روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل

ج / 2 ص -140-       باب: القياس
القياس في اللغة: التقدير، ومنه: "قست الثوب بالذراع": إذا قدرته به1.
قال الشاعر2، يصف جراحة أو شجة:

إذا قاسها الآسي النطاسي أدبرت        غثيثتها أو زاد وهيًا هزومها3.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مفهوم المخالفة من الآية الكريمة، وثانيهما: من منطوق الحديث الشريف، ولا شك أن دلالة المنطوق أقوى من دلالة مفهوم المخالفة. انظر في هذه الشروط مختصر المنتهى مع شرح العضد "2/ 174"، الإحكام للآمدي "3/ 93-94"، شرح مختصر الروضة "2/ 775" شرح الكوكب المنير "3/ 489 وما بعدها" إرشاد الفحول "2/ 59".
1 قال الجوهري: قستُ الشيء بالشيء، أي: قدّرته على مثاله، يقال: قست، أقيس، وأقوس، فهو من ذوات الياء والواو، ونظائره في اللغة كثيرة، والمصدر: قيسًا وقوسًا، بالياء والواو. انظر: الصحاح "3/ 967".
ويطلق القياس في اللغة على المساواة أيضًا، سواء أكانت حسية أم معنوية، فمن أمثلة الأول: قست هذا الكتاب بهذا الكتاب، ومن أمثلة الثاني: فلان لا يقاس بفلان، أي: لا يساويه. انظر: لسان العرب "8/ 70" القاموس المحيط "2/ 244".
قال الطوفي: "واعلم أنا قد بينا أن القياس في اللغة يدل على معنى التسوية على العموم، وهو في الشرع تسوية خاصة بين الأصل والفرع، فهو كتخصيص لفظ الدابة ببعض مسمياتها، فهو حقيقة عرفية، مجاز لغوي". شرح المختصر "3/ 219".
2 هو: خداش بن بشر بن خالد، أبو زيد التميمي المعروف بالبعيث: خطيب، شاعر، من أهل البصرة. قال فيه الجاحظ: أخطب بني تميم، كانت بينه وبين جرير مهاجاة دامت نحو أربعين سنة. توفي بالبصرة سنة 134هـ.
انظر ترجمته في: الشعر والشعراء لابن قتيبة "1/ 497"، الأعلام "2/ 302".
3 الآسي، بالمد: الطبيب. والنِّطاسي: بكسر النون أو فتحها: العالم بالطب، فهو =

 

ج / 2 ص -141-       "وقاس الطبيب الجراحة": إذا جعل فيها الميل1 يقدّرها به، ليعرف غورها.
وهو في الشرع:
حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما2.
وقيل: حكمك على الفرع بمثل ما حكمت به في الأصل، لاشتراكهما في العلة التي اقتضت ذلك في الأصل.
وقيل: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما، بجامع بينهما من إثبات حكم أو صفة لهما، أو نفيهما3 عنهما.
ومعاني هذه الحدود متقاربة4.
وقيل: هو الاجتهاد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وصف للآسي: ومعنى "أدبرت": وليت. ومعنى "غثيثها": ما في الجرح من صديد ولحم ميت يؤلم المجروح. وقوله: "هزومها" الهزوم: غمز الشيء باليد، فتصير فيه حفرة، كما تغمز القربة فتنهزم في جوفها. وقد أورد له ابن منظور هذا البيت في معرض كلامه على معنى كلمة "نطس". انظر: لسان العرب "مادة: نطس".
1 الميل: آلة يدخلها الطبيب في الجرح ليعرف عمقه، ويسمى "المسبار" لأن الطبيب يختبر به الجرح، والسبر في اللغة: الاختبار.
2 المراد بالحمل: التسوية بين الأصل والفرع في الحكم.
3 أي: نفي الحكم أو الصفة.
4 هذا مسلم في التعريف الأول والثاني، أما الثالث فغير مسلم، فإن قوله: "من إثبات حكم أو صفة لهما، أو نفيهما عنهما" غير صحيح، فإن القياس يثبت حكم الفرع فقط، أما حكم الأصل فمعلوم، وإلا فكيف يقاس عليه؟
وهذه التعريفات جارية على أن حكم الفرع هو نفس حكم الأصل.
وهناك اتجاه آخر يرى أن حكم الفرع ليس هو حكم الأصل، وإنما هو مثله، ولذلك عرفه القرافي بأنه: إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر لأجل اشتباههما =

 

ج / 2 ص -142-       وهو خطأ، فإن الاجتهاد قد يكون بالنظر في العمومات وسائر طرق الأدلة، وليس بقياس.
ثم لا ينبيء في العرف1 إلا عن بذل المجهود، إذ من حمل خردلة لا يقال: اجتهد.
وقد يكون القياس جليًّا2 لا يحتاج إلى استفراغ الوسع وبذل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في علة الحكم عند المثبت".
فقوله: "مثل حكم معلوم" يدل على أنه مثله لا عينه.
وقوله: "عند المثبت" ليشمل القياس الصحيح والفاسد؛ لأن علة القياس قد تكون منصوصة، وقد تكون مستنبطة، فتختلف فيها وجهة نظر العلماء، كما اختلفوا في علة الربا في الأمور الستة الواردة في حديث عبادة بن الصامت، هل هي الكيل، أو الطعم، أو الوزن، أو الاقتيات؟ فإذا قلنا: إن كل مجتهد مصيب، كان ذلك قياسًا شرعيًّا صحيحًا، وإذا قلنا: إن المجتهد يصيب ويخطئ، كان المصيب واحدًا، وغيره مخطئ. فيكون قياسه فاسدًا، ومع ذلك فهو داخل في التعريف.
انظر: الإحكام للآمدي "3/ 183" شرح مختصر الروضة "3/ 220" وما بعدها"
1 أي: عرف علماء الشرع، وحاصل الرد على هذا التعريف: أن لفظ "القياس" ينبئ عن معنى التقدير والاعتبار، والاجتهاد لا ينبئ عن ذلك، وهذا نقض للتعريف من جهة اللفظ.
وأما من جهة المعنى: فإنه منقوض بالنظر في العمومات ومواقع الإجماع وغيرها من طرق الأدلة، فإنه اجتهاد وليس بقياس.
كما أن لفظ الاجتهاد ينبئ عن بذل الجهد في النظر، والقياس قد يكون جليًّا لا يحتاج على نظر واجتهاد.
فالحاصل: أن تعريف القياس بالاجتهاد تعريف بالأعم، فإن الاجتهاد أعم من القياس، إذ كل قياس اجتهاد، وليس كل اجتهاد قياسًا. انظر: شرح الطوفي "3/ 224".
2 القياس ينقسم إلى عدة أقسام، باعتبارات مختلفة، ومن هذه الأقسام انقسامه إلى جلي، وخفي. =

 

ج / 2 ص -143-       الجهد. ولا بد في كل قياس من أصل، وفرع، وعلة، وحكم.
فأما إطلاق القياس على المقدمتين اللتين يحصل منهما نتيجة: فليس بصحيح؛ لأن القياس يستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر، ويقدر به، فهو اسم إضافي بين شيئين على ما ذكرناه في اللغة1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فالجلي: هو ما كانت العلة الجامعة فيه بين الأصل والفرع منصوصة أو مجمعًا عليها، أو هو: ما قطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع.
والخفي: ما كانت العلة فيه مستنبطة، أو الذي لم يقطع فيه بنفي تأثير الفارق بين الأصل والفرع، مثل: قياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد، بجامع القتل العمد العدوان؛ لإثبات وجوب القصاص في المثقل. وهذا هو اصطلاح الجمهور في التفرقة بين القياس الجلي والخفي، أما الحنفية فلهم اصطلاح آخر. انظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب "2/ 243"، شرح مختصر الروضة "3/ 223"، كشف الأسرار "2/ 122".
1 حاصل ذلك: أن المصنف أراد أن يفرق بين القياس عند الأصوليين والقياس عند الفلاسفة، وأن كلًّا منهما بعيد عن الآخر، فالقياس عند الفلاسفة عبارة عن: تركيب مقدمتين يحصل منهما نتيجة، كقول القائل: كل حيوان جسم، وكل جسم مؤلف، يلزم عنه: أن كل حيوان مؤلف، فهذه نتيجة لازمة عن مقدمتين، ولو أضفنا إليها مقدمة أخرى وهي قولنا: كل مؤلف محدث، لزم عن ذلك: أن كل حيوان محدث.
ومع التسليم بهذه النتيجة، إلا أن القياس يستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بنوع من المساواة، إذ تقول العرب: لا يقاس فلان إلى فلان في عقله ونسبه، وفلان يقاس إلى فلان فهو عبارة عن معنى إضافي بين شيئين. انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 225"، نزهة الخاطر العاطر "2/ 228-229".

 

ج / 2 ص -144-       فصل: في العلة
ونعني بالعلة: مناط الحكم1.
وسميت علة؛ لأنها غيرت حال المحل، أخذًا من علة المريض؛ لأنها اقتضت تغيير حاله2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ما أضاف الشرع الحكم إليه وناطه به، ونصبه علامة عليه.
2 انظر: القاموس المحيط: "2/ 347".
وفي إرشاد الفحول للشوكاني "2/ 157": "وقيل: إنها مأخوذة من العلل بعد النهل، وهو معاودة الشرب مرة بعد مرة، لأن المجتهد في استخراجها يعاود النظر مرة بعد مرة".
وهذا معناها في اللغة.
أما في الاصطلاح الشرعي: فلها معان كثيرة.
المعنى الأول: أنها المعرفة للحكم، بأن جعلت علمًا على الحكم، إن وجد المعنى وجد الحكم.
المعنى الثاني: أنها المؤثرة في الحكم بجعل الله تعالى.
المعنى الثالث: أنها الباعث على التشريع، بمعنى: أن يكون الوصف مشتملًا على مصلحة صالحة لأن تكون مقصودة للشارع من شرح الحكم.
المعنى الرابع: هي المؤثرة في الحكم بذاتها، لا بجعل الله تعالى. وهو تعريف المعتزلة، وهو مرفوض، لأن الله تعالى هو الفعال لما يريد، ولا يجب عليه شيء، فإنه سبحانه لا يحمله شيء على فعل شيء.
ونستطيع أن نستخلص من هذه التعريفات تعريفًا شاملًا للعلة بأنها: هي الوصف الظاهر المنضبط الذي يناسب الحكم بتحقيق مصلحة الناس، إما بجلب منفعة أو دفع مضرة. انظر: المعتمد "2/ 704"، فواتح الرحموت "2/ 260"، نهاية السول "3/ 39"، إرشاد الفحول "2/ 157 وما بعدها".

 

ج / 2 ص -145-       فصل: [طرق الاجتهاد في إثبات العلة]
والاجتهاد في العلة على ثلاثة أضرب:
تحقيق المناط للحكم، وتنقيحه، وتخريجه.
أما تحقيق المناط1، فنوعان:
أولهما: لا نعرف في جوازه خلافًا.
ومعناه: أن تكون القاعدة الكلية متفقًا عليها، أو منصوصًا عليها، ويجتهد في تحقيقها في الفرع.
ومثاله: قولنا: "في حمار الوحش: بقرةٌ" لقوله تعالى:
{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}2 فنقول: "المثل واجب، والبقرة مثل، فتكون هي الواجب".
فالأول: معلوم بالنص والإجماع، وهو: وجوب المثلية في البقرة3.
أما تحقيق المثلية في البقر، فمعلوم بنوع من الاجتهاد4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والمراد بالمناط: ما نيط به الحكم، أي: علق به، وهو العلة التي رتب عليها الحكم في الأصل، يقال: نطُت الحبل بالوتد، أنوطه نوطًا: إذا علقته، ومنه ذات أنواط، وهي شجرة كانوا في الجاهلية يعلقون فيها سلاحهم.
روى الإمام أحمد في مسنده "5/ 218" عن أبي واقد الليثي أن رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
"سبحان الله، هذا كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} والذي نفسي بيده لتركبنّ سنّة من كان قبلكم".
2 سورة المائدة من الآية "95".
3 أي: أن وجوب المثل متفق عليه ثابت بالنص والإجماع.
4 أي: أن كون البقرة مثل حمار الوحش، اجتهادي، ثابت بالاجتهاد في تحقيق =

 

 

ج / 2 ص -146-       ومنه الاجتهاد في القبلة فنقول: وجوب التوجه إلى القبلة معلوم بالنص، أما أن هذه جهة القبلة1: فيعلم بالاجتهاد.
وكذلك تعيين الإمام2، والعدل، ومقدار الكفاية في النفقات ونحوه4.
فليعبر عن هذا بتحقيق المناط، إذ كان معلومًا، لكن تعذر معرفة وجوده في آحاد الصور، فاستدل عليه بأمارات5
الثاني: ما عرف علة الحكم فيه بنص أو إجماع، فيبين المتجهد وجودها في الفرع باجتهاده.
مثل: قول النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- في الهر:
"إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجسٍ؛ إِنَّهَا مِنَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= النص؛ لأن الله -تعالى- لم ينص على أن البقرة مثل حمار الوحش. في كفارة قتل المحرم للصيد متعمدًا.
1 في حق من اشتبهت عليه، فليس هناك نص في ذلك، وعليه أن يجتهد فيها
2 يعني: أن نصب الإمام والوالي والقاضي واجب، لكن تعيين فلان أو فلان من الناس لهذه المناصب موكول إلى اجتهاد أهل الحل والعقد في ذلك.
3 أي: أن حكم القاضي بالصدق واجب، وهو أمر معلوم بالنص، وقول العدل صدق معلوم بالظن، وأمارات العدالة لا تعلم إلا بالظن.
4 أي: أن قدر الكفاية في نفقة الزوجات والأقارب ونحوهم واجب متفق عليه، أما كون قدر الكفاية بالوزن أو الكيل كذا، فيدرك بالاجتهاد والظن.
5 أي: أن مناط الحكم معلوم بنص أو إجماع، فلا حاجة على استنباطه أو الاجتهاد فيه لكن تعذر معرفة وجوده في الصور التي يراد إثبات الحكم فيها، فاستدل عليه بأمارات ظنية، تسمى تحقيق المناط. انظر: المستصفى "3/ 486 وما بعدها"، شرح مختصر الروضة "3/ 234-235".

 

ج / 2 ص -148-       الضرب الثاني: تنقيح1 المناط:
وهو: أن يضيف الشارع الحكم إلى سببه، فيقترن به أوصاف لا مدخل لها في الإضافة، فيجب حذفها عن الاعتبار، ليتسع الحكم.
ومثاله: قوله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- للأعرابي الذي قال: هلكتُ يا رسول الله. قال:
"مَا صَنَعتَ؟ "قال: وقعت على أهلي في نهار رمضان. قال: "أَعْتِقْ رَقَبةً"2.
فنقول: كونه أعرابيًّا: لا أثر له3 فيلحق به "التركي" و"العجمي"، لعلمنا أن مناط الحكم: وقاع مكلف، لا وقاع الأعرابي، إذ التكاليف تعم الأشخاص، على ما مضى4.
ويلحق به: من أفطر بوقاع في رمضان آخر؛ لعلمنا أن المناط: حرمة رمضان، لا حرمة ذلك الرمضان5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التنقيح في اللغة: التخليص والتهذيب، يقال: نَقَّحْتُ العظم: إذا استخرجت مخه، ونقّحت الشيء: خلصت جيده من رديئه. انظر: المصباح المنير مادة "نقح".
وأما في الاصطلاح: فهو إلغاء بعض الأوصاف التي أضاف الشارع الحكم إليها لعدم صلاحيتها للاعتبار في العلة. انظر: شرح الطوفي "3/ 237".
2 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب إذا جامع في رمضان لم يكن له شيء، عن أبي هريرة مرفوعًا، ومسلم: كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم.
كما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والشافعي وغيرهم. انظر: تلخيص الحبير "2/ 206".
3 فلا يخيل للسامع أن علة الكفارة هي مجموع كونه أعرابيًّا جامع في نهار رمضان.
4 في باب العموم.
5 الذي وقع فيه الجماع في حياة الرسول، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.

 

ج / 2 ص -149-       وكون الموطوءة منكوحة: لا أثر له، فإن الزنا أشد في هتك الحرمة.
فهذه إلحاقات معلومة تبنى على مناط الحكم، بحذف ما علم بعادة الشرع في مصادره وموارده وأحكامه: أنه لا مدخل له في التأثير.
وقد يكون بعض الأوصاف مظنونًا، فيقع الخلاف فيه كالوقاع، إذ يمكن أن يقال: مناط الكفارة: كونه مفسدًا للصوم المحترم، والجماع آلة الإفساد، كما أن السيف آلة للقتل الموجب للقصاص، وليس هو من المناط، كذا ههنا1.
ويمكن أن يقال: الجماع مما لا تنزجر النفس عنه عند هيجان الشهوة بمجرد وازع الدين، فيحتاج إلى كفارة وازعة، بخلاف الأكل.
والمقصود: أن هذا نظر في تنقيح المناط بعد معرفته بالنص، لا بالاستنباط، وقد أقر به أكثر منكري القياس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني: أنه قد تكون علة الحكم ظنية، فتختلف فيها الأنظار، مثل: هل العلة في الكفارة خصوص الجماع في نهار رمضان، أو عموم إفساد الصوم، كالأكل والشرب؟ خلاف بين العلماء:
فأبو حنيفة ومالك يرون أن الأكل والشرب كالجماع في وجوب الكفارة، بل هما أولى من الجماع؛ لأنهما مادة الجماع وسببه المقوي عليه، ووسيلته المتوصل بها إليه، إذ الجائع لا يستطيعه، والشبعان ينشط له، فكان إيجاب الكفارة بالأكل والشرب من باب: سد الذرائع، وحسم مواد الفساد.
والشافعي وأحمد يقولان: لا كفارة إلا بخصوص الجماع، لأن النفس لا تنزجر عنه عند هيجان الشهوة بمجرد الوازع الديني، فاحتيج فيه إلى زيادة في الوازع وهي الكفارة. انظر: شرح الطوفي "3/ 240".

 

ج / 2 ص -150-       وأجراه أبو حنيفة في الكفارات، مع أنه لا قياس فيها عنده1.
الضرب الثالث، تخريج المناط2:
وهو: أن ينص الشارع على حكم في محل، ولا يتعرض لمناطه أصلًا. كتحريمه شرب الخمر، والربا في البر.
فيستنبط المناط بالرأي والنظر، فيقول: حرّم الخمر، لكونه مسكرًا، فيقيس عليه النبيذ، وحرّم الربا في البر، لكونه مكيلًا، فيقيس عليه الأرز.
وهذا هو الاجتهاد القياسي الذي وقع الخلاف فيه.
فصل
في إثبات القياس على منكريه
قال بعض أصحابنا: يجوز التعبد بالقياس عقلًا وشرعًا، لقول أحمد،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني: مع أن أبا حنيفة وأصحابه لا يرون القياس في الكفارات، إلا أنهم خالفوا أصلهم في هذه المسالة، وأجروا القياس فيها.
2 التخريج في اللغة: الاستخراج والاستنباط.
أما في الاصطلاح: فهو عبارة عن إضافة حكم -لم يتعرض الشرع لعلته- إلى وصف مناسب في نظر المجتهد بالسبر والتقسيم، كالأمثلة التي ذكرها المصنف.
قال الشيخ الطوفي، موضحًا ذلك: "وتحرير الكلام ههنا: أنا إذا رأينا الشارع قد نص على حكم، ولم يتعرض لعلته، قلنا: هذا حكم حادث لا بد له بحق الأصل من سبب حادث، فيجتهد في استخراج ذلك من محل الحكم، فإذا ظفر بوصف مناسب له، واجتهد ولم يجد غيره، غلب على ظنه أن ذلك الوصف هو سبب ذلك الحكم". شرح المختصر "3/ 243".

 

ج / 2 ص -151-       رحمه الله: "لا يستغني أحد عن القياس"1.
وبه قال عامة الفقهاء والمتكلمين.
وذهب أهل الظاهر والنظام إلى أنه لا يجوز التعبد به عقلًا ولا شرعًا2. وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- فقال: "يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين: المجمل والقياس"3.
وتأوله القاضي على قياس يخالف به نصًّا.
وقالت طائفة: لا حكم للعقل فيه بإحالة ولا إيجاب، لكنه في مظنة الجواز، فأما التعبد به شرعًا: فواجب.
وهو قول بعض الشافعية وطائفة من المتكلمين4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر ذلك القاضي أبو يعلى في العدة "4/ 1280" وأبو الخطاب في التمهيد "3/ 365".
2 انظر الإحكام لابن حزم "7/ 93".
3 أورد ذلك القاضي أبو يعلى في العدة "4/ 1281" وتأوله على القياس المخالف للنص فقال: "وهذا محمول على استعمال القياس في معارضة السنة، فإنه لا يجوز".
4 قال الطوفي، موضحًا آراء العلماء في حجية القياس: "النزاع في التعبد بالقياس إما عقلًا، أو شرعًا، وعلى كل واحد من التقريرين: فإما أن يكون النزاع في جوازه، أو وجوبه، أو امتناعه، أو وقوعه، فهي ثمانية أقوال، قد ذهب إلى أكثرها ذاهبون، فممن أوجب ورود التعبد به عقلًا: القفال، وأبو الحسين البصري. وممن أحاله من سبق ذكره "يقصد: الظاهرية والنظام" وأجازه الأكثرون عقلًا وشرعًا، ثم اختلفوا في وقوعه، فأثبته الأكثرون، ومنعه داود بن علي الأصبهاني والقاشاني والنهرواني.
واختلف المثبتون لوقوعه، هل هو بدليل العقل أو السمع؟ وهل دليل السمع =

 

ج / 2 ص -152-       وجه قول أصحابنا1:
[الدليل الأول] أن تعميم الحكم واجب، ولو لم يستعمل القياس: أفضى إلى خلو كثير من الحوادث عن الأحكام، لقلة النصوص، وكون الصور2 لا نهاية لها، فيجب ردهم إلى الاجتهاد ضرورة3.
فإن قيل: يمكن التنصيص على المقدمات الكلية ويبقى الاجتهاد في المقدمات الجزئية، فيكون من تحقيق المناط، وليس ذلك بقياس، وذلك مثل: أن ينص على: "أن كل مطعوم ربوي" وهذه المقدمة الكلية، فيبقى الاجتهاد في: "أن هذا مطعوم أم لا"؟
وهذا لا خلاف في جوازه.
قلنا: إن تصوّر هذا فليس بواقع، فإن أكثر الحودث ليس بمنصوص على مقدماتها الكية، كميراث الجد وأشباهه، فيقتضي العقل: أن لا يخلو عن حكم4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قطعي؟ وهو مذهب الأكثرين، أو ظني؟ وهو قول أبي الحسين البصري والآمدي. شرح المختصر "3/ 246".
1 وهم الذين صدر بهم المسألة فقال: "قال بعض أصحابنا يجوز التعبد بالقياس عقلًا وشرعًا..."
2 أي: الوقائع والحوادث التي تقع للناس من حين لآخر.
3 معناه: أننا لو لم نعمل بالقياس عند عدم وجود نص من القرآن أو السنة، لخلت حوادث كثيرة عن أحكام؛ لكثرة الحوادث والوقائع وقلة النصوص الشرعية، فلا يوجد في كل حادثة نص يخصها، فاحتيج إلى إلحاق غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه.
4 يعني: أن المنكرين للقياس قالوا: يمكن الاستغناء عن القياس بالتنصيص على المقدمات الكلية، ويبقى الاجتهاد في المقدمات الجزئية، فتستخرج منه =

 

ج / 2 ص -153-       دليل ثان:
أن العقل يدل على العلل الشرعية ويدركها، إذ مناسبة الحكم عقلية مصلحية، يقتضي العقل تحصيلها وورود الشرع بها، كالعلل العقلية1.
ولأننا نستفيد بالقياس ظنًّا غالبًا في إثبات الحكم، والعمل بالظن الراجح متعين2.
وشبهة المانعين منه عقلًا: ما مضى في رد خبر الواحد3. وقد مضى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأحكام، كما سبق في النوع الأول من تحقيق المناط، وهذا لا يسمى قياسًا بالاتفاق، كما سبق.
وأجاب المصنف على ذلك: بأن مجرد جواز النص على القواعد الكلية لا يكفي في إثباته، وأكثر الحوادث لم ينص على مقدماتها، كميراث الجد وما يشبهه، فاقتضى ذلك استعمال القياس.
1 هذا دليل عقلي ثان على جواز القياس خلاصته: أن العقل كما دل على العلل في الأمور العقلية، فإنه يدل، أيضًا على العلل في الأمور الشرعية؛ لأن مناسبتها للأحكام عقلية مصلحية، فمن المعلوم أن الأحكام الشرعية تقوم على رعاية مصالح العباد: من جلب المنافع ودرء المفاسد، والعقل يدرك طلب تحصيلها وورود الشرع بها.
2 هذا دليل آخر على حجية القياس، ولكنه يشير إلى اعتراض وارد من المخالفين خلاصته: أن القياس يثبت حكمًا ظنيًّا، وهذا يجوز في الفروع، أما الأصول: فلا بد فيها من القطع، فأجاب المصنف بهذا الدليل: أن المقصود من كون القياس حجة: إنما هو العمل به لا مجرد اعتقاد كونه حجة، والأحكام الفرعية يكفي فيها الظن، فكذلك ما كان وسيلة لها، خاصة إذا كان الظن راجحًا.
3 يشير إلى ما ورد في التعبد بخبر الواحد، حيث قال: "وأنكر قوم التعبد بخبر الواحد عقلًا؛ لأنه يحتمل أن يكون كذبًا، فالعمل به عمل بالشك، وإقدام على =

 

ج / 2 ص -154-       فأما التعبد به شرعًا: فالدليل عليه:
إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على الحكم بالرأي في الوقائع الخالية عن النص.
فمن ذلك
حكمهم بإمامة أبي بكر -رضي الله عنها- بالاجتهاد مع عدم النص، إذ لو كان ثم نص لنقل، ولتمسك به المنصوص عليه1.
وقياسهم العهد على العقد، إذ عهد أبو بكر إلى عمر -رضي الله عنهما- ولم يرد فيه نص، لكن قياسًا لتعيين الإمام على تعيين الأمة2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الجهل، فتقبح الحوالة على الجهل، بل إذا أمرنا الشارع بأمر فليعرفناه، لنكون على بصيرة: إما ممتثلون، وإما مخالفون" وقد رد المصنف على ذلك فقال: "والجواب عن هذا: إن صدر من مقر بالشرع فلا يتمكن منه؛ لأنه تعبد بالحكم بالشهادة، والعمل بالفتوى، والتوجه إلى الكعبة بالاجتهاد عند الاشتباه، وإنما يفيد الظن كما يفيد العمل بالمتواتر.... وإن صدر من منكر للشرع فيقال له: أي: استحالة في أن يجعل الله -تعالى- الظن علامة للوجوب، والظن مدرك بالحس فيكون معلومًا، فيقال له: إذا ظننت صدق الشاهد والرسول والحالف فاحكم به، ولست متعبدًا بمعرفة صدقه، بل بالعمل به عند ظن صدقه".
1 جاء في طبقات ابن سعد "3/ 183": "عن وكيع بن الجراح عن أبي بكر الهذلي عن الحسن قال: قال علي: لما قبض النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قد قدّم أبا بكر في الصلاة، فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- لديننا، فقدمنا أبا بكر" وقد ذكره السيوطي في "تاريخ الخلفاء" ص64، كما ذكره ابن قيم الجوزيه في "إعلام الموقعين" "1/ 230".
2 أي: أن الأصل في اختيار الإمام أن يكون بالبيعة، كما حدث لأبي بكر -رضي الله عنه- إلا أن أبا بكر -رضي الله عنه- عهد إلى عمر -رضي الله عنه- بالخلافة، قياسًا للعهد من الإمام على تعيين الأمة بعقد البيعة، وعهد أبي بكر إلى عمر =

 

ج / 2 ص -155-       ومن ذلك: موافقتهم أبا بكر -رضي الله عنه- في قتال مانعي الزكاة بالاجتهاد1.
وكتابة المصحف بعد طول التوقف فيه2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= -رضي الله عنهما- ثابت في التاريخ الصحيح، أورده ابن حجر في التلخيص الحبير "4/ 44"، وابن سعد في طبقاته "3/ 274".
1 معناه: أن أبا بكر -رضي الله عنه- قاس الزكاة على الصلاة في قتال الممتنع منها، بجامع كونهما عبادتين من أركان الإسلام، وقال في ذلك: "لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة" أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم. ووافقه الصحابة -رضي الله عنهم- على ذلك، فكان إجماعًا على صحة القياس. انظر: شرح الطوفي "3/ 264".
3 روى أبو داود الطيالسي في مسنده، والترمذي في سننه في أبواب التفسير، والبيهقي في السنن الكبرى، والبغوي في شرح السنة "4/ 513-515" والإمام أحمد في مسنده "1/ 13" وغيرهم عن زيد بن ثابت قال: "أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وكان عنده عمر، فقال: إن هذا أتاني فقال: إن القتل قد استحرّ بالقراء، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء في سائر المواطن، فيذهب القرآن، وقد رأيت أن تجمعوه، فقلت لعمر: كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدره، ورأيت فيه الذي رأى، فقال أبو بكر: إنك شاب -أو رجل- عاقل، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- لا نتهمك فاكتبه، قال: فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل علي منه، فقلت لهما: كيف تفعلان شيئًا لم يفعله رسول الله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم؟ قال أبو بكر وعمر: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر وعمر يراجعاني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدرهما، ورأيت فيه الذي رأيا، فتتبعت القرآن أنسخه من الصحف والعسب "جريد النخل" واللخاف "الحجارة الرقاق"، وصدور الرجال، حتى فقدت آية كنت أسمع رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- يقرأ بها
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ...} =

 

ج / 2 ص -156-       وجمع عثمان له على ترتيب واحد1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= [التوبة: 128-129] فالتمستها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت فأثبتها في سورتها".
انظر: كتاب المصاحف للسجستاني تحقيق الدكتور محب الدين عبد السبحان واعظ "1/ 165 وما بعدها" فقد استوفى الروايات الواردة في ذلك بأسانيدها.
1 عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فرج أرمينية وأذربيجان "الفرج: الثغر" مع أهل العراق، فرأى حذيفة اختلافهم في القرآن، فقال لعثمان بن عفان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلف اليهود والنصارى، فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إليّ بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت حفصة إلى عثمان بالصحف، فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الله بن الزبير، أن انسخوا الصحف في المصحاف، وقال للرهط القرشيين الثلاثة، ما اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف بعث عثمان إلى كل أفق بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوا، وأمر بسوى ذلك من صحيفة أو مصحف أن يحرق" رواه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، والترمذي: في أبواب التفسير، والبغوي في شرح السنة "4/ 519"- 521" وقال: "هذا حديث صحيح" كما أورده أبو شامة عن البخاري في المرشد الوجيز "49-51" والسجستاني في كتاب المصاحف "1/ 204 وما بعدها"
وقول المصنف: "على ترتيب واحد" أي: على النسخة التي كانت عند السيدة حصفة -رضي الله عنها- وهي التي جمعت في عهد سيدنا أبي بكر -رضي الله عنه- وهو الترتيب الذي عليه المصاحف الآن، أما المصاحف الأخرى التي كانت عند بعض الصحابة -رضي الله عنهم جميعًا- فكانت مختلفة الترتيب، وبعضها كان على حسب نزول السور، ولذلك أمر عثمان -رضي الله عنه- بحرق ما عدا المصحف الذي اعتبر مصحف الجماعة. انظر: البرهان للزركشي "1/ 240"، فصائل القرآن لابن كثير، ملحق بتفسيره "7/ 446".

 

ج / 2 ص -157-       واتفاقهم على الاجتهاد في مسألة "الجد والإخوة" على وجوه مختلفة، مع قطعهم أنه لا نص فيها1.
وقولهم في المشرّكة2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسألة ميراث الإخوة مع الجد، وقع فيها خلاف طويل بين الصحابة -رضي الله عنهم- فالبعض أنزله منزلة الأب، فلا يرث الإخوة معه شيئًا، ومنهم من قال: يقاسمهم إلى الثلث، ومنهم من قال: إلى السدس، ومنهم من قال: إلى نصف السدس، فأقر بعضهم بعضًا على ما ذهب إليه، ولم ينكر بعضهم على بعض، فكان ذلك اتفاقًا منهم على الاجتهاد في المسألة.
قال أبو يعلى في العدة "4/ 1307-1308": "فإن كان هناك نص لم يخل من ثلاثة أحوال:
إما أن يكون خفي عليهم.
أو علموه وتركوه.
أو علم به بعضهم دون بعض.
فبطل أن يكون هناك نص خفي عليهم، لأنه يفضي أن يجمعوا على خطإ، وأن يخرج الأمر عن أيديهم.
وبطل أن يقال: علموا به وتركوه؛ لأن هذا عناد.
وبطل أن يقال: علم به بعضهم دون بعض؛ لأنه لو كان كذلك لأظهره الذي علمه، ورواه وذكره
فلما لم يكن شيء من هذا، ثبت أن القوم قالوا فيها باجتهادهم.
ويؤيد هذا: أن القوم قاسوا الجد على غيره، واعتبره علي بالبحر، والأب بالنهر، والإخوة بالأنهار.
واعتبره زيد بالشجرة، والأب بالغصن والإخوة بالأفنان، "جمع فنن: الغصن" ثبت أن القوم أجمعوا على القياس، وعملوا به، وأقر بعضهم بعضًا على ذلك". وانظر: السنن الكبرى للبيهقي: كتاب الفرائض، جماع أبواب الجد.
2 وهي المسألة المشهورة في الفرائض، وهي: أن يوجد في المسألة زوج وأم، وإخوة لأم، اثنان أو أكثر، وإخوة أشقاء.

 

ج / 2 ص -158-       ومن ذلك: قول أبي بكر -رضي الله عنه- في الكلالة: "أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه. الكلالة: ما عدا الوالد والولد"1.
ونحوه عن ابن مسعود في قضية بَرْوع بنت واشق2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فللزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة لأم الثلث، ولا شيء للإخوة الأشقاء؛ لأنهم عصبة، وأصحاب الفروض قد استوفوا التركة.
وهذا ما كان يفتي به عمر -رضي الله عنه- فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين هب أن أبانا كان حمارًا أليست أمّنا واحدة؟ فشرّك بينهم، ولذلك سميت بالمشركة، وعدل عمر -رضي الله عنه- عن رأيه وعمل على التشريك بينهم، فيما بعد.
أخرج الدارقطني في سننه: كتاب الفرائض، عن مسعود بن الحكم الثقفي قال: "أتى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في امرأة تركت زوجها وأمها وإخوتها لأم وإخوتها لأبيها وأمها، فشرّك بين الإخوة للأم وبين الإخوة للأم والأب بالثلث، فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهما في عام كذا وكذا. قال: فتلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم".
1 أخرجه البيهقي في سننه: كتاب الفرائض، باب حجب الإخوة والأخوات من قبل الأم "......عن الشعبي قال: سئل أبو بكر -رضي الله عنه- عن الكلالة، فقال: إني سأقول فيها برأيي، فإن يك صوابًا فمن الله، وإن يك خطأ مني ومن الشيطان، أراه ما خلا الولد والوالد، فلما استخلف عمر -رضي الله عنه- قال: إني لأستحيي الله أن أرد شيئًا قاله أبو بكر".
كما أخرجه عبد الرزاق في المصنف: كتاب الفرائض، باب الكلالة، والدارمي: كتاب الفرائض، باب الكلالة، والخطيب في كتابه: "الفقيه والمتفقه" باب: ذكر ما روي عن الصحابة والتابعين في الحكم بالاجتهاد.
2 روى أبو داود في سننه: كتاب النكاح، باب: فيمن تزوج ولم يسم صداقًا حتى مات: "أن عبد الله بن مسعود أُتي في رجل بهذا الخبر، يعني: في رجل تزوج امرأة، فمات عنها، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها الصداق، فاختلفوا إليه =

 

ج / 2 ص -159-       ومنه: حكم الصديق -رضي الله عنه- في التسوية بين الناس في العطاء، كقوله: "إنما أسلموا لله وأجورهم عليه، وإنما الدنيا بلاغ"، ولما انتهت النوبة إلى عمر -رضي الله عنه- فصل1 بينهم وقال: "لا أجعل من ترك داره وماله وهاجر إلى الله ورسوله كمن أسلم كرهًا"2.
ومنه: عهد عمر -رضي الله عنه- إلى أبي موسى: "اعرف الأمثال والأشباه، وقس الأمور برأيك3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= شهرًا، أو قال: مرات، قال: فإني أقول فيها: إن لها صداقًا كصداق نسائها، لا وكس ولا شطط، وإن لها الميراث، وعليها العدة، فإن يك صوابًا فمن الله، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان، فقام ناس من أشجع، فيهم الجراح وأبو سنان، فقالوا: يا ابن مسعود نحن نشهد أن رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قضاها فينا في بَرْوع بنت واشق، وأن زوجها هلال بن مرة الأشجعي كما قضيت، قال: ففرح عبد الله بن مسعود فرحًا شديدًا حين وافق قضاؤه قضاء رسول الله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم". كما أخرجه عبد الرزاق في المصنف: كتاب النكاح، باب الذي يتزوج فلا يدخل ولا يفرض حتى يموت، وأحمد في المسند "4/ 279".
1 في المستصفى "فرق" وفي كتب الحديث "فاضل".
2 أخرج نحوه البيهقي في السنن الكبرى "6/ 348"- كتاب قسم الفيء، باب التسوية بين الناس في القسمة، كما أخرجه الإمام أحمد في المسند "1/ 21"، "3/ 475" وجاء في بعض الروايات: "وذكر عن عثمان، رضي الله عنه، أنه فضل بينهم في القسمة".
3 كتاب عمر -رضي الله عنه- إلى أبي موسى الأشعري، كتاب جليل القدر، تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه، وإلى تأمله والتفقه فيه، كما قال ابن القيم.
أخرجه الدارقطني: كتاب الأقضية والأحكام، والبيهقي: كتاب آداب القاضي، باب: ما يقضي به القاضي، وما يفتي به المفتي.
وهو كتاب طويل جاء فيه: "...أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة =

 

ج / 2 ص -160-       وقال علي، رضي الله عنه: "اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يُبعن، وأنا الآن أرى بيعهن"1.
وقال عثمان لعمر: "إن نتبع رأيك فرأي رشيد، وإن نتبع رأي من قبلك فنعم ذو الرأي كان"2.
ومنه: قولهم، في السكران: "إذا سكر هذي، وإذا هذي أفترى، فحدوه حد المفتري"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= متبعة.....الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب أو السنة، اعرف الأمثال والأشباه، ثم قس الأمور عند ذلك، فاعمد إلى أحبها عند الله وأشبهها بالحق فيما ترى...".
1 رواه عبد الرزاق في المصنف "7/ 291" والبيهقي في السنن الكبرى "10/ 348" عن عبيدة السلماني قال: سمعت عليًّا يقول: "اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يُبعن، ثم رأيت بعدُ أن يبعن. قال عبيدة: فقلت له: فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحبُّ إلي من رأيك وحدك في الفرقة. قال: فضحك علي" قال ابن حجر في تلخيص الحبير "4/ 219": "إسناده من أصح الأسانيد".
2 روى عبد الرزاق في مصنفه "10/ 263" والحاكم "4/ 340" والبيهقي في سننه الكبرى "6/ 246" والدارمي في سننه: كتاب الفرائض "2/ 354" عن مروان بن الحكم: أن عمر بن الخطاب -لما طُعن- استشارهم في الجد، فقال: إني كنت رأيت في الجد رأيًا، فإن رأيتم أن تتبعوه فاتبعوه، فقال له عثمان: إن نتبع رأيك فإنه راشد، وإن نتبع رأي الشيخ فلنعم ذو الرأي كان.
3 هذا الأثر أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الأشربة- باب الحد في الخمر- عن ثور بن زيد الدِّيلي أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل، فقال له علي بن أبي طالب: "نرى أن تجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى -أو كما قال- فجلد عمر في الخمر ثمانين".
كما أخرجه الشافعي والدارقطني والبيهقي والحاكم وغيرهم. قال الحافظ في تلخيص الحبير "4/ 75": "وهو منقطع، لأن ثورًا لم يلحق عمر، بلا خلاف" =

 

 

ج / 2 ص -161-       وهذا التفات منهم إلى أن مظنة الشيء تنزل منزلته.
وقال معاذ للنبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أجتهد رأيي"1 فصوبه
فهذا وأمثاله -مما لا يدخل تحت الحصر- مشهور، إن لم تتواتر آحاده: حصل بمجموعة العلم الضروري: أنهم كانوا يقولون بالرأي، وما من وقت إلا وقد قيل فيه بالرأي2.
ومن لم يقل، فلأنه أغناه غيره عن الاجتهاد، وما أنكر على القائل به، فكان إجماعًا.
[الاعتراضات الواردة على إجماع الصحابة]
فإن قيل: فقد نقل عنهم ذم الرأي وأهله:
فقال عمر، رضي الله عنه: "إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لكن الحاكم أخرجه في مستدركه في كتاب الحدود وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
1 تقدم تخريجه.
2 معناه: أن هذه الوقائع المختلفة، وغيرها كثيرة، وهي وإن كانت أخبار آحاد لم تبلغ حد التواتر اللفظي، إلا أن مجموعها يعتبر تواترًا معنويًّا، كسخاء حاتم الطائي وشجاعة علي، رضي الله عنه.
ومن لم يقل منهم بالرأي، فإن سبب ذلك: أن غيره أغناه عنه، فلم يعد في حاجة إليه.
قال الغزالي في المستصفى "3/ 520": "فهذا وأمثاله، مما لا يدخل تحت الحصر، مشهور".
وما من مفتٍ إلا وقد قال بالرأي، ومن لم يقل؛ فلأنه أغناه غيره عن الاجتهاد، ولم يعترض عليهم في الرأي.
فانعقد إجماع قاطع على جواز القول بالرأي والظن".

 

ج / 2 ص -162-       السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا"1.
وقال علي، رضي الله عنه: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه"2.
وقال ابن مسعود، رضي الله عنه: "قراؤكم وصلحاؤكم يذهبون، ويتخذ الناس رؤساء جهالًا فيقيسون ما لم يكن بما كان"3.
وقولهم: "إن حكمتم بالرأي أحللتم كثيرًا مما حرم الله، وحرمتم كثيرًا مما أحله"4.
وقول ابن عباس: "إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم برأيه، وقال لنبيه:
{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}5 ولم يقل: بما رأيت"6.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" باب: ما جاء في ذم القول في دين الله بالرأي والظن والقياس، والخطيب في كتابه "الفقيه والمتفقه" "1/ 180-181"، وابن حزم في الإحكام ص779.
2 أخرجه أبو داود: كتاب الطهارة، باب: كيف المسح؟ وابن حزم في الإحكام "1/ 380، وابن حجر في "التلخيص الحبير" "1/ 160" وقال: "إسناده صحيح".
3 أخرجه ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" "2/ 165" والدارمي في سننه "1/ 65".
4 هذا الأثر أخرجه الخطيب في كتابه "الفقيه والمتفقه" "1/ 182" عن ابن مسعود، رضي الله عنه.
وأخرجه ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" "2/ 94" عن الشعبي، ومثله ابن حزم في الإحكام "2/ 1073".
5 سورة النساء من الآية "105".
6 أخرجه ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" "2/ 133".

 

 

ج / 2 ص -163-       وقوله: "إياكم والمقاييس، فما عبدت الشمس إلا بالمقاييس"1.
وقال ابن عمر: "ذروني من أرأيت وأرأيت"2.
[الرد على الاعتراضات المتقدمة]
قلنا: هذا منهم ذم لمن استعمل الرأي والقياس في غير موضعه، أو بدون شروطه.
فذم عمر -رضي الله عنه- ينصرف إلى من قال بالرأي من غير معرفة للنص، ألا تراه قال: "أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها" وإنما يحكم بالرأي في حادثة لا نص فيها، فالذم على ترك الترتيب، لا على أصل القول

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن حزم في الإحكام "2/ 1073" عن محمد بن سيرين بلفظ: "القياس شؤم، وأول من قاس إبليس فهلك، وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس".
وأخرجه الدارمي في سننه "1/ 65" عن ابن سيرين أيضًا. كما ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين "1/ 254".
2 جاء في مجمع الزوائد "1/ 180" عن الشعبي قال: قال ابن مسعود، رضي الله عنه: "إياكم وأرأيت وأرأيت، فإنما هلك من كان قبلكم بأرأيت وأرأيت، ولا تقيسوا شيئًا بشيء فتزل قدم بعد ثبوتها، فإذا سئل أحدكم عما لا يعلم فليقل: الله أعلم، فإنه ثلث العلم" وقد نسبه صاحب مجمع الزوائد إلى الدارقطني ثم قال: "والشعبي لم يسمع ابن مسعود، وفيه جابر الجعفي، وهو ضعيف". كما نسبه إلى ابن مسعود أيضًا ابن القيم في إعلام الموقعين "1/ 58". وخلاصة هذه الاعتراضات: أن الإجماع الذي نقله المصنف عن الصحابة -رضي الله عنهم- على حجية القياس، معارض بآثار أخرى تدل على ذم القياس، فلم تسلم لهم الأدلة السابقة.
3 أي: الترتيب الذي جاء في حديث معاذ -رضي الله عنه- حيث جاء فيه الاجتهاد بعد عدم وجود الحكم في الكتاب والسنة.

 

ج / 2 ص -164-       بالرأي، ولو قدم إنسان القول بالسنة على ما هو أقوى منها1: كان مذمومًا.
وكذلك قول علي، رضي الله عنه2.
وكل ذم يتوجه إلى أهل الرأي فلتركهم الحكم بالنص هو أولى، كما قال بعض العلماء3:

أهل الكلام وأهل الرأي قد جهلوا      علم الحديث الذي ينجو به الرجل

لو أنهم عرفوا الآثار ما انحرفوا          عنها إلى غيرها لكنهم جهلوا

جواب ثانٍ:
أنهم ذموا الرأي الصادر عن الجاهل الذي ليس أهلًا للاجتهاد والرأي، ويرجع إلى محض الاستحسان، ووضع الشرع بالرأي، بدليل أن الذين نقل عنهم هذا هم الذين نقل عنهم القول بالرأي والاجتهاد4.
والقائلون بالقياس مقرون بإبطال أنواع من القياس، كقياس أهل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو القرآن الكريم.
2 وهو قوله: "لو كان الدين بالرأي: لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه".
3 القائل هو: موسى بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، أبو مزاحم الخاقاني، كان عالمًا بالعربية، شاعرًا، من أهل بغداد، كما كان راوية مأمونًا. ولد سنة 248هـ وتوفي سنة 325هـ. "غاية النهاية 2/ 320، الأعلام 8/ 275". والبيتان أوردهما عنه الخطيب البغدادي "ت463هـ" في كتابه: "شرف أصحاب الحديث" ص79 تحقيق محمد سعيد خطيب أوغلي، نشر دار إحياء السنة النبوية.
4 معناه: أن الذين نقل عنهم ذم الرأي والاجتهاد، هم الذين نقل عنهم القول بالرأي والاجتهاد -كما سبق- فلا بد من دفع هذا التعارض، وهذا إنما يكون بحمل الذم على الرأي الفاسد الذي لم تكتمل شروطه، أو المخالف للنص، أو الصادر من الجاهل.

 

ج / 2 ص -165-       الظاهر، إذ قالوا، الأصول لا تثبت قياسًا، فكذلك الفروع.
فإذًا: إن بطل القياس، فليبطل قياسهم1
فإن قيل: فلعلهم عولوا في اجتهادهم على عموم، أو أثر، أو استصحاب حال، أو مفهوم، أو استنباط معنى صيغة من حيث الوضع واللغة في جمع بين آيتين أو خبرين، أو يكون اجتهادهم في تحقيق مناط الحكم، لا في استنباطه.
فقد علموا أنه لا بد من إمام، وعرفوا -بالاجتهاد- من يصلح للتقديم، وهكذا في بقية الصور2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ومما يؤيد ما قلناه من دفع التعارض السابق: أن القائلين بحجية القياس مقرون ومعترفون بفساد بعض الأقيسة، مثل: قياس أهل الظاهر، حيث قالوا: لا يجوز القياس في الأصول، فمنعوا القياس في الفروع، قياسًا على الأصول.
فرد الجمهور هذا القياس وقالوا للظاهرية: إنكم أبطلتم القياس من أساسه، فكيف تقيسون الفروع على الأصول، فأنتم بذلك تبطلون القياس بالقياس؟!
2 معنى ذلك: أن الجمهور لما استدلوا على صحة القياس بالإجماعات المنقولة عن الصحابة -رضي الله عنهم- اعترض عليهم النافون لحجية القياس بعدم التسليم بأن ما ذكروه كان مبنيًّا على القياس، بل يحتمل أنهم عولوا على أشياء أخرى، كصيغ العموم، أو بعض الآثار، أو الاستصحاب، أو دلالة مفهوم، أو استنباط حكم شرعي بناء على مدلول بعض الصيغ من حيث اللغة، أو الاحتكام إلى تحقيق المناط، كما تقدم، حيث تكون القاعدة الكلية متفقًا عليها، أو منصوصًا عليها، ويأتي الاجتهاد في إلحاق بعض الفروع بها، كعلم الصحابة -رضي الله عنهم- بوجوب نصب إمام يلي أمور المسلمين، ثم يجتهدون فيمن تتحقق فيه شروط الإمامة، ومع هذه الاحتمالات لا يكون الاستدلال صحيحًا. وقد أجاب المصنف عن ذلك، كما سيأتي.

 

ج / 2 ص -166-       قلنا:
لم يكن اجتهاد الصحابة مقصورًا على ما ذكروه، بل قد حكموا بأحكام لا تصح إلا بالقياس، كعهد أبي بكر إلى عمر، قياسًا للعهد على العقد بالبيعة، وقياس الزكاة على الصلاة1، وقياس عمر الشاهد على القاذف في حد أبي بكرة2، وإلحاق السكر بالقذف لأنه مظنته3.
وقد اشتهر اختلافهم في الجد قياسًا: فقال ابن عباس: "ألا يتقي الله زيد، يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أب الأب أبًا"4، فأنكر ترك قياس الأبوة على البنوة، مع افتراقهما في الأحكام.
وصرح من سوى بينهما بأن الأخ يدلي بالأب، والجد يدلي به أيضًا، فالمدلى به واحد، والإدلاء مختلف5.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأثر الذي تقدم وفيه: "لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة".
2 تقدمت ترجمته.
3 وهو ما سبق تخريجه عن علي -رضي الله عنه- قال، في شارب الخمر: إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي "أي: تكلم بكلام غير معقول" وإذا هذي افترى "أي: قذف" وعلى المفترى ثمانون جلدة".
4 ذكره ابن عبد البر في كتابه: جامع بيان العلم وفضله "2/ 131" بدون إسناد، كما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه "10/ 266".
5 أي: أن الذين سووا بين الجد والإخوة في أن كلًّا منهما يستحق الميراث قالوا: كل منهما يدلي إلى الميت بواسطة الأب، فالمدلَى به -وهو الأب- واحد، والإدلاء مختلف، فالجد يدلي إلى الميت بجهة الأبوة، والإخوة يدلون بجهة البنوة، فهما مختلفان، فقاسوا الإدلاء بجهة البنوة على الإدلاء بجهة الأبوة، مع أن البنوة تختلف عن الأبوة في بعض الأحكام، فتوريث الصحابة -رضي الله عنهم- للإخوة مع الجد ثابت بالقياس، وهذا هو المدعى.

 

ج / 2 ص -167-       وصرحوا بالتشبيه بالغصنين، والخليجين1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة الكلام في ميراث الجد ومحل الشاهد من إيراده هنا: أن الصحابة رضي الله عنهم، اختلفوا في ميراث الجد مع الإخوة، في حالة عدم وجود الأب، على مذهبين:
المذهب الأول: أن الجد يسقط جميع الإخوة والأخوات في جميع الجهات، تنزيلًا له منزلة الأب، وهو رأي أبي بكر الصديق، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وروي ذلك عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم جميعًا.
المذهب الثاني: أن الأخوة يرثون مع الجد -على خلاف بينهم في القدر الذي يرثه- ولا يقوى الجد على حجبهم كما يحجبهم الأب، وهو رأي علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم- لأن ميراثهم ثابت بالكتاب، فلا يحجبون إلا بنص أو إجماع أو قياس، وما وجد شيء من ذلك.
ولأنهم تساووا مع الجد في سبب الاستحقاق، فالإخوة والجد يدليان إلى الميت بواسطة الأب، فالجد أبوه، والأخ ابنه، وقرابة البنوة لا تنقص عن قرابة الأبوة، بل ربما كانت أقوى، ولذلك مثله علي -رضي الله عنه- بشجرة أنبتت غصنًا، فانفرق منه غصنان، كل واحد منهم على الآخر أقرب منه إلى أصل الشجرة، ومثّله زيد بواد خرج منه نهر، انفرق منه جدولان، كل واحد منهما إلى الآخر أقرب منه إلى الوادي.
انظر: سنن البيهقي: كتاب الفرائض، باب: من ورّث الإخوة مع الجد، والمصنف لعبد الرزاق "10/ 95" والمغني لابن قدامة "9/ 65 وما بعدها".
ومحل الشاهد في إيراد هذه القضية: أن الصحابة -رضي الله عنهم- استعملوا القياس في ميراث الجد، حيث اعترض ابن عباس على زيد بن ثابت في عدم قياس الجد على ابن الابن، فإن ابن الابن يحل محل الابن في حالة عدم وجوده، فلماذا لا يحل الجد محل الأب، وهذا معنى قوله: "ألا يتقى الله زيد بن ثابت، بجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أب الأب أبًا".
كما أن الذين سووا بين الجد والإخوة وأنهم لا يحجبون استعملوا القياس أيضًا، كما تقدم في غصني الشجرة، وجدولي الماء.

 

ج / 2 ص -168-       ومن فتّش عن اختلافهم في الفرائض وغيرها؛ عرف ضرورة سلوكهم التشبيه والمقايسة، وأنهم لم يقتصروا على تحقيق المناط في إثبات الأحكام، بل استعملوا ذلك في بقية طرق الاجتهاد.
[الأدلة النقلية على حجية القياس]
وقد استدل على إثبات القياس بقوله تعالى:
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}1.
وحقيقة الاعتبار: مقايسة الشيء بغيره كما يقال: "اعتبر الدينار بالصَّنْجة"2. وهذا هو القياس.
فإن قيل: المراد به الاعتبار بحال من عصى أمر الله، وخالف رسله، لينزجر، ولذلك لا يحسن أن يصرح بالقياس ههنا فيقول:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحشر من الآية "2".
قال الطوفي في شرحه "3/ 259-260"- مبينًا وجه الدلالة من هذه الآية: "القياس اعتبار، والاعتبار مأمور به، فالقياس مأمور به.
أما المقدمة الأولى، وهي: أن القياس اعتبار، فهي لغوية، أي: طريق معرفتها اللغة، وأنه التقدير والاعتبار، وأيضًا: فإن الاعتبار مشتق من العبور، وهو المجاوزة، ومنه المِعْبَر؛ لأنه يجاوز بالناس من أحد جانبي البحر إلى الآخر، وعابر المنام؛ لأنه يعبر حال المنام إلى ما يشبهه في اليقظة، وكذلك القياس يجاوز بحكم المنصوص إلى غيره، ويعبر منه إليه، فكان القياس اعتبارًا بحكم الاشتقاق.
وأما المقدمة الثانية، وهي: أن الاعتبار مأمور به، فلقوله تعالى:
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أمر بالاعتبار، والأمر للوجوب، فيكون الاعتبار الذي منه القياس واجبًا.
2 هي الميزان. معرّبة. القاموس المحيط فصل الصاد باب الجيم.

 

ج / 2 ص -169-       {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} فألحقوا الفروع بالأصول، لتعرف الأحكام.
قلنا: اللفظ عام، وإنما لم يحسن التصريح بالقياس ههنا، لأنه يخرج عن عمومه المذكور في الآية، إذ ليس حالنا فرعًا لحالهم1.
دليل آخر:
قول النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- لمعاذ:
"بِمَ تَقْضِي؟" قال: بكتاب الله. قال: "فإن لمْ تَجدْ؟" قال: بسنة رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال: "فَإن لمْ تَجدْ؟" قال أجتهد رأيي، قال: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- لما يرضي رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم2".
قالوا: هذا الحديث يرويه الحارث بن عمرو1 عن رجال من أهل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة ذلك: أن المنكرين لحجية القياس اعترضوا على الاستدلال بهذه الآية فقالوا: إن الاعتبار هنا معناه الاتعاظ، لأن قوله تعالى:
{فاعتبروا} وارد في سياق قوله تعالى، في حق بني قريظة والنضير: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} فلا يحسن أن يقول هنا: فقيسوا الذرة على البر؛ لأنه يكون ركيكًا لا يليق بالشارع.
فأجاب المصنف على ذلك: بأن المراد بالاعتبار هنا: القدر المشترك بين القياس والاتعاظ، وهو المجاوزة، فإن القياس مجاوزة عن الأصل إلى الفرع، والاتعاظ مجاوزة من حال الغير إلى حال نفسه، وكون صدر الآية غير مناسب للقياس لا يستلزم عدم مناسبته للقدر المشترك بين القياس والاتعاظ.
2 تقدم تخريجه. ومحل الشاهد: أن الرسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- أقر معاذًا على الاجتهاد، ومن الأمور التي يعتمد عليها في الاجتهاد: القياس.
3 هو: الحارث بن عمرو الثقفي، ابن أخي المغيرة بن شعبة، روى عن أناس من =

 

ج / 2 ص -170-       حمص، والحارث، والرجال مجهولون. قاله الترمذي1.
ثم إن هذا الحديث ليس بصريح في القياس، إذ يحتمل أنه يجتهد في تحقيق المناط.
قلنا: قد رواه عبادة بن نُسَيّ2 عن عبد الرحمن بن غَنْم3 عن معاذ.
ثم الحديث تلقته الأمة بالقبول، فلا يضره كونه مرسلًا4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أهل حمص من أصحاب معاذ، وروى عنه أبو عوف: محمد بن عبيد الله الثقفي، ولا يعرف إلا بهذا، مات بعد المائة. قال البخاري: لا يصح ولا يعرف، وذكره العقيلي وابن الجارود وأبو العرب في الضعفاء، وقال ابن عدي: هو معروف بهذا الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات. انظر: تهذيب التهذيب "2/ 152"، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال "1/ 185".
1 هو: محمد بن عيسى بن سورة السلمى الترمذي، أبو عيسى، من أئمة الحديث وحفاظه، صاحب الجامع الكبير في الحديث. توفي سنة "279هـ". انظر: وفيات الأعيان "1/ 484"، تذكرة الحفاظ "2/ 633".
2 هو: عبادة بن نُسَيّ، أبو عمرو الشامي، قاضي طبرية، روى عن عبادة بن الصامت وأبي الدرداء وغيرهما، وروى عنه برد بن سنان، والمغيرة بن زياد، ثقة، توفي سنة "118هـ".
انظر: تقريب التهذيب "1/ 395"، تهذيب التهذيب "5/ 113".
3 هو: عبد الرحمن بن غنم الأشعري، اختلف في صحبته. روى عن رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- وعن عمر وعثمان وعلي، وعن غيرهم من الصحابة، رضي الله عنهم جميعًا. كما روى عنه ابنه محمد ومكحول الشامي، ورجاء بن حيوة، وعبادة بن نُسي وغيرهم. وثقه ابن سعد والعجلي ويعقوب بن شيبة، كما ذكره ابن حبان في ثقات التابعين. توفي سنة "78هـ". انظر: تقريب التهذيب "1/ 494"، تهذيب التهذيب "6/ 250".
4 قال الخطيب البغدادي في كتابه: "الفقيه والمتفقه" "1/ 189-190": "إن قول =

 

ج / 2 ص -171-       ........................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الحارث بن عمرو "عن أناس من أصحاب معاذ" يدل على شهرة الحديث، وكثرة رواته، وقد عرف فضل معاذ وزهده، والظاهر من حال أصحابه الدين والتفقه والزهد والصلاح، وقد قيل: إن عبادة بن نُسَي رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ وهذا إسناد متصل، ورجاله معروفون بالثقة، على أن أهل العلم قد تقبلوه واحتجوا به، فوقفنا بذلك على صحته عندهم، كما وقفنا على صحة قول الرسول الله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
"لَا وَصِيّة لِوَارِث" وفي البحر: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد، لكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها، فكذلك حديث معاذ، لما احتجوا به جميعًا غنوا عن طلب الإسناد له".
وقال إمام الحرمين في البرهان "2/ 772": "وهو مدون في الصحاح، متفق على صحتة، ولا يتطرق إليه التأويل".
وقال الغزالي في المستصفى "2/ 254": "تلقته الأمة بالقبول، ولم يظهر فيه أحد طعنًا، فلا يقدح فيه كونه مرسلًا".
كما قواه ابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والذهبي وابن كثير. انظر: المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر "ص63-71" بتعليق الأستاذ حمدي السلفي.
وقال القاضي أبو يعلى في العدة "4/ 1294": "فإن قيل: هذا من أخبار الآحاد، فلا يصح أن يحتج به في هذه المسألة التي هي أصل.
قيل: هذا أشهر وأثبت من قوله: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" وقد احتج به المخالف في الإجماع، فكان هذا أولى.
وجواب آخر وهو: أنه إذا جاز أن تثبت الأحكام الشرعية بخبر الواحد، مثل: تحليل وتحريم، وإيجاب وإسقاط، وتصحيح وإبطال، وإقامة حق وحد، بضرب وقطع وقتل، واستباحة الفروج، وما أشبه ذلك، كان يثبت القياس به أولى؛ لأن القياس طريق لهذه الأحكام، وهي المقصودة دون الطريق".
وقال الشيخ محمد الأمين المختار الشنقيطي في مذكرة أصول الفقه على روضة =

 

ج / 2 ص -172-       والثاني1: لا يصح؛ لأنه بين أنه يجتهد فيما ليس فيه كتاب ولا سنة.
خبر آخر:
قول النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "
إذا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَد فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فََلَهُ أَجْرٌ". رواه مسلم2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الناظر ص360، في الملحق الذي سجله -رحمه الله تعالى- في المسجد النبوي عند كلامه عن القياس، قال: "والذين قالوا: إن الحديث صحيح وأنه يجوز العمل به لأمرين.
أحدهما: أن الحارث بن عمرو وثقه ابن حبان وإن كان ابن حبان تساهل في التوثيق له، فالحديث له شواهد ومؤيدات يعتضد بها، كحديث الصحيحين
"إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران". قالوا: وليس في أصحاب معاذ بن جبل أحد مجروح، فكلهم عدول، وإذا كان الحارث موثقًا، وأصحاب معاذ كلهم عدول، فالحديث مقبول.
وثانيهما: أن علماء المسلمين تلقوا هذا الحديث -خلفًا عن سلف- بالقبول وتلقى العلماء للحديث بالقبول يكفيه عن الإسناد، وكم من حديث يكتفى بصحته عن الإسناد، يكتفى بعمل العلماء في أقطار الدنيا؛ لأن هذه الأمة إذا عمل علماؤها في أقطار الدنيا بحديث دل على أن له أصلًا، واكتفي بذلك عن الإسناد".
1 أي: قول المعترضين، سابقًا: "ثم إن هذا الحديث ليس بصريح في القياس، إذ يحتمل أن يجتهد في تحقيق المناط" فأجاب المصنف: أنا لا نسلم ذلك الاحتمال؛ لأنه بين أنه يجتهد فيما ليس فيه نص من كتاب أو سنة، وهذا لا يسمى تحقيق المناط.
2 في صحيحه: كتاب الأقضية، باب: بيان أجر الحاكم إذا اجتهد وأخطأ. كما رواه البخاري: كتاب الاعتصام، باب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، وأبو داود: كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ، من حديث عمرو بن العاج / 2 ص -رضي الله عنه- مرفوعًا. =

 

ج / 2 ص -173-       ويتجه عليه أنه: يجتهد في تحقيق المناط، دون تخريجه1.
خبر آخر:
قول النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- للخثعمية2:
"أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِه أَكانَ يَنْفَعُهُ"؟ قالت: نعم. قال: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= كما رواه الترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
1 أي: أنه لا يتناول القياس إلا بعمومه، حيث يكون قاصرًا على تحقيق المناط، دون تخريج المناط، فليس بصريح في الدلالة على حجية القياس.
وترك المصنف الجواب على هذا الاعتراض؛ لأنه معلوم من الرد على الاعتراض الثاني على حديث معاذ، وهو قوله: "والثاني لا يصح؛ لأنه بين أنه يجتهد فيما ليس فيه كتاب ولا سنة".
2 الخثعمية: امرأة مجهولة لم تسم، من خثعم بن أنمار بن أراش بن كهلان، وجاء في بعض الروايات: أنها امرأة شابة، وهي التي كان ينظر إليها الفضل بن العباس وهو رديف رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- في حجة الوداع فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: "كان الفضل بن عباس رديف رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخًا كبيرًا، لا يثبت على الراحلة، وإن شددته خشيت عليه، أفأحج عنه؟ قال: نعم" سبل السلام "2/ 181" فهذه الزيادة التي أوردها المصنف ليست في حديث الخثعمية، فلا يصح الاحتجاج به في هذا المقام، وهو القياس.
وقد روى مثله الإمام أحمد في مسنده "1/ 345" والنسائي "5/ 87" وابن خزيمة "4/ 346" عن ابن عباس أيضًا: "أن امرأة نذرت أن تحج، فماتت، فأتى أخوها النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فسأله عن ذلك فقال: "أرأيت لو كان على أختك دين أكنت قاضيه"؟ قال: نعم. قال: "فاقضوا الله، فهو أحق بالوفاء" وروى مثله البخاري عن امرأة أن أمها نذرت أن تحج، وماتت ولم تحج.

 

ج / 2 ص -174-       فهو تنبيه على قياس دين الله على دين الخلق.
وقوله -عليه السلام- لعمر، حين سأله عن قبلة الصائم:
"أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ؟"1
فهو قياس للقبلة على المضمضة، بجامع أنها مقدمة الفطر، ولا يفطر2.
وروى أبو عبيد3 أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال:
"إنِّي أَقْضِي بَيْنَكُمْ بالرَّأْي فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فيهِ وَحْيٌ"4. وإذا كان يحكم بينهم باجتهاده: فلغيره الحكم برأيه إذا غلب على ظنهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند "1/ 52" وأبو داود: كتاب الصوم، باب القبلة للصائم، حديث "2385" والدارمي: كتاب الصوم، باب الرخصة في القبلة للصائم، كما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، من حديث جابر بن عبد الله عن عمر -رضي الله عنهما- قال: هششت يومًا فقبلت وأنا صائم، فأتيت النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فقلت صنعت اليوم أمرًا عظيمًا، فقبلت وأنا صائم. فقال:
"أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته وأنت صائم؟" قلت: لا بأس بذلك. فقال: "ففيم؟" أي: ففيم الاستغراب.
2 أي: أن كلًّا منهما مقدمة لشيء لم يتم.
3 هو: القاسم بن سلام البغدادي، أبو عبيد، الفقيه المحدث اللغوي، أخذ عن كبار اللغويين والنحويين، كأبي عبيدة، والكسائي، والفراء، تولى قضاء طرسوس. من مؤلفاته، "الأموال" و"أدب القضاء" وقد أورد فيه هذا الحديث بسنده عن أم سلمة -رضي الله عنها- توفي بمكة المكرمة، وقيل: بالمدينة المنورة سنة "224هـ" على الأصح- انظر: تذكرة الحفاظ "2/ 417"، طبقات المفسرين للداودي "2/ 32"، شذرات الذهب "1/ 141".
4 المصنف روى الحديث بالمعنى، ولفظه: عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال:
"إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا فلا =

 

ج / 2 ص -175-       فصل: [الأدلة النقلية للمنكرين للقياس]
احتجوا بقوله تعالى:
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}1.
وقوله:
{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}2.
فما ليس في القرآن ليس بمشروع، فيبقى على النفي الأصلي3.
الثانية: قوله تعالى:
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}5 وهذا حكم بغير المنزل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=
يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار" أخرجه البخاري: كتاب الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم، ومسلم: كاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، كما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
1 سورة الأنعام من الآية "38".
2 سورة النحل من الآية "89" قال الطوفي، في وجة الدلالة لهاتين الآيتين: "إن في الكتاب كفاية وغناء عن القياس، وإثبات القياس رد لذلك".
3 هذا يعتبر اعتراضًا منهم على استدلال الجمهور المتقدم: "لولا القياس لتعطلت حوادث كثيرة عن أحكام، لعدم وفاء النصوص القليلة بالحوادث الكثيرة" خلاصته: لا نسلم أن ذلك يؤدي إلى ما قلتم؛ لأن ما لم يرد في الكتاب والسنة يبقى على النفي الأصلي أي: لا حكم له.
والمصنف أقحم هذه العبارة هنا في وجه الدلالة، ولعل له وجهة.
ويمكن الرد على هذا الاعتراض: أن هذا يناقض استدلالكم بهاتين الآيتين؛ لأن ذلك -على مقتضى استدلالكم- يوجب أن لا حادثة إلا ولها في الكتاب حكم، وقولكم: "فما ليس في القرآن ليس بمشروع، فيبقى على النفي الأصلي" يثبت أن هناك من الحوادث ما لا حكم له في القرآن، وهذا تناقض. انظر: شرح الطوفي "3/ 271".
4 عبارته غير واضحة، فالمتقدم آيتان، وليست واحدة حتى يعطف عليها قوله "الثانية" إلا إذا اعتبر دلالة الآيتين المجموعة الأولى؛ لأن مدلولهما واحد، والآيتان الآتيتان هما المجموعة الثانية، أو المراد: الشبهة الثانية.
5 سورة المائدة من الآية "49".

 

ج / 2 ص -176-       وهكذا قوله: {...فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}1,
وأنتم تردونه إلى الرأي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء من الآية "59".

فصل: [الأدلة العقلية للمنكرين للقياس]
وأما شبههم المعنوية:
[فالأولى]: قالوا: براءة الذمة بالأصل معلومة قطعًا، فكيف ترفع بالقياس المظنون؟!
والثانية: كيف يتصرف بالقياس في شرع مبناه على التحكم والتعبد، والفرق بين المتماثلات، والجمع بين المختلفات، إذ قال:
"يُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ، وَيُنْضَحُ بَوْلُ الْغُلَامِ"1، ويجب الغسل من المني والحيض، دون المذي والبول، ونظائر ذلك كثير.
الثالثة: أن الرسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قد أوتي جوامع الكلم2، فكيف يليق به

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روى أبو داود والنسائي والحاكم وصححه، عن أبي السمح قال: قال رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم-
"يُغسل من بول الجارية، ويرشُّ من بول الغلام". كما أخرجه أيضًا البزار وابن ماجه وابن خزيمة، عن أبي السَّمح قال: كنت أخدم رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فأُتي بحسن أو حسين فبال على صدره، فجئت أغسله فقال: "يغسل من بول الجارية".
وقد رواه أيضًا أحمد وأبو داود وابن خزيمة وابن ماجه والحاكم من حديث لبابة بنت الحارث قالت: كان الحسين... وذكرت الحديث وجاء في لفظه: "يُغسل من بول الأنثى، وينضح من بول الذكر" كما رووه عن علي -رضي الله عنه- قال قال قتادة: "هذا ما لم يطعما، فإذا طعما غُسلا". انظر: سبل السلام "1/ 38".
2 روى البخاري: كتاب التعبير، باب: رؤيا الليل، عن أبي هريرة رضي الله عنه: =

 

ج / 2 ص -177-       أن يترك الوجيز المفهم إلى الطويل الموهم، فيعدل عن قوله: "حرَّمتُ الربا في المكيل" إلى الأشياء الستة؟
الرابعة: قالوا: الحكم ثبت في الأصل بالنص؛ لأنه مقطوع به والحكم مقطوع به، فكيف يحال على العلة المظنونة، والحكم يثبت في الفرع بالعلة، فكيف يثبت الحكم فيه بطريق سوى طريق الأصل؟
الخامسة: قالوا: غاية العلة: أن يكون منصوصًا عليها، وذلك لا يوجب الإلحاق، كما لو قال: "أعتقت من عبيدي سالمًا؛ لأنه أسود" لم يقتض عتق كل أسود، ولا يجري ذلك مجرى قوله: "أعتقت كل أسود".
كذا قوله: "حرمت الربا في البر، لأنه مطعوم" لا يجري مجرى قوله: "حرمت الربا في كل مطعوم".
الجواب:
أما قوله تعالى:
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} فإن القرآن دل على جميع الأحكام، لكن إما بتمهيد طريق الاعتبار، وإما بالدلالة على الإجماع والسنة، وهما قد دلا على القياس.
وإلا فأين في الكتاب مسألة: "الجد والإخوة" و"العول" و"المبتوتة" و"المفوضة"1، و"التحريم"2، وفيها حكم لله شرعي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أن رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال:
"أعطيت مفاتيح الكلم" وفي باب: المفاتيح في اليد بلفظ: "بعثت بجوامع الكلم".
كما أخرجه عن أبي هريرة أيضًا مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة بلفظ:
"أوتيت جوامع الكلم" وللحديث روايات أخرى متعددة. يراجع فيض القدير "1/ 563".
1 هذه الأمثلة تقدم الكلام عليها.
2 وهي قول الرجل لزوجته: "أنتِ عليّ حرام" هل يعتبر ظهارًا، أو طلاقًا؟ وإذا =

 

ج / 2 ص -178-       ثم قد حرّمتم القياس، وليس في القرآن تحريمه1.
وقوله تعالى:
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}2.
قلنا: القياس ثابت بالإجماع والسنة، وقد دل عليه القرآن المنزل.
ومن حكم بمعنى: استنبط من المنزل، فقد حكم بالمنزل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= اعتبر طلاقًا، هل يقع ثلاثًا أو رجعيًّا؟ فيه خلاف طويل يراجع في المغني "10/ 396"، "11/ 61".
1 خلاصة ذلك الرد: أن المراد من قوله تعالى:
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} من حيث الإجمال: تمهيد طرق الاعتبار الكلية، والقياس من هذه الطرق؛ لأن القرآن دل على حجية السنة والإجماع، وهما قد دلا على حجية القياس، كما أن هناك العديد من الأحكام الفرعية التي ثبت لها حكم شرعي، وليس فيها نص في كتاب الله تعالى، كالأمثلة التي ذكرها المصنف، وغيرها كثير.
هذا ما أجاب به المصنف -رحمه الله تعالى- وهو مبني على أن المراد بالكتاب في قوله تعالى:
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} هو القرآن الكريم. أما إذا أريد به "اللوح المحفوظ" فلا دلالة فيه على محل النزاع.
روى الطبري، بسنده، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال:
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}: ما تركنا شيئًا إلا قد كتبناه في أم الكتاب.
كما روى، بسنده أيضًا، عن يونس قال:
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} قال: كلهم مكتوب في أم الكتاب. "تفسير الطبري 11/ 345-346" دار المعارف بالقاهرة.
وقال القرطبي: قوله تعالى:
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} أي: في اللوح المحفوظ، فإنه أثبت فيه ما يقع من الحواث. وقيل: أي في القرآن، أي: ما تركنا شيئًا من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه في القرآن، إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول -عليه الصلاة والسلام- أو من الإجماع، أو من القياس الذي يثبت بنص الكتاب..."، الجامع لأحكام القرآن "6/ 420".
2 المائدة: 49.

 

ج / 2 ص -179-       وقوله تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}1. قلنا: نحن لا نرده إلا إلى العلة المستنبطة من كتاب الله -تعالى- ونص رسوله، فالقياس: تفهّم معاني النصوص بتجريد مناط الحكم، وحذف الحشو الذي لا أثر له.
ثم أنتم رددتم القياس بلا نص، ولا معنى نص.
وقولهم: "كيف ترفعون القواطع بالظنون".
قلنا: كما ترفعونه بالظواهر، والعموم، وخبر الواحد، وتحقيق المناط في آحاد الصور.
ثم نقول: لا نرفعه إلا بقاطع، فإنا إذا تعبدنا باتباع العلة المظنونة، فإنا نقطع بوجود الظن، ونقطع بوجود الحكم عند الظن، فيكون قاطعًا.
وقولهم: "مبنى الحكم على التعبدات".
قلنا: نحن لا ننكر التعبدات في الشرع، فلا جرم، قلنا: الأحكام ثلاثة أقسام:
قسم: لا يعلل.
وقسم: يعلم كونه معللًا، كالحجر على الصبي، لضعف عقله.
وقسم: يتردد فيه.
ولا نقيس ما لم يقم دليل على كون الحكم معللًا2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النساء: "59".
2 معناه: أننا لا نقيس إلا إذا وجد المعنى الذي في الأصل في الفرع بعينه، وتحققت شروط القياس، كالنبيذ مع الخمر، والأرز مع البر، فإن الأحكام الشرعية إما غير معللة كالعبادات المختلفة، فلا يجري فيها القياس، وإما معللة بعلة معينة، وهذه هي التي يجري فيها القياس.
وأما اعتراضهم بالتفرقة بين المتماثلات: فله علة -أيضًا- لكنها خفيت عليهم، فقد نص العلماء على أن بول الأنثى أثقل من بول الذكر، حيث إن مزاج الذكر =

 

ج / 2 ص -180-       وقولهم: "لِمَ لم ينص على المكيل، ويغني عن القياس على الأشياء الستة"؟
قلنا: هذا تحكم على الله -تعالى- وعلى رسوله، وليس لنا التحكم عليه فيما صرّح ونبّه وطوّل وأوجز1، ولو جاز ذلك: لجاز أن يقال: "فلم لم يصرّح بمنع القياس على الأشياء الستة؟ ولِمَ لم يبين الأحكام كلها في القرآن، وفي المتواتر2، لينحسم الاحتمال؟ وهذا كله غير جائز.
ثم نقول: إن الله -تعالى- علم لطفًا في تعبد العلماء بالاجتهاد، وأمرهم بالتشمير في استنابط دواعي الاجتهاد، لـ
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}3.
وقولهم: "كيف يثبت الحكم في الفرع بطريق غير طريق الأصل"؟
قلنا: ليس من ضرورة كون الفرع تابعًا للأصل أن يساويه في طريق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= حار، ومزاج الأنثى بارد، فيضعف الهضم عندها، فتبقى الفضلة كثيفة، ذات قوام كثيف، فإذا تعلقت بالأجسام، كان أثرها محتاجًا إلى الغسل، بخلاف الغلام. وهكذا سائر الصورة التي أوردوها. انظر: شرح الطوفي "3/ 275، وما بعدها".
1 في المطبعة: طول ونبه وأوجز، وصححناه من المستصفى "3/ 568".
2 أي: من السنة.
3 سورة المجادلة من الآية "11".
يضاف إلى ذلك: أن هناك حوادث ووقائع تقع في سائر الأزمان ولا يمكن إعطاؤها حكمًا شرعيًّا إلا بالاجتهاد الذي من وسائله القياس، يؤيد ذلك ما رواه سعيد بن المسيب عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: قلت: يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن، ولم تمض فيه سنة؟ قال، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
"اجمعوا له العالمين، أو قال: العابدين من المؤمنين، فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد". روى مثله الطبراني في الأوسط. انظر: مجمع الزوائد "1/ 178" وإعلام الموقعين "1/ 65".

 

ج / 2 ص -181-       الحكم؛ فإن الضروريات والمحسوسات أصل للنظريات، ولا يلزم تساويهما في الطريق، وإن تساويا في الحكم
وأما إذا قال: "أعتقت سالمًا؛ لسواده" فالفرق بينه وبين أحكام الشرع من حيث الإجمال والتفصيل.
أما الإجمال: فإنه لو قال، مع هذا: "فقيسوا عليه كل أسود" لم يتعد العتق سالمًا.
ولو قال الشارع: "حرمت الخمر لشدّتها، فقيسوا عليه كل مشتد": للزمت التسوية، فكيف يقاس أحدهما على الآخر، مع الاعتراف بالفرق؟
وأما التفصيل: فلأن الله -تعالى- علق الحكم في الأملاك حصولًا وزوالًا على اللفظ، دون الإرادات المجردة.
أما أحكام الشرع: فتثبت بكل ما دل عليه رضا الشارع وإرادته، ولذلك تثبت بدليل الخطاب، وبسكوت النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- عما جرى بين يديه من الحوادث.
ولو أن إنسانًا باع مال غيره بأضعاف قيمته وهو حاضر، ولم ينكر ولم يأذن، بل ظهرت عليه علامات الفرح: لا يصح البيع.
بل قد ضيق الشرع أحكام العباد حتى لا تحصل بكل لفظ1.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 توضيحه: أن هناك فرقًا بين حقوق الله تعالى وحقوق العباد، فحقوق الله تعالى قائمة على المسامحة والتيسير، فاكتفى فيها بالظن، توسيعًا لمجاري التكليف، أما حقوق العباد: فقائمة على المشاحة، فشددت الشريعة فيها، فلا تنقل عنهم إلا بطريق قاطع، لما قلناه، أو لأن حقوقهم في الأصل ملك لله تعالى، فتعبدهم في زوالها بالطريق القاطع، وأثبت التكاليف الشرعية بالطرق المظنونة، ولله -سبحانه- أن يفعل في ملكه ما يشاء. انظر: شرح الطوفي "3/ 285".

 

ج / 2 ص -182-       فلو قال الزوج: "فسخت النكاح، ورفعت علاقة الحل بيني وبين زوجتي" لم يقع الطلاق، إلا أن ينويه.
وإذا أتى بلفظ الطلاق: وقع وإن لم ينوه.
وإذا لم تحصل الأحكام بجميع الألفاظ فكيف تحصل بمجرد الإرادة1؟
على أن القياس مفهوم في اللغة، فإنه لو قال: "لا تأكل الأهليلج2؛ لأنه مسهل"، و"لا تجالس فلانًا؛ لأنه مبتدع" فهم منه التعدي بتعدي العلة، وهذا مقتضى اللغة، وهو مقتضاه في العتق، لكن التعبد منع منه.
وعلى أن هذا الذي ذكروه قياس لكلام الشارع على كلام المكلفين في امتناع قياس ما وجدت العلة التي علل بها فيه عليه، فيكون رجوعًا إلى القياس الذي أنكروه.
ثم إن قياس كلام الشارع على كلام غيره أبعد من قياس أحكام الشرع بعضها على بعض.
فإن قيل: فلعل الشرع علل الحكم بخاصية المحل، فتكون العلة في تحريم الخمر: شدة الخمر، وفي تحريم الربا بطعم البر، لا بالشدة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخ المطبوعة: "وإذا لم يحصل بجميع اللفظ فكيف يحصل بمجرد الإرادة" وهي عبارة غير واضحة، وأوضح منها عبارة الغزالي في المستصفى "3/ 574".
"فإذا لم تحصل الأحكام بجميع الألفاظ، بل ببعضها، فكيف تحصل بما دون اللفظ مما يدل على الرضا".
2 الأهليلج: ثمر معين بالغ النضج، منه الأصفر والأسود، معرب. المصباح المنير مادة "هلج".

 

ج / 2 ص -183-       المجردة1. [ولا بالطعم المجرد]2.
ولله أسرار في الأعيان: فقد حرم الخنزير والدم والميتة لخواص لا يطلع عليها، فلم يبعد أن يكون لشدة الخمر من الخاصية ما ليس لشدة النبيذ، فبماذا يقع الأمن عن هذا؟3.
قلنا: قد نعلم ضرورة سقوط اعتبار خاصية المحل كقوله:
"أَيُّمَا رَجُلٍ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ المَتاع أَحَقُّ بِمَتاعِهِ"4 يعلم أن المرأة في معناه.
وقوله:
"مَنْ أعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ الْبَاقِي"5 فالأمة في معناه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "المجردة" من المستصفى "3/ 576".
2 هذه الزيادة يقتضيها المقام، فإن المعترض يقول: لعل العلة خاصة بمحل النص وليست عامة، لخاصية معينة ليست موجودة في كل المحال.
3 قال الغزالي، بعد ذلك: "وهذا أوقع كلام في مدافعة القياس". المستصفى "3/ 577".
4 حديث صحيح: أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة، رضي الله عنه: أن رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال: "من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره".
ورواه مالك وأبو داود عن أبي بكر بن عبد الرحمن مرسلًا، ووصله أبو داود من طريق أخرى بلفظ "أيما رجل باع متاعًا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقض الذي باعه من ثمنه شيئًا، فوجد متاعه بعينه فهو أحق به، وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء" سبل السلام "3/ 53".
5 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الشركة، باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل، وفي كتاب العتق، باب إذا أعتق عبدًا بين اثنين أو أمة بين الشركاء من حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما.
كما أخرجه مسلم في كتاب العتق، وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

 

ج / 2 ص -184-       لأنا1 عرفنا بتصفّح أحكام العتق، والبيع، وبمجموع أمارات وتكريرات، وقرائن: أنه لا مدخل للذكورية2 في العتق والبيع.
وقد يظن ذلك ظنًّا يسكن إليه3.
وقد 4 عرفنا أن الصحابة عولوا على الظن، فعلمنا أنهم فهموا من رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قطعًا، إلحاق الظن بالقطع.
وقد اختلف الصحابة في مسائل، فلو كانت قطعية: لما اختلفوا فيها، فعلمنا أن الظن كالعلم.
فإن انتفى العلم والظن: فلا يجوز الإقدام على القياس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من المستصفى.
2 في المستصفى "للأنوثة".
3 عبارة المستصفى: "وقد يعلم ذلك ظنًّا بسكون النفس إليه".
4 زيادة من المستصفى.

فصل: [في مذهب النظام في الإلحاق بالعلة المنصوصة]
قال النظام: العلة المنصوص عليها توجب الإلحاق بطريق اللفظ والعموم، لا بطريق القياس، إذ لا فرق في اللغة بين قوله: "حرّمت الخمر لشدتها" وبين: "حرّمت كل مشتد"1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1خلاصة رأي النظام: أن العلة المنصوص عليها توجب إلحاق الفرع بالأصل من جهة اللفظ، بمعنى أن الإلحاق مستفاد من عموم اللفظ، لا من جهة القياس، =

 

ج / 2 ص -185-       وهذا خطأ، إذ لا يتناول قوله: "حرمت الخمر لشدتها" من حيث الوضع إلا تحريمها خاصة.
ولو لم يرد التعبد بالقياس: لاقتصرنا عليه، كما لو قال: "أعتقت غانمًا لسواده"1.
وكيف يصح هذا ولله تعالى -أن ينصب شدة الخمر- خاصة- علة، ويكون فائدة التعليل: زوال التحريم عند زوال الشدة.
ويتجه عليه: ما ذكره نفاة القياس2، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وعلل ذلك بعدم الفرق بين قول القائل: "حرمت الخمر لشدتها" وبين قوله: "حرمت كل مشتد" فهو من قبيل العموم المعنوي.
1 خلاصة الرد: أننا لا نسلم باستواء الصيغتين، فإن قوله: "حرمت كل مشتد" يفيد العموم لعليته، أما قوله: "حرمت الخمر لشدتها" فلا يفيد إلا تحريم الخمر خاصة، ولولا القياس لما حرم كل مشتد، كما لو قيل: "أعتقت غانمًا لسواده" فيختص العتق بغانم" والنص على العلة لا يوجب العموم اللفظي. انظر: شرح الطوفي "3/ 346".
2 وهي الأدلة التي استندوا إليها سابقًا.

فصل: [في أوجه تطرق الخطأ إلى القياس]
ويتطرق الخطأ إلى القياس من خمسة أوجه:
أحدها: أن لا يكون الحكم معللًا1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معناه: أن الحكم يكون غير معلل في الواقع، فيأتي القائس له بعلة من عنده، مثل ما روي من أن علة انتقاض الوضوء بأكل لحم الجزور، لشدة حرارته ودسمه مرخ =

 

ج / 2 ص -186-       والثاني: أن لا يصيب علته عند الله تعالى1
والثالث: أن يقصر في بعض أوصاف العلة2.
الرابع: أن يجمع إلى العلة وصفًا ليس منها3
الخامس: أن يخطئ في وجودها في الفرع، فيظنها موجودة، ولا يكون كذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= للجوف، ومخرج للحدث، فيلحق به كل طعام مرخ للجوف، والصحيح المشهور أن ذلك تعبد. انظر: شرح الطوفي "3/ 347".
1 مثل: أن يعتقد أن علة الربا في البر هي: الطعم، فيلحق به الخضروات وسائر المطعومات، بينما هي غير ذلك.
2 عبارة الغزالي في المستصفى "الثالث" أنه إن أصاب في أصل التعليل، وفي عين العلة، فلعله قصر على وصفين أو ثلاثة، وهو معلل به مع قرينة أخرى زائدة على ما قصر اعتباره عليه".
3 مثل أن يعلل الحنبلي القصاص: بأنه قتل عمد عدوان، فيوجب القصاص. فيقول الحنفي: نقصت من أوصاف العلة وصفًا، وهو الآلة الصالحة السارية في البدن، يعني: المحدّد، فلا يصح إلحاق المثقل به، وهذا مثال للنقص من أوصاف العلة، ومثال الزيادة: أن يعلل الحنفي بما تقدم، فيقول الحنبلي: زدت في أوصاف العلة وصفًا ليس منها، وهو: صلاحية الآلة، والعلة: هي القتل العمد العدوان فقط. انظر: شرح الطوفي "3/ 348".
وقد ذكر الغزالي وجهًا آخر وهو إثبات العلة بمجرد الوهم والحدس. انظر المستصفى "3/ 590 وما بعدها".

فصل: [في أقسام إلحاق المسكوت بالمنطوق]
إلحاق المسكوت بالمنطوق ينقسم إلى مقطوع ومظنون:

 

ج / 2 ص -187-       فالمقطوع ضربان:
أحدهما: أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق، وهو المفهوم1
ولا يكون مقطوعًا حتى يوجد فيه المعنى الذي في المنطوق وزيادة، كقولنا: إذا قبل شهادة اثنين، فثلاثة أولى، فإن الثلاثة: اثنان وزيادة.
وإذا نهى عن التضحية بالعوراء2: فالعمياء أولى، فإن العمى: عوَر مرتين.
فأما قولهم: "إذا وجبت الكفارة في القتل الخطأ، ففي العمد أولى" و"إذا ردت شهادة الفاسق، فالكافر أولى"3: فهذا يفيد الظن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فحوى الخطاب، أو مفهوم الموافقة الأولوي كما سبق، وقد اختلف العلماء في تسميته قياسًا، والراجح أنه لا يسمى قياسًا، لأنه لا يحتاج إلى إعمال فكر واستنباط علة، كما أن المسكوت عنه أولى من المنطوق، فكيف يقاس عليه وهو أولى منه بالحكم. ولعل المسألة راجعة إلى الاصطلاح ولا مشاحة فيه. وقد سبق توضيح ذلك في مبحث المفاهيم.
2 عن البراء بن عازب، رضي الله عنه: قال: قام فينا رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فقال:
"أربع لا تجوز في الضحايا: العوراء البيّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعرجاء البيّن ضَلَعُها، والكبيرة التي لا تنقي" أي: التي لا نقي لها وهو: المخ. رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وحسنه الإمام أحمد وقال: ما أحسنه من حديث. انظر: سبل السلام "4/ 93".
قال الصنعاني: "والحديث دليل على أن هذه الأربعة العيوب مانعة من صحة التضحية، وسكت عن غيرها من العيوب، فذهب أهل الظاهر إلى أنه لا عيب غير هذه الأربعة. وذهب الجمهور إلى أنه يقاس عليها غيرها مما كان أشد منها أو مساويًا لها، كالعمياء ومقطوعة الساق" المصدر السابق.
3 معنى ذلك: أن قياس القتل العمد على القتل الخطإ في وجوب الكفارة التي وردت في قوله تعالى:
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ...} =

 

ج / 2 ص -188-       لبعض المجتهدين، وليس من الأول؛ لأن العمد نوع يخالف الخطأ، فيجوز أن لا تقوى الكفارة على رفعه، بخلاف الخطأ.
والكافر يحترز من الكذب لدينه، والفاسق متهم في الدين.
الضرب الثاني:
أن يكون المسكوت مثل المنطوق، كسراية العتق في العبد1، والأمة مثله، وموت الحيوان في السمن2، والزيت مثله.
وهذا يرجع إلى العلم بأن الفارق لا أثر له في الحكم، وإنما يعرف ذلك باستقراء أحكام الشرع في موارده ومصادره في ذلك الجنس.
وضابط هذا الجنس: أن لا يحتاج فيه إلى التعرض للعلة الجامعة، بل بنفي الفارق المؤثر، ويعلم أنه ليس ثم فارق مؤثر قطعًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= [النساء:92] وكذلك شهادة الكافر قياسًا على رد شهادة الفاسق، كل ذلك ليس من قبيل النوع الأول، وهو القياس الأولوي؛ لما قاله المصنف من أن القتل العمد فيه قصاص، ولا تقوى الكفارة على رفع إثمه، بخلاف الخطأ، وكذلك هناك فرق بين شهادة الكافر وشهادة الفاسق.
1 وهو ما جاء عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال:
"من أعتق شركًا له في عبد قوّم عليه نصيب شريكه، ثم يعتق". أخرجه البخاري في كتاب الشركة، باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل، كما أخرجه في كتاب العتق، وكذلك مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
2 سئل الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- عن الفأرة تقع في السمن الذائب، فلم تمت؟ قال: لا بأس بأكله، وفي رواية أخرى قال: إذا كان حيًّا فلا شيء، إنما الكلام في الميت. المغني "1/ 72" وما قيل في السمن يقال في الزيت لأنه مثله.

 

ج / 2 ص -189-       فإن تطرق إليه احتمال: لم يكن مقطوعًا به، بل يكون مظنونًا1
وقد اختلف في تسمية هذا قياسًا2.
وما عدا هذا من الأقيسة: فمظنون3.
وفي الجملة، فالإلحاق له طريقان:
أحدهما: أنه لا فارق إلا كذا، وهذه مقدمة4.
ولا مدخل لهذا الفارق في التأثير، وهذه مقدمة أخرى5.
فيلزم منه نتيجة، وهو أن لا فرق بينهما في الحكم6.
وهذا إنما يحسن إذا ظهر التقارب بين الفرع والأصل، فلا يحتاج إلى التعرض للجامع لكثرة ما فيه من الاجتماع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة ذلك: أن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق تارة يكون قطعيًّا، وتارة يكون ظنيًّا، فإن كان الذهن يتبادر إلى المسكوت عنه دون نظر وتأمل وبحث عن العلة، وأنه لا فارق بين الأصل والفرع، وأنه ليس هناك مؤثر آخر، فهذا هو القطعي، وإن تطرق إليه احتمال مما تقدم كان ظنيًّا، وهذا هو الضابط لهذه المسألة.
2 سبق في باب دلالة المفهوم أن بعضهم يسميه قياسًا جليًّا، وبعضهم يسميه مفهوم موافقة، والبعض يطلق عليه دلالة النص، وقلنا: إن ذلك راجع إلى الاصطلاح، ولا مشاحة فيه.
3 أي: ما عدا ما ذكرناه يعتبر من الأقيسة المظنونة، وهو ما يطلق عليه: القياس الخفي.
4 صغرى.
5 كبرى.
6 مثال ذلك أن يقال: لا فارق بين العبد والأمة في سراية العتق، وتنصيف الحد إلا الذكورية، ولا أثر لذلك، فيجب استواؤهما في الحكم.

 

ج / 2 ص -190-       الثاني: أن يتعرض للجامع فيبينه، ويبين وجوده في الفرع1. وهذا المتفق على تسميته قياسًا2.
وهذا3 يحتاج إلى مقدمتين، أيضًا:
أحدهما: أن السكر-مثلًا- علة التحريم في الخمر.
والثانية: أنه موجود في النيبذ.
فهذه المقدمة الثانية يجوز أن تثبت بالحس، ودليل العقل، والعرف، وأدلة الشرع4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معناه: أن يثبت أن العلة في الأصل كذا، ثم يبين أن هذه العلة موجودة في الفرع، فيجب استواؤهما في الحكم.
مثال ذلك أن يقال: العلة في تحريم الخمر: الإسكار، وهي موجودة في النبيذ، فيجب استواؤهما في الحكم.
2 اسم الإشارة عائد على الطريق الثاني، أما الطريق الأول ففيه خلاف، هل يسمى قياسًا أو لا؟
قال الطوفي في شرحه "3/ 353": وذلك لأن القياس اعتبار شيء بغيره، أو الجمع بين شيئين بالقصد الأول، وهو يتحقق في بيان علة الأصل ووجودها في الفرع، أما إلغاء الفارق، فليس ذلك موجودًا فيه بالقصد الأول، إنما الموجود فيه إلغاء الفارق، وأما الجمع بين الأصل والفرع، فإنما يحصل فيه بالقصد الثاني".
3 اسم الإشارة عائد على الطريق الثاني أيضًا.
4 لأن إثبات وجود هذه العلة في الفرع قائم على اجتهاد المجتهدين، فيجوز أن يكون بالحس أو العقل أو العرف أو أدلة الشرع.
أما المقدمة الأولى وهي: كون السكر علة التحريم فلا تثبت إلا بالشرع؛ لأن العلل الشرعية ليست مؤثرة في الحكم بذاتها، وإنما هي علامة على وجود الحكم ومشتملة على الحكمة الباعثة على تشريع الحكم، إذ من المعلوم أن أفعال الله -تعالى- معللة بالحكم ورعاية مصالح العباد، فهو -سبحانه- لا يفعل =

 

ج / 2 ص -191-       وأما الأولى: فلا تثبت إلا بدليل شرعي، فإن كون الشدة علامة التحريم وضع شرعي، كما أن نفس التحريم كذلك، وطريقه طريقه، فالشدة التي جعلت علامة للتحريم يجوز أن يجعلها الشارع علامة للحل، فليس إيجابها لذاتها.
[أدلة إثبات العلة]1
وأدلة الشرع ترجع إلى "نص" أو "إجماع" أو "استنباط" فهذه ثلاثة أقسام:
القسم الأول: إثبات العلة بأدلة نقلية2، وهو ضربان3:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= شيئًا عبثًا لغير مصلحة وحكمة، بل أفعاله -جل شأنه- صادرة عن حكمة بالغة لأجلها شرع لعباده ما شرع، تفضلًا منه وإحسانًا.
انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية "3/ 112، 8/ 70".
1 وهي ما يطلق عليها: "مسالك العلة".
2 أي: من الكتاب والسنة.
3 في أكثر النسخ "ثلاثة أضرب" لكن المصنف -كما سيأتي- ذكر ضربين فقط:
الأول: النص الصريح، والثاني: التنبيه والإيماء إلى العلة.
ولعل السبب في ذلك: أن الإمام الغزالي، الذي يعتبر كتابه "المستصفى" أصلًا لهذا الكتاب، جعل ذلك ثلاثة أضرب: الصريح، والتنبيه والإيماء على العلة، والتنبيه على الأسباب بترتيب الأحكام عليها بصيغة الجزاء والشرط، وبالفاء التي هي للتعقيب والتسبيب.
وجمهور العلماء يجعلونها ثلاثة أضرب أيضًا، هي: النص القاطع، وهو الذي يدل على التعليل دلالة صريحة دون احتمال لغيره، مثل: لعلة كذا، أو لسبب كذا، أو لأجل كذا، ولكي، والنص الظاهر: وهو ما يدل على العلية مع احتمال غيرها احتمالًا مرجوحًا، وله ألفاظ معينة تدل على التعليل، كاللام والباء وإنّ، والإيماء. =

 

ج / 2 ص -192-       الأول- الصريح1:
وذلك أن يرد فيه لفظ التعليل كقوله تعالى:
{كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً}2 {لِكَيْلا تَأْسَوْا} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ}5

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فالمصنف أخذ عنوان المستصفى في جعلها ثلاثة أضرب، وأدخل الظاهر مع القاطع وجعلهما ضربًا واحدًا، أو يكون ذلك من تصرف النساخ. انظر في هذه المسألة: الإحكام للآمدي "3/ 38"، فواتح الرحموت "2/ 295"، الإبهاج للسبكي "3/ 22"، شرح مختصر الروضة "3/ 356 وما بعدها".
1 تقدم تعريفه آنفًا.
2 سورة الحشر من الآية "7" وهي قوله تعالى:
{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ...} أي: إنما جعل مصرف الفيء في هذه الجهات حتى لا يتداوله الأغنياء جيلًا بعد جيل، أو قومًا بعد قوم، ولا تنتفع به الجهات المحتاجة إليه.
3 سورة الحديد من الآية "23" وقبلها قوله تعالى:
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي: أخبر الله تعالى بأن كل ما يجري في هذا الكون مسطر في اللوح المحفوظ قبل أن يقع، لئلا تحزنوا على ما يفوتكم ولا تفرحوا -فرح بطر وتكبر- بما يأتيكم من نعم.
4 سورة الأنفال من الآية "13" والحشر من الآية "4" والمشاقة: المخالفة، وسميت بالمشاقة؛ لأن المخالف صار في شق آخر. قال في المصباح: "شاقّه، مشاققة، وشقا: خالفه، وحقيقته: أن يأتي كل منهما ما يشق على صاحبه، فيكون كل منهما في شق غير شق صاحبه". ومحل الشاهد هنا: أن الله تعالى قد أخبر في الآية التي قبلها بأن قوله تعالى:
{وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} بسبب شقاقهم أو لعلة شقاقهم، كما رتب -سبحانه- العلة في سورة الأنفال على قوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ...} ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله.
5 سورة المائدة من الآية "32" وهناك خلاف بين العلماء في متعلق
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} =

 

ج / 2 ص -193-       {لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}2.
وقول النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم2:
"إِنَّما جُعِلَ الاسْتِئْذانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ"3، و"إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ"4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فالمشهور أنه متعلق بـ"كتبنا" أي: كتبنا على بني إسرائيل بسبب قتل ابن آدم أخاه، صونًا للدماء. وقيل: متعلق بندامة ابن آدم على قتل أخيه، أو من أجل عدم مواراة أخيه، حتى نبهه الغراب على ذلك والتعليل صحيح على كل تقدير. انظر: شرح الطوفي "3/ 358".
1 سورة البقرة من الآية "143" وقبلها قوله تعالى:
{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} أي: ليمتحن الله -تعالى- عباده بالانقياد في التحول من قبلة إلى قبلة.
2 سورة المائدة من الآية "95" وهي قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} أي: أوجبنا عليه الفدية عقوبة على فعله ليذوق وبال أمره، أي: ثقل فعله وسوء عاقبة ذنبه، والتعليل هنا ظاهر، أي: لعلة إذاقته وبال أمره.
3 أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب الامتشاط، وفي كتاب الاستئذان، باب الاستئذان من أجل البصر، ومسلم في كتاب الأدب، باب: تحريم النظر في بيت غيره، والترمذي في كتاب الاستئذان، باب من اطلع في دار قوم بغير إذنهم وعبد الرزاق في المصنف: كتاب الجامع، باب الرجل يطلع في بيت الرجل. كما أخرجه الإمام أحمد في المسند "5/ 330/ 335".
4 أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود ومالك وأحمد، والرواية التي معنا هي لفظ مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- في كتاب الأضاحي، باب ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام، جاء فيها قالوا: يا رسول الله، إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم، ويجعلون فيها الودك. "دسم اللحم والشحم" قال: "وما ذاك" قالوا: نَهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال: "إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفّت فكلوا وادخروا وتصدقوا". والمراد =

 

ج / 2 ص -194-       وكذلك إن ذُكر المفعول له، فهو صريح في التعليل؛ لأنه يذكر للعلة والعذر، كقوله تعالى: {...لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ}2.
وما جرى هذا المجرى من صيغ التعليل.
فإن قام دليل على أنه لم يقصد التعليل نحو: أن يضاف إلى ما لا يصلح علة: فيكون مجازًا، كما لو قيل: "لم فعلت هذا"؟ قال: "لأني أردتُ"، فهذا استعمال اللفظ في غير محله3.
فأما لفظة "إنّ" مثل قوله، عليه السلام، لما ألقى الروثة: إِنَّها رِجْسٌ"4، وقال، في الهرة: "إِنَّها لَيْسَتْ بِنَجسٍ، إِنَّها مِنَ الطَّوَّافِينَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بالدافة: جماعة من المساكين قدموا المدينة، فنهى -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- عن ادخار لحوم الأضاحي، حتى يتصدق عليهم أهل المدينة، ويوسعوا عليهم انظر: الموطأ "2/ 485".
1 سورة الإسراء من الآية "100" وهي قوله تعالى:
{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا}. أي: خشية أن تنتهي هذه الخزائن.
2 سورة البقرة من الآية "19".
3 معناه: أن الأصل في وضع اللغة أن يضاف الفعل إلى علته وسببه، فإن أضيف إلى ما لا يصلح علة فهو مجاز،ويعرف ذلك بوجود دليل على عدم صلاحيته للعلية، كما في المثال الذي أورده المصنف، وإنما لم يكن علة؛ لأن الإرادة ليست علة للفعل، وإن كانت هي الموجبة لوجوده، أو المصححة له، لأن المقصود بالعلة: المقتضى الخارجي للفعل، أما الإرادة فليست معنى خارجًا عن الفاعل: انظر: شرح الطوفي "3/ 359/ 360".
4 رواه البخاري عن ابن مسعود -رضي الله عنه- في كتاب الوضوء، باب: الاستنجاء بالحجارة لكن بلفظ "ركس" بدل "رجس" ومثله رواية الترمذي: كتاب الطهارة، باب: ما جاء في الاستنجاء بالحجرين، والنسائي: كتاب الطهارة، باب =

 

ج / 2 ص -195-       عَلَيكُمْ"1 و"لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِها وَلَا عَلَى خَالَتِهَا؛ إِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ"2.
فإن انضم إلى "إنّ" حرف الفاء: فهو آكد، نحو قوله، عليه السلام:
"لَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فإِنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا"3.
قال أبو الخطاب: هذا صريح في التعليل.
وقيل: بل هذا من طريق التنبيه والإيماء إلى العلة، لا من طريق الصريح4. والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الرخصة في الاستطابة بحجرين، ثم قال: "الركس: طعام الجن".
وأخرجه بالرواية التي أوردها المصنف ابن ماجه: كتاب الطهارة، باب: الاستنجاء بالحجارة، والنهي عن الروث والرمة، وأحمد في المسند "1/ 388". وهناك خلاف طويل بين العلماء في كون الرجس هو الركس أو غيره. ينظر: النهاية في غريب الحديث "2/ 100" والمصباح المنير مادة "ركس".
1 تقدم تخريجه.
2 تقدم تخريجه أيضًا.
3 أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب: كيف يكفن المحرم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا ومسلم: كتاب الحج، باب: ما يفعل بالمحرم إذا مات، كما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي.
4 خلاصة ما يريده المصنف من أول قوله: "فأما لفظة إنّ" إلى هنا: أن هذه الأمثلة وما يشبهها فيها مذهبان: أحدهما: أنها من قبيل الصريح، وثانيهما: أنها من قبيل الإيماء. فأبو الخطاب يرى أنها صريحة، خصوصًا إذا لحقته الفاء، كما في حديث المحرم، فإنه يزداد بها تأكدًا، لدلالتها على أن ما بعدها سبب للحكم فيما قبلها. ويرى غير أبي الخطاب أنها من قبيل التنبيه والإيماء. وهذا ما جرى عليه الطوفي في شرحه "3/ 360-361" لكن ذلك يخالف ما نص عليه أبو الخطاب في التمهيد؛ حيث جعل "إنَّ" من قبيل الصريح، وما دخلت عليه الفاء من قبيل =

 

ج / 2 ص -196-       الضرب الثاني، التنبيه والإيماء إلى العلة1:
وهو أنواع ستة:
أحدها: أن يذكر الحكم عقيب وصف بالفاء، فيدل على التعليل بالوصف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الإيماء. قال: "وأما التنبيه: فضروب، منها: أن يكون في الكلام لفظ غير صريح في التعليل، فيعلق الحكم على علته بلفظ الفاء. وهو على ضربين:
أحدهما: أن تدخل الفاء على السبب والعلة، ويكن الحكم متقدم، كقوله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- في المحرم حيث وقصته ناقته: "لا تخمروا رأسه، ولا تقربوه طيبًا، فإنه يحشر يوم القيامة ملبيًا" التمهيد "4/ 11".
والغزالي في المستصفى "3/ 606-607" جعل "إنّ" المجردة، والتي انضمت إليها الفاء من قبيل الإيماء.
وقد جعل الطوفي الخلاف في ذلك خلافًا لفظيًّا فقال: "النزاع في هذا لفظي، لأن أبا الخطاب يعني بكونه صريحًا في التعليل: كونه تبادر منه إلى الذهن بلا توقف في عرف اللغة، وغيره يعني بكونه ليس بصريح: أن حرف "إنّ" ليست للتعليل في اللغة، وهذا أقرب إلى التحقيق، وإنما فهم التعليل منه فهمًا ظاهرًا متبادرًا بقرينة سياق الكلام، وصيانة له عن الإلغاء؛ لأن قوله: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات، إنها ليست بنجس" ونحو ذلك، لو قدّر استقلاله وعدم تعلقه بما قبله، لم يكن له فائدة، فتعين لذلك ارتباطه بما قبله، ولا معنى له إلا ارتباط العلة بمعلولها، والسبب بمسببه. فبهذا الطريق يثْبُت كونه للتعليل لا بوضع اللغة" شرح مختصر الروضة "3/ 361".
قال ابن بدران، تعليقًا على كلام الطوفي: "أقول: يعلم كل لغوي أن حرف الجر يحذف من "إنّ" قياسًا مطردًا" والمحذوف كالثابت، ففهم التعليل إنما جاء من اللام المحذوفة لا من "إنّ" فالأقرب إلى التحقيق ما قاله أبو الخطاب". نزهة الخاطر العاطر "2/ 260".
1 قال الطوفي في شرحه "3/ 361": "وهو ضرب من الإشارة، والفرق بينه وبين =

 

ج / 2 ص -197-       كقوله تعالى: {...قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}1، و{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}2 وقول النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ"3، و"مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيتَةً فهِيَ له"4.
فيدل ذلك على التعليل؛ لأن الفاء في اللغة للتعقيب، فيلزم من ذكر الحكم مع الوصف بالفاء: ثبوته عقيبه، فيلزم منه السببية، إذ لا معنى للسبب إلا ما ثبت الحكم عقيبه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= النص: أن النص يدل على العلة بوصفه لها، والإيماء يدل عليها بطريق الالتزام، كدلالة نقص الرطب على التفاضل، أو بطريق من طرق الاستدلال عقلًا" والخلاصة: أن دلالة الإيماء على العلة دلالة معنوية، ودلالة النص دلالة لفظية.
1 سورة البقرة من الآية "222".
2 سورة المائدة من الآية "38".
3 أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما -مرفوعًا- في كتاب الجهاد، باب: لا يعذب بعذاب الله حديث "3017" وفي كتاب استتابة المرتدين، باب: حكم المرتد والمرتدة حديث "6922" وأحمد في المسند "1/ 282، 283، 322، 323"، وأبو داود: كتاب الحدود، باب المرتد عن دينه، حديث "4351" والترمذي: كتاب الحدود، باب: ما جاء في المرتد، حديث "1458" والنسائي: كتاب تحريم الدم، باب: الحكم في المرتد "7/ 104" وابن ماجه: كتاب الحدود، باب المرتد عن دينه، حديث "2535".
4 أخرجه أبو داود في سننه حديث "3073" والترمذي "1378" والبيهقي "6/ 142" والدارمي: كتاب البيوع، باب: من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وأحمد في مسنده "3/ 338، 381" والنسائي بلفظ: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق".
كما أخرجه البخاري تعليقًا في باب: من أحيا أرضًا مواتًا، من كتاب الحرث والمزارعة.
وقوى سنده الحافظ في الفتح "5/ 19". ورواه أبو عبيد في الأموال "286" عن =

 

ج / 2 ص -198-       ولهذا يفهم منه السببية وإن انتفت المناسبة، نحو قوله: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوضَّأْ"1.
ويلحق بهذا القسم2: ما رتبه الراوي بالفاء، كقوله: "سَهَى رَسُولُ الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فَسَجَدَ"3 و"رَضَخَ يَهُودِيٌّ رَأْسَ جَارِيَةٍ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ"4. يفهم منه السببية فلا يحل نقله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عائشة -رضي الله عنها- بلفظ:
"من أحيا أرضًا ليست لأحد، فهو أحق بها".
1 تقدم تخريجه.
2 أي: يلحق بالنوع الأول، وهو: ما ذكر فيه الحكم عقب الوصف بالفاء في كلام الشارع، ما ورد على لسان الراوي مقرونًا بالفاء؛ لأنه من أهل اللغة.
3 روي عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- "صلى بهم فسهى فسجد سجدتين، ثم تشهد ثم سلم" أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة، باب: سجدتي السهو فيهما تشهد وتسليم حديث "1039"، والترمذي في أبواب الصلاة، باب: ما جاء في التشهد في سجدتي السهو، حديث "395" والحاكم في كتاب السهو، باب: سجدتي السهو بعد السلام "1/ 323" وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" قال الذهبي في الميزان "1/ 267": "أشعث بن عبد الملك ثقة، لكنه ما خرّجا له في الصحيحين".
4 روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن يهوديًّا قتل جارية على أوضاح "حلي الفضة" لها، فقتلها بحجر، قال: فجيء به إلى النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- وبها رمق، فقال لها:
"أقتلك فلان؟" فأشارات برأسها أن لا. ثم قال لها الثانية، فأشارات برأسها أن لا. ثم سألها الثالثة فقالت: نعم، وأشارت برأسها، فقتله رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- بين حجرين.
أخرجه البخاري في كتاب الديات، باب: إذا قتل بحجر أو عصًا، ومسلم: في كتاب القسامة، باب: ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره "1672" وأبو داود: كتاب الديات، باب: يقاد من القاتل، وباب القود بغير حديد، والترمذي حديث "1394" والنسائي: كتاب القسامة، باب القود من الرجل للمرأة، وباب القود من غير حديدة. كما أخرجه الإمام أحمد في المسند "3/ 170، 171".

 

ج / 2 ص -199-       من غير فهم السببية؛ لكونه تلبيسًا1 في دين الله.
والظاهر أن الصحابي يمتنع مما يحرم عليه في دينه، لا سيما إذا علم عموم فساد، فيظهر أنه فهم منه التعليل.
والظاهر أنه مصيب في فهمه، إذ هو عالم بمواقع الكلام ومجاري اللغة، فلا يعتقد السببية إلا بما يدل عليها، واللفظ مشعر به. ولا يحتاج إلى فقه الراوي، فإن هذا مما يقتبس من اللغة، دون الفقه2.
الثاني:
ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء يدل على التعليل به.
كقوله تعالى:
{مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}3. {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}5. أي: لتقواه.
وقول النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
"مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيراطَانِ"6.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التلبيس: المبالغة في الخلط. جاء في المصباح المنير مادة "لبس" ولبستُ الأمر لبسًا، من باب ضرب: خلطته. وفي التنزيل:
{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] والتشديد مبالغة".
2 قال الفتوحي في شرح الكوكب المنير "4/ 127": "ولا فرق في العمل بذلك بين كون الراوي صحابيًّا أو فقيهًا أو غيرهما، لكن إذا كان صحابيًّا فقيهًا كان أقوى"
3 سورة الأحزاب من الآية: "30".
4 سورة الأحزاب من الآية "31".
5 سورة الطلاق من الآية "2".
6 أخرجه البخاري: كتاب الذبائح، باب: من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد أو ماشية، ومسلم: كتاب المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب، والترمذي: أبواب الصيد، =

 

ج / 2 ص -200-       وكذلك ما أشبهه؛ فإن الجزاء يتعقب شرطه ويلازمه.
فلا معنى للسبب إلا ما يستعقب الحكم ويوجد بوجوده.
النوع الثالث:
أن يسأل النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- عن أمر حادث، فيجيب بحكم، فيدل على أن المذكور في السؤال علة.
كما روي أن أعرابيًّا أتى النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فقال: هلكت وأهلكت. قال:
"مَاذَا صَنَعْتَ"؟ قال: واقعت أهلى في رمضان. فقال، عليه السلام: "أعْتِقْ رَقَبَة"1 فيدل على أن الوقاع سبب؛ لأنه ذكره جوابًا له، والسؤال كالمعاد في الجواب، فكأنه قال: "وَاقَعْتَ أَهْلَكَ فَاعْتِق رَقَبَة".
واحتمال أن يكون المذكور منه ليس بجواب: ممتنع، إذ يفضي ذلك إلى خلو محل السؤال عن الجواب، فيتأخر البيان عن وقت الحاجة، وهو ممتنع بالاتفاق.
النواع الرابع:
أن يُذكر مع الحكم شيء، لو لم يقدر التعليل به: لكان لغوًا غير مفيد.
فيجب تقدير الكلام على وجه مفيد، صيانة لكلام النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- عن اللغو.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= باب: ما جاء من أمسك كلبًا ما ينقص من أجره والنسائي: كتاب الصيد، باب الرخصة في إمساك الكلب للماشية، وباب الرخصة في إمساك الكلب للصيد، كما أخرجه الإمام مالك: كتاب الاستئذان، باب: ما جاء في أمر الكلام، والإمام أحمد في المسند "2/ 4، 8، 37، 47، 60، 101، 113، 156".
1 تقدم تخريجه.

 

 

ج / 2 ص -201-       وهو قسمان:
أحدهما: أن يُستنطق السائل عن الواقعة بأمر ظاهر الوجود، ثم يذكر الحكم عقيبه، كما سئل -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- عن بيع الرطب بالتمر فقال:
"أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ"؟ قالوا: نعم. قال "فَلَا إِذَنْ"1.
فلو لم يقدر التعليل له: كان الاستكشاف عن نقصان الرطب غير مفيد لظهوره2.
الثاني أن يعدل في الجواب على نظير محل السؤال: كما روي أنه لما سألته الخثعمية عن الحج عن الوالدين، فقال، عليه السلام:
"أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ، أَكَانَ يَنْفَعُهَا"؟ قالت: نعم. قال: "فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ بِالقَضاءِ"3.
فيفهم منه: التعليل بكونه دينًا تقريرًا لفائدة التعليل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود: كتاب البيوع، باب في التمر بالتمر عن سعد بن أبي وقاج / 2 ص -رضي الله عنه- مرفوعًا، والترمذي: كتاب البيوع، باب: ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة وقال: "حديث صحيح".
كما أخرجه ابن ماجه والنسائي ومالك والحاكم والشافعي والدارقطني. انظر نصب الراية "4/ 40-42" والاستفهام من الرسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- عن يبس الرطب- استفهام تقريري؛ لأنه -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- يعلم ذلك.
2 قال الغزالي في المستصفى "3/ 608"، عند الاستدلال بهذا الحديث: ففيه تنبيه على العلة من ثلاثة أوجه.
أحدها: أنه لا وجه لذكر هذا الوصف لولا التعليل به.
الثاني: قوله: "إذًا" فإنه للتعليل.
الثالث: الفاء في قوله "فلا إذًا" فإنه للتعقيب والتسبيب".
3 تقدم تخريج الحديث وبيان أن هذه ليست رواية الخثعمية، وإنما رواية امرأة من جهينة.

 

ج / 2 ص -202-       النوع الخامس: أن يذكر في سياق الكلام شيء لو لم يعلل به: صار الكلام غير منتظم
كقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ....}1 فإنه يعلم منه التعليل للنهي عن البيع بكونه مانعًا من السعي إلى الجمعة؛ إذ لو قدرنا النهي عن البيع مطلقًا من غير رابطة الجمعة يكون خبطًا2 في الكلام.
وكذا قوله، عليه السلام: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان" تنبيه على التعليل بالغضب، إذ النهي عن القضاء مطلقًا من غير هذه الرابطة لا يكون منتظمًا.
النوع السادس: ذكر الحكم مقرونًا بوصف مناسب، فيدل على التعليل به كقوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا...}4. و{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}، أي: لبرهم وفجورهم، فإنه يسبق إلى الأفهام التعليل به، كما لو قال: "أكرم العلماء وأهن الفسّاق" يفهم منه: أن إكرام العلماء لعلمهم، وإهانة الفساق لفسقهم.
فكذلك في خطاب الشارع، فإن الغالب منه: اعتبار المناسبة.
بل قد نعلم أنه لا يرد الحكم إلا لمصلحة: فمتى ورد الحكم مقرونًا بمناسب: فهمنا التعليل به.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الجمعة من الآية "9".
2 هو: السير على غير جادة، أو طريق واضحة. تاج العروس مادة "خبط".
3 تقدم تخريجه.
4 سورة المائدة من الآية "38".
5 سورة الانفطار "13، 14".

 

ج / 2 ص -203-       ففي هذه المواضع يدل على أن الوصف معتبر في الحكم، لكنه يحتمل: أن يكون اعتباره لكونه علة في نفسه.
ويحتمل أن اعتباره لتضمنه للعلة نحو: نهيه عن القضاء مع الغضب، ينبه على أن الغضب علة لا لذاته، بل لما يتضمنه من الدهشة المانعة من استيفاء الفكر، حتى يلتحق به الجائع والحاقن.
ويحتمل: أن ترتيبه فساد الصوم على الوقاع؛ لتضمنه إفساد الصوم، حتى يتعدى إلى الأكل والشرب.
والظاهر: الإضافة إلى الأصل، فصرفه عن ذلك إلى ما يتضمنه يحتاج إلى دليل1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة ذلك: أن الوصف في هذا النوع، أي: في كل موضع رتب الحكم عليه معتبر في تعريف الحكم، أو في تأثيره ووجوده، إلا أن الوصف الذي رتب الحكم عليه يحتمل أن يكون علة لذاته، كإحياء الأرض الموات، فإنه علة بنفسه لملك الأرض.
ويحتمل أن الوصف ليس علة لذاته، بل لما تضمنه واشتمل عليه من معنى جعله علة، كالنهي عن القضاء أثناء الغضب، فهل العلة هي: مطلق الغضب، أو ما تضمنه الغضب من تشويش الفكر وعدم استيفاء النظر للحكم الصحيح، ومثل ذلك: وجوب الكفارة بالوقاع في رمضان، هل العلة هي الوقاع بذاته، أو ما تضمنه الوقاع من إفساد الصوم الذي يكون بالوقاع كما يكون بالأكل والشرب.
فمن قال: إن العلة هي ذات الغضب لم يلحق به غيره، ومن قال: إن العلة هي: ما تضمنه الغضب ألحق به ما يشبهه كالجوع المفرط، وكالحاقن وأمثال ذلك.
كذلك في كفارة الوقاع، من قال: إن الوقاع هو العلة، لم يلحق به غيره من المفطرات، ومن قال: إن العلة ما تضمنه الوقاع من إفساد الصوم، ألحق به الأكل والشرب. وقد رجح المصنف أن كلًّا من الغضب والوقاع علة بنفسه، وأن إضافة غيره إليه تحتاج إلى دليل، غير أنه رجح في كتب الفقه أن الغضب ليس علة =

 

ج / 2 ص -204-       .............................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بذاته، وإنما يقاس عليه كل ما يشوش الفكر، أما الوقاع فاعتبره علة بذاته لا يقاس عليه غيره.
قال في المغني "14/ 19-20": ".... ثم يخرج في اليوم الذي وعد بالجلوس فيه إلى مجلسه على أكمل حال وأعدلها، خليًا من الغضب، والجوع الشديد، والعطش، والفرح الشديد، والحزن الكثير، والهم العظيم، والوجع المؤلم، ومدافعة الأخبثين أو أحدهما، والنعاس الذي يغمر القلب؛ ليكون أجمع لقلبه، وأحضر لذهنه، وأبلغ في تيقظه للصواب، وفطنته لموضع الرأي، ولذلك قال النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
"لا يقضي القاضي وهو غضبان" فنص على الغضب، ونبه على ما في معناه من سائر ما ذكرناه".
وقال في الكافي: "1/ 352": "باب ما يفسد الصوم وما يوجب الكفارة: يحرم على الصائم الأكل والشرب للآية والخبر، فإن أكل أو شرب مختارًا ذاكرًا لصومه أبطله..." ثم قال: "ومن جامع في الفرج، فأنزل أو لم ينزل فعليه القضاء والكفارة، لما روى أبو هريرة أن رجلًا جاء فقال: يا رسول الله، وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال: "هل تجد تعتق رقبة"؟ قال: لا. قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين"؟ قال: لا قال: فسكت النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فبينا نحن على ذلك أتى رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- بفرَق تمر "الفرَق: بفتح الراء -مكيال يسع ستة عشر رطلًا". فقال:
"أين السائل؟ خذ هذا فتصدق به" فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟! فو الله ما بين لا بتيها -يريد الحرّتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي فضحك رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- حتى بدت أنيابه فقال: "أطعمه أهلك" متفق عليه.
وبذلك يكون المصنف قد فرق بين مسألتي: الغضب والوقاع في نهار رمضان، فقاس على الأول ولم يقس على الثاني.
قال في المغني في كتاب الصيام: "نقل عن الإمام مالك: تجب الكفارة بكل ما كان هتكًا للصوم، إلا الردة؛ لأنه إفطار في رمضان، أشبه الجماع. وحكي عن عطاء والحسن والزهري والثوري والأوزاعي وإسحاق، أن الفطر بالأكل والشرب يوجب ما يوجبه الجماع، وبه قال أبو حنيفة، إلا أنه اعتبر ما يتغذى به أو يتداوى به". =

 

ج / 2 ص -205-       القسم الثاني. ثبوت العلة بالإجماع:
كالإجماع على تأثير "الصغر" في الولاية1.
وكالإجماع على أن علة منع القاضي من القضاء وهو غضبان اشتغال قلبه عن الفكر والنظر في الدليل والحكم، وتغير طبعه عن السكون والتلبث للاجتهاد.
وكتأثير تلف المال تحت اليد العادية2 في الضمان؛ فإنه يؤثر في الغصب إجماعًا، فقيس السارق -وإن قُطع- على الغاضب، لاتفاقهما في العلة المؤثرة في محل الوفاق إجماعًا.
فلا تصح المطالبة بتأثير العلة في الأصل، للاتفاق عليها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ثم قال: "ولنا: أنه أفطر بغير جماع فلم توجب الكفارة، كبلع الحصاة أو التراب، أو كالردة عند مالك.
ولأنه لا نص في إيجاب الكفارة بهذا، ولا إجماع، ولا يصح قياسة على الجماع؛ لأن الحاجة إلى الزجر عنه أمس، والحكم في التعدي به آكد، ولهذا يجب به الحد إذا كان محرمًا، ويختص بإفساد الحج دون سائر محظوراته، ووجوب البدنة، ولأنه -في الغالب- يفسد صوم اثنين "أي الرجل والمرأة" بخلاف غيره" ولعل هذه الأسباب هي التي جعلت المصنف يفرق بين المسألتين.
1 أي: ولاية الإجبار على البكر الصغيرة، وعلى الصغير في المال أو النكاح، فيقول الحنفي في الثيب الصغيرة: صغيرة، فتجبر على النكاح، قياسًا على البكر الصغيرة، والابن الصغير، ويدعى أن العلة في الأصل: الصغر بالإجماع، وقد تحققت في الفرع.
2 أي: المعتدية. وتوضيحه: أن تلف المال تحت اليد العادية علة للضمان على الغاصب إجماعًا، فيلحق به تلف العين في يد السارق، وإن قطع بها؛ لأن يده عادية، فضمن ما تلف فيها كالغاصب، لاشتراكهما في الوصف الجامع وهو التلف تحت اليد العادية. انظر: شرح الطوفي "3/ 376-377".

 

ج / 2 ص -206-       وإن طولب بتأثيرها في الفرع، فجوابه أن يقال: القياس لتعدية حكم العلة من موضع إلى موضع.
وما من تعدية إلا ويتوجه عليها هذا السؤال، فلا يفتح هذا الباب، بل يكلف المعترض الفرق، أو التنبيه على مثار خيار الفرق1.
وكذلك لو قال: الأخوّة من الأبوين أثرت في التقديم في الميراث إجماعًا، فلتؤثر في التقديم في النكاح.
أو قال: الصغر أثر في ثبوت الولاية على البكر: فكذلك على الثيب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معنى هذا: أنه إذا قاس المستدل على علة مجمع عليها، فليس من حق المعترض أن يطالب بتأثير تلك العلة في الأصل؛ لأن ذلك ثابت بالإجماع، ولا بتأثيرها في الفرع؛ لأنها مطّردة في كل قياس، إذ القياس عبارة عن تعدية حكم الأصل إلى الفرع بالجامع المشترك بينهما، وما من قياس إلا ويتجه عليه سؤال المطالبة بتأثير الوصف في الفرع، فيقال: مثلًا: ما الدليل على أن الصغر مؤثر في إجبار الثيب الصغيرة؟
قال المصنف: "فلا يفتح هذا الباب، بل يكلف المعترض الفرق، أو التنبيه على مثار خيال الفرق" أي: يقال له: قد بينت أن العلة مؤثرة في الأصل بالاتفاق، وبينت وجودها في الفرع، فتم القياس، فإن كان عندك ما تبين به عدم تأثيرها فهاته. فإن أمكن للمعترض أن يثبت ذلك ببيان أن هناك فرقًا بين الأصل والفرع وجب على المستدل أن يجيب عنه. هذا معنى كلام المصنف، لكن الغزالي زاد المسألة توضيحًا فقال: "وهذا السؤال إما أن يوجهه المجتهد على نفسه، أو يوجهه المناظر في المناظرة: أما المجتهد فيدفعه بوجهين:
أحدهما: أن يعرف مناسبة المؤثر، كالصغر، فإنه يسلط الولي على التزويج للعجز، فيقول: الثيب كالبكر في هذه المناسبة.
الثاني: أن يتبين أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا كذا وكذا، ولا مدخل له في =

 

ج / 2 ص -207-       القسم الثالث: ثبوت العلة بالاستنباط.
وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: إثبات العلة بالمناسبة.
وهو: أن يكون الوصف المقرون بالحكم مناسبًا1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= التأثير، كما ذكرناه في إلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق ونظائره. فيكون هذا القياس-تمامه- بالتعرض للجامع ونفي الفارق جميعًا.
وإن ظهرت المناسبة استغني عن التعرض للفارق.
وإن كان السؤال من مناظر، فيكفي أن يقال: "القياس لتعدية حكم العلة من موضع إلى موضع، وما من تعدية إلا ويتوجه عليها هذا السؤال، فلا ينبغي أن يفتح هذا الباب".
بل يكلف المعترض الفرق، أو التنبيه على مثار خيال الفرق، بأن يقول، مثلًا: "أخوّة الأم أثرت في الميراث في الترجيح؛ لأن مجردها يؤثر في التوريث، فلم قلت: "إذا استعمل في الترجيح ما يستقل بالتأثير، فيستعمل حيث لا يستقل".
فتقبل المطالبة على هذه الصيغة، وهي أولى من إبدائه في معرض الفرق ابتداء.
أما إذا لم ينبه على مثار خيال الفرق، وأصر على صرف المطالبة، فلا ينبغي أن يصطلح المناظرون على قبوله؛ لأنه يفتح بابًا من اللجاج لا ينسد.
ولا يجوز إرهاقه إلى طلب المناسبة؛ فإن ما ظهر تأثيره بإضافة الحكم إليه فهو علة، ناسب أو لم يناسب". المستصفى "3/ 615-616".
ومعنى "خيال الفرق" أي: الفرق الذي يتخيله المناظر، وفي بعض النسخ "حبال" بالحاء ومعناه: الوسائل التي يلجأ إليها المناظر.
1 وتسمى بالإخالة، أي: الظن؛ لأن الحكم بمناسبة الحكم يظن أن الوصف علة لهذا الحكم، كما تسمى المصلحة، والاستدلال، ورعاية المقاصد، وتخريج المناط.
والمناسبة في اللغة: الملائمة، يقال: الثوب الأبيض مناسب لصلاة الجمعة، أي: ملائم له.

 

ج / 2 ص -208-       ومعناه: أن يكون في إثبات الحكم عقيبه مصلحة.
ولا يعتبر أن يكون منشأ للحكمة، كالسفر مع المشقة، بل متى كان في إثبات الحكم عقيب الوصف مصلحة فيكون مناسبًا، كالحاجة مع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أما عند الأصوليين: فلها تعريفات كثيرة، منها: ما ذكره المصنف. أما الآمدي: فقد عرف المناسب، ومنه يعرف تعريف المناسبة: فقال: "المناسب: عبارة عن وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم عليه حصول ما يصلح أن يكون مقصودًا للشارع، من تحصيل مصلحة أو تكميلها، أو دفع مفسدة أو تقليلها، دنيا وأخرى، على وجه ما يمكن إثباته بما لو أصر الخصم على منعه بعده، يكون معاندًا" انظر: الإحكام "3/ 388".
وترتب على ذلك أن يكون المناسب ثلاثة أقسام:
ضروري، وحاجي، وتكميلي.
فالضروري: ما تقوم عليه حياة الناس الدينية والدنيوية، وإذًا فقد اختل نظام الحياة، وفسدت أحوال الناس، وينحصر في خمسة أشياء: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
والحاجي: هو ما يترتب عليه التوسعة على الناس ورفع الحرج عنهم، مثل: مشروعية البيع والقراض والسلم والرهن وسائر المعاملات التي تجري بين الناس.
والتكميلي: هو ما تقتضيه المروءة ومكارم الأخلاق ومحاسن العادات، مثل: مشروعية الطهارة، وستر العورة، وأخذ الزينة وآداب الأكل والشرب ونحو ذلك. ومن المعلوم أن الضروري آكدها، ويليه الحاجي، ثم التكميلي، أو التحسيني، كما يسميه بعض العلماء.
ويترتب على ذلك أنه إذا اجتمعت كلها في وصف واحد قدم الأهم، مثال ذلك: أن نفقة النفس ضرورية، ونفقة الزوجة حاجية، ونفقة الأقارب تتمة وتكملة، ولهذا قدم بعضها على بعض، على الترتيب المتقدم، وتأكدت نفقة الزوجة على نفقة القريب، فتسقط بمضي الزمن دون نفقة الزوجة. انظر: الموافقات "2/ 6"، شرح مختصر الروضة "3/ 385".

 

ج / 2 ص -209-       البيع، والشكر مع النعمة، فيدل ذلك على التعليل به، إذ قد علمنا أن الشارع لا يثبت حكمًا إلا لمصلحة.
فإذا رأينا الحكم مفضيًا إلى مصلحة في محل، غلب على ظننا أنه قصد بإثبات الحكم تحصيل تلك المصلحة، فيعلل بالوصف المشتمل عليها1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معنى قول المصنف: "ولا يعتبر. أي الوصف، منشأ للحكمة" إلخ. يقتضي تعريف "المنشأ والحكمة".
فالإنشاء: محل النشيء وهو الظهور، يقال: نشأ ينشأ نشأ ونشوءًا: إذا بدا وظهر، ومنشأ الشيء: مظهره ومبدأه، وهو الموضع الذي يظهره.
أما الحكمة: فهي الغاية المطلوبة من تشريع الحكم، كحفظ الأنفس والأموال بتشريع القصاص وقطع اليد.
ومعنى ذلك: أن كون الوصف المناسب منشأ للحكمة المطلوبة من الحكم ليس شرطًا، بل المعتبر: ثبوت المصلحة عقيبه، وهو أعم من أن يكون منشأ لها أو لا. وهو رأي جمهور العلماء. وهذا يصدق على ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يكون الوصف منشأ للحكمة المطلوبة من الحكم، كقولنا: السفر منشأ المشقة المبيحة للترخص، والزنا منشأ المفسدة، وهي: تضييع الأنساب وإلحاق العار، وانتهاك الحرمات، فهذه الأوصاف ينشأ عنها الحكمة التي ثبتت هذه الأوصاف لأجلها.
الصورة الثانية: أن يكون الوصف معرفًا للحكمة ودليلًا عليها، كقولنا: النكاح أو البيع الصادر ممن هو أهل لذلك يناسب الصحة، أي: يدل على الحاجة التي اقتضت جعل البيع سببًا لتحصيل الانتفاع بواسطة الصحة، كما أن النكاح سبب للاستمتاع بالزوجة.
الصورة الثالثة: أن يظهر عند الوصف، ولم ينشأ عنه، ولم يدل عليه، كشكر النعمة المناسب للزيادة منها، فالشكر هو الوصف المناسب، وزيادة النعمة هي الحكمة، ووجوب الشكر هو الحُكم. انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 386-387".

 

ج / 2 ص -210-       [تقسيم المناسب من حيث تأثيره في الحكم أو عدم تأثيره]
إذا ثبت هذا: فالمناسب ثلاثة أنواع:
مؤثر، وملائم، وغريب.
فالمؤثر: ما ظهر تأثيره في الحكم بنص أو إجماع1.
وهو شيئان:
أحدهما: ما يظهر تأثير عينه في عين الحكم، كقياس الأمة على الحرة في سقوط الصلاة بالحيض، لما فيه من مشقة التكرار، إذ قد يظهر تأثير عينه في عين الحكم بالإجماع، لكن في محل مخصوص، فعدّيناه إلى محل آخر2.
وهذا لا خلاف في اعتباره عند القائلين بالقياس.
ومن خاصيته: أنه لا يحتاج إلى نفي ما عداه في الأصل.
ولو ظهر في الأصل مؤثر آخر: لم يضر، بل يعلل بهما، فإن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومعنى ذلك: أننا إذا وجدنا حكمًا ترتب على وصف مناسب ثبتت مناسبته بنص أو إجماع، ألحقنا به إثبات عين ذلك الحكم أو جنسه بدليل الوصف المناسب في صورة أخرى، كالأمثلة الآتي ذكرها.
2 هذا المثال إنما يصح لو أن سقوط الصلاة على الحائض خاصة بالحرة، لكن الدليل الدال على سقوط الصلاة جاء عامًّا، فيشمل الحرة والأمة، وهو: ما روي أن عَمرَة قالت لعائشة -رضي الله عنها- ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ أخرجه البخاري حديث "321" ومسلم "335" وغيرهما.
وأولى من ذلك: التمثيل بإلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق، وإلحاق ولاية النكاح بولاية المال، بجامع الصغر، فالصغر وصف أثر عينه في عين الحكم، وهو الولاية على الصغير، ولم يختلف إلا محل الولاية وهو المال والنكاح. انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 390-391".

 

ج / 2 ص -211-       "الحيض" و"العدة" و"الردة" قد تجتمع في امرأة، ويعلل تحريم الوطء بالجميع1.
وهو قسمان:
أحدهما: أن يظهر أثر عينه في عين ذلك الحكم، فهو الذي يقال: إنه في معنى الأصل.
وربما يقرّ به منكرو القياس؛ إذ لا يبقى بين الفرع والأصل مباينة إلا تعدد المحل، كقولنا: "إذا ثبت أن الكيل علة في تحريم الربا في البر، فالزبيب ملحق به".
ويكون هذا كظهور أثر الوقاع في إيجاب الكفارة على الأعرابي، فالتركي والهندي في معناه2.
الرتبة الثانية: أن يظهر أثر عينه في جنس ذلك الحكم:
كظهور أثر الأخوة من الأبوين في التقديم في الميراث، فيقاس عليه ولاية النكاح، فإن الولاية في النكاح ليست هي عين الميراث، لكن بينهما مجانسة3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فلو أردنا أن نقيس الأمة على الحرة في ذلك بأحد هذه الأوصاف صح، كما يصح أن نعلل تحريم وطئها بالأوصاف الثلاثة مجتمعة.
2 أي: أن هذا شبيه بما تقدم في "تنقيح المناط" حيث أثر الدفاع في نهار رمضان في عين الحكم، وهو وجوب الكفارة على الأعرابي الذي قال لرسول الله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "واقعت أهلي في نهار رمضان"، وأوجب عليه رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- الكفارة، فيقاس عليه الأعجمي والتركي؛ لأن العلة عامة، تشمل الأعرابي وغيره، وهي: "الوقاع في نهار رمضان من شخص مكلف" فالفرع هنا في معنى الأصل.
3 هذا هو القسم الثاني من أقسام المؤثر، وهو: ما أثر عينه في جنس الحكم كقولنا: الأخ للأبوين مقدم في ولاية النكاح، قياسًا على تقديمه في الإرث، =

 

ج / 2 ص -212-       النوع الثاني: الملائم1:
وهو: ما ظهر تأثير جنسه في عين الحكم.
كظهور أثر المشقة في إسقاط الصلاة عن الحائض، فإنه ظهر تأثير جنس الحرج في إسقاط قضاء الصلاة، كتأثير مشقة السفر في إسقاط الركعتين الساقطتين بالقصر2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فالوصف الذي هو الأخوة في الأصل والفرع متحد بالنوع، والحكم الذي هو الولاية والإرث متحدان بالجنس لا بالنوع، فهذا وصف أثر عينه في جنس الحكم، وهو جنس التقديم. انظر: شرح المختصر "3/ 392".
والملاحظ هنا: أن المؤلف كرر تقسيم المؤثر، فبعد أن عرفه قال: "وهو شيئان: أحدهما ما يظهر تأثير عينه في عين الحكم... وذكر أمثلته..." ثم قال: وهو قسمان: أحدهما: أن يظهر أثر عينه في عين ذلك الحكم" وهو السابق بعينه فليتنبه لذلك.
1 معنى "الملائم" الموافق، سمي بذلك لموافقته تصرف الشارع في تأثير جنس الأسباب في أعيان الأحكام، وهو تخصيص اصطلح عليه العلماء للتفرقة بين الأنواع الثلاثة، وإلا فجميعها ملائمة وموافقة لجنس مراعاة الشرع للمصالح المناسبة. انظر: شرح المختصر "3/ 393".
2 توضيح ذلك: أن جنس المشقة أثر في عين السقوط، إذ مشقة تكرار الصلاة في حق الحائض مخالفة لمشقة إتمامها في حق المسافر، إن لم يكن بالحقيقة والماهية فبالكمية والكيفية، أما ماهية السقوط في حقهما فواحدة.
وقد اعترض على هذا التمثيل: بأنه من القسم الأول، وهو: ما أثر عينه في عين الحكم؛ لأن نوع المشقة في التأثير واحد، وكذا نوع الحكم، وإن اختلفا من جهة سببهما؛ إذ هي مشقة تكرار، وهذا مشقة إتمام، وهذا سقوط أصل الصلاة، وذاك سقوط ركعتين منها.
فالأولى أن يقال: كإسقاط الصلاة عن الحائض للمشقة فإن جنس المشقة أثر في عين هذا السقوط من غير تعرض لمسافر ولا غيره. انظر: المرجع السابق.

 

ج / 2 ص -213-       النوع الثالث، الغريب:
وهو: ما ظهر تأثير جنسه في جنس ذلك الحكم.
كتأثير جنس المصالح في جنس الأحكام1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معناه: إلحاق بعض الأحكام ببعض بجامع المناسبة المصلحية المطلقة، كإلحاق شارب الخمر بالقاذف، في جلده ثمانين، كما قال علي، رضي الله عنه: "أراه إذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، فأرى عليه حد المفتري" فمظنة جنس الافتراء أثر في جنس الحد، وسمي هذا النوع غريبًا، لقلة التفات الشرع إليه في تصرفاته، فأصبح لقلة وقوعه كالغريب. وقال البرماوي: "وسمي غريبًا؛ لأنه لم يشهد له غير أصله بالاعتبار، كالطعم في الربا، فإن نوع الطعم مؤثر في حرمة الربا، وليس جنسه مؤثرًا في جنسه". شرح الكوكب المنير "4/ 177" قال الفتوحي: "وهذا التشبيه إنما يجري على قواعد من يقول: إن علة الربا الطعم".

فصل: [مراتب الجنسية]
ثم الجنسية مراتب، بعضها أعم من بعض:
فإن أعم الأوصاف كونه حكمًا.
ثم ينقسم إلى: إيجاب، وندب، وتحريم، وإباحة، وكراهية.
ثم الواجب ينقسم إلى: عبادة، وغير عبادة.
والعبادة تنقسم إلى: صلاة وغيرها.
فما ظهر تأثيره في الصلاة الواجبة أخص مما ظهر في العبادة، وما ظهر في العبادة أخص مما ظهر في الواجب، وما ظهر في الواجب أخص مما ظهر في الأحكام.
وفي المعاني أعم أوصافه: أنه وصف يناط الحكم بجنسه حتى يدخل فيه الاشتباه.

 

ج / 2 ص -214-       وأخص منه: كونه مصلحة، وأخص منه: كونه مصلحة خاصة، كالردع، أو سد الحاجة.
فلأجل تفاوت درجات الجنسية -في القرب والبعد- تتفاوت درجات الظن، والأعلى مقدمًا على ما دونه1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وضح الطوفي ذلك في شرحه "3/ 395 وما بعدها" فقال: "لما تقرر أن الوصف مؤثر في الحكم، والحكم ثابت بالوصف، ومسمى الوصف والحكم جنس تختلف أنواع مدلوله بالعموم والخصوص، كاختلاف أنواع مدلول الجسم والحيوان وغيرهما من الأجناس -كما تقرر أول الكتاب- ولهذا اختلف تأثير الوصف في الحكم تارة بالجنس، وتارة بالنوع، احتجنا إلى بيان مراتب جنس الوصف والحكم، ومعرفة الأخص منها من الأعم، ليتحقق لنا معرفة أنواع تأثير الأوصاف في الأحكام.
فأعم مراتب الوصف: كونه وصفًا؛ لأنه أعم من أن يكون مناطًا للحكم، أو لا يكون، إذ بتقدير أن يكون طرديًّا غير مناسب لا يصلح أن يناط به حكم، فكل مناط وصف، وليس كل وصف مناطًا. ثم كونه مناطًا أعم من أن يكون مصلحة أو لا، فكل مصلحة مناط للحكم، وليس كل مناط مصلحة، لجواز أن يناط الحكم بوصف تعبّدي، لا يظهر وجه المصلحة فيه، وكلامنا في المصلحة في ظاهر الأمر، أما في نفس الأمر، فلا يخلو تصرف الشرع عن مصلحة.
ثم كون الوصف مصلحة؛ لأنها قد تكون مصلحة عامة، بمعنى أنها متضمنة لمطلق النفع، وقد تكون خاصة، بمعنى كونها من باب الضرورات، والحاجات، أو التكميلات والتتمات. كما سبق تقريره في الاستصلاح.
وأما الحكم: فأعم مراتبه: كونه حكمًا؛ لأنه أعم من أن يكون وجوبًا، أو تحريمًا، أو صحة، أو فسادًا. ثم كونه واجبًا ونحوه، أي: من الأحكام الخمسة، وهي الواجب، والحرام، والمكروه، والمندوب، والمباح، وما يلحق بذلك من الأحكام الوضعية -كما سبق- إذا الواجب أعم من أن يكون عبادة اصطلاحية أو غيرها.
ثم كونه عبادة؛ لأنها أعم من الصلاة والزكاة وغيرهما من العبادات. =

 

ج / 2 ص -215-       [تعريف آخر للملائم والغريب]
وقيل: بل الملائم: ما ظهر تأثير جنسه في جنس الحكم، كتأثير المشقة في التخفيف1.
والغريب: الذي لم يظهر تأثيره، ولا ملائمته لجنس تصرفات الشرع2، كقولنا: الخمر إنما حرم لكونه مسكرًا، وفي معناه: كل مسكر، ولم يظهر أثر السكر في موضع آخر، لكنه مناسب اقترن الحكم به.
وقولنا: المبتوتة في مرض الموت ترث؛ لأن الزوج قصد الفرار من الميراث، فعورض بنقيض قصده، قياسًا على القاتل3 -لما استعجل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ثم كونه صلاة، إذ كل صلاة عبادة، وليس كل عبادة صلاة.
ثم كونها ظهرًا؛ لأن الصلاة أعم من الظهر، إذ كل ظهر صلاة، وليس كل صلاة ظهرًا.
ثم قال: لما عرف بما ذكرناه الأخص والأعم من الأوصاف والأحكام، فليعلم أن تأثير بعضها في بعض يتفاوت في القوة والضعف، فتأثير الأخص في الأخص أقوى أنواع التأثير، كمشقة التكرار في سقوط الصلاة، والصغر في ولاية النكاح، وتأثير الأعم في الأعم يقابل ذلك، فهو أضعف أنواع التأثير، وتأثير الأخص في الأعم وعكسه، وهو تأثير الأعم في الأخص واسطتان بين ذينك الطرفين، إذ في كل واحد منهما قوة من جهة الأخصية، وضعف من جهة الأعمية، بخلاف الطرفين، إذ الأول تمحضت فيه الأخصية، فتمحضت له القوة، والثاني تمحضت فيه الأعمية، فتمحض له الضعف".
1 هذا تعريف آخر لكل من الملائم والغريب، حيث عرف الملائم بما عرف به الغريب سابقًا. انظر: شرح الكوكب المنير "4/ 175" وشرح مختصر الروضة "3/ 398".
2 وهو اختيار الغزالي في المستصفى "3/ 622" وشفاء الغليل ص148، وانظر: شرح الكوكب المنير "4/ 177".
3 حرمان القاتل من الميراث وردت فيه أحاديث كثيرة، منها: ما أخرجه مالك في =

 

ج / 2 ص -216-       الميراث- عورض بنقيض قصده، فإنا لم نر الشارع التفت إلى مثل هذا في موضع آخر، فتبقى مناسبة مجردة غريبة.
وقد قصر قوم القياس على المؤثر1؛ لأن الجزم بإثبات الشارع الحكم رعاية لهذا المناسب تحكّم، إذ يحتمل أن يكون الحكم ثبت تعبدًا، كتحريم الميتة، والخنزير، والدم والحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، مع إباحة الضب والضبع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الموطأ -كتاب العقول- باب: ما جاء في ميراث العقل والتغليظ فيه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال:
"لا يرث القاتل" كما أخرجه أبو داود، كتاب الديات، باب ديات الأعضاء، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، كذلك أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
أما المبتوتة: وهي التي طلقها زوجها طلاقًا بائنًا في مرض الموت، فإنها ترث زوجها أثناء العدة ولا يرثها، وبه قال جمهور الصحابة وأكثر فقهاء المذاهب المتبوعة، والمشهور عن الإمام أحمد أنها ترثه في العدة وبعدها ما لم تتزوج. وقد صح عن عثمان -رضي الله عنه- أنه ورّث تماضر بنت الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن بن عوف، وكان طلقها في مرضه فبتها. واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكر فكان إجماعًا. انظر: السنن الكبرى للبيهقي "7/ 362" والمغني "9/ 194".
1 توضيح ذلك: أن بعض الأصوليين يرون أن القياس لا يصح إلا بالوصف المؤثر، دون الملائم والغريب، وحجتهم على ذلك: أنا لو أجزنا القياس بجامع غير مؤثر، للزم التحكم والترجيح بلا مرجح، وهذا لايجوز.
بيان ذلك: أنا لو قسنا النبيذ على الخمر-مثلًا- بعلة الإسكار، على تقدير عدم ورود النص على النبيذ، لاحتمل أن يكون تحريم الخمر تعبدًا غير معلل بعلة، كتحريم الخنزير والميتة والدم إلخ، واحتمل أن يكون تحريمها لوصف آخر لم يظهر لنا، واحتمل أن يكون للإسكار، وما دام التحريم محتملًا لهذه الأمور كان تعيين بعضها لإضافة التحريم إليه تحكمًا، بخلاف الوصف المؤثر، فإن تأثيره ثابت بالنص أو الإجماع، فلا تردد فيه.

 

ج / 2 ص -217-       ويحتمل أن يكون لمعنى آخر مناسب، لم يظهر لنا. "ويحتمل أن يكون حكم الشرع بتحريم الخمر تعبدًا وتحكمًا"1 ويحتمل أن يكون للإسكار.
فهذه ثلاث احتمالات.
فالتعيين تحكم بغير دليل، ووهم مجرد مستنده: أنه لم يظهر إلا هذا.
وهذا غلط، فإن عدم العلم ليس علمًا بعدم سبب آخر. وبمثل هذا القول بطل القول بالمفهوم.
وهذا لا ينقلب في المؤثر؛ فإنه عرف كونه علة بإضافة الحكم إليه نصًّا، أو إجماعًا2.
قلنا: لا يصح ما ذكروه لوجهين:
أحدهما: أنا قد علمنا من أقيسة الصحابة -رضي الله عنهم- في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأجيب عن ذلك بوجهين:
أحدهما: أن اقتران الحكم بالوصف الملائم أو الغريب يفيد الظن بأنه سببه ومقتضيه، والظن واجب الاتباع في الفروع العملية.
ثانيهما: أن الصحابة -رضي الله عنهم- قد ربطوا الأحكام بالأوصاف المناسبة، ولم يشترطوا كون العلة منصوصة أو مجمعًا عليها، ولو كان ذلك مشروطًا لما تركوا النص عليه، وإلا للزم على ذلك القدح في عصمة الأمة، حيث كانوا هم كل الأمة حينئذ، فلو تركوا ما هو مشترط في الاجتهاد؛ لأجمعوا على الخطأ، ولزم وقوع الخبر النبوي مخالفًا لمخبره، وهو قدح في العصمة. انظر: شرح الطوفي "3/ 402-403".
1 ما بين القوسين من المستصفى حتى يصح الكلام؛ لأن المصنف حذف التمثيل بالخمر، فأصبح قوله: "ويحتمل أن يكون للإسكار" لا عائد له.
2 هذا خلاصة ما استند إليه القائلون بقصر القياس على المؤثر، وقد سبق توضيحه.

 

ج / 2 ص -218-       اجتهاداتهم أنهم لم يشترطوا في كل قياس كون العلة معلومة بنص أو إجماع.
والثاني: أن المطلوب غلبة الظن، وقد حصل، فإن إثبات الشرع الحكم على وفقه يشهد لملاحظة الشرع له1.
وهذا الاحتمال راجح على احتمال التحكم بما رددنا به مذهب منكري القياس، كما في المؤثر، فإن العلة إذا أضيف إليها الحكم في محل: احتمل اختصاصها به.
وبه اعتصم نفاة القياس2.
لكن قيل لهم: عُلم من الصحابة اتباع العلل، واطّراح التعبد3، مهما أمكن، فكذا ههنا، ولا فرق.
وقولهم: "يحتمل أن ثم مناسبًا آخر، فهو وهم محض".
[فنقول]4: غلبة الظن في كل موضع تستند إلى مثل هذا الوهم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق توضيح هذين الدليلين.
2 أي: استدل نفاة القياس بهذا الاحتمال، وقد استدرك عليه المصنف بقوله: "لكن قيل لهم...".
3 عبارة الغزالي: "واطراح تنزيل الشرع على التحكم ما أمكن، فكذلك ههنا، ولا فرق".
4 ما بين القوسين من المستصفى، وعبارة المصنف: وغلبة الظن إلخ، وهي توهم أن هذا من كلام المخالفين، فكان لا بد من هذه الإضافة. وقد رد المصنف عليهم بأربعة أوجه.
الأول: أن هذا الاحتمال لا يؤثر في الوصف المناسب، ولو ظهر وصف آخر أقوى مما ظهر لنا قبلناه، وإن لم يكن أقوى رددناه.
الوجه الثاني: أنه لو رد كل ما غلب على الظن بمجرد احتمال وصف آخر لم يستقم أي قياس، لهذا الاحتمال =

 

ج / 2 ص -219-       ويعتمد انتفاء الظهور في معنى آخر لو ظهر لبطل الظن.
ولو فتح هذا الباب لم يستقم قياس، فإن المؤثر إنما يغلب على الظن، لعدم ظهور الفرق، ولعدم ظهور معارض.
وصيغ العموم والظواهر إنما تغلب على الظن بشرط: انتفاء قرينة مخصصة، لو ظهرت لزال الظن، وإذا لم تظهر جاز التعويل عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الوجه الثالث: أنه يحصل الظن من صيغ العموم والظواهر بشرط انتفاء القرينة المخصصة، فكذلك ما ههنا.
الوجه الرابع: أن الصحابة رضي الله عنهم، حين أجمعوا على جواز الاجتهاد لم يظهر لنا من ذلك إلا اتباع الرأي الأغلب، بدليل اختلافهم في بعض القضايا، ولم يحصروا أجناس غلبة الظن، ولم يميزوا جنسًا عن جنس، وهذا يشمل المؤثر والملائم والغريب.
ثم رد المصنف على قولهم: "هذا وهم" بأن هذا لا يصح، لأن هناك فرقًا بين الوهم والظن، وأن من بنى أمره في المعاملات على الظن كان معذورًا، بخلاف من بناه على الوهم، وفرع على ذلك تصرف ولي اليتيم في ماله بناء على الظن أو الوهم.
هذا خلاصة ما أراده المصنف في هذه المسألة. والله أعلم.
قال الجرجاني في التعريفات ص144، "الظن: هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض، ويستعمل في اليقين والشك، وقيل: الظن أحد طرفي الشك بصفة الرجحان".
وفي شرح الكوكب المنير "1/ 74": ".... والأول وهو الذي يحتمل النقيض عند الذاكر لو قدّره الراجح منه، وهو الذي يكون متعلقه راجحًا عند الذاكر على احتمال النقيض ظن، ويتفاوت الظن حتى يقال: غلبة الظن.
والمرجوح: وهو المقابل للظن وهم.
والمساوي: وهو الذي يتساوى متعلقه واحتمال نقيضه عند الذاكر شك".

 

ج / 2 ص -220-       ولم يظهر لنا من الصحابة إلا اتباع الرأي الأغلب، ولم يضبطوا أجناسه، ولم يميزوا جنسًا عن جنس، فمهما سلمتم غلبة الظن: وجب اتباعه.
وقولهم: "هذا وهم": لا يصح؛ فإن الوهم ميل النفس من غير سبب، والظن: ميلها بسبب.
وهذا الفرق بينهما.
ومن بنى أمره في المعاملات على الظن: كان معذورًا، ومن بناه على الوهم سُفِّه.
ولو تصرف في مال اليتيم بالظن: لم يضمن، ولو تصرف بالوهم ضمن.
وقد بينا الظن ههنا فيجب البناء عليه. والله أعلم.
النوع الثاني
في إثبات العلة. السبر1
قال أبو الخطاب: "ولا يصح إلا أن تجمع الأمة على تعليل أصل، ثم يختلفون في علته، فيبطل جميع ما قالوه إلا واحدة، فيعلم صحتها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السبر لغة: الاختبار، ومنه سمي ما يعرف به طول الجرح وعرضه: سِبَّارًا ومسبارًا.
وبعض العلماء يكتفي بإطلاق لفظ "السبر" على هذا النوع، والبعض يطلق عليه "التقسيم" فقط، والجمهور على الجمع بينهما، إذ أن هذا الدليل مبني على أمرين: =

 

ج / 2 ص -221-       كي لا يخرج الحق عن أقاويل الأمة"1.
فنقول: الحكم معلل، ولا علة إلا كذا أو كذا، وقد بطل أحدهما فيتعين الآخر.
مثاله: الربا يحرم في البر بعلة، والعلة: "الكيل، أو القوت، أو الطعم" وقد بطل التعليل بالقوت والطعم، فثبت أن العلة: الكيل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أحدهما: حصر الأوصاف التي يتوهم صلاحيتها للتعليل، وهو المسمى بالتقسيم.
ثانيهما: سبر واختبار هذه الأوصاف ليتميز الصالح منها للتعليل وإبطال ما لا يصلح.
ولذلك عرفه الأصوليون بأنه: "إبطال كل علة عُلّل بها الحكم المعلل إجماعًا إلا واحدة فتتعين" أي: للتعليل.
مثال ذلك: أن يقول: "علة الربا في البُرِّ ونحوه: إما الكيل، أو الطعم، أو القوت، وكلها باطلة إلا الأولى، وهي: الكيل، إن كان حنفيًّا أو حنبليًّا، أو إلا الطعم، إن كان شافعيًا، أو إلا القوت، إن كان مالكيًّا، فيتعين هذا الوصف للتعليل، ويلحق الأرز والذرة ونحو ذلك بالبر، بجامع الكيل أو غيره على حسب ما تقدم. ويقيم الدليل على بطلان ما أبطله، إما بانتقاضه انتقاضًا مؤثرًا، أو بعدم مناسبته، أو غير ذلك بحسب الإمكان. انظر: البرهان "2/ 815" والإحكام للآمدي "3/ 380" وشرح مختصر الروضة "3/ 404-405" وشرح الكوكب المنير "4/ 142".
1 انظر: التمهيد "4/ 22".

 

ج / 2 ص -222-       صحتها؛ لجواز أن يكون الحكم ثابتًا تعبدًا، إذ لم يوجد من الدليل على صحتها إلا خلو المحل عما سواها.
والوجود المجرد لا يكفي في التعليل1.
وقول المستدل: بحثت في المحل فلم أعثر على ما يصلح للتعليل: ليس بأولى من قول خصمه: بحثت في الوصف الذي ذكرته، فلم أعثر فيه على مناسبة، أو ما يصلح به التعليل، فيتعارض الكلامان.
الأمر الثاني: أن يكون سبره حاصرًا لجميع ما يعلل به: إما بموافقة خصمه، وإما بأن يسير حتى يعجز عن إبراز غيره2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة قول أبي الخطاب، وارتضاه المصنف: أنه يشترط في السبر أن يكون الحكم مجمعًا على تعليله، ولا يكفي أن يكون مختلفًا فيه؛ لأن للخصم في هذه الحالة أن يقول: إن الحكم تعبدي ولا علة له، فيبطل القياس. إلا أن للطوفي تفصيلًا آخر حيث قال: "إن كان المستدل مناظرًا، أو خصمه منتميًا إلى مذهب ذي مذهب، كفاه موافقة الخصم على التعليل، ولم يعتبر الإجماع عليه من الأمة، وإن كان الخصم مجتهدًا، اعتبر الإجماع على تعليله، إذ المجتهد لا حجر عليه إلا بإجماع الأمة، إذ بدونه له أن يلزم التعبد في الأصل، ويفسد كل علة علل بها، أما إذا أجمع على كونه معللًا، لم يمكنه ذلك، لمخالفة الإجماع، وإن كان المستدل ناظرًا لا مناظرًا، اعتبر الإجماع على التعليل أيضًا؛ لأن غرضه ليس إفحام خصم، بل استخراج حكم، وذلك إنما يحصل بحصول غلبة الظن بأن العلة هذا الوصف، ولا يحصل ذلك مع وقوع الخلاف في تعليل الحكم، وفي هذا شيء لا يخفى". شرح المختصر "3/ 405-406".
2 وبذلك يكون الخصم قد سلّم بما ذكره المستدل.
فحاصل الأمر: أن موافقة الخصم على الحصر إما اختيارية بالتسليم، أو اضطرارية بعجزه عن الزيادة على ما ذكره المستدل من أوصاف، ولذلك يجب على الخصم التسليم بالحصر، أو إبراز ما عنده لينظر فيه المستدل فيفسده عليه، =

 

ج / 2 ص -223-       فإن كان مناظرًا: كفاه أن يقول: هذا منتهى قدرتي في السبر، فإن شاركتني في الجهل بغيره: لزمك ما لزمني، وإن اطلعت على علة أخرى فيلزمك إبرازها في صحتها، فإن كتمانها -حينئذ- عناد، وهو محرم، وصاحبها إما كاذب، وإما كاتم لدليل مست الحاجة إلى إظهاره، وكلاهما محرم.
الثالث1: إبطال أحد القسمين:
وله في ذلك طريقان:
أحدهما: أن يبين بقاء الحكم بدون ما يحذفه، فيبين أنه ليس من العلة، إذ لو كان منها: لم يثبت الحكم بدونه.
الثاني: أن يبين أن ما يحذفه من جنس ما عهدنا من الشارع عدم الالتفات إليه في إثبات الأحكام، كالطول والقصر، والسواد والبياض، أو عهد منه الإعراض عنه في جنس الأحكام المختلف فيها كالذكورية، والأنوثية في سراية العتق2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ولا يكفي أن يقول المعترض: عندي وصف زائد لكني لا أذكره؛ لأنه حينئذ إما أن يكون صادقًا فيكون كاتمًا لدليل دعت الحاجة إلى إظهاره، أو كاذبًا فلا يعول على قوله.
1 من شروط صحة السبر، كما تقدم.
2 خلاصة ذلك: أن المعترض إذا أظهر وصفًا زائدًا على ما ذكره المستدل من الأوصاف، لزم المستدل أن ينظر في ذلك الوصف ويبطله بأحد طريقين:
أحدهما: أن يبين بقاء الحكم مع حذف ذلك الوصف في بعض الصور، مثل: أن يقول الشافعي أو الحنبلي: يصح أمان العبد؛ لأنه أمان وجد من عاقل مسلم غير متهم فيصح قياسًا على الحر.
فيقول الحنفي: لا نسلم أن ما ذكرت هو أوصاف العلة في الأصل فقط، بل هناك وصف آخر، وهو الحرية، وهو مفقود في العبد، فلا يصح القياس =

 

ج / 2 ص -224-       فصل: [أمور لا تكفي لإفساد علة الخصم]
ولا يكفيه في إفساد علة خصمه: النقض؛ لاحتمال أن يكون جزءًا من العلة، أو شرطًا فيها، فلا يستقل بالحكم، ولا يلزم من عدم استقلاله: صحة علة المستدل بدونه.
ولا يكفيه، أيضًا أن يقول: بحثت في الوصف الفلاني فما عثرت فيه على مناسبة، فيجب إلغاؤه، فإن الخصم يعارض بمثل كلامه فيفسد.
فإن بيّن -مع ذلك- صلاحية ما يدّعيه علة، أو سلم له ذلك بموافقة خصمه: فذلك يكفيه ابتداء، بدون السبر، فالسبر إذًا تطويل طريق غير مفيد، فلنصطلح على ردّه.
وقال بعض أصحاب الشافعي: يكفيه ذلك.
وقال بعض المتكلمين: إذا اتفق خصمان على فساد تعليل مَن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فيقول المستدل: وصف الحرية ملغى بالعبد المأذون له، فإن أمانه يصح باتفاق مع عدم الحرية، فصار وصفًا لا غيًا لا تأثير له في العلة.
ثانيهما: أن يبين كون هذا الوصف الزائد طرديًّا، أي: لم يلتفت الشارع إليه فيما عهد من تصرفاته، كالطول والقصر، والذكورية والأنوثية، وما أشبه ذلك.
مثال ذلك: لو قال المستدل: يسري العتق في الأمة قياسًا على العبد، بجامع الرق في كل منهما، إذ لا علة غيره، عملًا بالسبر. فقال المعترض: الذكورية وصف زائد معتبر في الأصل، فلا يصح القياس؛ لأن العبد إذا كمل عتقه بالسراية حصل منه ما لا يحصل من الأمة، من تأهله للحكم والإمامة وأنواع الولايات، ولا يلزم في ثبوت السراية في الأكمل ثبوته في غيره.
فيقول المستدل: ما ذكرت من الفرق مناسب، غير أنا لم نر الشرع اعتبر الذكورية والأنوثية في باب العتق، فيكون اعتبار ذلك على خلاف معهوده، فيكون وصفًا طرديًّا في ظاهر الأمر. انظر: شرح الطوفي "3/ 407-408".

 

ج / 2 ص -225-       سواهما، ثم أفسد أحدهما علة صاحبه: كان ذلك دليلًا على صحة علته.
وليس بصحيح؛ فإن اتفاقهما ليس بدليل على فساد قول من خالفهما.
والذي فسدت علته منهما يعتقد فساد علة خصمه الحاضر، كاعتقاد فساد علة الغائب، فيتساوى عنده الأمر فيهما.
فلا يتعين عنده صحة إحداهما، ما لم يكن الحكم مجمعًا على تعليله، ويبطل ما قيل: إنه علة1. والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة ذلك: أنه لا يكفي المستدل في إفساد الوصف الذي أبرزه المعترض كونه منتقضًا، بل يوجد بدون الحكم؛ لأن الوصف المذكور قد يكون جزء العلة أو شرطًا لها، والعلة لا تصح بدون جزئها أو شرطها.
مثال ذلك: قول المستدل: علة الربا في البر: الكيل، فعارضه المعترض بالطعم، فنقضه المستدل بالماء أو غيره مما يطعم ولا ربا فيه فلو قال المستدل ذلك لم يكف في بطلان كون الطعام هو العلة؛ لجواز أن يكون الطعم جزء علة الربا، بأن تكون العلة مجموع الكيل والطعم، أو شرطًا لها، فتكون علة الربا: الكيل بشرط أن يكون المكيل مطعومًا.
كذلك لا يكفي المستدل أن يقول: إني بحثت في علتك التي أبرزتها فلم أعثر فيها على مناسبة بينها وبين الحكم؛ لأن للمعترض أن يقول مثل هذا الكلام، فيتعارض الكلامان، ويقف المستدل، وتنقطع حجته.
فإن رد المستدل على خصمه هذا الكلام، وبين صلاحية الوصف الذي أثبته، أو سلم له الخصم بذلك، كفاه ذلك ابتداء، بدون حاجة إلى السبر، لأنه يكون تطويلًا بلا فائدة. وهذا رأي بعض العلماء واختاره المصنف.
وقال بعض أصحاب الشافعي: يكفيه ذلك؛ لأن الظاهر من حاله أنه صادق، وهو أهل للنظر، فيقبل قوله.
ثم تطرق المصنف إلى صورة أخرى متعلقة بالسبر، وهي: إذا اتفق خصمان على =

 

ج / 2 ص -226-       [إثبات العلة بالدوران]
النوع الثالث- في إثبات العلة: أن يوجد الحكم بوجودها، ويعدم بعدمها1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فساد علة من خالفهما، ثم بعد ذلك أفسد أحد الخصمين علة صاحبه، فهل يعتبر ذلك دليلًا على صحة علته؟
حكى المصنف عن بعض المتكلمين أن ذلك يعتبر دليلًا على صحة علته.
ثم رد على ذلك بأنه غير صحيح؛ لأن اتفاقهما على فساد علة غيرهما لا يقتضي فسادها في نفس الأمر، بل في اعتقادهما، وهو لا يؤثر بالنسبة إلى غيرهما، إذ غيرهما يعتقد فساد علتهما، كالمالكي يعتقد فساد التعليل بالكيل والطعم، ويدّعي علة القوت، فيتعارض اعتقادهما واعتقاده، وكذلك كل منهما يعتقد فساد علة غيره من حاضر وغائب، فليس أحدهما بأولى من الآخر. انظر: شرح مختصر الطوفي "3/ 409-410".
1 يسمى هذا النوع بالدوران، وهو في اللغة: مصدر دار يدور دورانًا، إذا تحرك حركة دورية كالدولاب والرحا.
أما في الاصطلاح فهو: ترتب حكم على وصف وجودًا وعدمًا، أو: وجود الحكم بوجود العلة، وعدمه بعدمها. وسماه الآمدي وابن الحاجب: الطرد والعكس. وهو بمعناه.
وفي كونه علة خلاف بين العلماء:
فالجمهور يرون أنه حجة، لكنهم مختلفون في نوع هذه الحجية، فقال بعض المعتزلة: إنها حجة قطعية. وقال بعض ومنهم أبو بكر الباقلاني: إنها ظنية. وذهب بعض العلماء إلى عدم حجيته، وعلى ذلك أكثر الحنفية، والآمدي، وابن الحاجب وغيرهم.
وقال قوم: إنه يفيد العلية ظنًا إذا انضم إليه السبر المتقدم.
انظر: المعتمد "2/ 843"، الإحكام للآمدي "3/ 430"، شرح العضد على المختصر "2/ 245"، شرح الكوكب المنير "4/ 191".

 

ج / 2 ص -227-       كوجود التحريم بوجود الشدة في الخمر، وعدمه لعدمها، فإنه دليل على صحة العلة العقلية، وهي موجبة، فأولى أن يكون دليلًا على الشرعية وهي أمارة1.
ولأنه يغلب على الظن ثبوت الحكم مستندًا إلى ذلك الوصف، فإننا لو رأينا رجلًا جالسًا، فدخل رجل فقام عند دخوله، ثم جلس عند خروجه، وتكرر منه، غلب على ظننا: أن العلة في قيامه: دخوله2.
فإن قيل: الوجود عند الوجود طرد محض، وزيادة العكس لا تؤثر، إذ ليس بشرط في العلل الشرعية.
ولأن الوصف يحتمل أن يكون ملازمًا لعلة أو جزءًا من أجزائها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا هو الدليل الأول على حجية الدوران.
2 وهذا هو الدليل الثاني، كما أوردهما المصنف. وقد أضاف إليهما الطوفي دليلين آخرين فقال: "وبمثل ذلك عَلِمَ الأطباءُ ما علموه من قوى الأدوية وأفعالها، كالأدوية المسهلة والقابضة وغيرها، حيث دارت آثارها معها وجودًا وعدمًا... ثم قال: وأما دليل الشرع فلأن النبي -عليه السلام- بعث ابن اللتبية عاملًا، فلما عاد من عمله جاء بمال، فجعل يقول: هذا لكم، وهذا لي أُهدى إلي، فخطب النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فقال:
"ما بال الرجل نبعثه في عمل المسلمين فيجيء فيقول: هذا لكم، وهذا لي، ألا جلس في بيت أمه، فينظر هل يهدى له؟!" [أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود].
وهذا عين الاستدلال بالدوران. أي: إنا إذا استعملناك أُهدي إليك، وإذا لم نستعملك لم يُهدَ لك، فعلة الهدية لك: استعمالنا إياك. فثبت بهذا أنه يوجب ظن العلية.
وأما أنه إذا وجب ظن العلية، وجب اتباعه، فلأن الظن متبع في العمليات بما عرف في الدليل على إثبات القياس من أنه يتضمن دفع ضرر مظنون". شرح المختصر "3/ 413-414".

 

ج / 2 ص -228-       فيوجد الحكم عند وجوده، لكون العلة ملازمة، وينتفي بانتفائه.
ويحتمل ما ذكرتم.
ومع التعارض لا معنى للتحكم.
ثم لو كان ذلك علة؛ لأمكن كل واحد من المختلفين في علة الربا أن يثبت الحكم بثبوتها، وينفيه بنفيها.
ثم يبطل هذا المعنى برائحة الخمر المخصوصة به مقرنة بالشدة، يزول التحريم بزوالها، ويوجد بوجودها، وليس بعلة1.
قلنا: قد بينا أن الطرد والعكس يؤثران في غلبة الظن.
وكون كل واحد من "الطرد" لا يؤثر منفردًا. لا يمنع من تأثيرهما مجتمعين، فإن العلة إذا كانت ذات وصفين لا يحصل الأثر من أحدهما.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من أول قول المصنف: "فإن قيل" إلى هنا يمثل المذهب الثاني في أن الدوران لا يفيد العلية مطلقًا، وقد أورد المصنف لأصحاب هذا المذهب دليلين:
أحدهما: أن الاحتجاج به إما أن يكون بوجود الحكم عند وجود الوصف وهو المعبر عنه بالطرد، وإما أن يكون بانتفاء الحكم عند انتفاء الوصف، وهو المسمى بالعكس. والطرد غير مؤثر، ولا إشعار له بالعلية، والعكس غير معتبر في العلل الشرعية.
الدليل الثاني: أنه ليس من الضرورة أن يكون كل وصف دائرًا مع الحكم علة له، بل يحتمل أن يكون علة -كما ذكرتم- ويحتمل أن يكون ملازمًا للعلة، مثل: الرائحة الملازمة لشدة الخمر، فإنها تنعدم قبل الإسكار، وتوجد معه، وتزول بزواله، ومع ذلك ليست علة.
ويحتمل أن يكون الوصف جزءًا من أجزاء العلة، أو شرطًا لها، ومع وجود هذه الاحتمالات لا يحصل القطع أو الظن بالعلية.

 

ج / 2 ص -229-       واحتمال شيء آخر لا ينفي الظن، ولا يمنع من التمسك بما ظنناه علة، ما لم يظهر الأمر الآخر، فيكون معارضًا.
والنقض برائحة الخمر: غير لازم، فإن صلاحية الشيء للتعليل لا يلزم أن يعلل به، إذ قد يمتنع ذلك، لمعارضة ما هو أولى منه1.
وقال قوم: إنما يصح التعليل به مع السبر، فيقول: علة الحكم أمر حادث، ولا حادث إلا كذا وكذا، ويبطل ما سواه2.
والسبر إذا تم بشروطه: استغني عما سواه، مع أنه لا يلزم أن يكون علة الحكم أمرًا حادثًا، إذ يجوز أن تكون العلة سابقة، ويقف ثبوت الحكم على شرط حادث، كالحول في الزكاة.
أو يكون الحادث جزءًا تمت العلة به.
أو يكون الحكم غير معلل. والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من قول المصنف: "قلنا" إلى هنا رد على الدليلين السابقين، وهو من وجهين أيضًا.
أحدهما: أنه قد تقدم أن الطرد والعكس يؤثران في إثبات غلبة الظن، وكون كل واحد منهما منفردًا لا يؤثر، لا يمنع من تأثيرهما مجتمعين.
ثانيهما: أن مجرد احتمال وجود شيء آخر لا ينفي الظن، ولا يمنع من التمسك بما ظنناه علة، ما لم يظهر الشيء الآخر.
والنقض برائحة العمر، حيث إنها تدور مع الوصف وجودًا وعدمًا، ليس بلازم أن يعلل به، فإنه قد يمتنع التعليل بالشيء لوجود ما أهو أقوى منه، ولا شك أن السكر أقوى من الرائحة. وقد نص جمهور العلماء على أن الوصف يشترط فيه أن يكون مناسبًا للحكم أو محتملًا، فإن كان طرديًّا فقط -كرائحة الخمر- علم أنه ليس علة، حتى ولو دار مع الحكم وجودًا وعدمًا.
2 هذا هو المذهب الثالث، الذي يشترط أن يكون مع الدوران السبر، واستدل =

 

ج / 2 ص -230-       فصل: [هل تثبت العلة بشهادة الأصول]
ومما يشبه هذا- شهادة الأصول1.
كقولهم في الخيل: ما لا تجب الزكاة في الذكور منفردة: لم تجب في الذكور والإناث2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= القائلون بذلك: بأن الحكم لا بد له من علة؛ لأنه أمر حادث، ولا حادث يعلل به إلا كذا وكذا -من الأوصاف- والكل باطل إلا الوصف الفلاني، فيثبت كونه علة.
وقد أجاب عنه المصنف بأن السير وحده علة، إذا تم بشروطه المتقدمة، فلا يحتاج إلى أن ينضم إليه الدوران أو غيره من المسالك.
ثم لا يلزم أن تكون علة الحكم أمرًا حادثًا، بل يجوز أن تكون سابقة على الحكم، وتتوقف على شرط حادث، كالحول في الزكاة، فإنه شرط لوجوبها، مع أن علتها بلوغ النصاب الذي تجب فيه الزكاة.
كما يحتمل أن يكون الحادث جزءًا من العلة، لا تتم إلا به، ويحتمل أن يكون الحكم أمرًا تعبديًّا غير معلل، ومع وجود هذه الاحتمالات لا يستقيم هذا المذهب.
1 المراد بشهادة الأصول: دلالة الكتاب أو السنة أو الإجماع على الحكم المعلل، أو المراد: كون الحكم المعلل له أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه.
2 ودليل ذلك: أن الشريعة ساوت بين الذكور والإناث في سائر السوائم في الحكم. وجودًا وعدمًا، فقد ساوت الشريعة بين الإبل والبقر والغنم في الزكاة، فإنها تجب في ذكورها إذا انفردت، وتجب في ذكورها وإناثها إذا اجتمعت، فكذلك البغال والحمير لا تجب الزكاة في ذكورها إذا انفردت، ولا تجب في ذكورها وإناثها إذا اجتمعت. انظر: التمهيد لأبي الخطاب "4/ 28".
والذي سبّب هذا الخلاف: أن العلماء مختلفون في الخيل السائمة هل فيها زكاة أو لا؟ بعد اتفاقهم على أن المعلوفة لا زكاة فيها، وأن المعدة للتجارة فيها زكاة.
فذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخيل السائمة لا زكاة فيها، واستدلوا على ذلك بما =

 

ج / 2 ص -231-       ويستدل على صحتها بالاطراد والانعكاس في سائر ما تجب فيه الزكاة، وما لا تجب.
وقولهم: من صح ظهاره: صح طلاقه كالمسلم.
ذهب القاضي وبعض الشافعية إلى صحته، لشبهه بما ذكرنا، وتغليبه على الظن.
ومنع منه بعضهم. والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= جاء في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال:
"ليس على المسلم في عبده وفرسه صدقة" وهذا النفي يشمل الذكور والإناث وأنه لم يثبت في السنة العملية أخذ الزكاة من الخيل، كما أخذت من الإبل والبقر والغنم.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى وجوب الزكاة فيها، واستدل بأدلة كثيرة، منها: ما رواه البخاري عن أبي هريرة أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قال:
"الخيل لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله -أي: للجهاد- فهي لذلك أجر. ورجل ربطها تغنيًا وتعففًا ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي ذلك ستر، ورجل ربطها فخرًا ورياءً ونواءً -مناوأة- لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر". ووجه الدلالة. عنده، أن حق الله في الرقاب هو الزكاة، وفي الظهور: إعارتها للمضطر ونحوه ليركبها، وعطف الظهور على الرقاب يقتضي المغايرة بينهما.
كما استدل على ذلك بالقياس على الإبل، فكلاهما حيوان نام ينتفع به، وقد تحقق فيه شرط الزكاة وهو السوم ويؤيده ما صح عن الصحابة -رضي الله عنهم- فقد روى الطحاوي والدارقطني بإسناد صحيح إلى السائب بن يزيد قال: رأيت أبي يقوم الخيل ويدفع صدقتها إلى عمر بن الخطاب.
وهناك آثار أخرى كثيرة كهذا. انظر: نصب الراية "3/ 359"، نيل الأوطار "4/ 118"، فقه الزكاة للدكتور القرضاوي "1/ 222 وما بعدها".
ومثل ما قيل في زكاة الخيل يقال في ظهار الذمي: يصح ظهاره، كما يصح طلاقة كالمسلم، فالمسلم البالغ العاقل يصح منه الطلاق والظهار، والصبي والمجنون لا =

 

ج / 2 ص -232-       ...........................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يصحان منه. فصحة طلاق الذمي أصل لصحة ظهاره.
جاء في المغني لابن قدامة "11/ 56": "وكل زوج صح طلاقه صح ظهاره، وهو البالغ العاقل، سواء كان مسلمًا أو كافرًا، حرًّا أو عبدًا.... ثم قال: ويصح ظهار الذمي. وبه قال الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة: لا يصح منه؛ لأن الكفارة لا تصح منه، وهي الرافعة للتحريم، فلا يصح منه التحريم، ودليل أن الكفارة لا تصح منه: أنها عبادة تفتقر إلى النية، فلا تصح منه، كسائر العبادات، ولنا أن من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم، فأما ما ذكروه فيبطل بكفارة الصيد إذا قتله في الحرم، وكذلك الحد يقام عليه، ولا نسلم أن التكفير لا يصح منه؛ فإنه يصح منه العتق والإطعام، وإنما لا يصح منه الصوم، فلا تمتنع صحة الظهار بامتناع بعض أنواع الكفارة، كما في حق العبد".
والخلاصة: أن في ثبوت العلة بشهادة الأصول رأيان:
الأول: أن ذلك يثبت العلة وهو رأي القاضي أبي يعلى، وبعض الشافعية، كالشيرازي في اللمع.
وحجتهم على ذلك أن هذا الطريق شبيه بالدوران وتحصيله غلبة الظن.
الرأي الثاني: أن ذلك لا يصح، لأن شهادة الأصول ليس نصًّا في العلية، ولا إجماعًا، ولا مؤثرًا، ولا ملائمًا، ولا غريبًا، إنما هو مجرد تخيل أن الفرع المشهود له مشتمل على علة الأصل الشاهد، والظن الحاصل من التخيل ضعيف جدًّا، فلا يناط به حكم ولا يعول عليه.
قال الطوفي: "قلت: التحقيق في هذا أنه يختلف باختلاف النظار والمجتهدين قوة وضعفًا، وباختلاف الأصول الشاهدة كثرة وقلة، فمتى كان هذا الطريق مفيدًا من الظن ما يساوي ما يفيده دليل آخر متفق عليه بين الفريقين المختلفين فيه، كخبر الواحد، أو العموم، أو القياس الجلي ونحوه، صح التمسح به، إذ قد يتفق ناظر فاضل مرتاض، فتظهر له أصول كثيرة شاهدة للفرع المتنازع فيه حتى يكاد يجزم أن حكم الفرع حكم تلك الأصول، فهذا يجب المصير على ما ظنه من ذلك، إن كان مجتهدًا لنفسه، وإن كان مناظرًا أمكنه إبراز تلك الشواهد لخصمه، وقرب ما ادعاه إلى ذهنه بالمقدمات الظاهرة المقبولة حتى يحصل له =

 

ج / 2 ص -233-       فصل: [في المسالك الفاسدة]
فأما الدلالة على صحة العلة باطرادها ففاسد؛ إذ لا معنى له إلا سلامتها عن مفسد واحد هو: النقض.
وانتفاء المفسد ليس بدليل على الصحة، فربما لم يسلم من مفسد آخر. ولو سلمت من كل مفسد: لم يكن دليلًا على صحتها، كما لو سلمت شهادة المجهول من جارح: لم تكن حجة ما لم تقم بينة معدلة مزكية: فكذلك لا يكفي للصحة انتفاء المفسد، بل لا بد من قيام دليل على الصحة.
وفي الجملة: فنصب العلة مذهب يفتقر إلى دليل كوضع الحكم، ولا يكفي في إثبات الحكم بأنه لا مفسد له، فكذلك العلة.
ويعارضه: أنه لا دليل على الصحة.
واقتران الحكم بها ليس بدليل على أنها علة، فقد يلازم الخمر لون وطعم ورائحة يقترن به التحريم، ويطرد وينعكس، والعلة: الشدة واقترانه بما ليس بعلة كاقتران الأحكام بطلوع كوكب أو هبوب ريح.
ثم للمعترض في إفساده المعارضة بوصف مطرد يختص بالأصل فلا يجد إلى التقصي عنه طريقًا.
ومثال ذلك: قولهم، في الخل: مائع لا يصاد من جنسه السمك، ولا تبنى عليه القناطر، فلا تزال به النجاسة كالمرق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الظن بذلك، فيسلم. والله تعالى أعلم". شرح المختصر "3/ 417-418"
وانظر: العدة "5/ 1453"، التمهيد "4/ 27 وما بعدها"، اللمع ص230.

 

ج / 2 ص -234-       وكذلك لو استدل على صحتها بسلامتها عن علة تفسدها، لم يصح؛ لما ذكرنا.
فإن قيل: دليل صحتها: انتفاء المفسد.
قلنا: بل دليل الفساد: انتفاء المصحح، ولا فرق بين الكلامين1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عقد المصنف هذا الفصل للمسالك التي لا تصلح لإثبات العلة، والتي سماها الغزالي بالمسالك الفاسدة، ومنه أخذنا عنوان الفصل. والإمام الغزالي ذكر من المسالك الفاسدة ثلاثًا.
الأول: سلامة العلة عن علة تفسدها، وتقتضي نقيض حكمها.
الثاني: اطرادها وجريانها في حكمها.
الثالث: الطرد والعكس، وهو المعبر عنه بالدوران؛ فإنه لا يرى حجيته.
ولما كان المصنف يرى حجية الدوران، كما تقدم. فقد ذكر من المسالك الفاسدة نوعين فقط هما: الأول والثاني، وترك الثالث. إلا أنه في هذا الفصل خلط بين المسلكين في الاستدلال والمناقشة، الأمر الذي جعل كلامه غامضًا، حيث قدم وأخر، وكرر.
لذلك أنقل كلام الطوفي في هذه المسألة بنصه، باعتباره ملخصًا وشارحًا لكلام المصنف.
قال، رحمه الله تعالى: "لما بين الطرق الدالة على صحة العلة، أخذ يبين الطرق الفاسدة التي لا تدل على صحتها.
فمنها: اطرادها، لا يدل على صحتها، إذ معنى اطرادها: سلامتها عن النقض، وهو بعض مفسداتها وسلامتها عن مفسد واحد لا ينفي بطلانها بمفسد آخر، ككونها قاصرة، أو عدمية، أو طردية غير مناسبة عند من لا يرى التعليل بذلك.
وما مثال من يقول: هذه العلة صحيحة؛ لأنها ليست منتقضة، إلا مثال من يقول: هذا العبد صحيح سليم؛ لأنه ليس بأعمى، إذ جاز أن تنتفي سلامته ببرص أو عرج أو غيره.
وأيضًا: فإن صحة العلة حكم، والأحكام إنما تثبت صحتها بدليل الصحة، لا =

 

ج / 2 ص -235-       فصل: [في حكم العلة إذا استلزمت مفسدة]
متى لزم من الوصف المتضمن للمصلحة مفسدة مساوية للمصلحة، أو راجحة عليها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بانتفاء المفسد، وبوجود المقتضى، لا بانتفاء المانع، وعدالة الشاهد والراوي إنما تثبت بحصول المعدل، لا بانتفاء الجارح، فكذلك العلة إنما تصح بوجود مصححها، لا بانتفاء مفسدها.
وقول القائل: هذه العلة صحيحة، إذ لا دليل على فسادها، معارض بقول الخصم: هذه فاسدة، إذ لا دليل عن صحتها.
ومن الطرق الفاسدة في إثباتها: الاستدلال على صحتها باقتران الحكم بها، وذلك لا يدل؛ إذ الحكم يقترن بما يلازم العلة، وليس بعلة، كاقتران تحريم الخمر بلونها وطعمها وريحها، وإنما العلة الإسكار". شرح مختصر الروضة "3/ 419/ 3420".
وينبغي أن يكون معلومًا أن الطرد هنا هو الطرد الوجودي، وهو: الذي يدور معه الحكم وجودًا فقط، لا عدمًا، وهو بهذا يختلف عن الطرد في الدوران، فإنه يدور مع الحكم وجودًا وعدمًا.
وللعلماء في حجية الطرد الوجودي مذاهب كثيرة، اختار المصنف منها: كونه غير حجة، كما هو مذهب الغزالي وجمهور العلماء.
وذهب بعض الحنفية إلى أنه حجة إن سلم من الانتقاض، ومثاله: المائع الذي تبنى عليه القناطر، ويصاد فيه السمك تقع به الطهارة، فيقال في الرد على ذلك ليس ذلك بعلة؛ لأن الطهارة تصح بغير المذكور، كالتراب ونحوه.
وذهب بعض الشافعية إلى أنه حجة بشرط مقارنة الحكم والوصف في جميع الصور، غير صورة النزاع، فيلحق النادر بالأغلب.
وقال الكرخي، من الحنفية: إنه مقبول جدلًا، ولا يسوغ التعويل عليه في العمل والفتيا.
انظر: إرشاد الفحول ص221، مذكرة أصول الفقه للشيخ الشنقيطي ص262.

 

ج / 2 ص -236-       فقيل: إن المناسبة تنتفي؛ فإن تحصيل المصلحة على وجه يتضمن فوات مثلها أو أكبر منها ليس من شأن العقلاء، لعدم الفائدة على تقدير التساوي، وكثرة الضرر على تقدير الرجحان، فلا يكون مناسبًا، إذ المناسب: ما إذا عرض على العقول السليمة تلقته بالقبول.
فيعلم أن الشارع لم يرد بالحكم تحصيلًا للمصلحة في ضمن الوصف المعين1.
وهذا غير صحيح2، فإن المناسب [هو] المتضمن للمصلحة. والمصلحة أمر حقيقي لا ينعدم بمعارض، إذ ينتظم من العاقل أن يقول:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الفصل تابع للنوع الأول من القسم الثالث في إثبات العلة بالاستنباط، وهو إثبات العلة بالوصف المناسب، وذكره هنا يوهم أنه من المسالك الفاسدة، فلا أدري لماذا أخره؟!
ومعنى هذا الفصل: أن الوصف المناسب للحكم إذا استلزم أو تضمن مفسدة هل تُلغى مصلحته وتختل مناسبته أو لا؟
وقول المصنف: "مفسدة مساوية للمصلحة، أو راجحة عليها" فيه بيان لتحرير محل الخلاف، وهو المفسدة المساوية للمصلحة، أو الراجحة عليها.
أما إذا كانت المفسدة مرجوحة على المصلحة، فإنها تكون معتبرة بالاتفاق، ولا نظر للمفسدة المرجوحة؛ لأنه لا عبرة بالمرجوح في مقابلة الراجح.
وللعلماء في هذه المسألة رأيان:
الرأي الأول: أن المناسبة تنتفي.
الرأي الثاني: أن المناسبة تبقى ولا تلغى، وهو الذي أشار إليه المصنف بقوله: "وهذا غير صحيح" ثم ذكر الأدلة التي استند إليها أصحاب هذا المذهب.
واستدلال المصنف للمذهب واضح لا يحتاج إلى شرح.
2 هذا اعتراض على أدلة المذهب الأول، وهو في الوقت نفسه استدلال للقائلين بعدم إلغاء المناسبة.

 

ج / 2 ص -237-       إلى مصلحة في كذا، يصدني عنه ما فيه من الضرر من وجه آخر".
وقد أخبر الله. تعالى. أن في الخمر والميسر منافع، وأن إثمهما أكبر من نفعهما1، فلم ينف منافعهما مع رجحان إثمهمها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الله تعالى في سورة البقرة "219":
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا...} وقرأ حمزة والكسائي: "قل فيهما إثم كثير" بالثاء المثلثة.
فمنافع الخمر: الربح في التجارة بها، فإن العرب كانت تجلبها من الشام وتبيعها في الحجاز بثمن مرتفع. وقيل: إنها تهضم الطعام، وتقوي الضعيف، وتشجع الجبان، وتسخي البخيل إلى غير ذلك مما كان يعتقده أهل الجاهلية. ومفاسدها كثيرة جدًّا بينتها سورة المائدة في الآيات "90-92" ومنها: إفساد العقل.
وفي الميسر منفعة كبيرة، ففيه الربح الوفير بدون كد ولا تعب، وكانوا يوسعون بما يستفيدونه على الفقراء والمساكين، لكن مفسدته أكبر، حيث إنه أكل لأموال الناس بالباطل، ويستوجب عذاب الله تعالى وغضبه. ومحل الشاهد: أن الله تعالى أطلق الأمرين في الخمر والميسر، ولو كانت المناسبة مختلة لما صح هذا الكلام: ثم لا يستبعد وجود المعارض مع الحكم.
وأقول: إن الاستدلال بهذه الآية فيه نظر، حيث إن ذلك كان في بداية التشريع، ولذلك فهم منه بعض الصحابة تحريم الخمر قبل نزول آيات المائدة فامتنعوا عن شربها.
قال القرطبي: "تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة؛ فإنهم كانوا مولعين بشربها، وأول ما نزل في شأنها:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} أي: في تجارتهم، فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها فنزلت هذه الآية {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى...} فتركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة حتى نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ...} الآية: فصارت حرامًا عليهم =

 

ج / 2 ص -238-       والمصلحة: جلب المنفعة، أو دفع المضرة، ولو أفردنا النظر إليها: غلب على الظن ثبوت الحكم من أجلها.
وإنما يختل ذلك الظن مع النظر إلى المفسدة اللازمة من اعتبار الوصف الآخر، فيكون هذا معارضًا؛ إذ هذا حال كل دليل له معارض.
ثم ثبوت الحكم مع وجود المعارض لا يعد بعيدًا.
ونظيره: ما لو ظفر الملك بجاسوس لعدوه، فإنه يتعارض في النظر اقتضاءان:
أحدهما: قلته؛ دفعًا لضرره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= حتى صار يقول بعضهم: ما حرم الله شيئًا أشد من الخمر" الجامع لأحكام القرآن "6/ 286".
وعلى هذا فلا يكون في الآية دليل على مشروعية ما كان ضرره أكثر من نفعه، والأحكام الشرعية تدور مع الراجح وجودًا وعدمًا.
ولذلك أرى أن يقتصر الكلام في هذا المسلك على المفسدة المساوية للمصلحة فقط ويخرج منه ما كانت المفسدة فيه راجحة على المصلحة، وإن كان الشيخ الشنقيطي ينقل الاتفاق على عدم اعتبار ذلك في المفسدة المساوية والراجحة فيقول: "اعلم أن التحقيق في هذه المسألة: أن الخلاف فيها لفظي؛ لأن المصلحة إذا استلزمت مفسدة مساوية أو راجحة فإن الحكم لا ينبني على تلك المصلحة قولًا واحدًا؛ لأن الشرع لا يأمر باستجلاب مصلحة مؤدية لمفسدة أكبر منها أو مساويًا لها. ولكن الخلاف في المصلحة المعارضة بالمفسدة، هل هي منخرمة زائلة من أصلها أو هي باقية معارضة بغيرها، وهو اختيار المؤلف؟
فعلى أن المصلحة باقية، فعدم الحكم لوجود المانع، وعلى أنها زائلة فعدم الحكم لعدم المقتضى. ومن أمثلته: فداء أسرى المسلمين بالسلاح إذا كان يؤدي إلى قدرة الكفار بذلك السلاح على قتل عدد الأسارى أو أكثر من المسلمين".
مذكرة أصول الفقه ص264.

 

ج / 2 ص -239-       والثاني: الإحسان إليه استمالة له ليكشف حال عدوه فسلوكه إحدى الطريقين لا يعد عبثًا، بل يعد جريًا على موجب العقل.
ولذلك ورد الشرع بالأحكام المختلفة في الفعل الواحد، نظرًا إلى الجهات المختلفة، كالصلاة في الدار المغصوبة؛ فإنها سبب للثواب من حيث إنها صلاة، وللعقاب من حيث إنها غصب، نظرًا إلى المصلحة والمفسدة، مع أنه لا يخلو: إما أن يتساويا، أو يرجح أحدهما:
فعلى تقدير التساوي: لا تبقى المصلحة مصلحة، ولا المفسدة مفسدة، فيلزم انتفاء الصحة والحرمة.
وعلى تقدير رجحان المصلحة: يلزم انتفاء الحرمة.
وعلى تقدير رجحان المفسدة: يلزم انتفاء المصلحة.
فلا يجتمع الحكمان معًا1، ومع ذلك اجتمعا.
فدل على بطلان ما ذكروه2.
ثم لو قدرنا توقف المناسبة على رجحان المصلحة، فدليل الرجحان: أنا لم نجد في محل الوفاق مناسبًا سوى ما ذكرناه.
فلو قدرنا الرجحان: يكون الحكم ثابتًا معقولًا.
وعلى تقدير عدمه: يكون تعبدًا.
واحتمال التعبد أبعد وأندر، فيكون احتمال الرجحان أظهر.
ومثال ذلك: تعليلنا وجوب القصاص على المشتركين في القتل،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهما: حرمة الصلاة وصحتها، وهذا دليل على أن المناسبة لا تبطل بمعارضة المفسدة الراجحة أو المساوية.
2 أي: أصحاب المذهب الأول.

 

ج / 2 ص -240-       بحكمة الردع والزجر؛ كي لا يفضي إسقاطه إلى فتح باب الدماء. فيعارض الخصم بضرر إيجاب القتل الكامل على من لم يصدر منه ذلك.
فيكون جوابه: ما ذكرناه1، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو: أن مصلحة قتلهم جميعها ترجح على تلك المفسدة.
روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلًا، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعًا.
وعن علي -رضي الله عنه- أنه قتل ثلاثة قتلوا رجلًا. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قتل جماعة بواحد. ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف، فكان إجماعًا.
ولأنها عقوبة تجب للواحد على الواحد، فوجبت للواحد على الجماعة، كحد القذف، ويفارق الدية؛ فإنها تتبعض والقصاص لا يتبعض؛ ولأن القصاص لو سقط بالاشتراك، أدى إلى الشارع به فيؤدي إلى إسقاط حكمة الردع والزجر.
انظر: المغني "11/ 490-491".

فصل: في قياس الشَّبه1.
واختلف في تفسيره.
ثم في: أنه حجة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأقيسة أربعة أنواع:
الأول: قياس العلة، وهو الجمع بين الأصل والفرع بوصف مناسب وهو الذي تقدم أول الباب.
الثاني قياس الشبه: وهو الذي معنا.
الثالث: قياس الدلالة، وهو الجميع بين الأصل والفرع بدليل العلة لا بها، وسيأتي.
الرابع: قياس الطرد: وهو الجمع بين الأصل والفرع بوصف غير مناسب ولا =

 

ج / 2 ص -241-       فأما تفسيره:
فقال القاضي يعقوب: هو أن يتردد الفرع بين أصلين: حاظر ومبيح، ويكون شبهه بأحدهما أكثر1.
نحو: أن يشبه المبيح في ثلاثة أوصاف ويشبه الحاظر في أربعة، فنلحقه بأشبههما به.
ومثاله: تردد العبد بين الحر وبين البهيمة في أنه يملك.
فمن لم يملكه قال: حيوان يجوز بيعه، ورهنه، وهبته، وإجارته، وإرثه، أشبه الدابة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= موهم المناسبة، كقياس الخل على المرق أو الدهن في عدم إزالة النجاسة، بجامع أن كلًّا منهما لا تبنى عليه القناطر ولا تصاد منه الأسماك، ولا تجري فيه السفن، وسيأتي بيانه قريبًا.
1 الشبه في اللغة: المثل، يقال: أشبه الشيء الشيء: ماثله. انظر: لسان العرب مادة "شبه".
قال الطوفي: "اعلم أن ظاهر كلام أهل اللغة والأصول الفرق بين المثل والشبه والمماثلة والمشابهة، وأن مثل الشيء: ما ساواه من كل وجه في ذاته وصفاته وشبه، الشيء وشبيهه: ما كان بينه وبينه قدر مشترك من الأوصاف. وحينئذ تتفاوت المشاهبة بينهما قوة وضعفًا بحسب تفاوت الأوصاف المشتركة بينهما كثرة وقلة، فإذا اشتركا في عشرة أوصاف، كانت المشابهة بينهما كثرة أقوى مما إذا اشتركا في تسعة فما دون، وعلى هذا القياس، وهذا هو الأمر المتعارف، فإذا أطلق لفظ الشبيه على المثل، أو لفظ المثل على الشبيه، فهو مجاز باعتبار ما بينهما من القدر المشترك من الأوصاف". شرح المختصر "3/ 424-425".
لأنه باعتبار أن الفرع لا بد أن يشبه الأصل يطلق على جميع الأقيسة، إلا أن الأصوليين اصطلحوا على تسمية هذا النوع بقياس الشبه.
وأطلق عليه البعض: "غلبة الشبه" انظر: العدة "4/ 1325".

 

ج / 2 ص -242-       ومن يملّكه قال: يثاب ويتعاقب، وينكح ويطلق، ويكلف، أشبه الحر. فيلحق بما هو أكثرهما شبهًا1.
وقيل: الشبه: الجمع بين الأصل والفرع بوصف يوهم اشتماله على حكمة الحكم: من جلب المصلحة، أو دفع المفسدة2.
وذلك أن الأوصاف تنقسم ثلاثة أقسام:
قسم يعلم اشتماله على المناسبة لوقوفنا عليها بنور البصيرة، كمناسبة الشدة للتحريم3.
وقسم لا يتوهم فيه مناسبة أصلًا، لعدم الوقوف عليها بعد البحث التام، مع إِلْفِنَا من الشارع: أنه لا يلتفت إليه في حكم ما، كالطول والقصر، والسواد والبياض4، وكون المائع لا تبنى عليه القناطر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومثل ذلك يقال في "المذي": فإنه متردد بين البول والمني. فمن قال بنجاسته قال: هو خارج من الفرج، لا يخلق منه الولد، ولا يجب به الغسل، أشبه البول، ومن قال بطهارته قال: هو خارج تحلّله الشهوة، ويخرج أمامها، أشبه المني. انظر: شرح الكوكب المنير "4/ 188".
2 قال الآمدي: "هو: ما اجتمع فيه مناطان لحكمين مختلفين، لا على سبيل الكمال، إلا أن أحدهما أغلب من الآخر"، الإحكام "3/ 427".
وقال الطوفي: "هو: الجمع بين الأصل والفرع بوصف يوهم اشتماله على حكمة ما" شرح المختصر "3/ 427".
3 أي: لتحريم الخمر، فيقاس عليها النبيذ، وهذا يسمى قياس العلة؛ لأنه قد علمت مناسبة الوصف للحكم، واعتبار الشرع له قطعًا، ومثل ذلك: مناسبة القتل للقصاص، والقطع للسرقة، وغير ذلك من الأوصاف المناسبة لأحكامها.
4 ومعنى ذلك: أنه لا يقال: إنما قتل القاتل، وقطع السارق، وحد الزاني لكونه أسود أو أبيض، أو لكونه طويلًا أو قصيرًا، لأننا وجدنا الشارع لا يلتفت إلى مثل هذه الأوصاف في تشريعاته، فلا علاقة بين الوصف والحكم، ولذلك أطلق عليه: "قياس الطرد".

 

ج / 2 ص -243-       وقسم ثالث -بين القسمين الأولين- وهو: ما يتوهم اشتماله على مصلحة الحكم، ويظن أنه مظنتها وقالبها من غير اطلاع على عين المصلحة، مع عهدنا، اعتبار الشارع له في بعض الأحكام، كالجمع بين مسح الرأس ومسح الخف في نفي التكرار، بوصف كونه مسحًا، والجمع بينه وبين الأعضاء المغسولة في التكرار، بكونه أصلًا في الطهارة، فهذا قياس الشبه.
فالقسم الأول: قياس العلة، وهو صحيح.
والقسام الثاني: باطل.
والثالث: الشبه. وهو مختلف فيه.
وكل قياس فهو مشتمل على شبه واطّراد.
لكن قياس العلة عرف بأشبه صفاته وأقواها.
وقياس الشبه كان أشرف صفاته المشابهة، فعرف به
وكذلك القياس الطردي عرف بخاصيته، وهو: الاطراد؛ إذ لم يكن له ما يعرف به سواه.
وكل وصف ظهر كونه مناطًا للحكم فاتباعه من قبيل قياس العلة، لا من قبيل قياس الشبه.
واختلفت الرواية عن أحمد -رحمه الله- في قياس الشبه: فروي: أنه صحيح.
والأخرى: أنه غير صحيح، اختارها القاضي2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر ذلك القاضي أبو يعلى في العدة "4/ 1326" وانظر: الجدل لابن عقيل ص12، مختصر البعلي ص149، وشرح الكوكب المنير "4/ 190".
2 وكذلك الحنفية وأبو بكر الصيرفي، وأبو إسحاق المروزي، والشيرازي، أما أبو =

 

ج / 2 ص -244-       وللشافعي قولان كالروايتين1.
[دليل القائلين بحجيته]
ووجه كونه حجة: هو أنه يثير ظنًّا غالبًا يبنى على الاجتهاد، فيجب أن يكون متبعًا كالمناسب.
فلا يخلو:
إما أن يكون الحكم لغير مصلحة.
أو لمصلحة في الوصف الشبهي.
أو لمصلحة في ضمن الأوصاف الأخر.
لا يجوز أن يكون لغير مصلحة، فإن حكم الشارع لا يخلو عن الحكمة.
واحتمال كونه لمصلحة وعلى ظاهرة أرجح من احتمال التعبد واحتمال اشتمال الوصف الشبهي على المصلحة أغلب وأظهر من اشتمال الأوصاف الباقية عليها.
فيغلب على الظن ثبوت الحكم به، فتعدى الحكم بتعديه2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بكر الباقلاني فيرى أنه صالح لأن يرجح به. انظر: فواتح الرحموت "2/ 302"، الوصول إلى الأصول "2/ 252"، شرح الكوكب المنير "4/ 191"، العدة "4/ 1326".
1 انظر الرسالة ص479.
وفي شرح الكوكب المنير "4/ 191": "وقيل: إنما يحتج به في التعليل إذا كان في قياس فرع قد اجتذبه أصلان، فيلحق بأحدهما بغلبة الاشتباه ويسمونه: قياس غلبة الاشتباه".
2 خلاصة هذا الدليل: أن قياس المعنى، وهو القياس المبني على الوصف المناسب إنما كان حجة بسبب إفادته الظن الغالب المبني على الاجتهاد، فكذلك قياس =

 

ج / 2 ص -245-       ................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الشبه يفيد الظن الغالب، فيجب أن يكون حجة مثله. وهذا معنى قول المصنف "فيجب أن يكون متبعًا كالمناسب".
وإنما كان حجة لأن الحكم الشرعي لا يخلو من عدة احتمالات، إما أن يكون لغير مصلحة، وهذا بعيد؛ لأن أحكام الشرع لا تخلو من حكمة، سواء علمناها أم لم نعلمها. وإما أن يكون لمصلحة في الوصف الشبهي ما دام ليس هناك وصف آخر، وإما أن يكون لمصلحة ضمن أوصاف أخر غير معتبرة، واحتمال كونه لمصلحة ظاهرة أرجح من كونه تعبدًا ومن الأوصاف الأخرى، فيجب تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع.
أما النافون لحجية قياس الشبه: فتمسكوا بظاهر الآيات التي تنهي عن اتباع الظن مثل قوله تعالى:
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]. فهذه الآية وأمثالها تنفي العمل بالظن مطلقًَا، وأخرج من ذلك قياس المناسبة لأدلة أخرى رجحت العمل به، فيبقى قياس الشبه داخلًا تحت النهي عن العمل بالظن.
وقد رد الطوفي هذا الاستدلال بأوجه كثيرة منها: عموم الأدلة التي تدل على مشروعية القياس ومنها قوله تعالى:
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وقياس الشبه نوع من أنوع الاعتبار.
ومنها: دخوله في عموم حديث معاذ -رضى الله عنه- والذي جاء فيه "أجتهد رأيي" انظر في ذلك: شرح المختصر "3/ 433-434".
وأقول إن الاستشهاد بالآيات التي تنهى عن اتباع الظن لا يصح الاستشهاد بها هنا؛ لأن المقصود منها: النهي عن اتباع الظن في الأحكام العقدية التي يطلب فيها اليقين، أما الأحكام العملية فالظن فيها كاف، وقد ثبت أن الرسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- عمل به في كثير من قضاياه، فقد روى مسلم -في صحيحه- عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
"إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار". [صحيح مسلم: كتاب الأفضية. جـ3 ص1337].

 

ج / 2 ص -246-       فصل: في قياس الدلالة
وهو: أن يجمع بين الفرع والأصل بدليل العلة، ليدل اشتراكهما فيه على اشتراكهما في العلة، فيلزم اشتراكهما في الحكم ظاهرًا1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال الصاوي عند تفسير قوله تعالى:
{وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} "فتحصل: أن الأمور الاعتقادية كمعرفة الله -تعالى- ومعرفة الرسل وما أتوا به لا بد فيها من الجزم المطابق للحق عن دليل، ولا يكفي فيها الظن، وأما الأمور العملية كفروع الدين فيكفي فيها غلبة الظن". حاشية الصاوي على الجلالين "4/ 110".
1 القياس من حيث التأثير والمناسبة وعدمها ينقسم إلى المناسب والشبهي والطردي، وقد تقدم توضيح ذلك.
ومن حيث التصريح بالعلة وعدمه ينقسم إلى قياس العلة، والقياس في معنى الأصل، وقياس الدلالة.
فقياس العلة: هو الجمع بين الأصل والفرع بعلته، كالجمع بين النبيذ والخمر بعلة الإسكار.
والقياس في معنى الأصل: هو الذي لا فارق فيه بين الأصل والفرع، أو كان بينهما فارق لا أثر له. مثل: قياس العبد على الأمة في تنصيف الحد.
وقياس الدلالة: هو الجمع بين الأصل والفرع بدليل يدل على العلة، لا بالعلة نفسها.
ودليل العلة قد يكون بلازم من لوازمها مثل: قياس النبيذ على الخمر بجامع الرائحة المشتدة، فهي لازمة للإسكار. وقد يكون بأثر من آثارها مثل أن يقال: القتل بالمثقل يوجب القصاص كالقتل بالمحدد، بجامع الإثم، وهو أثر العلة التي هي: القتل العمد العدوان. كما يكون بحكم العلة، مثل أن يقال: تقطع الجماعة بالواحد كما يقتلون به، بجامع وجوب الدية عليهم في ذلك، حيث كان غير =

 

ج / 2 ص -247-       ومثاله: قولنا، في جواز إجبار البكر: جاز تزويجها وهي ساكتة، فجاز وهي ساخطة كالصغيرة؛ فإن إباحة تزويجها مع السكوت، يدل على عدم اعتبار رضاها، إذ لو اعتبر، لاعتبر دليله وهو النطق. أما السكوت: فمحتمل متردد.
وإذا لم يعتبر رضاها أبيح تزويجها حال السخط.
وكذا قولنا، في منع إجبار العبد على النكاح: لا يجبر على إبقائه، فلا يجبر على ابتدائه كالحر، فإن عدم الإجبار على الإبقاء يدل على خلوص حقه في النكاح، وذلك يقتضي المنع من الإجبار في الابتداء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عمد. وترتيبها من حيث القوة كما مر: أعلاها: لازم العلة، ثم أثرها، ثم حكمها. وللعلماء في حجية قياس الدلالة مذهبان: أحدهما: أنه دليل وثانيهما: أنه ليس بدليل، وإنما يرجح به غيره، وهو الأصح عند الشيرازي انظر: اللمع ص289، المعونة في الجدل ص37، 38، شرح مختصر الروضة "3/ 436 وما بعدها".