: أوصيت لهم، إنما تناول النساء بقرينة
الإيصاء الأول فإنه لما صرح بالوصية لهن فيه، ثم قال:
أوصيت لهم، دل على أنه أراد جميع من أوصى له أولًا". شرح
مختصر الروضة "2/ 522-523".
ج / 2 ص -48-
فصل: [العام بعد التخصيص حجة]
العام إذا دخله التخصيص يبقى حجة فيما لم يخص عند الجمهور.
وقال أبو ثور1 وعيسى بن أبان2: لا يبقى حجة3؛ لأنه يصير
مجازًا، فقد خرج الوضع من أيدينا، ولا قرينة تفصل وتحصر،
فيبقى مجملًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان، أبو ثور البغدادي
الكلبي، كان إمامًا جليلًا، وفقيهًا ورعًا، كان من أصحاب
الرأي، ثم لما حضر الشافعي إلى بغداد حضر عليه ورجع إلى
أهل الحديث، وهو الذي نقل الأقوال القديمة عن الشافعي.
توفي ببغداد سنة "240هـ" انظر: وفيات الأعيان "1/ 7" طبقات
الفقهاء ص110، طبقات الشافعية الكبرى "2/ 74".
2 هو: عيسى بن إبان بن صدقة، أبو موسى، الفقيه الحنفي، كان
من أصحاب الحديث ثم غلب عليه الرأي، وتفقه على محمد بن
الحسن -صاحب أبي حنيفة- تولى قضاء العسكر، ثم البصرة، قال
عنه هلال بن أمية: "ما في الإسلام قاض أفقه منه". من
مؤلفاته: "خبر الواحد" و"إثبات القياس" و"اجتهاد الرأي".
توفي بالبصرة سنة "221هـ" "الفوائد البهية ص151، طبقات
الفقهاء ص137".
3 حكى المصنف في المسألة مذهبين، وفيها مذاهب أخرى حكاها
الطوفي في شرحه "2/ 526" بالتفصيل فقال: "وفي المسألة
مذاهب":
أحدها: أن العام بعد التخصيص حجة مطلقًا، وهو مذهب غالب
الفقهاء.
والثاني: ليس بحجة مطلقًا، وهو مذهب أبي ثور، وعيسى بن
أبان.
والثالث: أنه إن خص بدليل متصل كالاستثناء والشرط، فهو
حجة، وإن خص بدليل منفصل لم يبق حجة، وهو مذهب البلخي.
والرابع: إن كان العام قبل التخصيص ممكن الامتثال دون
بيان، فهو حجة بعد التخصيص، وإلا فلا. وهو قول القاضي عبد
الجبار
ج / 2 ص -49-
ولنا:
تمسك الصحابة -رضي الله عنهم- بالعمومات1، وما من عموم:
إلا وقد تطرق إليه التخصيج / 2 ص -إلا اليسير- كقوله
تعالى:
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ
رِزْقُهَا}2، و{إِنَّ
اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}3
فعلى قولهم4، لا يجوز التمسك بعمومات القرآن أصلًا.
ولأن لفظ "السارق" يتناول كل سارق بالوضع، فالمخصص صرف
دلالته عن البعض، فلا تسقط دلالته عن الباقي، كالاستثناء.
وقولهم: "يصير مجازًا" ممنوع5.
وإن سلم: فالمجاز دليل إذا كان معروفًا، لأنه يعرف منه
المراد، فهو كالحقيقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والخامس: أنه يكون حجة في أقل الجمع، لا فيما زاد عليه،
وهو مذهب قوم من الأصوليين، وفيه عرف ذلك.
1 مثل قوله تعالى:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ....}
[النساء:11] فإنه خص منه الكافر والقاتل.
2 سورة هود من الآية "6".
3 سورة الأنفال من الآية "75" ولفظ البقرة
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} من الآية "231".
وقد أورد المصنف هاتين الآيتين مثالًا على العام الذي لم
يدخله التخصيص.
4 أي: أنه ليس بحجة.
5 بين الطوفي وجه المنع فقال: "لا نسلم أن العام بعد
التخصيص مجاز، بل هو حقيقة مستعمل في موضوعه أولًا، وذلك
لأن اللفظ العام وإن كان واحدًا، لكنه في تقدير ألفاظ
متعددة مطابقة لأفراد مدلوله في العدد.
مثاله: إذا قال: أكرم الرجال، وفرضنا أن جنس الرجال عشرون،
فلفظ الرجال في تقدير عشرين لفظًا يدل كل لفظ منها على رجل
من العشرين، فكأنه قال: أكرم زيدًا وعمرًا وبكرًا وخالدًا
وجعفرًا وبشرًا...كذلك حتى سمى العشرين، فإذا قال، بعد
ذلك: لا تكرم زيدًا، صار زيد مخصوصًا من =
ج / 2 ص -50-
وقولهم: "لا قرينة تفصل".
قلنا: ليس كذلك، فإنا إنما نجعل اللفظ مجازًا بدليل
التخصيص، فيختص الحكم به، دون ما عداه.
فصل: [العام بعد التخصيص حقيقة]
واختار القاضي1 أنه حقيقة بعد التخصيص، وهو قول أصحاب
الشافعي2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= العشرين، وسقط لفظ اسمه المطابق لمسماه تقديرًا، وهو
معنى قولنا: "فسقط منها بالتخصيص". أي: من الألفاظ
التقديرية، طبق ما خص من المعنى، وهو لفظ زيد المطابق
لمعناه في هذه الصورة، فيبقى معنا تسعة عشر شخصًا من
الرجال، وتسعة عشر لفظًا تقديرية، هي أسماؤهم، وتسعة عشر
اسمًا تطابق في العدد تسعة عشر شخصًا مسمى....
ثم قال: وإذا ثبت أن لفظ العام بعد التخصيص مطابق لمدلوله
في التقدير، فهو مستعمل فيما وضع له تقديرًا، فلا يكون
مستعملًا في غير موضوعه...." شرح المختصر "2/ 531-532".
ثم بين المصنف أنه إن سلم أنه مجاز، فإن المجاز يعمل به
إذا كان مشهورًا حتى ولو لم توجد قرينة، مثل قوله تعالى:
{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ.....} [النساء: 43 والمائدة:6] فإنه وإن كان مجازًا، إلا أنه معروف
ومشهور لدى العامة والخاصة.
ثم ختم كلامه بأن دعواكم عدم وجود قرينة غير مسلم، فإن
اللفظ لم يجعل مجازًا -على زعمكم- إلا بدليل التخصيص، وهو
قرينة على المجاز.
1 أبو يعلى: انظر: العدة "2/ 533".
2 قال الآمدي: هو مذهب الحنابلة وبعض أصحاب الشافعي. انظر:
الإحكام "2/ 227".
ج / 2 ص -51-
وقال
قوم: يصير مجازًا على كل حال1؛ لأنه وضع للعموم، فإذا أريد
به غير ما وضع له كان مجازًا2.
وإن لم يكن هذا هو المجاز فلا يبقى للمجاز معنى إذًا، ولا
خلاف في أنه لو رد إلى ما دون أقل الجمع فقال: "لا تكلم
الناس" وأراد "زيدًا" وحده كان مجازًا، وإن كان هو داخلًا
فيه.
وقال آخرون3: إن خص بدليل منفصل4 صار مجازًا، لما ذكرناه5،
وإن خص بلفظ متصل6 فليس بمجاز، بل يصير الكلام بالزيادة
كلامًا آخر، موضوعًا لشيء آخر، فإنا نقول: "مسلم" فيدل على
واحد، ثم نزيد الواو والنون، فيدل على أمر زائد، ولا نجعله
مجازًا، ثم نزيد الألف والنون في "رجل" فيصير صيغة أخرى
بالزيادة.
ولا فرق بين زيادة كلمة، أو زيادة حرف، فإذا قال: "السارق
للنصاب يقطع" أو "يقطع السارق، إلا سارق دون النصاب" فلا
مجاز فيه، بل مجموع هذا الكلام موضوع للدلالة على ما دل
عليه، فقوله تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو مذهب الغزالي وجماعة من أصحاب الشافعي، وأصحاب أبي
حنيفة كما في الإحكام للآمدي.
2 قال أبو الخطاب في التمهيد "2/ 139": "ووجه من ذهب إلى
أنه يصير مجازًا: أن حد المجاز: استعمال الشيء في غير ما
وضع له، ولفظ العموم يقتضي الاستغراق في أصل الوضع، فإذا
استعمل في البعض صار مستعملًا في غير ما وضع له فصار
مجازًا".
3 وهو مروي عن القاضي أبي بكر الباقلاني وجماعة من
الأصوليين.
4 كالعقل والنقل.
5 في قوله سابقًا: "لأنه وضع للعموم، فإذا أريد به غير ما
وضع له كان مجازًا"
6 كالشرط والاستثناء.
ج / 2 ص -52-
{أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا}1 دل على تسعمائة وخمسين وضعًا، فكأن العرب وضعت لذلك عبارتين
ويمكن أن يقال: ما صار بالوضع عبارة عن هذا القدر، بل بقي
الألف للألف، والخمسون للخمسين، و"إلا" للرفع بعد الإثبات،
فإذا رفعنا من الألف خمسين بقي تسعمائة وخمسون.
أما زيادة الواو والنون: فلا معنى لها في نفسها، بخلاف
هذا.
ووجه قول القاضي: أن القرينة المنفصلة من الشرع كالقرينة
المتصلة؛ لأن كلام الشارع يجب بناء بعضه على بعض، فهو
كالاستثناء، وقد تبين الكلام فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة العنكبوت من الآية "14" وتمام الآية
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ
سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ
وَهُمْ ظَالِمُونَ}.
فصل: [فيما ينتهي إليه التخصيص]
ويجوز تخصيص العموم على أن يبقى واحد1.
وقال الرازي2 والقفال3 والغزالي: لا يجوز النقصان من أقل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو مذهب أكثر الحنابلة، والمختار عند الحنفية، وهو قول
مالك وبعض الشافعية. انظر: العدة "2/ 544" الإحكام للآمدي
"2/ 283"، شرح تنقيح الفصول ص224، فتح الغفار "1/ 108".
2 تقدمت ترجمته.
3 هو: محمد بن إسماعيل، أبو بكر، القفال الكبير، الشاشي
موطنًا، شافعي المذهب فقيه أصولي، متكلم، مفسر، محدث، له
مؤلفات كثيرة، منها: =
ج / 2 ص -53-
الجمع؛
لأنه يخرج به عن الحقيقة1.
ولنا: أن القرينة المتصلة كالقرينة المنفصلة وفي القرينة
المتصلة يجوز ذلك، فكذلك في المنفصلة2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= شرح الرسالة" للإمام الشافعي، "كتاب في أصول الفقه".
توفي سنة "365هـ". انظر: طبقات الشافعية الكبرى "3/ 200"،
النجوم الزاهرة "2/ 111".
والمنقول عن القفال -كما في الإحكام للآمدي "2/ 283"- أنه
يجوز التخصيص إلى أن ينتهى إلى أقل المراتب التي ينطلق
عليها ذلك اللفظ المخصوص، مراعاة لمدلول الصيغة، فإن كان
جمعًا فيجوز تخصيصه إلى ثلاثة، وإن كان غير الجمع مثل "من"
و"ما" فيجوز تخصيصها إلى الواحد.
1 وفي المسألة مذاهب أخرى كثيرة تراجع في: العدة "2/ 544"،
المعتمد "1/ 253"، شرح الكوكب المنير "3/ 271 وما بعدها".
2 معنى كلامه: أن القرينة المتصلة كالاستثناء المتصل
والشرط والصفة والغاية يجوز التخصيص بها إلى أن يبقى واحد،
فكذلك القرينة المنفصلة، إذ لا فارق بينهما.
وهذا لا يصلح أن يكون حجة على الجواز -كما يقول الجمهور-
لأن المانعين يمنعون التخصيص إلى واحد، سواء أكان ذلك في
القرينة المتصلة أم في المنفصلة، فلا يصح الاحتجاج به.
والجواب الصحيح ما ذكره الطوفي في شرحه "2/ 548" حيث قال:
"التخصيص بيان أن بعض العام غير مراد بالحكم، والبعض
المخصوص أعم من أن يكون أقل العموم أو أكثره أو نصفه، فما
عدا الواحد يصدق عليه اسم البعض، فيجوز بيان أنه غير مراد،
وهو المطلوب". أو أن يقال: "إن التخصيص تابع للمخصص،
والعام متناول للواحد، ويلزم من ذلك جواز التخصيص إليه".
ج / 2 ص -54-
فصل: [الخطاب العام يتناول من صدر منه]
والمخاطب يدخل تحت الخطاب بالعام1.
وقال قوم: لا يدخل2، بدليل قوله تعالى:
{قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}3. ولو قال قائل لغلامه: "من دخل الدار فأعطه درهمًا" لم يدخل في
ذلك.
وهذا فاسد4؛ لأن اللفظ عام، والقرينة هي التي أخرجت
المخاطب فيما ذكروه.
ويعارضه قوله تعالى:
{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}5،
ومجرد كونه مخاطبًا ليس بقرينة قاضية بالخروج عن العموم،
والأصل اتباع العموم.
واختار أبو الخطاب: أن الآمر لا يدخل في الأمر؛ لأن الأمر
استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه، وليس يتصور كون الإنسان
دون نفسه، فلم توجد حقيقته6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معناه: أن المتكلم بكلام عام يدخل تحت عموم كلامه
مطلقًا، سواء أكان أمرًا أم غيره، مثل قوله، صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم:
"من قال: لَا إِلَه إِلَّا اللهُ خالصًا من قلبه دَخَلَ الجَنَّةَ". وهو
مذهب أكثر الجنابلة وبعض الشافعية.
2 نقل ذلك العطار في حاشيته على شرح جمع الجوامع "1/ 429"
عن الإمام النووي في الروضة، وقال: لا يدخل إلا بقرينة وهو
الأصح عند أصحابنا.
3 سورة الرعد من الآية16 والزمر الآية "62"
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}.
4 هذا رد من المصنف على استدلال أصحاب المذهب الثاني.
5 سورة البقرة من الآية "29".
6 انظر: التمهيد "1/ 272".
ج / 2 ص -55-
ولأن
مقصود الآمر: الامتثال، وهذا لا يكون إلا من الغير.
وقال القاضي: يدخل النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم-
فيما أمر به.
ويمكن أن تنبني هذه المسألة على أن ما ثبت في حق الأمة من
حكم، شاركهم النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- في ذلك
الحكم2.
ولذلك لما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة، ثم لم يفعل، سألوه
عن ترك الفسخ، فبين لهم عذره3.
وقد عاب الله -تعالى- الذين يأمرون بالبر وينسون أنفسهم4.
وقال -في حق شعيب- عليه السلام:
{....وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}5.
وفي الأثر: "إذا أمرت بمعروف فكن من آخذ الناس به، وإذا
نهيت عن منكر فكن من أترك الناس له، وإلا هلكت"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد أومأ الإمام أحمد إلى اختيار هذا الرأي، ونقل عنه
رواية أخرى أنه لا يدخل إلا بدليل. انظر: العدة "1/ 339"
وشرح الكوكب المنير "3/ 252 وما بعدها".
2 في فصل: إذا أمر الله -تعالى- نبيه -صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم- بلفظ ليس فيه تخصيص.
3 وذلك في قوله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
"لو استقبلت من أمري ما أستدبرت لجعلتها عمرة، ولحللت كما تحلون". أخرجه
البخاري: كتاب الحج، باب التمتع والإقران والإفراد بالحج
وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدى، من حديث جابر -رضي الله
عنه- ومسلم: كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز
إفراد الحج والتمتع والقران، كما أخرجه أبو داود،
والطيالسي، والشافعي وغيرهم. انظر: تلخيص الحبير "2/ 231".
4 مثل قوله تعالى:
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ
أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا
تَعْقِلُونَ}
[البقرة: 44]
5 سورة هود من الآية "88".
6 هذا الأثر منقول عن الحسن البصري التابعي الزاهد المشهور
المتوفى سنة "110هـ". =
ج / 2 ص -56-
فصل: [العام يجب اعتقاد عمومه في الحال]
اللفظ العام يجب اعتقاد عمومه في الحال1، في قول أبي بكر2،
والقاضي3.
وقال أبو الخطاب: لا يجب حتى يبحث فلا يجد ما يخصصه 4.
قال 5: وقد أومأ إليه6 في رواية صالح7 وأبي الحارث8.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والأثر المذكور أخرجه عنه الإمام أحمد في المسند "1/
360".
1 كما يجب العمل به قبل البحث عن المخصص.
2 هو: عبد العزيز بن جعفر، المعروف بـ"غلام الخلال" تقدمت
ترجمته
3 أبو يعلى كما في العدة "2/ 525".
4 انظر: التمهيد "2/ 65، 66".
5 أي: أبو الخطاب
6 أي: الإمام أحمد.
7 هو: صالح بن أحمد بن حنبل الشيباني، أبو الفضل، أكبر
أولاد الإمام أحمد، أخذ عن والده وعن كثير من علماء عصره،
كان كريمًا فاضلًا، صدوقًا ثقة، تولى القضاء بطرسوس ثم
بأصبهان. ولد سنة "203هـ" وتوفي بأصبهان سنة "266هـ".
انظر في ترجمته: طبقات الحنابلة "1/ 173-176" والإنصاف
"12/ 286".
8 هو: إبراهيم بن الحارث بن مصعب بن الوليد بن عبادة بن
الصامت، من أهل طرسوس، ومن كبار أصحاب الإمام أحمد، ومن
المكرمين عنده، نقل عن الإمام أحمد كثيرًا من المسائل.
انظر في ترجمته: طبقات الحنابلة "1/ 94"، خلاصة تذهيب
تهذيب الكمال للخزرجي "1/ 42".
ج / 2 ص -57-
وقال
القاضي: فيه روايتان1.
وعن الحنفية: كقول أبي بكر2
وعنهم: أنه إن سمع من النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم-
على طريق تعليم الحكم، فالواجب اعتقاد عمومه، وإن سمعه من
غيره فلا3.
وعن الشافعية كالمذهبين4
قالوا5: لأن لفظ العموم يفيد الاستغراق مشروطًا بعدم
المخصص، ونحن لا نعلم عدم إلا بعد أن نطلب فلا نجد، ومتى
لم يوجد الشرط لا يوجد المشروط.
وكذلك كل دليل أمكن أن يعارضه دليل، فهو دليل بشرط سلامته
عن المعارض، فلا بد من معرفة الشرط، والجمع بين الأصل
والفرع بعلة مشروط بعدم الفرق، فلا بد من معرفة عدمه6.
ثم اختلفوا إلى متى يجب البحث؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: العدة "2/ 525".
2 أي: يجب اعتقاد عمومه والعمل به قبل البحث عن المخصص.
3 وهذه رواية أخرى عن الحنفية. يراجع: كشف الأسرار "1/
291".
4 أي: أن البعض يرى اعتقاد العموم والعمل به قبل البحث عن
المخصص، والبعض يرى وجوب البحث عن المخصص.
5 أي: القائلون بوجوب البحث قبل العمل بالعام. وقد استدلوا
على ذلك بدليلين: أحدهما: أن شرط العمل بالعام عدم المخصص،
وشرط العلم بالعدم الطلب، كما في طلب الماء لجواز التيمم،
فلا يجوز العمل بالعام إلا بعد البحث عن المخصص.
ثانيهما: أن العمل بالدليل مشروط بعدم معارضته بدليل آخر،
والعام مع المخصص متعارضان، فلا بد من معرفة عدمه أولًا
حتى يعمل بالعام.
6 خلاصة ذلك: أن المصنف استدل لمذهب القائلين بعدم وجوب
البحث بدليلين: =
ج / 2 ص -58-
فقال
قومه: يكفيه أن يحصل غلبة الظن بالانتفاء، عند الاستقصاء
في البحث، كالباحث عن المتاع في البيت، إذا لم يجده: غلب
على ظنه انتفاؤه.
وقال آخرون: لا بد من اعتقاد جازم، وسكون نفس، بأنه لا
مخصص، فيجوز الحكم حينئذ.
أما إذا كان تشعر نفسه بدليل شذ عنه، وتخيل في صدره
إمكانه، فكيف يحكم بدليل يجوز أن يكون الحكم به حرامًا؟!
ولنا: أن اللفظ موضوع للعموم، فوجب اعتقاد موضوعه، كأسماء
الحقائق، والأمر والنهي.
ولأن اللفظ عام في الأعيان والأزمان، ثم يجب اعتقاد عمومه
في الزمان، ما لم يرد نسخ، كذلك في الأعيان.
وقولهم1: "إن دلالته مشروطة بعدم القرينة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحدهما: أن اللفظ موضوع للعموم، والأصل عدم المخصص،
فيستصحب ذلك حتى يظهر ما يخالفه.
ثانيهما: أن تخصيص العام تخصيص في الأعيان، أي: في
الأفراد، والنسخ: تخصيص في الأزمان، واعتقاد عموم اللفظ في
النسخ واجب حتى يظهر الناسخ، فكذلك يجب اعتقاد عمومه في
الأعيان. حتى يظهر المخصص.
ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ....}
[المائدة:3] فإنه يقتضي دوام التحريم في جميع زمن التكليف،
وهو العموم الزمني، مع احتمال رفعه في بعض الأزمنه بالنسخ،
كما يقتضي تعلق التحريم بكل فرد من أفراد العموم العيني،
مع احتمال أنه يسقط عن بعض الأعيان، كالسمك والجراد. انظر
توضيح ذلك في شرح الطوفي "2/ 544".
1 بدأ المصنف يناقش أدلة أصحاب المذهب الثاني، وهم
القائلون بعدم اعتقاد العموم.
ج / 2 ص -59-
قلنا:
لا نسلم، وإنما القرينة مانعة من حمل اللفظ على موضوعه،
فهو كالنسخ، يمنع استمرار الحكم.
والتأويل يمنع حمل الكلام على حقيقته.
واحتمال وجوده لا يمنع من اعتقاد الحقيقة.
ولأن التوقف يفضي إلى ترك العمل بالدليل؛ فإن الأصول غير
محصورة، ويجوز أن لا يجد اليوم، ويجده بعد اليوم، فيجب
التوقف أبدًا، وذلك غير جائز، والله أعلم.
فصل
في الأدلة التي يخص بها العموم
لا نعلم اختلافًا في جواز تخصيص العموم1.
وكيف ينكر ذلك مع الاتفاق على تخصيص قول الله تعالى:
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}2 و{يُجْبَى
إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}3 و{تُدَمِّرُ
كُلَّ شَيْءٍ}4؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التخصيص: بيان أن بعض مدلول اللفظ غير مراد بالحكم،
ولذلك قال المصنف: لا نعلم اختلافًا في جواز تخصيص العموم،
لأنه لا خلاف بين العلماء في أن البيان مطلوب.
2 سورة الزمر من الآية "62" فقد خص من العموم في هذه
الآية، ذات الله تعالى، وصفاته، فليست مخلوقة.
3 سورة القصص من الآية "57" قال الفتوحي: "ونعلم أن ما في
اقصى المشرق والمغرب لم تجب إليه ثمراته" شرح الكوكب
المنير "3/ 278".
4 سورة الأحقاف من الآية "25" والعموم الذي في الآية
الكريمة مخصوص بأشياء لم تدمرها الريح، كالسموات والأرض.
وقد اعترض الطوفي على الاستدلال بهذه الآية وبين أنها من
قبيل الخاص الذي =
ج / 2 ص -60-
وقد
ذكرنا أن أكثر العمومات مخصصة1.
وأدلة التخصيص تسعة2:
الأول: دليل الحس3.
وبه خصص قوله تعالى:
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}4 خرج منه السماء والأرض وأمور كثيرة بالحس5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أريد به الخاص فقال: "هذه الآية يحتج بها الأصوليون على
إطلاق العام وإرادة الخاص، ولا حجة فيها؛ لأنها جاءت في
موضع آخر مقيدة بما يمنع الاستدلال بها على ذلك، وهو قوله،
عز وجل:
{وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ
الْعَقِيمَ، مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ
إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 41-42]، والقصة واحدة، فدل على أن قوله:
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْء} مقيد بما أتت عليه، كأنه -سبحانه- قال: تدمر كل شيء أتت عليه،
وحينئذ يكون التدمير مختصًّا بذلك، فتكون الآية خاصة أريد
بها الخاص، فلا يصح الاحتجاج بها على ما يذكرون" شرح
الطوفي "2/ 551-552".
1 في فصل: العام إذا دخله التخصيص يبقى حجة فيما لم يخص.
2 المخصص ينقسم إلى قسمين: منفصل ومتصل.
فالمنفصل: هو ما يستقل بنفسه، ولم يكن مرتبطًا بكلام آخر
ويشمل: الحس، والعقل، والإجماع، والقياس، والمفهوم، سواء
أكان مفهوم موافقة أم مفهوم مخالفة، والعرف المقارن
للخطاب، ولم يذكره المصنف، والنص من الكتاب أو السنة، وزاد
المصنف -على ما ذكره جمهور الأصوليين- قول الصحابي، عند من
يراه حجه.
والمخصص المتصل: ما لا يستقل بنفسه، ويشمل: الاستثناء،
والشرط، والصفة، والغاية، وبدل البعض.
3 وهو الدليل المأخوذ من إحدى الحواس الخمسة المعروفة.
4 سورة الأحقاف من الآية "25" وسبق ما أورده الطوفي على
الاستدلال بها.
5 كالجبال مثلًا
ج / 2 ص -61-
الثاني: دليل العقل.
وبه خصص قوله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}1 لدلالة العقل على استحالة تكليف من لا يفهم.
فإن قيل: العقل سابق على أدلة السمع، والمخصص ينبغي أن
يتأخر؛ لأن التخصيص: إخراج ما يمكن دخوله تحت اللفظ، وخلاف
المعقول لا يمكن تناول اللفظ له.
قلنا: نحن نريد بالتخصيص: الدليل المعرّف إرادة المتكلم،
وأنه أراد باللفظ الموضوع للعموم معنى خاصًّا، والعقل يدل
على ذلك، وإن كان متقدمًا2.
فإن قلتم: لا يسمى ذلك تخصيصًا، فهو نزاع في عبارة 3.
وقولهم: "لا يتناوله اللفظ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران من الآية "97" ومثل ذلك قوله تعالى:
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16 والزمر: 62] فإن العقل قاض بالضرورة أنه -سبحانه- لم
يخلق نفسه. والعلماء يمثلون بالآيتين، ويجعلون الآية
الأولى من قبيل دليل العقل النظري، والثاني من الضروري.
2 معناه: أن العقل ينظر إليه من جهتين: الأولى من حيث
وجوده، وهذا لا خلاف فيه، والثانية من حيث كونه مبينًا
للعام، وهذا هو المقصود، فالعقل متقدم من حيث الوجود،
ومتأخر من حيث التخصيص. انظر: شرح الطوفي "2/ 554".
3 لأن تسمية الأدلة مخصصة تجوز، وقد علم أن تخصيص العام
محال، لكن الدليل يعرف إرادة المتكلم، وأنه أراد باللفظ
الموضوع للعموم، معنى خاصًّا، ودليل العقل يجوز أن يبين
لنا أن الله -تعالى- ما أراد بقوله:
{خَالِقُ كُلِّ شَيْء} نفسه وذاته، فإنه وإن تقدم دليل العقل، فهو موجود -أيضًا- عند نزول
اللفظ، وإنما يسمى مخصصًا بعد نزول الآية لا قبلها. انظر:
شرح الطوفي "2/ 554"، ونزهة الخاطر العاطر "2/ 160، 161".
ج / 2 ص -62-
قلنا:
يتناوله من حيث اللسان لكن لما وجب الصدق في كلام الله
-تعالى- تبين أنه يمتنع دخوله تحت الإرادة، مع شمول اللفظ
له وضعًا1.
الثالث: الإجماع2.
فإن الإجماع قاطع، والعام يتطرق إليه الاحتمال.
وإجماعهم على الحكم في بعض صور العام على خلاف موجب
العموم: لا يكون إلا عن دليل قاطع بلغهم في نسخ اللفظ، إن
كان أريد به العموم، أو عدم دخوله تحت الإرادة عند ذكر
العموم3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معناه: أن قولهم: "لا يجوز دخوله تحت اللفظ" ممنوع، بل
يدخل تحت اللفظ من حيث اللغة، ولكن يكون قائله كاذبًا،
ولما وجب الصدق في كلام الله -تعالى- تبين أنه يمتنع دخوله
تحت الإرادة، مع شمول اللفظ له من حيث الوضع اللغوي. انظر:
المرجعين السابقين.
2 التخصيص بالإجماع: رأي جمهور العلماء، ومرادهم بذلك:
دليل الإجماع، لا أن الإجماع نفسه مخصص؛ لأن الإجماع لا بد
له من دليل يستند إليه، وإن لم نعرفه. وذهب بعض العلماء
إلى عدم التخصيص بالإجماع. انظر: المحصول جـ1 ق3 ص124،
العدة "2/ 578" شرح الكوكب المنير "3/ 369".
3 خلاصته: أن الإجماع دليل قطعي، ودلالة العام على أفراده
ظنية، والقطعي مقدم على الظني.
فإذا أجمع المجتهدون على حكم شرعي يخالف موجب اللفظ العام،
دل ذلك على أن هناك دليلًا استندوا إليه وإن لم نعرفه، كما
يدل أن هناك ناسخًا، فالتخصيص والنسخ راجعان إلى ذلك
المستند، فإذا رأينا الإجماع منعقدًا على العمل في بعض
الصور على خلاف العام، علمنا أن هناك نصًّا دل على ذلك
العمل.
ومن أمثلة ذلك: أن الدليل العام دل على أن المعارضات لا بد
فيها من عوض معلوم، ثم رأينا الناس مجمعين على دخول
الحمامات، وركوب السفن، =
ج / 2 ص -63-
الرابع: النص الخاص يخصص اللفظ العام:
فقول النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
"لَا قَطْعَ إِلَّا في رُبْعِ دِينَارٍ"1 خصص عموم قوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}2.
وقوله عليه السلام:
"لَا
زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ"3
خصص عموم قوله:
"فِيما سَقَتِ
السَّمَاءُ الْعُشْرُ"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والجلوس في النوادي بغير تعيين عوض، لأن الناس يختلفون
في مقدار المدة التي يمكثونها، ومقدار الماء الذي
يستخدمونه فاستدللنا بذلك الإجماع على أن هنالك دليلًا
مخصصًا للعام. انظر: شرح الطوفي "2/ 556".
1 حديث صحيح: أخرجه البخاري -كتاب الحدود- باب قول الله
تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} من حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا.
كما أخرجه مسلم: كتاب الحدود - باب: حد السرقة ونصابها،
وأبو داود: كتاب الحدود - باب فيما يقطع فيه السارق.
كما أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد في المسند "6/
36، 80، 81، 104" انظر: تلخيص الحبير "4/ 64"
2 سورة المائدة من الآية "38".
3 حديث صحيح: أخرجه البخاري -كتاب الزكاة- باب ليس فيما
دون خمس ذود صدقة، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-
مرفوعًا بلفظ: "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة،
وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس
ذود من الإبل صدقة"، كما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن ماجه ومالك والشافعي. والخمسة أوسق: ستون
صاعًا، والصاع: أربعة أمداد، والمد: رطل وثلث بغدادي،
فالأوسق الخمس 1600 رطل بغدادي. انظر: "فيض القدير 5/
376".
4 حديث صحيح: أخرجه البخاري -كتاب الزكاة- باب العشر فيما
يسقى من ماء =
ج / 2 ص -64-
ولا
فرق بين أن يكون العام كتابًا أو سنة1 أو متقدمًا أو
متأخرًا2.
وبهذا قال أصحاب الشافعي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= السماء وبالماء الجاري، من حديث ابن عمر -رضي الله
عنهما- بلفظ "فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريًا
العشر، وما سقي بالنضح نصف العشر". والمراد بقوله:
"عثريًا" بالثاء الساكنة والعين المفتوحة: ما يسقى بالسيل
الجاري في حفر، وما يسقى من النهر بلا مؤونه، أو يشرب
بعروقه.
كما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه
والدارقطني، جميعهم في الزكاة: انظر: المنتقى ص317.
1 فتكون الصور أربعة:
الأولى، تخصيص الكتاب بالكتاب: مثل قوله تعالى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] خصصت بقوله تعالى:
{وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4].
الصورة الثانية: تخصيص الكتاب بالسنة: كالمثال الذي ذكره
المصنف في تخصيص آية السرقة
الصورة الثالثة: تخصيص السنة بالسنة، كالمثال الذي أورده
المصنف.
الصورة الرابعة: تخصيص العام من السنة بالخاص من القرآن،
مثل قوله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- في الحديث الذي
رواه البخاري ومسلم:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله..." فقد خصص بقوله تعالى:
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ
عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}
[التوبة: 29]. وفي هذه الصورة خلاف سيذكره المصنف.
2 وهذا هو الصحيح من مذهب الإمام أحمد، قال أبو يعلى في
العدة "2/ 615". "سواء تقدم العام على الخاص أو تأخر، أو
جهل التاريخ.
ج / 2 ص -65-
وقد
روي عن أحمد -رحمه الله- رواية أخرى: أن المتأخر يقدم،
خاصًّا كان أو عامًّا.
وهو قول الحنفية1، لقول ابن عباس: "كنا نأخذ بالأحداث
فالأحداث من أمر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفي شرح الكوكب المنير "3/ 382": "سواء كانا مقترنين، أو
كانا غير مقترنين" وقال: "وحكي عن بعضهم في صورة الاقتران
تعارض الخاص لما قابله من العام، ولا يخصص به.
وعن الإمام أحمد -رضي الله عنه- رواية في غير المقترنين
موافقة لقول الحنفية والمعتزلة وغيرهم: أنه إن تأخر العام
نسخ، وإن تأخر الخاص نسخ من العام بقدره. فعلى هذا القول:
إن جهل التاريخ وقف الأمر حتى يعلم". ا. هـ.
1 الحنفية وإن كانوا يوافقون الحنابلة، منها: أن لا يتأخر
المخصص، وأن يكون مستقلًا بالكلام، وأن يكون متصلًا
بالعام، إلا كان نسخًا. انظر: فواتح الرحموت "1/ 300،
345".
2 هذا الأثر أخرجه البخاري من قول الزهري حيث قال: "قال
الزهري: وإنما يؤخذ من أمر النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم- الآخر فالآخر" ووافقه على ذلك ابن حجر في فتح
الباري "4/ 181".
أما رواية ابن عباس: فأخرجهما مسلم: كتاب الصيام، باب جواز
الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر ولفظه: ".....عن عبيد
الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس -رضي الله عنهما-
أنه أخبره أن رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- خرج
عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر، وكان
صحابة رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- يتبعون
الأحداث فالأحداث من أمره".
كما أخرجه مسلم بسند آخر ثم قال: "قال يحيى: قال سفيان: لا
أدري من قول من هو؟ وكان يؤخذ بالآخر من قول رسول الله
-صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم-. وهذا يقوي رواية =
ج / 2 ص -66-
ولأن
العام يتناول الصور التي تحتهن كتناول اللفظ لها بالتنصيص
عليها، ولو نص على الصورة الخاصة: لكان نسخًا، فكذلك إذا
عم.
وهذا فيما إذا علم المتأخر.
فإن جهل: فهذه الرواية تقتضي: أن يتعارض الخاص وما قابله
من العام ولا يقضي بأحدهما على الآخر.
وهي قول طائفة.
لأنه يحتمل أن يكون العام ناسخًا، لكونه متأخرًا.
ويحتمل أن يكون مخصوصًا، فلا سبيل إلى التحكم1.
وقال بعض الشافعية: لا يخصص عموم السنة بالكتاب2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= البخاري في أن الأثر من قول الزهري. وبمثل رواية مسلم
-عن ابن عباس- رواه مالك في الموطأ، كتاب الصيام، باب
الصوم في السفر رقم "1715".
1 وضح الطوفي -رحمه الله تعالى- هذه المسألة في شرحه "2/
561" فقال: فإن جهال التاريخ، فكذلك عندنا، أي: يقدم الخاص
على العام؛ لأن أكثرها في جهالة التاريخ: أن يقدر تأخر
العام، ونحن لو تحققنا تأخره، قدمنا الخاص عليه، فلا فرق
على قولنا بين تقدمه وتأخره، وجهالة التاريخ.
وعند الحنفية يتعارضان، وهو قياس الرواية المذكورة عن
أحمد، والتعارض بين الخاص وما قبله من العام؛ لأنه يحتمل
أن يكون العام متأخرًا، فيكون ناسخًا للخاص، ويحتمل أن
يكون العام متقدمًا، فيكون مخصوصًا بالخاص، ولا مرجح، فيجب
التوقف، لئلا يكون ترجيح أحدهما تحكمًا".
2 هذا متصل بقول المصنف، قبل ذلك: "ولا فرق بين أن يكون
العام كتابًا أو سنة...." وهذا كما قلنا: يشمل أربع صور،
منها: تخصيص العام من السنة بالخاص من القرآن الكريم، فبين
المصنف هنا أن في هذه الصورة خلافًا لبعض الشافعية، وهو
رواية عن الإمام أحمد، خرجها ابن حامد، كما سيأتي.
ج / 2 ص -67-
وخرّجه1 ابن حامد رواية لنا، لقوله تعالى:
{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}2، لأن المبيِّن تابع للمبيَّن، فلو خصصنا السنة بالقرآن صار تابعًا
لها3.
وقالت طائفة من المتكلمين: لا يخصص عموم الكتاب بخبر
الواحد.
وقال عيسى بن أبان: يخص العام المخصوص، دون غيره4.
وحكاه القاضي عن أصحاب5 أبي حنيفة، لأن الكتاب مقطوع به،
والخبر مظنون، فلا يترك به المقطوع، كالإجماع لا يخص بخبر
الواحد.
وقال بعض الواقفية: بالتوقف؛ لأن خبر الواحد مظنون الأصل،
مقطوع المعنى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التخريج: نقل حكم مسألة إلى ما يشبهها والتسوية بينهما
فيه. انظر: المدخل لابن بدران ص55.
2 سورة النحل من الآية "44".
3 خلاصة وجه الدلالة: أن التخصيص بيان، فلو كان القرآن
مبينًا للسنة للزم التناقض، إذ يصير كل واحد منهما مبينًا
للآخر وتابعًا له؛ لأن المبيِّن، بالكسر، تابع للمبيَّن،
بالفتح، وكون كل واحد من الشيئين تابعًا للآخر باطل.
4 أي: أن خبر الواحد يخصص العام إذا كان مخصوصًا قبل ذلك
بغيره، أما إذا لم يخصص فلا يقوي خبر الواحد على تخصيصه؛
لأنه يرى أن العام إذا خصص صار مجازًا. انظر: العدة "2/
552".
5 لفظ "أصحاب" من العدة "2/ 551" ولفظه: "وقال أصحاب أبي
حنيفة" إن كان العموم قد دخله التخصيص بالاتفاق جاز تخصيصه
بخبر الواحد، وإن لم يكن دخله التخصيص، لم يجز تخصيصه بخبر
الواحد" وانظر في المسألة: فواتح الرحموت "1/ 349"، أصول
السرخسي "1/ 133".
ج / 2 ص -68-
واللفظ
العام من الكتاب مقطوع الأصل، مظنون الشمول، فهما
متقابلان، ولا دليل على الترجيح1.
ولنا في تقديم الخاص مسلكان2:
أحدهما: أن الصحابة -رضي الله عنهم- ذهبت إليه:
فخصصوا قوله تعالى:
{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}3
برواية أبي هريرة عن النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
"لا تُنْكَحُ المرأةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِها"4.
وخصصوا آية الميراث بقوله:
"لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَاَ الْكَافِرُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة دليل الواقفية: أن العام من القرآن قطعي السند؛
لأنه نقل نقلًا متواترًا، ظني الدلالة على أفراد العام،
وخبر الواحد قطعي الدلالة، لخصوصيته في مدلوله، ظني الثبوت
من حيث السند فيتعادلان، لأن كل واحد منهما صار راجحًا من
وجه، مرجوحًا من وجه آخر. انظر: شرح الطوفي "2/ 563".
وأقول: إن هذا الدليل يصلح أن يكون دليلًا لما رجحه المصنف
والحنابلة بصفة عامة، من جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد،
وهو الذي يتفق مع الأمثلة التي سيذكرها.
2 أي: دليلان، أو وجهان كما قال الطوفي.
3 سورة النساء من الآية "24".
4 حديث النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة
وخالتها، حديث صحيح أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب لا
تنكح المرأة على عمتها، عن جابر وعن أبي هريرة، رضي الله
عنهما.
كما أ خرجه مسلم: كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة
وعمتها أو خالتها في النكاح عن أبي هريرة، وأبو داود: كتاب
النكاح، باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء، وكذلك
الترمذي وابن ماجه والنسائي وغيرهم.
ج / 2 ص -69-
المُسْلِمَ"1، "وَلَاَ
يَرِثُ الْقَاتِلُ"2، و"إنَّا مَعَاشِرَ الْْأَنْبِياءِ لَا نُورَثُ"3.
وخصصوا عموم الوصية4 بقوله:
"لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ"5.
وعموم قوله تعالى:
{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}6،
بقوله:
"حَتَّى
يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا"7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب المغازي، باب لا يرث
المسلم الكافر، وفي كتاب الفرائض، ومسلم، وأبو داود،
والترمذي، وابن ماجه والدارمي ومالك جميعهم في كتاب
الفرائض، وأحمد في المسند "5/ 201، 202، 209".
2 أخرجه مالك في الموطأ: كتاب العقول، باب ما جاء في ميراث
العقل والتغليظ فيه، من حديث عمر بن الخطاب، رضي الله عنه.
كما أخرجه أبو داود: كتاب الديات، باب ديات الأعضاء، عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وابن ماجه: كتاب الفرائض،
باب ميراث القاتل، عن أبي هريرة، رضي الله عنه.
3 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الفرائض، باب قول النبي،
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
"لا نورث ما
تركنا صدقة" من حديث عائشة رضي الله عنها.
كما أخرجه عنها مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي،
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
"لا نورث"، وأبو داود: كتاب الخراج، باب في صفايا رسول الله -صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم- من الأموال، والترمذي: كتاب السير، باب
ما جاء في تركة رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم-
من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
4 وذلك في قوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ}. [البقرة:180].
5 أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي والدارمي
وأحمد والشافعي وغيرهم. وقد تقدم تخريجه والحكم عليه في
باب النسخ.
6 سورة البقرة من الآية "230" وهي قوله تعالى:
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ
زَوْجًا غَيْرَهُ....}.
7 أخرجه البخاري: كتاب الطلاق، باب من أجاز طلاق الثلاث،
كتاب اللباس، =
ج / 2 ص -70-
إلى
نظائر كثيرة لا تحصى، مما يدل على أن الصحابة والتابعين
كانوا يسارعون إلى الحكم بالخاص، من غير اشتغال بطلب
تاريخ، ولا نظر في تقديم ولا تأخير.
الثاني: أن إرادة الخاص بالعام غالبة معتادة، بل هي
الأكثر1، واحتمال النسخ كالنادر البعيد2، وكذلك احتمال
تكذيب الراوي، فإنه عدل جازم في الرواية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= باب الإزار المهدب، وكتاب الأدب، باب التبسم والضحك،
ومسلم: كتاب النكاح، باب: لا تحل المطلقة ثلاثًا لمطلقها
حتى تنكح. ولفظة: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاءت
امرأة رفاعة إلى النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم-
فقالت: كنت عند رفاعة، فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت عبد
الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب. فتبسم رسول
الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- وقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك".
كما أخرجه الترمذي وابن ماجه والدارمي. انظر "شرح السنة
للبغوي جـ9 ص233".
1 معناه: أنه إذا ورد لفظ عام ولفظ خاص، فالظاهر الغالب أن
حكم الخاص مراد به، وأن المراد بالعام ما عدا الحكم الخاص،
فإرادة أن الأنبياء لا يورثون من قوله-صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم:
"نحن معاشر الأنبياء لا نورث"
أظهر من إرادة أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم-
يورث من قوله تعالى:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ}
[النساء:11] وإذا كانت إرادة الخاص أظهر وأغلب، قدم لظهوره
وغلبته. انظر شرح الطوفي "2/ 564".
2 هذا جواب عن دليل الطائفة التي ذهبت إلى تعارض العام
والخاص عند جهل التاريخ، لاحتمال النسخ أو التخصيص، ولا
سبيل إلى الترجيح. فأجاب المصنف: بأن احتمال النسخ كالنادر
البعيد. وكذلك احتمال كذب الراوي بعيد أيضًا، فإنه عدل،
والنفس تطمئن إلى نقل العدل في العدل، كاطمئنانها إلى صدق
الشاهدين العدلين.
ج / 2 ص -71-
وسكون
النفس إلى العدل في الرواية فيما هو نص، كسكونها إلى عدلين
في الشهادات.
ولا يخفى أن احتمال صدق أبي بكر -رضي الله عنه- في روايته
عن النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
"نَحْنُ
مَعَاشِرَ الأنبياء لا نورث"
أرجح من احتمال أن تكون الآية سيقت لبيان حكم ميراث النبي
-صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم-1.
فلذلك: عمل به الصحابة، والعمل بالراجح متعين.
فأما قول من قال بالتعارض والوقف: فهو مطالبة بالدليل لا
غير2.
وقد ذكرنا الدليل من وجهين، وبينا أن احتمال إرادة الخصوص
أرجح من احتمال النسخ؛ فإن أكثر العمومات مخصصة وأكثر
الأحكام مقررة غير منسوخة.
وكون النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- مبينًا لا يمنع
من حصوله البيان بغيره، فقد أخبر الله -تعالى- أنه أنزل
الكتاب تبيانًا لكل شيء3.
وقولهم: "المبيِّن تابع" غير صحيح فإن الكتاب يبين بعضه
بعضًا، والسنة يخص بعضها بعضًا، وليس المخصص تابعًا
للمخصوص.
وقد بينا -فيما تقدم- جواز التخصيص بدليل سابق4، وبالإجماع
ويجوز تخصيص الآحاد بالمتواتر، وليس فرعًا له.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا تابع لقول المصنف: "أن إرادة الخاص بالعام غالبة
معتادة، بل هي الأكثر". كما سبق توضيحه في هامش "1".
2 أي: أنهم قالوا: إن عموم الكتاب وخبر الواحد متعادلان
ولا دليل على الترجيح فيجب التوقف حتى يظهر الدليل، وقد
ظهر لهم ما يزيل هذا التوقف.
3 قال تعالى:
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ
شَيْءٍ}
النحل من الآية "89" وهو رد على بعض الشافعية الذين خالفوا في تخصيص
السنة بالكتاب.
4 كالعقل.
ج / 2 ص -72-
وقولهم: "إن الكتاب مقطوع به"1
قلنا: دخول المخصوص في العموم، وكونه مرادًا ليس بمقطوع،
بل هو مظنون ظنًّا ليس بالقوى، بل ظن الصدق أقوى منه، لما
ذكرنا.
ثم إن براءة الذمة قبل السمع مقطوع بها، بشرط أن لا يرد
سمع، وتشتغل بخبر الواحد.
جواب آخر:
آن وجوب العمل بخبر الواحد مقطوع به بالإجماع، وإنما
الاحتمال في صدق الراوي، ولا تكليف علينا في اعتقاد صدقه،
فإن تحليل البضع2، وسفك الدم واجب3 بقول عدلين قطعًا، مع
أنا لا نقطع بصدقهما، كذا الخبر.
الخامس: المفهوم بالفحوى ودليل الخطاب4.
فإن الفحوى قاطع كالنص، ودليل الخطاب حجة كالنص، فيخص عموم
قوله، عليه السلام:
"في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ"5 بمفهوم قوله:
"في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا رد على ما ذهب إليه الحنفية، كما تقدم قريبًا.
2 كالنكاح، فإنه يثبت بشهادة عدلين.
3 كالحدود والقصاص، فإن ذلك يثبت بشهادة اثنين أيضًا
4 أي: أن اللفظ العام يخص بفحوى الخطاب، وهو ما يطلق عليه
عند الجمهور مفهوم الموافقة، كما يخص بدليل الخطاب، وهو ما
يطلق عليه مفهوم المخالفة والتخصيص بمفهوم الموافقة محل
اتفاق بين العلماء، أما التخصيص بمفهوم المخالفة، فقد خالف
فيه الحنفية وبعض الشافعية، كالغزالي، حيث لم يعتبروه حجة.
5 أخرجه أبو داود: كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، من
حديث علي وابن عمر -رضي الله عنهم- والترمذي: كتاب الزكاة،
باب ما جاء في زكاة الإبل والغنم من حديث ابن عمر، وابن
ماجه، كتاب الزكاة، باب صدقة الغنم.
ج / 2 ص -73-
سائِمةِ
الغَنَمِ زَكَاةٌ" في إخراج
المعلوفة2.
السادس: فعل رسول الله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم،
كتخصيص عموم قوله تعالى:
{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}3 بما روت عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم- يأمرني فأتزر، فيباشرني وأنا حائض"4.
ولذلك: ذهب بعض الناس إلى تخصيص قوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}
5 برجمه لماعز، وتركه جلده6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا جزء من حديث أنس -رضي الله عنه- مرفوعًا، الذي روى
فيه كتاب أبي بكر -رضي الله عنه- وبين فيه أحكام الزكاة
التي فرضها رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- وهو
حديث طويل جاء فيه:
".... وفي صدقة الغنم في سائمتها زكاة....".
أخرجه البخاري: كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم، وأبو داود:
كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، والنسائي: كتاب الزكاة،
باب زكاة الغنم، والدارقطني: كتاب الزكاة، باب زكاة الإبل
والغنم، والشافعي: كتاب الزكاة، كتاب رسول الله -صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم- الذي جمع فرائض الصدقة.
2 هذا مثال للتخصيص بمفهوم المخالفة. ومثال التخصيص بمفهوم
الموافقة: قوله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لَيُّ
الواجد يُحل عرضه وعقوبته" رواه أحمد وأبو داود والنسائي
وابن ماجه والحاكم وغيرهم. خص منه الوالدان بمفهوم قوله
تعالى:
{فَلا تَقُلْ
لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فمفهومه: حرمة إيذائها بحبس أو غيره. العدة "2/
579".
3 سورة البقرة من الآية "222".
4 رواه البخاري: كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض، وفي كتاب
الاعتكاف، باب في غسل المعتكف، ومسلم: كتاب الحيض، باب
مباشرة الحائض فوق الإزار، وأبو داود: كتاب الطهارة، باب
في الرجل يصيب منها دون الجماع، كما رواه الترمذي وابن
ماجه والدارمي وأحمد.
5 سورة النور من الآية2.
6 قال الشيخ الطوفي: "وبيانه: أن قوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِائَة جَلْدَة}
ج / 2 ص -74-
السابع: تقرير رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم-
واحدًا من أمته بخلاف موجب العموم وسكوته عليه، فإن سكوت
النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- عن الشيء يدل على
جوازه، فإنه لا يحل له الإقرار على الخطأ، وهو معصوم1.
وقد بينا أن إثبات الحكم في حق واحد يعم الجميع2.
الثامن: قول الصحابي، عند من يراه حجة مقدمًا على القياس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= [النور:2]، عام في الثيب والبكر، فلما رجم النبي -صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم- ماعزًا، وترك جلده، دل على أن
الجلد مختص بالبكر دون الثيب، فكان هذا تخصيصًا للنص العام
بفعله، عليه الصلاة والسلام، أو بمعنى فعلهن وهو ترك
الجلد، وهذه من مسائل الخلاف، أعني: أن الزاني الثيب: هل
يجلد مع الرجم أم لا؟ والصحيح من مذهبنا أنه يجلد خلافًا
للشافعي" شرح مختصر الروضة "2/ 570".
والخلاصة: أن التخصيص بفعل النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم- محل خلاف بين العلماء فالجمهور يرون أنه يخصص
العام، وخالف في ذلك بعض الشافعية، والكرخي من الحنفية.
انظر العدة "2/ 575".
1 وهذا هو رأي جمهور العلماء، خلافًا للحنفية وبعض
المتكلمين، حيث قالوا: إن التقرير لا صيغة له، فلا يقابل
صيغة العام. ورد عليهم الجمهور بأن سكوت رسول الله -صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم- عن ذلك مع علمه به دليل على جوازه،
وإلا لوجب إنكاره.
جاء في شرح الكوكب المنير "3/ 375" "وحيث جاز التخصيص
بالتقرير، فهل المخصص نفس تقريره -صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم- أو المخصص ما تضمنه التقرير من سبق قوله به فيكون
مستدلًا بتقريره على أنه قد خص بقول سابق، إذ لا يجوز لهم
أن يفعلوا ما فيه مخالفة للعام إلا بإذن صريح، فتقريره
دليل ذلك؟ فيه وجهان.
قال ابن فورك والطبري: الظاهر الأول".
2 وذلك في قول المصنف: "وكذلك إذا توجه الحكم إلى واحد من
الصحابة داخل فيه غيره" من باب الأمر.
ج / 2 ص -75-
يخص به
العموم، فإن القياس يخصص به، فقول الصحابي المقدم عليه
أولى1.
فإن قيل: فالصحابي يترك مذهبه للعموم، كترك ابن عمر مذهبه
لحديث رافع بن خديج في المخابرة2، فغيره يجب أن يتركه.
قلنا: إنما تركه لنص عارضه، لا للعموم.
التاسع: قياس نص خاص إذا عارض عموم نص آخر:
فيه وجهان:
أحدهما: يخص به العموم.
وهو قول أبي بكر3، والقاضي4، وقول الشافعي، وجماعة من
الفقهاء والمتكلمين5.
والوجه الآخر: لا يخص به العموم.
وهو قول أبي إسحاق بن شاقلا وجماعة من الفقهاء، لحديث
معاذ6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو رأي الحنابلة والحنفية وبعض الشافعية، وخالف في ذلك
المالكية وجمهور الشافعية. انظر: المحصول جـ1 ق3 ص191،
الإحكام للآمدي "3/ 333" والعدة "2/ 579".
2 المخابرة: المزارعة على نصيب معين مما تخرجه الأرض،
كالثلث والربع، وقد روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه
قال: "كنا نخابر على عهد رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم- وبعد أربعين سنة، حتى روى لنا رافع بن خديج أن
النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- نهى عن ذلك". تقدم
تخريج الحديث في فصل ألفاظ الرواية.
3 المراد به: عبد العزيز بن جعفر، المعروف بغلام الخلال.
4 كما في العدة "2/ 559".
5 وهو رأي جمهور العلماء كما في العدة "2/ 559".
6 تقدم تخريجه والكلام على سنده. ووجه الدلالة من الحديث
لأصحاب هذا =
ج / 2 ص -76-
ولأن
الظنون المستفادة من النصوص أقوى من الظنون المستفادة من
المعاني المستنبطة.
ولأن العموم أصل، والقياس فرع، فلا يقدم على الأصل.
ولأن القياس إنما يراد لطلب حكم ما ليس منطوقًا به، فما هو
منطوق به لا يثبت بالقياس.
وقال قوم: يقدم جلي القياس على العموم، دون خفية1، لأن
الجلي أقوى من العموم، والخفي ضعيف.
والعموم -أيضًا- يضعف تارة بأن لا يظهر منه قصد التعميم،
ويظهر ذلك بأن يكثر المخرج منه، ويتطرق إليه تخصيصات
كثيرة، فإن دلالة قوله:
"لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بالْبُرِّ"2 على تحريم بيع الأرز، أظهر من دلالة قوله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المذهب: أن معادًا -رضي الله عنه- قدم السنة على
الاجتهاد الذي يشمل القياس، وهو عام فيما إذا كان القياس
أخص أو أعم، وهذا يقتضي تقديم العام على قياس النص الخاص،
فلا يخص به النص الخاص.
ومثاله: أن الله -تعالى- أحل البيع في قوله تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. وهو عام في كل بيع، ثم ورد حديث رسول الله -صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم- بتحريم الربا في البر، والعلة في
تحريمه عند بعض العلماء: الكيل، فقيس عليه تحريم الربا في
الأرز، وخص به العموم المتقدم. انظر: شرح الطوفي "2/ 572".
1 نسبه الآمدي إلى جماعة من الشافعية. انظر: الإحكام "2/
159".
2 هذا الحديث روي بألفاظ مختلفة، منها ما رواه البخاري في
كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالفضة عن أبي سعيد مرفوعًا،
أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال:
"الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر
بالتمر، والملح بالملح، مِثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو
ازداد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء"
وأخرجه عنه مسلم: كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب
بالورق نقدًا، وأحمد في المسند "3/9".
ج / 2 ص -77-
تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}1
على إباحة بيعه متفاضلًا.
ودلالة تحريم الخمر على تحريم النبيذ بقياس الإسكار، أغلب
في الظن من دلالة قوله تعالى:
{قُلْ لا
أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ
يَطْعَمُهُ...}2 على إباحته.
فإن تقابل الظنان: وجب تقديم أقواهما، كالعمل في العمومين،
والقياسين المتقابلين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة من الآية "275".
2 سورة الأنعام من الآية "145".
فصل: [تعريف القياس الجلي والخفي]
ثم القائلون بهذا اختلفوا في القياس الجلي.
ففسّره قوم: بأنه قياس العلة، والخفي: بقياس الشبه3.
وقيل: الجلي: ما يظهر فيه المعنى، كقوله، عليه السلام:
"لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ"4، وتعليل ذلك بما يدهش الفكر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة من الآية "275".
2 سورة الأنعام من الآية "145".
3 القياس ينقسم باعتبار علته إلى أربعة أقسام:
قياس العلة: وهو ما صرح فيه بالعلة.
قياس الدلالة: وهو ما لم تذكر فيه العلة، وإنما ذكر فيه
لازم من لوازمها.
قياس في معنى الأصل؛ وهو ما كان بإلغاء الفارق بين الأصل
والفرع.
قياس الشبه: وهو ما جمع فيه بين الأصل والفرع بوصف يوهم
اشتماله على حكمة الحكم من جلب المصلحة أو دفع المفسدة،
كما عرفه بذلك المصنف في باب القياس.
وسوف يأتي -إن شاء الله تعالى- توضيح هذه الأقسام والتمثيل
لها في باب القياس.
4 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الأحكام، باب هل يقضي
الحاكم أو =
ج / 2 ص -78-
حتى
يجري ذلك في الجائع1.
وقال عيسى بن أبان: يجوز ذلك في العام المخصوص، دون غيره،
لضعف العام بالتخصيص2.
وحكاه القاضي عن أصحاب3 أبي حنيفة.
وجه الأول4.
أن صيغة العموم محتملة للتخصيص، معرضة له، والقياس غير
محتمل، فيقضي به على المحتمل، كالمجمل مع المفسر.
فأما حديث معاذ5: فإن كون هذه الصورة مرادة باللفظ العام
غير مقطوع به، والقياس يدلنا على أنها غير مرادة.
ولهذا جاز ترك عموم الكتاب بخبر الواحد، وبالخبر المتواتر
اتفاقًا، ورتبة السنة بعد رتبة الكتاب في الخبر6، والسنة
لا يترك بها الكتاب، لكن تكون مبينة له، والتبيين يكون
تارة باللفظ، وتارة بمعقول اللفظ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يفتي وهو غضبان، عن أبي بكرة -رضي الله عنه- مرفوعًا.
كما أخرجه مسلم: كتاب الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو
غضبان، وأبو داود: كتاب الأقضية- باب القاضي يقضي وهو
غضبان. كما أخرجه الترمذي وابن ماجه والنسائي وغيرهم.
انظر: تلخيص الحبير "3/ 189".
1 ومثله الخوف والألم وكل ما يؤدي إلى اضطراب الخاطر وضعف
إدراك الحكم.
2 لما قلناه قريبًا من أن العام عنده بعد التخصيص يصير
مجازًا.
3 لفظ "أصحاب" من العدة "2/ 563" فقد نسبه لأصحاب أبي
حنيفة، وليس لأبي حنيفة.
4 أي: هذا دليل المذهب الأول، وهو جواز التخصيص بالقياس
مطلقًا.
5 بدأ المصنف يرد على أدلة المخالفين.
6 أي: في خبر معاذ المتقدم.
ج / 2 ص -79-
وقولهم: "إن الظنون المستفادة من النصوص أقوى".
فلا نسلم ذلك على الإطلاق.
وقولهم: "لا يترك الأصيل بالفرع".
قلنا: هذا القياس فرع نص آخر، لا فرع النص المخصوص به،
والنص يخص تارة بنص آخر، وتارة بمعقول النص.
ثم يلزم: أن لا يخصص عموم القرآن بخبر الواحد1.
وقولهم: "هو منطوق به"2.
قلنا: كونه منطوقًا به أمر مظنون، فإن العام إذا أريد به
الخاص: كان نطقًا بذلك القدر، وليس نطقًا بما ليس بمراد.
ولهذا جاز التخصيص بدليل العقل القاطع، مع أن دليل العقل
لا يقابل النص الصريح من الشارع؛ لأن الأدلة لا تتعارض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معناه: أنه يلزم على قولهم أن لا يخصص عموم القرآن بخبر
الواحد؛ لأنه فرع عنه، فإن حجيته ثابتة بأصل من كتاب أو
سنة، فيكون فرعًا له، وقد سلمتم بتخصيص الكتاب بخبر
الواحد، فالقياس مثله.
2 أي: قولهم: "ولأن القياس إنما يراد الطلب حكم ما ليس
منطوقًا به، فما هو منطوق به لا يثبت بالقياس". فبين
المصنف أن كونه منطوقًا به أمر مظنون ومشكوك فيه.
ومن أمثلة ذلك: الأرز في قوله تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} ليس كما لو قيل: يحل بيع الأرز بالأرز متفاضلًا ومتماثلًا. فإذا
كان كونه مرادًا بآية إحلال البيع مشكوكًا فيه، كان كونه
منطوقًا به مشكوكًا فيه؛ لأن العام إذا أريد به الخاص كان
ذلك نطقًا بذلك القدر، وليس نطقًا بما ليس بمراد. انظر:
نزهة الخاطر "1/ 172".
ج / 2 ص -80-
فصل: في تعارض العمومين
إذا تعارض عمومان: فأمكن الجمع بينهما، بأن يكون أحدهما
أخص من الآخر، فيقدم الخاص1.
أو يكون أحدهما يمكن حمله على تأويل صحيح، والآخر غير ممكن
تأويله، فيجب التأويل في المؤول، ويكون الآخر دليلًا على
المراد منهن جمعًا بين الحديثين، إذ هو أولى من إلغائهما.
وإن تعذر الجمع بينهما، لتساويهما، ولكونهما متناقضين، كما
لو قال:
"مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقتلُوه"2،
"مَنْ
بَدَّلَ دِيْنَهُ فَلَا تَقْتُلُوه":
فلا بد أن يكون أحدهما ناسخًا للآخر.
فإن أشكل التاريخ طلب الحكم من دليل غيرهما.
وكذلك لو تعارض عمومان، كل واحد عام من وجه خاص من وجه،
مثل قوله، عليه السلام:
"مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَها فَلْيُصَلِّهَا إِذَا
ذَكَرَهَا"3،
فإنه يتناول الفائتة بخصوصها، ووقت النهي بعمومه، مع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما سبق في قول المصنف: "الرابع: النص الخاص يخصص اللفظ
العام".
2 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الجهاد، باب لا يعذب
بعذاب الله، وفي كتاب استتابة المرتدين، باب حكم المرتد
والمرتدة، عن ابن عباس مرفوعًا، وأبو داود: كتاب الحدود،
باب الحكم فيمن ارتد، والترمذي: كتاب الحدود، باب ما جاء
في المرتد، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه: كتاب
الحدود، باب ما جاء في المرتد، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"،
وابن ماجه: كتاب الحدود، باب المرتد عن دينه.
3 أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة
فليصلها إذا ذكرها من حديث أنس مرفوعًا، ومسلم: كتاب
المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء =
ج / 2 ص -81-
قوله:
"لَا صَلَاةَ بَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ"1 يتناول الفائتة بعمومه، والوقت بخصوصه.
وقوله: "مَنْ بَدَّلَ
دِينَهُ فَاقْتُلُوه" مع
قوله:
"نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ"2.
فهما سواء، لعدم ترجيح أحدهما على الآخر، فيتعارضان، ويعدل
إلى دليل غيرهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، كما أخرجه أبو
داود وغيره.
1 أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة بعد
الفجر حتى ترتفع الشمس، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين، باب
الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، وأبو داود: كتاب الصلاة،
باب من رخص في الركعتين بعد العصر إذا كانت الشمس مرتفعة،
كما أخرجه الترمذي وابن ماجه والنسائي والدارمي وأحمد.
2 الذي في كتب الحديث عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن
أمرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم- مقتولة، فأنكر رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم- قتل النساء والصبيان. رواه البخاري، كتاب الجهاد
"3014" و"3015" ومسلم في الجهاد أيضًا "827" والنسائي "1/
278" وأحمد في المسند "3/ 95" من حديث أبي سعيد الخدري،
رضي الله عنه.
فحديث "من بدل دينه...." عام في الرجل والمرأة، خاص في سبب
القتل، وهو التبديل والردة، وحديث النهي عن قتل النساء،
خاص في النساء، عام في النهي عن القتل، فيتعادلان، ويطلب
المرجح.
وخلاصة هذا الفصل: أنه إذا تعارض عامان من كل وجه، بحث لا
يمكن الجمع بينهما قدم أصحهما سندًا، فإن تساويا في السند،
قدم ما يرجحه دليلًا خارجي، فإن لم يوجد مرجح: فإن علم
التاريخ، فالمتأخر ناسخ للمتقدم، وإن جهل التاريخ وجب
التوقف والبحث عن مرجح.
وإن تعارض العامان من بعض الوجوه وجب الجمع بينهما ما
أمكن، بأن يكون أحدهما أخص من الآخر فيقدم الأخص، أو يحمل
أحدهما على تأويل صحيح =
ج / 2 ص -82-
وقال
قوم: لا يجوز تعارض عمومين خاليين عن دليل الترجيح، لأنه
يؤدي إلى وقوع الشبهة، وهو منفر عن الطاقة.
قلنا: بل ذلك جائز، ويكون مبيَّنًا للعصر الأول.
وإنما خفي علينا، لطول المدة، واندراس القرائن والأدلة،
ويكون ذلك محنة وتكليفًا علينا، لنطلب دليلًا آخر، ولا
تكليف في حقنا إلا بما بلغنا.
وأما التنفير: فباطل، فقد نفر طائفة من الكفار من النسخ،
ثم لم يدل ذلك على استحالته، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يجمع به بين العامين، فإن كان كل منهما عامًّا من وجه،
خاصًّا من وجه تعادلا وجلب ا لمرجح الخارجي. انظر: شرح
الطوفي "2/ 576 وما بعدها".
فصل: في الاستثناء
وصيغته: "إلا" و"غير" و"سوى" و"عدا" و"ليس" و"لا يكون"
و"حاشا" و"خلا".
وأمُّ الباب "إلا"1
وحدّه: أنه قول ذو صيغة متصل يدل على أن المذكور معه غير
مراد بالقول الأول2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يجمع به بين العامين، فإن كان كل منهما عامًّا من وجه،
خاصًّا من وجه تعادلا وجلب ا لمرجح الخارجي. انظر: شرح
الطوفي "2/ 576 وما بعدها".
1 أي: هي الأصل، وما عداها يقوم مقامها.
2 وعرّفه الغزالي بقوله: وحده: أنه قول ذو صيغ مخصوصة،
محصورة، دال على أن المذكور فيه لم يرد بالقول الأول".
المستصفى "3/ 377" وهو الذي اختاره الآمدي في الإحكام "2/
120" وإن كان قد زاد عليه بعض القيود فقال: "هو لفظ =
ج / 2 ص -83-
ويفارق
الاستثناء التخصيص1 بشيئين:
أحدهما: في اتصاله2.
والثاني: أنه يتطرق إلى النص، كقوله: "عشرة إلا ثلاثة"3.
والتخصيص بخلافه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= متصل بجملة، لا يستقل بنفسه، دال على أن مدلوله غير مراد
بما اتصل به بحرف "إلا" أو بأحد أخواتها".
وقول المصنف: "متصل...." إلى آخر التعريف رد على من زعم أن
الاستثناء يؤدي إلى التناقض، فإن البعض الذي أخرج كان قد
دخل في الجملة المستثنى منها، فبين المصنف أن المستثنى لم
يكن مرادًا من اللفظ العام أولًا، حتى يلزم ما قاله هؤلاء
من التناقض.
ومثال ذلك: أن قول القائل: "جاءني عشرة إلا ثلاثة" المراد
به: سبعة، وقوله: "إلا ثلاثة" قرينة على إرادة السبعة من
العشرة، من إطلاق الكل وإرادة البعض.
والخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي، لأن الاستثناء قد تقرر
وقوعه في لغة العرب تقررًا مقطوعًا به لا يتيسر لمنكر أن
ينكره، وأن ما بعد آلة الاستثناء خارج عن الحكم لما قبلها
بلا خلاف.
وقد ورد ذلك في العديد من آيات القرآن الكريم من مثل قوله
تعالى:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ
سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ
وَهُمْ ظَالِمُونَ}
[العنكبوت: 14].
1 المقصود بالتخصيص هنا: التخصيص بالمنفصل، وإلا
فالاستثناء تخصيص أيضًا، فالعبارة فيها تجوز.
2 أي: يجب أن يكون الاستثناء متصلًا بالمستثنى منه؛ لأنه
لا يستقل بنفسه.
3 معناه: أن الاستثناء داخل في النص، فإذا قال: له عليّ
عشرة إلا ثلاثة" فإن "ثلاثة" داخله في النص، والعشرة نص في
مسماها، فتطرق الاستثناء إلى ذلك النص، بخلاف التخصيص بغير
الاستثناء، فإنه داخل في العام ودلالته عليه ظنية، ودخوله
في العام بالنظر إلى إرادة المتكلم.
ج / 2 ص -84-
ويفارق
النسخ -أيضًا- في ثلاثة أشياء:
أحدها: في اتصاله.
والثاني: أن النسخ رافع لما دخل تحت اللفظ، والاستثناء
يمنع أن يدخل اللفظ ما لولاه لدخل1.
والثالث: أن النسخ يرفع جميع حكم النص، والاستثناء إنما
يجوز في البعض2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومعناه: أن المنسوخ كان مرادًا ثم نسخ، بخلاف الاستثناء،
فإنه لم يكن مرادًا من الأول.
2 هذا الفارق ليس على إطلاقه، فإن النسخ قد يرفع الحكم
كلية، وقد يرفع بعضه، كما تقدم في باب النسخ.
فصل: [في شروط الاستثناء]
ويشترط في الاستثناء ثلاثة شروط:
أحدهما: أن يتصل بالكلام، بحيث لا يفصل بينهما كلام، ولا
سكوت يمكن الكلام فيه؛ لأنه جزء من الكلام يحصل به
الإتمام، فإذا انفصل: لم يكن إتمامًا، كالشرط، وخبر
المبتدأ، فإنه لو قال: "أكرم من دخل داري" ثم قال، بعد
شهر: "إلا زيدًا": لم يفهم، كما لو قال: "زيدًا" ثم قال،
بعد شهر: "قائم" لم يعد خبرًا، وكذلك الشرط.
وحكي عن ابن عباس: أنه يجوز أن يكون منفصلًا3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومعناه: أن المنسوخ كان مرادًا ثم نسخ، بخلاف الاستثناء،
فإنه لم يكن مرادًا من الأول.
2 هذا الفارق ليس على إطلاقه، فإن النسخ قد يرفع الحكم
كلية، وقد يرفع بعضه، كما تقدم في باب النسخ.
3 الروايات عن ابن عباس متعددة: فروي عنه أنه يصح
الاستثناء وإن طال الزمن، ثم اختلف عنه فقيل: إلى شهر،
وقيل: إلى سنة، وقيل: أبدًا. ومنهم من أنكر ذلك وقال: لم
يصح ذلك عن ابن عباس، ومنهم: إمام الحرمين والعزالي، لما =
ج / 2 ص -85-
وعن
عطاء1 والحسن2: جواز تأخيره ما دام في المجلس3. وأومأ إليه
أحمد -رحمه الله- في الاستثناء في اليمين4.
والأولى: ما ذكرناه5.
الشرط الثاني: أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه6
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يلزم على ذلك من ارتفاع الثقة بالعهود والمواثيق، لإمكان
تراخي الاستثناء وقال القرافي: "المنقول عن ابن عباس إنما
هو في التعليق على مشيئة الله تعالى خاصة.
قال: ونقل بعض العلماء أن مدركه في ذلك قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23-24].
قال: المعنى: إذا نسيت قول "إن شاء الله" فقل بعد ذلك، ولم
يخصص"، شرح تنقيح الفصول ص243.
وقال الشوكاني: "ومن قال: بأن هذه المقالة لم تصح عن "ابن
عباس"
لعله لم يعلم بأنها ثابتة في "مستدرك الحاكم" وقال: صحيح
على شرط الشيخين بلفظ: "إذا حلف الرجل على يمين فله أن
يستنثي إلى سنة" وقد روى عنه هذا غير الحاكم من طرق، كما ذكره أبو موسى المديني
وغيره". إرشاد الفحول "1/ 527-528" وانظر: المستدرك "4/
303".
1 هو: عطاء بن أبي رباح بن أسلم، أبو محمد القرشي بالولاء،
المكي، من أعلام التابعين، كان مفتي مكة ومحدثها، سمع من
السيدة عائشة وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم -رضي الله عنهم
جميعًا- كما أخذ عنه أبو حنيفة والأوزاعي وابن إسحاق. توفي
بمكة سنة 114هـ". انظر في ترجمته: تذكرة الحفاظ "1/ 98"،
شذرات الذهب "1/ 147"، ميزان الاعتدال "3/ 70".
2 هو: الحسن بن يسار البصري. تقدمت ترجمته.
3 انظر: التمهيد لأبي الخطاب "2/ 74".
4 انظر: العدة "2/ 661".
5 أي: اشتراط اتصال المستثنى بالمستثنى منه.
6 وهو رأي أكثر الحنابلة. قال الفتوحي: "وهذا هو الصحيح من
الروايتين عند =
ج / 2 ص -86-
فأما
الاستثناء من غير الجنس: فمجاز لا يدخل في الإقرار، ولو
أقر بشيء واستثنى من غير جنسه: كان استثناؤه باطلًا1.
وهذا قول بعض الشافعية.
وقال بعضهم2، ومالك وأبو حنيفة، وبعض المتكلمين: يصح؛ لأنه
قد جاء في القرآن واللغة الفصيحة.
قال الله تعالى:
{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا}3، و{لا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا
أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ...}4،
{وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا
ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى}5.
وقال الشاعر6:
...................وَما بالرَّبْعِ مِنْ أَحَدٍ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الإمام أحمد -رضي الله عنه- واختيار الأكثر من أصحابنا
وغيرهم"، شرح الكوكب المنير "3/ 286".
1 انظر "العدة "2/ 673".
2 أي: بعض الشافعية.
3 سورة مريم من الآية "62" ومحل الشاهد: أن السلام ليس من
جنس اللغو.
4 سورة النساء من الآية "29" ومحل الشاهد: أن التجارة ليست
من جنس المال؛ لأن المال هو الأعيان، والتجارة: هي التصرف
في هذه الأعيان.
5 سورة الليل "19-20" ومحل الشاهد: أن ابتغاء وجه ربه
الأعلى ليس من جنس النعمة.
6 هو: زياد بن معاوية النابغة الذبياني المضري، من فحول
شعراء الجاهلية من أهل الحجاز، كان يقصده الشعراء ويعرضون
عليه أشعارهم، كان أحسن الشعراء شعرًا، وأكثرهم في الكلام
رونقًا، وأجزلهم بيتًا، ليس في شعره تكلف. انظر: طبقات
فحول الشعراء "1/ 56".
ج / 2 ص -87-
إلَّا الأَوَاريّ.....1
[وقال آخر]2:
وبلدة ليس بها أنيس
إلا اليعافير وإلا العيس3
ومثله كثير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذان جزءان من بيتين للنابغة من قصيدة مدح بها النعمان
بن بشير ملك الحيرة، ويتنصل بها عما قذفوه به، وهي إحدى
المعلقات السبع، مطلعها:
يا دارَ مَيَّة بالعَلياء فالسند
أقْوت فطال عليها سالف الأبد
إلى أن قال:
وقفتُ فيها أُصَيْلالًا أُسائلها
عيَّت جوابًا وما بالرَّبْع من أحد
إلا أواريَّ لأيّامًا أبيتها
والنّوى كالحوض بالمظلومة الجلد
والأواري: هي التي تسمى
الطوائل، وليس من جنس أحد، وهذا هو محل الشاهد. انظرك
ديوان النابغة ص25-32، وخزانة الأدب "4م 121-130".
2 القائل: هو جران العون: عامر بن الحارث بن كُلْفة،
والجران: باطن العنق الذي يضعه البعير على الأرض إذا نام،
وكان يعمل من جلد هذا العنق: الأسواط واشتهر هذا الشاعر
بجران العود؛ لأنه هدد زوجتيه بجران جمل كبير له فقال:
خذا حذّرا يا جارتيّ فإنني
رأيت جران العود قد كان يصلح
والعود:
البعير المسن.
3 البيت في ديوان جران العود ص53، وفي لسان العرب "4/
309"، وكتاب سيبويه "1/ 133".
ومحل الشاهد في البيت قوله: "إلا اليعافير" فإنه استثناء
من قوله: "أنيس" واليعافير جمع "يعفور" وهو الظبي الذي
لونه لون التراب، أو هو ولد البقرة الوحشية، و"العيس" جمع
"أعيس" و"عيساء" وهو من الإبل الذي يخالط بياضه شقرة.
انظر: القاموس المحيط "4/ 209"، لسان العرب "4/ 309 وما
بعدها".
ج / 2 ص -88-
ولنا:
أن الاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله المستثنى منه بدليل:
أنه مشتق من قولهم: "ثنيت فلانًا عن رأيه" و"ثنيت العنان"
فيشعر بصرف الكلام عن صوبه1 الذي كان يقتضيه سياقه2.
فإذا ذكر ما لا دخول له في الكلام الأول، لولا الاستثناء،
فما صرف الكلام ولا ثناه عن وجه استرساله.
فتكون تسميته استثناء تجوزًا باللفظ عن موضوعه، وتكون
"إلا" ههنا بمعنى "لكن"3.
قال هذا ابن قتيبة4. وقال: هو قول سيبويه5، وقاله غيرهما
من أهل العربية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جاء في المصباح المنير مادة "صوب": الصوب، وزن فلس، مثل
الصواب.
2 قال الطوفي: "اعلم أن الاستثناء من حيث اللفظ: استفعال،
إما من التثنية؛ لأن المستثنى في كلامه يثني الجملة، أي:
يأتي بجملة ثانية في كلامه، نحو: قام القوم إلا زيدًا، فهم
منه قيام القوم، وعدم قيام زيد، فهي جملتان، أو من ثنى
الفارسُ عِنان فرسه: إذا عطفه، لأن المستثنى يعطف على
الجملة، فيخرج بعضها عن الحكم بالاستثناء". شرح مختصر
الروضة "2/ 580-581".
3 لأن "لكن" يستدرك بها المتلكم خللًا وقع في كلامه أو
غيره، وكذلك "إلا" يستدرك بها نحو ذلك.
4 هو: عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، من أئمة الحديث
واللغة، عدّه شيخ الإشلام ابن تيمية من أهل السنة. ولد
ببغداد سنة 213هـ" وقيل: ولد بالكوفة وتوفي سنة "276هـ"
على الأصح. انظر: بغية الوعاة "2/ 63"، تذكرة الحفاظ "2/
631".
5 هو: عمرو بن عثمان بن قنبر، المعروف بسيبويه، إمام مدرسة
أهل البصرة في النحو، تتلمذ على الخليل بن أحمد وأبي
الخطاب الأخفش وغيرهما. من مؤلفاته "الكتاب" في النحو.
توفي بالبيضاء سنة "180هـ". انظر: بغية الوعاة "2/ 231"
نزهة الألباء ص "71".
ج / 2 ص -89-
وإذا
كانت بمعنى "لكن" لم يكن لها في الإقرار معنى1، فلم يصح أن
ترفع شيئًا منه، فتكون لاغية، فإن "لكن" إنما تدخل
للاستدراك بعد الجحد، والإقرار ليس بجحد، فلا يصح فيه.
ولذلك: لم يأت الاستثناء المنقطع في إثبات بحال.
الشرط الثالث: أن يكون المستثنى أقل من النصف.
وفي استثناء النصف وجهان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا جواب عن قولهم المتقدم: "ولو أقر بشيء واستثنى من
غير جنسه كان استثناؤه باطلًا" وحاصل الجواب: أن الاستثناء
المنقطع مقدر بلكن، وهي تفيد الاستدراك؛ لأن المتكلم بها
يستدرك خللًا وقع في كلامه، فمثله: الاستثناء المنقطع،
ويتفرع على هذا ما ذكره الخرقي في مختصره: "ومن أقر بشيء
واستثنى من غير جنسه كان استثناؤه باطلًا، إلا أن يستثني
عينًا من ورِق، أو ورِقًا من عين" والمراد بالعين هنا:
الذهب.
فعلى هذا يكون قوله: "إلا أن يستثني عينًا من ورق..."
مخالفًا لهذه القاعدة.
وقد حمله أصحاب الإمام أحمد على الاستحسان، وحمله الطوفي
على الاستثناء من الجنس البعيد، وهو أن الكل مال.
قال الطوفي: "ووجه الاستحسان: أن الذهب والفضة هما أثمان
المبيعات، وقيم المتلفات، وأروش الجنايات، ومقاصدهما
واحدة، فينزلا لذلك منزلة الجنس الواحد، وأما نص الخرقي
على ذلك في "المختصر" فهذا وجهه.... ثم قال: وهو أحد
القولين في المذهب.
ويفيد الخلاف في هذا الشرط أنه لو قال: له عندي مائة درهم
إلا ثوبًا، أو إلا شاة أو غيرها من المتقومات، بطل الإقرار
عندنا، وصح عند المخالف، ويلزمه مائة إلا قيمة ثوب،
لاشتراك المستثنى والمستثنى منه في جنس المالية، وما يقع
في المستثنى من جهالة تزال بالوساطة أو الصلح. قلت: وهذا
راجع إلى الاستثناء من الجنس، غير أنه الجنس البعيد. "شرح
الطوفي 2/ 597".
ج / 2 ص -90-
وقال
أكثر الفقهاء والمتكلمين: يجوز استثناء الأكثر.
ولا نعلم خلافًا في أنه: لا يجوز استثناء الكل1.
واحتج من جوزه -أي: جوز الأكثر- بقوله تعالى:
{فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ
مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}2.
وقال في أخرى:
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا
مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}.
فاستثنى كل واحد منهما من الآخرن وأيهما كان الأكثر: حصل
المقصود4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة ذلك: أنه لا خلاف بين العلماء في عدم صحة
الاستثناء المستغرق، فلا يصح أن يقال: له علي عشرة إلا
عشرة؛ لأنه يفضي إلى العبث، ويعتبر تناقضًا كليًّا.
وفي استثناء الأكثر والنصف خلاف. واشترط قوم أن يكون أقل
من النصف وهو الصحيح من مذهب الحنابلة.
قال الطوفي: "المصحِّح لاستثناء الأكثر هم أكثر الفقهاء
والمتكلمين، والمانع منه أصحابنا وبعض الفقهاء والقاضي أبو
بكر في آخر أقواله.
قال الآمدي: وقد استقبح بعض أهل اللغة استثناء عقد صحيح،
واختار هو الوقف.
قلت: مثال استثناء العقد الصحيح: له سبعون إلا عشرة". شرح
مختصر الروضة "2/ 598".
2 سورة ص "82-83".
3 سورة الحجر الآية "42".
4 وجه الدلالة من هذه الآيات: أن الله تعالى استثنى
الغاوين من العباد، والغاوون أكثر، بدليل قوله تعالى:
{وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}
[الأعراف: 17].
وقال الطوفي: "فاستثنى في الأولى العباد المخلصين من بني
آدم، وفي الثانية =
ج / 2 ص -91-
وقال
الشاعر:
أدُّوا التي نَقَصَتْ تسعين مِنْ مائةٍ
ثم ابْعَثوا حكمًا بالحقّ قَوَّاما1
ولأنه إذا جاز استثناء
الأقل، جاز استثناء الأكثر.
ولأنه رفع بعض ما تناوله اللفظ، فجاز في الأكثر كالتخصيص.
ولنا: أن الاستثناء لغة، وأهل اللغة نفوا ذلك وأنكروه2.
قال أبو إسحاق الزجاج3: لم يأت الاستثناء إلا في القليل من
الكثير4.
وقال ابن جني5: لو قال قائل: "مائة إلا تسعة وتسعين" ما
كان متكلمًا بالعربية، وكان كلامه عيًّا من الكلام ولكنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الغاوين من العباد، وأيهما كان الأكثر حصل المقصود". شرح
المختصر "2/ 599".
1 سيأتي نقل المصنف عن ابن فصال: أن هذا البيت مصنوع لم
يثبت عن العرب، فلا يصح الاحتجاج به.
2 وأهل اللغة هم الحجة في هذا المقام، ولذلك نقل المصنف
كلامهم الآتي.
3 هو: إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج، عالم
بالنحو واللغة والعروض، واشتهر بالزجاج، لأنه كان يعمل في
خرط الزجاج، تتلمذ على المبرد، من مؤلفاته: "معاني القرآن"
و"الاشتقاق". توفي ببغداد سنة "310هـ" على الأرجح. انظر:
بغية الوعاة "1/ 411" وفيات الأعيان "11/ 11".
4 انظر: إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس "2/ 565".
5 هو: عثمان بن جني، أبو عثمان الموصلي، كان والده مملوكًا
روميًّا لسليمان بن فهد الأزدي الموصلي، كان إمامًا في
النحو والأدب، تلقى عن أبي على الفارسي، وبعد وفاته تولى
مكانه في بغداد. من كتبه "الخصائص" و"المذكر والمؤنث" توفي
سنة "392هـ". انظر: بغية الوعاة "2/ 132"، شذرات الذهب "3/
140".
ج / 2 ص -92-
وقال
القتيبي1: يقال: "صمت الشهر كله إلا يومًا واحدًا، ولا
يقال: صمت الشهر إلا تسعة وعشرين يومًا" ويقول: "لقيت
القوم جميعهم إلا واحدًا أو اثنين"، ولا يجوز أن يقول:
"لقيت القوم إلا أكثرهم".
إذا ثبت أنه ليس من اللغة: فلا يقبل.
ولو جاز هذا: لجاز في كل ما كرهوه وقبحوه.
وأما الآية التي احتجوا بها: فقد أجيب عن احتجاجهم بها
بأجوبة.
منها: أنه استثناء في إحدى الآيتين المخلصين من بني آدم
وهم الأقل.
وفي الأخرى: استثناء الغاوين من جميع العباد وهم الأقل،
فإن الملائكة من عباد الله، قال الله تعالى:
{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}2
وهم غير غاوين3.
ومنها: أنه استثناء منقطع في قوله تعالى:
{إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}4 بمعنى "لكن" بدليل أنه قال في آية أخرى:
{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ
دَعَوْتُكُمْ...}5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: عبد الله بن مسلم، المشهور بابن قتيبة. تقدمت
ترجمته.
2 سورة الأنبياء من الآية "26".
3 لم يرتض الطوفي هذه الإجابة وقال: إنها ضعيفة؛ لأن
المحاورة إنما وقعت في ذرية آدم، فلا يصح ضم الملائكة
إليهم، حتى يكون الغاوون بالنسبة إليهم مع ذرية آدم
قليلًا. انظر: "شرح المختصر 2/ 602".
4 الحجر: 42.
5 سورة إبراهيم من الآية "22" ولم يرتضه الطوفي أيضًا. ثم
قال: "والجواب الصحيح عن الآية هو: أنا نمنع من استثناء
الأكثر إذا صرح بعدد المستثنى منه، أما إذا لم يصرح به،
فهو جائز باتفاق، كما إذا قال: خذ ما في هذا الكيس من =
ج / 2 ص -93-
وأما
البيت فليس فيه استثناء.
مع أنه قال ابن فصال النحوي1: هذا بيت مصنوع ولم يثبت عن
العرب.
وأما القياس في اللغة2: فغير جائز. ولو كان جائزًا: فهو
جمع بغير علة3 ومثل هذا لو جاز استثناء البعض، جاز استثناء
الكل.
ويعارضه: بأنه إذا لم يجز استثناء الكل، فلا يجوز استثناء
الأكثر.
والفرق بين القليل والكثير: أن العرب استعملته في القليل
دون الكثير، فلا يقاس في لغتهم ما أنكروه على ما حسّنوه
وجوّزوه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الدراهم إلا الزيوف، وكانت أكثر، والآية من هذا الباب،
لم يصرح فيها بعدد المستثنى منه، بل قال سبحانه وتعالى:
"إن عبادي" وهو مقدار غير معين، بخلاف: له عندي مائة إلا
تسعين، فهذا هو الممنوع". المصدر السابق5.
1 هو: علي بن فصال بن علي بن غالب المجاشعي القيرواني،
المعروف بالفرزدقي نسبة إلى جده "الفرزدق"، كان عالمًا
بالنحو واللغة، ظل يقرئ ببغداد حتى توفي سنة "479هـ" انظر:
بغية الوعاة "2/ 183"، والبلغة ص161.
2 هذا رد على قولهم السابق: "ولأنه إذا جاز استثناء الأقل
جاز استثناء الأكثر" فبين المصنف أن ذلك قياسًا في اللغة،
وهو غير حجة عند كثير من العلماء. ثم عارضه برد آخر هو:
قياسه على استثناء الكل، ومعناه: أن عدم جواز استثناء الكل
أمر متفق عليه، فيقاس عليه: عدم جواز استثناء الأكثر؛ لأن
الأكثر يأخذ حكم الكل.
ثم بين -أخيرًا- أن الحجة إنما هي في استعمال العرب؛ لأنهم
أهل اللغة، وهم قد استعملوه في القليل دون الكثير، فلا
يقاس ما أنكروه على ما حسنوه.
3 معناه: أن القياس لا بد له من علة جامعة بين الأصل
والفرع، وقياس الأكثر على الأقل ليست فيه علة جامعة.
ج / 2 ص -94-
فصل: [في حكم الاستثناء بعد جمل متعددة]
إذا تعقب الاستثناء جملًا، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ
جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا
وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ
تَابُوا....}،
وقول النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
"لا يُؤَمَّنَّ الرَّجُلُ في سُلْطانِه، وَلَا يُجْلَسُ
عَلَى تَكْرِمَتَه إلَّا بإِذْنِه"2: رجع
الاستثناء إلى جميعها، وهو قول أصحاب الشافعي3.
وقال الحنفية: يرجع إلى أقرب المذكورين4 لأمور ثلاثة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور "4-5".
2 رواه أحمد في مسنده "5/ 272" ومسلم: كتاب الصلاة، باب من
أحق بالإمامة، حديث "673" وأبو داود: كتاب الصلاة، باب من
أحق بالإمامة، حديث "582"،والترمذي: كتاب الصلاة، باب ما
جاء من أحق بالإمامة حديث "235". وقال: "حديث حسن صحيح".
كما أخرجه ابن ماجه والنسائي والدارقطني والطيالسي، جميعهم
في كتاب الصلاة، من حديث أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله
-صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم
بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا
في الهجرة سواء، فأقدمهم سلمًا -أي: إسلامًا- ولا يؤمنّ
الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه"
والتكرمة: الموضع الخاص لجلوس الرجل: من فراش أو سرير أو
غير ذلك مما يعد كرامة.
3 كما أنه رأي جمهور العلماء، مالك والشافعي وأحمد وأكثر
أصحابهم. انظر: العدة "2/ 678" شرح تنقيح الفصول ص249،
المستصفى "3/ 388".
4 محل الخلاف بين العلماء في هذه المسألة: إذا لم توجد
قرينة أو دليل على أن الاستثناء راجع إلى بعض الجمل دون
البعض.
ج / 2 ص -95-
أحدهما: أن العموم يثبت في كل صورة بيقين، وعود الاستثناء
على جميعها مشكوك فيه، فلا يزيل -أي: العموم- المتيقن
بالشك1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فقول الله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}...إلى
قوله، تعالى:
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}
الخلاف في الاستثناء هنا راجع إلى الجملتين الأخيرتين وهما
قوله، تعالى:
{وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ}
فرجوعه إلى الجملة الأخيرة متفق عليه، ورجوعه إلى الجملة
الأولى، فتقبل شهادته أو لا؟ محل الخلاف؛ فالجمهور يرون
قبول شهادته، باعتبار أن الاستثناء يرجع إلى الجميع
والحنفية يقولون: لا تقبل شهادته.
ولا خلاف بين الجميع في عدم رجوع الاستثناء إلى قوله
تعالى:
{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة}
لأن الجلد حق الآدمي، ولا يسقط بالتوبة.
انظر: نهاية السول "2/ 104 وما بعدها" طبعة صبيح.
ومثل ذلك: ما لو قال قائل: "نسائي طوالق، وعبيدي أحرار،
وخيلي وقف، إلا الحيض" فإن الاستثناء راجع إلى الجملة
الأولى، بقرينة ذكر الحيض، فإنه مختص بالنساء.
ولو قال: "إلا الزنجيين أو الهنديين" اختص بالثانية، لأن
هذه الصفات في العرف مختصة بالعبيد.
ولو قال: "إلا الدُّهم أو العراب" اختص بالأخيرة؛ لأن هذه
صفات الخيل عرفًا.
انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 613".
وجمهور العلماء على أن العطف لا يشترط فيه أن يكون بالواو،
بل يجوز أن يكون بثم أو غيرها من حروف العطف، واشترط بعضهم
أن يكون ذلك بالواو، وأن لا يتخلل بين الجملتين كلام طويل،
وإلا عاد إلى الأخيرة فقط.
وكون العطف في الجمل من باب الغالب، وإلا فإنه يقع في
المفردات أيضًا، فلو قال: حفصة وفاطمة طالقتان إن شاء
الله، فإنه يكون من هذ الباب أيضًا. انظر: التمهيد للإسنوي
ص399.
1 معناه: أن العموم في كل جملة من الجمل المتقدمة متيقن،
وعود الاستثناء جميعها مشكوك فيها، ولا يرفع المتيقن
بالمشكوك، وإنما عاد إلى الأخيرة =
ج / 2 ص -96-
الثاني: أن الاستثناء إنما وجب رده إلى ما قبله، ضرورة أنه
لا يستقل بنفسه، فإذا تعلق بما يليه: فقد استقل وأفاد، فلا
حاجة إلى تعلقه بما قبل ذلك، فلا نعلقه به، وصار
كالاستثناء من الاستثناء.
والثالث: أن الجملة مفصول بينها وبين الأولى، فأشبه ما لو
حصل فصل بينهما بكلام آخر1.
وأدلتنا ثلاثة:
أحدهما: أن الشرط إذا تعقب جملًا: عاد إلى جميعها، كقوله
"نسائي طوالق، وعبيدي أحرار إن كلمتُ زيدًا" فكذلك
الاستثناء، فإن الشرط والاستثناء سيّان2 في تعلقهما بما
قبلهما وبغيرهما له، ولهذا يسمى التعليق بشرط مشيئة الله:
استثناء، فما ثبت لأحدهما ثبت في الآخر.
فإن قيل: الفرق بينهما: أن الشرط رتبته التقديم، بخلاف
الاستثناء. قلنا: إذا تأخر الشرط فلا فرق بينهما.
ثم إن كان متقدمًا: فلم لا يتعلق بالجملة الأولى، دون ما
بعدها؟
فإذا تعلق بجميع الجمل -تقدم أو تأخر- وكذلك الاستثناء،
فإنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= للضرورة، وهي: أن الاستثناء لا بد وأن يكون متعلقًا بشيء
آخر.
1 أي: أن الفصل بين الجمل بحرف العطف أشبه الفصل بكلام
أجنبي.
2 في جميع النسخ "شيئان" ولا معنى لذلك، فإن المقصود من
هذا: أن الاستثناء كالشرط في أن كلًّا منهما يفتقر إلى ما
تعلق به، فكما أن الشرط متعلق بمشروطه، ولا يستقل عنه،
فكذلك الاستثناء، متعلق بالمستثنى منه، ولا يستقل بدونه،
وإذا ثبت أن بين الشرط والاستثناء هذا الاشتراك الخاص، وجب
أن يستويا في رجوع كل منهما إلى جميع الجمل التي قبله.
انظر: شرح الطوفي "2/ 614".
ج / 2 ص -97-
مساو
للشرط في حال تأخره1.
الثاني: اتفاق أهل اللغة على أن تكرار الاستثناء عقيب كل
جملة2 عيٌّ ولكنة، ولو لم يعد الاستثناء إلى الجميع، لم
يقبح ذلك، بل كان متعينًا لازمًا فيما يريد فيه الاستثناء
من جميع الجمل.
الثالث: أن العطف بالواو يوجب نوعًا من الاتحاد بين
المعطوف والمعطوف عليه، فتصير الجمل كالجملة الواحدة،
فيصير كأنه قال: "اضرب الجماعة الذين هم قتلة وسرّاق إلا
من تاب" ولا فرق بين هذا وبين قوله: "اضرب من قتل وسرق إلا
من تاب"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة ذلك: أن الخصم اعترض على قياس الاستثناء على الشرط
بوجود فرق بينهما، وهو: أن الشرط رتبته التقديم، بخلاف
الاستثناء فإنه متأخر. فأجاب المصنف عن ذلك بثلاثة أوجه.
الوجه الأول: قولهم: "رتبة الشرط التقديم" فقال: هذا في
العقل، ونحن نتكلم في اللغة، ولا يلزم من توقف المشروط على
الشرط وتقدمه عليه عقلًا أن لا يساوي الاسثتناء فيما ذكر.
الوجه الثاني: أن كلامنا فيما إذا تأخر الشرط، مثل: نسائي
طوالق، وعبيدي أحرار، إن كلمتُ زيدًا، فهو مثل: نسائي
طوالق، وعبيدي أحرار، إلا أن أكلم زيدًا.
الوجه الثالث: أنه يلزم على قولهم أن يتعلق الشرط بالجملة
الأولى فقط، وهو باطل بالاتفاق، فدل ذلك على أن تقديم
الشرط لا اعتبار له، وبذلك يستوي الحكم على الشرط
والاستثناء. انظر: شرح الطوفي "2/ 615-616".
2 كأن يقال: نسائي طوالق إلا أن أكلم زيدًا، وعبيدي أحرار
إلا أن أكلم زيدًا.
3 معناه: أن العطف يوجب اتحادًا معنويًّا بين المعطوف
والمعطوف عليه، ولهذا قدرت التثنية والجمع، نحو: الزيدان
والزيدون، بالعطف، نحو: قام زيد وزيد وزيد وشبه ذلك
بقولهم: "قاموا" فواو العطف، والجمع والضمير المتصل =
ج / 2 ص -98-
وقولهم: "إن التعميم مستيقن": ممنوع، فإن العموم والإطلاق
لا يثبت قبل تمام الكلام، وما تم حتى أردف باستثناء يرجع
إليه1.
ثم يبطل بالشرط والصفة، وقد سلم أكثرهم عموم ذلك.
ولما ذكر الله -تعالى- خصال كفارة اليمين الثلاثة، ثم قال:
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ}2: رجع ذلك إلى جميعها.
وقولهم: "إن الاستثناء إنما تعلق بما قبله ضرورة" ممنوع،
بل إنما رجع إلى ما قبله، لصلاحيته لذلك3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بالفعل، كل ذلك وأشباهه فيه اتحاد معنوي، فتكون الجمل
المتعددة كالجملة الواحدة.
1 معنى ذلك: أن المخالفين في رجوع الاستثناء إلى الجميع
استدلوا بأن العموم ثابت في كل صورة بيقين، والاستثناء
مشكوك فيه، والمتيقن لا يرفع المشكوك فأجاب المصنف عن ذلك:
بأنه إن أرادوا أن التعميم مستيقن قبل تمام الكلام فهذا
ممنوع، وإن أرادوا أنه متيقن بعد تمام الكلام، فالكلام لا
يتم إلا بالاستثناء، وبعد الاستثناء لا يبقى العموم
متيقنًا، حتى يكون رفعه بالشك ممنوعًا، إلا على قولهم:
يتعلق بالجملة الأخيرة، ويبقى العموم فيما قبلها، وهذا هو
محل النزاع.
2 سورة المائدة من الآية "89" وهي قوله تعالى:
{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ
فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ
أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ
أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا
حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ
اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
ومحل الشاهل: أن قوله تعالى:
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ}
راجع إلى الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة.
3 هذا رد لقولهم: "إن الاستثناء تعلق بما قبله للضرورة"
وهو أنه لا يمكن أن يستقل بنفسه، فأجاب المصنف بأنه ليس
للضرورة، وإنما لصلاحية تعلق ما قبله به، والجمل كلها
صالحة لذلك التعلق.
ج / 2 ص -99-
ثم
يبطل -أيضًا- بالشرط والصفة1.
أما الاستثناء من الاستثناء2: فلم يمكن عوده إلى الأول،
لأن الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي3، فتعذر
النفي من النفي.
وهكذا كل ما فيه قرينة تصرفه عن الرجوع، لا يرجع على
الأول، كقوله تعالى:
{...فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى
أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا}4 لا يعود إلى التحرير، لأن صدقتهم إنما تكون بمالهم، فالعتق ليس
حقًّا لهم.
فصل: في الشرط
الشرط: ما لا يوجد المشروط مع عدمه، ولا يلزم أن يوجد عند
وجوده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معناه: أن ما ذكروه من أن التعلق بالجملة الأخيرة
للضرورة، يبطل بالشرط والصفة، فإن كلًّا منهما يتعلق بجميع
الجمل، مع أن هذه الضرورة تندفع بتعلقهما بالجملة الأخيرة.
انظر: شرح الطوفي "2/ 618-619".
2 هذا رد على قولهم: "وصار كالاستثناء من الاستثناء".
3 هذا الاستشهاد إنما يصح على رأي الجمهور. أما الحنفية:
فقد خالفوا في ذلك. ولهم رواية أخرى أن الاستثناء من
الإثبات نفي، وأما الاستثناء من النفي فليس بإثبات. انظر:
كشف الأسرار "3/ 126".
واستثنى المالكية من هذه القاعدة الأيمان فقالوا: إن
الاستثناء من النفي إثبات، في غير الأيمان. انظر: الفروق
للقرافي "2/ 93".
4 سورة النساء من الآية "92" ومحل الشاهد: أن الاستثناء
راجع إلى الدية لا إلى التحرير، لأنه ليس من حق الورثة حتى
يصدّقوا به. ومثل ذلك كل قرينة تخرج جملة من الجمل
المتقدمة على الاستثناء، وتقدم توضيح ذلك في الهامش أول
الفصل.
ج / 2 ص -100-
والعلة: يلزم من وجودها وجود المعلول، ولا يلزم من عدمها
عدمه في الشرعيات.
والشرط: عقلي، وشرعي، ولغوي:
فالعقلي: كالحياة للعلم، والعلم للإرادة.
والشرعي: كالطهارة للصلاة، والإحصان للرجم.
واللغوي: كقوله: "إن دخلت الدار فأنت طالق" و"إن جئتني
أكرمتك" مقتضاه في اللغة: اختصاص الإكرام بالمجيء، فينزل
منزلة التخصيص والاستثناء.
والاستثناء والشرط يغير الكلام عما كان يقتضيه لولاه حتى
يجعله متكلمًا بالباقي، لا أنه يخرج من الكلام ما دخل فيه؛
فإنه لو دخل لما خرج1. فإذا قال: "أنت طالق إن دخلت الدار"
معناه: أنك عند الدخول طالق.
وقوله: "له عشرة إلا ثلاثة" معناه: له عليّ سبعة، فإنه لو
ثبت له عليه عشرة: لما قدر على إسقاط ثلاثة، ولو قدر على
ذلك بالكلام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا هو المخصص الثاني من المخصصات المتصلة. ومن المعروف
أن الأحكام الشرعية لها علل، وهي أسبابها المؤثرة في
وجودها شرعًا، أي: هي المعرفة لها شرعًا. ولها كذلك شروط
يتوقف تأثير العلل في الأحكام عليها. فالزنا -مثلًا- علة
لوجوب الرجم، والإحصان شرط لتأثير هذه العلة. والزكاة لها
سبب هو ملك النصاب، ولها شرط هو تمام الحول. ولذلك عرف
المصنف هنا: الشرط والعلة، فذكر أن الشرط هو: ما يلزم من
عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم. وأن
العلة هي: ما يلزم من وجودها وجود المعلول، ولا يلزم من
عدمها عدمه في الشرعيات، لجواز أن يكون له علة أخرى.
وقد تقدم الكلام على الشرط والفرق بينه وبين العلة والمانع
في الحكم الوضعي.
ج / 2 ص -101-
المتصل: لقدر عليه بالمنفصل، فيصير موضوع الكلام ذلك.
فقوله تعالى:
{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ}1
لا حكم له قبل إتمام الكلام، فإذا تم كان الكلام مقصورًا
على من وجد منه السهو والرياء، لا أنه دخل فيه كل مصلٍّ،
ثم خرج البعض، كذلك الاستثناء والشرط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الماعون آية "4".
فصل: في المطلق والمقيد
المطلق: هو
المتناول لواحد لا بعينه باعتبار حقيقة شاملة لجنسه1، وهي
النكرة في سياق الأمر، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله: "المتناول لواحد" خرج به ألفاظ الأعداد المتناولة
لأكثر من واحد. وخرج بقوله: "لا بعينه" المعارف، كزيد
وعمرو، وخرج بباقي التعريف: المشترك، والواجب المخير، فإن
كلًّا منهما يتناول واحدًا لا بعينه،
لا باعتبار حقائق مختلفة. انظر: شرح الكوكب المنير "3/
392".
2 سورة المجادلة من الآية "3" وقد مشى المصنف على أن
المطلق والنكرة بمعنى واحد، كالمثال المتقدم، بينما ذهب
كثير من الأصوليين إلى التفرقة بينهما. فإن المطلق: هو
الدال على الماهية من حيث هي، والنكرة: هي الدالة على
الماهية بقيد الوحدة الشائعة. وما قاله المصنف من اتحاد
المطلق والنكرة، هو اختبار بعض الأصوليين، كابن الحاجب
والآمدي، وعليه عامة النحويين؛ لأن الموجود في الخارج هو
الفرد، والماهية الذهنية لا وجود لها في الخارج. انظر:
بيان المختصر "2/ 349" والإحكام "3/ 1"، نثر الورود على
مراقي السعود "1/ 321".
ج / 2 ص -102-
وقد
يكون في الخبر، كقوله، عليه السلام:
"لا نِكَاحَ
إلَّا بِوَليٍّ"1.
والمقيد: هو المتناول لمعيّن، أو غير معين موصوف بأمر زائد
على الحقيقة:
{وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}3
قيد الرقبة بالإيمان، والصيام بالتتابع.
وقد يكون اللفظ مطلقًا مقيدًا بالنسبة4، كقوله تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 للحديث طرق وشوهد كثيرة تجعله من قسم الصحيح: فقد أخرجه
الدارقطني في سننه: كتاب النكاح، بلفظ: "لا نكاح إلا بولي
وشاهدي عدل، وأيما امرأة أنكحها ولي مسخوط عليه فنكاحها
باطل" والشافعي: كتاب النكاح، باب: لا يصح النكاح إلا
بولاية رجل، والبيهقي: كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي،
من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
كما أخرجه ابن حبان في كتاب النكاح، باب ما جاء في الولي
والشهود من حديث عائشة -رضي الله عنها- انظر زوائد ابن
حبان للهيثمي ص305.
ومحل الشاهد في الآية: أن الرقبة جاءت مطلقة عن قيد
الإيمان، كما أن لفظ "الولي" جاء في الحديث مطلقًا.
2 فهو يقابل المطلق، ومعناه: المتناول لمعين، أو غير معين،
لكنه موصوف بوصف زائد على الحقيقة الشاملة لجنسه، وتتفاوت
مراتبه في التقييد باعتبار قلة القيود وكثرتها، فما كثرت
قيوده كان أعلى رتبة مما قلت قيوده، مثل قوله تعالى:
{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا
مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ
عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [سورة التحريم: 5].
3 سورة النساء من الآية "92".
4 أي: قد يجتمع الإطلاق والتقييد في لفظ واحد، باعتبار
جهتين مختلفتين، فيكون اللفظ مطلقًا من وجه، مقيدًا من وجه
آخر، كلفظ "رقبة" فهي مقيدة من حيث الإيمان، فلا تكفي
الرقبة الكافرة. ومطلقة من حيث ما سوى الإيمان من =
ج / 2 ص -103-
{رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}1 مقيدة
بالإيمان، مطلقة بالنسبة إلى السلامة وسائر الصفات.
ويسمى الفعل مطلقًا، نظرًا إلى ما هو من ضرورته من:
الزمان، والمكان، والمصدر، والمفعول به، والآلة فيما يفتقر
إلى الآلة والمحل للأفعال المتعدية، وقد يتقيد بأحدها، دون
بقيتها2 والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأوصاف، ككمال الخلقة، والطول، والبياض وأضداد ذلك.
انظر: شرح الكوكب المنير "3/ 393-394".
1 سورة النساء من الآية "92".
2 ومعناه: أن الفعل قد يقيد ببعض مفاعيله دون بعض، فيكون
مطلقًا مقيدًا بالإضافة إلى بعضها دون بعض، مثل: "صم يوم
الاثنين" فإن الصوم مقيد من جهة ظرف الزمان، ولو قيل: "صم
في المدينة يومين" لكان على عكس ما تقدم انظر: شرح مختصر
الروضة "2/ 634".
فصل: [في حمل المطلق على المقيد]
إذا ورد لفظان: مطلق ومقيد، فهو على ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
أن يكون في حكم واحد، بسبب واحد، كقوله، عليه السلام:
"لا نِكَاحَ إلَّا بِوَليٍّ"3، وقال:
"لا نِكَاحَ إلَّا بِوَليٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهدَيْ عَدْلٍ"4، فيجب حمل المطلق على المقيد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأوصاف، ككمال الخلقة، والطول، والبياض وأضداد ذلك.
انظر: شرح الكوكب المنير "3/ 393-394".
1 سورة النساء من الآية "92".
2 ومعناه: أن الفعل قد يقيد ببعض مفاعيله دون بعض، فيكون
مطلقًا مقيدًا بالإضافة إلى بعضها دون بعض، مثل: "صم يوم
الاثنين" فإن الصوم مقيد من جهة ظرف الزمان، ولو قيل: "صم
في المدينة يومين" لكان على عكس ما تقدم انظر: شرح مختصر
الروضة "2/ 634".
3 تقدم تخريج هذه الرواية قريبًا.
4 هذه الرواية أوردها المصنف في المغني "9/ 368" فقال:
"وروى أبو بكر البرقاني بإسناده عن جابر قال: قال رسول
الله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
"لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل" ولم نجدها في كتب السنة إلا عند البيهقي في كتاب النكاح =
ج / 2 ص -104-
وقال
أبو حنيفة: لا يحمل عليه؛ لأنه نسخ، فإن الزيادة على النص
نسخ، فلا سبيل إلى النسخ بالقياس1.
وقد بينا فساد هذا2، فإن قوله:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}3 ليس
بنص في إجزاء الكافرة4، بل هو مطلق يعتقد ظهور عمومه، مع
تجويز الدليل على خصوصه، والتقييد صريح في الاشتراط، فيجب
تقديمه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= باب: لا نكاح إلا بولي مرشد عن ابن عباس موقوفًا. السنن
الكبرى "7/ 124" وأورده الهيثمي في كتاب النكاح، باب ما
جاء في الولي والشهود، ولم يورد فيه لفظ "مرشد" انظر: مجمع
الزوائد "3/ 286" والحديث بلفظ "لا نكاح إلا بولي وشاهدي
عدل" حديث مشهور له طرق كثيرة جعلته من قسم الصحيح، كما
تقدم قريبًا.
ومحل الشاهد في الحديثين: أن الأول مطلق في الولي بالنسبة
إلى الرشد والغي وفي الشهود بالنسبة إلى العدالة والفسق،
والثاني مقيد بالرشد في الولي، والعدالة في الشهود، وهما
متحدان في السبب والحكم، فالسبب هو النكاح، والحكم: نفي
النكاح بدون ولي وشهود.
1 الصواب أن رأي الحنفية في صورة اتحاد السبب والحكم متفق
-في الجملة- مع رأي الجمهور، في صورة ما إذا كان الحكم
مثبتًا. انظر: كشف الأسرار "2/ 287". قال المجد ابن تيمية:
"فإن كان المطلق والمقيد مع اتحاد السب والحكم في شيء
واحد، كما لو قال: "إذا حنثتم فعليكم عتق رقبة". وقال في
موضع آخر: "إذا حنثتم فعليكم عتق رقبة مؤمنة" فهذا لا خلاف
فيه، وأنه يحمل المطلق على المقيد، اللهم إلا أن يكون
المقيد آحادًا والمطلق تواترًا، فينبني على مسألة الزيادة
على النص، هل هي نسخ؟ وعلى النسخ للتواتر بالآحاد والمنع
قول الحنفية" المسودة ص146.
2 في مسألة: الزيادة على النص، هل هي نسخ أو لا؟
3 سورة المجادلة من الآية3.
4 لأنه كما يجوز بالمؤمنة يجوز بالكافرة، فهو ظاهر في
العموم، فيجوز تخصيصه، =
ج / 2 ص -105-
القسم
الثاني: أن يتحد الحكم ويختلف السبب، كالعتق في كفارة
الظهار، والقتل، قيد الرقبة في كفارة القتل بالإيمان،
وأطلقها في الظهار.
فقد روي عن الإمام أحمد -رحمه الله- ما يدل على أن المطلق
لا يحمل على المقيد، وهو اختيار أبي إسحاق بن شاقلا، وقول
جل الحنفية، وبعض الشافعية1.
واختار القاضي: حمل المطلق على المقيد2.
وهو قول المالكية3، وبعض الشافعية4، لأن الله -تعالى- قال:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}5، وقال في المداينة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أما التقييد فإنه صريح في اشتراط الإيمان، فيقدم على
الظاهر.
وعبارة الغزالي: "فلو قال في كفارة القتل". {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ثم قال فيها مرة أخرى: "فتحرير رقبة مؤمنة" فيكون هذا اشتراطًا،
ينزل عليه الإطلاق"، المستصفى "3/ 398".
1 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص283، العدة "2/ 638"
كشف الأسرار "2/ 287" الإحكام للآمدي "3/ 5"، نهاية السول
"2/ 141".
2 انظر: العدة "638 وما بعدها".
3 جاء في نثر الورود "1/ 325": "وظاهر كلامه -أي: المصنف-
أن أكثر العقلاء لا يحمل أحدهما على الآخر وأنهما سواء في
ذلك، ليس كذلك، لأن حمل المطلق على المقيد فيما إذا اتحد
الحكم واختلف السبب قال به جل الشافعية والحنابلة وكثير من
المالكية". وفي الإشارات للباجي ص41: "أكثر المالكية على
أنه لا يحمل المطلق على المقيد إلا بدليل يقتضي ذلك".
4 وهل هذا الحمل من قبيل اللغة، أو على القياس عليه؟ خلاف
بين أصحاب هذا المذهب. انظر في ذلك: شرح العضد على مختصر
ابن الحاجب "2/ 156".
5 سورة الطلاق من الآية2.
ج / 2 ص -106-
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}1،
ولم يذكر عدلان ولا يجوز إلا عدل، فظاهر هذا حمل المطلق
على المقيد.
ولأن العرب تطلق في موضع، وتقيد في موضع آخر، فيحمل أحدهما
على صاحبه.
كما قال2:
نحن بما عندنا وأنت بما
عندك أرض والرأي مختلف
وقال آخر:3
وما أدري إذا يمّمتُ أرضًا
أريد الخير أيهما يليني
أألخير الذي أنا أبتغيه
أم الشر الذي هو يبتغيني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة من الآية: 282.
2 الشاعر هو: قيس بن الحطيم بن عدي بن عمرو الخزرجي، من
شعراء الجاهلية توفي قبل ظهور الإسلام، وابنه ثابت بن قيس
من الصحابة.
والبيت من قصيدة له مطلعها:
رد الخليطُ الجمالََ فانقبضا
وقطّعوا من وصالك السببا
والخليط: المجاور في الدار. انظر: ديوان قيس بن الحطيم
ص171، 239، تحقيق الدكتور ناصر الدين الأسد، الكتاب
لسيبويه "1/ 37".
ومحل الشاهد: أنه حذف من الشطر الأول عبارة "راضون" لدلالة
قوله: "راض" عليها في الشطر الثاني، والتقدير: نحن بما
عندنا راضون.
3 الشاعر هو: المثقب العبدي. والبيتان من قصيدة له مطلعها:
أفاطم قبل بَيْنِك متّعيني
ومنعك ما سألت كأن تبيني
انظر: ديوان المثقب العبدي ص212، معاني القرآن للفراء "1/
231"، الشعر والشعراء لابن قتيبة "1/ 396".
ومحل الشاهد في قوله: "أريد الخير" فإن التقدير: وأتوقى
الشر.
ج / 2 ص -107-
وقال
أبو الخطاب: يبني عليه من جهة القياس1؛ لأن تقييد المطلق
كتخصيص العموم، وذلك جائز بالقياس الخاص على ما مر2.
فإن كان ثَمَّ مقيدان بقيدين مختلفين ومطلقًا: ألحق
بأشبههما به وأقربهما إليه3.
ومن نصر الأول4 قال: هذا تحكم محض يخالف وضع اللغة، إذ لا
يتعرض القتل للظهار، فكيف يرفع الإطلاق الذي فيه؟
والأسباب المختلفة تختلف -في الأكثر- شروط واجباتها.
ثم يلزم من هذا تناقض؛ فإن الصوم مقيد بالتتابع في الظهار،
وبالتفريق في الحج، حيث قال تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: التمهيد "2/ 181".
2 في قول المصنف: "التاسع: قياس نص خاص إذا عارض عموم نص
آخر فيه وجهان".
قال الطوفي في شرحه "2/ 640": "معنى هذا الكلام" أن يحمل
المطلق على المقيد إن وافقه قياس دل عليه، قياسًا على
تخصيص العام بالقياس، كما سبق، وإن لم يوافقه قياس لم يحمل
المطلق على المقيد".
3 معنى ذلك: أنه إذا وجد لفظ مطلق، ومقيدان متضادان، حمل
المطلق على ما هو أشبه به وأقرب إليه من المقيدين
المتضادين، وهو تفريع على القول بحمل المطلق على المقيد،
ومن أمثلة ذلك: غسل الأيدي في الوضوء، ورد مقيدًا
بالمرافق، كما في الآية الكريمة، وورد مقيدًا بالكوع في
السرقة بالإجماع المستند إلى السنة، فقد روي عن أبي بكر
الصديق وعمر -رضي الله عنهما- أنهما قالا: إذا سرق السارق
فاقطعوا يمينه من الكوع، ولا مخالف لهما في الصحابة. ومسح
الأيدي في التيمم ورد مطلقًا، فهل يلحق بالسرقة، فيقيد
بالكوع، أو بالوضوء في تقييده بالمرافق. ولهذا خرج الخلاف
انظر شرح الطوفي "2/ 645".
4 أي: مذهب القائلين بعدم حمل المطلق على المقيد.
ج / 2 ص -108-
{ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}1،
ومطلق في اليمين، فعلى أيهما يحمل؟
وفي المواضوع التي استشهدوا بها: كان التقييد بأمر آخر2،
والله أعلم.
القسم الثالث:
أن يخلف الحكم: فلا يحمل المطلق على المقيد، سواء اتفق
السبب أو اختلف، كخصال الكفارة، إذا قيد الصيام بالتتابع،
وأطلق الإطعام3؛ لأن القياس شرطه: اتحاد الحكم، والحكم
ههنا مختلف4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة من الآية "196".
وقد اعترض الشيخ الطوفي على هذا التمثيل فقال: "أما تردد
صوم كفارة اليمين بين صوم الظهار والحج، فمثال ذكره الشيخ
أبو محمد، وفيه نظر؛ لأن الصوم في كفارة اليمين ما ورد عن
الشرع إلا مقيدًا بالتتابع، بناء على أن العمل بقراءة ابن
مسعود، رضي الله عنه: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" وأنها
إما قرآن، أو خبر، كما سبق، نعم يصح تمثيل الشيخ أبي محمد
بناء على قول من لا يرى التتابع فيهن وضرب الأمثلة في أصول
الفقه لا يختص بمذهب" شرح المختصر "2/ 645-646".
2 أي: القائلون بحمل المطلق على المقيد، وهو ما تقدم من
شروط العدالة في المداينة، وفي الشواهد الشعرية. ويقصد
المصنف أن التقييد لم يكن بحمل المطلق على المقيد، وإنما
من قرائن خارجية.
3 هذا مثال لاتفاق السبب.
ومثال اختلاف السبب: الأمر بالتتابع في كفارة اليمين، على
قراءة ابن مسعود وإطلاق الإطعام في كفارة الظهار.
4 معناه أن المطلق والمقيد لما كان حكمهما بالنظر إلى كل
واحد منهما منفردًا مختلفًا عن الآخر، كان فائدة حمل
أحدهما على الآخر: اتحاد الحكم، فلما كان حكمهما مختلفًا
امتنع حمل أحدهما على الآخر. انظر: شرح الطوفي "2/ 644". |