شرح مختصر الروضة

الْقَوْلُ فِي النَّسْخِ
وَهُوَ لُغَةً: الرَّفْعُ وَالْإِزَالَةُ، يُقَالُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَالرِّيحُ الْأَثَرَ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يُشْبِهُ النَّقْلَ، نَحْوَ نَسَخْتُ الْكِتَابَ، وَاخْتُلِفَ فِي أَيِّهِمَا هُوَ حَقِيقَةٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ فِي الرَّفْعِ.
وَشَرْعًا: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ الْمُتَقَدِّمَ، زَائِلٌ عَلَى وَجْهٍ، لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا، وَهُوَ حَدٌّ لِلنَّاسِخِ لَا لِلنَّسْخِ، لَكِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ.
وَقِيلَ: هُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِخِطَابٍ مُتَقَدِّمٍ، بِخِطَابٍ مُتَرَاخٍ عَنْهُ.
فَالرَّفْعُ: إِزَالَةُ الْحُكْمِ عَلَى وَجْهٍ، لَوْلَاهُ لَبَقِيَ ثَابِتًا، كَرَفْعِ الْإِجَارَةِ بِالْفَسْخِ ; فَإِنَّهُ يُغَايِرُ زَوَالَهَا بِانْقِضَاءِ مُدَّتِهَا. وَبِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ: احْتِرَازٌ مِنْ زَوَالِ حُكْمِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، إِذْ لَيْسَ بِنَسْخٍ. وَبِخِطَابٍ: احْتِرَازٌ مِنْ زَوَالِ الْحُكْمِ بِالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ ; فَلَيْسَ بِنَسْخٍ. وَاشْتِرَاطُ التَّرَاخِي احْتِرَازٌ مِنْ زَوَالِ الْحُكْمِ بِمُتَّصِلٍ، كَالشَّرْطِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ، وَنَحْوِهِ ; فَإِنَّهُ بَيَانٌ لَا نَسْخٌ.
وَالْأَجْوَدُ أَنْ يُقَالَ: رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ، بِمِثْلِهِ، مُتَرَاخٍ عَنْهُ. لِيَدْخُلَ مَا ثَبَتَ بِالْخِطَابِ، أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُ مِنْ إِشَارَةٍ، أَوْ إِقْرَارٍ ; فِيهِمَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«الْقَوْلُ فِي النَّسْخِ: وَهُوَ لُغَةً» - أَيْ: فِي اللُّغَةِ - الرَّفْعُ وَالْإِزَالَةُ، يُقَالُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَنَسَخَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ، أَيْ: رَفَعَتْهُ وَأَزَالَتْهُ ; لِأَنَّ الشَّمْسَ إِذَا قَابَلَتْ مَوْضِعَ الظِّلِّ، ارْتَفَعَ وَزَالَ، وَالرِّيحَ إِذَا مَرَّتْ عَلَى آثَارِ الْمَشْيِ، ارْتَفَعَتْ وَزَالَتْ.
قَوْلُهُ: «وَقَدْ يُرَادُ بِهِ» ، أَيْ: بِالنَّسْخِ، مَا يُشْبِهُ النَّقْلَ نَحْوَ: نَسَخْتُ الْكِتَابَ، فَإِنَّ نَسْخَ الْكِتَابِ لَيْسَ نَقْلًا لِمَا فِي الْمَنْسُوخِ مِنْهُ حَقِيقَةً، لِبَقَائِهِ بَعْدَ النَّسْخِ،

(2/251)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِنَّمَا هُوَ مُشْبِهٌ لِلنَّقْلِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَا فِي الْأَصْلِ صَارَ مِثْلَهُ فِي الْفَرْعِ، لَفْظًا وَمَعْنًى.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَنَاسُخُ الْمَوَارِيثِ، وَهُوَ انْتِقَالُ حَالِهَا بِانْتِقَالِهَا مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ، مَعَ بَقَاءِ الْمَوَارِيثِ فِي نَفْسِهَا.
قَوْلُهُ: «وَاخْتُلِفَ فِي أَيِّهِمَا هُوَ حَقِيقَةٌ» ، أَيِ: اخْتُلِفَ فِي النَّسْخِ، فِي أَيِّ الْمَعْنَيَيْنِ هُوَ حَقِيقَةٌ، هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ، أَوْ فِي النَّقْلِ وَمَا يُشْبِهُهُ؟ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا بِالِاشْتِرَاكِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ، مَجَازٌ فِي النَّقْلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَالثَّالِثُ: عَكْسُ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي النَّقْلِ، مَجَازٌ فِي الْإِزَالَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ. ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَأَصْحَابَهَا الْآمِدِيُّ.
قَوْلُهُ: «وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ فِي الرَّفْعِ» ، أَيِ: الْأَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ النَّسْخَ حَقِيقَةٌ فِي الرَّفْعِ، مَجَازٌ فِي النَّقْلِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ; لِأَنَّ التَّعَارُضَ فِي الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ، قَدْ وَقَعَ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَبَيْنَ الْمَجَازِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَجَازَ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِرَاكِ ; فَيَبْقَى الْأَمْرُ دَائِرًا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ النَّسْخَ حَقِيقَةٌ فِي الرَّفْعِ، مَجَازٌ فِي النَّقْلِ، أَوْ فِي الْعَكْسِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ عَلَى مَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الرَّفْعَ أَخَصُّ مِنَ النَّقْلِ ; فَيَكُونُ أَوْلَى بِحَقِيقَةِ النَّسْخِ.

(2/252)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمَّا أَنَّ الرَّفْعَ أَخَصُّ مِنَ النَّقْلِ ; فَلِأَنَّ الرَّفْعَ يَسْتَلْزِمُ النَّقْلَ، وَالنَّقْلَ لَا يَسْتَلْزِمُ الرَّفْعَ ; فَيَكُونُ الرَّفْعُ أَخَصَّ، وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالْجَوَاهِرِ الْمَحْسُوسَةِ ; فَإِنَّكَ إِذَا رَفَعْتَ حَجَرًا مِنْ مَكَانٍ، اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ نَقْلَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَزُولَ عَنْ مَكَانِهِ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ، بِأَنْ يُعْدِمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَيَقُولَ لَهُ: كُنْ عَدَمًا ; فَيَكُونَ، مَعَ أَنَّهُ لَا رَفْعَ هُنَاكَ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا رَفْعَ هُنَاكَ، بَلْ هُنَاكَ رَفْعٌ إِلَهِيٌّ غَيْرُ مَحْسُوسٍ.
وَأَمَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ الرَّفْعُ أَخَصَّ، كَانَ أَوْلَى بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ ; فَلِأَنَّ الْأَخَصَّ أَبْيَنُ وَأَدَلُّ وَأَوْضَحُ ; فَيَكُونُ بِالْحَقِيقَةِ أَوْلَى ; لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تَدُلُّ بِدُونِ قَرِينَةٍ، وَذَلِكَ لِوُضُوحِهَا، بِكَوْنِهَا مَوْضُوعَةً لِمَعْنَاهَا ; فَحَصَلَ بِذَلِكَ التَّنَاسُبُ فِي الْوُضُوحِ بَيْنَ الْأَخَصِّ وَالْحَقِيقَةِ ; فَكَانَ بِهَا أَوْلَى.
وَقَدْ يُعَارَضُ هَذَا بِأَنَّ الْأَعَمَّ أَكْثَرُ فَائِدَةٍ ; فَيَكُونُ أَوْلَى ; بِأَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي اللَّفْظِ.
أَمَّا أَنَّ الْأَعَمَّ أَكْثَرُ فَائِدَةً ; فَلِأَنَّهُ يَشْمَلُ مِنَ الْأَفْرَادِ أَكْثَرَ مِمَّا يَشْمَلُهُ الْأَخَصُّ، كَالْحَيَوَانِ الَّذِي يَشْمَلُ مِنَ الْأَفْرَادِ أَكْثَرَ مِمَّا يَشْمَلُهُ الْإِنْسَانُ ; فَيَكُونُ أَكْثَرَ فَائِدَةً بِالضَّرُورَةِ.
وَأَمَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَكْثَرَ فَائِدَةً، كَانَ أَوْلَى بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ ; فَلِأَنَّ الْأَلْفَاظَ وُضِعَتْ لِإِفَادَةِ الْمَعَانِي ; فَكُلَّمَا كَانَتْ إِفَادَتُهَا لِلْمَعَانِي أَكْثَرَ، كَانَتْ بِالْحَقِيقَةِ أَوْلَى.
فَإِذَا عَرَفْتَ مَا عَلَى الْمُخْتَارِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» مِنَ التَّوْجِيهِ وَالِاعْتِرَاضِ ; فَالتَّحْقِيقُ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ:
الْإِزَالَةُ وَالنَّقْلُ ; إِمَّا أَنْ يَكُونَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ; فَلَا إِشْكَالَ ; لِأَنَّهُمَا حِينَئِذٍ مُتَرَادِفَانِ ; فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: النَّسْخُ: الْإِزَالَةُ، وَالنَّسْخُ: النَّقْلُ. أَوْ يَكُونَا مُتَفَاوِتَيْنِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ; فَتَكُونُ الْإِزَالَةُ أَوْلَى بِحَقِيقَةِ النَّسْخِ مِنَ النَّقْلِ ; لِأَنَّهُ

(2/253)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَوْفَقُ لِكَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ ; إِذْ كَانَ تَرْجِيحًا بِالْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ عُمُومُ اللَّفْظِ وَخُصُوصُهُ، وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ التَّعَارُضُ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا ; فَيَرْجِعُ إِلَى التَّرْجِيحِ اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، مِنْ أَنَّ النَّسْخَ حَقِيقَةٌ فِي الْإِزَالَةِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَانْتَسَخَتْهُ: أَزَالَتْهُ، وَنَسَخَتِ الرِّيحُ آثَارَ الدِّيَارِ: غَيَّرَتْهَا، وَنَسَخْتُ الْكِتَابَ وَانْتَسَخْتُهُ وَاسْتَنْسَخْتُهُ: كُلُّهُ بِمَعْنًى، وَنَسْخُ الْآيَةِ بِالْآيَةِ: إِزَالَةُ مِثْلِ حُكْمِهَا ; فَالثَّانِيَةُ نَاسِخَةٌ، وَالْأُولَى مَنْسُوخَةٌ، وَالتَّنَاسُخُ فِي الْمِيرَاثِ: أَنْ يَمُوتَ وَرَثَةٌ بَعْدَ وَرَثَةٍ، وَأَصْلُ الْمِيرَاثِ قَائِمٌ لَمْ يُقَسَّمْ. هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِلَفْظِ الْإِزَالَةِ.
قُلْتُ: وَإِنْ جَعَلَ النَّسْخَ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ وَالنَّقْلِ وَمَا يُشْبِهُهُ، وَهُوَ التَّغْيِيرُ، كَانَ أَوْلَى. وَقَدْ صَرَّحَ الْجَوْهَرِيُّ بِلَفْظِ التَّغْيِيرِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَقَدْ أَطَلْتُ الْكَلَامَ فِي هَذَا، وَهُوَ مِنْ رِيَاضِيَّاتِ هَذَا الْعِلْمِ، لَا مِنْ ضَرُورِيَّاتِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي مَبْدَأِ اللُّغَاتِ.
قَوْلُهُ: «وَشَرْعًا» ، أَيْ: وَالنَّسْخُ فِي الشَّرْعِ، قَالَ الْمُعْتَزِلَةُ: هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ الْمُتَقَدِّمَ زَائِلٌ عَلَى وَجْهٍ، لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ حَدٌّ لِلنَّاسِخِ، لَا لِلنَّسْخِ» ، أَيْ: تَعْرِيفُ النَّسْخِ بِالْخِطَابِ الدَّالِّ، إِلَى آخِرِهِ، غَيْرُ مُطَابِقٍ ; لِأَنَّ الْخِطَابَ نَاسِخٌ، لَا نَسْخٌ، وَلِأَنَّ النَّسْخَ مَصْدَرُ: نَسَخَ

(2/254)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَنْسَخُ نَسْخًا، وَالْخِطَابُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَصْدَرَ خَاطَبَ خِطَابًا، حَتَّى يَكُونَ تَعْرِيفُ مَصْدَرٍ بِمَصْدَرٍ، وَهُوَ مُطَابِقٌ فِي اللَّفْظِ، إِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ الْقَوْلُ الدَّالُّ، كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ عِنْدَ تَعْرِيفِ الْحُكْمِ.
قَوْلُهُ: «لَكِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ» ، أَيْ: تَعْرِيفُ النَّسْخِ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِمُ: الْخِطَابُ الدَّالُّ ; لِأَنَّ النَّاسِخَ يَسْتَلْزِمُ النَّسْخَ، أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةَ الْفَاعِلِ عَلَى الْفِعْلِ، أَوِ الْمُؤَثِّرِ عَلَى الْأَثَرِ.
وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَكَانِ: أَنَّ النَّسْخَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْإِضَافِيَّةِ، الَّتِي يَدُلُّ اللَّفْظُ مِنْهَا عَلَى مُتَعَلِّقَاتٍ لَهُ ; فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نَاسِخٍ، وَمَنْسُوخٍ، وَمَنْسُوخٍ لَهُ، وَمَنْسُوخٍ بِهِ، وَنَسْخٍ ; فَيَجِبُ الْكَشْفُ عَنْ حَقَائِقِ هَذِهِ الْأُمُورِ، لِيَتَمَيَّزَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ.
فَالنَّاسِخُ فِي الْحَقِيقَةِ: هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ; لِأَنَّهُ الرَّافِعُ لِلْأَحْكَامِ، وَالْمُزِيلُ لَهَا، وَيُطْلَقُ النَّاسِخُ مَجَازًا عَلَى اللَّفْظِ الَّذِي يُزِيلُ اعْتِبَارَ لَفْظِ غَيْرِهِ، وَعَلَى الْحُكْمِ الَّذِي يَرْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ، كَمَا يُقَالُ: هَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْ تِلْكَ، وَهَذَا الْحُكْمُ نَسَخَ ذَلِكَ الْحُكْمَ، كَمَا يُقَالُ: وُجُوبُ التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ نَسَخَ وُجُوبَ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَالْمَنْسُوخُ هُوَ الْحُكْمُ الْمُرْتَفِعُ بِغَيْرِهِ كَالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَالْمَنْسُوخُ لَهُ عِلَّةُ النَّسْخِ، وَهُوَ الْمَصْلَحَةُ أَوِ الْحِكْمَةُ الْمُقْتَضِيَةُ لَهُ، أَوْ إِرَادَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِتِلْكَ الْحِكْمَةِ، فَإِنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِلَّةٌ بَعِيدَةٌ، وَالْحِكْمَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلنَّسْخِ عِلَّةٌ قَرِيبَةٌ.
وَالْمَنْسُوخُ بِهِ هُوَ اللَّفْظُ، وَالْحُكْمُ الرَّافِعُ لِغَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ}

(2/255)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الْبَقَرَةِ: 144] ، الدَّالِّ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَهَذَا الْمَنْسُوخُ بِهِ، هُوَ الَّذِي سَبَقَ أَنَّهُ يُسَمَّى نَاسِخًا مَجَازًا.
وَالنَّسْخُ نِسْبَةٌ بَيْنَ هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ النَّاسِخِ الْمَنْسُوخَ بِهِ، فِي إِزَالَةِ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ.
فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا، عَرَفْتَ أَنَّ تَعْرِيفَ النَّسْخِ بِالْخِطَابِ الدَّالِّ تَعْرِيفٌ لِلنَّسْخِ بِالنَّاسِخِ، وَلَكِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ، لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ» ، أَيْ، فِي تَعْرِيفِ النَّسْخِ: «هُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِخِطَابٍ مُتَقَدِّمٍ، بِخِطَابٍ مُتَرَاخٍ عَنْهُ» . هَذَا تَعْرِيفٌ آخَرُ لِلنَّسْخِ، مُطَابِقٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى ; لِأَنَّ الرَّافِعَ مَصْدَرٌ، كَمَا أَنَّ النَّسْخَ مَصْدَرٌ وَلَيْسَ هَذَا تَعْرِيفًا لِلنَّسْخِ بِالنَّاسِخِ.
وَقَوْلُهُ: «بِخِطَابٍ مُتَقَدِّمٍ» ، هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالثَّابِتِ.
وَقَوْلُهُ: «بِخِطَابٍ مُتَرَاخٍ عَنْهُ» ، مُتَعَلِّقٌ بِرَفْعِ الْحُكْمِ.
وَتَقْرِيرُهُ النَّسْخَ: هُوَ أَنْ يُرْفَعَ بِخِطَابٍ مُتَرَاخٍ، حُكْمٌ ثَبَتَ بِخِطَابٍ مُتَقَدِّمٍ.
ثُمَّ فَسَّرَ الرَّفْعَ بِأَنَّهُ إِزَالَةُ الْحُكْمِ عَلَى وَجْهٍ، لَوْلَاهُ لَبَقِيَ ثَابِتًا، كَرَفْعِ الْإِجَارَةِ بِالْفَسْخِ ; فَإِنَّهُ يُغَايِرُ زَوَالَهَا بِانْقِضَاءِ مُدَّتِهَا ; لِأَنَّ فَسْخَهَا قَطْعٌ لِدَوَامِهَا، لِسَبَبٍ خَفِيٍّ عَنِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، وَانْقِضَاءُ مُدَّتِهَا هُوَ ارْتِفَاعُ حُكْمِهَا لِسَبَبٍ عَلِمَاهُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، وَهُوَ انْقِضَاءُ الْأَجَلِ ; فَمَنِ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا سَنَةً، عَلِمَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ أَنَّ عِنْدَ انْتِهَاءِ السَّنَةِ، يَرْتَفِعُ حُكْمُ الْإِجَارَةِ، وَلَوِ انْقَطَعَ مَاءُ الْأَرْضِ، أَوْ بَانَتْ مُسْتَحَقَّةً فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ ; فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ، مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ

(2/256)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِانْقِطَاعِ مَاءِ الْأَرْضِ، وَاسْتِحْقَاقِهَا ; فَكَذَلِكَ نَسْخُ الْحُكْمِ، هُوَ قَطْعٌ لِدَوَامِهِ، لَا بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّتِهِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى نَسْخًا، كَمَا أَنَّ انْقِضَاءَ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ لَا يُسَمَّى فَسْخًا.
وَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا أَنَّ النَّسْخَ لَوْ كَانَ قَطْعًا لِدَوَامِ الْحُكْمِ، لَلَزِمَ مِنْهُ تَغَيُّرُ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ قَطْعًا لِدَوَامِ الْحُكْمِ ; إِلَّا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُسْتَمِرًّا فِي عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَمَا لَا يَكُونُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ قَطْعًا لِدَوَامِهَا، إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُسْتَمِرَّةً بِحُكْمِ الْعَقْدِ إِلَى آخِرِ الْمُدَّةِ، وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ مُسْتَمِرًّا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ انْقَطَعَ قَبْلَ غَايَتِهِ بِالنَّسْخِ، لَزِمَ تَغَيُّرُ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَكُونُ قَدْ عَلِمَهُ مُسْتَمِرًّا، وَمَا اسْتَمَرَّ، بَلِ انْقَطَعَ بِالنَّسْخِ ; فَيَلْزَمُ مِنْهُ وُقُوعُ خِلَافِ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَلِهَذَا فَرَّ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَجَمَاعَةٌ، إِلَى أَنْ قَالُوا: النَّسْخُ بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ.
وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي «الْمَعَالِمِ» ، وَحَكَاهُ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَاخْتَارَهُ الْقَرَافِيُّ. وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ النَّسْخَ تَخْصِيصًا زَمَانِيًّا، أَيْ: أَنَّ الْخِطَابَ الثَّانِيَ بَيَّنَ أَنَّ الْأَزْمِنَةَ بَعْدَهُ لَمْ يَكُنْ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِيهَا مُرَادًا مِنَ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ، كَمَا أَنَّ التَّخْصِيصَ فِي الْأَعْيَانِ كَذَلِكَ، وَرُبَّمَا وَقَعَ التَّعَرُّضُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَبِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ احْتِرَازٌ» ، إِلَى آخِرِهِ هَذَا بَيَانُ احْتِرَازَاتٍ وَقَعَتْ فِي الْحَدِّ الْمَذْكُورِ:

(2/257)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهَا: قَوْلُنَا: رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِخِطَابٍ مُتَقَدِّمٍ: احْتِرَازٌ مِنْ زَوَالِ حُكْمِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ، كَمَا نَقُولُ: الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ; فَهَذَا حُكْمٌ ثَبَتَ بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، فَإِذَا أَثْبَتْنَا فِي الذِّمَّةِ حَقًا بِشَاهِدَيْنِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ; فَقَدْ رَفَعْنَا حُكْمَ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَشَغَلْنَاهَا بِالْحَقِّ، مَعَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَرْفُوعَ هَاهُنَا لَيْسَ ثَابِتًا بِخِطَابٍ مُتَقَدِّمٍ، بَلْ بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ. وَمَعْنَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ: هُوَ الْبَقَاءُ عَلَى حُكْمِ الْعَدَمِ فِي الْمُحْدَثَاتِ قَبْلَ وُجُودِهَا.
الِاحْتِرَازُ الثَّانِي: قَوْلُنَا: رَفْعُ الْحُكْمِ بِخِطَابٍ: احْتِرَازٌ مِنْ زَوَالِ الْحُكْمِ بِالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ، أَوْ جُنَّ، انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَحْكَامُ التَّكْلِيفِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ ; لِأَنَّ انْقِطَاعَ الْأَحْكَامِ عَنْهُمَا لَمْ يَكُنْ بِخِطَابٍ، وَكَذَلِكَ ارْتِفَاعُ حُكْمِ الصَّوْمِ بِمَجِيءِ اللَّيْلِ، وَحُكْمِ الْفِطْرِ بِمَجِيءِ النَّهَارِ لَيْسَ نَسْخًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالْخِطَابِ، بَلْ بِانْتِهَاءِ غَايَةِ الْحُكْمِ، وَانْقِضَاءِ وَقْتِهِ، وَيَلْزَمُ مَنْ عَرَّفَ النَّسْخَ بِانْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ، أَنْ يَجْعَلَ دُخُولَ اللَّيْلِ نَسْخًا لِلصَّوْمِ ; لِأَنَّ بِدُخُولِهِ بَانَ انْتِهَاءُ مُدَّةِ الصَّوْمِ، لَكِنْ لَمْ يُسَمِّ الْأُصُولِيُّونَ ذَلِكَ نَسْخًا.
الِاحْتِرَازُ الثَّالِثُ: اشْتِرَاطُ التَّرَاخِي فِي الْخِطَابِ الرَّافِعِ، حَيْثُ قُلْنَا: رَفْعُ الْحُكْمِ بِخِطَابٍ مُتَرَاخٍ: احْتِرَازٌ مِنْ زَوَالِ الْحُكْمِ بِخِطَابٍ مُتَّصِلٍ، كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ، نَحْوُ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ «إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ» قَدْ رَفَعَ حُكْمَ عُمُومِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَقَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً، هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ رَفَعَ عُمُومَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، حَتَّى رَدَّهُ إِلَى اثْنَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ

(2/258)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَعَالَى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [الْبَقَرَةِ: 230] ; فَالْغَايَةُ الْمَذْكُورَةُ رَفَعَتْ عُمُومَ التَّحْرِيمِ ; فَهَذَا كُلُّهُ وَأَمْثَالُهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ ; لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ رَفْعًا لِحُكْمٍ بِخِطَابٍ، لَكِنَّ ذَلِكَ الْخِطَابَ غَيْرُ مُتَرَاخٍ ; فَهُوَ تَخْصِيصٌ لَا نَسْخٌ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا: فَإِنَّهُ بَيَانٌ لَا نَسْخٌ ; لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانٌ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَالْأَجْوَدُ» ، أَيْ: فِي تَعْرِيفِ النَّسْخِ، «أَنْ يُقَالَ: رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ، بِمِثْلِهِ مُتَرَاخٍ عَنْهُ» ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَجْوَدَ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا ثَبَتَ بِالْخِطَابِ، أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُ مِنْ إِشَارَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ فِيهِمَا، أَيْ: فِي الْمَنْسُوخِ وَالنَّاسِخِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ تَارَةً بِالْخِطَابِ، وَتَارَةً بِمَا قَامَ مَقَامَ الْخِطَابِ، وَرَفَعَ ذَلِكَ، وَالرَّفْعُ بِهِ يُسَمَّى نَسْخًا، وَلَوِ اقْتَصَرْنَا عَلَى قَوْلِنَا: رَفْعُ الْحُكْمِ بِالْخِطَابِ، كَمَا سَبَقَ فِي التَّعْرِيفِ الْأَوَّلِ، لَخَرَجَ مِنْهُ مَا ثَبَتَ بِغَيْرِ الْخِطَابِ، كَالْإِشَارَةِ، وَالْفِعْلِ، وَالْإِقْرَارِ، أَعْنِي: التَّقْرِيرَ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ السُّنَّةِ، كَمَا سَبَقَ فِيهَا ; فَلَا يَكُونُ الْحَدُّ جَامِعًا.
قَوْلُهُ: «بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ بِمِثْلِهِ» ، أَيْ: بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ مِثْلِهِ، وَالْقَوْلُ فِي تَعَلُّقِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ هَهُنَا، كَالْقَوْلِ فِيهِ فِي التَّعْرِيفِ السَّابِقِ، وَهُوَ أَنَّ «بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ» يَتَعَلَّقُ بِالثَّابِتِ، وَبِمِثْلِهِ يَتَعَلَّقُ «بِرَفْعٍ» .
فَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ النَّسْخَ: هُوَ أَنْ يُرْفَعَ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ، حُكْمٌ ثَبَتَ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ.
وَاخْتَارَ لَفْظَ الطَّرِيقِ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي «الْمَحْصُولِ» ; لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنَ الْخِطَابِ كَمَا بَيَّنَّا.
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ التَّرَاخِي فِي النَّسْخِ ; فَفَائِدَتُهُ الِاحْتِرَازُ مِنْ تَهَافُتِ الْكَلَامِ وَتَنَاقُضِهِ فِي قَوْلِهِ الْقَائِلِ: افْعَلْ، لَا تَفْعَلْ. وَصَلِّ، لَا تُصَلِّ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: الْمُخْتَارُ فِي النَّسْخِ

(2/259)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنَّهُ خِطَابُ الشَّارِعِ، الْمَانِعُ مِنِ اسْتِمْرَارِ مَا ثَبَتَ مِنْ حُكْمِ خِطَابٍ شَرْعِيٍّ سَابِقٍ.
قُلْتُ: وَيَرِدُ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ، مِنْ عَدَمِ الْجَمْعِ بِاسْتِعْمَالِ خُصُوصِ لَفْظِ الْخِطَابِ، دُونَ عُمُومِ لَفْظِ الطَّرِيقِ.

(2/260)


وَأُورِدُ عَلَى تَعْرِيفِهِ بِالرَّفْعِ: أَنَّ الْحُكْمَ ; إِمَّا ثَابِتٌ ; فَلَا يَرْتَفِعُ، أَوْ غَيْرُ ثَابِتٍ ; فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الرَّفْعِ، وَلِأَنَّ خِطَابَ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمٌ ; فَلَا يَرْتَفِعُ. وَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ حَسَنًا ; فَرَفْعُهُ قَبِيحٌ، وَيُوجِبُ انْقِلَابَ الْحَسَنِ قَبِيحًا، وَإِلَّا فَابْتِدَاءُ شَرْعِهِ أَقْبَحُ. وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْمَنْسُوخُ مُرَادًا غَيْرَ مُرَادٍ ; فَيَتَنَاقَضُ. وَلِأَنَّهُ يُوهِمُ الْبَدَاءَ، وَهُوَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّهُ ثَابِتٌ، وَارْتِفَاعُهُ بِالنَّاسِخِ مَعَ إِرَادَةِ الشَّارِعِ، أَوْ بِانْتِهَاءِ مُدَّتِهِ، غَيْرُ مُمْتَنِعٍ قَطْعًا. وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّهُ سَاقِطٌ عَنَّا، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَعْرِيفِ الْحُكْمِ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِتَعْرِيفِهِ بِالْخِطَابِ الْقَدِيمِ: إِنَّ الْمُرْتَفِعَ التَّعَلُّقُ. أَوْ: إِنَّ مَا كَانَ الْإِتْيَانُ بِهِ لَازِمًا لِلْمُكَلَّفِ، زَالَ. وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ مِنْ فُرُوعِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، بَلْ حُسْنُهُ شَرْعِيٌّ ; فَيَجُوزُ وَجُودُهُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ; فَإِذَنِ انْقِلَابُهُ قَبِيحًا مُلْتَزَمٌ. وَالتَّنَاقُضُ مُنْدَفِعٌ بِأَنَّ الْإِرَادَةَ تَعَلَّقَتْ بِوُجُودِهِ قَبْلَ النَّسْخِ، وَبِعَدَمِهِ بَعْدَهُ. وَالْبَدَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ، لِلْقَطْعِ بِكَمَالِ عَلَمِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ عَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ تَارَةً ; فَأَثْبَتَهُ، وَالْمَفْسَدَةَ تَارَةً ; فَنَفَاهُ، رِعَايَةً لِلْأَصْلَحِ، تَفَضُّلًا مِنْهُ لَا وُجُوبًا، أَوِ امْتِحَانًا لِلْمُكَلَّفِينَ بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَأُورِدُ عَلَى تَعْرِيفِهِ بِالرَّفْعِ» ، إِلَى آخِرِهِ. مَعْنَاهُ أَنْ تَعْرِيفَ النَّسْخِ بِأَنَّهُ رَفْعُ الْحُكْمِ، يَرِدُ عَلَيْهِ إِشْكَالَاتٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُكْمَ قَبْلَ النَّسْخِ إِمَّا ثَابِتٌ، أَوْ غَيْرُ ثَابِتٍ، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا، لَمْ يُمْكِنْ رَفْعُهُ بِالنَّاسِخِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ ارْتِفَاعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْحُكْمِ الطَّارِئِ، بِأَوْلَى مِنِ انْدِفَاعِ الطَّارِئِ بِالثَّابِتِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى، لِاسْتِقْرَارِ الثَّابِتِ وَتَمَكُّنِهِ ; فَيَكُونُ النَّاسِخُ الطَّارِئُ دَخِيلًا عَلَيْهِ، بِمَثَابَةِ الْغَرِيبِ إِذَا دَخَلَ غَيْرَ وَطَنِهِ ; فَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ صَاحِبِ الْوَطَنِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتٍ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الرَّفْعِ، بَلْ هُوَ مُرْتَفِعٌ بِنَفْسِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ خِطَابَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدِيمٌ، وَالْقَدِيمُ لَا يَصِحُّ رَفْعُهُ ; لِأَنَّ الرَّفْعَ

(2/261)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَقْلٌ، وَإِزَالَةٌ، وَتَغْيِيرٌ كَمَا سَبَقَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى الْقَدِيمِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْحُكْمَ الْمَنْسُوخَ ; إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا، فَإِنْ كَانَ حَسَنًا، امْتَنَعَ رَفْعُهُ، لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَفْعَ الْحَسَنِ قَبِيحٌ.
الثَّانِي: أَنَّ رَفْعَهُ يُوجِبُ انْقِلَابَ الْحَسَنِ قَبِيحًا، إِذْ لَوْلَا قُبْحُهُ لَمَا رُفِعَ.
وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ قَبْلَ رَفْعِهِ حَسَنٌ ; فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ انْقِلَابُ الْحَسَنِ قَبْلَ النَّسْخِ قَبِيحًا بَعْدَهُ، لَكِنَّ هَذَا قَلْبٌ لِلْحَقَائِقِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا ; فَابْتِدَاءُ شَرْعِهِ أَقْبَحُ مِنْ رَفْعِ الْحَسَنِ ; لِأَنَّ رَفْعَ الْحَسَنِ هُوَ تَفْوِيتُ خَيْرٍ، وَشَرْعَ الْقَبِيحِ إِيقَاعُ شَرٍّ، وَهُوَ أَقْبَحُ ; لِأَنَّ إِيقَاعَ الشَّرِّ مُضِرٌّ، وَتَفْوِيتَ الْخَيْرِ قَدْ لَا يَضُرُّ.
الرَّابِعُ: أَنَّ رَفْعَ الْحُكْمِ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُرَادًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، غَيْرَ مُرَادٍ لَهُ، وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ أَثْبَتَهُ، قَدْ أَمَرَ بِهِ وَأَرَادَهُ، وَمِنْ حَيْثُ رَفَعَهُ، قَدْ نَهَى عَنْهُ وَلَمْ يُرِدْهُ ; فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا، غَيْرَ مُرَادٍ.
الْخَامِسُ: أَنَّ النَّسْخَ يَدُلُّ عَلَى الْبَدَاءِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّارِعَ بَدَا لَهُ مَا كَانَ خَفِيٌّ عَنْهُ، حَتَّى نَهَى عَمَّا أَمَرَ بِهِ، أَوْ أَمَرَ بِمَا نَهَى عَنْهُ، لَكِنَّ الْبَدَاءَ عَلَى الشَّارِعِ مُحَالٌ.
قَوْلُهُ: «وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذِهِ أَجْوِبَةُ الْإِشْكَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ.
فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ - وَهُوَ قَوْلُهُمُ: الْحُكْمُ إِمَّا ثَابِتٌ ; فَلَا يَرْتَفِعُ، أَوْ غَيْرُ ثَابِتٍ،

(2/262)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الرَّفْعِ - هُوَ أَنْ يُقَالَ: الْحُكْمُ ثَابِتٌ، لَكِنَّ ارْتِفَاعَهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ قَطْعًا ; إِمَّا بِانْتِهَاءِ مُدَّتِهِ، كَمَا اخْتَارَهُ الْإِمَامُ وَأَصْحَابُهُ، أَوْ بِالنَّاسِخِ مَعَ إِرَادَةِ الشَّارِعِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ قَطْعًا ; لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ لِذَاتِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ.
قَوْلُهُمْ: لَيْسَ ارْتِفَاعُ الثَّابِتِ بِالطَّارِئِ أَوْلَى مِنِ انْدِفَاعِ الطَّارِئِ بِالثَّابِتِ.
قُلْنَا: بَلْ هَذَا أَوْلَى لِقُوَّةِ الْوَارِدِ، وَلِهَذَا يَتَأَثَّرُ الْمَاءُ بِوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ، دُونَ وُرُودِهِ عَلَيْهَا.
وَالْجَوَابُ «عَنِ الثَّانِي» - وَهُوَ قَوْلُهُمْ: خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمٌ فَلَا يَرْتَفِعُ -: هُوَ أَنَّهُ سَاقِطٌ عَنَّا، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَعْرِيفِ الْحُكْمِ، بِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْخِطَابِ، لَا نَفْسُ الْخِطَابِ ; فَالْمُرْتَفِعُ بِالنَّسْخِ مُقْتَضَى الْخِطَابِ الْقَدِيمِ، لَا نَفْسُ الْخِطَابِ الْقَدِيمِ.
قَوْلُهُ: «وَعَلَى الْقَوْلِ بِتَعْرِيفِهِ بِالْخِطَابِ الْقَدِيمِ» . إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَإِنْ عَرَّفْنَا الْحُكْمَ بِالْخِطَابِ الْقَدِيمِ ; فَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرْتَفِعَ بِالنَّسْخِ تَعَلُّقُ الْخِطَابِ بِالْمُكَلَّفِ، لَا نَفْسُ الْخِطَابِ، كَمَا يَزُولُ تَعَلُّقُ الْخِطَابِ بِهِ، لِطَرَيَانِ الْعَجْزِ وَالْجُنُونِ، ثُمَّ يَعُودُ التَّعَلُّقُ بِعَوْدِ الْقُدْرَةِ وَالْعَقْلِ، وَالْخِطَابُ فِي نَفْسِهِ لَا يَتَغَيَّرُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: مَعْنَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ: هُوَ أَنَّ مَا كَانَ الْإِتْيَانُ بِهِ لَازِمًا لِلْمُكَلَّفِ زَالَ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُحَالٍ، وَلَا مُسْتَلْزِمٍ لِارْتِفَاعِ الْخِطَابِ الْقَدِيمِ، وَهَذَا الْوَجْهُ وَالَّذِي قَبْلَهُ مُتَقَارِبَانِ، أَوْ سِيَّانِ.
وَالْجَوَابُ «عَنِ الثَّالِثِ» - وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِنْ كَانَ الْحُكْمُ حَسَنًا ; فَرَفْعُهُ قَبِيحٌ، وَإِلَّا ; فَابْتِدَاءُ شَرْعِهِ أَقْبَحُ -: هُوَ «أَنَّهُ مِنْ فُرُوعِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ»

(2/263)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، «بَلْ حُسْنُهُ» ، أَيْ: حُسْنُ الْحُكْمِ، «شَرْعِيٌّ» ، أَيْ: ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ أَيْضًا، «فَيَجُوزُ وُجُودُهُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ» بِاعْتِبَارِ وُرُودِ أَمْرِ الشَّرْعِ بِهِ، وَنَهْيِهِ عَنْهُ، «فَإِذَنِ انْقِلَابُهُ قَبِيحًا مُلْتَزَمٌ» ، أَيْ: فَإِنْ كَانَ حُسْنُ الْحُكْمِ شَرْعِيًّا كَمَا ذَكَرْنَا ; فَنَحْنُ نَلْتَزِمُ جَوَازَ انْقِلَابِهِ قَبِيحًا، إِذْ مَعْنَاهُ - عَلَى قَوْلِنَا - أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِهَذَا الْحُكْمِ، ثُمَّ نَهَى عَنْهُ، وَلَا مَعْنَى لِحُسْنِهِ وَقُبْحِهِ عِنْدَنَا إِلَّا هَذَا، وَلَا مَجَالَ فِيهِ ; فَمَعْنَى انْقِلَابِ الْحَسَنِ قَبِيحًا: هُوَ صَيْرُورَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِمَصْلَحَةٍ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الرَّابِعِ - وَهُوَ قَوْلُهُمْ: يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْمَنْسُوخُ مُرَادًا، غَيْرَ مُرَادٍ ; فَيَتَنَاقَضُ، بِأَنَّ التَّنَاقُضَ مُنْدَفِعٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ تَعَلَّقَتْ بِوُجُودِهِ قَبْلَ النَّسْخِ، وَبِعَدَمِهِ بَعْدَهُ، وَالتَّنَاقُضُ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ اتِّحَادِ وَقْتِ التَّعَلُّقِ. أَمَّا إِرَادَةُ وُجُودِ الشَّيْءِ وَعَدَمِهِ فِي وَقْتَيْنِ ; فَلَا تَنَاقُضَ فِيهِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْخَامِسِ - وَهُوَ لُزُومُ الْبَدَاءِ - فَإِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْقَطْعِ، أَيْ: لِأَنَّا نَقْطَعُ بِكَمَالِ عَلَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْبَدَاءُ يُنَافِي كَمَالَ الْعِلْمِ ; لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ الْمَحْضَ ; لِأَنَّهُ ظُهُورُ الشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَفِيًّا.
وَهُوَ مَصْدَرُ بَدَا يَبْدُو بِدَاءً. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: بَدَا لَهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ بَدَاءٌ مَمْدُودٌ، أَيْ: نَشَأَ لَهُ فِيهِ رَأْيٌ، وَإِذَا ثَبَتَ اسْتِحَالَةُ الْبَدَاءِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ; فَتَوْجِيهُ النَّسْخِ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فِي الْحُكْمِ تَارَةً ; فَأَثْبَتَهُ بِالشَّرْعِ، وَعَلِمَ الْمَفْسَدَةِ فِيهِ تَارَةً ; فَنَفَاهُ بِالنَّسْخِ، وَلِذَلِكَ فَائِدَتَانِ:

(2/264)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِحْدَاهُمَا: رِعَايَةُ الْأَصْلَحِ لِلْمُكَلَّفِينَ، تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا وُجُوبًا.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: امْتِحَانُ الْمُكَلَّفِينَ بِامْتِثَالِهِمُ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ، خُصُوصًا فِي أَمْرِهِمْ بِمَا كَانُوا مَنْهِيِّينَ عَنْهُ، وَنَهْيِهِمْ عَمَّا كَانُوا مَأْمُورِينَ بِهِ، فَإِنَّ الِانْقِيَادَ لَهُ أَدَلُّ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(2/265)


ثُمَّ هُنَا مَسَائِلُ:
الْأُولَى: وَقَعَ النِّزَاعُ فِي جَوَازِ النَّسْخِ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَفِي وُقُوعِهِ، وَالْكُلُّ ثَابِتٌ.
أَمَّا الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْيَهُودِ ; فَدَلِيلُهُ مَا سَبَقَ مِنْ جَوَازِ دَوَرَانِ الْحُكْمِ مَعَ الْمَصَالِحِ، وُجُودًا وَعَدَمًا، كَغِذَاءِ الْمَرِيضِ، وَأَيْضًا الْوُقُوعُ لَازِمٌ لِلْجَوَازِ، وَقَدْ حُرِّمَ نِكَاحُ الْأَخَوَاتِ بَعْدَ جَوَازِهِ فِي شَرْعِ آدَمَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بَعْدَ جَوَازِهِ فِي شَرْعِ يَعْقُوبَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} ، وَهُوَ حَقِيقَةُ النَّسْخِ.
وَأَمَّا الشَّرْعِيُّ ; فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} ، {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} ، وَنَسْخُ الِاعْتِدَادِ بِالْحَوْلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ، وَخَالَفَ أَبُو مُسْلِمٍ، لِقَوْلِهِ: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} ، وَالنَّسْخُ إِبْطَالٌ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذِ الْمُرَادُ لَا يَلْحَقُهُ الْكَذِبُ، ثُمَّ الْبَاطِلُ غَيْرُ الْإِبْطَالِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«ثُمَّ هُنَا مَسَائِلُ» ، أَيْ: لَمَّا فَرَغَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِّ النَّسْخِ، نَذْكُرُ هَهُنَا مَسَائِلَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ «الْأُولَى: وَقَعَ النِّزَاعُ» بَيْنَ النَّاسِ فِي «جَوَازِ النَّسْخِ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَفِي وُقُوعِهِ» ، أَيِ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي النَّسْخِ، وَالْخِلَافُ ; إِمَّا فِي جَوَازِهِ، أَوْ فِي وُقُوعِهِ.
وَالْخِلَافُ فِي جَوَازِهِ ; إِمَّا عَقْلًا، أَوْ شَرْعًا، وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الشَّرَائِعِ عَلَى جَوَازِهِ عَقْلًا، وَوُقُوعِهِ سَمْعًا، إِلَّا الشَّمْعُونِيَّةَ مِنَ الْيَهُودِ ; فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْأَمْرَيْنِ، وَأَمَّا الْعَنَانِيَّةُ مِنْهُمْ، وَأَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا جَوَازَ النَّسْخِ

(2/266)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شَرْعًا، لَا عَقْلًا.
قَوْلُهُ: «وَالْكُلُّ ثَابِتٌ» ، أَيْ: جَوَازُ النَّسْخِ عَقْلًا وَشَرْعًا وَوُقُوعُهُ.
«أَمَّا الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ - خِلَافًا لِبَعْضِ الْيَهُودِ» ، وَهُمُ الشَّمْعُونِيَّةُ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ - «فَدَلِيلُهُ» ، أَيْ: فَدَلِيلُ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ، مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: «مَا سَبَقَ مِنْ جَوَازِ دَوَرَانِ الْحُكْمِ مَعَ الْمَصَالِحِ وُجُودًا وَعَدَمًا» ، أَيْ: يَجُوزُ وُجُودُ الْحُكْمِ لِوُجُودِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ، وَيَنْتَفِي لِانْتِفَائِهَا كَغِذَاءِ الْمَرِيضِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ فِي كَيْفِيَّتِهِ، وَكَمِّيَّتِهِ، وَزَمَانِهِ، لِاخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ فِي ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الطَّبِيبَ يَنْهَاهُ الْيَوْمَ عَمَّا يَأْمُرُهُ بِهِ غَدًا، وَيَأْمُرُهُ بِتَقْلِيلِ الْغِذَاءِ وَتَلْطِيفِهِ الْيَوْمَ، وَيَأْمُرُهُ بِتَكْثِيرِهِ وَتَغْلِيظِهِ غَدًا، لِمَا ذَكَرْنَاهُ ; فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ فِي وَقْتٍ ; فَيُؤْمَرُ بِهِ تَحْصِيلًا لَهَا، وَيَكُونُ فِيهِ مَفْسَدَةٌ فِي وَقْتٍ ; فَيَنْهَى عَنْهُ نَفْيًا لَهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «الْوُقُوعَ لَازِمٌ لِلْجَوَازِ» ، كَذَا وَقَعَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْجَوَازَ لَازِمٌ لِلْوُقُوعِ ; لِأَنَّ لَازِمَ الشَّيْءِ هُوَ مَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ ذَلِكَ الشَّيْءِ،

(2/267)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْجَوَازُ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ الْوُقُوعِ ; لِأَنَّ الْوُقُوعَ يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ الْجَوَازِ، إِذْ كُلُّ وَاقِعٍ جَائِزٌ، وَلَيْسَ كُلُّ جَائِزٍ وَاقِعًا.
وَتَصْحِيحُ عِبَارَةِ «الْمُخْتَصَرِ» أَنْ يُقَالَ: الْوُقُوعُ مَلْزُومٌ أَوْ مُسْتَلْزِمٌ لِلْجَوَازِ، وَهَذَا هُوَ كَمَالُ الْمُرَادِ بِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجَوَازَ لَازِمٌ لِلْوُقُوعِ، وَقَدْ وَقَعَ النَّسْخُ ; فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ عَقْلًا، دَلَالَةَ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ. وَبَيَانُ وُقُوعِهِ بِصُوَرٍ:
إِحْدَاهُنَّ: أَنَّ نِكَاحَ الْأَخَوَاتِ، أَيْ: نِكَاحَ الرَّجُلِ أُخْتَهُ، حُرِّمَ فِي شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ قَبْلَهُ، بَعْدَ أَنْ كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِ آدَمَ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ حُرِّمَ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِ يَعْقُوبَ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ بِنْتَيْ خَالِهِ رَاحِيلَ وَلِيَا.
الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النِّسَاءِ: 160] ، وَتَحْرِيمُ الشَّيْءِ بَعْدَ تَحْلِيلِهِ: هُوَ حَقِيقَةُ النَّسْخِ، وَحَيْثُ وَقَعَتْ هَذِهِ الصُّوَرُ وَغَيْرُهَا مِنَ النَّسْخِ، دَلَّ عَلَى جَوَازِهِ عَقْلًا بِالضَّرُورَةِ، هَذَا بَيَانُ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ.
قَوْلُهُ: «وَأَمَّا الشَّرْعِيُّ» ، أَيْ: وَأَمَّا الْجَوَازُ الشَّرْعِيُّ ; فَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [الْبَقَرَةِ: 107]

(2/268)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
، وَهُوَ نَصٌّ فِي وُقُوعِ النَّسْخِ. وَقَدْ سَبَقَ مَعْنَى الْآيَةِ فِي تَعْرِيفِ النَّسْخِ لُغَةً مِنْ كَلَامِ الْجَوْهَرِيِّ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النَّحْلِ: 101] ، وَتَبْدِيلُ حُكْمِ الْآيَةِ، أَوْ لَفْظِهَا بِغَيْرِهِ، هُوَ النَّسْخُ.
الثَّالِثُ: نَسْخُ الِاعْتِدَادِ بِالْحَوْلِ بِهِ، أَيْ: بِالِاعْتِدَادِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ كَانَتْ تَعْتَدُّ حَوْلًا، عَمَلًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [الْبَقَرَةِ: 240] ، أَيْ: مَتِّعُوهُنَّ مِنْ تَرِكَةِ أَزْوَاجِهِنَّ مَتَاعًا، أَيْ: أَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ إِلَى الْحَوْلِ مَا لَمْ يَخْرُجْنَ مِنْ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِنَّ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [الْبَقَرَةِ: 235] ، وَهَذَا نَاسِخٌ مُؤَخَّرٌ فِي التَّنْزِيلِ، مُقَدَّمٌ فِي التِّلَاوَةِ.
الرَّابِعُ: نَسْخُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [الْبَقَرَةِ: 180] الْآيَةَ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النِّسَاءِ: 11]

(2/269)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْآيَاتِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ; فَإِنَّهُ فَصَّلَ فِيهَا حُكْمَ الْمِيرَاثِ، وَنَسَخَ بِهِ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ، أَوْ إِنَّهَا نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ; فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ; فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ، وَهُوَ جَوَازُ النَّسْخِ شَرْعًا.
قَوْلُهُ: «وَخَالَفَ أَبُو مُسْلِمٍ» يَعْنِي: الْأَصْفَهَانِيَّ، فِي جَوَازِ النَّسْخِ شَرْعًا كَمَا حَكَيْنَاهُ، أَيْ: أَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ النَّسْخِ هُوَ الشَّرْعُ، لَا الْعَقْلُ، «لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فُصِّلَتْ: 42] ، وَالنَّسْخُ إِبْطَالٌ» .

(2/270)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَلَيْسَ بِشَيْءٍ» ، يَعْنِي: مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو مُسْلِمٍ لَا حُجَّةَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ، أَيْ: لَا يَأْتِيهِ الْكَذِبُ، (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) يَعْنِي الْكُتُبَ السَّالِفَةَ لَا تُكَذِّبُهُ، بَلْ هِيَ مُوَافِقَةٌ لَهُ، (وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ نُزُولِهِ وَانْقِضَاءِ عَصْرِ النُّبُوَّةِ، بِأَنْ يَقَعَ بَعْضُ مَا وَعَدَ بِهِ مِنَ الْمُخْبَرَاتِ، عَلَى خِلَافِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْإِخْبَارَاتِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبْطِلَ مِنْهُ حَقًّا، وَلَا يُحِقَّ مِنْهُ بَاطِلًا. وَكَذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا، وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرِ: 9] ، قَالَ: حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْ يَزِيدَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بَاطِلًا، أَوْ يُبْطِلَ مِنْهُ حَقًّا، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ إِبْطَالِ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ الْبَاطِلُ غَيْرُ الْإِبْطَالِ» ، هَذَا رَدٌّ آخَرُ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ، وَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى نَفْيِ الْبَاطِلِ عَنِ الْقُرْآنِ، لَا عَلَى نَفْيِ الْإِبْطَالِ، وَالنَّسْخُ إِبْطَالٌ لِلْحُكْمِ، لَا بَاطِلٌ لَاحِقٌ بِالْقُرْآنِ، وَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُبْطِلَ مِنْ أَحْكَامِ شَرْعِهِ مَا شَاءَ، وَيُثْبِتَ مَا شَاءَ ; فَمَا نَفَتْهُ الْآيَةُ غَيْرُ مَا أَثْبَتْنَاهُ.
وَمَعْنَى إِبْطَالِ الْحُكْمِ بِالنَّسْخِ: أَنَّ مَا كَانَ مَشْرُوعًا صَارَ غَيْرَ مَشْرُوعٍ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ يَدَّعِي امْتِنَاعَ النَّسْخِ شَرْعًا دَعْوَى عَامَّةً، وَالْآيَةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا، إِنَّمَا تَدُلُّ - لَوْ دَلَّتْ - عَلَى امْتِنَاعِ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ خَاصَّةً، وَالدَّعْوَى الْعَامَّةُ لَا تَثْبُتُ بِالدَّلِيلِ الْخَاصِّ.
ثُمَّ هُوَ مَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى نَسْخِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الشَّرَائِعِ، مَعَ أَنَّهَا شَرَائِعُ حَقٍّ صَحِيحَةٌ، لَا يَأْتِيهَا الْبَاطِلُ. فَجَوَابُهُ عَنْهَا هُوَ جَوَابُنَا عَنْ لُحُوقِ النَّسْخِ لِلْقُرْآنِ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ يَجْعَلُ كُلَّ مَا سَمَّاهُ غَيْرُهُ نَسْخًا، مِنْ بَابِ انْتِهَاءِ

(2/271)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحُكْمِ بِانْتِهَاءِ مُدَّتِهِ وَوُجُودِ غَايَتِهِ، لَا مِنْ بَابِ ارْتِفَاعِهِ بِوُرُودِ مُضَادِّهِ ; فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ: إِنَّ النَّسْخَ بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ. وَيَعُودُ النِّزَاعُ هُنَا إِلَى النِّزَاعِ فِي تَعْرِيفِ النَّسْخِ بِالرَّفْعِ، أَوْ بَيَانِ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(2/272)


الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ نَسْخُ التِّلَاوَةِ، وَالْحُكْمِ، وَإِحْكَامُهُمَا، وَنَسْخُ اللَّفْظِ فَقَطْ وَبِالْعَكْسِ، إِذِ اللَّفْظُ وَالْحُكْمُ عِبَادَتَانِ مُتَفَاصِلَتَانِ ; فَجَازَ نَسْخُ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، وَمَنَعَ قَوْمٌ الثَّالِثَ، إِذِ اللَّفْظُ أُنْزِلَ لِيُتْلَى وَيُثَابَ عَلَيْهِ ; فَكَيْفَ يُرْفَعُ، وَآخَرُونَ الرَّابِعَ، إِذِ الْحُكْمُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ ; فَكَيْفَ يُرْفَعُ مَعَ بَقَاءِ دَلِيلِهِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ التِّلَاوَةَ حُكْمٌ، وَكُلُّ حُكْمٍ فَهُوَ قَابِلٌ لِلنَّسْخِ. وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّ اللَّفْظَ دَلِيلٌ قَبْلَ النَّسْخِ لَا بَعْدَهُ. ثُمَّ قَدْ نُسِخَ لَفْظُ آيَةِ الرَّجْمِ دُونَ حُكْمِهَا، وَحُكْمُ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} دُونَ لَفْظِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ» ، أَيِ: اللَّفْظِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا، وَإِحْكَامُهُمَا، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، أَيْ: إِبْقَاؤُهُمَا مُحْكَمَيْنِ غَيْرَ مَنْسُوخَيْنِ، «وَنَسْخُ اللَّفْظِ فَقَطْ» دُونَ الْمَعْنَى، «وَبِالْعَكْسِ» ، أَيْ: نَسْخُ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَهَذِهِ قِسْمَةٌ رُبَاعِيَّةٌ.
قَوْلُهُ: «إِذِ اللَّفْظُ وَالْحُكْمُ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّفْظِ وَالْحُكْمِ دُونَ الْآخَرِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ اللَّفْظَ وَالْحُكْمَ عِبَادَتَانِ مُتَفَاصِلَتَانِ، أَيْ: تَنْفَصِلُ إِحْدَاهُمَا فِي التَّعَبُّدِ بِهَا عَنِ الْأُخْرَى فِعْلًا ; فَجَازَ نَسْخُ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْمُتَفَاصِلَةِ.
وَبَيَانُ تَفَاصُلِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، هُوَ أَنَّ اللَّفْظَ مُتَعَبَّدٌ بِتِلَاوَتِهِ، وَالْحُكْمَ مُتَعَبَّدٌ بِامْتِثَالِهِ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُنَا بِتَفَاصُلِهِمَا، لَا أَنَّ أَحَدَهُمَا يُمْكِنُ انْفِصَالُهُ عَنِ الْآخَرِ حِسًّا.

(2/273)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَمَنَعَ قَوْمٌ الثَّالِثَ» ، وَهُوَ نَسْخُ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّفْظَ أُنْزِلَ لِيُتْلَى، وَيُثَابَ عَلَيْهِ ; فَكَيْفَ يُرْفَعُ، أَيْ: فَلَوْ رُفِعَ، لَانْتَفَتْ حِكْمَةُ إِنْزَالِهِ.
قَوْلُهُ: «وَآخَرُونَ» ، أَيْ: وَمَنَعَ آخَرُونَ «الرَّابِعَ» ، وَهُوَ نَسْخُ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْحُكْمَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ ; فَكَيْفَ يُرْفَعُ الْمَدْلُولُ مَعَ بَقَاءِ دَلِيلِهِ، أَيْ: لَوْ رُفِعَ الْحُكْمُ مَعَ بَقَاءِ دَلِيلِهِ، وَهُوَ اللَّفْظُ، لَبَقِيَ الدَّلِيلُ بِلَا مَدْلُولٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، أَوْ عَبَثٌ، إِذْ فَائِدَةُ الدَّلِيلِ الدَّلَالَةُ ; فَلَوْ رُفِعَ مَدْلُولُهُ، لَبَقِيَ عَرِيًّا عَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَانْتَفَتْ فَائِدَتُهُ، وَلَا مَعْنَى لِلْعَبَثِ إِلَّا وُجُودُ شَيْءٍ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ.
قَوْلُهُ: «وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ» ، أَيْ: عَمَّا احْتُجَّ بِهِ مِنْ مَنْعِ نَسْخِ اللَّفْظِ دُونَ الْحُكْمِ، بِأَنَّ التِّلَاوَةَ حُكْمٌ، وَكُلُّ حُكْمٍ فَهُوَ قَابِلٌ لِلنَّسْخِ.
أَمَّا أَنَّ التِّلَاوَةَ حُكْمٌ، وَالْمُرَادُ بِهَا مُتَعَلَّقُ الْحُكْمِ ; فَلِأَنَّهُ يَجِبُ تِلَاوَتُهَا فِي الصَّلَاةِ، وَتَصِحُّ وَتَنْعَقِدُ بِهَا، وَتُسْتَحَبُّ كِتَابَتُهَا، وَالْوُجُوبُ، وَالصِّحَّةُ، وَالِاسْتِحْبَابُ أَحْكَامٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالتِّلَاوَةِ ; فَهِيَ حُكْمٌ أَوْ فِي مَعْنَى الْحُكْمِ.
وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ ; فَهُوَ قَابِلٌ لِلنَّسْخِ ; فَلِمَا سَبَقَ فِي إِثْبَاتِ النَّسْخِ، مِنْ جَوَازِ تَحْرِيمِ الْوَاجِبِ، وَإِيجَابِ الْمُحَرَّمِ، وَكَرَاهَةِ الْمَنْدُوبِ، وَنَدْبِ الْمَكْرُوهِ، بِنَاءً عَلَى وُرُودِ أَمْرِ الشَّارِعِ وَنَهْيِهِ بِذَلِكَ، تَحْصِيلًا لِلْمَصَالِحِ، وَدَفْعًا لِلْمَفَاسِدِ، وَتَحْقِيقًا لِلِامْتِحَانِ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ دَلِيلٌ مُبْتَدَأٌ عَلَى جَوَازِ مَا مَنَعُوهُ، لَا جَوَابَ عَنْ دَلِيلِهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: «أُنْزِلَ اللَّفْظُ لِيُتْلَى ; فَكَيْفَ يُرْفَعُ؟» فَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ، وَلَا اسْتِبْعَادَ، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ فِي تِلَاوَتِهِ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ، كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَنْسُوخَةِ.

(2/274)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَعَنِ الثَّانِي» ، أَيْ: وَأُجِيبُ عَنِ الثَّانِي - وَهُوَ دَلِيلُ الْمَانِعِينَ لِنَسْخِ الْحُكْمِ دُونَ اللَّفْظِ، وَهُوَ قَوْلُهُمُ: الْحُكْمُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ ; فَكَيْفَ يُرْفَعُ الْمَدْلُولُ مَعَ بَقَاءِ دَلِيلِهِ - بِأَنَّ اللَّفْظَ دَلِيلُ الْحُكْمِ قَبْلَ النَّسْخِ، أَمَّا بَعْدَ النَّسْخِ ; فَلَا يَبْقَى دَلِيلًا عَلَيْهِ حَتَّى يَلْزَمَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ بَقَاءِ الدَّلِيلِ بِدُونِ مَدْلُولِهِ، بَلْ يَبْقَى عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً، يُتْلَى، وَيُصَلَّى بِهِ، وَيُثَابُ عَلَيْهِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ.
وَتَحْقِيقُ هَذَا أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ لَهُ جِهَتَانِ، هُوَ مِنْ إِحْدَاهُمَا دَلِيلٌ عَلَى مَعْنَاهُ، وَمِنَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى هُوَ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، فَإِذَا انْتَفَتْ جِهَةُ كَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى مَعْنَاهُ بِنَسْخِهِ، بَقِيَتْ جِهَةُ كَوْنِهِ عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ قَدْ نُسِخَ لَفْظُ آيَةِ الرَّجْمِ دُونَ حُكْمِهَا» ، وَذَلِكَ أَنَّهُ صَحَّ فِي السُّنَّةِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ الْمَتْلُوِّ: «لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ» ، «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» . فَنُسِخَ لَفْظُهَا، وَبَقِيَ حُكْمُهَا

(2/275)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي رَجْمِ الْمُحْصَنَيْنِ إِذَا زَنَيَا، وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْلَا أَنْ يُقَالَ: زَادَ عُمَرُ فِي الْقُرْآنِ، لَأَثْبَتُّهَا فِي الْمُصْحَفِ،» وَذَلِكَ لِأَنَّ بِنَسْخِ لَفْظِهَا خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَسْتَحِقَّ أَنْ

(2/276)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تُثْبَتَ فِي الْمُصْحَفِ، لَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ بِالْأَصَالَةِ ; فَهَذَا دَلِيلُ نَسْخِ اللَّفْظِ دُونَ الْحُكْمِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الرَّجْمَ ثَابِتٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ إِنَّمَا ثَبَتَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِئَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الرَّجْمُ.
قُلْنَا: بَلْ هَذَا مُقَرِّرٌ لِحُكْمِ تِلْكَ الْآيَةِ، وَمُعَرِّفٌ أَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ. وَقَدْ يُضَعَّفُ هَذَا بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَمْلَ الْحَدِيثِ عَلَى التَّأْسِيسِ، وَإِثْبَاتِ الرَّجْمِ ابْتِدَاءً، أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى تَأْكِيدِ حُكْمِ الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ مُبَيِّنًا لِلسَّبِيلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النِّسَاءِ: 15] ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِآيَةِ الرَّجْمِ، بَلْ هُوَ إِمَّا مُسْتَقِلٌّ بِإِثْبَاتِ الرَّجْمِ، أَوْ مُبَيِّنٌ لِلسَّبِيلِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى.
وَكَذَلِكَ نَسْخُ حُكْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [الْبَقَرَةِ: 185] ، دُونَ لَفْظِهَا، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْحُكْمِ، دُونَ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مُخَيَّرِينَ بَيْنَ أَنْ يَصُومُوا، وَبَيْنَ أَنْ يُفْطِرُوا، مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَى الصَّوْمِ، وَيُطْعِمُوا مِسْكِينًا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ، عَمَلًا بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}

(2/277)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَنُسِخَ ذَلِكَ التَّخْيِيرُ، بِتَعْيِينِ الصَّوْمِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [الْبَقَرَةِ: 185] ، وَبَقِيَتِ الرُّخْصَةُ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ عَنِ الصَّوْمِ، لِكِبَرٍ، أَوْ مَرِضٍ، أَوْ حَمْلٍ، أَوْ رَضَاعٍ، كَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ.
وَحَيْثُ وَقَعَ نَسْخُ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَنَسْخُ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْجَوَازِ قَطْعًا، دَلَالَةَ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: اتَّفَقَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ، وَنَسْخِ أَيِّهِمَا كَانَ دُونَ الْآخَرِ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ خَالَفُوا فِي

(2/278)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ. وَاحْتُجَّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ أَيِّهِمَا كَانَ، بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَعَلَى جَوَازِ نَسْخِهِمَا جَمِيعًا، بِنَسْخِ تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ بِعَشْرِ رَضَعَاتٍ ; فَإِنَّهُ كَانَ مُنَزَّلًا كَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، ثُمَّ نُسِخَ مَعَ آيَتِهِ.
تَنْبِيهٌ: اخْتُلِفَ فِيمَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ، نَحْوَ «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ» هَلْ لِلْجُنُبِ تِلَاوَتُهُ، وَلِلْمُحْدِثِ مَسُّهُ أَمْ لَا؟ قَالَ الْآمِدِيُّ: الْأَشْبَهُ الْمَنْعُ.
قُلْتُ: بَلِ الْأَشْبَهُ الْجَوَازُ ; لِأَنَّ الدَّلِيلَ إِنَّمَا قَامَ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ مَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ مِنَ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ لِلْإِعْجَازِ، وَمَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ لَيْسَ كَذَلِكَ ; فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، أَوْ دَاخِلٌ تَحْتِ دَلِيلِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(2/279)


الثَّالِثَةُ: نَسْخُ الْأَمْرِ قَبْلَ امْتِثَالِهِ جَائِزٌ، نَحْوَ قَوْلِهِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ: لَا تَحُجُّوا بَعْدَ الْأَمْرِ بِهِ، وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلَةُ.
لَنَا: مُجَرَّدُ الْأَمْرِ مُفِيدٌ أَنَّ الْمَأْمُورَ يَعْزِمُ عَلَى الِامْتِثَالِ ; فَيُطِيعُ، أَوِ الْمُخَالَفَةِ ; فَيَعْصِي، وَمَعَ حُصُولِ الْفَائِدَةِ، لَا يَمْتَنِعُ النَّسْخُ، ثُمَّ قَدْ نُسِخَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْأَمْرُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ قَبْلَ فِعْلِهِ.
قَالُوا: الْأَمْرُ يَقْتَضِي حُسْنَ الْفِعْلِ، وَنَسْخُهُ قُبْحَهُ، وَاجْتِمَاعُهُمَا مُحَالٌ، وَقِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ مَنَامًا لَا أَصْلَ لَهُ، ثُمَّ لَمْ يُؤْمَرْ بِالذَّبْحِ، بَلْ بِالْعَزْمِ عَلَيْهِ، أَوْ بِمُقَدِّمَاتِهِ، كَالْإِضْجَاعِ، بِدَلِيلِ: {قَدْ صَدَّقْتَ} ، فَافْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، وَلَفْظُهُ مُسْتَقْبَلٌ، ثُمَّ لَمْ يُنْسَخْ، بَلْ قَلَبَ اللَّهُ تَعَالَى عُنُقَهُ نُحَاسًا ; فَسَقَطَ لِتَعَذُّرِهِ، أَوْ أَنَّهُ امْتَثَلَ، لَكِنَّ الْجُرْحَ الْتَأَمَ حَالًا فَحَالًا، وَانْدَمَلَ.
وَالْجَوَابُ:
إِجْمَالِيٌّ عَامٌّ، وَهُوَ: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ، لَمَا احْتَاجَ إِلَى فِدَاءٍ، وَلَمَا كَانَ بَلَاءً مُبِينًا.
أَوْ تَفْصِيلِيٌّ، أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ: فَاجْتِمَاعُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ مَمْنُوعٌ، بَلْ قَبْلَ النَّسْخِ حَسَنٌ، وَبَعْدَهُ قَبِيحٌ شَرْعًا، لَا عَقْلًا كَمَا تَزْعُمُونَ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ مَنَامَ الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ ; فَإِلْغَاءُ اعْتِبَارِهِ تَهَجُّمٌ، لَا سِيَّمَا مَعَ تَكَرُّرِهِ، وَالْعَزْمُ عَلَى الذَّبْحِ لَيْسَ بَلَاءً، وَالْأَمْرُ بِالْمُقْدِمَاتِ فَقَطْ، إِنْ عَلِمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ ; فَكَذَلِكَ، وَإِلَّا فَهُوَ إِيهَامٌ وَتَلْبِيسٌ قَبِيحٌ، إِذْ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْمُكَلَّفِ مَا كُلِّفَ بِهِ. وَقَدْ صَدَّقْتَ، مَعْنَاهُ: عَزَمْتَ عَلَى فِعْلِ مَا أُمِرْتَ بِهِ صَادِقًا ; فَكَانَ جَزَاؤُكَ أَنْ خَفَّفْنَا عَنْكَ بِنَسْخِهِ. وَ {مَا تُؤْمَرُ} ، أَيْ: مَا أُمِرْتَ، أَوْ مَا تُؤْمَرُ بِهِ فِي الْحَالِ، اسْتِصْحَابًا لِحَالِ الْأَمْرِ الْمَاضِي قَبْلَهُ ; فَلَا اسْتِقْبَالَ، وَإِلَّا لَمَا احْتَاجَ إِلَى الْفِدَاءِ. وَقَلْبُ عُنُقِهِ نُحَاسًا لَمْ يَتَوَاتَرْ، وَإِلَّا لَمَا اخْتَصَصْتُمْ بِعِلْمِهِ، وَآحَادُهُ لَا تُفِيدُ، ثُمَّ هُوَ أَيْضًا نَسْخٌ، وَكَذَا الْتِئَامُ الْجُرْحِ وَانْدِمَالُهُ، وَإِلَّا لَاسْتَغْنَى عَنِ الْفِدَاءِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/280)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الثَّالِثَةُ: نَسْخُ الْأَمْرِ قَبْلَ امْتِثَالِهِ جَائِزٌ، نَحْوَ قَوْلِهِ» ، يَعْنِي الشَّارِعَ، «فِي يَوْمِ عَرَفَةَ: لَا تَحُجُّوا بَعْدَ الْأَمْرِ بِهِ» ، أَيْ: يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ فِي رَمَضَانَ مَثَلًا: حُجُّوا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ يَقُولُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ أَوْ قَبْلَهُ: لَا تَحُجُّوا.
«وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلَةُ» ; فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُتَرْجِمُهَا بَعْضُهُمْ بِجَوَازِ نَسْخِ الْأَمْرِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ، وَهِيَ عِبَارَةُ «الرَّوْضَةِ» ، وَبَعْضُهُمْ بِجَوَازِ نَسْخِ الشَّيْءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَهِيَ عِبَارَةُ «التَّنْقِيحِ» ، وَقَالَ: خِلَافًا لِأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالنَّسْخِ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ حُكْمِ الْفِعْلِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ ; فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ جَمَاهِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالصَّيْرَفِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَجَوَّزَهُ الْأَشَاعِرَةُ، وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْفُقَهَاءُ، قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
قُلْتُ: وَأَنَا تَرْجَمْتُ الْمَسْأَلَةَ بِمَا ذَكَرْتُ ; لِأَنَّهُ أَعَمُّ ; فَإِنَّهُ لَوْ نُسِخَ حُكْمُ الْأَمْرِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهِ، وَالتَّمَكُّنِ مَنْ فِعْلِهِ قَبْلَ فِعْلِهِ، لَاقْتَضَى دَلِيلُ الْخَصْمِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَيْضًا، لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ عَلَى مَا سَنُقَرِّرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «لَنَا: مُجَرَّدُ الْأَمْرِ مُفِيدٌ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَنَا عَلَى صِحَّةِ نَسْخِ الْأَمْرِ قَبْلَ امْتِثَالِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُجَرَّدَ الْأَمْرِ مُفِيدٌ فَائِدَةً تَكْلِيفِيَّةً، وَإِنْ لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ الِامْتِثَالُ، وَمَعَ حُصُولِ الْفَائِدَةِ التَّكْلِيفِيَّةِ لَا يُمْتَنَعُ النَّسْخُ.
أَمَّا أَنَّ مُجَرَّدَ الْأَمْرِ مُفِيدٌ ; فَلِأَنَّ الْمَأْمُورَ، إِذَا عَلِمَ تَوَجُّهَ الْأَمْرِ إِلَيْهِ ; إِمَّا أَنْ يَعْزِمَ عَلَى الِامْتِثَالِ ; فَيَكُونُ مُطِيعًا مُثَابًا، أَوْ عَلَى الْمُخَالَفَةِ ; فَيَكُونُ عَاصِيًا مُعَاقَبًا بِالنِّيَّةِ وَالْعَزْمِ.
وَأَمَّا أَنَّ مَعَ حُصُولِ الْفَائِدَةِ لَا يَمْتَنِعُ النَّسْخُ ; فَبِالْقِيَاسِ عَلَى سَائِرِ صُوَرِ النَّسْخِ، وَلِأَنَّ الْخَصْمَ إِنَّمَا مَنَعَ النَّسْخَ قَبْلَ الِامْتِثَالِ، لِكَوْنِهِ عَبَثًا عِنْدَهُ، وَمَعَ حُصُولِ الْفَائِدَةِ

(2/281)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَنْتَفِي كَوْنُهُ عَبَثًا ; فَيَجِبُ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّسْخَ قَبْلَ الِامْتِثَالِ قَدْ وَقَعَ، وَالْوُقُوعُ دَلِيلُ الْجَوَازِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ ; لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، نُسِخَ عَنْهُ ذَبْحُ وَلَدِهِ قَبْلَ فِعْلِهِ، عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْوُقُوعَ دَلِيلُ الْجَوَازِ ; لِأَنَّهُ مَلْزُومٌ لِلْجَوَازِ ; فَدَلَّ عَلَيْهِ دَلَالَةَ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: الْأَمْرُ يَقْتَضِي حُسْنَ الْفِعْلِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْخَصْمِ عَلَى امْتِنَاعِ النَّسْخِ قَبْلَ الِامْتِثَالِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ يَقْتَضِي حُسْنَهُ، وَنَسْخَهُ يَقْتَضِي قُبْحَهُ، وَاجْتِمَاعُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ مُحَالٌ.
قَوْلُهُ: «وَقِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابٌ عَنِ الِاحْتِجَاجِ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنْعٌ لِدَلَالَتِهَا عَلَى النَّسْخِ قَبْلَ الِامْتِثَالِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ فِي ذَبْحِ وَلَدِهِ كَانَتْ مَنَامًا، وَالْمَنَامُ خَيَالٌ لَا أَصْلَ لَهُ حَتَّى يُبْنَى عَلَيْهِ أُصُولُ الدِّينِ وَفُرُوعُهُ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَنَامَ لَهُ حَقِيقَةٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا فِي إِثْبَاتِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أُمِرَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، بَلْ بِالْعَزْمِ عَلَيْهِ، أَوْ بِفِعْلِ مُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ كَإِضْجَاعِ وَلَدِهِ، وَأَخْذِ السِّكِّينَ وَنَحْوِهِ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ:

(2/282)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصَّافَّاتِ: 104، 105] ، أَيْ: فَعَلْتَ مَا أُمِرْتَ بِهِ، وَلَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِالذَّبْحِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مَا فَعَلَهُ بِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الذَّبِيحِ: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصَّافَّاتِ: 102] ، وَلَفْظُهُ لَفْظُ الْمُسْتَقْبَلِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَا أُمِرَ بِالذَّبْحِ، وَإِنَّمَا أُخْبِرَ أَنَّهُ سَيُؤْمَرُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إِذْ لَوْ كَانَ قَدْ أُمِرَ بِهِ، لَقَالَ: افْعَلْ مَا أُمِرْتَ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ أُمِرَ بِالذَّبْحِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ عَنْهُ قَبْلَ امْتِثَالِهِ، بَلْ قَلَبَ اللَّهُ عُنُقَ وَلَدِهِ نُحَاسًا، فَلَمْ تُؤْثَرِ الشَّفْرَةُ فِيهِ ; فَسَقَطَ لِتَعَذُّرِهِ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَتَعَذَّرْ، لَكِنَّهُ امْتَثَلَ ; فَذَبَحَهُ، لَكِنْ كَانَ كُلَّمَا قَطَعَ جُزْءًا مِنْ عُنُقِهِ، الْتَأَمَ، أَيِ: الْتَحَمَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: حَالًا فَحَالًا، أَيِ: الْتَأَمَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَشَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ ; فَانْدَمَلَ الْجُرْحُ بِمُجَرَّدِ الْتِحَامِهِ، أَيْ: بَرَأَ وَذَلِكَ بِدَلِيلِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} ، عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالذَّبْحِ ; فَيَلْزَمُ أَنَّهُ ذَبَحَهُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ قَدْ صَدَّقَ الرُّؤْيَا.
وَتَحْقِيقُ هَذَا: أَنَّ كَلَامَنَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالذَّبْحِ، لَكِنْ رَأَيْنَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِتَصْدِيقِ الرُّؤْيَا ; فَقُلْنَا: إِنَّهُ ذَبَحَهُ، وَثَبَتَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِذَبْحِهِ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ دَهْرًا طَوِيلًا ; فَقُلْنَا: إِنِ الْعَادَةَ انْخَرَقَتْ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ; مِنِ الْتِئَامِ الْجُرْحِ شَيْئًا فَشَيْئًا.
قَوْلُهُ: «وَالْجَوَابُ» ، أَيْ: عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ، مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِجْمَالِيٌّ عَامٌّ، أَيْ: مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ، وَهُوَ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ أَنَّهُ ذَبَحَهُ، لَمَا احْتَاجَ إِلَى فِدَائِهِ ; لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ قَدِ امْتَثَلَ ; فَلَوْ فَدَاهُ مَعَ ذَلِكَ، لَاجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ

(2/283)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ، مِنْ أَنَّهُ إِنَّمَا أُمِرَ بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ، لَا نَفْسِ الذَّبْحِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَلَاءً مُبِينًا، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمَّاهُ بَلَاءً مُبِينًا، حَيْثُ قَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ هَذَا لَهْوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصَّافَّاتِ: 106، 107] .
قُلْتُ: حُسْنُ التَّرْتِيبِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلَ ; فَيُقَالُ هَكَذَا: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ، لَمَا كَانَ بَلَاءً مُبِينًا، وَلَمَا احْتَاجَ إِلَى فِدَاءٍ لِأَنَّ تَرْتِيبَ أَسْئِلَةِ الْخَصْمِ هَكَذَا، وَلَكِنْ وَقَعَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» عَلَى تَرْتِيبِ مَا فِي الْأَصْلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ إِجْمَالِيٌّ عَامٌّ، وَفِيهِ بَعْضُ التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِصَاصِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ التَّفْصِيلِيُّ - فَنَقُولُ: أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: اجْتِمَاعُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ مُحَالٌ ; فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: اجْتِمَاعُهُمَا مُحَالٌ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي حَالَيْنِ؟ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ هَاهُنَا، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ حَسَنٌ قَبْلَ النَّسْخِ، وَأَمَّا بَعْدُهُ ; فَهُوَ قَبِيحٌ، وَاتِّصَافُ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي وَقْتَيْنِ لَيْسَ بِمُحَالٍ، ثُمَّ إِنَّ حُسْنَهُ وَقُبْحَهُ عِنْدَنَا شَرْعِيٌّ، أَيْ: مُسْتَفَادٌ مِنَ الشَّرْعِ، لَا عَقْلِيٌّ كَمَا تَزْعُمُونَ، وَكَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا، لِئَلَّا نُطْلِقَ لَفْظَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ ; فَيُظَنُّ أَنَّا نَقُولُ بِهِمَا عَقْلًا، كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَنَحْنُ إِنَّمَا نَقُولُ بِهِمَا شَرْعًا، كَمَا قَرَّرْنَاهُ قَبْلُ.
وَالْجَوَابُ «عَنِ الْبَاقِي» ، أَيْ: عَنْ بَاقِي مَا ذَكَرُوهُ، وَهُوَ أَسْئِلَتُهُمْ عَلَى قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ نَقُولَ: قَوْلُكُمْ: قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ مَنَامًا لَا أَصْلَ لَهُ - بَاطِلٌ ; لِأَنَّ «مَنَامَ الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ ; فَإِلْغَاءُ اعْتِبَارِهِ» ، أَيْ: كَوْنُكُمْ لَا تَعْتَبِرُونَهُ، وَتُوجِبُونَ الْعَمَلَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ «تَهَجُّمٌ» عَلَى الْوَحْيِ بِالْإِبْطَالِ، «لَا سِيَّمَا» ، أَيْ: خُصُوصًا «مَعَ تَكَرُّرِهِ» فِي قِصَّةِ

(2/284)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِبْرَاهِيمَ ; فَإِنَّهُ رَأَى ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَةٍ، أَنِ اذْبَحْ وَلَدَكَ لِي قُرْبَانًا ; فَفِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ظَنَّ أَنَّهَا خَيَالٌ، أَوْ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلَمْ يَعْبَأْ بِهَا، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي تَرَوَّى فِي نَفْسِهِ، أَيْ: تَفَكَّرَ، هَلْ لِذَلِكَ أَصْلٌ أَمْ لَا؟ فَسُمِّيَ لِذَلِكَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَصْبَحَ وَقَدْ عَرَفَ أَنَّهَا رُؤْيَا حَقٌّ ; فَسُمِّيَ يَوْمَ عَرَفَةَ، كَذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي سَبَبِ تَسْمِيَةِ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَعَرَفَةَ، وَاشْتِقَاقِهِمَا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ مَنَامَ الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: مَا سَبَقَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ فِي خُطْبَةِ الْكِتَابِ، عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهِ هُنَاكَ.
الثَّانِي: أَنَّ رُؤْيَا آحَادِ الْأُمَمِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، عَلَى مَا شَهِدَتْ بِهِ السُّنَنُ الصَّحِيحَةُ ; فَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ نُبُوَّةً.
الثَّالِثُ: مَا ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا ابْتُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ النُّبُوَّةِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، كَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ

(2/285)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَفَلَقِ الصُّبْحِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ نُبُوَّةٌ وَوَحْيٌ، كَانَ قَوْلُكُمْ: إِنَّ رُؤْيَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنَامٌ لَا أَصْلَ لَهُ، تَهَجُّمًا عَظِيمًا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْعَذَابِ الْأَلِيمِ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّمَا أُمِرَ بِالْعَزْمِ عَلَى الذَّبْحِ، أَوْ مُقَدِّمَاتِهِ.
قُلْنَا: الْعَزْمُ عَلَى الذَّبْحِ لَيْسَ بَلَاءً مُبِينًا، بِحَيْثُ يُمْتَحَنُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ ; لِأَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ وَسُوقَتَهُمْ، لَوْ قِيلَ لِأَحَدِهِمْ: أَنْتَ مَأْمُورٌ بِالْعَزْمِ عَلَى ذَبْحِ وَلَدِكَ، لَا بِنَفْسِ ذَبْحِهِ، لَسَهُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجِدْ لَهُ كُلْفَةً. «وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمُقَدِّمَاتِ فَقَطْ، فَإِنْ عَلِمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ فَكَذَلِكَ» ، أَيْ: لَا بَلَاءَ فِيهِ، إِذْ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِي إِضْجَاعِ وَلَدِهِ، وَأَخَذِ السِّكِّينَ مَعَ عِلْمِهِ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ كَمَا لَوْ مَازَحَ الْإِنْسَانُ وَلَدَهُ، أَوْ مَنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ فَقَطْ، كَانَ ذَلِكَ تَلْبِيسًا عَلَيْهِ، وَإِيهَامًا فِي الْخِطَابِ، وَإِيهَامًا لَهُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، مَعَ أَنَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهُوَ قَبِيحٌ، يَعْنِي الْإِيهَامَ وَالتَّلْبِيسَ ; لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ أَنْ يَعْرِفَ الْمُكَلَّفُ مَا كُلِّفَ بِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي شُرُوطِ التَّكْلِيفِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ أَمْرُهُ

(2/286)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِالِاقْتِصَارِ عَلَى مُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ، مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ، تَكْلِيفًا غَيْرَ صَحِيحٍ.
قَوْلُهُمْ: قَوْلُهُ: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصَّافَّاتِ: 105] ، مَعْنَاهُ: قَدْ فَعَلْتَ مَا أُمِرْتَ بِهِ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا مَعْنَاهُ، بَلْ مَعْنَاهُ: «قَدْ عَزَمْتَ عَلَى فِعْلِ مَا أُمِرْتَ بِهِ صَادِقًا ; فَكَانَ جَزَاؤُكَ أَنْ خَفَّفْنَا عَنْكَ كُلْفَتَهُ بِنَسْخِهِ» عَنْكَ. هَذَا هُوَ كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ الْمَفْهُومُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ سِيَاقِ الْقِصَّةِ.
قَوْلُهُمْ: قَوْلُ الذَّبِيحِ: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، لَفْظٌ مُسْتَقْبَلٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا أُمِرَ بِذَبْحِهِ، بَلْ سَيُؤْمَرُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ، بَلْ مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَا تُؤْمَرُ} : افْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ، وَضْعًا لِلْمُضَارِعِ مَوْضِعَ الْمَاضِي وَهُوَ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ.
قُلْنَا: يَلْزَمُكُمْ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ أُمِرَ بِذَبْحِهِ، وَعَلَى قَوْلِكُمْ، يَكُونُ تَقْدِيرُهُ: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي سَأُومَرُ بِذَبْحِكَ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ نَحْنُ ; مِنْ وَضْعِ الْمُضَارِعِ مَوْضِعَ الْمَاضِي أَسْهَلُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ، أَيْ: «مَا تُؤْمَرُ بِهِ فِي الْحَالِ، اسْتِصْحَابًا لِحَالِ الْأَمْرِ الْمَاضِي» .
وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ مَأْمُورٍ بِفِعْلٍ ; فَالْأَمْرُ بِهِ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ، اسْتِصْحَابًا لِحَالِ الْأَمْرِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ ; فَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ; لَمَّا أُمِرَ فِي اللَّيْلِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ ; فَأَخْبَرَ وَلَدَهُ بِذَلِكَ ; فَهُوَ حَالُ إِخْبَارِهِ وَلَدَهُ مَأْمُورٌ بِمَا أُمِرَ بِهِ فِي اللَّيْلِ

(2/287)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِذَبْحِ وَلَدِهِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بَعْدُ ; فَأَمْرُهُ بِالذَّبْحِ فِي الْمَاضِي مُسْتَصْحِبٌ إِلَى حَالِ إِخْبَارِهِ وَلَدَهُ. وَقَوْلُهُ: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ، أَيْ: مَا أَنْتَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي الْحَالِ، بِنَاءً عَلَى اسْتِصْحَابِ الْأَمْرِ الْمَاضِي، وَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ يَصْلُحُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَهُوَ فِي الْحَالِ أَظْهَرُ.
وَإِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ، عَلَى الْحَالِ، عَمَلًا بِظَاهِرِ لَفْظِهِ، وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلِيلِنَا ; فَلَا اسْتِقْبَالَ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيُؤْمَرُ بِذَبْحِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
قَوْلُهُ: «وَإِلَّا لَمَا احْتَاجَ إِلَى الْفِدَاءِ» ، أَيْ: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ، مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: سَيُؤْمَرُ بِذَبْحِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لَا أَنَّهُ أُمِرَ بِهِ فِي الْمَاضِي، لَمَا احْتَاجَ إِلَى الْفِدَاءِ ; لِأَنَّ الْفِدَاءَ يَكُونُ عَنْ تَرْكِ مَأْمُورٍ. وَعَلَى قَوْلِكُمْ: هُوَ إِلَى الْآنِ لَمْ يُؤْمَرْ بِشَيْءٍ ; فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أُمِرَ وَتَرَكَ. وَأَيْضًا لَوْ صَحَّ ذَلِكَ، لَأُمِرَ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِئَلَّا يَقَعَ الْخُلْفُ فِي خَبَرِ الْمَعْصُومِ، فَلَمَّا لَمْ يَقَعْ، دَلَّ عَلَى بُطْلَانِ مَا تَأَوَّلُوهُ.
قَوْلُهُمْ: لَمْ يَنْسَخْ عَنْهُ الذَّبْحَ، بَلْ قُلِبَ عُنُقُهُ نُحَاسًا. جَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا بِالتَّوَاتُرِ، أَوْ بِالْآحَادِ.
وَالتَّوَاتُرُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ لَوْ تَوَاتَرَ، لَمَا اخْتَصَصْتُمْ بِعِلْمِهِ دُونَنَا، مَعَ أَنَّ الشَّرْعَ وَاحِدٌ. وَالْأَسْبَابَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، وَلَوْ صَحَّ دَعْوَى ذَلِكَ، لَكَانَ كُلُّ مَنْ مُنِعَ شَيْئًا، أَوْ نُوزِعَ فِيهِ، قَالَ لِخَصْمِهِ: هَذَا تَوَاتُرٌ عِنْدِي دُونَكَ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ خَبْطٌ عَظِيمٌ، وَخَطْبٌ جَسِيمٌ، وَمَا يُشْبِهُ السَّفْسَطَةَ.
وَالْآحَادُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يُفِيدُ ; لِأَنَّ مَسْأَلَةَ النِّزَاعِ إِنْ كَانَتْ عِلْمِيَّةً ; فَالْآحَادُ إِنَّمَا

(2/288)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُفِيدُ الظَّنَّ لَا الْعِلْمَ، وَإِنْ كَانَتْ ظَنِّيَّةً ; فَالْوَاقِعَةُ الْمَذْكُورَةُ عَظِيمَةٌ، خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ ; فَهِيَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ ; فَيَقَعُ الْعِلْمُ بِهَا عَادَةً لِتَوَاتُرِهَا ; فَحَيْثُ لَمْ تَتَوَاتَرْ، بَلْ لَمْ تَسْتَفِضْ، بَلْ لَمْ يُنْقَلْ أَصْلًا عَمَّنْ يُعْتَبَرُ، أَنَّ عُنُقَ الذَّبِيحِ قُلِبَ نُحَاسًا، دُلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ، دَافَعَ بِهَا الْخَصْمُ عَنْ مَذْهَبِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: سَلَّمْنَا أَنَّ عُنُقَهُ قُلِبَ نُحَاسًا، لَكِنَّهُ نُسِخَ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّسْخَ: إِمَّا رَفْعُ الْحُكْمِ، أَوْ بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ، وَكِلَاهُمَا مَوْجُودٌ فِي سُقُوطِ الذَّبْحِ، لِتَعَذُّرِهِ بِقَلْبِ الْعُنُقِ نُحَاسًا.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِالذَّبْحِ قَبْلَ قَلْبِ الْعُنُقِ نُحَاسًا، وَبَعْدَهُ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ رَفْعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ.
فَإِنْ قِيلَ: النَّسْخُ هُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ بِخِطَابٍ، وَارْتِفَاعُ وُجُوبِ الذَّبْحِ هُنَا إِنَّمَا هُوَ بِالتَّعَذُّرِ، لَا بِالْخِطَابِ.
قُلْنَا: لَكِنْ هُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْخِطَابِ، وَهُوَ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ الْعَامَّةُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ، وَالذَّبْحُ بَعْدَ قَلْبِ الْعُنُقِ نُحَاسًا صَارَ مِنَ الْمُحَالِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ بِانْقِلَابِ الْعُنُقِ نُحَاسًا ; انْتَهَتْ مُدَّةُ الْأَمْرِ بِالذَّبْحِ لِتَعَذُّرِهِ ; فَقَدْ بَانَ أَنَّ قَلْبَ الْعُنُقِ نُحَاسًا نُسِخَ، لِوُجُوبِ الذَّبْحِ عَلَى كِلَا التَّعْرِيفَيْنِ لِلنَّسْخِ.
وَأَمَّا الْتِئَامُ الْجُرْحِ، وَانْدِمَالُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا ; فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا ذُكِرَ فِي قَلْبِ الْعُنُقِ نُحَاسًا، مِنْ كَوْنِهِ لَمْ يَتَوَاتَرْ، وَالْآحَادُ لَا يُفِيدُ فِي مِثْلِهِ.

(2/289)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ، لَاسْتَغْنَى عَنِ الْفِدَاءِ ; لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِالْمَأْمُورِ ; فَالْفِدَاءُ بَعْدَهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(2/290)


الرَّابِعَةُ: الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ، إِنْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِحُكْمِهِ أَصْلًا ; فَلَيْسَتْ نَسْخًا إِجْمَاعًا، كَزِيَادَةِ إِيجَابِ الصَّوْمِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ ; فَهِيَ إِمَّا جُزْءٌ لَهُ، كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ فِي الصُّبْحِ، أَوْ عِشْرِينَ سَوْطًا فِي حَدِّ الْقَذْفِ. أَوْ شَرْطٌ، كَالنِّيَّةِ لِلطَّهَارَةِ، أَوْ لَا وَاحِدَ مِنْهُمَا، كَزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ عَلَى الْجَلْدِ. وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ نَسْخًا عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ.
لَنَا: النَّسْخُ رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ، وَهُوَ بَاقٍ، زِيدَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ.
قَالُوا: الزِّيَادَةُ إِمَّا فِي الْحُكْمِ، أَوْ سَبَبِهِ، وَأَيًّا كَانَ، يَلْزَمُ النَّسْخُ ; لِأَنَّهُمَا كَانَا قَبْلَ الزِّيَادَةِ مُسْتَقِلَّيْنِ بِالْحُكْمِيَّةِ وَالسَّبَبِيَّةِ، وَاسْتِقْلَالُهُمَا حُكْمٌ قَدْ زَالَ بِالزِّيَادَةِ، كَالْجَلْدِ مَثَلًا، كَانَ مُسْتَقِلًا بِعُقُوبَةِ الزَّانِي، أَيْ: هُوَ الْحَدُّ التَّامُّ، وَبَعْدَ زِيَادَةِ التَّغْرِيبِ، صَارَ جُزْءَ الْحَدِّ.
قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنَ الزِّيَادَةِ تَعَبُّدُ الْمُكَلَّفِ بِالْإِتْيَانِ بِهَا، لَا رَفْعُ اسْتِقْلَالِ مَا كَانَ قَبْلَهَا، لَكِنَّهُ حَصَلَ ضَرُورَةً وَتَبَعًا، بِالِاقْتِضَاءِ، وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: الْمَنْسُوخُ مَقْصُودٌ بِالرَّفْعِ، وَالِاسْتِقْلَالُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ ; فَلَا يَكُونُ مَنْسُوخًا ; فَلَا يَكُونُ رَفْعُهُ نَسْخًا. لَا يُقَالُ: رَفْعُ الِاسْتِقْلَالِ مِنْ لَوَازِمِ الزِّيَادَةِ ; فَيَلْزَمُ مِنْ قَصْدِهَا قَصْدُهُ ; لِأَنَّا نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ، إِذْ قَدْ يُتَصَوَّرُ الْمَلْزُومُ مِمَّنْ هُوَ غَافِلٌ عَنِ اللَّازِمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الرَّابِعَةُ: الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ» ; إِمَّا أَنْ لَا تَتَعَلَّقَ بِحُكْمِ النَّصِّ أَصْلًا، أَوْ تَتَعَلَّقَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ ; فَلَيْسَتْ نَسْخًا لَهُ إِجْمَاعًا، وَذَلِكَ كَزِيَادَةِ إِيجَابِ الصَّوْمِ، بَعْدَ الصَّلَاةِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ نَسْخًا لِإِيجَابِ الصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتِ الزِّيَادَةُ بِحُكْمِ النَّصِّ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ ; فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ إِمَّا جُزْءٌ لَهُ، أَوْ شَرْطٌ، أَوْ لَا جُزْءٌ وَلَا شَرْطٌ.

(2/291)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِثَالُ كَوْنِهَا جُزْءًا لَهُ: زِيَادَةُ رَكْعَةٍ فِي الصُّبْحِ، أَوْ عِشْرِينَ سَوْطًا فِي حَدِّ الْقَذْفِ ; فَتَصِيرُ الصُّبْحُ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، وَالرَّكْعَةُ الثَّالِثَةُ جُزْءٌ مِنْهَا، وَحَدُّ الْقَذْفِ مِئَةُ سَوْطٍ، وَالْعِشْرُونَ الزَّائِدَةُ جُزْءٌ مِنْهَا.
وَمِثَالُ كَوْنِهَا شَرْطًا: نِيَّةُ الطَّهَارَةِ، هِيَ شَرْطٌ لَهَا، وَقَدْ زِيدَتْ بِالْحَدِيثِ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى بَاقِي آيَةِ الْوُضُوءِ مِنْ أَفْعَالِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ مُسْتَفَادَةً مِنَ الْآيَةِ، عَلَى خِلَافٍ فِيهِ.
وَمِثَالُ كَوْنِ الزِّيَادَةِ لَا جُزْءًا وَلَا شَرْطًا: التَّغْرِيبُ عَلَى الْجَلْدِ فِي زِنَى الْبِكْرِ، إِذِ الْجَلْدُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّغْرِيبِ تَوَقُّفَ الْكُلِّ عَلَى جُزْئِهِ، وَلَا تَوَقُّفَ الْمَشْرُوطِ عَلَى شَرْطِهِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ نَسْخًا عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ.
حَكَى الْآمِدِيُّ عَنِ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَالْغَزَالِيِّ، فِي الْمِثَالَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، أَنَّهُمَا وَافَقَا الْحَنَفِيَّةَ فِي أَنَّهُ نَسْخٌ.
قَوْلُهُ: «لَنَا: النَّسْخُ: رَفْعُ الْحُكْمِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ عَدَمِ كَوْنِ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ نَسْخًا.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ، وَالْحُكْمُ هَاهُنَا بَاقٍ، لَمْ يَرْتَفِعْ، وَإِنَّمَا زِيدَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لَا تَقْتَضِي رَفْعَهُ ; فَثَبَتَ أَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ نَسْخًا.
قَوْلُهُ: «قَالُوا» ، هَذَا دَلِيلُ الْخَصْمِ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الزِّيَادَةَ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي الْحُكْمِ أَوْ سَبَبِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَلْزَمُ مِنْهُ النَّسْخُ.
أَمَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ إِمَّا فِي الْحُكْمِ، أَوْ فِي سَبَبِهِ ; فَمَعْنَاهُ: مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الزِّيَادَةَ ; إِمَّا جُزْءٌ لِلْحُكْمِ، كَرَكْعَةٍ فِي الصَّلَاةِ ; فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي الْحُكْمِ، أَوْ غَيْرُ جُزْءٍ لَهُ ; فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي سَبَبِ الْحُكْمِ ; لِأَنَّ سَبَبَ الْحُكْمِ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَيْهِ، شَرْطًا كَالنِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ،

(2/292)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَوْ غَيْرَ شَرْطٍ.
وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي الْحُكْمِ، أَوْ سَبَبِهِ، يَلْزَمُ مِنْهُ النَّسْخُ ; فَلِأَنَّ الْحُكْمَ أَوْ سَبَبَهُ قَبْلَ الزِّيَادَةِ فِيهِمَا كَانَا مُسْتَقِلَّيْنِ بِالْحُكْمِيَّةِ وَالسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِكَوْنِ الْحُكْمِ حُكْمًا تَامًّا، وَالسَّبَبِ سَبَبًا تَامًّا، وَاسْتِقْلَالِهِمَا بِكَوْنِهِمَا تَمَامَ الْحُكْمِ وَالسَّبَبِ، حُكْمٌ قَدِ ارْتَفَعَ بِالزِّيَادَةِ، وَذَلِكَ كَالْجَلْدِ مَثَلًا، كَانَ مُسْتَقِلًا بِعُقُوبَةِ الزَّانِي، بِمَعْنَى أَنَّهُ هُوَ حَدُّهُ التَّامُّ، وَبَعْدَ زِيَادَةِ التَّغْرِيبِ لَمْ يَبْقَ مُسْتَقِلًا بِتَمَامِ الْحَدِّ، بَلْ صَارَ جُزْءَ الْحَدِّ، وَالتَّغْرِيبُ جُزْؤُهُ الْآخَرُ، وَكَذَلِكَ الرَّكْعَتَانِ فِي الصُّبْحِ، كَانَتَا مُسْتَقِلَّتَيْنِ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَبَعْدَ تَقْرِيرِ زِيَادَةِ الثَّالِثَةِ زَالَ ذَلِكَ الِاسْتِقْلَالُ، وَصَارَتِ الرَّكْعَتَانِ جُزْءَ الْوَاجِبِ، لَا كُلَّهُ، وَإِذَا كَانَ حُكْمُ الِاسْتِقْلَالِ يَرْتَفِعُ بِالزِّيَادَةِ ; فَقَدْ حَصَلَتْ حَقِيقَةُ النَّسْخِ، وَهِيَ رَفْعُ الْحُكْمِ بِالزِّيَادَةِ ; فَيَكُونُ نَسْخًا.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنَ الزِّيَادَةِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابُ دَلِيلِهِمُ الْمَذْكُورِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ، إِنَّمَا هُوَ تَعَبُّدُ الْمُكَلَّفِ بِالْإِتْيَانِ بِهَا، لَا رَفْعُ اسْتِقْلَالِ مَا كَانَ قَبْلَهَا بِالْحُكْمِ، لَكِنَّ رَفْعَ الِاسْتِقْلَالِ حَصَلَ ضَرُورَةً، وَتَبَعًا لِوُرُودِ الزِّيَادَةِ، بِالِاقْتِضَاءِ الضَّرُورِيِّ الْعَقْلِيِّ، لَا أَنَّهُ كَانَ مَقْصُودًا بِهَا ; فَالْمَقْصُودُ بِزِيَادَةِ رَكْعَةٍ فِي الصُّبْحِ: هُوَ التَّعَبُّدُ بِفِعْلِهَا، لَا رَفْعُ اسْتِقْلَالِ الرَّكْعَتَيْنِ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَالْمَقْصُودُ بِزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ وَعِشْرِينَ سَوْطًا فِي الْحَدِّ: الْإِتْيَانُ بِهِمَا، لَا رَفْعُ اسْتِقْلَالِ الْمِئَةِ فِي الزِّنَى، وَالثَّمَانِينَ فِي الْقَذْفِ، بِكَمَالِ الْعُقُوبَةِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ ضَرُورَةً أَنَّ مَا تَوَقَّفَ عَلَى ثَلَاثٍ، لَا يَحْصُلُ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا تَوَقَّفَ عَلَى مِئَةٍ، لَا يَحْصُلُ بِثَمَانِينَ، كَمَا أَنَّ مَا عُلِّقَ عَلَى شَرْطَيْنِ، لَا يُوجَدُ بِأَحَدِهِمَا ; فَرَفْعُ الِاسْتِقْلَالِ الْمَذْكُورِ، هُوَ بِالِاقْتِضَاءِ الْعَقْلِيِّ الضَّرُورِيِّ، لَا بِالْقَصْدِ الشَّرْعِيِّ، وَالْمَنْسُوخُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَفْعُهُ

(2/293)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَقْصُودًا: لِأَنَّ النَّسْخَ فِعْلٌ مِنَ الشَّارِعِ، وَالْفَاعِلُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا فَعَلَ، قَاصِدًا لَهُ.
وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: الْمَنْسُوخُ مَقْصُودٌ بِالرَّفْعِ، وَالِاسْتِقْلَالُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالرَّفْعِ، وَلَا يَكُونُ مَنْسُوخًا ; فَلَا يَكُونُ رَفْعُهُ نَسْخًا.
قَوْلُهُ: «لَا يُقَالُ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا تَقْدِيرٌ يَقَعُ مِنَ الْخَصْمِ لِهَذَا الْجَوَابِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ رَفْعَ اسْتِقْلَالِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِيَّةِ، مِنْ لَوَازِمِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ; فَيَلْزَمُ مِنْ قَصْدِهَا قَصْدُهُ، أَيْ: يَلْزَمُ مِنْ قَصْدِ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ قَصْدُ رَفْعِ اسْتِقْلَالِ حُكْمِهِ، بِكَوْنِهِ حُكْمًا تَامًّا.
أَمَّا أَنَّ رَفَعَ الِاسْتِقْلَالِ مِنْ لَوَازِمِ الزِّيَادَةِ ; فَلِأَنَّ لَازِمَ الشَّيْءِ مَا لَا يَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ارْتِفَاعَ اسْتِقْلَالِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ، لَا يَنْفَكُّ عَنِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ; فَيَكُونُ لَازِمًا لَهَا.
وَمِثَالُهُ: أَنَّ ارْتِفَاعَ اسْتِقْلَالِ الرَّكْعَتَيْنِ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ، لَا يَنْفَكُّ عَنْ زِيَادَةِ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ.
وَأَمَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ قَصْدِ الزِّيَادَةِ قَصْدُ رَفْعِ الِاسْتِقْلَالِ ; فَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَا أَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِهَا، وَقَصْدُ الْمَلْزُومِ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ اللَّازِمِ ; لِأَنَّ الذِّهْنَ يَنْتَقِلُ عَنِ الْمَلْزُومِ إِلَى اللَّازِمِ، انْتِقَالًا عَقْلِيًّا ضَرُورِيًّا ; فَيَلْزَمُ مِنْ قَصْدِ الْمَلْزُومِ الْمُنْتَقَلِ عَنْهُ قَصْدُ اللَّازِمِ الْمُنْتَقَلَ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: «لِأَنَّا نَقُولُ» ، أَيِ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْمَنْعِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ قَصْدِ الزِّيَادَةِ قَصْدُ رَفْعِ الِاسْتِقْلَالِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ لَوَازِمِهَا ; لِأَنَّهُ قَدْ يَتَصَوَّرُ الْمَلْزُومُ مَنْ هُوَ

(2/294)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غَافِلٌ عَنِ اللَّازِمِ، وَإِذَا جَازَتِ الْغَفْلَةُ عَنِ اللَّازِمِ، اسْتَحَالَ قَصْدُهُ، إِذْ قَصْدُ الشَّيْءِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ تَصَوُّرِهِ مُحَالٌ.
قُلْتُ: فَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْمَنْسُوخَ هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِالرَّفْعِ أَمْ لَا، فَإِنِ اشْتُرِطَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِالرَّفْعِ، لَمْ يَكُنْ رَفْعُ اسْتِقْلَالِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ نَسْخًا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا بِالرَّفْعِ، وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ حَاصِلٌ بِالِاقْتِضَاءِ الضَّرُورِيِّ.
وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ، بَلْ يَكْفِي فِي الْمَنْسُوخِ أَنْ يَكُونَ مُرْتَفِعًا بِالْقَصْدِ، أَوِ الِاقْتِضَاءِ الضَّرُورِيِّ، كَانَ رَفْعُ الِاسْتِقْلَالِ نَسْخًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(2/295)


الْخَامِسَةُ:
يَجُوزُ نَسْخُ الْعِبَادَةِ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ، خِلَافًا لِقَوْمٍ. لَنَا: الرَّفْعُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْبَدَلَ، وَلَا يَمْتَنِعُ رَدُّ الْمُكَلَّفِ إِلَى مَا قَبْلَ الشَّرْعِ، ثُمَّ تَقْدِيمُ الصَّدَقَةِ أَمَامَ النَّجْوَى وَغَيْرُهُ نُسِخَ لَا إِلَى بَدَلٍ. قَالُوا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} يَقْتَضِيهِ. قُلْنَا: لَفْظًا لَا حُكْمًا، أَوْ نَأْتِ مِنْهَا بِخَيْرٍ، عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ.
وَنَسْخُ الْحُكْمِ بِأَخَفَّ مِنْهُ إِجْمَاعًا.
وَبِمِثْلِهِ، لَا يُقَالُ: هُوَ عَبَثٌ. لِأَنَّا نَقُولُ: فَائِدَتُهُ امْتِحَانُ الْمُكَلَّفِ بِانْتِقَالِهِ مِنْ حُكْمٍ إِلَى حُكْمٍ.
وَبِأَثْقَلَ مِنْهُ، خِلَافًا لِبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ. لَنَا: لَا يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ، وَلَا لِتَضَمُّنِهِ مَفْسَدَةً، وَقَدْ نُسِخَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِدْيَةِ وَالصِّيَامِ إِلَى تَعْيِينِهِ، وَجَوَازُ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ إِلَى وُجُوبِهَا فِيهِ، وَتَرْكُ الْقِتَالِ إِلَى وُجُوبِهِ، وَإِبَاحَةُ الْخَمْرِ، وَالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمُتْعَةِ إِلَى تَحْرِيمِهَا. قَالُوا: تَشْدِيدٌ ; فَلَا يَلِيقُ بِرَأْفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} ، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} ، {أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} . قُلْنَا: مَنْقُوضٌ بِتَسْلِيطِهِ الْمَرَضَ وَالْفَقْرَ وَأَنْوَاعَ الْآلَامِ وَالْمُؤْذِيَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَصَالِحَ عَلِمَهَا. قُلْنَا: فَقَدْ أَجَبْتُمْ عَنَّا، وَالْآيَاتُ وَرَدَتْ فِي صُوَرٍ خَاصَّةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الْخَامِسَةُ: يَجُوزُ نَسْخُ الْعِبَادَةِ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ» عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، «خِلَافًا لِقَوْمٍ» ، وَهُمُ الْأَقَلُّونَ.
«لَنَا: الرَّفْعُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْبَدَلَ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْجَوَازِ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ، وَالرَّفْعُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْبَدَلَ، بَلْ يُمْكِنُ وُجُودُهُ بِدُونِ بَدَلٍ، وَاعْتُبِرْ ذَلِكَ بِالْمَحْسُوسَاتِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ رَفْعِ الْحَجَرِ مِنْ مَكَانِهِ أَنَّهُ يَضَعُ

(2/296)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَكَانَهُ غَيْرَهُ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى الْجَوَازِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ النَّسْخُ فِي الشَّرِيعَةِ، تَارَةً إِلَى الْبَدَلِ، وَتَارَةً لَا إِلَى بَدَلٍ.
وَأَيْضًا: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى مَصْلَحَةَ الْمُكَلَّفِ فِي نَسْخِ الْحُكْمِ عَنْهُ لَا إِلَى بَدَلٍ، وَرَدِّهِ إِلَى مَا قَبْلَ الشَّرْعِ مِنْ إِبَاحَةٍ أَوْ حَظْرٍ أَوْ وَقْفٍ، عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْخِلَافِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْ لَمْ يَكُنِ النَّسْخُ لَا إِلَى بَدَلٍ جَائِزًا، لَمَا وَقَعَ، لَكِنَّهُ قَدْ وَقَعَ ; فَيَكُونُ جَائِزًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ وَقَعَ فِي الشَّرْعِ ; لِأَنَّ تَقْدِيمَ الصَّدَقَةِ أَمَامَ النَّجْوَى، أَيْ: بَيْنَ يَدَيِ النَّجْوَى، وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، نُسِخَ لَا إِلَى بَدَلٍ.
وَشَرْحُ ذَلِكَ: أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَكْثَرُوا مِنْ سُؤَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ فِي سَبَبِهَا: أَنَّ قَوْمًا مِنْ شَبَابِ الْمُؤْمِنِينَ، كَثُرَتْ مُنَاجَاتُهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي غَيْرِ حَاجَّةٍ، إِلَّا لِتَظْهَرَ مَنْزِلَتُهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمْحًا لَا يَرُدُّ أَحَدًا ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُشَدِّدَةً عَلَيْهِمْ أَمْرَ الْمُنَاجَاةِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْأَغْنِيَاءِ ; لِأَنَّهُمْ غَلَبُوا الْفُقَرَاءَ عَلَى مُنَاجَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَجْلِسِهِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ وَالْكَلْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} [الْمُجَادَلَةِ: 12] ، قَالَا: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، مَا كَانَتْ إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: جَاءَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدِينَارٍ ; فَتَصَدَّقَ بِهِ، وَكَلَّمَ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمْسَكَ النَّاسُ عَنْ كَلَامِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَزَلَ التَّخْفِيفُ ; فَقَالَ: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} حَتَّى بَلَغَ: {خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الْمُجَادَلَةِ: 13] .

(2/297)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصَّدَقَةَ بَيْنَ يَدَيِ النَّجْوَى نُسِخَتْ لَا إِلَى بَدَلٍ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي الْآيَةِ النَّاسِخَةِ: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الْمُجَادَلَةِ: 13] ; فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بَدَلَ الصَّدَقَةِ.
قُلْنَا: لَيْسَتْ هَذِهِ أَبْدَالًا ; لِأَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً قَبْلَ ذَلِكَ، بِمُوجِبِ أَصْلِ التَّكْلِيفِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْآيَةِ: إِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ; فَارْجِعُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ أَوَّلًا، مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَطَاعَةِ الرَّسُولِ.
وَمِمَّا يُذْكَرُ مِنْ أَمْثِلَةِ النَّسْخِ لَا إِلَى بَدَلٍ: نَسْخُ وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي اللَّيْلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، مَتَى نَامَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ، حَرُمَ عَلَيْهِ الْأَكْلُ حَتَّى اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ ; فَخَفَّفَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، بِنَسْخِهِ بِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ نَسْخُ اعْتِدَادِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا حَوَلًا، بِاعْتِدَادِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ; فَتَمَامُ الْحَوَلِ نُسِخَ لَا إِلَى بَدَلٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ نَسْخُ النَّهْيِ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:

(2/298)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ ; فَكُلُوا وَادَّخِرُوا مَا شِئْتُمْ. وَهُوَ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ.
وَبَعْضُهُمْ يَمْنَعُ كَوْنَ هَذَا نَسْخًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَسْخٌ لِدُخُولِهِ فِي حَدِّ النَّسْخِ، وَكَوْنِهِ ثَبْتَ لِحِكْمَةٍ، ثُمَّ زَالَ بِزَوَالِهَا، لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ نَسْخًا، إِذْ سَائِرُ صُوَرِ النَّسْخِ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} يَقْتَضِيهِ» . هَذَا دَلِيلُ الْخَصْمِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [الْبَقَرَةِ: 106] ، يَقْتَضِي أَنَّ النَّسْخَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ إِلَى بَدَلٍ كَمَا يُقَالُ: مَا تَبِعَ مِنْ جَارِيَةٍ أَوْ غُلَامٍ، تَشْتَرِ خَيْرًا مِنْهُ، أَوْ مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: لَفْظًا لَا حُكْمًا» . هَذَا جَوَابٌ عَنِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لُزُومَ الْبَدَلِ فِي نَسْخِ الْآيَةِ لَفْظًا لَا حُكْمًا، يَعْنِي أَنَّهُ يُنْسَخُ آيَةً بِآيَةٍ ; فَلَفْظُ الْآيَةِ النَّاسِخَةِ بَدَلٌ عَنْ لَفْظِ الْمَنْسُوخَةِ، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النَّحْلِ: 101] ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ أَيَّ حُكْمٍ نَسَخْنَاهُ، أَبْدَلْنَا مَكَانَهُ حُكْمًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْبَدَلِ اللَّفْظِيِّ الْبَدَلُ الْحُكْمِيُّ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا. وَالتَّقْدِيرُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ: نَأْتِ مِنْهَا بِخَيْرٍ، أَيْ: نَأْتِ مِنْ نَسْخِهَا بِخَيْرٍ لِلْمُكَلَّفِينَ، وَهُوَ تَخْفِيفُ حُكْمِهَا بِالنَّسْخِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ، هَذَا الَّذِي ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» .

(2/299)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهَهُنَا جَوَّابَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي بَدَلًا فِي النَّسْخِ أَصْلًا ; لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِبَدَلِ الْآيَةِ مِثْلَهَا، أَوْ خَيْرًا مِنْهَا، وَقَعَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ، الَّذِي هُوَ النَّسْخُ ; فَهُوَ مَشْرُوطٌ لَهُ، وَالْمَشْرُوطُ مَلْزُومٌ لِلشَّرْطِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ انْتِفَاءُ اللَّازِمِ، وَلَا ثُبُوتُهُ ; فَانْتِفَاءُ الْبَدَلِ فِي النَّسْخِ، لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ اللَّازِمِ وَلَا ثُبُوتِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِانْتِفَاءِ الْبَدَلِ دَلَالَةٌ عَلَى النَّسْخِ، نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا، جَازَ أَنْ يُوجَدَ النَّسْخُ بِدُونِ الْبَدَلِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي النَّسْخِ مِنْ بَدَلٍ، قَدْ يَكُونُ فِي [غَيْرِ] الْمَصْلَحَةِ ; فَيَكُونُ عَدَمُ بَدَلِ الْحُكْمِ أَصْلَحَ لِلْمُكَلَّفِ ; فَهَذِهِ الْمَصْلَحَةُ بَدَلٌ عَنْ مَصْلَحَةِ الْمَنْسُوخِ، وَإِنْ لَمْ يَخْلُفْهُ حُكْمٌ ; لِأَنَّهَا مَصْلَحَةٌ عَدَمِيَّةٌ، أَيْ: نَاشِئَةٌ عَنْ عَدَمِ الْحُكْمِ.
وَأَجَابَ الْقَرَافِيُّ عَنِ الْآيَةِ: بِأَنَّهَا صِيغَةُ شَرْطٍ، وَلَا يَلْزَمُ فِي الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا، بَلْ قَدْ يَكُونَ مُحَالًا، كَقَوْلِنَا: إِنْ كَانَ الْوَاحِدُ نِصْفَ الْعَشَرَةِ ; فَالْعَشَرَةُ اثْنَانِ ; فَهَذَا شَرْطٌ مُحَالٌ، وَالْكَلَامُ عَرَبِيٌّ صَحِيحٌ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَلْزِمِ الشَّرْطُ الْإِمْكَانَ، لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْوُقُوعِ مُطْلَقًا ; فَضْلًا عَنِ الْوُقُوعِ بِبَدَلٍ.
قَوْلُهُ: «وَنَسْخُ الْحُكْمِ بِأَخَفَّ مِنْهُ» ، أَيْ: يَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ بِأَخَفَّ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّهُ تَخْفِيفٌ عَنِ الْمُكَلَّفِ، وَهُوَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، بَلْ هُوَ عَامُّ الْجُودِ عَلَى خَلْقِهِ.
قَوْلُهُ: «وَبِمِثْلِهِ» ، أَيْ: وَيَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ فِي الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ.
قَوْلُهُ: «لَا يُقَالُ: هُوَ عَبَثٌ» هَذَا تَقْرِيرُ سُؤَالٍ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: نَسْخُ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ عَبَثٌ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَثَلَيْنِ يَسُدُّ مَسَدَّ الْآخَرِ ; فَالنَّقْلُ عَنْهُ

(2/300)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِلَى مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ عَبَثٌ، وَتَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ.
قَوْلُهُ: «لِأَنَّا نَقُولُ» هَذَا جَوَابُ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ.
وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ نَقْلَ الْمُكَلَّفِ عَنْ حُكْمٍ إِلَى مِثْلِهِ لَا فَائِدَةَ لَهُ، بَلْ فَائِدَتُهُ امْتِحَانُ الْمُكَلَّفِ، بِانْتِقَالِهِ مِنْ حُكْمٍ إِلَى حُكْمٍ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى انْقِيَادِهِ، وَطَاعَتِهِ، وَعَدَمِ مُخَالَفَتِهِ. فَإِنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الشَّرْعَ قَالَ لَنَا الْآنَ: لَا تُصَلُّوا الظُّهْرَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، بَلْ صَلُّوهَا قَبْلَ الزَّوَالِ، أَوْ صَلَّوُا الْفَجْرَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. فَبَادَرَ قَوْمٌ إِلَى ذَلِكَ، وَتَوَقَّفَ قَوْمٌ ; فَقَالُوا: حَقِيقَةُ الزَّمَانِ وَاحِدَةٌ ; فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَقَبْلَهُ، وَبَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَبَعْدَهُ، حَتَّى يَنْقُلَهَا إِلَيْهِ؟ لَكَانَ الْمُبَادِرُونَ إِلَى الِامْتِثَالِ أَفْضَلُ وَأَطْوَعُ، لِتَرْكِهِمُ الِاعْتِرَاضَ، بَلْ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ وَجَبَتِ الظُّهْرُ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَمْ تَجِبْ قَبْلَهُ؟ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ مَعَ تَمَاثُلِهِمَا؟ لَعُدَّ مُعْتَرِضًا مُتَكَلِّفًا ; فَكَانَ مَنْ لَا يَعْتَرِضُ بِذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْهُ، لِسُكُوتِهِ عَنِ التَّعَرُّضِ، وَانْقِيَادِهِ لِلتَّعَبُّدِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ حَيْثُ قُيِّدَ انْقَادَ.
وَمِثْلُ هَذَا، لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَصْحَابَهُ بِالْإِحْلَالِ مِنَ الْحَجِّ بِالْحُدَيْبِيَةِ، تَوَقَّفُوا عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ ; فَغَضِبَ لِعَدَمِ مُبَادَرَتِهِمْ، لِكَوْنِهِ أَمَرَهُمْ بِخِلَافِ مَا اعْتَادُوهُ، ثُمَّ لَمَّا

(2/301)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
امْتَثَلُوا حَلَقَ قَوْمٌ، وَقَصَّرَ آخَرُونَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ ; فَقِيلَ لَهُ: وَالْمُقَصِّرِينَ؟ فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: وَلِلْمُقَصِّرِينَ. فَقِيلَ لَهُ: اسْتَغْفَرْتَ لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً؟ فَقَالَ: لِأَنَّ الْمُحَلِّقِينَ لَمْ يَشُكُّوا. قَوْلُهُ: «وَبِأَثْقَلَ مِنْهُ» ، أَيْ: وَيَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ بِأَثْقَلَ مِنْهُ، «خِلَافًا لِبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ» .

(2/302)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَمَنَعَ مِنْهُ أَيْضًا بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.
قَوْلُهُ: «لَنَا: لَا يَمْتَنِعُ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَنَا عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ إِلَى الْأَثْقَلِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ، لَامْتَنَعَ لِذَاتِهِ، أَوْ لِتَضَمُّنِهِ مَفْسَدَةً، لَكِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ; فَلَا يَمْتَنِعُ أَصْلًا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ وُقُوعُهُ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ مُحَالٌ لِذَاتِهِ، بَلْ قَدْ وَقَعَ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ مُحَالٌ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ، أَيْ: لِكَوْنِهِ نَسْخًا لِلْأَخَفِّ إِلَى الْأَثْقَلِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ لِتَضَمُّنِهِ مَفْسَدَةً ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمَفْسَدَةِ فِيهِ، وَمَا يَدَّعِيهِ الْخَصْمُ مَفْسَدَةً فِيهِ، سَنُجِيبُ عَنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، بَلْ قَدْ يَتَضَمَّنُ مَصْلَحَةً عَظِيمَةً، وَهُوَ تَدْرِيجُ الْمُكَلَّفِ مِنَ الْأَخَفِّ إِلَى الْأَثْقَلِ ; فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَبَرَّمُ بِهِ ; فَبَانَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ ; فَلَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا أَصْلًا ; فَيَكُونُ جَائِزًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ، وَالْوُقُوعُ دَلِيلُ الْجَوَازِ. وَبَيَانُ وُقُوعِهِ بِصُوَرٍ:
إِحْدَاهُنَّ: نَسْخُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِدْيَةِ وَالصِّيَامِ إِلَى تَعْيِينِهِ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، يُخَيَّرُ أَحَدُهُمْ بَيْنَ أَنْ يَصُومَ، وَبَيْنَ أَنْ يُفْطِرَ وَيُطْعِمَ ; فَنُسِخَ ذَلِكَ إِلَى وُجُوبِ الصِّيَامِ عَيْنًا، وَذَلِكَ أَثْقَلُ مِنَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: تَأْخِيرُ صَلَاةِ الْخَوْفِ حَالَ الْقِتَالِ إِلَى وُجُوبِهَا عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [الْبَقَرَةِ: 239] ، وَكَانَ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ تَأْخِيرُهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ الْقِتَالُ، وَوُجُوبُهَا فِي وَقْتِهِ أَثْقَلُ.
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: نَسْخُ تَرْكِ الْقِتَالِ إِلَى وُجُوبِهِ، فَإِنَّ الْقِتَالَ كَانَ مَتْرُوكًا فِي أَوَّلِ

(2/303)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْإِسْلَامِ، بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [النِّسَاءِ: 81] ، {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [الْمَائِدَةِ: 13] ، {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} [الْبَقَرَةِ: 109] ، ثُمَّ نُسِخَ بِوُجُوبِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الْحَجِّ: 39] ، {قَاتِلُوهُمْ} [التَّوْبَةِ: 14] ، {وَاقْتُلُوهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 191] ، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التَّحْرِيمِ: 9] ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَوُجُوبُ الْقِتَالِ أَثْقَلُ مِنْ تَرْكِهِ.
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْخَمْرَ، وَالْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ، وَمُتْعَةَ النِّكَاحِ، كَانَتْ كُلُّهَا مُبَاحَةً ; فُنِسَخَتْ إِبَاحَتُهَا إِلَى التَّحْرِيمِ، وَهُوَ أَثْقَلُ.
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ صُورَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ:

(2/304)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِحْدَاهُمَا: نَسْخُ حَبْسِ الزَّانِيَةِ فِي الْبَيْتِ حَتَّى تَمُوتَ، وَتَعْنِيفِ الزَّانِي، بِإِيجَابِ الْحَدِّ رَجْمًا، أَوْ جَلَدًا وَتَغْرِيبًا، وَهُوَ أَثْقَلُ، وَذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الزَّانِي كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، إِنْ كَانَ امْرَأَةً، حُبِسَتْ حَتَّى تَمُوتَ، وَإِنْ كَانَ رَجُلًا، عُنِّفَ، وَأُوذِيَ بِالْقَوْلِ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النِّسَاءِ: 15 - 16] ، أَيْ بِالتَّعْنِيفِ وَالذَّمِّ ; فَنُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الرَّجْمِ، وَآيَةِ النُّورِ، فِي جَلْدِ الْبِكْرِ وَغَيْرِهِ.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: نَسْخُ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ.
قُلْتُ: وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ صَوْمَ عَاشُورَاءَ كَانَ وَاجِبًا، ثُمَّ نُسِخَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ عَاشُورَاءُ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، صَامَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا افْتُرِضَ رَمَضَانُ، كَانَ رَمَضَانُ هُوَ الْفَرِيضَةَ، وَتُرِكَ عَاشُورَاءُ ; فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: تَشْدِيدٌ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْمَانِعِينَ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّسْخَ إِلَى الْأَثْقَلِ تَشْدِيدٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِرَأْفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَحْمَتِهِ ; لِأَنَّ شَأْنَهُ التَّسْهِيلُ عَلَى خَلْقِهِ، لَا التَّشْدِيدُ عَلَيْهِمْ.

(2/305)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَجْهُ الثَّانِي: النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّخْفِيفِ وَالتَّيْسِيرِ، نَحْوَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الْأَنْفَالِ: 66] ، يَعْنِي خَفَّفَ عَنْكُمْ ثَبَاتَ الْوَاحِدِ لِعَشَرَةٍ فِي الْجِهَادِ، بِالِاقْتِصَارِ عَلَى ثَبَاتِهِ لِاثْنَيْنِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [الْبَقَرَةِ: 185] ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النِّسَاءِ: 28] .
وَقَوْلُهُ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} ، {أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} ، اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ (يُرِيدُ اللَّهُ) فِي الْآيَتَيْنِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِخْدَامِ.
قَالُوا: وَالنَّسْخُ إِلَى الْأَثْقَلِ عُسْرٌ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ، وَمَا لَا يُرِيدُهُ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ ; فَالنَّسْخُ إِلَى الْأَثْقَلِ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: مَنْقُوضٌ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا جَوَابٌ عَنِ الْوَجْهَيْنِ.
أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ - وَهُوَ قَوْلُهُمْ - تَشْدِيدٌ لَا يَلِيقُ بِالرَّأْفَةِ الْإِلَهِيَّةِ -: فَبِأَنَّهُ «مَنْقُوضٌ بِتَسْلِيطِهِ الْمَرَضَ وَالْفَقْرَ وَأَنْوَاعَ الْآلَامِ، وَالْمُؤْذِيَاتِ عَلَى الْخَلْقِ» ، مَعَ أَنَّهُ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِمْ ; فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ، وَحَيْثُ وَقَعَ ; فَالنَّسْخُ إِلَى الْأَثْقَلِ مِثْلُهُ ; فَلْيَكُنْ وُقُوعُهُ جَائِزًا.
قَوْلُهُ: «فَإِنْ قِيلَ: لِمَصَالِحَ عَلِمَهَا» ، هَذَا جَوَابٌ مِنَ الْخَصْمِ عَنِ النَّقْضِ الْمَذْكُورِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ النَّقْضَ بِالْمَرَضِ، وَالْفَقْرِ، وَالْآلَامِ، لَا يَلْزَمُنَا ; لِأَنَّ ابْتِلَاءَهُ الْخَلْقَ

(2/306)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِذَلِكَ، لِمَصَالِحَ عَلِمَهَا لَهُمْ فِيهِ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: فَقَدْ أَجَبْتُمْ عَنَّا» ، أَيْ: هَذَا الْجَوَابُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ; فَهُوَ جَوَابُنَا عَنْ كَوْنِ النَّسْخِ إِلَى الْأَثْقَلِ تَشْدِيدًا، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: النَّسْخُ إِلَى الْأَثْقَلِ لِمَصْلَحَةٍ عَلِمَهَا فِيهِ، كَمَا أَنَّ ابْتِلَاءَهُ لَهُمْ بِالْمَرَضِ، وَسَائِرِ الْمَكَارِهِ، لِمَصَالِحَ عَلِمَهَا لَهُمْ فِيهِ، ثُمَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّشْدِيدِ مُنْتَقَضٌ عَلَيْهِمْ أَيْضًا بِأَصْلِ التَّكْلِيفِ ; فَإِنَّهُ تَشْدِيدٌ، وَتَرْكُهُ أَسْهَلُ عَلَيْهِمْ ; فَمُقْتَضَى قَوْلِهِمْ: عَدَمُ التَّكْلِيفِ بِالْكُلِّيَّةِ، لَكِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقٍ، كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ الدِّينِيَّةِ، وَالِاعْتِقَادِيَّةِ، وَالْعَمَلِيَّةِ.
قَوْلُهُ: «وَالْآيَاتُ وَرَدَتْ فِي صُوَرٍ خَاصَّةٍ» ، يَعْنِي الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي التَّخْفِيفِ، وَرَدَتْ فِي أَحْكَامٍ خَاصَّةٍ، وَلَيْسَتْ عَامَّةً، حَتَّى يُحْتَجَّ بِعُمُومِهَا عَلَى مَنْعِ النَّسْخِ إِلَى الْأَثْقَلِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الْأَنْفَالِ: 66] ; فَهِيَ فِي الْجِهَادِ كَمَا ذُكِرَ، بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الْأَنْفَالِ: 66] ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} ; فَهِيَ فِي سِيَاقِ نِكَاحِ الْأَمَةِ، لِمَنْ لَمْ يَجِدْ طَوْلَ حُرَّةٍ، ثُمَّ هِيَ مُطْلَقَةٌ، لَا عُمُومَ لِلَفْظِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [الْبَقَرَةِ: 185] ; فَهُوَ فِي سِيَاقِ تَخْفِيفِ الصَّوْمِ عَنِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَاللَّامُ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ وَإِنِ احْتمَلَ أَنَّهَا لِلِاسْتِغْرَاقِ، لَكِنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَعْهُودِ، وَهُوَ الْيُسْرُ الْحَاصِلُ بِالْإِفْطَارِ، لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَالْعُسْرُ الْحَاصِلُ لَهُمَا بِالصَّوْمِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ. عَلَى أَنَّ ابْنَ الْخَشَّابِ حَكَى فِي «الْمُرْتَجَلِ» عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ الْكَلَامَ مَتَى كَانَ فِيهِ

(2/307)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَعْهُودٌ، تَعَيَّنَ رُجُوعُ اللَّامِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ إِذَا انْتَفَى الْمَعْهُودُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(2/308)


وَلَا يَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ حُكْمُ النَّاسِخِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ، اخْتَارَهُ الْقَاضِي، وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ لُزُومَهُ عَلَى انْعِزَالِ الْوَكِيلِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْعَزْلِ، وَهُوَ تَخْرِيجٌ دَوْرِيٌّ. لَنَا: لَوْ لَزِمَهُ لَاسْتَأْنَفَ أَهْلُ قُبَاءَ الصَّلَاةَ حِينَ عَلِمُوا بِنَسْخِ الْقِبْلَةِ. قَالَ: النَّسْخُ بِوُرُودِ النَّاسِخِ، لَا بِالْعِلْمِ بِهِ. وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَعْذُورِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، كَالْحَائِضِ وَالنَّائِمِ. وَالْقِبْلَةُ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ، وَهُمْ كَانُوا مَعْذُورِينَ. قُلْنَا: الْعِلْمُ شَرْطُ اللُّزُومِ ; فَلَا يَثْبُتُ دُونَهُ، وَالْحَائِضُ وَالنَّائِمُ عَلِمَا التَّكْلِيفَ، بِخِلَافِ هَذَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَلَا يَلْزَمُ الْمُكَلَّفُ حُكْمُ النَّاسِخِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ، اخْتَارَهُ الْقَاضِي» ، أَيْ: لَا يَثْبُتُ النَّسْخُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ.
مِثَالُهُ: لَوْ نُسِخَتْ إِبَاحَةُ بَعْضِ الْمَطْعُومَاتِ الْمُبَاحَةِ، كَالْعِنَبِ، بِأَنْ قِيلَ: هُوَ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ ; فَمَنْ بَلَغَهُ هَذَا النَّسْخُ، ثَبَتَ التَّحْرِيمُ فِي حَقِّهِ، وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ، لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، حَتَّى لَوْ أَكَلَ بَعْدَ النَّسْخِ، وَقَبْلَ الْعِلْمِ، لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا، وَكَذَا لَوْ زِيدَ فِي الصَّلَوَاتِ صَلَاةٌ، أَوْ فِي الْفَجْرِ رَكْعَةٌ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ، لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِهَا حَتَّى يَبْلُغَهُ.
«وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ لُزُومَهُ» ، أَيْ: لُزُومَ حُكْمِ النَّاسِخِ لِلْمُكَلَّفِ قَبْلَ بُلُوغِهِ «عَلَى انْعِزَالِ الْوَكِيلِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْعَزْلِ» ، يَعْنِي أَنَّ فِي لُزُومِ حُكْمِ النَّاسِخِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ قَوْلَيْنِ، كَالْقَوْلَيْنِ فِيمَا إِذَا عَزَلَ الْمُوَكَّلُ الْوَكِيلَ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ الْعَزْلُ، هَلْ يَنْعَزِلُ أَمْ لَا؟
إِنْ قُلْنَا: يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِالْعَزْلِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ، لَزِمَ الْمُكَلَّفَ حُكْمُ النَّاسِخِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا.
وَوَجْهُ هَذَا التَّخْرِيجِ: أَنَّ الْمُكَلَّفَ فِي الْتِزَامِ الْأَحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَوَامِرِ اللَّهِ

(2/309)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَعَالَى، كَالْوَكِيلِ فِي التَّصَرُّفَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِذْنِ الْمُوَكِّلِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَعْنِي الْمُكَلَّفَ وَالْوَكِيلَ، لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ إِلَّا بِمُقْتَضَى الْإِذْنِ، وَيَنْعَزِلُ بِالْعَزْلِ، فَإِذَا قَالَ الْمُوَكِّلُ لِوَكِيلِهِ: عَزَلْتُكَ، انْعَزَلَ. وَلَوْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُكَلَّفِ: أَسْقَطْتُ عَنْكَ التَّكْلِيفَ، لَسَقَطَ عَنْهُ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْعِبَادَاتِ فِيمَا كَانَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ قَبْلُ، بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ فِي عَدَمِ وُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ عَقْلًا.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ تَخْرِيجٌ دَوْرِيٌّ» ، أَيْ: تَخْرِيجُ أَبِي الْخَطَّابِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، عَلَى مَسْأَلَةِ انْعِزَالِ الْوَكِيلِ، يَلْزَمُ مِنْهُ الدَّوْرُ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أُصُولِيَّةٌ، وَمَسْأَلَةُ عَزْلِ الْوَكِيلِ فَرْعِيَّةٌ ; فَهِيَ فَرْعٌ عَلَى مَسْأَلَةِ النَّسْخِ ; لِأَنَّ الْعَادَةَ تَخْرِيجُ الْفُرُوعِ عَلَى الْأُصُولِ ; فَلَوْ خَرَّجْنَا هَذَا الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ فِي النَّسْخِ عَلَى الْفَرْعِ الْمَذْكُورِ فِي الْوَكَالَةِ، لَزِمَ الدَّوْرُ، لِتَوَقُّفِ الْأَصْلِ عَلَى الْفَرْعِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَيْهِ ; فَيَصِيرُ مِنْ بَابِ تَوَقُّفِ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ بِوَاسِطَةٍ.
قُلْتُ: وَهَذَا الْحُكْمُ، أَعْنِي عَدَمَ لُزُومِ حُكْمِ النَّاسِخِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ، لَا يَخْتَصُّ النَّاسِخُ، بَلْ سَائِرُ النُّصُوصِ، نَاسِخَةً كَانَتْ، أَوْ مُبْتَدِئَةً ; فِيهَا الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ. وَالْأَشْبَهُ مَا صَحَّحْنَاهُ مِنْ عَدَمِ اللُّزُومِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا وَرَدَ النَّاسِخُ إِلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَبْلَ بُلُوغِهِ الْأُمَّةَ ; فَأَثْبَتَ حُكْمَهُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَنَفَاهُ بَعْضُهُمْ، وَبِهِ قَالَ

(2/310)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحْمَدُ وَالْحَنَفِيَّةُ، قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مَعَ جِبْرِيلَ قَبْلَ بُلُوغِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ اتِّفَاقًا.
قُلْتُ: لَعَلَّ وَجْهَ الْفَرْقِ: هُوَ أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ النَّصُّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَدْ بَلَغَ مَحَلَّ التَّكْلِيفِ الْبَشَرِيِّ ; فَثَبَتَ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ، تَنْزِيلًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْزِلَةَ جَمِيعِهِمْ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَبْلُغْهُ.
قُلْتُ: وَلَا يَظْهَرُ لِهَذَا التَّفْصِيلِ أَثَرٌ، وَلَا مُنَاسَبَةٌ، بَلِ الْأَوْلَى أَنَّ النَّصَّ مُطْلَقًا لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ بَلَغَهُ، نَفْيًا لِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، أَوْ لِلتَّكْلِيفِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْمُكَلَّفِ بِهِ. وَلَعَلَّ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا - خَرَّجَ قَوْلًا لَهُ ثَالِثًا فِي أَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ، إِنْ عَلِمَ بِالنَّصِّ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ انْتَقَضَ بِهِ وُضُوءُهُ، وَإِلَّا فَلَا.
وَكَذَلِكَ فِيمَنْ خَافَ فَوْتَ الرَّكْعَةِ ; فَرَكَعَ فَذًّا دُونَ الصَّفِّ، ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّفِّ، إِنْ عَلِمَ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَإِلَّا صَحَّتْ، هُوَ قَوْلٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ.

(2/311)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «لَنَا لَوْ لَزِمَهُ، لَاسْتَأْنَفَ أَهْلُ قُبَاءَ الصَّلَاةَ حِينَ عَلِمُوا بِنَسْخِ الْقِبْلَةِ» .
هَذَا دَلِيلُ الْقَاضِي، وَمَنْ وَافَقَهُ، عَلَى أَنَّ حُكْمَ النَّاسِخِ لَا يَلْزَمُ قَبْلَ بُلُوغِهِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ بَلَغَهُمْ نَسْخُ الْقِبْلَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَهُمْ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ أَوِ الْفَجْرِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ، وَبَنَوْا عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَأْنِفُوهَا. وَلَوْ ثَبَتَ حُكْمُ النَّاسِخِ فِي حَقِّهِمْ قَبْلَ بُلُوغِهِ إِيَّاهُمْ، لَزِمَهُمُ اسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُمْ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْقِبْلَةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِمْ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا ; فَحَيْثُ افْتَتَحُوهَا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ; فَقَدْ أَخَلُّوا بِشَرْطِهَا ; فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَسْتَأْنِفُوهَا ; لِأَنَّ افْتِتَاحَهُمْ لَهَا وَقَعَ فَاسِدًا، لِلْإِخْلَالِ بِشَرْطِهِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَأْنِفُوهَا، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِاسْتِئْنَافِهَا، مَعَ أَنَّ مِثْلَ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ، لَا يَخْفَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَادَةً ; فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّ حُكْمَ النَّاسِخِ لَا يَلْزَمُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ.
قَوْلُهُ: «قَالَ» ، يَعْنِي أَبَا الْخَطَّابِ وَمَنْ وَافَقَهُ، احْتَجَّ لِقَوْلِهِ بِأَنَّ «النَّسْخَ بِوُرُودِ

(2/312)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النَّاسِخِ لَا بِالْعِلْمِ بِهِ» فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: النَّسْخُ يَحْصُلُ بِوُرُودِ النَّاسِخِ ; لِأَنَّ النَّسْخَ رَفَعُ الْحُكْمِ، وَبِوُرُودِ النَّاسِخِ يَحْصُلُ الرَّفْعُ، سَوَاءٌ بَلَغَ الْمُكَلَّفَ النَّاسِخُ أَوْ لَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَثْبُتَ فِي حَقِّهِ مُطْلَقًا، بَلَغَهُ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ.
نَعَمْ إِذَا لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ ; فَأَخَلَّ بِامْتِثَالِ حُكْمِهِ، كَانَ مَعْذُورًا بِعَدَمِ الْعِلْمِ ; فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِدْرَاكُ بِالْقَضَاءِ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَعْذُورِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، كَالْحَائِضِ وَالنَّائِمِ، يَقْضِيَانِ مَا فَاتَهُمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَقْتَ الْحَيْضِ وَالنَّوْمِ، مَعَ أَنَّهُمَا مَعْذُورَانِ.
كَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ، يَقْضِي مَا فَاتَهُ مِنْ حُكْمِهِ فِي حَالِ عَدَمِ بُلُوغِهِ إِيَّاهُ، وَيَظْهَرُ أَثَرُ عَدَمِ الْعِلْمِ فِي سُقُوطِ الْإِثْمِ ; فَإِنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِالنَّاسِخِ، وَتَرَكَ مُقْتَضَاهُ، أَثِمَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِلْعُذْرِ.
قَوْلُهُ: «وَالْقِبْلَةُ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ» . هَذَا جَوَابٌ مِنْ أَبِي الْخَطَّابِ عَنْ قِصَّةِ أَهْلِ قُبَاءَ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ قِصَّةَ أَهْلِ قُبَاءَ لَا حُجَّةَ فِيهَا عَلَى عَدَمِ لُزُومِ حُكْمِ النَّاسِخِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعْذُورِينَ بِعَدَمِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا أَخَلُّوا بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي ابْتِدَاءِ صَلَاتِهِمْ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، بِدَلِيلِ مَا إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ جِهَتُهَا ; فَاجْتَهَدَ ; فَأَخْطَأَهَا، فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَصِحُّ، وَإِنْ وَقَعَتْ جَمِيعُهَا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ; فَلَأَنْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ، مَعَ تَرْكِ الِاسْتِقْبَالِ فِي جُزْءٍ مِنْهَا لِلْعُذْرِ، أَوْلَى.
قَوْلُهُ: «وَقُلْنَا: الْعِلْمُ شَرْطُ اللُّزُومِ ; فَلَا يَثْبُتُ دُونَهُ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابٌ

(2/313)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَنْ دَلِيلِ أَبِي الْخَطَّابِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّا إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ النَّسْخَ يَحْصُلُ بِوُرُودِ النَّاسِخِ كَمَا قَرَّرْتُهُ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِهِ، أَيْ: عِلْمَ الْمُكَلَّفِ بِهِ، وَبُلُوغَهُ إِيَّاهُ، شَرْطٌ لِلُزُومِ حُكْمِهِ لَهُ ; فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ بِدُونِهِ، أَيْ: بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ، لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ الْمَشْرُوطِ بِدُونِ شَرْطِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْعِلْمَ بِالْحُكْمِ شَرْطٌ فِي لُزُومِهِ لِلْمُكَلَّفِ، لِمَا سَبَقَ فِي شُرُوطِ التَّكْلِيفِ، وَذُكِرَ آنِفًا أَيْضًا، مَنْ لُزُومِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، أَوْ تَكْلِيفِ مَا لَا يَعْلَمُهُ الْمُكَلَّفُ.
قَوْلُهُ: «وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَعْذُورِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، كَالْحَائِضِ وَالنَّائِمِ» .
قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْحَائِضَ وَالنَّائِمَ عَلِمَا التَّكْلِيفَ، أَيْ: عَلِمَا أَنَّهُمَا مُكَلَّفَانِ بِالصَّوْمِ مَثَلًا ; فَوُجِدَ شَرْطُ لُزُومِ الْحُكْمِ لَهُمَا، بِخِلَافِ هَذَا، أَيْ: الَّذِي لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ ; فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِالْفِعْلِ، وَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ لُزُومِ الْحُكْمِ لَهُ ; فَلَا يَلْزَمُهُ ; فَظَهْرَ الْفَرْقُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(2/314)


السَّادِسَةُ: يَجُوزُ نَسْخُ كُلٍّ مِنَ الْكِتَابِ وَمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ وَآحَادِهَا بِمِثْلِهِ، وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ.
لَنَا: لَا يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ، وَقَدْ وَقَعَ، إِذِ التَّوَجُّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَتَحْرِيمُ الْمُبَاشَرَةِ لَيَالِي رَمَضَانَ، وَجَوَازُ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ، وَنُسِخَتْ بِالْقُرْآنِ.
احْتَجَّ بِأَنَّ السُّنَّةَ مُبَيِّنَةٌ لِلْكِتَابِ ; فَكَيْفَ يُبْطِلُ مُبَيِّنَهُ، وَلِأَنَّ النَّاسِخَ يُضَادُّ الْمَنْسُوخَ، وَالْقُرْآنُ لَا يُضَادُّ السُّنَّةَ، وَمَنَعَ الْوُقُوعَ الْمَذْكُورَ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ بَعْضَ السُّنَّةِ مُبَيِّنٌ لَهُ، وَبَعْضُهَا مَنْسُوخٌ بِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «السَّادِسَةُ: يَجُوزُ نَسْخُ كُلٍّ مِنَ الْكِتَابِ، وَمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ، وَآحَادِهَا بِمِثْلِهِ» ، أَيْ: يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ، وَمُتَوَاتِرُ السُّنَّةِ بِمُتَوَاتِرِهَا، وَآحَادُهَا بِآحَادِهَا. وَهَذَا اتِّفَاقٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَمَاثِلٌ ; فَجَازَ أَنْ يَرْفَعَ بَعْضُهُ بَعْضًا.
فَإِنْ قِيلَ: الْمِثْلَانِ يَسْتَوِيَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَيَسُدُّ أَحَدُهُمَا مَسَدَّ الْآخَرِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ ارْتِفَاعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، إِذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِأَنْ يَرْتَفِعَ بِالْآخَرِ مِنَ الْعَكْسِ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ قَدْ سَبَقَ عَلَى حَدِّ النَّسْخِ، بِأَنَّهُ رَفَعَ الْحُكْمَ، وَسَبَقَ الْجَوَابُ عَنْهُ، بِأَنَّ النَّاسِخَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ رَافِعًا بِقُوَّتِهِ، بِكَوْنِهِ وَارِدًا.
قَوْلُهُ: «وَنَسْخُ السُّنَّةِ» ، أَيْ: وَيَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ «بِالْكِتَابِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ» .
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَهُوَ جَائِزٌ عَقْلًا، وَوَاقِعٌ سَمْعًا عِنْدَ الْأَكْثَرِ، مَنِ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْفُقَهَاءِ، وَمُمْتَنِعٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.

(2/315)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «لَنَا: لَا يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَنَا عَلَى جَوَازِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ، أَيْ: لِكَوْنِهِ نَسَخَ السُّنَّةَ بِالْقُرْآنِ، وَلَا لِغَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ لِذَاتِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ. وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ قَرِيبًا، وَإِذَا لَمْ يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ، كَانَ جَائِزًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ، وَالْوُقُوعُ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَبَيَانُ وُقُوعِهِ بِصُوَرٍ:
إِحْدَاهُنَّ: التَّوَجُّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَنُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الْبَقَرَةِ: 144] .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: تَحْرِيمُ الْأَكْلِ وَالْمُبَاشَرَةِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَنُسِخَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} إِلَى قَوْلِهِ: {الْفَجْرِ} [الْبَقَرَةِ: 187] .
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: تَأْخِيرُ صَلَاةِ الْخَوْفِ إِلَى حَالِ الْأَمْنِ، ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَنُسِخَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النِّسَاءِ: 102] ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [الْبَقَرَةِ: 239] .
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ صُورَةً أُخْرَى، وَهِيَ صُلْحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُ مِنْ عِنْدِهِمْ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الْمُمْتَحَنَةِ: 10] ; فَهَذِهِ أَحْكَامُ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ، وَنُسِخَتْ بِالْكِتَابِ، وَذَلِكَ دَلِيلُ الْجَوَازِ.
قَوْلُهُ: «احْتَجَّ» ، يَعْنِي الشَّافِعِيَّ، «عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ» :
أَحَدُهُمَا: لَوْ جَازَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ، لَكَانَ الْكِتَابُ مُبْطِلًا لِمُبَيِّنِهِ، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ ; فَالْقَوْلُ بِنَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ بَاطِلٌ.
أَمَّا الْمُلَازَمَةُ ; فَلِأَنَّ السُّنَّةَ مُبَيِّنَةٌ لِلْكِتَابِ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلِ: 44] ، وَالنَّاسِخُ يُبْطِلُ الْمَنْسُوخَ ; فَالْكِتَابُ لَوْ نَسَخَ السُّنَّةَ، لَأَبْطَلَهَا، وَهِيَ مُبَيِّنَةٌ لَهُ ; فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِمُبَيِّنِهِ.

(2/316)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا أَنَّ إِبْطَالَ الْقُرْآنِ لِمُبَيِّنِهِ بَاطِلٌ ; فَلِأَنَّهُ إِذَا بَطَلَ مُبَيِّنُهُ، بَقِيَ بِغَيْرِ مُبَيِّنٍ ; فَيَرْجِعُ إِلَى الْإِجْمَالِ الْمُوجِبِ لِلتَّوَقُّفِ فِيهِ، وَتَعْطِيلُ أَلْفَاظِهِ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ. وَأَيْضًا السُّنَّةُ مُبَيِّنَةٌ لِلْقُرْآنِ ; فَلَوْ بَيَّنَهَا الْقُرْآنُ بِنَسْخِهِ لَهَا، لَزِمَ الدَّوْرُ، إِذْ يَصِيرُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُبَيِّنًا لِلْآخَرِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّاسِخَ يُضَادُّ الْمَنْسُوخَ، وَالْقُرْآنُ لَا يُضَادُّ السُّنَّةَ، وَإِلَّا لَمَا كَانَتْ بَيَانًا لَهُ ; فَالْقُرْآنُ لَا يَكُونُ نَاسِخًا لِلسُّنَّةِ.
قَوْلُهُ: «وَمَنَعَ الْوُقُوعَ الْمَذْكُورَ» ، أَيِ: الشَّافِعِيُّ مَنَعَ وُقُوعَ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ، وَبَيَانُ الْمَنْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ، يَجُوزُ أَنَّهَا ثَبَتَتْ بِقُرْآنٍ نُسِخَ رَسْمُهُ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ، كَمَا سَبَقَ فِي آيَةِ الرَّجْمِ، ثُمَّ نُسِخَتْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ بِالْقُرْآنِ ; فَمَا نَسَخَ الْقُرْآنَ إِلَّا قُرْآنٌ مِثْلُهُ.
الثَّانِي: بِتَقْدِيرِ أَنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامَ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ، يَجُوزُ أَنَّهَا نُسِخَتْ بِسُنَّةٍ وَافَقَتِ الْقُرْآنَ فِي حُكْمِهِ ; فَمَا نُسِخَتِ السُّنَّةُ إِلَّا بِسُنَّةٍ مِثْلِهَا.
قَوْلُهُ: «وَأُجِيبَ بِأَنَّ بَعْضَ السُّنَّةِ مُبَيِّنٌ لَهُ، وَبَعْضَهَا مَنْسُوخٌ بِهِ» . هَذَا جَوَابٌ عَنِ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ.
أَمَّا تَوْجِيهُهُ عَنِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: كَيْفَ يُبْطِلُ الْقُرْآنُ مَبِيِّنَهُ؟ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ الْقُرْآنِ مُحْتَاجًا إِلَى بَيَانٍ، بَلْ فِيهِ كَثِيرٌ مِمَّا هُوَ بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ ; فَحِينَئِذٍ، مُبِيِّنُ السُّنَّةِ يُبَيِّنُ مُجْمَلَ الْقُرْآنِ، وَمُبِيِّنُ الْقُرْآنِ يَنْسَخُ بَعْضَ السُّنَّةِ ; فَلَا يَكُونُ الْقُرْآنُ مُبْطِلًا لِمُبَيِّنِهِ.
وَأَمَّا تَوْجِيهُهُ عَنِ الثَّانِي ; فَنَقُولُ: الْقُرْآنُ لَا يُضَادُّ السُّنَّةَ فِي الْكُلِّ، أَوْ فِي الْبَعْضِ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَحِينَئِذٍ ذَلِكَ الْبَعْضُ الْمُضَادُّ لِلْقُرْآنِ مِنَ السُّنَّةِ مَنْسُوخٌ بِهِ، وَحِينَئِذٍ لَا دَوْرَ وَلَا مَحْذُورَ.

(2/317)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمَنْعِ ; فَقَوْلُهُ: الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ ثَبَتَتْ بِقُرْآنٍ نُسِخَ رَسْمُهُ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِالْقُرْآنِ.
قُلْنَا: الْأَصْلُ عَدَمُ قُرْآنٍ نُسِخَ رَسْمُهُ، ثَبَتَتْ بِهِ تِلْكَ الْأَحْكَامُ، وَاحْتِمَالُهُ لَا يَكْفِي، وَمَا وُجِدَ مِنْ أَفْعَالِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْوَالِهِ، وَتَقْرِيرَاتِهِ فِي ذَلِكَ، كَصَلَاتِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، صَالِحٌ لِإِثْبَاتِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ ; فَوَجَبَ أَنْ تُضَافَ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: يَجُوزُ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ نُسِخَتْ بِسُنَّةٍ وَافَقَتِ الْقُرْآنَ.
قُلْنَا: لَيْسَ النِّزَاعُ فِي الْجَوَازِ، بَلْ فِي الْوُقُوعِ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلُ وُجُودِ سُنَّةٍ نَاسِخَةٍ كَمَا ذَكَرْتُمْ، وَالْقُرْآنُ فِي ذَلِكَ مَوْجُودٌ صَالِحٌ لِلنَّسْخِ ; فَوَجَبَ إِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَيْهِ.
نَعَمْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي مَنْعِ كَوْنِ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ كَلَامًا جَيِّدًا.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْقَاعِدَةَ: أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ ثَابِتًا بِمُجْمَلٍ فَهُوَ مُرَادٌ مِنْ ذَلِكَ الْمُجْمَلِ، وَتَوَجُّهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، هُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْبَقَرَةِ: 110] ، كَمَا كَانَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ بَيَانًا لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الْأَنْعَامِ: 141] ، {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الْبَقَرَةِ: 110] ، وَهُوَ مُرَادٌ مِنَ الْآيَةِ: وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مُرَادٌ مِنَ الْقُرْآنِ ; فَهُوَ ثَابِتٌ بِالْقُرْآنِ بِوَاسِطَةِ الْبَيَانِ.
قُلْتُ: وَهَذَا يَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ فِي تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ عَنْ وَقْتِ الْقِتَالِ ; لِأَنَّهُ مِنْ

(2/318)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَوَازِمِ بَيَانِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِإِقَامَتِهَا إِكْمَالُهَا وَإِتْمَامُهَا، وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ حَالَ الْقِتَالِ ; فَكَانَ تَأْخِيرُهَا إِلَى وَقْتِ الْأَمْنِ مِنْ لَوَازِمِ إِقَامَتِهَا، وَكَذَلِكَ صُلْحُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْكُفَّارِ، عَلَى رَدِّ مَنْ جَاءَهُ مِنْهُمْ مُسْلِمًا، هُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التَّحْرِيمِ: 9] ، وَجِهَادُهُمْ مُفَوَّضٌ إِلَى اجْتِهَادِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ. وَقَدْ رَأَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ صُلْحَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
قُلْتُ: ثُمَّ يَتَفَرَّعُ لَنَا عَلَى هَذَا تَحْقِيقٌ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ، هَلْ يُضَافُ ثُبُوتُهُ إِلَى الْبَيَانِ، أَوْ إِلَى الْمُبَيَّنِ؟
فَإِنْ أُضِيفَ إِلَى الْبَيَانِ، اتَّجَهَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ وُقُوعِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ الَّتِي هِيَ بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِالْكِتَابِ ; فَقَدْ نُسِخَتِ السُّنَّةُ بِالْكِتَابِ.
وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى الْمُبَيَّنِ ; فَقَدِ اتَّجَهَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ مَنْعِ الْوُقُوعِ ; لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ إِنَّمَا ثَبَتَتْ بِالْقُرْآنِ الْمُجْمَلِ الَّذِي بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِالْقُرْآنِ ; فَمَا نَسَخَ الْقُرْآنَ إِلَّا قُرْآنٌ مِثْلُهُ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ يُضَافُ إِلَى الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ جَمِيعًا، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ مَأْخَذُ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ.
وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ ; فَجَانِبُ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ مُتَرَجِّحٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْوُقُوعُ ; فَبِنَسْخِ تَحْرِيمِ الْمُبَاشَرَةِ لَيَالِيَ رَمَضَانَ بَعْدَ النَّوْمِ، إِذْ لَا يَتَّجِهُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: كَانَ ثَابِتًا بِقُرْآنٍ مُجْمَلٍ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(2/319)


أَمَّا نَسْخُ الْقُرْآنِ بِمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ ; فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْقَاضِي مَنْعُهُ، وَأَجَازَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
لَنَا: لَا اسْتِحَالَةَ ذَاتِيَّةٌ، وَلَا خَارِجِيَّةٌ، وَلِأَنَّ تَوَاتُرَ السُّنَّةِ قَاطِعٌ، وَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَقِيقَةِ ; فَهُوَ كَالْقُرْآنِ.
قَالُوا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ، وَالسُّنَّةُ لَا تُسَاوِي الْقُرْآنَ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْقُرْآنُ يَنْسَخُ حَدِيثِي، وَحَدِيثِي لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ» ، وَلِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ لَفْظَ الْقُرْآنِ ; فَكَذَا حُكْمُهُ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا فِي الْحُكْمِ وَمَصْلَحَتِهِ، وَالسُّنَّةُ تُسَاوِي الْقُرْآنَ فِي ذَلِكَ، وَتَزِيدُ عَلَيْهِ، إِذِ الْمَصْلَحَةُ الثَّابِتَةُ بِالسُّنَّةِ قَدْ تَكُونُ أَعْظَمَ مِنَ الثَّابِتَةِ بِالْقُرْآنِ. أَوْ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ; فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ أَصْلًا. وَالْحَدِيثُ لَا يَخْفَى مِثْلُهُ، لِكَوْنِهِ أَصْلًا ; فَلَوْ ثَبَتَ لَاشْتُهِرَ، وَلَمَا خُولِفَ. وَلَفْظُ الْقُرْآنِ مُعْجِزٌ ; فَلَا تَقُومُ السُّنَّةُ مَقَامَهُ، بِخِلَافِ حُكْمِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " أَمَّا نَسْخُ الْقُرْآنِ بِمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ ; فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْقَاضِي مَنَعَهُ، وَأَجَازَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ ".
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي " الرَّوْضَةِ ": قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ إِلَّا قُرْآنٌ مِثْلُهُ يَجِيءُ بَعْدَهُ. قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ عَقْلًا وَشَرْعًا.
قُلْتُ: احْتِجَاجُ الْقَاضِي بِعُمُومِ نَفْيِ أَحْمَدَ، وَهُوَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ شَرْعًا، لَا عَقْلًا.
قُلْتُ: حَكَى الْآمِدِيُّ الْمَنْعَ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَأَكْثَرِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَعَنْ أَحْمَدَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَحُكِيَ الْجَوَازُ عَنْ مَالِكٍ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَابْنِ سُرَيْجٍ، وَأَكْثَرِ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ.

(2/320)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ الْقَرَافِيُّ: هُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا.
قَوْلُهُ: " لَنَا: لَا اسْتِحَالَةَ "، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْجَوَازِ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوِ اسْتَحَالَ، لَاسْتَحَالَ لِذَاتِهِ، أَوْ لَأَمَرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ، لَكِنَّهُ لَا يَسْتَحِيلُ لِذَاتِهِ، وَلَا لِأَمْرٍ خَارِجٍ ; فَلَا يَكُونُ مُسْتَحِيلًا مُطْلَقًا ; فَيَكُونُ جَائِزًا مُطْلَقًا. وَتَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ: كَتَقْرِيرِ قَوْلِنَا فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا: " لَنَا: لَا يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ "، وَقَدْ سَبَقَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مُتَوَاتِرَ السُّنَّةِ قَاطِعٌ، أَيْ: يَحْصُلُ الْقَطْعُ بِثُبُوتِهِ، لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ يُفِيدُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ، وَهُوَ - يَعْنِي مُتَوَاتِرَ السُّنَّةِ - مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَقِيقَةِ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجْمِ: 3 - 4] . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، وَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْتِينِي بِالسُّنَّةِ كَمَا يَأْتِينِي بِالْقُرْآنِ، وَإِذَا كَانَ مُتَوَاتِرُ السُّنَّةِ قَاطِعًا، وَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، صَارَ كَالْقُرْآنِ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِهِ.
قَوْلُهُ: " قَالُوا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} " إِلَى آخِرِهِ هَذِهِ حُجَّةُ الْمَانِعِينَ وَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: " {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}

(2/321)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الْبَقَرَةِ: 106] ; فَحَصَرَ اللَّهُ تَعَالَى النَّاسِخَ فِي كَوْنِهِ خَيْرًا مِنَ الْمَنْسُوخِ، أَوْ مِثْلَهُ، وَالسُّنَّةُ لَا تُسَاوِي الْقُرْآنَ ; فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ خَيْرًا مِنْهُ ; فَلَا تَكُونُ نَاسِخَةً لَهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْقُرْآنُ يَنْسَخُ حَدِيثِي، وَحَدِيثِي لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ لَفْظَ الْقُرْآنِ ; فَكَذَلِكَ لَا تَنْسَخُ حُكْمَهُ، لِاشْتِرَاكِ لَفْظِ الْقُرْآنِ وَحُكْمِهِ فِي الْقُوَّةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَصِيَانَتِهِ عَنْ أَنْ يُرْفَعَ بِمَا هُوَ دُونَهُ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} فِي الْحُكْمِ وَمَصْلَحَتِهِ، وَالسُّنَّةُ تُسَاوِي الْقُرْآنَ فِي ذَلِكَ، إِذِ الْمَصْلَحَةُ الثَّابِتَةُ بِالسُّنَّةِ قَدْ تَكُونُ أَضْعَافَ الْمَصْلَحَةِ الثَّابِتَةِ بِالْقُرْآنِ ; إِمَّا فِي عِظَمِ الْأَجْرِ، بِنَاءً عَلَى نَسْخِ الْأَخَفِّ بِالْأَثْقَلِ، أَوْ فِي تَخْفِيفِ التَّكْلِيفِ، بِنَاءً عَلَى نَسْخِ الْأَثْقَلِ بِالْأَخَفِّ.
قَوْلُهُ: " أَوْ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ". هَذَا جَوَابٌ آخَرُ عَنِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّ فِيهَا تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، تَقْدِيرُهُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ نَأْتِ مِنْهَا بِخَيْرٍ ; فَلَا يَكُونُ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ أَصْلًا، إِذْ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى إِثْبَاتِ النَّاسِخِ أَصْلًا، كَمَا سَبَقَ فِي النَّسْخِ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ ; فَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِمِثْلِهِ هَهُنَا ; لِأَنَّهُ أَصْلٌ كَبِيرٌ، وَمِثْلُهُ لَا يَخْفَى فِي الْعَادَةِ، لِتَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ مَا كَانَ كَذَلِكَ عَادَةً. فَلَوْ ثَبَتَ، لَاشْتُهِرَ، ثُمَّ لَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِشُهْرَتِهِ وَدَلَالَتِهِ.

(2/322)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سَلَّمْنَا صِحَّتَهُ، لَكِنَّهُ لَيْسَ نَصًّا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ لَفْظَهُ عَامٌّ، وَدَلَالَةُ الْعَامِّ ظَاهِرَةٌ، لَا قَاطِعَةٌ ; فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ، يَبْقَى الْمُتَوَاتِرُ لَا دَلِيلَ عَلَى الْمَنْعِ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمُ: السُّنَّةُ لَا تَنْسَخُ لَفْظَ الْقُرْآنِ ; فَكَذَا حُكْمُهُ.
فَجَوَابُهُ بِالْفَرْقِ، وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ مُعْجِزٌ، وَالسُّنَّةُ لَا تَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْإِعْجَازِ، بِخِلَافِ حُكْمِهِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ تَكْلِيفُ الْخَلْقِ بِهِ، وَالسُّنَّةُ تَقُومُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قُلْتُ: تَلْخِيصُ مَأْخَذِ النِّزَاعِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ جَامِعًا وَفَارِقًا.
فَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِفَادَةِ الْعِلْمِ، وَكَوْنِهِمَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْفَارِقُ: إِعْجَازُ لَفْظِ الْقُرْآنِ، وَالتَّعَبُّدُ بِتِلَاوَتِهِ، بِخِلَافِ السُّنَّةِ ; فَمَنْ لَاحَظَ الْجَامِعَ، أَجَازَ النَّسْخَ، وَمَنْ لَاحَظَ الْفَارِقَ، مَنْعَهُ.
فَرْعٌ: كَمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ، كَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ شَرْعًا، عَلَى نَحْوِ اخْتِلَافِهِمْ فِي جَوَازِهِ ; فَمِمَّنْ أَثْبَتَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ.
احْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ: بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ثَبَتَتْ بِالْقُرْآنِ، وَنُسِخَتْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ. وَإِمْسَاكُ الزَّوَانِي فِي الْبُيُوتِ، ثَبَتَ بِالْقُرْآنِ، وَنُسِخَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِئَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الرَّجْمُ.

(2/323)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَاحْتَجَّ الْمَانِعُونَ: بِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْوُقُوعِ يَسْتَدْعِي دَلِيلًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لَا حُجَّةَ فِيهِمَا عَلَى الْوُقُوعِ، بَلِ النَّصُّ النَّبَوِيُّ فِيهِمَا بَيَانٌ لَا نَسْخٌ. فَآيَةُ الْوَصِيَّةِ نُسِخَتْ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ، وَأَكَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَسْخَهَا بِبَيَانِهِ، وَالْإِيضَاحِ عَنْهُ، وَلِهَذَا يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ. فَكَانَ هَذَا بَيَانًا وَإِخْبَارًا عَنْ زَوَالِ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ، لَا نَسْخًا.
وَأَمَّا الْآيَةُ الْأُخْرَى ; فَالسَّبِيلُ مَذْكُورٌ فِيهَا، وَالْأَمْرُ فِيهَا مَغْيِيٌّ إِلَى حِينِ جَعْلِ السَّبِيلِ، فَلَمَّا جَاءَ وَقْتُهُ، بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِهَذَا قَالَ: خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا. فَأَضَافَ جَعْلَ السَّبِيلِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَا إِلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ إِمْسَاكَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ مَنْسُوخٌ، لَكَانَ إِضَافَةُ نَسْخِهِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النُّورِ: 2] ، وَإِلَى آيَةِ الرَّجْمِ الَّتِي نُسِخَ لَفْظُهَا دُونَ حُكْمِهَا أَوْلَى، ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْخَبَرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ تَوَاتَرَا ; فَمِثَالُ الْخَصْمِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(2/324)


أَمَّا نَسْخُ الْكِتَابِ وَمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ بِآحَادِهَا ; فَجَائِزٌ عَقْلًا، لِجَوَازِ قَوْلِ الشَّارِعِ: تَعَبَّدْتُكُمْ بِالنَّسْخِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لَا شَرْعًا، لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ. وَأَجَازَهُ قَوْمٌ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ، لَا بَعْدَهُ ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَبْعَثُ الْآحَادَ بِالنَّاسِخِ إِلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ. وَأَجَازَهُ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ مُطْلَقًا، وَلَعَلَّهُ أَوْلَى، إِذِ الظَّنُّ قَدَرٌ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْكُلِّ، وَهُوَ كَافٍ فِي الْعَمَلِ وَالِاسْتِدْلَالِ الشَّرْعِيِّ. وَقَوْلُ عُمَرَ: لَا نَدْعُ كِتَابَ رَبِّنَا، وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا، لِقَوْلِ امْرَأَةٍ، لَا نَدْرِي أَحَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ. يُفِيدُ أَنَّهُ إِنَّمَا رَدَّهُ لِشُبْهَةٍ، وَلَوْ أَفَادَ خَبَرُهَا الظَّنَّ لَعَمِلَ بِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «أَمَّا نَسْخُ الْكِتَابِ وَمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ بِآحَادِهَا ; فَجَائِزٌ عَقْلًا» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: أَمَّا نَسْخُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَنَسْخُ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ; فَهُوَ جَائِزٌ عَقْلًا لَا شَرْعًا.
أَمَّا أَنَّهُ جَائِزٌ عَقْلًا ; فَلِجَوَازِ قَوْلِ الشَّارِعِ: تَعَبَّدْتُكُمْ بِنَسْخِ الْقَاطِعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، أَيْ: لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ.
وَأَمَّا امْتِنَاعُهُ شَرْعًا، أَيْ: مِنْ جِهَةِ دَلِيلِ الشَّرْعِ ; قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ، وَمُتَوَاتِرَ السُّنَّةِ، لَا يُرْفَعُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ; فَلَا ذَاهِبَ إِلَى تَجْوِيزِهِ، حَتَّى قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لَا نَدْعُ كِتَابَ رَبِّنَا، وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا، لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصْدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ» .
«وَأَجَازَهُ قَوْمٌ» يَعْنِي: نَسْخَ الْكِتَابِ وَتَوَاتُرَ السُّنَّةِ بِآحَادِهَا، «فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ، لَا بَعْدُهُ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَبْعَثُ الْآحَادَ بِالنَّاسِخِ إِلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ» ; فَيُقْبَلُ خَبَرُهُمْ فِيهِ.
«وَأَجَازَهُ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ مُطْلَقًا» ، يَعْنِي فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهُ.
قُلْتُ: «وَلَعَلَّهُ أَوْلَى» ، أَيْ: يُشْبِهُ أَنَّهُ أَوْلَى، لِاتِّجَاهِهِ بِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ أَجْزِمْ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا أَتَيْتُ بِلَفْظِ التَّرَجِّي.

(2/325)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «إِذِ الظَّنُّ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكُلِّ، وَهُوَ كَافٍ فِي الْعَمَلِ، وَالِاسْتِدْلَالِ الشَّرْعِيِّ» . مَعْنَاهُ أَنَّ تَوَاتُرَ السُّنَّةِ وَآحَادَهَا يَشْتَرِكَانِ فِي إِفَادَةِ الظَّنِّ، وَإِنْ زَادَ التَّوَاتُرُ بِإِفَادَةِ الْقَطْعِ ; فَالظَّنُّ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، وَهُوَ كَافٍ فِي الْعَمَلِ الشَّرْعِيِّ، وَالِاسْتِدْلَالِ الشَّرْعِيِّ، أَيْ: يَكْفِي الظَّنُّ فِي أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا لِلْعَمَلِ وَالِاسْتِدْلَالِ شَرْعًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنَاطَ ذَلِكَ غَلَبَةُ الظَّنِّ ; فَمَتَى حَصَلَ، وَجَبَ الْعَمَلُ، وَصَحَّ الِاسْتِدْلَالُ.
وَأَمَّا زِيَادَةُ الْقَطْعِ ; فَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، لِمَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَإِذَا كَانَ الظَّنُّ مُشْتَرَكًا بَيْنَ التَّوَاتُرِ وَالْآحَادِ، وَهُوَ كَافٍ فِي الْعَمَلِ، جَازَ أَنْ يَنْسَخَ الْآحَادُ الْمُتَوَاتِرَ وَيَكُونُ النَّسْخُ بِالْآحَادِ مُتَوَجِّهًا إِلَى مِقْدَارِ الظَّنِّ مِنَ التَّوَاتُرِ، لَا إِلَى جَمِيعِ مَا أَفَادَهُ مِنَ الْعِلْمِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا إِذَا كَانَ لِزَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَلِعَمْرٍو عَلَى زَيْدٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، تَقَاصَّا بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ ; فَتَقْوَى الْخَمْسَةُ عَلَى رَفْعِ خَمْسَةٍ مِنَ الذِّمَّةِ، لَا عَلَى مَا زَادَ عَلَيْهَا.
وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ عَنَّا قَوْلُ الْخَصْمِ: إِنَّ الْكِتَابَ مُتَوَاتِرٌ قَطْعًا ; فَلَا يَرْتَفِعُ بِالْآحَادِ الْمَظْنُونَةِ ; لِأَنَّا نَقُولُ: مَا رَفَعْنَا الْقَطْعَ بِالظَّنِّ، وَإِنَّمَا رَفَعْنَا بِالظَّنِّ ظَنًّا مِثْلَهُ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ الْمَذْكُورُ ; فَلَيْسَ لَفْظُهُ: أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ؟ ، بَلْ كَمَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» : أَحَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ؟ وَهُوَ مَا رَوَى مُغِيَرَةُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ: طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا

(2/326)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سُكْنَى لَكِ وَلَا نَفَقَةَ، قَالَ مُغِيَرَةُ: فَذَكَرْتُهُ لِإِبْرَاهِيمَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا نَدْعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ، لَا نَدْرِي أَحَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ؟ وَكَانَ عُمَرُ يَجْعَلُ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ.
وَهَذَا لَا يُفِيدُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَنْسَخُ الْكِتَابَ وَالْمُتَوَاتِرَ، بَلْ يُفِيدُ جَوَازَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عُمَرَ، إِنَّمَا رَدَّ خَبَرَ فَاطِمَةَ، لِشُبْهَةِ احْتِمَالِ أَنَّهَا نَسِيَتْ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَهَا لَوْ أَفَادَهُ الظَّنُّ، وَلَمْ تَقَعْ لَهُ الشُّبْهَةُ الْمَذْكُورَةُ، لَعَمِلَ بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ زَمَنِ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَبْعَثُ الْآحَادَ بِالنَّاسِخِ إِلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ ; فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ تِلْكَ الْآحَادَ كَانَتْ تَنْسَخُ الْكِتَابَ وَالْمُتَوَاتِرَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمَنْسُوخَاتِ بِتِلْكَ الْآحَادِ آحَادًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ، وَيَقُولَ: إِنَّمَا كَانَ الْمَنْسُوخُ بِهَا آحَادًا مِثْلَهَا، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ التَّوَاتُرِ، وَوُرُودُ أَحْكَامِ الْكِتَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْآحَادِ أَيْضًا.
قُلْنَا: نَعَمْ، إِلَّا أَنَّهَا أَكْثَرُ، وَأَعَمُّ وُجُودًا ; فَالْحَمْلُ عَلَيْهَا أُولَى.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حَيَاةَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَرِينَةٌ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِخَبَرِ الْآحَادِ فِي زَمَانِهِ، لِعِلْمِهِمْ بِصَلَابَتِهِ فِي دِينِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يُسَامِحُ أَحَدًا يَكْذِبُ عَلَيْهِ، حَتَّى يُنَفِّذَ فِيهِ

(2/327)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمْرَ اللَّهِ، وَحِينَئِذٍ مَا نُسِخَ الْكِتَابُ وَالتَّوَاتُرُ إِلَّا بِمَعْلُومٍ مِثْلِهِمَا.
غَايَةُ مَا هُنَاكَ: أَنَّ مُسْتَنَدَ الْعِلْمِ فِي الْمَنْسُوخِ التَّوَاتُرُ، وَفِي النَّاسِخِ الْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقَرِينَةِ، وَهَذَا لَا يَضُرُّ.
وَأَمَّا مَا ادَّعَاهُ الْمَانِعُونَ مُطْلَقًا، مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى عَدَمِ رَفْعِ الْمُتَوَاتِرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ; فَمَمْنُوعٌ، وَعَلَى مُدَّعِي الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ إِثْبَاتُهُ، كَيْفَ وَبَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ، وَالْبَاجِيُّ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ يَدَّعُونَ وُقُوعَهُ فِي صُوَرٍ:
مِنْهَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الْأَنْعَامِ: 145] الْآيَةَ، نُسِخَتْ بِنَهْيِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ، وَهُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النِّسَاءِ: 24] ، نُسِخَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا خَالَتِهَا. الْحَدِيثَ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ عَنْهُ جَوَابٌ، غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَهُ، لَوْ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ، لَعَلِمَهُ، ثُمَّ لَمْ يَدَّعِ وُقُوعَهُ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ عَلَى امْتِنَاعِ نَسْخِ الْقَاطِعِ بِالْآحَادِ وَاهِيَةٌ.

(2/328)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَنْبِيهٌ: الْأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ الَّتِي يَتَطَرَّقُ النَّسْخُ إِلَيْهَا وَبِهَا، هِيَ: الْكِتَابُ، وَمُتَوَاتِرُ السُّنَّةِ، وَآحَادُهَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا ; إِمَّا أَنْ يُنْسَخَ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ بِالْآخَرِينَ مَعَهُ ; فَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ تِسْعُ صُوَرٍ:
الْأُولَى: نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ.
الثَّانِيَةُ: نَسْخُ الْكِتَابِ بِمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ.
الثَّالِثَةُ: نَسْخُ الْكِتَابِ بِآحَادِ السُّنَةِ.
الرَّابِعَةُ: نَسْخُ مُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ بِمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ.
الْخَامِسَةُ: نَسْخُ مُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ.
السَّادِسَةُ: نَسْخُ مُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ بِالْآحَادِ.
السَّابِعَةُ: نَسْخُ الْآحَادِ بِالْآحَادِ.
الثَّامِنَةُ: نَسْخُ الْآحَادِ بِالْكِتَابِ.
التَّاسِعَةُ: نَسْخُ الْآحَادِ بِالْمُتَوَاتِرِ.
وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ، عَلَى الْمَشْهُورِ بَيْنَهُمْ: أَنَّ النَّصَّ يُنْسَخُ بِأَقْوَى مِنْهُ وَبِمِثْلِهِ، وَلَا يُنْسَخُ بِأَضْعَفَ مِنْهُ ; فَيَسْقُطُ بِمُقْتَضَى هَذَا الضَّابِطِ مِنَ الصُّوَرِ التِّسْعِ صُورَتَانِ، نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْآحَادِ، وَنَسْخُ التَّوَاتُرِ بِالْآحَادِ، وَيَبْقَى سَبْعُ صُوَرٍ، النَّسْخُ فِيهَا جَائِزٌ.
وَعَلَى قَوْلِ الْبَاجِيِّ وَبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي وَجَّهْنَاهُ، يَصِحُّ النَّسْخُ فِي الصُّوَرِ التِّسْعِ، نَظَرًا إِلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا، وَهُوَ الظَّنُّ ; فَاعْلَمْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

(2/329)


السَّابِعَةُ: الْإِجْمَاعُ لَا يُنْسَخُ، وَلَا يُنْسَخُ بِهِ، إِذِ النَّسْخُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ، وَلَا إِجْمَاعَ إِذَنْ. وَلِأَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ مُتَضَادَّانِ، وَالْإِجْمَاعُ لَا يُضَادُّ النَّصَّ، وَلَا يَنْعَقِدْ عَلَى خِلَافِهِ.
وَالْحُكْمُ الْقِيَاسِيُّ الْمَنْصُوصُ الْعِلَّةِ، يَكُونُ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، كَالنَّصِّ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ.
وَقِيلَ: مَا خَصَّ نَسَخَ. وَهُوَ بَاطِلٌ، بِدَلِيلِ: الْعَقْلِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، يَخُصُّ وَلَا يَنْسَخُ.
وَالنَّسْخُ وَالتَّخْصِيصُ مُتَنَاقِضَانِ، إِذِ النَّسْخُ إِبْطَالٌ، وَالتَّخْصِيصُ بَيَانٌ ; فَكَيْفَ يَسْتَوِيَانِ.
وَيَجُوزُ النَّسْخُ بِتَنْبِيهِ اللَّفْظِ كَمَنْطُوقِهِ ; لِأَنَّهُ دَلِيلٌ، خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَنَسْخُ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ يُبْطِلُ حُكْمَ الْمَفْهُومِ، وَمَا ثَبَتَ بِعِلَّتِهِ، أَوْ دَلِيلِ خِطَابِهِ ; لِأَنَّهَا تَوَابِعُ ; فَسَقَطَتْ بِسُقُوطِ مَتْبُوعِهَا، خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «السَّابِعَةُ: الْإِجْمَاعُ لَا يُنْسَخُ، وَلَا يُنْسَخُ بِهِ» ، أَيْ: لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا وَلَا نَاسِخًا.
قَوْلُهُ: «إِذِ النَّسْخُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ، وَلَا إِجْمَاعَ إِذَنْ» .
هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْإِجْمَاعِ، أَيِ: الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْإِجْمَاعِ، لَا يُنْسَخُ، أَيْ: لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ، وَالْإِجْمَاعُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ عَهْدِ النُّبُوَّةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْإِجْمَاعِ لَا يُنْسَخُ.
أَمَّا أَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ ; فَلِأَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ لِلْحُكْمِ، وَإِبْطَالٌ لَهُ، وَتَغْيِيرٌ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ ; لِأَنَّهُ زَمَنُ الْوَحْيِ الرَّافِعِ لِلْأَحْكَامِ، وَبَعْدَ

(2/330)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
انْقِرَاضِ عَهْدِ النُّبُوَّةِ يَسْتَقِرُّ الشَّرْعُ ; فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا يَبْقَى إِلَّا اتِّبَاعُ مَا انْقَرَضَ عَلَيْهِ عَصْرُ النُّبُوَّةِ.
وَأَمَّا أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ عَهْدِ النُّبُوَّةِ ; فَلِأَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ، عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِعِصْمَتِهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِغَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ إِذَا حَكَمَ بِحُكْمٍ ; فَالْأُمَّةُ إِمَّا أَنْ تُوَافِقَ ; فَلَا أَثَرَ لِمُوَافَقَتِهَا ; لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ، أَوْ تُخَالِفَ ; فَلَا اعْتِبَارَ بِمُخَالَفَتِهَا، بَلْ تَكُونُ عَاصِيَةً بِمُخَالَفَتِهِ ; فَبَانَ بِهَذَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا مُؤَثِّرًا إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ إِنَّ نَسْخَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ نَفَاهُ الْأَكْثَرُونَ، وَأَثْبَتَهُ الْأَقَلُّونَ. وَاخْتَارَ جَوَازَهُ عَقْلًا، وَامْتِنَاعَهُ شَرْعًا.
قُلْتُ: أَمَّا جَوَازُهُ عَقْلًا فَلِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ.
وَأَمَّا امْتِنَاعُهُ شَرْعًا ; فَلِأَنَّ نَسْخَهُ إِمَّا بِنَصٍّ، أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ قِيَاسٍ.
وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ.
وَالثَّانِي بَاطِلٌ ; لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ النَّاسِخَ ; إِمَّا لَا عَنْ دَلِيلٍ ; فَيَكُونُ خَطَأً، أَوْ عَنْ دَلِيلٍ.
فَذَلِكَ الدَّلِيلُ ; إِمَّا نَصٌّ أَوْ قِيَاسٌ، فَإِنْ كَانَ نَصًّا، لَزِمَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ عَلَى خِلَافِهِ ; فَيَكُونُ بَاطِلًا، وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا ; فَلَابُدَّ وَأَنْ يَسْتَنِدَ الْقِيَاسُ إِلَى نَصٍّ ; فَيَكُونُ الْإِجْمَاعُ الْأَوَّلُ عَلَى خِلَافِهِ أَيْضًا، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ كَوْنُ نَاسِخِ الْإِجْمَاعِ قِيَاسًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «وَلِأَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ مُتَضَادَّانِ، وَالْإِجْمَاعُ لَا يُضَادُّ النَّصَّ، وَلَا يَنْعَقِدُ

(2/331)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى خِلَافِهِ» . هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ نَاسِخًا.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْمَنْسُوخَ إِنَّمَا يَكُونُ نَصًّا، لِمَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا، وَإِذَا انْحَصَرَ الْمَنْسُوخُ فِي كَوْنِهِ نَصًّا ; فَلَوْ نُسِخَ بِالْإِجْمَاعِ، لَلَزِمَ مُضَادَةُ النَّصِّ لِلْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، لَا بُدَّ أَنْ يَتَضَادَّا، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُضَادُّ النَّصَّ، وَلَا يَنْعَقِدُ عَلَى خِلَافِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي بُطْلَانَهُ، لِانْعِقَادِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ.
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَنَّ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ نَاسِخًا، أَثْبَتَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَعِيسَى بْنُ أَبَانٍ، وَنَفَاهُ الْبَاقُونَ، وَاخْتَارَهُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَوْ كَانَ نَاسِخًا، لَكَانَ دَلِيلُ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ ; إِمَّا نَصًّا، أَوْ إِجْمَاعًا، أَوْ قِيَاسًا، فَإِنْ كَانَ نَصًّا ; فَالْإِجْمَاعُ النَّاسِخُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُسْتَنَدٍ، وَإِلَّا كَانَ خَطَأً، وَذَلِكَ الْمُسْتَنَدُ هُوَ النَّاسِخُ، لَا نَفْسُ الْإِجْمَاعِ، لَكِنْ دَلَّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ ; فَالْإِجْمَاعُ دَلِيلُ النَّاسِخِ، لَا نَفْسُ النَّاسِخِ. وَإِنْ كَانَ دَلِيلُ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ إِجْمَاعًا ; فَلَوْ نُسِخَ بِالْإِجْمَاعِ، لَزِمَ تَعَارُضُ الْإِجْمَاعَيْنِ ; فَأَحَدُهُمَا بَاطِلٌ ; فَلَا نَسْخَ.
وَإِنْ كَانَ دَلِيلُ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ قِيَاسًا ; فَهُوَ إِمَّا غَيْرُ صَحِيحٍ ; فَلَا عِبْرَةَ بِهِ ; فَلَا نَسْخَ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا ; فَالْإِجْمَاعُ النَّاسِخُ، إِنِ اسْتَنَدَ إِلَى نَصٍّ ; فَالنَّصُّ هُوَ النَّاسِخُ، وَالْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَيْهِ كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا، فَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِلْقِيَاسِ الْأَوَّلِ، أَعْنِي الَّذِي هُوَ دَلِيلُ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ، أَوْ رَاجِحًا عَلَيْهِ ; فَالْقِيَاسُ الْأَوَّلُ لَيْسَ قِيَاسًا صَحِيحًا، لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى خِلَافِهِ، وَلِرُجْحَانِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا ; فَالْإِجْمَاعُ عَلَى حُكْمِهِ خَطَأٌ ; فَلَا نَسْخَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

قَوْلُهُ: «وَالْحُكْمُ الْقِيَاسِيُّ الْمَنْصُوصُ الْعِلَّةِ يَكُونُ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، كَالنَّصِّ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ» . مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْحُكْمَ الْقِيَاسِيَّ، أَيِ: الثَّابِتَ بِالْقِيَاسِ ; إِمَّا أَنْ

(2/332)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَكُونَ مَنْصُوصَ الْعِلَّةِ، أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ مَنْصُوصَ الْعِلَّةِ، أَيْ: قَدْ نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى عِلَّتِهِ، كَانَ ذَلِكَ الْقِيَاسُ كَالنَّصِّ يُنْسَخُ، وَيُنْسَخُ بِهِ، أَيْ: يَكُونُ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، كَمَا أَنَّ النَّصَّ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى نَصٍّ، فَإِذَا كَانَتْ عِلَّةُ الْقِيَاسِ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ النَّصِّ، صَارَ حُكْمُ الْقِيَاسِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ ; فَيَكُونُ نَصًّا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا.
مِثَالُ ذَلِكَ: لَوْ قَالَ: حَرَّمْتُ الْخَمْرَ الْمُتَّخَذَ مِنَ الْعِنَبِ، لِكَوْنِهِ مُسْكِرًا، فَإِذَا قِسْنَا عَلَيْهِ نَبِيذَ التَّمْرِ الْمُسْكِرِ، فِي التَّحْرِيمِ، كَانَ تَحْرِيمُ هَذَا النَّبِيذِ حُكْمًا مَنْصُوصًا عَلَى عِلَّتِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ: حَرَّمْتُ نَبِيذَ التَّمْرِ الْمُسْكِرِ ; فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الشَّرْعَ قَالَ: أَبَحْتُ نَبِيذَ الذُّرَةِ الْمُسْكِرِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ نَبِيذِ التَّمْرِ الْمُسْكِرِ ; الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْقِيَاسِ نَاسِخًا لِذَلِكَ، إِذَا ثَبَتَ تَأَخُّرُهُ عَنْ إِبَاحَةِ نَبِيذِ الذُّرَةِ، وَمَنْسُوخًا بِإِبَاحَةِ نَبِيذِ الذُّرَةِ إِذَا ثَبَتَ تَقَدُّمُ تَحْرِيمِ نَبِيذِ التَّمْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَحْرِيمَ نَبِيذِ التَّمْرِ، وَإِبَاحَةَ نَبِيذِ الذُّرَةِ حُكْمَانِ مُتَضَادَّانِ مَعَ اتِّحَادِ عِلَّتِهِمَا، وَهِيَ الْإِسْكَارُ ; فَكَانَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَبَحْتُ الْخَمْرَ، ثُمَّ قَالَ: حَرَّمْتُهَا، أَوْ بِالْعَكْسِ.
وَأَمَّا إِنَّ لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْقِيَاسِ مَنْصُوصًا عَلَى عِلَّتِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا وَلَا مَنْسُوخًا ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَنْصُوصَةً ; فَهِيَ مُسْتَنْبَطَةٌ، وَاسْتِنْبَاطُهَا هُوَ بِاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ، وَاجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ عُرْضَةُ الْخَطَأِ ; فَلَا يَقْوَى عَلَى رَفْعِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، بِخِلَافِ النَّصِّ عَلَى الْعِلَّةِ ; فَإِنَّهُ حُكْمَ الشَّارِعِ الْمَعْصُومِ مِنَ الْخَطَأِ ; فَهُوَ

(2/333)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا قِسْنَا الذُّرَةَ عَلَى الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ، بِجَامِعِ الْكَيْلِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْعِلَّةَ فِيهِمَا، ثُمَّ قَالَ الشَّارِعُ: أَبَحْتُ التَّفَاضُلَ فِي السِّمْسِمِ، لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَجْعَلَ الْإِبَاحَةَ فِي السِّمْسِمِ نَاسِخَةً لِلتَّحْرِيمِ فِي الذُّرَةِ، وَلَا التَّحْرِيمَ فِي الذُّرَةِ نَاسِخًا لِلْإِبَاحَةِ فِي السِّمْسِمِ ; لِأَنَّ النَّسْخَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَضَادِّ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ أَنَّ إِبَاحَةَ التَّفَاضُلِ فِي السِّمْسِمِ، وَتَحْرِيمَهَا فِي الذُّرَةِ مُتَضَادَّانِ، لِجَوَازِ عَدَمِ اخْتِلَافِ الْعِلَّةِ فِيهِمَا، أَوْ كَوْنِ الْحُكْمِ فِي أَحَدِهِمَا أَوْ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ غَيْرَ مُعَلَّلٍ ; فَيَنْتَفِي التَّضَادُّ ; فَيَنْتَفِي النَّسْخُ.
تَنْبِيهٌ: ذَكَرَ الْآمِدِيُّ نَسْخَ حُكْمِ الْقِيَاسِ، أَيْ: كَوْنَهُ مَنْسُوخًا. وَقَالَ: مَنَعَ مِنْهُ الْحَنَابِلَةُ مُطْلَقًا، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي قَوْلٍ، وَأَجَازَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي الْقِيَاسِ الْمَوْجُودِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دُونَ مَا وُجِدَ بَعْدَهُ. ثُمَّ اخْتَارَ الْآمِدِيُّ نَحْوَ مَا ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَحِكَايَتُهُ مَنْعَ الْحَنَابِلَةِ مِنْ نَسْخِ حُكْمِ الْقِيَاسِ مُطْلَقًا، يَرُدُّهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَذْهَبِنَا ; فَلَعَلَّهُ رَأَى قَوْلًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا شَاذًّا، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يُحَقِّقِ النَّقْلَ.
وَحَكَى فِي النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ أَقْوَالًا، ثَالِثُهَا: جَوَازُهُ بِالْجَلِيِّ دُونَ الْخَفِيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَاخْتَارَ هُوَ فِيهِ تَفْصِيلًا طَوِيلًا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: مَا خَصَّ نَسَخَ» ، أَيْ: مَا جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ، جَازَ النَّسْخُ بِهِ، وَلَا يَقْتَصِرُ فِي النَّاسِخِ عَلَى النَّصِّ وَالْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ شَاذَّةٍ.

(2/334)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَهُوَ بَاطِلٌ» ، أَيْ: هَذَا الْقَوْلُ مَنْقُوضٌ بِأَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: دَلِيلُ الْعَقْلِ، يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ، دُونَ النَّسْخِ.
الثَّانِي: الْإِجْمَاعُ، يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ، دُونَ النَّسْخِ.
الثَّالِثُ: خَبَرُ الْوَاحِدِ، يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ، دُونَ النَّسْخِ.
قُلْتُ: وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، إِذْ قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يَنْسَخُ مِثْلَهُ، وَهَلْ يَنْسَخُ أَقْوَى مِنْهُ، كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَنْسَخُ الْقَاطِعُ، عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ، وَوَجَّهْنَا خِلَافَهُ.
وَقَوْلُهُ: «يَخُصُّ وَلَا يَنْسَخُ» ، يَعْنِي: هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الثَّلَاثَةُ تَكُونُ مُخَصَّصَةً، لَا نَاسِخَةً.
وَقَوْلُهُ: «وَالنَّسْخُ وَالتَّخْصِيصُ مُتَنَاقِضَانِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا تَقْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ، بِبَيَانِ تَنَاقُضِهِمَا ; فَكَيْفَ يَسْتَوِيَانِ، حَتَّى يَصِحَّ أَنَّ مَا جَازَ بِأَحَدِهِمَا، جَازَ بِالْآخَرِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ النَّسْخَ إِبْطَالٌ لِلْحُكْمِ ; لِأَنَّهُ رَفْعٌ لَهُ، وَالتَّخْصِيصُ تَقْرِيرٌ وَبَيَانٌ لَهُ ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ بَيَانِ الْمُرَادِ مِنَ اللَّفْظِ، فَإِذَا بَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ، اسْتَقَرَّ الْحُكْمُ عَلَيْهِ، وَرَفْعُ الْحُكْمِ وَتَقْرِيرُهُ مُتَنَاقِضَانِ ; فَيَمْتَنِعُ اسْتِوَاؤُهُمَا، حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ مَا جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ، جَازَ النَّسْخُ بِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ كَقَوْلِنَا: مَا جَازَ أَنْ يُبَيِّنَ الْحُكْمَ وَيُقَرِّرَهُ، جَازَ أَنْ يَرْفَعَهُ، وَيُبْطِلَهُ، وَهُوَ بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ تَرْتِيبٌ لِحُكْمَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ عَلَى عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(2/335)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَيَجُوزُ النَّسْخُ بِتَنْبِيهِ اللَّفْظِ كَمَنْطُوقِهِ ; لِأَنَّهُ دَلِيلٌ، خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ» .
مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ تَنْبِيهَ اللَّفْظِ - وَهُوَ الْمَفْهُومُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ، مِنْ غَيْرِ مَنْطُوقِهِ - يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا، كَمَا أَنَّ الْمَنْطُوقَ - وَهُوَ اللَّفْظُ نَفْسُهُ - يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا دَلِيلٌ، لِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ ذِكْرِ فَحَوَى الْخِطَابِ.
وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ حَكَى الْخِلَافَ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ تَبَعًا، وَالْآمِدِيُّ حَكَى جَوَازَ النَّسْخِ بِفَحْوَى الْخِطَابِ، وَنَسْخِ حُكْمِهِ اتِّفَاقًا.
وَالْمُرَادُ بِالْفَحْوَى: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَنْبِيهِ اللَّفْظِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ، فَإِنْ صَحَّ الْخِلَافُ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فِيهِ ; فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ أَوْ لَا، أَوْ عَلَى أَنَّ دَلَالَتَهُ لَفْظِيَّةٌ أَوْ عَقْلِيَّةٌ الْتِزَامِيَّةٌ.
فَإِنْ قُلْنَا: هِيَ لَفْظِيَّةٌ، جَازَ نَسْخُهَا، وَالنَّسْخُ بِهَا كَالْمَنْطُوقِ، وَهُوَ لَفْظُهَا الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهَا.
وَإِنْ قُلْنَا: هِيَ عَقْلِيَّةٌ، كَانَتْ قِيَاسًا جَلِيًّا، وَالْقِيَاسُ لَا يُنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ ; لِأَنَّهُ إِنْ عَارَضَ نَصًّا، أَوْ إِجْمَاعًا، لَمْ يُعْتَبَرْ مَعَهُمَا، وَإِنْ عَارَضَ قِيَاسًا، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَاجِحًا، تَعَيَّنَ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنِ اسْتَوَيَا، وَجَبَ التَّرْجِيحُ، وَلَا نَسْخَ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ ; لِأَنَّهُ دَلِيلٌ يَثْبُتُ حُكْمًا طَارِئًا مُنَاقِضًا لِحُكْمٍ قَبْلَهُ ; فَجَازَ النَّسْخُ بِهِ، وَنَسْخُهُ كَسَائِرِ مَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ.
قُلْتُ: وَهَذَا يَظْهَرُ فِيمَا إِذَا كَانَتْ عِلَّةُ الْقِيَاسَيْنِ، أَوْ عِلَّةُ الْمُتَأَخِّرِ عَنْهُمَا

(2/336)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَنْصُوصَةً، أَمَّا إِنْ كَانَتَا مُسْتَنْبَطَتَيْنِ، أَوْ عِلَّةُ الْمُتَأَخِّرِ مُسْتَنْبَطَةً ; فَحُكْمُهَا التَّرْجِيحُ كَمَا سَبَقَ، وَيَضْعُفُ النَّسْخُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ قِيَاسٌ أَمْ لَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِثَالُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الْإِسْرَاءِ: 23] ، نَبَّهَ عَلَى تَحْرِيمِ ضَرْبِ الْوَالِدَيْنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ; فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ ضَرْبَهُمَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ هَذَا التَّنْبِيهِ، كَانَ هُوَ نَاسِخًا لِإِبَاحَةِ الضَّرْبِ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ إِبَاحَةَ ضَرْبِهِمَا شُرِعَتْ بَعْدَ التَّنْبِيهِ الْمَذْكُورِ، كَانَتْ نَاسِخَةً لَهُ ; فَهُوَ - أَعْنِي التَّنْبِيهَ - نَاسِخٌ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، مَنْسُوخٌ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قَوْلُهُ: «وَنَسْخُ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ يُبْطِلُ حُكْمَ الْمَفْهُومِ، وَمَا ثَبَتَ بِعِلَّتِهِ، أَوْ دَلِيلِ خِطَابِهِ ; لِأَنَّهَا تَوَابِعُ ; فَسَقَطَتْ بِسُقُوطِ مَتْبُوعِهَا، خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ» .
مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ الْمَنْطُوقَ - وَهُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ بِالْمُطَابَقَةِ أَوِ التَّضَمُّنِ - إِذَا نُسِخَ ; بَطَلَ حُكْمُ مَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مِنْ مَفْهُومِهِ، وَمَعْلُولِهِ، وَدَلِيلِ خِطَابِهِ ; لِأَنَّهَا تَوَابِعُ لَهُ، وَإِذَا بَطَلَ الْمَتْبُوعُ، بَطَلَ التَّابِعُ، وَإِذَا انْتَفَى الْأَصْلُ، انْتَفَى فَرْعُهُ.
وَخَالَفَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ ; فَقَالُوا: لَا يَبْطُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يَخْتَصُّ النَّسْخُ بِالْمَنْطُوقِ وَحْدَهُ، وَمَا خَرَجَ عَنْ مَحَلِّ النُّطْقِ ; فَهُوَ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ ; فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَسْخِهِ نَسْخُهُ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ غَيْرَهُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرُوهُ: أَنَّ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ غَيْرِ الْمَنْطُوقِ الْمَنْسُوخِ، لَيْسَ فَرْعًا عَلَيْهِ وَتَبَعًا لَهُ ; فَلِذَلِكَ

(2/337)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اسْتَقَلَّ، بِخِلَافِ فُرُوعِ الْمَنْطُوقِ ; فَإِنَّهَا تَزُولُ بِزَوَالِهِ، لِاسْتِحَالَةِ بَقَاءِ فَرْعٍ بِلَا أَصْلٍ.
وَمِثَالُ الْمَسْأَلَةِ: لَوْ نُسِخَ تَحْرِيمُ التَّأْفِيفِ - الَّذِي هُوَ الْمَنْطُوقُ - لَبَطَلَ تَحْرِيمُ الضَّرْبِ - الَّذِي هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ - تَبَعًا لِأَصْلِهِ.
وَلَوْ نُسِخَ النَّهْيُ عَنْ قَضَاءِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ ; لَبَطَلَ تَحْرِيمُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ جَائِعًا أَوْ عَطْشَانَ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُزْعِجَةِ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهَا.
وَلَوْ نُسِخَ قَوْلُهُ: «مَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» ; لَبَطَلَ مَفْهُومُ عِلَّتِهِ، وَهُوَ أَنَّ مَا لَمْ يُسْكِرْ ; فَلَيْسَ بِحَرَامٍ.
وَلَوْ نُسِخَ قَوْلُهُ: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» ; لَبَطَلَ مَفْهُومُ دَلِيلِ خِطَابِهِ ; وَهُوَ أَنَّ غَيْرَ السَّائِمَةِ لَا زَكَاةَ فِيهَا. كُلُّ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهَا فُرُوعٌ تَبِعَتْ أَصْلَهَا فِي السُّقُوطِ، فَإِنْ أُرِيدَ إِثْبَاتُهَا، احْتَاجَتْ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ مُثْبِتٍ، وَعَلَى قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ ثَابِتَةٌ بَعْدَ زَوَالِ أَصْلِهَا ; فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مُثْبِتٍ. وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ الْحُكْمَ الْقِيَاسِيَّ يَبْقَى بَعْدَ نَسْخِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِهِمْ.
وَمِثَالُهُ: لَوْ نُسِخَ تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ مَثَلًا، لَبَقِيَ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي الْأُرْزِ وَالذُّرَةِ عِنْدَهُمْ، وَانْتَفَى تَبَعًا لِأَصْلِهِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ.
وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ أَنَّ الْحُكْمَ هَلْ يَفْتَقِرُ فِي دَوَامِهِ إِلَى دَوَامِ عِلَّتِهِ أَمْ لَا؟ إِنْ قِيلَ: يَفْتَقِرُ إِلَى دَوَامِ عِلَّتِهِ، تَبِعَ حُكْمُ الْفَرْعِ حُكْمَ أَصْلِهِ فِي النَّسْخِ، وَإِلَّا ; فَلَا. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْبَاقِيَ هَلْ يَفْتَقِرُ فِي بَقَائِهِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ أَمْ لَا؟
فَرْعٌ: اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ نَسْخِ اللَّفْظِ وَمَفْهُومِهِ مَعًا، وَمَنَعَ الْأَكْثَرُونَ نَسْخَ حُكْمِ

(2/338)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَنْطُوقِ دُونَ فَحْوَاهُ، كَنَسْخِ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ دُونَ الضَّرْبِ، نَحْوَ: قُلْ لَهُ: أُفٍّ وَلَا تَضْرِبْهُ. وَالْأَشْبَهُ جَوَازُهُ كَمَا ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
وَتَرَدَّدَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي عَكْسِ ذَلِكَ، وَهُوَ نَسْخُ الْفَحْوَى دُونَ مَنْطُوقِهِ، نَحْوَ: اضْرِبْهُ، وَلَا تَقُلْ لَهُ: أُفٍّ ; فَمَنَعَهُ مَرَّةً لِتَنَاقُضِهِ، إِذِ الْغَرَضُ مِنْ مَنْعِ التَّأْفِيفِ الْإِكْرَامُ، وَإِبَاحَةُ الضَّرْبِ تُنَافِيهِ، وَأَجَازَهُ مَرَّةً، وَجَعَلَهُ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ ; لِأَنَّهُ نَهَى عَنِ الْأَمْرَيْنِ، ثُمَّ خَصَّ أَحَدَهُمَا بِالْجَوَازِ.
قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ ; فَيُقَالُ: إِنْ كَانَ عِلَّةُ الْمَنْطُوقِ مِمَّا لَا تَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ ; كَإِكْرَامِ الْوَالِدِ بِالنَّهْيِ عَنْ تَأْفِيفِهِ، امْتَنَعَ نَسْخُ الْفَحْوَى دُونَهُ، لِتَنَاقُضِ الْمَقْصُودِ كَمَا قُلْنَا، وَإِنِ احْتَمَلَتِ التَّغَيُّرَ ; جَازَ ; لِاحْتِمَالِ الِانْتِقَالِ مِنْ عِلَّةٍ إِلَى أُخْرَى، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ لِغُلَامِهِ: لَا تُعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا، يَقْصِدُ بِذَلِكَ حِرْمَانَهُ، لِغَضَبِهِ عَلَيْهِ ; فَفَحْوَاهُ أَنْ لَا يُعْطِيَهُ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَإِذَا نَسَخَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ لَهُ: أَعْطِهِ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ، وَلَا تُعْطِهِ دِرْهَمًا، جَازَ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ انْتَقَلَ عَنْ عِلَّةِ حِرْمَانِ زِيدٍ، إِلَى عِلَّةِ إِعْطَائِهِ، وَمُوَاسَاتِهِ، وَالتَّوْقِيرِ لَهُ، لِزَوَالِ غَضَبِهِ عَلَيْهِ، وَبَرَاءَةِ سَاحَتِهِ عِنْدَهُ مِمَّا رُمِيَ بِهِ. وَبِهَذَا يَتَّجِهُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلَيْ عَبْدِ الْجَبَّارِ - أَعْنِي: مُجْمَلَهُمَا عَلَى حَالَيْنِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(2/339)


خَاتِمَةٌ
لَا يُعْرَفُ النَّسْخُ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَلَا قِيَاسِيٍّ، بَلْ بِالنَّقْلِ الْمُجَرَّدِ، أَوِ الْمَشُوبِ بِاسْتِدْلَالٍ عَقْلِيٍّ، كَالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ، أَوْ بِنَقْلِ الرَّاوِي، نَحْوَ: «رُخِّصَ لَنَا فِي الْمُتْعَةِ، ثُمَّ نُهِينَا عَنْهَا» . أَوْ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ، نَحْوَ: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ; فَزُورُوهَا» . وَبِالتَّارِيخِ، نَحْوَ: قَالَ سَنَةَ خَمْسٍ كَذَا، وَعَامَ الْفَتْحِ كَذَا. أَوْ يَكُونُ رَاوِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ مَاتَ قَبْلَ إِسْلَامِ الثَّانِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ تَلْحَقُهُمَا أَحْكَامٌ لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ، كَالْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ، وَالْعُمُومِ، وَالْخُصُوصِ وَنَحْوِهَا، عَقَّبْنَاهُمَا بِذِكْرِهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خَاتِمَةٌ، يَعْنِي لِبَابِ النَّسْخِ، وَهِيَ فِيمَا يُعْرَفُ بِهِ النَّسْخُ:
«لَا يُعْرَفُ النَّسْخُ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ، وَلَا قِيَاسِيٍّ» ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّسْخَ إِمَّا رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، أَوْ بَيَانُ مُدَّةِ انْتِهَائِهِ، وَكِلَاهُمَا لَا طَرِيقَ لِلْعَقْلِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ. وَلَوْ كَانَ لِلْعَقْلِ طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ النَّسْخِ بِدُونِ النَّقْلِ ; لَكَانَ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ بِدُونِ النَّقْلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «بَلْ بِالنَّقْلِ الْمُجَرَّدِ» ، أَيْ: لَا يُعْرَفُ النَّسْخُ بِالْعَقْلِ، بَلْ بِالنَّقْلِ الْمُجَرَّدِ، أَوِ الْمَشُوبِ بِاسْتِدْلَالٍ عَقْلِيٍّ، كَالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ، كَإِبَاحَةِ الْخَمْرِ، فَإِنَّ نَسْخَهَا عُرِفَ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ بِنَقْلِ الرَّاوِي، نَحْوَ قَوْلِهِ: رُخِّصَ لَنَا فِي الْمُتْعَةِ - يَعْنِي مُتْعَةَ النِّسَاءِ - ثُمَّ نُهِينَا عَنْهَا. كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(2/340)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا كَانَتِ الْمُتْعَةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، كَانَ الرَّجُلُ يَقْدُمُ الْبَلْدَةَ لَيْسَ لَهُ بِهَا مَعْرِفَةٌ ; فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ يُقِيمُ ; فَتَحْفَظُ لَهُ مَتَاعَهُ، وَتُصْلِحُ شَيْأَهُ حَتَّى نَزَلَتْ: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الْمُؤْمِنُونَ: 6] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكُلُّ فَرْجٍ سِوَى هَذَيْنِ حَرَامٌ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ، أَيْ: يُعْرَفُ النَّسْخُ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ بِنَقْلِ الرَّاوِي، أَوْ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ، أَيْ: لَفْظِ الْحَدِيثِ عَلَى النَّسْخِ، كَمَا رَوَى بُرَيْدَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ; فَقَدْ أُذِنَ لِمُحَمَّدٍ فِي زِيَارَةِ

(2/341)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَبْرِ أُمِّهِ ; فَزُورُوهَا ; فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ; فَهَذَا نَصٌّ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نَسْخِ الْمَنْعِ، وَتَصْرِيحٌ بِهِ.
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ: كُنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ، فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا ; فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْهَا بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ.

(2/342)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَبِالتَّارِيخِ» ، أَيْ: وَيُعْرَفُ النَّسْخُ بِالتَّارِيخِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الرَّاوِي: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَنَةَ خَمْسٍ كَذَا، أَوْ عَامَ الْفَتْحِ - وَهِيَ سَنَةُ ثَمَانٍ - كَذَا، أَوْ يَكُونَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ، كَحَدِيثِ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي مَسِّ الذَّكَرِ: هَلْ هُوَ إِلَّا بَضْعَةٌ مِنْكَ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: جِئْتُ وَهُمْ يُؤَسِّسُونَ الْمَسْجِدَ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَبُسْرَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ بَعْدَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ، أَسْلَمَ سَنَةَ سَبْعٍ،

(2/343)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَبِنَاءُ الْمَسْجِدِ كَانَ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ.
وَكَذَلِكَ زَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَطْعِ الْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ ; كَانَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْمَدِينَةِ.
وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمَكَّةَ فِي وَقْتِ الْحَجِّ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَطْعَ الْخُفَّيْنِ ; فَكَانَ تَرْكُهُ لِبَيَانِ وُجُودِ قَطْعِ الْخُفَّيْنِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ دَلِيلًا عَلَى نَسْخِهِ.
قَوْلُهُ: «أَوْ يَكُونُ رَاوِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ مَاتَ قَبْلَ إِسْلَامِ الثَّانِي» . هَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ النَّسْخُ، كَمَا لَوْ رَوَى مَثَلًا حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَوْ مُصْعَبُ بْنُ

(2/344)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عُمَيْرٍ، أَوْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ تَقَدَّمَتْ وَفَاتُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، الْمَنْعَ مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، ثُمَّ رَأَيْنَا جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرْوِي جَوَازَهُنَّ عَلِمْنَا أَنَّ حَدِيثَهُ نَاسِخٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَهَذَا مِثَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ إِلَّا رِوَايَةُ جَرِيرٍ لِلْمَسْحِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا عَلِمْنَا أَنَّ رَاوِيَ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ لَمْ يَمُتْ قَبْلَ إِسْلَامِ رَاوِي الثَّانِي، بَلْ بَعْدَهُ ; فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَبَرَيْنِ قِيلَ قَبْلَ الْآخَرِ ; فَلَا يَتَحَقَّقُ أَيُّهُمَا النَّاسِخُ، وَلِمَعْرِفَةِ النَّاسِخِ طُرُقٌ أُخَرُ، لَمْ تُذْكَرْ فِي «الْمُخْتَصَرِ» تَبَعًا لِأَصْلِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ تَلْحَقُهُمَا أَحْكَامٌ لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ، كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَنَحْوِهَا» يَعْنِي كَالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ «عَقَّبْنَاهُمَا» ، أَيْ: عَقَّبْنَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِذِكْرِهَا، أَيْ: بِذِكْرِ مَا يَلْحَقُهُمَا مِنَ الْعَوَارِضِ الْمَذْكُورَةِ، أَيْ: ذَكَرْنَاهَا عَقِيبَهَا. وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الْبَيَانِ لِمُنَاسَبَةِ تَعْقِيبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ، كَمَا بَيَّنَّا مُنَاسَبَةَ تَعْقِيبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالنَّسْخِ فِي أَوَّلِهِ، وَكَانَ تَقْدِيمُ النَّسْخِ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيمِ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ إِنَّمَا يُنْظَرُ فِي أَحْكَامِ عَوَارِضِهِ إِذَا كَانَ مَعْمُولًا بِهِ، وَالْمَنْسُوخُ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ بِمَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، مَا اللَّفْظُ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ وَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، نُظِرَ حِينَئِذٍ فِي أَحْكَامِ عَوَارِضِهِ، لِئَلَّا يَضِيعَ النَّظَرُ فِي لَفْظٍ قَدْ بَطَلَ بِالنَّسْخِ.

(2/345)