شرح تنقيح الفصول

الباب التاسع في الشروط
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في أدواته
وهي أن وإذا ولو، وما تضمن معنى إن (فإن) تختص بالمشكوك فيه وإذا تدخل على المعلوم والمشكوك (ولو) تدخل على الماضي بخلافهما.
المتضمن لمعنى (إن) نحو أين تجلس أجلس، ومهما تصنع أصنع، ومتى تخرج أخرج معك، وأنى تخرج أخرج، وكيفما صنعت صنعت، ومن دخل داري فله درهم، وما تقدم من خير فهو لك، وأي رجل دخل داري فأكرمه، فهذه كلها متضمنة الشروط، وأصل الشرط هو لفظة (إن) فلذلك تضمن معنى إن، ولم أقل غيرها.
وخصصت العرب (إن) بما شأنه أن لا يعلم، فلا تقول إن زالت الشمس ائتني أو إن طلعت غداً من المشرق، فإن ذلك معلوم بالعادة، وتقول إن جاء زيد؛ فإن مجيئه غير معلوم بالعادة، ونظيرها (متى) لا يستفهم بها إلاّ عن الزمان المجهول فلا تقول متى تطلع الشمس، وتقول متى يقدم زيد؛ وأما (إذا) فتقول فيها إذا طلعت الشمس فائتين، وإذا جاء زيد فائتني.
سؤال: مقتضى هذه القاعدة أن لا تقد (إن) في كتاب الله البتة لأنه تعالى بكل شيء عليم، وهي لا تدخل إلاّ على المشكوك فيه.
وجوابه: أن القرآن عربي، وكل ما كان يجوز أن ينطق به العربي جاز في

(1/259)


كتاب الله تعالى، وكل ما لا يجوز لو نطق به عربي لم يجز في كتاب الله تعالى، وخصوص وضع الربوبية لا يدخل في اللغات، فما دخلت إن إلا (1) على ما لو تكلم بها عربي كان شأنها في تلك الحالة أن تكون داخلة على مشكوك فيه جازت في كتاب الله تعالى، وكذلك نجوزها وإن كان المتكلم من العرب والسامع عالمين بما دخلت عليه، إذا كان شأنه أن يكون
مشكوكاً فيه، ولا يقدح في حقها حصول العلم لذينك نظراً إلى العادة، وكذلك في حق الله تعالى.
وأما (لو) فتدخل على الماضي، نقول لو جاءني زيد أمس أكرمته اليوم، أو كنت أكرمته، فيكون الكلام كله ماضياً وهو عربي، وهذا لا يتحقق في غيرها من أدوات الشرط، وإن وقع شيء كان مؤولاً؛ كقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه الصلاة والسلام: «إن كنت قلته فقد علمته» (2) فقد علق على (إن) ماضياً، قال ابن السراج معناه أن يثبت في المستقبل أني قلته في الماضي، فالشرط ثبوته في المستقبل، وكل ما وقع من هذا الباب فهو مؤول بالمستقبل.
وأما (لو) فلا تأويل فيها، ولذلك قال بعض الفضلاء إنّما سميت حرف شرط مجازاً لشبهها بالشرط من جهة أن فيها ربط جملة بجملة كما في الشرط، فسميت شرطاً لذلك، وإلا فليست شرطاً لأجل المضي، وهو ينافي الشرط من جهة أن معنى الشرط ربط توقع أمر مستقبل بأمر متوقع مستقبل، والواقع لا يتوقع ولا يتوقف دخوله في الوجود على دخول أمر آخر، لأنه قد دخل في الوجود. وأما الزمخشري في المفصل في أقسام الحرف فقد قال: ومن أقسام الحرف حرفا الشرط وهما (إن) و (لو) فسماهما حرفا شرط.
فائدة: (إذا) تخالف (إن) من جهة أن إذا اسم وظرف والشرط لها عارض و (إن) على العكس في هذه الثلاثة، وقد تستعمل ظرفاً لا شرط فيه كقوله تعالى:
_________
(1) في نسخة مخطوطة حذفت إلاّ.
(2) 116 المائدة.

(1/260)


«والضحى والليل إذا سجى» (1) ، «والليل إذا يغشى» (2) أي أقسم بالليل حالة غشيانه وحالة سُجوِّه، لأنهما أعظم حالات الليل، وحينئذ يحسن القسم بهما. فهي هنا ظرف محض بغير شرط و (إن) أيضاً تستعمل غير شرط نحو قوله تعالى: «إن يتبعون إلاّ الظن» (3) معناها هنا معنى ما النافية، أي ما يتبعون إلاّ الظن، ولها أقسم كثيرة مذكورة في كتب النحو، غير أن أصلها الشرط وغيره عارض، وأصل (إذا) الظرفية وغيرها عارض.
الفصل الثاني في حقيقته
وهو الذي يتوقف عليه تأثير المؤثر. ويلزم من عدمه العدم ولا يلزم وجوده وجود ولا عدم، ثم هو [قد] (4) لا يوجد إلاّ مندرجاً كدوران الحول وقد يوجد دفعة كالنية، وقد يقبل الأمرين كالسترة، فيعتبر من الأوّل آخر جزء منه، ومن الثاني جملته،
وكذلك الثالث لإمكان تحققه، فإن كان الشرط عدمه اعتبر ألو أزمنة عدمه في الثلاثة.
نقلت قول الإمام في المحصول؛ فإنه لم يذكر في ضابط الشرط غير قوله هو الذي يتوقف عليه تأثير المؤثر، ولم يزد على هذا، يشير إلى أن الحول مثلاً يتوقف عليه تأثير النصاب في إيجاب الزكاة، والبلوغ في تأثير الزوال في إيجاب الصلاة، ونحو ذلك، وهذا الضابط الذي ذكره رحمه الله غير جامع لجميع أنواع الشرط فإن الشرط قد يكون لأجل ذات السبب ووجوده، لا لتأثيره، كما تقول في الفروج، فإنَّها شرط في أصول وجود الزنا في تأثيره، وقد يكون الشرط شرطاً فيما ليس مؤثراً، كما تقول الحياة شرط في العلم، والعلم شرط في الإرادة، مع أن العلم غير مؤثر
_________
(1) 1 الضحى.
(2) 1 الليل.
(3) 116 الأنعام.
(4) ساقطة في الأصول.

(1/261)


والإرادة مخصصة لا مؤثرة، والجوهر شرط لوجود العرض المخصوص، فهذه الأنواع كلها خرجت عن ضابطه.
فلذلك زدت أنا من عندي القيود التي بعد هذا القيد، فقلت: ويلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، فبقيت هذه الزيادة مضمومة إلى كلامه، وهو غير جيد مني، بسبب أن القيد الأوّل الذي ذكره يلزم أن يوجد في جميع الشروط، وهو غير لازم الوجود لما ذكرته من الحياة مع العلم ونحوه، فبقي الكلام كله باطلاً.
بل ينبغي لي أن أبتدئ حداً مستأنفاً؛ فأقول الشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، فالقيد الأوّل احتراز من المانع فإنه لا يلزم من عدمه شيء، والثاني احتراز من السبب فإنه يلزم من وجود الوجود، والثالث احتراز من مقارنة الشرط وجود السبب، فيلزم الوجود كالحول مع النصاب أو قيام المانع، فيلزم العدم، ولكن ذلك ليس لذاته بل لوجود السبب أو المانع، وبسْط هذه الأمور مذكور في باب ما يتوقف عليه الحكم فيطالع هناك. فهذا هو الحد المستقيم، وأما الذي لي والإمام في الأصل فباطل.
وأريد بقولي متدرجاً أي شيئاً بعد شيء، فإنه لا يمكن أن يوجد الحول إلاّ كذلك زماناً بعد زمان، وأما السترة فقد تقدر إن توقع السترة بالثوب في زمن واحد، وقد يستر بعضها في زمان، وبعضها في زمان آخر، فهي تقبل الأمرين.
ثم الشرط قد يكون وجود هذه الحقائق وقد يكون عدمهان مثال الأوّل قوله إن نويت فأنت حر، أو إن دار الحول، أو إن سترت عورتك، فيعتبر آخر جزء فيعتق عنده. أما في النية فظاهر، وأما في الحول فلأن اجتماعه متعذر، فالممكن هو آخر أجزائه، فتقدر الأجزاء المتقدمة كالكائنة مع الجزء الأخير.
وأما السترة وما هو قابل للأمرين، فقال الإمام لا بد من وجود المجموع لإمكان
تحققه فإن ستر عورته مثلاً متدرجاً لا يعتق، وكذلك إذا قال له إن أعطيتني عشرة

(1/262)


دراهم فأعطاه له شيئاً بعد شيء لا يعتق، لأنه لم يعطه عشرة وإنما أعطاه بعضها في كلّ زمان، وهذا يجيء على مراعاة الألفاظ، وأما على مراعاة المقاصد فيعتق؛ أعطاه الدراهم جملة أو متفرقة، وهذا هو الذي عليه الفتيا في مذهب مالك، مع أن في هذا الأصل قولين في المذهب عندنا وعند غيرنا.
وأما إذا كان الشرط عدم هذه الأمور فعدم الجميع يمكن التحقق (1) بخلاف الوجود، فإذا مضى زمان لم ينو فيه أو لم يقرأ سورة البقرة، فإنَّها مثل الحول لا يقع إلاّ متدرجاً، أو لم يعطه الدراهم عتق لوجود الشرط، هذا هو كلام الإمام في المحصول، وهو الذي نقلته هنا. والفقه والمذهب يقتضي أنه إذا قال له إن لم يدر الحول عليه وأنت في هذا المنزل أو إن لم تقرأ سورة البقرة فأنت حر، لا يكفي مُضي زمان فرز فيه عدم الحول أو عدم قراءة سورة البقرة، بل ينبغي أن يعتبر مضي زمن يسع قراءة سورة البقرة فلو مضى أحد عشر شهراً، أو أحد عشر شهراً مثلاً وبعض الشهر الثاني عشر، هذا كله لا يعتق فيه العبد، ولا يعتق إلاّ إذا مضى عليه حول، لأن هذا هو مقصد الناس في أيمانهم، نعم إن قال إن مضى زمان فرز فيه عدم أحد هذه الأمور؛ فيكفي مطلق العدم ويعتق بمضي الزمن الفرد، ولكن هذا بالنية أو مصرح كما تقدم، وأما تلك الألفاظ المتقدمة فلا يلزم ذلك.
الفصل الثالث في حكمه
إذا رتب مشروط على شرطين لا يحصل إلاّ عند حصولهما إن كانا على الجمع، وإن كانا على البدل حصل عند أحدهما وإلى المعلق تعينه لأن الأصل (2) أن الشرط مشترك بينهما.
_________
(1) في نسخة مخطوطة: فعدم الجميع على التحقيق.
(2) في المخطوطة: لأن الحاصل أن الشرط.

(1/263)


مثاله: قوله إن دخلت الدار وكلمت زيداً فأنت حر، فهذا علق عليهما معاً، فلا يحصل إلاّ عند حصولهما. ومثال البدل: إن دخلت الدار أو كلمت زيداً فأنت حر، فالشرط أحدهما لا بعينه.
قال الإمام في المحصول: وللمعلق تعينه وهو مشكل، فإن اللفظ إذا أطلق هدراً من غير قصد لزم العتق عند أيهما كان، وليس له بعد ذلك أن يعين أحدهما للشرطية ويبطل
الآخر، وإن كان عند الإطلاق نوى أحدهما معيناً (1) فذلك الذي نوى هو الشرط، والذي نوى إلغاءه ليس بشرط، ولا يكفي في إلغائه القصد إلى شريطة الآخر مع الغفلة عنه؛ لأن هذه نية مؤكدة لا ملغية، فيبقى اللفظ صريحاً في الشرطية في المشترك بينهما، والمشترك موجود في كلّ واحد منهما فيعتق بأيهما كان، والنية في أحدهما فقط زائدة خصوصاً على عموم لا مبطلة للعموم في الآخر، فتأمل ذلك، وقد تقدم من ذلك نبذة كثيرة في تخصيص العموم فطالعه هناك. وإن أراد الإمام للمعلق تعينه أي تعيين أحدهما عند التلفظ بالشرطية وتعيين الآخر للإلغاء صح، وإلا لم يصح كلامه لما تقدم.
وإذا دخل الشرط على جمل رجع إليها عند إمام الحرمين وإلى ما يليه عند بعض الأدباء، واختار الإمام فخر الدين التوقف، واتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام، وعلى حسن التقييد به وإن كان الخارج به أكثر من الباقي، ويجوز تقديمه في اللفظ وتأخيره، واختار الإمام تقديمه، خلافاً للقراء جمعاً بين التقدم والطبعي والوضعي.
حجة العود على جميع الجمل ما تقدم من الوجوه الثلاثة المقتضية عود الاستثناء على جميع الجمل بطريق الأولى، لأن التعاليق اللغوية أسباب مقتضية للحكم والمصالح، فعودها على الجميع تكثير للمصلحة، بخلاف الاستثناء إنّما هو إخراج لما ليس بمراد عن المراد فأمره أسهل.
حجة عدم العود واختصاصه بما يليه: أنه فضلة في الكلام ومبطل له: فيختص بما يليه، تقليلاً لمخالفة الأصل في رفع ما تقرر بغير شرط.
_________
(1) في الأصول: نوى أحدهما معيناً.

(1/264)


حجة التوقف تعارض المدارك.
وأما اتفاقهم على وجوب اتصاله بالكلام فلأنه فضلة لا يستقل بنفسه فلا يعود لما تقدم في الاستثناء بطريق الأولى، لما تقدم أن الشرط متضمن للمصالح والمصالح تناسب الاهتمام بها فلا تؤخر.
وأما حسن التقييد به ولو أخرج أكثر الكلام بل قد يبطله كله، فإنه إذا قال أكرم بني تميم إن أطاعوا الله، فقد لا يطيع منهم أحد فيبطل جميع الكلام الذي كان يثبت لولا هذا الشرط، فإنهم مستحقون الإكرام لولا هذا الشرط، وكذلك قد لا يطيع أكثرهم، فيخرج من الكلام أكثره، ولا يقبح ذلك، ولا يجري فيه الخلاف الذي في الاستثناء.
والفرق من وجهين: أحدهما أن الموجب لقبح إخراج الكل أو الأكثر بالاستثناء أن
المتكلم به يعد عابثاً في كونه أقدم على النطق بما يعتقد خلافه، وأنه يعود فيبطله بلفظ آخر، ولا يعد عابثاً في الشرط بسبب أن الخارج بالشرط غير متعين حال التلفظ، وإنما ذلك تسفر العاقبة عنه. وثانيهما: أن احتمال إخراج الشرط للأكثر معارض بأنه قد لا يخرج شيئاً ويطيعون كلهم، فيبقى الكلام بجملته لا يبطل منه شيء، فلما تعارضا سقطا، وصار الكلام كأنه لم يدخله تقييد.
وأما التقديم فهو في النطق لا غير، والفراء يلاحظ أنه فضله في الكلام، والفضلة شأنها التأخير كالصفة والغاية والنعت والمفعول والتأكيد وغيره، يلاحظ أنه سبب والسبب شأنه التقديم، فهو متقدم في المعنى، فيكون متقدماً في اللفظ، وهو معنى قوله: هو متقدم في الطبع فيقدم في الوضع، وقد غلط بعض الجهال وقال إن العلماء قد جوزوا تقدم المشروط على شرطه، وإن وجود المشروط حالة عدم شرطه فيه خلاف، وإذا سئل أين ذلك؟ يشير إلى تلك المسألة، وهو غلط، ما قال أحد بأن المشروط لا يتوقف على شرطه، بل الخلاف في التقدم في النطق حالة التعليق فقط، هل يقول أنت حر إذا دخلت الدار، أو إن دخلت الدار فأنت حر، أما وقوع الحرية قبل الدخول من جهة أنها معلقة فلم يقل به أحد.

(1/265)