شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه ط العلمية

الرخصة و العزيمة
مدخل
...
الرخصة والعزيمة
وأما الثاني فيسمى رخصة وما وقع من القسم الأول يسمى عزيمة وهي إما فرض أو واجب، أو سنة، أو نفل لا غير.
النوع الأول من الرخصة: والرخصة أربعة أنواع نوعان من الحقيقة أحدهما أحق بكونه رخصة من الآخر أما الأول فما استبيح مع قيام المحرم والحرمة كإجراء كلمة الكفر مكرها فإن حرمة الكفر قائمة أبدا
ـــــــ
مما يتعلق به مقصود أخروي بمعنى أنه يعتبر ذلك في مفهومه اعتبارا أوليا فيظهر بالتأمل في عبارات القوم في تفسيرها ففي أصول الشافعية: إن الرخصة ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام المحرم لولا العذر لثبتت الحرمة والعزيمة بخلافه.
وحاصله أن دليل الحرمة إذا بقي معمولا به وكان التخلف عنه لمانع طارئ في حق المكلف لولاه لثبتت الحرمة في حقه, فهو الرخصة فخرج الحكم بحل الشيء ابتداء, أو نسخا لتحريم, أو تخصيصا من نص محرم. وذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن العزيمة اسم لما هو أصل من الأحكام غير متعلق بالعوارض. والرخصة اسم لما بني على أعذار العباد, وهو ما يستباح مع قيام المحرم وذكر أبو اليسر أن الرخصة ترك المؤاخذة بالفعل مع قيام المحرم, وحرمة الفعل وترك المؤاخذة بترك الفعل مع وجود الموجب والوجوب وفي الميزان أن الرخصة اسم لما تغير عن الأمر الأصلي إلى تخفيف ويسر ترفها وتوسعة على أصحاب الأعذار وقال العزيمة ما لزم العباد بإيجاب الله تعالى والرخصة ما وسع للمكلف فعله بعذر مع قيام المحرم.
قوله: "وهي إما فرض" حصر العزيمة في الفرض والواجب والسنة والنفل يعني قبل ورود الرخصة, وأما بعده فقد تكون العزيمة حراما كصوم المريض إذا خاف الهلاك, فإن تركه واجب فعلى هذا لا تكون العزيمة قبل ورود الرخصة مباحا, ولا حراما, ولا مكروها أما الأول فلأنها لو كانت مباحا لكانت الرخصة أيضا مباحا وحينئذ لا يكون أحدهما أصليا والآخر مبنيا على أعذار العباد, وأما الثاني والثالث فلأن الحكم الأصلي لو كان حرمة, أو كراهة لكان الطرف المقابل في أصله وجوبا أو ندبا, وهو لا يصلح للابتناء على أعذار العباد إذ المناسب للعذر, هو الترفيه والتوسعة لا التضييق, فلا يكون رخصة, فلا يكون الحكم الأصلي الذي هو الحرمة, أو الكراهة عزيمة; لأنها إنما تكون في مقابلة الرخصة فالحاصل أن الطرف الذي تعلق به العزيمة لا بد وأن يكون راجحا على الطرف الآخر الذي تتعلق به الرخصة لا مساويا له ليكون مباحا, ولا مرجوحا ليكون حراما أو مكروها والراجح إما فرض, أو واجب, أو سنة, أو نفل كذا ذكره المصنف رحمه الله تعالى. وفيه نظر أما أولا: فلأنا لا نسلم أن العزيمة لو كانت إباحة لكانت الرخصة أيضا كذلك لجواز أن يكون وجوبا, أو ندبا إذ العذر قد يناسبه الإيجاب كأكل ماله عند خوف تلف نفسه, وأما ثانيا فلأنا لا نسلم أن العزيمة لو كانت حرمة, أو كراهة لكان الطرف الآخر وجوبا, أو ندبا لجواز أن يكون إباحة كما في إجراء كلمة الكفر على اللسان, فإنه حرام ويباح عند الإكراه. وكثير من الرخص بهذه المثابة, ولو سلم فلا نسلم أن الوجوب, أو الندب لا يناسب الابتناء على الأعذار كوجوب أكل الميتة عند

(2/265)


لكن حقه يفوت صورة له ومعنى وحق الله تعالى لا يفوت معنى؛ لأن قلبه مطمئن بالإيمان فله أن يجري على لسانه وإن أخذ بالعزيمة وبذل نفسه حسبة في دينه فأولى، وكذا الأمر بالمعروف وأكل مال الغير والإفطار ونحوه من العبادات.
والثاني: ما استبيح مع قيام المحرم دون الحرمة كإفطار المسافر رخص بناء
ـــــــ
"أما الأول" أي الذي هو رخصة حقيقة, وهو أحق بكونه رخصة من الآخر "فما استبيح مع قيام المحرم والحرمة كإجراء كلمة الكفر مكرها" أي بالقتل, أو القطع "فإن حرمة الكفر قائمة أبدا"; لأن المحرم للكفر, وهو الدلائل الدالة على وجوب الإيمان قائمة فتكون حرمة الكفر قائمة أبدا أيضا "لكن حقه" أي حق العبد "يفوت صورة له ومعنى وحق الله تعالى لا يفوت معنى; لأن قلبه مطمئن بالإيمان فله أن يجري على لسانه وإن أخذ" بالعزيمة وبذل نفسه حسبة في دينه فأولى, وكذا الأمر بالمعروف وأكل مال الغير والإفطار ونحوه من العبادات أي إذا أكره على أكل مال الغير, أو على الإفطار في رمضان, أو أكره على ترك الصلاة ونحوها ففي هذه الصور له أن يعمل بالرخصة حقيقة لكن إن أخذ بالعزيمة وبذل نفسه فأولى.
"والثاني" أي الذي هو رخصة حقيقة لكن الأول أحق منه بكونه رخصة "ما استبيح مع قيام المحرم دون الحرمة كإفطار المسافر" فإن المحرم للإفطار, وهو شهود الشهر قائم لكن حرمة الإفطار غير قائمة "رخص بناء على سبب تراخي حكمه" فالسبب شهود الشهر والحكم وجوب الصوم وقد تراخى لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} "والعزيمة أولى عندنا لقيام السبب ولأن في العزيمة نوع يسر لموافقة المسلمين". هذا دليل آخر على أن العزيمة أولى وتقريره أن العمل بالرخصة وترك العزيمة إنما شرع لليسر واليسر حاصل في العزيمة أيضا فالأخذ بالعزيمة موصل إلى ثواب يختص بالعزيمة ومتضمن ليس يختص
.........................................................
الاضطرار, أو ندب إفطار المريض عند بعض الأضرار لا يقال: العزيمة في جميع ذلك ترجع الوجوب كوجوب ترك إجراء كلمة الكفر ووجوب ترك أكل الميتة ونحو ذلك, فإن الفرض قد يكون هو الفعل كالصوم, وقد يكون هو الترك كترك إجراء كلمة الكفر وأكل الميتة; لأنا نقول هذا تأويل لا ضرورة إليه ومع ذلك, فهو غير مفيد; لأن الكلام في حكم إجراء كلمة الكفر وأكل الميتة, ولا شك أنه الحرمة لا الوجوب واستلزامه لوجوب الترك لا ينفي كونه الحرمة وإلا لارتفعت الحرمة من بين الأحكام. والحق أن العزيمة تشتمل الأحكام كلها على ما قال صاحب الميزان بعد تقسيم الأحكام إلى الفرض والواجب والسنة والنفل والمباح والحرام والمكروه وغيرها إن العزيمة اسم للحكم الأصلي في الشرع على الأقسام التي ذكرنا من الفرض والواجب والسنة والنفل ونحوها.
قوله: "أما الأول فما استبيح مع قيام المحرم والحرمة" كلامه في هذا التقسيم مشعر بانحصار حقيقة الرخصة في الإباحة ويلزمه انحصار العزيمة في الحرمة; لأنها تقابلها ويمكن أن يقال: المراد بالاستباحة هاهنا مجرد تجويز الفعل أعم من أن يكون بطريق التساوي, أو بدونه فيشمل الواجب

(2/266)


على سبب تراخي حكمه والعزيمة أولى عندنا لقيام السبب ولأن في العزيمة نوع يسر لموافقة المسلمين إلا أن يضعفه الصوم فليس له بذل نفسه؛ لأنه يصير قاتل نفسه بخلاف الفصل الأول
ـــــــ
بالرخصة فالأخذ بها أولى "إلا أن يضعفه الصوم فليس له بذل نفسه; لأنه يصير قاتل نفسه بخلاف الفصل الأول" أي إلا أن يضعف الصوم الصائم, وهو استثناء من قوله: والعزيمة أولى. وإنما قلنا إن الأول أحق بكونه رخصة من الثاني; لأن في الثاني وجد السبب للصوم لكن حكمه متراخ فصار رمضان في حقه كشعبان فيكون في الإفطار شبهة كونه حكما أصليا في حق المسافر بخلاف الأول فإن المحرم والحرمة قائمان فالحكم الأصلي فيه الحرمة وليس فيه شبهة كون استباحة الكفر حكما أصليا فيكون الأول أحق بكونه رخصة.
.........................................................
والمندوب والمباح والمراد بالحرمة والتحريم في الرخصة أعم من أن يكون في جانب الفعل, أو في جانب الترك فيشمل الفرض والواجب أيضا كما أن المراد بالفرض والواجب في قوله: وهي فرض وواجب وسنة ونفل أعم من أن يكون ذلك في طرف الفعل, أو طرف الترك ليشمل الحرام, ولا يكون بين الكلامين منافاة. نعم يتوجه أن يقال: يلزم انحصار العزيمة في الفرض والواجب والحرام, وهذا ينافي ما سبق من أنها قد تكون سنة, أو نفلا كما إذا كان الحكم الأصلي في صلاة نفل, أو سنة كونها مندوبة, فإذا عرضت حالة لم تبق تلك الصلاة معها مندوبة كحالة الخوف مثلا فيكون تركها رخصة, أو حكما مبنيا على أعذار العباد.
ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد بالحرمة المنع أعم من أن يكون بطريق اللزوم, أو الرجحان وحينئذ لا يرد الإشكال. فإن قيل: الاستباحة مع قيام المحرم والحرمة توجب اجتماع الضدين وهما الحرمة والإباحة في شيء واحد. أجيب بأن معنى الاستباحة في القسم الأول أن يعامل معاملة المباح بترك المؤاخذة. وترك المؤاخذة لا يوجب سقوط الحرمة كمن ارتكب كبيرة فعفي عنه. فإن قيل: المحرم قائم في القسمين جميعا فكيف اقتضى تأييد الحرمة في الأول دون الثاني قلنا العلل الشرعية أمارات جاز تراخي الحكم عنها, وقد ورد النص بذلك فيحتمله بخلاف أدلة وجوب الإيمان, فإنها عقلية قطعية لا يتصور فيها التراخي عقلا, ولا شرعا فتقوم الحرمة بقيامها وتدوم بدوامها.
"قوله: لكن حقه أي حق العبد يفوت صورة" بخراب البنية ومعنى بزهوق الروح أي خروجه من البدن.
قوله: "حسبة" أي طلبا للثواب وهي اسم من الاحتساب, وإنما كان الأخذ بالعزيمة أولى لما فيه من رعاية حق الله صورة ومعنى بتفويت حق نفسه صورة ومعنى ولما روي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله قال: فما تقول فيَّ؟ قال: أنت أيضا فخلاه. وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فما تقول في؟ قال: أنا أصم فأعاد عليه ثلاثا فأعاد جوابه فقتله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أما الأول, فقد أخذ برخصة الله تعالى, وأما الثاني, فقد صدع بالحق فهنيئا له".

(2/267)


والثالث ما وضع عنا من الإصر والأغلال يسمى رخصة مجازا؛ لأن الأصل لم يبق مشروعا أصلا.
ـــــــ
"والثالث" أي الذي هو رخصة مجازا, وهو أتم في المجازية وأبعد عن الحقيقة من الآخر. "ما وضع عنا من الإصر والأغلال يسمى رخصة مجازا; لأن الأصل لم يبق مشروعا أصلا. والرابع" أي الذي هو رخصة مجازا لكنه أقرب من حقيقة الرخصة من الثالث "ما سقط مع كونه مشروعا في الجملة, فمن حيث إنه سقط كان مجازا, ومن حيث إنه مشروع في الجملة كان شبيها بحقيقة الرخصة بخلاف الفصل الثالث كقول الراوي رخص في السلم فإن
.........................................................
قوله: "وكذا الأمر بالمعروف" نبه بهذا المثال على أن المراد بقيام المحرم أعم من أن ترجح الحرمة إلى الفعل كإجراء كلمة الكفر, أو إلى الترك كما في الأمر بالمعروف, فإنه فرض بالدلائل الدالة عليه فيكون تركه حراما ويستباح له الترك إذا خاف على نفسه; لأن حق الله تعالى إنما يفوت صورة لا معنى لبقاء اعتقاد الفرضية. وفي أكل مال الغير المحرم, وهو ملك الغير قائم والحرمة باقية لكن حق الغير لا يفوت إلا صورة لانجباره بالضمان فيستباح عند الإكراه. وفي التمثيل به إشارة إلى أن النصوص الدالة على أولوية الأخذ بالعزيمة, وإن وردت في العبادات وفيما يرجع إلى إعزاز الدين لكن حق العباد أيضا كذلك قياسا عليه لما في ذلك من إظهار التصلب في الدين ببذل نفسه في الاجتناب عن المحرمات ولذا قال محمد رحمه الله تعالى فيه كان مأجورا إن شاء الله تعالى, وكذا في الإفطار, والحرمة باقية لقيام المحرم, وهو شهود الشهر من غير سفر ومرض فتوجه الخطاب. أما لو كان مريضا, أو مسافرا فأكره على الإفطار فامتنع حتى قتل كان آثما; لأنه إكراه على المباح كالمضطر إذا ترك أكل الميتة حتى مات.
قوله: "والعزيمة أولى عندنا" إشارة إلى ما ذكره فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن العمل بالرخصة أولى عند الشافعي رحمه الله تعالى وقيده صاحب الكشف بأحد القولين. والحق أن الصوم أفضل عنده قولا واحدا عند عدم التضرر حتى أنه وقع في منهاج الأصول أن الإفطار مباح بمعنى أنه مساو للصوم فاعترضوا عليه بأن لا يظفر برواية تدل على تساويهما بل الإفطار أفضل إن تضرر وإلا فالصوم من غير اختلاف رواية.
قوله: "بخلاف الفصل الأول" أي الإكراه على الإفطار, فإن المكره إذا لم يفطر حتى قتل لم يكن قاتل نفسه; لأن القتل صدر من المكره الظالم, والمكره المظلوم في صبره مستديم للعبادة مستقيم على الطاعة فيؤجر.
قوله: "من الإصر" هو الثقل الذي يأصر صاحبه أن يحبسه من الحراك إنما جعل مثلا لثقل تكليفهم وصعوبته. مثل اشتراط قتل النفس في صحة توبتهم, وكذا الأغلال مثل لما كانت في شرائعهم من الأشياء الشاقة كجزم الحكم بالقصاص عمدا كان القتل أو خطأ, وقطع الأعضاء الخاطئة, أو قرض موضع النجاسة ونحو ذلك مما كانت في الشرائع السالفة, فمن حيث إنها كانت واجبة على غيرنا, ولم تجب علينا توسعة وتخفيفا شابهت الرخصة فسميت بها لكن لما كان السبب معدوما في

(2/268)


والرابع: ما سقط مع كونه مشروعا في الجملة، فمن حيث إنه سقط كان مجازا، ومن حيث إنه مشروع في الجملة كان شبيها بحقيقة الرخصة بخلاف الفصل الثالث.
ـــــــ
الأصل في البيع أن يلاقي عينا, وهذا حكم مشروع لكنه سقط في السلم حتى لم يبق التعيين عزيمة, ولا مشروعا, وكذا أكل الميتة وشرب الخمر ضرورة فإن حرمتهما ساقطة هنا" أي في حال الضرورة "مع كونها ثابتة في الجملة لقوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ} فإنه استثناء من الحرمة" فالفرق بين هذا وبين الثاني أن المحرم قائم وفي الثاني, وأما هاهنا فالمحرم غير قائم حال الضرر لقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} فالنص ليس بمحرم في حال الضرورة "ولأن الحرمة لصيانة عقل, ولا صيانة عند فوت النفس, وكذا صلاة المسافر رخصة إسقاط لقوله عليه السلام: "إن هذه صدقة" الحديث" روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال أنقصر الصلاة ونحن آمنون فقال عليه السلام: "إن هذه صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته" وإنما سأل عمر رضي الله تعالى عنه لأن القصر متعلق بالخوف قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
.........................................................
حقنا والحكم غير مشروع أصلا لم تكن حقيقة بل مجازا فقوله: لأن الأصل لم يبق مشروعا أصلا دليل على صحة تسميته رخصة وعلى كونه مجازا كاملا لا حقيقة, وأما الأول فلأنه كان مشروعا, فلم يبق, وأما الثاني فلأنه لم يبق مشروعا بالنسبة إلى أحد بخلاف النوع الأخير, فإن العزيمة فيها بقيت مشروعة في الجملة وبخلاف ما إذا حرم الصوم على المريض الذي يخاف التلف, فإنه صار غير مشروع في حقه لا غير.
قوله: "فمن حيث إنه سقط كان مجازا" . فإن قلت: ففي القسم الثاني أيضا سقط الحكم فينبغي أن يكون مجازا. قلت: لا تراخي بعذر فالموجب قائم والحكم متراخ وهاهنا الحكم ساقط بسقوط السبب الموجب محل الرخصة إلا أنه بقي مشروعا في الجملة بخلاف الفصل الثالث أي النوع الثالث من الأنواع الأربعة, فإن الحكم لم يبق مشروعا أصلا فكان كاملا في المجازية بعيدا عن الحقيقة.
قوله: "كقول الراوي" نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم, فمن حيث إن العينية غير مشروعة في السلم حتى يفسد السلم في المعين كانت الرخصة مجازا, ومن حيث إن العينية مشروعة في البيع في الجملة كان له شبه بحقيقة الرخصة.
قوله: "فإن الأصل في البيع أن يلاقي عينا" لتتحقق القدرة على التسليم ولأنه عليه السلام نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان وعن بيع الكالئ بالكالئ ففي هذا بيان لكونه السلم حكما غير أصلي لتحقق كونه رخصة, وإنما لم يبق التعيين في السلم مشروعا; لأنه إنما يكون للعجز عن التعيين وإلا لباعه مساومة من غير وكس في الثمن.

(2/269)


كقول الراوي رخص في السلم فإن الأصل في البيع أن يلاقي عينا، وهذا حكم مشروع لكنه سقط في السلم حتى لم يبق التعيين عزيمة، ولا مشروعا.
وكذا أكل الميتة وشرب الخمر ضرورة فإن حرمتهما ساقطة هنا مع كونها ثابتة في الجملة لقوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ} فإنه استثناء من الحرمة ولأن الحرمة لصيانة عقل، ولا صيانة عند فوت النفس.
ـــــــ
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} وهذه الآية دليل على أن التعليق بالشرط لا يدل على العدم عند عدم الشرط, وكذا سؤال عمر دليل عليه أيضا; لأنه لو كان دالا على عدم الحكم لما سأل عمر رضي الله عنه ولكان عالما بهذا; لأنه من أهل اللسان وأرباب الفصاحة والبيان.
.........................................................
قوله: "وكذا أكل الميتة وشرب الخمر" حال الاضطرار, فإن المختار عند الجمهور أنه مباح والحرمة ساقطة إلا أنه حرام رخص فيه بمعنى ترك المؤاخذة إبقاء للمهجة كما في إجراء كلمة الكفر وأكل مال الغير على ما ذهب إليه البعض أما في أكل الميتة فلأن النص المحرم لم يتناولها حال الاضطرار لكونها مستثناة فبقيت مباحة بحكم الأصل وبمثل قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} بل عند القائلين بأن الاستثناء من الإثبات نفي يكون النص دالا على عدم حرمتها عند الاضطرار وذلك أن قوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ} استثناء وإخراج عن الحكم الذي هو الحرمة; لأن المستثنى منه هو الضمير المستتر في حرم أي قد فصل لكم الأشياء التي حرم أكلها إلا ما اضطررتم إليه, فإنه لم يحرم. ويحتمل أن يكون مفرغا على أن "ما" في { مَا اضْطُرِرْتُمْ} مصدرية وضمير إليه عائد إلى ما حرم أي فصل لكم ما حرم عليكم في جميع الأحوال إلا في حال اضطراركم إليه, ولا يجوز أن يكون المستثنى منه ما حرم ليكون الاستثناء إخراجا عن حكم التفصيل لا عن حكم التحريم; لأن المقصود بيان الأحكام لا الإخبار عن عدم البيان. لا يقال: ينبغي أن يكون إجراء كلمة الكفر أيضا مباحا لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ}; لأنا نقول هو الاستثناء من إلزام الغضب لا من التحريم فغايته أن يفيد نفي الغضب على المكره لا عدم الحرمة. فإن قلت: ذكر المغفرة في قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} مشعر بأن الحرمة باقية, وأن المنفي هو الإثم والمؤاخذة. قلت: يجوز أن يكون ذكر المغفرة باعتبار ما يقع من تناول القدر الزائد على ما يحصل به إبقاء المهجة إذ يعتبر على المضطر رعاية قدر الإباحة, وأما في شرب الخمر فلأن حرمتها لصيانة العقل أي القوة المميزة بين الأشياء الحسنة والقبيحة, ولا يبقى ذلك عند فوات النفس أي البنية الإنسانية لفوات القوى القائمة بها عند فواتها وانحلال تركيبها, وإن كانت النفس الناطقة التي هي الروح باقية وذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن حرمة الميتة لصيانة النفس عن تغذي خبث الميتة لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}, فإذا خاف بالامتناع فوات النفس لم يستقم صيانة البعض بفوات الكل إذ في فوات الكل فوات البعض وكأنه أراد بالنفس أولا البدن وثانيا المجموع المركب من البدن والروح وبفواتها مفارقة الروح وانحلال تركيب البدن.

(2/270)


صلاة المسافر رخصة إسقاط
وكذا صلاة المسافر رخصة إسقاط لقوله عليه السلام: "إن هذه صدقة".
ـــــــ
"والتصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط لا يحتمل الرد وإن كان" أي التصدق "ممن لا يلزم طاعته كولي القصاص فهاهنا أولى" أي في صورة يكون التصدق ممن يلزم طاعته, وهو
.........................................................
قوله: "روي عن عمر رضي الله تعالى عنه" الراوي هو علي بن ربيعة الوالبي قال: سألت عمر رضي الله تعالى عنه ما بالنا نقصر الصلاة, ولا نخاف شيئا, وقد قال الله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} فقال: أشكل علي ما أشكل عليك فسألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: "إن هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" 1 فقوله: هذه إشارة إلى الصلاة المقصورة, أو إلى قصر الصلاة والتأنيث باعتبار كونه صدقة وقوله: فاقبلوا معناه اعملوا بها واعتقدوها كما يقال: فلان قبل الشرائع. وذكر الإمام الواحدي بإسناده إلى يعلى بن أمية أنه قال قلت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فيم إقصار الناس الصلاة اليوم, وإنما قال الله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}, وقد ذهب ذلك اليوم؟, فقال عجبت منه فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: "هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته", ثم إن سؤال عمر رحمه الله تعالى وتعجبه وإشكال الأمر عليه مما يستدل به على أنه فهم من التعليق بالشرط انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط, وأنه إنما سأل لكون العمل واقعا على خلاف ما فهمه. وأجيب بأن السؤال يجوز أن يكون بناء على اعتقاده استصحاب وجوب الإتمام لا على أنه مفهوم من التقييد بالشرط, ولا يخفى أن سياق القصة مشعر بأنه كان مبنيا على مفهوم الشرط والمصنف رحمه الله تعالى لم يرض رأسا برأس حتى جعل سؤال عمر رضي الله تعالى عنه دليلا على أن التعليق بالشرط لا يدل على عدم الحكم عند عدم الشرط إذ لو كان دالا عليه لفهمه, ولم يسأله, وهو ممنوع لجواز أن يكون للسؤال بناء على وقوع العمل على خلاف ما فهمه كما يشعر به سياق القصة, وكذا استدلاله بالآية أيضا ضعيف لما تقدم من أن القول بمفهوم الشرط إنما يكون إذا لم تظهر له فائدة أخرى مثل الخروج مخرج الغالب كما في هذه الآية, فإن الغالب من أحوالهم في ذلك الوقت كان الخوف. وكذا قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}, فإن الغالب أن الإنسان إنما يكاتب العبد إذا علم فيه خيرا وذهب فخر الإسلام رحمه الله تعالى إلى أن انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط لازم ألبتة, وإن لم يكن مدلول اللفظ وإلا لكان التقييد بالشرط لغوا, وأن في آية الكتابة المعلق بالشرط هو استحباب الكتابة, وهو منتف عند عدم الخير في المكاتب, وفي آية لقصر المراد قصر الأحوال كالإيجاز في القراءة والتخفيف في الركوع والسجود والاكتفاء بالإيماء, ولا يخفى ضعفه كيف والأئمة كالمجمعين على أن الآية في قصر أجزاء الصلاة.
قوله: "والتصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط لا يحتمل الرد" احترز بقوله: ما لا يحتمل
ـــــــ
1 رواه مسلم في كتاب المسافرين حديث 4. الترمذي في كتاب تفسير سورة 4 باب 20. أحمد في مسنده 1/25، 36.

(2/271)


الحديث والتصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط لا يحتمل الرد وإن كان ممن لا يلزم طاعته كولي القصاص فهاهنا أولى.
ولأن الخيار إنما يثبت للعبد إذا تضمن رفقا كما في الكفارة والرفق هنا متعين في القصر، فلا يثبت الخيار أما صوم المسافر وإفطاره فكل منهما يتضمن رفقا ومشقة فإن الصوم على سبيل موافقة المسلمين أسهل وفي غير رمضان أشق فالتخيير يفيد.
فإن قيل: إكمال الصلاة وإن كان أشق فثوابه أكمل فيفيد التخيير قلنا الثواب الذي يكون بأداء الفرض مساو فيهما.
ـــــــ
الله أولى أن يكون إسقاطا لا يحتمل الرد "ولأن الخيار إنما يثبت للعبد إذا تضمن رفقا كما في الكفارة" هذا دليل آخر على أن صلاة المسافر رخصة إسقاط, وهو عطف على قوله لقوله عليه الصلاة والسلام "والرفق هنا متعين في القصر, فلا يثبت الخيار" فتكون الرخصة رخصة إسقاط. "أما صوم المسافر وإفطاره فكل منهما يتضمن رفقا ومشقة فإن الصوم على سبيل موافقة المسلمين أسهل وفي غير رمضان أشق فالتخيير يفيد فإن قيل: إكمال الصلاة وإن كان أشق فثوابه أكمل فيفيد التخيير قلنا الثواب الذي يكون بأداء الفرض مساو فيهما"
"وأما القسم الثاني من الحكم", وهو الحكم الذي يكون حكما بتعلق شيء بشيء آخر "فالشيء المتعلق إن كان داخلا في الآخر, فهو ركن وإلا فإن كان مؤثرا فيه على ما ذكرنا في القياس فعلة وإلا فإن كان موصلا إليه في الجملة فسبب وإلا فإن توقف عليه وجوده فشرط وإلا فلا أقل من أن
.........................................................
التمليك عن التصدق بالعين المحتملة للتمليك وعن التصدق بالدين على من عليه الدين; لأن الدين يحتمل التمليك ممن عليه الدين.
قوله: "ولأن الخيار إنما يثبت للعبد إذا تضمن رفقا" لا يرد عليه تخيير العبد المأذون بين الجمعة والظهر; لأن في كل منهما رفقا من وجه أما في الجمعة فباعتبار قصر الركعتين, وأما في الظهر فباعتبار عدم الخطبة والسعي ولا يرد تخيير من قال إن دخلت الدار فعلي صوم سنة فدخل, فهو مخير بين صوم السنة وفاء بالنذر وبين صوم ثلاثة أيام كفارة; لأن الصومين مختلفان معنى; لأن صوم السنة قربة مقصودة خالية عن معنى الزجر والعقوبة وصوم الثلاثة كفارة متضمنة معنى العقوبة والزجر فيصح التخيير طلبا للأرفق, ولا يرد التخيير بين الركعتين والأربع قبل العصر وبعد العشاء; لأن الثنتين أخف عملا والأربع أكثر ثوابا بخلاف القصر والإتمام, فإنهما متساويان في الثواب الحاصل بأداء الفرض والقصر متعين للرفق, فلا فائدة في التخيير, وإنما قيد الثواب بما يكون بأداء الفرض لجواز أن يكون الإتمام أكثر ثوابا باعتبار كثرة القراءة والأذكار كما إذا طول إحدى الفجرين وأكثر فيها القراءة والأذكار وكلامنا إنما هو في أداء الفرض.
قوله: "على ما ذكرنا في باب القياس" إشارة إلى أن المراد بتأثير الشيء هاهنا هو اعتبار الشارع إياه بحسب نوعه, أو جنسه القريب في الشيء الآخر لا الإيجاد كما في العلل العقلية, ثم لا يخفى أن العمدة في مثل هذه التقسيمات هو الاستقراء والمذكور في بيان وجه الانحصار إنما هو مجرد الضبط وإلا فالمنع وارد على قوله: وإلا فلا أقل من أن يدل عليه لجواز التعليق بوجوه أخر مثل المانعية كتعلق النجاسة بصحة الصلاة, ثم بعدما فسر ركن الشيء بما هو داخل فيه لا معنى لتفسيره

(2/272)