فتح القدير للكمال ابن الهمام (بَابُ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَمَا
يُكْرَهُ فِيهَا) (وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ عَامِدًا
أَوْ سَاهِيًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ،
وَمَفْزَعُهُ الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ. وَلَنَا قَوْلُهُ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ
لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
(قَوْلُهُ لَمْ يُوجَدْ الِاسْتِخْلَافُ مِنْهُ قَصْدٌ) وَمَا
حُكِمَ بِكَوْنِ الْأَوَّلِ خَلِيفَةً إلَّا لِتَصْحِيحِ
صَلَاةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَهُنَا لَوْ اعْتَبَرْنَا
هَذَا الِاعْتِبَارَ لِإِصْلَاحِ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي كَانَ
فِيهِ إفْسَادُ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَدَارَ الْأَمْرُ
بَيْنَهُ فَتَفْسُدُ عَلَى الْإِمَامِ وَتَصِحُّ عَلَى
الْمُقْتَدِي وَبَيْنَ عَدَمِهِ فَيَنْعَكِسُ فَوَجَبَ
التَّرْجِيحُ، وَوَجْهُ تَرْجِيحِ عَدَمِهِ غَنِيٌّ عَنْ
الْبَيَانِ.
[بَابُ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَمَا يُكْرَهُ فِيهَا]
(قَوْلُهُ وَمَفْزَعُهُ الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ) «رُفِعَ عَنْ
أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» إلَخْ. الْفُقَهَاءُ
يَذْكُرُونَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَا يُوجَدُ بِهِ فِي
شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، بَلْ «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ
عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ النِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا
عَلَيْهِ» رَوَاهُ ابْن مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ
وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا (قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ صَلَاتَنَا إلَخْ)
رَوَاهُ
(1/395)
وَإِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ
وَالتَّهْلِيلُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» وَمَا رَوَاهُ
مَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ. بِخِلَافِ السَّلَامِ
سَاهِيًا لِأَنَّهُ مِنْ الْأَذْكَارِ فَيُعْتَبَرُ ذِكْرًا
فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ وَكَلَامًا فِي حَالَةِ التَّعَمُّدِ
لِمَا فِيهِ مِنْ كَافِ الْخِطَابِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ
السُّلَمِيِّ قَالَ «بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ عَطَسَ
رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَقُلْتُ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ،
فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ
أُمَّاهُ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إلَيَّ، فَجَعَلُوا
يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا
رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
دَعَانِي فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا
قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ،
فَوَاَللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي
ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا
شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ
وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» اهـ.
وَقَدْ أَجَابُوا بِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى
الْبُطْلَانِ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ مَحْظُورٌ وَالْحَظْرُ لَا
يَسْتَلْزِمُ الْبُطْلَانَ، وَلِذَا لَمْ يَأْمُرْهُ
بِالْإِعَادَةِ وَإِنَّمَا عَلَّمَهُ أَحْكَامَ الصَّلَاةِ.
قُلْنَا إنْ صَحَّ فَإِنَّمَا بَيَّنَ الْحَظْرَ حَالَةَ
الْعَمْدِ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ حَظْرٌ يَرْتَفِعُ
إلَى الْإِفْسَادِ، وَمَا كَانَ مُفْسِدًا حَالَةَ الْعَمْدِ
كَانَ كَذَلِكَ حَالَةَ السَّهْوِ لِعَدَمِ الْمُزِيلِ شَرْعًا
كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. وَقَوْلُهُ «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي»
أَوْ «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْهُمْ» مِنْ بَاب الْمُقْتَضَى
وَلَا عُمُومَ لَهُ، لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ فَوَجَبَ
تَقْدِيرُهُ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ
رَفْعَ الْإِثْمِ مُرَادٌ فَلَا يُرَادُ غَيْرُهُ وَإِلَّا
لَزِمَ تَعْمِيمُهُ وَهُوَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الضَّرُورَةِ،
وَمَنْ اعْتَبَرَهُ فِي الْحُكْمِ الْأَعَمِّ مِنْ حُكْمِ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَدْ عَمَّمَهُ مِنْ حَيْثُ لَا
يَدْرِي، إذْ قَدْ أَثْبَتَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الضَّرُورَةِ
مِنْ تَصْحِيحِ الْكَلَامِ وَصَارَ كَمَا إذَا أَطَالَ
الْكَلَامَ سَاهِيًا فَإِنَّهُ يَقُولُ بِالْفَسَادِ، فَإِنَّ
الشَّرْعَ إذَا رَفَعَ إفْسَادَهُ وَجَبَ شُمُولُ الصِّحَّةِ.
وَإِلَّا فَشُمُولُ عَدَمِهَا وَكَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ،
وَإِنَّمَا عُفِيَ الْقَلِيلُ مِنْ الْعَمَلِ لِعَدَمِ
الِاحْتِرَازِ عَنْهُ لِأَنَّ فِي الْحَيِّ حَرَكَاتٍ مِنْ
الطَّبْعِ وَلَيْسَتْ الصَّلَاةُ، فَلَوْ اُعْتُبِرَ
إفْسَادُهُ مُطْلَقًا لَزِمَ الْحَرَجُ فِي إقَامَةِ صِحَّةِ
الصَّلَاةِ فَعُفِيَ مَا لَمْ يَكْثُرْ وَلَيْسَ الْكَلَامُ
مِنْ طَبْعِ الْحَيِّ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ السَّلَامِ
سَاهِيًا) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسٍ مُقَدَّرٍ لِلشَّافِعِيِّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى السَّلَامِ سَاهِيًا وَهُوَ ظَاهِرٌ
مِنْ الْكِتَابِ.
(1/396)
(فَإِنْ أَنَّ فِيهَا أَوْ تَأَوَّهَ أَوْ
بَكَى فَارْتَفَعَ بُكَاؤُهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ ذِكْرِ
الْجَنَّةِ أَوْ النَّارِ لَمْ يَقْطَعْهَا) لِأَنَّهُ يَدُلُّ
عَلَى زِيَادَةِ الْخُشُوعِ (وَإِنْ كَانَ مِنْ وَجَعٍ أَوْ
مُصِيبَةٍ قَطَعَهَا) لِأَنَّ فِيهِ إظْهَارُ الْجَزَعِ
وَالتَّأَسُّفِ فَكَانَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ. وَعَنْ أَبِي
يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قَوْلَهُ آهٍ لَا يُفْسِدُ
فِي الْحَالَيْنِ وَأُوهِ يُفْسِدُ.
وَقِيلَ الْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ الْكَلِمَةَ إذَا
اشْتَمَلَتْ عَلَى حَرْفَيْنِ وَهُمَا زَائِدَتَانِ أَوْ
إحْدَاهُمَا لَا تَفْسُدُ، وَإِنْ كَانَتَا أَصْلِيَّتَيْنِ
تَفْسُدُ. وَحُرُوفُ الزَّوَائِدِ جَمَعُوهَا فِي قَوْلِهِمْ
الْيَوْمَ تَنْسَاهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
قَوْلُهُ فَإِنْ أَنَّ فِيهَا) أَيْ قَالَ آهْ أَوْ تَأَوَّهَ:
أَيْ قَالَ أُوهِ وَنَحْوِهِ (قَوْلُهُ فَارْتَفَعَ بُكَاؤُهُ)
أَيْ حَصَلَ بِهِ الْحُرُوفُ (قَوْلُهُ فَكَانَ مِنْ كَلَامِ
النَّاسِ) صَرِيحُ كَلَامِهِ أَنَّ كَوْنَهُ إظْهَارًا
لِلْوَجَعِ بِلَفْظٍ هُوَ الْمَصِيرُ لَهُ كَلَامًا فَلَا
يَحْتَاجُ فِي تَقْرِيرِهِ إلَى قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُ إذَا
كَانَ إظْهَارًا لِلْوَجَعِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَدْرِكُونِي
أَوْ أَعِينُونِي، بِخِلَافِ إظْهَارِ الرَّغْبَةِ
وَالرَّهْبَةِ لِأَنَّهُ كَقَوْلِ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ
وَأَعِذْنِي مِنْ النَّارِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ إذْ
يُعْطِي ظَاهِرُهُ أَنَّ كَوْنَهُ دَالًا عَلَى ذَلِكَ
الْكَلَامِ صَيَّرَهُ كَلَامًا، لَكِنْ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ
إظْهَارًا لِذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُصَيِّرُهُ كَلَامًا وَهَذَا
هُوَ الْحَقُّ.
وَرَشَّحَهُ فِي الْكَلَامِ مَعَ أَبِي يُوسُفَ حَيْثُ
اشْتَرَطَ فِي كَوْنِ اللَّفْظِ مُفْسِدًا كَوْنُهُ حَرْفَيْنِ
زَائِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا بِقَوْلِهِ وَهَذَا لَا يَقْوَى،
لِأَنَّ كَلَامَ النَّاسِ فِي مُتَفَاهَمِ الْعُرْفِ يَتْبَعُ
وُجُودَ الْحُرُوفِ وَإِفْهَامَ الْمَعْنَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ
إظْهَارَ الْوَجَعِ بِاللَّفْظِ إفَادَةُ مَعْنًى بِهِ
فَيَكُونُ نَفْسُهُ كَلَامًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَضْعٌ،
وَاشْتِرَاطُ الْوَضْعِ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ فِي الْكَلَامِ.
وَلَوْ سَلِمَ ثُبُوتُهُ لُغَةً لَمْ يَلْزَمْ اشْتِرَاطُهُ
فِي الْإِفْسَادِ لِأَنَّ الْمَعْقُولَ فِي الْإِفْسَادِ
كَوْنُهُ إفَادَةَ الْمَعْنَى بِاللَّفْظِ لَا بِقَيْدِ
كَوْنِهِ بِطَرِيقِ الْوَضْعِ، إذْ لَيْسَ كَوْنُهُ خَارِجًا
عَنْ عَمَلِ الصَّلَاةِ مُتَوَقِّفًا عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ فِي
الْحَالَيْنِ: أَيْ الْخُشُوعِ وَالْجَزَعِ، وَقَوْلُهُ لَا
تَفْسُدُ: أَيْ فِي الْحَالَيْنِ أَيْضًا عِنْدَهُ، وَكَذَا
أُفٍّ مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا لَا تَفْسُدُ، وَتَمَسَّكَ فِي
ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نَفَخَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ فَقَالَ: أُفٍّ
أَلَمْ تَعِدنِي أَنْ لَا تُعَذِّبَهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ»
قُلْنَا وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا، فَيَجُوزُ
كَوْنُهَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ فَلَا
يُعَارِضُ مَا رَوَيْنَا.
وَقَوْلُهُ فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ
الْكَلَامِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ (قَوْلُهُ فِي
قَوْلِهِمْ الْيَوْمَ تَنْسَاهُ) سَمْطٌ تَنْفِرُ مِنْهُ
النَّفْسُ أَيْنَ هُوَ مِنْ أَمَانٍ وَتَسْهِيلٍ، وَقَدْ
جَمَعَهَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ مَالِكٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي
هَذَا الْبَيْتِ:
(1/397)
وَهَذَا لَا يَقْوَى لِأَنَّ كَلَامَ
النَّاسِ فِي مُتَفَاهَمِ الْعُرْفِ يَتْبَعُ وُجُودَ حُرُوفِ
الْهِجَاءِ وَإِفْهَامَ الْمَعْنَى، وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي
حُرُوفٍ كُلُّهَا زَوَائِدُ
(وَإِنْ تَنَحْنَحَ بِغَيْرِ عُذْرٍ) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ
مَدْفُوعًا إلَيْهِ (وَحَصَلَ بِهِ الْحُرُوفُ يَنْبَغِي أَنْ
يُفْسِدَ عِنْدَهُمَا، وَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ فَهُوَ عَفْوٌ
كَالْعُطَاسِ) وَالْجُشَاءِ إذَا حَصَلَ بِهِ حُرُوفٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
هَنَاءٌ وَتَسْلِيمٌ تَلَا يَوْمَ أُنْسِهِ ... نِهَايَةُ
مَسْئُولٍ أَمَانٌ وَتَسْهِيلُ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْأَنِينُ
وَالْبُكَاءُ وَالتَّأَوُّهُ يَقْطَعُ مُطْلَقًا إذَا حَصَلَ
مِنْهُ حَرْفَانِ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ
كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ» وَبِأَزِيزِ الْمِرْجَلِ يَحْصُلُ
الْحُرُوفُ لِمَنْ يَصْغَى (قَوْلُهُ وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي
حُرُوفٍ كُلُّهَا زَوَائِدُ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: قُلْت
هَذَا لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ كَلَامَهُ فِي
الْحَرْفَيْنِ لِأَنَّ فِي الزَّائِدِ عَلَيْهِمَا يَكُونُ
قَوْلُهُ كَقَوْلِهِمَا اهـ.
وَأَثَرُ هَذَا الْبَحْثِ فِي الْعِبَارَةِ فَقَطْ فَإِنَّهُ
لَوْ أَرَادَ بِالْجَمْعِ الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، أَوْ
صَرَّحَ فَقَالَ: وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي حَرْفَيْنِ
زَائِدَيْنِ، أَوْ أَنَّ الْجَمْعَ هُنَا بِاعْتِبَارِ
الْمُتَكَلِّمِينَ لَا مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ مِثْلُ لَا نِكَاحَ
إلَّا بِشُهُودٍ مَعَ أَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ بِشَاهِدَيْنِ طَاحَ
مَا ذَكَرَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ هَذَا أَوْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ
أَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَنِينُ يُمْكِنُ الِامْتِنَاعُ مِنْ
ذَلِكَ الْوَجَعِ عَنْهُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ وَإِلَّا فَلَا.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ كَانَ أَلَمُهُ
خَفِيفًا يَقْطَعُ وَإِلَّا لَا،
(قَوْلُهُ يَنْبَغِي إلَخْ) إنَّمَا لَمْ يَجْزِمْ
بِالْجَوَابِ لِثُبُوتِ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ
مَدْفُوعًا لَهُ بَلْ فَعَلَهُ لِتَحْسِينِ الصَّوْتِ،
فَعِنْدَ الْفَقِيهِ إسْمَاعِيلَ الزَّاهِدِ تَفْسُدُ،
وَعِنْدَ غَيْرِهِ لَا. وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ مَا
لِلْقِرَاءَةِ مُلْحَقٌ بِهَا وَكَذَا لَوْ تَنَحْنَحَ
بِالْإِعْلَامِ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَوْ نَفَخَ
مَسْمُوعًا فَسَدَتْ.
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْمَسْمُوعِ فَالْحَلْوَانِيُّ
وَغَيْرُهُ مَا يَكُونُ لَهُ حُرُوفٌ كَأُفٍّ تُفٍّ تَفْسُدُ،
وَإِلَّا فَلَا تَفْسُدُ، وَبَعْضُهُمْ لَا يَشْتَرِطُ
الْحُرُوفَ إلَّا فِي الْإِفْسَادِ بَعْدَ كَوْنِهِ
مَسْمُوعًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى
هَذَا لَوْ نَفَّرَ طَائِرًا أَوْ دَعَاهُ بِمَا هُوَ
مَسْمُوعٌ (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ) أَوْ مَدْفُوعًا
إلَيْهِ: أَيْ مَبْعُوثُ الطَّبْعِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا
يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَلَا تَفْسُدُ، وَمِثْلُهُ
الْمَرِيضُ إذَا كَانَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ عَنْهُ لَا
تَفْسُدُ كَالْجُشَاءِ،
(1/398)
(وَمَنْ عَطَسَ فَقَالَ لَهُ آخَرُ
يَرْحَمُك اللَّهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ)
لِأَنَّهُ يَجْرِي فِي مُخَاطَبَاتِ النَّاسِ فَكَانَ مِنْ
كَلَامِهِمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ الْعَاطِسُ أَوْ
السَّامِعُ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا قَالُوا لِأَنَّهُ
لَمْ يُتَعَارَفْ جَوَابًا
(وَإِنْ اسْتَفْتَحَ فَفَتْحَ عَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَنِينِ
إنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ
(قَوْلُهُ فَقَالَ لَهُ آخَرُ) احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا قَالَ
لِنَفْسِهِ يَرْحَمُك اللَّهُ لَا تَفْسُدُ كَقَوْلِهِ
يَرْحَمُنِي اللَّهُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا تَفْسُدُ فِي قَوْلِهِ لِغَيْرِهِ
ذَلِكَ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ،
وَهُمَا يَتَمَسَّكَانِ بِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ
السَّابِقِ أَوَّلَ الْبَابِ فَإِنَّهُ فِي عَيْنِ
الْمُتَنَازَعِ فِيهِ لِأَنَّ مَوْرِدَهُ كَانَ تَشْمِيتَ
عَاطِسٍ. وَبِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ
(قَوْلُهُ عَلَى مَا قَالُوا) إشَارَةٌ إلَى ثُبُوتِ
الْخِلَافِ، رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ إذَا
عَطَسَ فَحَمِدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَرِّكَ
شَفَتَيْهِ فَإِنَّ حَرَّكَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ (قَوْلُهُ
فَسَدَتْ صَلَاتُهُ) يَعْنِي إذَا قَصَدَ التَّعْلِيمَ، أَمَّا
إذَا أَرَادَ التِّلَاوَةَ فَلَا. وَكَذَا لَوْ قِيلَ مَا
مَالُك؟ فَقَالَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ أَوْ
كَانَ أَمَامَهُ كِتَابٌ وَخَلْفَهُ رَجُلٌ اسْمُهُ يَحْيَى
فَقَالَ يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ، إنْ أَرَادَ إفَادَتَهُ
الْمَعْنَى فَسَدَتْ لَا إنْ أَرَادَ الْقِرَاءَةَ
(1/399)
فِي صَلَاتِهِ تَفْسُدُ) وَمَعْنَاهُ أَنْ
يَفْتَحَ الْمُصَلِّي عَلَى غَيْرِ إمَامِهِ لِأَنَّهُ
تَعْلِيمٌ وَتَعَلُّمٌ فَكَانَ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ النَّاسِ،
ثُمَّ شَرَطَ التَّكْرَارَ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ
مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَيُعْفَى الْقَلِيلُ مِنْهُ،
وَلَمْ يُشْرَطْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّ الْكَلَامَ
بِنَفْسِهِ قَاطِعٌ وَإِنْ قَلَّ (وَإِنْ فَتَحَ عَلَى
إمَامِهِ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مُفْسِدًا) اسْتِحْسَانًا
لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى إصْلَاحِ صَلَاتِهِ فَكَانَ هَذَا
مِنْ أَعْمَالِ صَلَاتِهِ مَعْنًى (وَيَنْوِي الْفَتْحَ عَلَى
إمَامِهِ دُونَ الْقِرَاءَةِ) هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ
مُرَخَّصٌ فِيهِ، وَقِرَاءَتُهُ مَمْنُوعٌ عَنْهَا (وَلَوْ
كَانَ الْإِمَامُ انْتَقَلَ إلَى آيَةٍ أُخْرَى تَفْسُدُ
صَلَاةُ الْفَاتِحِ وَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ) لَوْ
أَخَذَ بِقَوْلِهِ لِوُجُودِ التَّلْقِينِ وَالتَّلَقُّنِ مِنْ
غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَيَنْبَغِي لِلْمُقْتَدِي أَنْ لَا
يُعَجِّلَ بِالْفَتْحِ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ لَا يُلْجِئَهُمْ
إلَيْهِ بَلْ يَرْكَعَ إذَا جَاءَ أَوَانُهُ أَوْ يَنْتَقِلَ
إلَى آيَةٍ أُخْرَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
قَوْلُهُ شَرَطَ التَّكْرَارَ) بِأَنْ فَتَحَ غَيْرَ مَرَّةٍ
لِأَنَّهُ فِعْلٌ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَيُعْفَى
قَلِيلُهُ وَلَمْ يَشْرُطْهُ فِي الْجَامِعِ وَهُوَ الصَّحِيحُ
لِأَنَّهُ كَلَامٌ فَلَا يُعْفَى قَلِيلُهُ (قَوْلُهُ لَمْ
يَكُنْ كَلَامًا اسْتِحْسَانًا) هَذَا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ
الْفَتْحِ بَعْدَ قِرَاءَةِ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ أَوْ
قَبْلَهُ، وَقِيلَ إنْ قَرَأَ الْإِمَامُ مَا تَجُوزُ بِهِ
تَفْسُدُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ
(قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ
يَنْوِي الْقِرَاءَةَ وَهُوَ سَهْوٌ لِأَنَّهُ عُدُولٌ إلَى
الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَنْ الْمُرَخَّصِ فِيهِ بِمَا رُوِيَ
«أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِي
الصَّلَاةِ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ كَلِمَةً فَلَمَّا
فَرَغَ قَالَ: أَلَمْ يَكُنْ فِيكُمْ أُبَيٌّ؟ قَالَ بَلَى،
قَالَ: هَلَّا فَتَحْتَ عَلِيَّ؟ فَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا
نُسِخَتْ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
لَوْ نُسِخَتْ لَأَعْلَمْتُكُمْ» .
وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا اسْتَطْعَمَك
الْإِمَامُ فَأَطْعِمْهُ (قَوْلُهُ وَتَفْسُدُ صَلَاةُ
الْإِمَامِ) هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَعَامَّتُهُمْ
عَلَى مَا يُفِيدُهُ لَفْظُ الْمُحِيطِ عَلَى أَنَّهُ لَا
يُفْسِدُ وَإِنْ انْتَقَلَ وَهُوَ الْأَوْفَقُ لِإِطْلَاقِ
الْمُرَخِّصِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ (قَوْلُهُ إذَا جَاءَ
أَوَانُهُ) أَجْمَلَهُ لِلْخِلَافِ فِيهِ
(1/400)
(وَلَوْ أَجَابَ رَجُلًا فِي الصَّلَاةِ
بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَهَذَا كَلَامٌ مُفْسِدٌ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ
أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَكُونُ مُفْسِدًا)
وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا أَرَادَ بِهِ جَوَابَهُ. لَهُ
أَنَّهُ ثَنَاءٌ بِصِيغَتِهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِعَزِيمَتِهِ،
وَلَهُمَا أَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ
وَهُوَ يَحْتَمِلُهُ فَيُجْعَلُ جَوَابًا كَالتَّشْمِيتِ
وَالِاسْتِرْجَاعِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الصَّحِيحِ (وَإِنْ
أَرَادَ إعْلَامَهُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ تَفْسُدْ
بِالْإِجْمَاعِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «إذَا نَابَتْ أَحَدَكُمْ نَائِبَةٌ فِي
الصَّلَاةِ فَلْيُسَبِّحْ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فَإِنَّ قَاضِي خَانْ وَصَاحِبَ الْمُحِيطِ وَبَكْرًا
اعْتَبَرُوا أَوَانَ الرُّكُوعِ بَعْدَ قِرَاءَةِ مَا تَجُوزُ
بِهِ الصَّلَاةُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُلْجِئَهُمْ إلَيْهِ
بَلْ يَنْتَقِلُ إلَى آيَةٍ أُخْرَى أَوْ يَرْكَعُ إذَا قَرَأَ
الْمُسْتَحَبَّ صَوْنًا لِلصَّلَاةِ عَنْ الزَّوَائِدِ،
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ، أَلَا يَرَى
إلَى «مَا ذَكَرُوا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ لِأُبَيٍّ هَلَّا فَتَحْتَ عَلَيَّ» مَعَ
أَنَّهَا كَانَتْ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ
(قَوْلُهُ وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا أَرَادَ جَوَابَهُ)
بِأَنْ قِيلَ مَثَلًا أَمَعَ اللَّهِ إلَهٌ آخَرُ فَقَالَ لَا
إلَه إلَّا اللَّهُ، أَمَّا إنْ أَرَادَ إعْلَامَهُ أَنَّهُ
فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَتَفَرَّغُ لِلْجَوَابِ فَلَا تَفْسُدُ
فِي قَوْلِ الْكُلِّ، وَكَذَا إذَا أُخْبِرَ بِخَبَرٍ
يَسُرُّهُ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ تَفْسُدُ فِي قَصْدِ
الْجَوَابِ لَا الْإِعْلَامِ (قَوْلُهُ فَلَا يَتَغَيَّرُ
بِعَزِيمَتِهِ) كَمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عِنْدَ قَصْدِ
إعْلَامِهِ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهُ أَيْضًا
قَصَدَ هُنَاكَ إفَادَةَ مَعْنًى بِهِ لَيْسَ هُوَ مَوْضُوعًا
لَهُ.
قُلْنَا خَرَجَ قَصْدُ إعْلَامِ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا نَابَتْ أَحَدَكُمْ
نَائِبَةٌ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلْيُسَبِّحْ» الْحَدِيثَ،
أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ لَا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ
بِعَزِيمَتِهِ كَمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عِنْدَ قَصْدِ
إعْلَامِهِ، فَإِنَّ مَنَاطَ كَوْنِهِ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ
كَوْنُهُ لَفْظًا أُفِيدَ بِهِ مَعْنًى لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ
الصَّلَاةِ لَا كَوْنُهُ وُضِعَ لِإِفَادَةِ ذَلِكَ فَيَبْقَى
مَا وَرَاءَهُ عَلَى الْمَنْعِ الثَّابِتِ بِحَدِيثِ
مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ، وَكَوْنُهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ
بِعَزِيمَتِهِ مَمْنُوعٌ. قَالَ السَّرِيُّ السَّقَطِيُّ: لِي
ثَلَاثُونَ سَنَةً أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ قَوْلِي
الْحَمْدُ لِلَّهِ احْتَرَقَ السُّوقُ، فَخَرَجْت فَقِيلَ لِي
سَلِمَتْ دُكَّانُك، فَقُلْت
(1/401)
(وَمَنْ صَلَّى رَكْعَةً مِنْ الظُّهْرِ
ثُمَّ افْتَتَحَ الْعَصْرَ أَوْ التَّطَوُّعَ فَقَدْ نَقَضَ
الظُّهْرَ) لِأَنَّهُ صَحَّ شُرُوعُهُ فِي غَيْرِهِ فَيَخْرُجُ
عَنْهُ (وَلَوْ افْتَتَحَ الظُّهْرَ بَعْدَمَا صَلَّى مِنْهَا
رَكْعَةً فَهِيَ هِيَ وَيَتَجَزَّأُ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ)
لِأَنَّهُ نَوَى الشُّرُوعَ فِي عَيْنِ مَا هُوَ فِيهِ
فَلَغَتْ نِيَّتُهُ وَبَقِيَ الْمَنْوِيُّ عَلَى حَالِهِ
(وَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ مِنْ الْمُصْحَفِ فَسَدَتْ
صَلَاتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وَقَالَا هِيَ تَامَّةٌ) لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ انْضَافَتْ إلَى
عِبَادَةٍ أُخْرَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقُلْت تَسُرُّ وَلَمْ تَغْتَمَّ لِأَمْرِ
الْمُسْلِمِينَ؟ وَأَقْرَبُ مَا يَنْقُضُ كَلَامَهُ مَا
وَافَقَ عَلَيْهِ الْفَسَادَ بِالْفَتْحِ عَلَى قَارِئٍ غَيْرِ
الْإِمَامِ فَهُوَ قُرْآنٌ وَقَدْ تَغَيَّرَ إلَى وُقُوعِ
الْإِفْسَادِ بِهِ بِالْعَزِيمَةِ، وَلَوْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ
فَقَالَ مِثْلَهُ مَرِيدًا جَوَابَ الْأَذَانِ أَوْ أَذَّنَ
ابْتِدَاءً وَأَرَادَ بِهِ الْأَذَانَ فَسَدَتْ لِقَصْدِ
الْجَوَابِ وَالْإِعْلَامِ لِوُجُودِ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ:
أَعْنِي وَقْتَ الصَّلَاةِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَفْسُدُ حَتَّى يُحَيْعِلَ.
وَلَوْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - جَوَابًا لِسَمَاعِ ذِكْرِهِ تَفْسُدُ لَا
ابْتِدَاءً، وَلَوْ قَرَأَ ذِكْرَ الشَّيْطَانِ فَلَعَنَهُ لَا
تَفْسُدُ وَلَوْ لَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ
تَفْسُدُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ صَحَّ شُرُوعُهُ فِي غَيْرِهِ) فَمَنَاطُ
الْخُرُوجِ عَنْ الْأَوَّلِ صِحَّةُ الشُّرُوعِ فِي
الْمُغَايِرِ وَلَوْ مِنْ وَجْهٍ، فَلِذَا لَوْ كَانَ
مُنْفَرِدًا فِي فَرْضٍ فَكَبَّرَ يَنْوِي الِاقْتِدَاءَ أَوْ
النَّفَلَ أَوْ الْوَاجِبَ أَوْ شَرَعَ فِي جِنَازَةٍ فَجِيءَ
بِأُخْرَى فَكَبَّرَ يَنْوِيهِمَا أَوْ الثَّانِيَةَ يَصِيرُ
مُسْتَأْنِفًا عَلَى الثَّانِيَةِ فَقَطْ، بِخِلَافِ مَا إذَا
لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ مُقْتَدِيًا فَكَبَّرَ
لِلِانْفِرَادِ يَفْسُدُ مَا أَدَّى قَبْلَهُ وَيَصِيرُ
مُفْتَتِحًا مَا نَوَاهُ ثَانِيًا (قَوْلُهُ فَهِيَ) أَيْ
تِلْكَ الرَّكْعَةُ الَّتِي صَلَّاهَا قَبْلَ الِافْتِتَاحِ
الثَّانِي هِيَ: أَيْ الَّتِي يَحْتَسِبُ بِهَا أَوْ الَّتِي
وَقَعَ فِيهَا الِافْتِتَاحُ الثَّانِي هِيَ الَّتِي هُوَ
فِيهَا بَعْدَهُ فَيَحْتَسِبُ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ حَتَّى
لَوْ لَمْ يَقْعُدْ فِيمَا بَقِيَ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ
بِاعْتِبَارِهَا فَسَدَتْ الصَّلَاةُ فَلَغَتْ نِيَّةُ
الثَّانِيَةِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَلْفِظْ بِلِسَانِهِ
فَإِنْ قَالَ نَوَيْت أَنْ أُصَلِّيَ إلَخْ فَسَدَتْ الْأُولَى
وَصَارَ
(1/402)
(إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ) لِأَنَّهُ
تَشَبُّهٌ بِصَنِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ حَمْلَ الْمُصْحَفِ وَالنَّظَرَ
فِيهِ وَتَقْلِيبَ الْأَوْرَاقِ عَمَلٌ كَثِيرٌ، وَلِأَنَّهُ
تَلَقُّنٌ مِنْ الْمُصْحَفِ فَصَارَ كَمَا إذَا تَلَقَّنَ مِنْ
غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْضُوعِ
وَالْمَحْمُولِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَفْتَرِقَانِ، وَلَوْ
نَظَرَ إلَى مَكْتُوبٍ وَفَهِمَهُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا
تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ
لَا يَقْرَأُ كِتَابَ فُلَانٍ حَيْثُ يَحْنَثُ بِالْفَهْمِ
عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْمَقْصُودَ
هُنَالِكَ الْفَهْمُ، أَمَّا فَسَادُ الصَّلَاةِ فَبِالْعَمَلِ
الْكَثِيرِ وَلَمْ يُوجَدْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مُسْتَأْنِفًا الْمَنْوِيَّ ثَانِيًا مُطْلَقًا
(قَوْلُهُ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَفْتَرِقَانِ) فَيُحْمَلُ مَا
رُوِيَ عَنْ ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - أَنَّهُ كَانَ يُؤَمُّ بِهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ
وَكَانَ يَقْرَأُ مِنْ الْمُصْحَفِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ
مَوْضُوعًا، وَعَلَى الثَّانِي كَوْنُ تِلْكَ مُرَاجَعَةً
كَانَتْ قُبَيْلَ الصَّلَاةِ لِيَكُونَ بِذِكْرِهِ أَقْرَبَ،
وَهُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي دَفْعِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ
يَجُوزُ بِلَا كَرَاهَةٍ «لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صَلَّى حَامِلًا أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ
عَلَى عَاتِقِهِ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا. وَإِذَا قَامَ
حَمَلَهَا» فَإِنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ لَيْسَ فِيهَا
تَلَقُّنٌ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ قِيَاسُ قِرَاءَةِ مَا
تَعَلَّمَهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ مُعَلِّمٍ حَيَّ
عَلَيْهَا مِنْ مُعَلِّمٍ حَيَّ بِجَامِعِ أَنَّهُ تَلَقَّنَ
مِنْ خَارِجٍ وَهُوَ الْمَنَاطُ فِي الْأَصْلِ فَقَطْ، فَإِنَّ
فِعْلَ الْخَارِجِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْفَسَادِ بَلْ
الْمُؤَثِّرُ فِعْلُ مَنْ فِي الصَّلَاةِ وَلَيْسَ مِنْهُ
إلَّا التَّلَقُّنُ، وَلَمْ يَفْصِلْ فِي الْجَامِعِ بَيْنَ
الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي الْإِفْسَادِ، وَقِيلَ إنْ قَرَأَ
آيَةً تَفْسُدُ، وَقِيلَ بَلْ قَدْرَ الْفَاتِحَةِ وَلَوْ
كَانَ يَحْفَظُ إلَّا أَنَّهُ نَظَرَ فَقَرَأَ لَا تَفْسُدُ
(قَوْلُهُ فَالصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ
إنْ كَانَ مُسْتَفْهِمًا فَسَدَتْ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ
خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ قِيَاسًا عَلَى مَسْأَلَةِ
الْيَمِينِ وَجَوَابُهَا مِنْ الْكِتَابِ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُمْ لِأَنَّهُ تَلَقَّنَ غَلَطٌ، إذْ الْمُفْسِدُ
التَّلَقُّنُ الْمُقْتَرِنُ بِقَوْلِ مَا تَلَقَّنَهُ وَهُوَ
مُنْتَفٍ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَكْتُوبِ غَيْرِ قُرْآنٍ،
أَمَّا فِي الْقُرْآنِ لَا تَفْسُدُ اتِّفَاقًا (قَوْلُهُ
أَمَّا فَسَادُ الصَّلَاةِ فَبِالْعَمَلِ الْكَثِيرِ)
وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّهِ، فَقِيلَ مَا يَحْصُلُ بِيَدٍ
وَاحِدَةٍ قَلِيلٌ وَبِيَدَيْنِ كَثِيرٌ، وَقِيلَ لَوْ كَانَ
بِحَالٍ لَوْ رَآهُ إنْسَانٌ مِنْ بَعِيدٍ تَيَقَّنَ أَنَّهُ
لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ كَثِيرٌ، وَإِنْ كَانَ يَشُكُّ
أَنَّهُ فِيهَا أَوْ لَمْ يَشُكَّ أَنَّهُ فِيهَا فَقَلِيلٌ
وَهُوَ اخْتِيَارُ الْعَامَّةِ. وَقِيلَ يُفَوَّضُ إلَى رَأْي
الْمُصَلِّي إنْ اسْتَكْثَرَهُ فَكَثِيرُهُ مُفْسِدٌ وَإِلَّا
لَا.
قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: هَذَا أَقْرَبُ إلَى مَذْهَبِ أَبِي
حَنِيفَةَ
(1/403)
(وَإِنْ مَرَّتْ امْرَأَةٌ بَيْن يَدَيْ
الْمُصَلِّي لَمْ تَقْطَعْ صَلَاتَهُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ
شَيْءٍ إلَّا أَنَّ الْمَارَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَمِنْ الْفُرُوعِ الْمُؤَسَّسَةِ: لَوْ أَرْضَعَتْ ابْنَهَا
أَوْ رَضَعَهَا هُوَ فَنَزَلَ لَبَنُهَا فَسَدَتْ، وَلَوْ
مَصَّ مَصَّةً أَوْ مَصَّتَيْنِ وَلَمْ تُنْزِلْ لَمْ
تَفْسُدْ، وَبِثَلَاثٍ تَفْسُدُ وَإِنْ لَمْ تُنْزِلْ، وَلَوْ
مَسَّ الْمُصَلِّيَةَ بِشَهْوَةٍ أَوْ قَبَّلَهَا وَلَوْ
بِغَيْرِ شَهْوَةٍ تَفْسُدُ، وَلَوْ قَبَّلَتْ الْمُصَلِّي
وَلَمْ يَشْتَهِهَا لَمْ تَفْسُدْ. كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِوَجْهِ الْفَرْقِ.
وَلَوْ رَأَى فَرْجَ الْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيًّا بِشَهْوَةٍ
يَصِيرُ مُرَاجِعًا، وَلَا تَفْسُدُ فِي رِوَايَةٍ وَهُوَ
الْمُخْتَارُ. وَلَوْ كَتَبَ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ أَوْ دَهَنَ
رَأْسَهُ أَوْ لِحْيَتَهُ أَوْ اكْتَحَلَ أَوْ جَعَلَ مَاءَ
الْوَرْدِ عَلَى رَأْسِهِ بِأَنْ تَنَاوَلَ الْقَارُورَةَ
فَصَبَّ عَلَى يَدِهِ أَوْ سَرَّحَ أَحَدَهُمَا أَوْ نَتَفَ
ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ بِمَرَّاتٍ أَوْ حَكَّ ثَلَاثًا فِي رُكْنٍ
يَرْفَعُ يَدُهُ كُلَّ مَرَّةٍ أَوْ قَتَلَ الْقَمْلَةَ
بِمِرَارٍ مُتَدَارِكًا أَوْ رَمَى عَنْ قَوْسٍ أَوْ ضَرَبَ
إنْسَانًا.
كَذَلِكَ أَوْ دَفَعَ الْمَارَّ بِيَدِهِ أَوْ رَأْسِهِ أَوْ
تَعَمَّمَ أَكْثَرَ مِنْ كَوْرَيْنِ أَوْ تَخَمَّرَتْ أَوْ
شَدَّ السَّرَاوِيلَ أَوْ زَرَّ الْقَمِيصَ أَوْ لَبِسَهُ أَوْ
الْخُفَّيْنِ أَوْ مَشَى قَدْرَ صَفَّيْنِ دَفْعَةً أَوْ
تَقَدَّمَ أَمَامَ الْوَجْهِ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ صَفٍّ أَوْ
سَاقَ الدَّابَّةَ بِمَدِّ رِجْلَيْهِ تَفْسُدُ، لَا إنْ
كَسَبَ أَوْ شَرِبَ أَوْ تَعَمَّمَ أَوْ حَكَّ أَوْ مَشَى أَوْ
نَتَفَ أَقَلَّ مِمَّا عَيَّنَّاهُ أَوْ غَيْرَ مُتَدَارِكٍ
أَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْقَارُورَةَ بَلْ كَانَ فِي يَدِهِ
فَمَسَحَ بِهَا أَوْ نَزَعَ اللِّجَامَ أَوْ الْقَمِيصَ أَوْ
سَاقَ بِرَجْلٍ وَاحِدَةٍ لَا تَفْسُدُ. وَقَوْلُهُمْ إذَا
دَفَعَ الْمَارَّ بِيَدِهِ تَفْسُدُ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ
عَلَى التَّكَرُّرِ دُونَ فَتْرَةٍ لِيَكُونَ عَمَلًا
كَثِيرًا، وَإِلَّا فَالدَّفْعَةُ الْوَاحِدَةُ عَمَلٌ قَلِيلٌ
. وَقَدْ قَالُوا فِي قَتْلِ الْحَيَّةِ إنَّهُ إذَا كَانَ
بِعَمَلٍ قَلِيلٍ لَا تَفْسُدُ. وَبِالْكَثِيرِ تَفْسُدُ. بَلْ
اخْتَارَ السَّرَخْسِيُّ أَنَّهَا لَا تَفْسُدُ بِالْكَثِيرِ
أَيْضًا لِأَنَّهُ مُرَخَّصٌ فِيهِ بِالنَّصِّ فَكَانَ
كَالْمَشْيِ الْكَثِيرِ فِي سَبْقِ الْحَدَثِ، وَلَا شَكَّ
أَنَّ هَذَا كَذَلِكَ بِالنَّصِّ.
وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى
شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ
يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ فَإِنْ أَبَى
فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» وَسَنَتَكَلَّمُ
فِيهِ عِنْدَ مَسْأَلَةِ قَتْلِ الْحَيَّةِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ
تَقْيِيدِ الْفَسَادِ بِكَوْنِهِ كَثِيرًا
(قَوْلُهُ وَإِنْ مَرَّتْ امْرَأَةٌ) خَصَّهَا لِلتَّنْصِيصِ
عَلَى رَدِّ قَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ أَنَّ مُرُورَهَا
يُفْسِدُ، وَكَذَا الْحِمَارُ وَالْكَلْبُ عِنْدَهُمْ.
وَوَجْهُ الْجَوَازِ حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ
بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلِي،
فَإِنْ قَامَ بَسَطْتُهَا» .
وَالْبُيُوتُ يَوْمئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ. وَقَوْلُهُ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْطَعُ
الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ
فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» وَفِي سَنَدِهِ مُجَالِدٌ فِيهِ
مَقَالٌ، وَإِنَّمَا رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ مَقْرُونًا
بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّعْبِيِّ، وَأَخْرَجَ
الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ سَالِمٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ
أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ قَالُوا: لَا يَقْطَعُ
الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ، وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ» ،
ضَعَّفَ رَفْعَهُ وَوَقَفَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: حَدِيثُ لَا
يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ ضَعِيفٌ، وَاَلَّذِي
يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ عَنْ الْحَسَنِ لِأَنَّهُ
يُرْوَى مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي أُمَامَةَ وَأَنَسٍ وَجَابِرٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَالرِّوَايَاتُ فِي أَبِي دَاوُد
وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ،
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَا يُقَاوِمُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقْطَعُ
الصَّلَاةَ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَآخِرَةِ
الرَّحْلِ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ.
قُلْنَا: مَا بَالُ الْأَسْوَدِ
(1/404)
آثِمٌ» لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «لَوْ عَلِمَ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ
الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ لَوَقَفَ
أَرْبَعِينَ» وَإِنَّمَا يَأْثَمُ إذَا مَرَّ فِي مَوْضِعِ
سُجُودِهِ عَلَى مَا قِيلَ وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مِنْ الْأَحْمَرِ؟ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي سَأَلْتُ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا
سَأَلْتَنِي فَقَالَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» قَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا أَشُكُّ أَنَّ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ
يَقْطَعُ، وَفِي نَفْسِي مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ
شَيْءٌ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ
صَحَّ حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا
قَالَتْ: وَذَكَرَتْ مَا رَوَيْنَاهُ آنِفًا، وَصَحَّ عَنْ
«ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي،
فَنَزَلْتُ عَنْ الْحِمَارِ وَتَرَكْتُهُ أَمَامَ الصَّفِّ
فَمَا بَالَاهُ» وَلَمْ نَجِدْ فِي الْكَلْبِ شَيْئًا
انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَامَ الْمُعَارِضُ فِيهِمَا
وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْكَلْبِ، وَتَأَوَّلَ الْجُمْهُورُ
ذَلِكَ عَلَى قَطْعِ الْخُشُوعِ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُهُ،
بِخِلَافِ مُعَارِضِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ
عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنَّهُمَا
مُحَكَّمَانِ فِي عَدَمِ الْإِفْسَادِ.
وَيَجِبُ فِي مِثْلِهِ حَمْلُ الْمُحْتَمَلِ عَلَى مَا
يَحْتَمِلُهُ مِمَّا لَمْ يُعَارَضْ بِهِ الْمُحَكَّمُ، وَلَا
شَكَّ أَنَّ الْكَلْبَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَعْمُولِ يَقْطَعُ،
فَإِذَا لَزِمَ فِي عَامِلِهِ هَذَا كَوْنُ الْمُرَادِ قَطْعَ
الْخُشُوعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ
لَزِمَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَلْبِ أَيْضًا ذَلِكَ
وَإِلَّا أُرِيدَ بِهِ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ وَذَلِكَ لَا
يَجُوزُ عِنْدَنَا.
ثُمَّ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي عَشَرَةِ
مَوَاضِعَ كُلُّهَا فِي الْكِتَابِ إلَّا وَاحِدًا وَهُوَ
أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَرْكِ السُّتْرَةِ إذَا أُمِنَ
الْمُرُورُ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -) الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي
النَّضِرِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ
أَرْسَلَهُ إلَى أَبِي جُهَيْمٍ يَسْأَلُهُ مَاذَا سَمِعَ مِنْ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي
الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي فَقَالَ أَبُو جُهَيْمٍ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا
عَلَيْهِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ
أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» قَالَ أَبُو النَّضِرُ: لَا
أَدْرِي قَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً.
وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي النَّضِرِ عَنْ بُسْرِ بْنِ
سَعِيدٍ قَالَ: أَرْسَلَنِي أَبُو جُهَيْمٍ إلَى زَيْدِ بْنِ
خَالِدٍ فَسَاقَهُ، وَفِيهِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ
خَرِيفًا، وَسَكَتَ عَنْهُ الْبَزَّارُ، وَفِيهِ أَنَّ
الْمَسْئُولَ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ خِلَافَ مَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ.
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَقَدْ خَطَّأَ النَّاسُ ابْنَ
عُيَيْنَةَ فِي ذَلِكَ لِمُخَالَفَتِهِ مَالِكًا، وَلَيْسَ
بِمُتَعَيَّنٍ لِاحْتِمَالِ كَوْنِ أَبِي جُهَيْمٍ بَعَثَ
بُسْرًا إلَى زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ
بَعَثَهُ إلَى أَبِي جُهَيْمٍ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ بِمَا
عِنْدَهُ لِيَسْتَثْبِتَهُ فِيمَا عِنْدَهُ وَهَلْ عِنْدَهُ
مَا يُخَالِفُهُ، فَأَخْبَرَ كُلٌّ بِمَحْفُوظِهِ، وَشَكَّ
أَحَدُهُمَا وَجَزَمَ الْآخَرُ، وَاجْتَمَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ
عَنْ أَبِي النَّضِرِ فَحَدَّثَ بِهِمَا.
غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا حَفِظَ حَدِيثَ أَبِي جُهَيْمٍ وَابْنَ
عُيَيْنَةَ حَفِظَ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ (قَوْلُهُ
وَإِنَّمَا يَأْثَمُ إذَا مَرَّ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ عَلَى
مَا قِيلَ وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ) قِيلَ هَذَا
هُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ مَنْ قَدَّمَهُ إلَى مَوْضِعِ
سُجُودِهِ هُوَ مَوْضِعُ صَلَاتِهِ، وَمِنْهُمْ مِنْ قَدَّرَهُ
(1/405)
وَتُحَاذِي أَعْضَاءُ الْمَارِّ
أَعْضَاءَهُ لَوْ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الدُّكَّانِ
(وَيَنْبَغِي لِمَنْ يُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ أَنْ يَتَّخِذَ
أَمَامَهُ سُتْرَةً) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي الصَّحْرَاءِ
فَلْيَجْعَلْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةً» (وَمِقْدَارُهَا
ذِرَاعٌ فَصَاعِدًا)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بِثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، وَمِنْهُمْ بِخَمْسَةٍ، وَمِنْهُمْ
بِأَرْبَعِينَ، وَمِنْهُمْ بِمِقْدَارِ صَفَّيْنِ أَوْ
ثَلَاثَةٍ، وَفِي النِّهَايَةِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ
بِحَالٍ لَوْ صَلَّى صَلَاةَ الْخَاشِعِينَ نَحْوَ أَنْ
يَكُونَ بَصَرُهُ فِي قِيَامِهِ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ وَفِي
مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ فِي رُكُوعِهِ وَإِلَى أَرْنَبَةِ
أَنْفِهِ فِي سُجُودِهِ وَفِي حِجْرِهِ فِي قُعُودِهِ وَإِلَى
مَنْكِبِهِ فِي سَلَامِهِ لَا يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى الْمَارِّ
لَا يُكْرَهُ.
وَمُخْتَارُ السَّرَخْسِيِّ مَا فِي الْهِدَايَةِ، وَمَا
صُحِّحَ فِي النِّهَايَةِ مُخْتَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ،
وَرَجَّحَهُ فِي النِّهَايَةِ بِأَنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا
صَلَّى عَلَى الدُّكَّانِ وَحَاذَى أَعْضَاءُ الْمَارِّ
أَعْضَاءَهُ يُكْرَهُ الْمُرُورُ، وَإِنْ كَانَ الْمَارُّ
أَسْفَلَ وَهُوَ لَيْسَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ: يَعْنِي أَنَّهُ
لَوْ كَانَ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ سُجُودُهُ فِيهِ
لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ يَسْجُدُ عَلَى الدُّكَّانِ فَكَانَ
مَوْضِعُ سُجُودِهِ أَلْبَتَّةَ دُون مَحَلِّ الْمُرُورِ لَوْ
كَانَ عَلَى الْأَرْضِ.
وَمَعَ ذَلِكَ ثَبَتَتْ الْكَرَاهَةُ اتِّفَاقًا فَكَانَ
ذَلِكَ نَقْضًا لِمَا اخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ،
بِخِلَافِ مُخْتَارِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ مَمْشًى
فِي كُلِّ الصُّوَرِ غَيْرُ مَنْقُوضٍ قَالَ: ثُمَّ ذَكَرَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ هَذَا الْحَدَّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إذَا
كَانَ يُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ. فَأَمَّا فِي الْمَسْجِدِ
فَالْحَدُّ هُوَ الْمَسْجِدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْمَارِّ أُسْطُوَانَةٌ أَوْ غَيْرُهَا: يَعْنِي
أَنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ فَالْكَرَاهَةُ
ثَابِتَةٌ، إلَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنْ حَدِّ الْمَسْجِدِ
فَيَمُرَّ فِيمَا لَيْسَ بِمَسْجِدٍ. وَفِي جَوَامِعِ
الْفِقْهِ فِي الْمَسْجِدِ يُكْرَهُ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ لَا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَائِطِ
الْقِبْلَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَمُرُّ مَا وَرَاءَ
خَمْسِينَ ذِرَاعًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْرَ مَا بَيْنَ
الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَحَائِطِ الْقِبْلَةِ. وَمُنْشَأُ هَذِهِ
الِاخْتِلَافَاتِ مَا يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ بَيْنَ يَدَيْ
الْمُصَلِّي، فَمَنْ فَهِمَ أَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ يَخُصُّ مَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحَلِّ سُجُودِهِ قَالَ بِهِ، وَمَنْ
فَهِمَ أَنَّهُ يَصْدُقُ مَعَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ نَفَاهُ
وَعَيَّنَ مَا وَقَعَ عِنْدَهُ.
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ تَرَجُّحُ مَا اخْتَارَهُ فِي
النِّهَايَةِ مِنْ مُخْتَارِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَكَوْنِهِ
مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ
الْمُؤَثِّمَ الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ
الْبَيْتِ بِرُمَّتِهِ اُعْتُبِرَ بُقْعَةً وَاحِدَةً فِي
حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَغْيِيرَ
الْأَمْرِ الْحِسِّيِّ مِنْ الْمُرُورِ مِنْ بَعِيدٍ
فَيُجْعَلُ الْبَعِيدُ قَرِيبًا (قَوْلُهُ وَيُحَاذَى إلَخْ)
فَلَوْ كَانَتْ الدُّكَّانُ قَدْرَ الْقَامَةِ فَهُوَ سُتْرَةٌ
فَلَا يَأْثَمُ الْمَارُّ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ حَدَّهُ
بِطُولِ السُّتْرَةِ وَهُوَ ذِرَاعٌ، وَغَلَّظَ بِأَنَّهُ لَوْ
كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كُرِهَ مُرُورُ الرَّاكِبِ وَإِنْ
اسْتَتَرَ بِظَهْرِ جَالِسٍ كَانَ سُتْرَةً وَكَذَا
الدَّابَّةُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَائِمِ وَقَالُوا: حِيلَةُ الرَّاكِبِ
أَنْ يَنْزِلَ فَيَجْعَلَ الدَّابَّةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْمُصَلِّي فَتَصِيرَ هِيَ سُتْرَةٌ فَيَمُرَّ، وَلَوْ مَرَّ
رَجُلَانِ فَالْإِثْمُ عَلَى مَنْ يَلِي الْمُصَلِّيَ
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ» ) غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ،
وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ
(1/406)
لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إذَا صَلَّى فِي
الصَّحْرَاءِ أَنْ يَكُونَ أَمَامَهُ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ
الرَّحْلِ» (وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فِي غِلَظِ
الْأُصْبُعِ) لِأَنَّ مَا دُونَهُ لَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ
مِنْ بَعِيدٍ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ (وَيَقْرُبُ مِنْ
السُّتْرَةِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
«مَنْ صَلَّى إلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا» (وَيَجْعَلُ
السُّتْرَةَ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ أَوْ عَلَى
الْأَيْسَرِ) بِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ وَلَا بَأْسَ بِتَرْكِ
السُّتْرَةِ إذَا أَمِنَ الْمُرُورَ وَلَمْ يُوَاجِهْ
الطَّرِيقَ
(وَسُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِلْقَوْمِ) لِأَنَّهُ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى بِبَطْحَاءَ
مَكَّةَ إلَى عَنَزَةٍ وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَوْمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَالْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا صَلَّى
أَحَدُكُمْ فَلِيُصَلِّ إلَى سُتْرَةٍ وَلَا يَدَعْ أَحَدًا
يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ» وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ
وَالْبَزَّارُ، وَزَادَ ابْنُ حِبَّانَ «فَإِنْ أَبَى
فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ» (قَوْلُهُ
لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيَعْجِزُ
إلَخْ) غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْهُ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنْ جَعَلْتَ بَيْنَ
يَدَيْكَ مِثْلَ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ فَلَا يَضُرُّكَ مَنْ
مَرَّ بَيْنَ يَدَيْكَ» وَأَخْرَجَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا - «سُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَنْ سُتْرَةِ الْمُصَلِّي
فَقَالَ: مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ» (قَوْلُهُ مُؤْخِرَةِ
الرَّحْلِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْخَاءِ آخِرُهُ.
وَتَشْدِيدُ الْخَاءِ خَطَأٌ وَهِيَ الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي
آخِرِهِ عَرِيضَةٌ تُحَاذِي رَأْسَ الرَّاكِبِ
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مَنْ صَلَّى) إلَخْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنْهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ
فَلْيُصَلِّ إلَى سُتْرَةٍ وَلْيَدْنُ مِنْهَا» وَرَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَفِيهِ «لَا يَقْطَعُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ
صَلَاتَهُ» (قَوْلُهُ بِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ) قُلْت: يُشِيرُ
إلَى حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ضُبَاعَةَ بِنْتِ
الْمِقْدَادِ ابْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهَا قَالَ: «مَا
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- يُصَلِّي إلَى عُودٍ وَلَا عَمُودٍ وَلَا شَجَرَةٍ إلَّا
جَعَلَهُ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ، وَلَا
يَصْمُدُ لَهُ صَمْدًا» .
وَقَدْ أُعِلَّ بِالْوَلِيدِ بْنِ كَامِلٍ وَبِجَهَالَةِ
ضُبَاعَةَ، وَبِأَنَّ أَبَا عَلِيِّ بْنَ السَّكَنِ رَوَاهُ
فِي سُنَنِهِ عَنْ ضُبَيْعَةَ بِنْتِ الْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِ
يَكْرِبَ عَنْ أَبِيهَا عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى عَامُودٍ أَوْ
سَارِيَةٍ أَوْ شَيْءٍ فَلَا يَجْعَلُهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ
وَلْيَجْعَلْهُ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْسَرِ» وَهَذَا دَلِيلٌ
عَلَى الِاضْطِرَابِ وَلَا يَضُرُّ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ
يُعْمَلُ بِمِثْلِهِ فِيهِ
(قَوْلُهُ «لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
صَلَّى بِبَطْحَاءِ مَكَّةَ إلَى عَنَزَةٍ» ) مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ هَكَذَا «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صَلَّى بِهِمْ بِالْبَطْحَاءِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ
عَنَزَةٌ وَالْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ يَمُرُّونَ مِنْ
وَرَائِهَا» .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ:
(1/407)
سُتْرَةٌ (وَيُعْتَبَرُ الْغَرْزُ دُونَ
الْإِلْقَاءِ وَالْخَطِّ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ
بِهِ (وَيَدْرَأُ الْمَارَّ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ
سُتْرَةٌ أَوْ مَرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّتْرَةِ)
لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ادْرَءُوا
مَا اسْتَطَعْتُمْ» (وَيَدْرَأُ بِالْإِشَارَةِ) كَمَا فَعَلَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بِوَلَدَيْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - (أَوْ
يَدْفَعُ بِالتَّسْبِيحِ) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ
(وَيُكْرَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا) لِأَنَّ بِأَحَدِهِمَا
كِفَايَةً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَوْمِ سُتْرَةٌ مِنْ كَلَامِهِ لَا مِنْ
الْحَدِيثِ (قَوْلُهُ الْغَرْزُ دُونَ الْإِلْقَاءِ) هَذَا
إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ بِحَيْثُ يُغْرَزُ فِيهَا، فَإِنْ
كَانَتْ صُلْبَةً اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ تُوضَعُ. وَقِيلَ لَا
تُوضَعُ، وَأَمَّا الْخَطُّ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ حَسَبَ
اخْتِلَافِهِمْ فِي الْوَضْعِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا
يَغْرِزَهُ أَوْ يَضَعَهُ.
فَالْمَانِعُ يَقُولُ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِهِ إذْ لَا
يَظْهَرُ مِنْ بَعِيدٍ، وَالْمُجِيزُ يَقُولُ وَرَدَ الْأَثَرُ
بِهِ، وَهُوَ مَا فِي أَبِي دَاوُد «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ
فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ
فَلْيَنْصِبْ عَصًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَصًا
فَلْيَخُطَّ خَطًّا وَلَا يَضُرُّهُ مَا مَرَّ أَمَامَهُ»
وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ الْأُولَى. وَالسُّنَّةُ أَوْلَى
بِالِاتِّبَاعِ مَعَ أَنَّهُ يَظْهَرُ فِي الْجُمْلَةِ إذْ
الْمَقْصُودُ جَمْعُ الْخَاطِرِ بِرَبْطِ الْخَيَالِ بِهِ كَيْ
لَا يَنْتَشِرَ.
قَالَ أَبُو دَاوُد: قَالُوا الْخَطُّ بِالطُّولِ وَقَالُوا
بِعَرْضٍ مِثْلِ الْهِلَالِ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ» )
تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد وَمَعْنَاهُ فِي
السُّنَّةِ كَثِيرٌ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ (قَوْلُهُ كَمَا
فَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَلَدَيْ
أُمِّ سَلَمَةَ) رَوَى ابْن مَاجَهْ عَنْهَا قَالَتْ «كَانَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي
فِي حُجْرَةِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَمَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ عَبْدُ
اللَّهِ أَوْ عُمَرُ بْن أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ بِيَدِهِ
هَكَذَا فَرَجَعَ فَمَرَّتْ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ
فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا فَمَضَتْ، فَلَمَّا صَلَّى -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: هُنَّ أَغْلَبُ»
وَأَعَلَّهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ قَيْسٍ
فِي طَبَقَتِهِ جَمَاعَةٌ بِاسْمِهِ.
وَلَا يُعْرَفُ مَنْ هُوَ مِنْهُمْ وَأَنَّ أُمَّهُ لَا
تُعْرَفُ أَلْبَتَّةَ. قِيلَ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ
مُحَمَّدًا هَذَا قَالَ عَنْ أُمِّهِ، لَكِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي
كِتَابِ ابْنِ مَاجَهْ وَمُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ إلَّا
عَنْ أَبِيهِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يُعْرَفُ فَقَدْ عَرَفَهُ
ابْنُ مَاجَهْ بِقَوْلِهِ قَاضِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، وَفِي الْكَمَالِ وَالتَّهْذِيبِ أَخْرَجَ لَهُ
مُسْلِمٌ وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ (قَوْلُهُ لِمَا
رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي «إذَا نَابَتْ أَحَدَكُمْ
نَائِبَةٌ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلْيُسَبِّحْ» .
(1/408)
(فَصْلٌ) (وَيُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ
يَعْبَثَ بِثَوْبِهِ أَوْ بِجَسَدِهِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ
لَكُمْ ثَلَاثًا، وَذَكَرَ مِنْهَا الْعَبَثَ فِي الصَّلَاةِ»
وَلِأَنَّ الْعَبَثَ خَارِجَ الصَّلَاةِ حَرَامٌ فَمَا ظَنُّك
فِي الصَّلَاةِ (وَلَا يُقَلِّبُ الْحَصَى) لِأَنَّهُ نَوْعُ
عَبَثٍ (إلَّا أَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْ السُّجُودِ
فَيُسَوِّيَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَرَّةً يَا أَبَا ذَرٍّ وَإِلَّا
فَذَرْ» وَلِأَنَّ فِيهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
[فَصْلٌ يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَعْبَثَ بِثَوْبِهِ أَوْ
بِجَسَدِهِ]
(فَصْلٌ) (قَوْلُهُ أَنْ يَعْبَثَ) الْعَبَثُ الْفِعْلُ
لِغَرَضٍ غَيْرِ صَحِيحٍ، فَلَوْ كَانَ لِنَفْعٍ كَسَلْتِ
الْعَرَقِ عَنْ وَجْهِهِ أَوْ التُّرَابِ فَلَيْسَ بِهِ
(قَوْلُهُ وَعَدَّ مِنْهَا الْعَبَثَ) وَهُوَ أَوَّلُهَا،
ثُمَّ قَالَ: «وَالرَّفَثُ فِي الصِّيَامِ وَالضَّحِكُ عَلَى
الْمَقَابِرِ» ، رَوَاهُ الْقُضَاعِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
الْمُبَارَكِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ
مُرْسَلًا (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: يَا أَبَا ذَرٍّ) غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ.
وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ «سَأَلْتُ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كُلِّ شَيْءٍ
حَتَّى سَأَلْتُهُ عَنْ مَسْحِ الْحَصَى فَقَالَ: وَاحِدَةً
أَوْ دَعْ» وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَرُوِيَ
مَوْقُوفًا عَلَيْهِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَهُوَ
أَصَحُّ، وَقَدْ أَخْرَجَ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ
مُعَيْقِيبٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ «لَا تَمْسَحْ الْحَصَى وَأَنْتَ تُصَلِّي فَإِنْ كُنْتَ
لَا بُدَّ فَاعِلًا فَوَاحِدَةً» .
وَأَمَّا حَدِيثُ الْفَرْقَعَةِ فَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ
الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «لَا تُفَرْقِعْ أَصَابِعَكَ وَأَنْتَ فِي
الصَّلَاةِ» .
وَهُوَ مَعْلُولٌ بِالْحَارِثِ،
وَحَدِيثُ التَّخَصُّرِ أَخْرَجُوهُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا»
وَفِي لَفْظٍ «نَهَى عَنْ الِاخْتِصَارِ فِي الصَّلَاةِ» وَفِي
الِاخْتِصَارِ تَأْوِيلَاتٌ أَشْهُرُهَا مَا قَالَ ابْنُ
سِيرِينَ وَهُوَ مَا فِي الْكِتَابِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثٌ
مَرْفُوعٌ فِي
(1/409)
إصْلَاحَ صَلَاتِهِ
(وَلَا يُفَرْقِعُ أَصَابِعَهُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تُفَرْقِعْ أَصَابِعُكَ
وَأَنْتَ تُصَلِّي» .
(وَلَا يَتَخَصَّرُ) وَهُوَ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْخَاصِرَةِ
لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ
الِاخْتِصَارِ فِي الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ
الْوَضْعِ الْمَسْنُونِ.
(وَلَا يَلْتَفِتُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - لَوْ عَلِمَ الْمُصَلِّي مَنْ يُنَاجِي مَا
الْتَفَتَ (وَلَوْ نَظَرَ بِمُؤْخِرِ عَيْنِهِ يَمْنَةً
وَيَسْرَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْوِيَ عُنُقَهُ لَا يُكْرَهُ)
لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ
يُلَاحِظُ أَصْحَابَهُ فِي صَلَاتِهِ بِمُوقِ عَيْنَيْهِ
(وَلَا يُقْعِي وَلَا يَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهِ) «لِقَوْلِ أَبِي
ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نَهَانِي خَلِيلِي عَنْ
ثَلَاثٍ: أَنْ أَنْقُرَ نَقْرَ الدِّيكِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَبِي دَاوُد وَمُفَسَّرٌ فِيهِ. وَفِي النِّهَايَةِ عَنْ
الْمُغْرِبِ وَهُوَ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْخَصْرِ وَهُوَ
الْمُسْتَدَقُّ فَوْقَ الْوَرِكِ، أَوْ عَلَى الْخَاصِرَةِ
وَهُوَ مَا فَوْقَ الطَّفْطَفَةِ وَالشَّرَاسِيفِ.
وَالطَّفْطَفَةُ أَطْرَافُ الْخَاصِرَةِ، وَالشَّرَاسِيفُ
أَطْرَافُ الضِّلْعِ الَّذِي يُشْرِفُ عَلَى الْبَطْنِ
انْتَهَى. وَقِيلَ هُوَ أَنْ يُصَلِّيَ مُتَّكِئًا عَلَى
عَصًا، وَقِيلَ أَنْ لَا يُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ،
وَقِيلَ أَنْ يَخْتَصِرَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا
السَّجْدَةُ،
وَحَدِيثُ الِالْتِفَاتِ غَرِيبٌ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ
وَفِيهِ أَلْفَاظٌ أَقْرَبُهَا إلَيْهِ مَا رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ كَعْبٍ «مَا مِنْ
مُؤْمِنٍ يَقُومُ مُصَلِّيًا إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ
مَلَكًا يُنَادِي: يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ تَعْلَمُ مَا فِي
صَلَاتِكَ مَنْ تُنَاجِي مَا الْتَفَتَّ» .
وَرَوَى الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي ذَرٍّ
عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا
يَزَالُ اللَّهُ تَعَالَى مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ
فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا الْتَفَتَ
انْصَرَفَ عَنْهُ» وَالْحَقُّ أَنَّهُ حَسَنٌ. «وَعَنْ أَنَسٍ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاكَ وَالِالْتِفَاتَ
فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ الِالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ
هَلَكَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَفِي التَّطَوُّعِ لَا فِي
الْفَرِيضَةِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَحَدُّ
الِالْتِفَاتِ الْمَكْرُوهِ أَنْ يَلْوِيَ عُنُقَهُ حَتَّى
يَخْرُجَ عَنْ مُوَاجِهَةِ الْقِبْلَة.
وَلَوْ انْحَرَفَ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ فَسَدَتْ فَبَعْضُهُ
يُكْرَهُ كَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ يُفْسِدُ فَالْقَلِيلُ
يُكْرَهُ، وَحَدِيثُ مُلَاحَظَتِهِ أَصْحَابَهُ إلَخْ
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَلْحَظُ فِي الصَّلَاةِ يَمِينًا وَشِمَالًا
وَلَا يَلْوِي عُنُقَهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ، قَالَ
ابْنُ الْقَطَّانِ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ غَرِيبًا لَا يُعْرَفُ
إلَّا مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ: يَعْنِي طَرِيقَ التِّرْمِذِيِّ
انْتَهَى.
لَكِنْ قَدْ ظَهَرَ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ فِي مُسْنَدِ
الْبَزَّارِ.
وَحَدِيثُ الْإِقْعَاءِ وَالِافْتِرَاشِ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي ذَرٍّ، وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ نَقْرَةٍ
كَنَقْرِ الدِّيكِ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ،
وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ» وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ
حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَ تَعْنِيهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ
الشَّيْطَانِ وَأَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ
افْتِرَاشَ السَّبُعِ وَعُقْبَةُ الشَّيْطَانِ الْإِقْعَاءُ.
وَأَمَّا مَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ طَاوُسٍ: قُلْت لِابْنِ
عَبَّاسٍ فِي الْإِقْعَاءِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ فَقَالَ: هِيَ
السُّنَّةُ فَقُلْنَا لَهُ إنَّا نَرَاهُ جَفَاءً بِالرَّجُلِ،
فَقَالَ بَلْ هِيَ سُنَّةُ نَبِيِّك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ
وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقْعُونَ،
فَالْجَوَابُ الْمُحَقَّقُ عَنْهُمْ أَنَّ الْإِقْعَاءَ عَلَى
ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُسْتَحَبٌّ أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ
عَلَى عَقِبَيْهِ وَرَكِبَتَاهُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ
الْمَرْوِيُّ عَنْ الْعَبَادِلَةِ، وَالْمَنْهِيُّ أَنْ يَضَعَ
أَلْيَتَيْهِ وَيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ
(1/410)
وَأَنْ أُقْعِيَ إقْعَاءَ الْكَلْبِ،
وَأَنْ أَفْتَرِشَ افْتِرَاشَ الثَّعْلَبِ» . وَالْإِقْعَاءُ:
أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ وَيَنْصِبَ
رُكْبَتَيْهِ نَصْبًا هُوَ الصَّحِيحُ.
(وَلَا يَرُدُّ السَّلَامَ بِلِسَانِهِ) لِأَنَّهُ كَلَامٌ
(وَلَا بِيَدِهِ) لِأَنَّهُ سَلَامٌ مَعْنًى حَتَّى لَوْ
صَافَحَ بِنِيَّةِ التَّسْلِيمِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ
(وَلَا يَتَرَبَّعُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ) لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ
سُنَّةِ الْقُعُودِ (وَلَا يَعْقِصُ شَعْرَهُ) وَهُوَ أَنْ
يَجْمَعَ شَعْرَهُ عَلَى هَامَتِهِ وَيَشُدَّهُ بِخَيْطٍ أَوْ
بِصَمْغٍ لِيَتَلَبَّدَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ
وَهُوَ مَعْقُوصٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ
عَنْ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنْ يَنْصِبَ قَدَمَيْهِ كَمَا فِي
السُّجُودِ وَيَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ لِأَنَّ
الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ هُوَ صِفَةُ إقْعَاءِ الْكَلْبِ،
وَقَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ: أَيْ كَوْنُ هَذَا هُوَ
الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ لَا أَنَّ مَا قَالَ الْكَرْخِيُّ
غَيْرُ مَكْرُوهٍ بَلْ يُكْرَهُ ذَلِكَ أَيْضًا
(قَوْلُهُ وَلَا بِيَدِهِ) قَالَ شَارِحُ الْكَنْزِ إنَّهُ
بِالْإِشَارَةِ مَكْرُوهٌ وَبِالْمُصَافَحَةِ مُفْسِدٌ.
وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ: الْآخَرُ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ
الْكِتَابِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْمَذْكُورَ هُنَا: قُلْت
أَجَازَ الْبَاقُونَ رَدَّ السَّلَامِ بِالْإِشَارَةِ.
وَلَنَا حَدِيثٌ جَيِّدٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ «مَنْ أَشَارَ فِي الصَّلَاةِ إشَارَةً تُفْهَمُ أَوْ
تُفْقَهُ فَقَدْ قَطَعَ الصَّلَاةَ» وَأَعَلَّهُ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ بِابْنِ إِسْحَاقَ، وَأَبُو غَطَفَانَ مَجْهُولٌ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ أَبَا غَطَفَانَ هُوَ ابْنُ طَرِيفٍ،
وَيُقَالُ ابْنُ مَالِكٍ الْمُرِّيُّ وَثَّقَهُ ابْن مَعِينٍ
وَالنَّسَائِيُّ وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ.
وَمَا عَنْ الدَّارَقُطْنِيِّ قَالَ لَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُد:
أَبُو غَطَفَانَ مَجْهُولٌ لَا يُقْبَلُ، وَابْنُ إِسْحَاقَ
ثِقَةٌ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ وَقَدَّمْنَاهُ فِي أَبْوَابِ
الطَّهَارَةِ. ثُمَّ أَخْرَجَ لِلْخَصْمِ حَدِيثَ أَبِي دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي عُمَرَ عَنْ
صُهَيْبٍ قَالَ «مَرَرْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَسَلَّمْتُ
عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلِيَّ إشَارَةً» ، وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ
إلَّا أَنَّهُ قَالَ إشَارَةً بِأُصْبُعِهِ صَحَّحَهُ
التِّرْمِذِيُّ وَعِدَّةُ أَحَادِيثَ تُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ بِنَاءً عَلَى مَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ
وَغَيْرِهِ مِنْ كَرَاهَةِ الْإِشَارَةِ.
وَلَنَا أَنْ لَا نَقُولَ بِهِ، فَإِنَّ مَا فِي الْغَايَةِ
عَنْ الْحَلْوَانِيِّ وَصَاحِبِ الْمُحِيطِ لَا بَأْسَ أَنْ
يَتَكَلَّمَ مَعَ الْمُصَلِّي وَيُجِيبَ هُوَ بِرَأْسِهِ
يُفِيدُ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى مَا إذَا
كَانَ لِضَرُورَةٍ رَفْعًا لِلْخِلَافِ فَالْجَوَابُ بِأَنَّ
الْمَنْعَ مِنْهَا لِمَا يُوجِبُهُ مِنْ التَّشْتِيتِ
وَالشُّغْلِ وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مُؤَيِّدٌ عَنْ أَنْ يَتَأَثَّرَ عَنْ ذَلِكَ فَلِذَا مُنِعَ،
وَفِعْلُهُ هُوَ لَوْ تَعَارَضَا قُدِّمَ الْمَانِعُ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: سَلَّمَ عَلَى الْمُصَلِّي فَأَشَارَ
بِرَدِّ السَّلَامِ بِرَأْسِهِ أَوْ يَدِهِ أَوْ أَخْبَرَ
بِشَيْءٍ فَحَرَّكَ رَأْسَهُ بِلَا أَوْ بِنَعَمْ أَوْ سُئِلَ
كَمْ صَلَّيْت فَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ ثَلَاثًا أَوْ نَحْوَهُ
لَا تَفْسُدُ
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ تَرَكَ سُنَّةَ الْقُعُودِ) أَيْ
سُنِّيَّتَهُ فِي الصَّلَاةِ فَيُكْرَهُ لَا مُطْلَقًا
لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْجَبَابِرَةِ كَمَا عُلِّلَ لِأَنَّهُ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ جُلُّ قُعُودِهِ
فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ مَعَ أَصْحَابِهِ التَّرَبُّعَ وَكَذَا
عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَوْلُهُ وَيَشُدّهُ) أَيْ
مِنْ وَرَائِهِ بِخَيْطٍ أَوْ يَشُدّ طَرَفَيْهِ عَلَى
جَبْهَتِهِ أَوْ يُلَبِّدَهُ كَمَا ذَكَرَ (قَوْلُهُ فَإِنَّهُ
رُوِيَ إلَخْ) رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ الثَّوْرِيِّ
عَنْ مُخَوَّلِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ
قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ»
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِهِ.
وَوَضَعَ مَكَانَ رَجُلٍ سَعِيدَ الْمَقْبُرِيَّ، وَقَالَ عَنْ
أَبِي رَافِعٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ،
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ قَالَ
أَخْبَرَنَا الْمُؤَمَّلُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ سُفْيَانَ
بِهِ سَنَدًا وَمُتْنَا، زَادَ: قَالَ إِسْحَاقُ قُلْت
لِلْمُؤَمَّلِ أَفِيه أُمُّ سَلَمَةَ، قَالَ بِلَا شَكٍّ.
وَحَكَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِوَهْمِ الْمُؤَمَّلِ فِي
ذِكْرِهَا. وَرُوِيَ حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ بِقِصَّةٍ مَعَ
الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَقَدْ
أَخْرَجَ السِّتَّةُ
(1/411)
(وَلَا يَكُفُّ ثَوْبَهُ) لِأَنَّهُ نَوْعُ
تَجَبُّرٍ (وَلَا يُسْدِلُ ثَوْبَهُ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ السَّدْلِ، وَهُوَ أَنْ
يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَكَتِفَيْهِ ثُمَّ يُرْسِلَ
أَطْرَافَهُ مِنْ جَوَانِبِهِ
(وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ) لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَعْمَالِ الصَّلَاةِ (فَإِنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ عَامِدًا
أَوْ نَاسِيًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ) لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ
وَحَالَةُ الصَّلَاةِ مُذَكِّرَةٌ
(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَكُونَ مَقَامُ الْإِمَامِ فِي
الْمَسْجِدِ وَسُجُودُهُ فِي الطَّاقِ، وَيُكْرَهُ أَنْ
يَقُومَ فِي الطَّاقِ) لِأَنَّهُ يُشْبِهُ صَنِيعَ أَهْلِ
الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ تَخْصِيصِ الْإِمَامِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُمِرْتُ أَنْ
أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةٍ وَأَنْ لَا أَكُفَّ شَعَرًا وَلَا
ثَوْبًا» وَفِي الْعَقْصِ كَفُّهُ، وَيَتَضَمَّنُ كَرَاهَةَ
كَوْنِ الْمُصَلِّي مُشَمِّرًا كُمَّيْهِ
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
نَهَى عَنْ السَّدْلِ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
نَهَى عَنْ السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ وَأَنْ يُغَطِّيَ
الرَّجُلُ فَاهُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ
وَصَحَّحَهُ (قَوْلُهُ وَهُوَ أَنْ يَضَعَ إلَخْ) يَصْدُقُ
عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمِنْدِيلُ مُرْسَلًا مِنْ كَتِفَيْهِ
كَمَا يَعْتَادُهُ كَثِيرٌ فَيَنْبَغِي لِمَنْ عَلَى عُنُقِهِ
مِنْدِيلٌ أَنْ يَضَعَهُ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَيَصْدُقُ أَيْضًا
عَلَى لُبْسِ الْقَبَاءِ مِنْ غَيْرِ إدْخَالِ الْيَدَيْنِ
كُمَّيْهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالْكَرَاهَةِ فِيهِ.
وَيُكْرَهُ اشْتِمَالُهُ الصَّمَّاءَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ
أَنْ يَلُفَّ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ رَأْسَهُ وَسَائِرَ بَدَنِهِ
وَلَا يَدَعَ مَنْفَذًا لِيَدِهِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ عَدَمُ
الْإِزَارِ مَعَ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدٍ يُشْتَرَطُ وَغَيْرُهُ
لَا يَشْتَرِطُهُ. وَيُكْرَهُ الِاعْتِجَارُ أَنْ يَلُفَّ
الْعِمَامَةَ حَوْلَ رَأْسِهِ وَيَدَعَ وَسَطَهَا كَمَا
تَفْعَلُهُ الدَّعَرَةُ وَمُتَوَشِّحًا لَا يُكْرَهُ. وَفِي
ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ بَعْضُهُ يُكْرَهُ
إلَّا لِضَرُورَةِ الْعَدَمِ
(قَوْلُهُ وَحَالَةُ الصَّلَاةِ مُذَّكِرَةٌ) فَلَا يَكُونُ
الْأَكْلُ فِيهَا نَاسِيًا كَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ نَاسِيًا
لِيَلْحَقَ بِهِ دَلَالَةً.
ثُمَّ الْقَدْرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْفَسَادُ مَا
يُفْسِدُ الصَّوْمُ عُزِيَ إلَى غَرِيبِ الرِّوَايَةِ لِأَبِي
جَعْفَرٍ وَهُوَ قَدْرُ الْحِمَّصَةِ مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ،
أَمَّا مِنْ خَارِجٍ فَلَوْ أَدْخَلَ سِمْسِمَةً
فَابْتَلَعَهَا تَفْسُدُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ لَا تَفْسُدُ، وَلَوْ كَانَتْ بَيْنَ أَسْنَانِهِ
فَابْتَلَعَهَا لَا تَفْسُدُ، وَلَوْ كَانَ عَيْنُ سَكَرَةٍ
فِي فِيهِ فَذَابَتْ فَدَخَلَ حَلْقَهُ فَسَدَتْ، وَلَوْ لَمْ
يَكُنْ عَيْنُهَا بَلْ صَلَّى عَلَى أَثَرِ ابْتِلَاعِهَا
فَوَجَدَ الْحَلَاوَةَ لَا تَفْسُدُ، وَلَوْ لَاكَ هِلِيلِجَةً
فَسَدَتْ كَمَضْغِ الْعِلْكِ، وَلَوْ لَمْ يَلُكْهَا لَكِنْ
دَخَلَ فِي جَوْفِهِ مِنْهُ شَيْء يَسِيرٌ لَا تَفْسُدُ.
وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَكَلَ بَعْضَ اللُّقْمَةِ
وَبَقِيَ فِي فِيهِ بَعْضُهَا فَدَخَلَ فِي الصَّلَاةِ
فَابْتَلَعَهُ لَا تَفْسُدُ مَا لَمْ تَكُنْ مِلْءَ الْفَمِ
(قَوْلُهُ فِي الطَّاقِ) أَيْ الْمِحْرَابِ، وَفِيهِ
طَرِيقَانِ: كَوْنُهُ يَصِيرُ مُمْتَازًا عَنْهُمْ، وَكَيْ لَا
يَشْتَبِهَ عَلَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ حَالُهُ
حَتَّى إذَا كَانَ بِجَنَبَتَيْ الطَّاقِ عَمُودَانِ
وَرَاءَهُمَا فُرْجَتَانِ يَطَّلِعُ مِنْهَا أَهْلُ
الْجِهَتَيْنِ عَلَى حَالِهِ لَا يُكْرَه، وَإِنَّمَا هَذَا
بِالْعِرَاقِ لِأَنَّ مَحَارِيبَهُمْ مُجَوَّفَةٌ مُطَوَّقَةٌ،
فَمَنْ اخْتَارَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ لَا يُكْرَهُ عِنْدَهُ
إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَمَنْ اخْتَارَ الْأُولَى
يُكْرَهُ عِنْدَهُ مُطْلَقًا.
وَلَا
(1/412)
بِالْمَكَانِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ
سُجُودُهُ فِي الطَّاقِ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ
وَحْدَهُ عَلَى الدُّكَّانِ) لِمَا قُلْنَا (وَكَذَا عَلَى
الْقَلْبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) لِأَنَّهُ ازْدِرَاءٌ
بِالْإِمَامِ (وَلَا بَاسَ بِأَنْ يُصَلِّيَ إلَى ظَهْرِ
رَجُلٍ قَاعِدٍ يَتَحَدَّثُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
يَخْفَى أَنَّ امْتِيَازَ الْإِمَامِ مُقَرَّرٌ مَطْلُوبٌ فِي
الشَّرْعِ فِي حَقِّ الْمَكَانِ حَتَّى كَانَ التَّقَدُّمُ
وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَغَايَةُ مَا هُنَا كَوْنُهُ فِي خُصُوصِ
مَكَان، وَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ بُنِيَ فِي
الْمَسَاجِدِ الْمَحَارِيبُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَوْ لَمْ تُبْنَ
كَانَتْ السُّنَّةُ أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي مُحَاذَاةِ ذَلِكَ
الْمَكَانِ لِأَنَّهُ يُحَاذِي وَسَطَ الصَّفِّ وَهُوَ
الْمَطْلُوبُ، إذْ قِيَامُهُ فِي غَيْرِ مُحَاذَاتِهِ
مَكْرُوهٌ، وَغَايَتُهُ اتِّفَاقُ الْمِلَّتَيْنِ فِي بَعْضِ
الْأَحْكَامِ.
وَلَا بِدَعَ فِيهِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إنَّمَا
يَخُصُّونَ الْإِمَامَ بِالْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ عَلَى مَا
قِيلَ فَلَا تَشَبُّهَ. (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ
سُجُودَهُ فِي الطَّاقِ) أَيْ وَرِجْلَاهُ خَارِجَهَا
فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْقَدَمِ فِي
مَكَانِ الصَّلَاةِ حَتَّى يُشْتَرَطَ طَهَارَتُهُ رِوَايَةً
وَاحِدَةً، بِخِلَافِ مَكَانِ السُّجُودِ إذْ فِيهِ
رِوَايَتَانِ، وَلِذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ
يَحْنَثُ بِوَضْعِ الْقَدَمِ وَإِنْ كَانَ بَاقِي بَدَنِهِ
خَارِجَهَا، وَالصَّيْدُ إذَا كَانَ رِجْلَاهُ فِي الْحَرَمِ
وَرَأْسُهُ خَارِجَهُ صَيْدُ الْحَرَمِ فَفِيهِ الْجَزَاءُ.
(قَوْلُهُ وَحْدَهُ) احْتِرَازٌ مِمَّا إذَا كَانَ مَعَهُ
بَعْضُ الْقَوْمِ فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ (قَوْلُهُ لِمَا
قُلْنَا) مِنْ أَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ
فَإِنَّهُمْ يَخُصُّونَ إمَامَهُمْ بِالْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ
فَقَوْلُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ احْتِرَازٌ عَنْ
رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِعَدَمِ
مَنَاطِهَا وَهُوَ التَّشَبُّهُ فَإِنَّهُمْ لَا يَخُصُّونَهُ
بِالْمَكَانِ الْمُنْخَفِضِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ
هُنَا لِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.
وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ الِارْتِفَاعِ الَّذِي تَتَعَلَّقُ
بِهِ الْكَرَاهَةُ فَقِيلَ قَدْرُ الْقَامَةِ، وَقِيلَ مَا
يَقَعُ بِهِ الِامْتِيَازُ، وَقِيلَ ذِرَاعٌ كَالسُّتْرَةِ.
وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَالْوَجْهُ أَوَجْهِيَّةُ الثَّانِي
لِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ شَبَهُ الِازْدِرَاءِ يَتَحَقَّقُ
فِيهِ غَيْرُ مُقْتَصَرٍ عَلَى قَدْرِ الذِّرَاعِ (قَوْلُهُ
يَتَحَدَّثُ) لِإِفَادَةِ نَفْيِ الْكَرَاهَةَ بِحَضْرَةِ
الْمُتَحَدِّثِينَ خِلَافًا لِلْقَائِلَيْنِ وَكَذَا
بِحَضْرَةِ النَّائِمِينَ. وَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُصَلُّوا خَلْفَ
النَّائِمِ وَلَا الْمُتَحَدِّثِ» فَضَعِيفٌ، وَقَدْ صَحَّ
«أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى
وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - نَائِمَةٌ
مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ» . قَالَهُ
الْخَطَّابِيُّ. وَقَدْ يُقَالُ: لَمْ تَكُنْ عَائِشَةُ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - نَائِمَةً بَلْ مُضْطَجِعَةً،
وَلِذَا قَالَتْ: فَكَانَ إذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضَتْ
رَجْلِي.
فَإِذَا قَامَ بَسَطْتهَا إلَّا أَنْ يُقَالَ: كَانَ ذَلِكَ
الْغَمْزُ الْمُتَكَرِّرُ مِرَارًا إيقَاظًا، لَكِنْ مَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ كُلِّهَا وَأَنَا
مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَإِذَا أَرَادَ
أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ» يَقْتَضِي أَنَّهَا
كَانَتْ نَائِمَةً لَا مُضْطَجِعَةً يَقْظَى. وَقَدْ
يُسْتَدَلُّ بِمَا فِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ «نُهِيتُ أَنْ أُصَلِّيَ إلَى النِّيَامِ
وَالْمُتَحَدِّثِينَ» وَإِنْ قَالَ الْبَزَّارُ لَا نَعْلَمُهُ
إلَّا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
(1/413)
لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - رُبَّمَا كَانَ يَسْتَتِرُ بِنَافِعٍ فِي بَعْضِ
أَسْفَارِهِ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَلِّيَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ
مُصْحَفٌ مُعَلَّقٌ أَوْ سَيْفٌ مُعَلَّقٌ) لِأَنَّهُمَا لَا
يُعْبَدَانِ، وَبِاعْتِبَارِهِ تَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ
(وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى بِسَاطٍ فِيهِ تَصَاوِيرُ)
لِأَنَّ فِيهِ اسْتِهَانَةً بِالصُّوَرِ (وَلَا يَسْجُدُ عَلَى
التَّصَاوِيرِ) لِأَنَّهُ يُشْبِهُ عِبَادَةَ الصُّورَةِ،
وَأَطْلَقَ الْكَرَاهَةَ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّ الْمُصَلَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَيُجَابُ بِأَنَّ مَحْمَلُهُ إذَا كَانَتْ لَهُمْ أَصْوَاتٌ
يُخَافُ مِنْهَا التَّغْلِيظُ أَوْ الشَّغْلُ، وَفِي
النَّائِمِينَ إذَا خَافَ ظُهُورَ صَوْتٍ يُضْحِكُهُ
وَقَدَّمْنَا أَنَّ فِي كَوْنِ ظَهْرِ النَّائِمِ سُتْرَةً
اخْتِلَافًا (قَوْلُهُ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رُبَّمَا كَانَ
يَسْتَتِرُ بِنَافِعٍ) رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ
نَافِعٍ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا
إلَى سَارِيَةٍ قَالَ لِي: وَلِّ ظَهْرَك. وَمَا رَوَى
الْبَزَّارُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي
إلَى رَجُلٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ» وَاقِعَةُ
حَالٍ لَا تَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ كَانَ إلَى ظَهْرِهِ
لِجَوَازِ كَوْنِهِ كَانَ مُسْتَقْبِلَهُ فَأَمَرَهُ
بِالْإِعَادَةِ لِرَفْعِ الْكَرَاهَةِ.
وَهُوَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ أُدِّيَتْ مَعَ
الْكَرَاهَةِ، وَلَوْ صَلَّى إلَى وَجْهِ إنْسَانٍ
وَبَيْنَهُمَا ثَالِثٌ ظَهْرُهُ إلَى وَجْهِ الْمُصَلِّي لَمْ
يُكْرَهْ (قَوْلُهُ وَبِاعْتِبَارِهِ تَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ)
قُدِّمَ الْمَعْمُولُ لِقَصْدِ إفَادَةِ الْحَصْرِ فَيُفِيدُ
الرَّدَّ عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ النَّاسِ بِالْكَرَاهَةِ
لِأَنَّ السَّيْفَ آلَةُ الْحَرْبِ وَالْبَأْسِ فَيُكْرَهُ
اسْتِقْبَالُهُ فِي مَقَامِ الِابْتِهَالِ، وَفِي اسْتِقْبَالِ
الْمُصْحَفِ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ. وَالْجَوَابُ
أَنَّ اسْتِقْبَالَهُمْ إيَّاهُ لِلْقِرَاءَةِ مِنْهُ لَا
لِأَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ، وَقَدْ قُلْنَا
بِكَرَاهَةِ اسْتِقْبَالِهِ لِذَلِكَ.
وَالْحَالُ ابْتِهَالٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ
مُحَارَبَةٌ لِلشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ الْمُخَالِفَةِ. وَعَنْ
هَذَا سُمِّيَ الْمِحْرَابُ
(قَوْلُهُ فِيهِ تَصَاوِيرُ) فِي الْمُغْرِبِ الصُّورَةُ
عَامٌّ فِي ذِي الرُّوحِ وَغَيْرِهِ، وَالتِّمْثَالُ خَاصٌّ
بِمِثَالِ ذِي الرُّوحِ لَكِنْ الْمُرَادُ هُنَا ذُو الرُّوحِ،
فَإِنَّ غَيْرَ ذِي الرُّوحِ لَا يُكْرَهُ كَالشَّجَرِ،
وَفِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَثَرُ قَالَ لِلْمُصَوِّرِ:
إنْ كُنْت لَا بُدَّ فَاعِلًا فَعَلَيْك بِتِمْثَالٍ غَيْرِ
ذِي الرُّوحِ (قَوْلُهُ وَأَطْلَقَ الْكَرَاهَةَ فِي
الْأَصْلِ) أَيْ يُكْرَهُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى الصُّورَةِ
أَوَّلًا، وَقَيَّدَهَا فِي الْجَامِعِ بِأَنْ يَكُونَ فِي
مَوْضِعِ سُجُودِهِ.
فَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ لَا
يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِهَانَةِ. وَجْهُ مَا فِي
الْأَصْلِ أَنَّ الْمُصَلَّيْ: أَيْ السَّجَّادَةَ الَّتِي
يُصَلَّى عَلَيْهَا مُعَظَّمٌ فَوَضْعُ الصُّورَةِ فِيهِ
تَعْظِيمٌ لَهَا حَيْثُمَا كَانَتْ مِنْهُ، بِخِلَافِ
(1/414)
مُعَظَّمٌ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ
رَأْسِهِ فِي السَّقْفِ أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ بِحِذَائِهِ
تَصَاوِيرُ أَوْ صُورَةٌ مُعَلَّقَةٌ) «لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ:
إنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ أَوْ صُورَةٌ» ،
وَلَوْ كَانَتْ الصُّورَةُ صَغِيرَةً بِحَيْثُ لَا تَبْدُو
لِلنَّاظِرِ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ الصِّغَارَ جِدًّا لَا
تُعْبَدُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَضْعِهَا عَلَى الْبِسَاطِ الَّذِي لَمْ يُعَدَّ لِلصَّلَاةِ
(قَوْلُهُ وَيُكْرَهُ أَنْ تَكُونَ فَوْقَ رَأْسِهِ) أَيْ
تَكْرَهُ الصَّلَاةُ وَفَوْقَ رَأْسِهِ إلَخْ، فَلَوْ كَانَتْ
الصُّورَةُ خَلْفَهُ أَوْ تَحْتَ رِجْلَيْهِ فَفِي شَرْحِ
عَتَّابٍ لَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ.
وَلَكِنْ تُكْرَهُ كَرَاهَةَ جَعْلِ الصُّورَةِ فِي الْبَيْتِ
لِلْحَدِيثِ «إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ
كَلْبٌ أَوْ صُورَةٌ» وَإِلَّا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي
كَرَاهَةَ كَوْنِهَا فِي بِسَاطٍ مَفْرُوشٍ، وَعَدَمُ
الْكَرَاهَةِ إذَا كَانَتْ خَلْفَهُ وَصَرِيحُ كَلَامِهِمْ فِي
الْأَوَّلِ خِلَافُهُ. وَقَوْلُهُ وَأَشَدُّهَا كَرَاهَةً أَنْ
تَكُونَ أَمَامَ الْمُصَلِّي إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ خَلْفَهُ
يَقْتَضِي خِلَافَ الثَّانِي أَيْضًا، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ
كَرَاهَةُ الصَّلَاةِ تَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ التَّشَبُّهِ
بِعِبَادَةِ الْوَثَنِ وَلَيْسُوا يَسْتَدْبِرُونَهُ وَلَا
يَطَؤُنَهُ فِيهَا فَفِيمَا يُفْهَمُ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ
الْهِدَايَةِ نَظَرٌ.
وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ لَا بُعْدَ فِي ثُبُوتِهَا فِي
الصَّلَاةِ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ كَمَا كُرِهَتْ الصَّلَاةُ
فِي الْحَمَّامِ عَلَى أَحَدِ التَّعْلِيلَيْنِ، وَهُوَ
كَوْنُهَا مَأْوَى الشَّيَاطِينِ، وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ هُنَا
لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ الدُّخُولِ
لِلصُّورَةِ مَعَ تَسَلُّطِ الشَّيَاطِينِ لَا يَكُونُ إلَّا
لِمَانِعٍ يُوجِبُ ذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَتَحَقَّقْ
كَالْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنَّهُ ثَبَتَتْ كَرَاهَةُ
الصَّلَاةِ فِي خُصُوصِ مَكَان بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِيهِ
نَفْسِهِ لَا فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَقُلْ
بِالْكَرَاهَةِ وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَ الْقَدَمِ وَمَا ذَكَرْت
يُفِيدُهُ لِأَنَّهَا فِي الْبَيْتِ.
وَكَذَا ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ
وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا - «وَاعَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِبْرِيلَ فِي سَاعَةٍ يَأْتِيهِ فِيهَا،
فَجَاءَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ وَلَمْ يَأْتِهِ وَفِي يَدِهِ
عَصًا فَأَلْقَاهَا، وَقَالَ: مَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ
وَلَا رَسُولُهُ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا جَرْوُ كَلْبٍ
تَحْتَ سَرِيرِهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ مَتَى
دَخَلَ هَذَا الْكَلْبُ هَاهُنَا؟ فَقَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا
دَرَيْتُ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَاعَدْتَنِي فَجَلَسْتُ لَكَ
فَلَمْ تَأْتِ فَقَالَ: مَنَعَنِي الْكَلْبُ الَّذِي كَانَ فِي
بَيْتِكَ، إنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا
صُورَةٌ» انْتَهَى.
وَبِهِ يُعْتَرَضُ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَيْضًا حَيْثُ كَانَ
دَلِيلُهُ عَامًّا لِجَمِيعِ الصُّوَرِ، وَهُوَ يَقُولُ لَا
يُكْرَه كَوْنُهَا فِي وِسَادَةٍ مُلْقَاةٍ إلَى آخِرِ مَا
ذَكَرَ. فَالْجَوَابُ لَا يُكْرَهُ جَعْلُهَا فِي الْمَكَانِ
كَذَلِكَ لَتَعَدَّى إلَى الصَّلَاةِ. وَحَدِيثُ جِبْرِيلَ
مَخْصُوصٌ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ وَقَعَ فِي صَحِيحِ ابْنِ
حِبَّانَ، وَعِنْدَ النَّسَائِيّ «اسْتَأْذَنَ جِبْرِيلُ -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ اُدْخُلْ، فَقَالَ: كَيْفَ
أَدْخُلُ وَفِي بَيْتِكَ سِتْرٌ فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَإِنْ
كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَاقْطَعْ رُءُوسَهَا أَوْ
اقْطَعْهَا وَسَائِدَ أَوْ اجْعَلْهَا بُسُطًا» وَلَمْ
يَذْكُرْ النَّسَائِيّ اقْطَعْهَا وَسَائِدَ.
وَفِي الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ عَنْ عَائِشَةَ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّهَا اتَّخَذَتْ عَلَى
سَهْوَةٍ لَهَا سِتْرًا فِيهِ تَمَاثِيلُ فَهَتَكَهُ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَتْ
فَاِتَّخَذْتُ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ فَكَانَتْ فِي الْبَيْتِ
تَجْلِسُ عَلَيْهِمَا» زَادَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ
«وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ مُتَّكِئًا عَلَى إحْدَاهُمَا وَفِيهَا
صُورَةٌ» (قَوْلُهُ بِحَيْثُ لَا تَبْدُو لِلنَّاظِرِ) أَيْ
عَلَى بُعْدٍ مَا، وَالْكَبِيرَةُ مَا تَبْدُو عَلَى الْبُعْدِ
(قَوْلُهُ لِأَنَّهَا لَا تُعْبَدُ) فَلَيْسَ لَهَا حُكْمُ
الْوَثَنِ فَلَا يُكْرَهُ فِي الْبَيْتِ.
وَنُقِلَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى خَاتَمِ
(1/415)
(وَإِذَا كَانَ التِّمْثَالُ مَقْطُوعَ
الرَّأْسِ) أَيْ مَمْحُوَّ الرَّأْسِ (فَلَيْسَ بِتِمْثَالٍ)
لِأَنَّهُ لَا يُعْبَدُ بِدُونِ الرَّأْسِ وَصَارَ كَمَا إذَا
صَلَّى إلَى شَمْعٍ أَوْ سِرَاجٍ عَلَى مَا قَالُوا (وَلَوْ
كَانَتْ الصُّورَةُ عَلَى وِسَادَةٍ مُلْقَاةٍ أَوْ عَلَى
بِسَاطٍ مَفْرُوشٍ لَا يُكْرَهُ) لِأَنَّهَا تُدَاسُ
وَتُوطَأُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْوِسَادَةُ
مَنْصُوبَةً أَوْ كَانَتْ عَلَى السُّتْرَةِ لِأَنَّهُ
تَعْظِيمٌ لَهَا، وَأَشَدُّهَا كَرَاهَةً أَنْ تَكُونَ أَمَامَ
الْمُصَلِّي ثُمَّ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ ثُمَّ عَلَى يَمِينِهِ
ثُمَّ عَلَى شِمَالِهِ ثُمَّ خَلْفَهُ (وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا
فِيهِ تَصَاوِيرُ يُكْرَهُ) لِأَنَّهُ يُشْبِهُ حَامِلَ
الصَّنَمِ، وَالصَّلَاةُ جَائِزَةٌ فِي جَمِيع ذَلِكَ
لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهَا، وَتُعَادُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ
مَكْرُوهٍ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ أُدِّيَتْ
مَعَ الْكَرَاهَةِ (وَلَا يُكْرَهُ تِمْثَالٌ غَيْرُ ذِي
الرُّوحِ) لِأَنَّهُ لَا يُعْبَدُ
(وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ فِي
الصَّلَاةِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَبِي هُرَيْرَةَ ذُبَابَتَانِ. وَلَمَّا وُجِدَ خَاتَمُ
دَانْيَالَ وُجِدَ عَلَيْهِ أَسَدٌ وَلَبْوَةُ بَيْنَهُمَا
صَبِيٌّ يَلْحَسَانِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ بُخْتَ نَصَّرَ قِيلَ
لَهُ يُولَدُ مَوْلُودٌ يَكُونُ هَلَاكُك عَلَى يَدَيْهِ،
فَجَعَلَ يَقْتُلُ مِنْ يُولَدُ، فَلَمَّا وَلَدَتْ أُمُّ
دَانْيَالَ إيَّاهُ أَلْقَتْهُ فِي غَيْضَةٍ رَجَاءَ أَنْ
يَسْلَمَ. فَقَيَّضَ اللَّهُ لَهُ أَسَدًا يَحْفَظُهُ
وَلَبْوَة تُرْضِعُهُ فَنَقَشَهُ بِمَرْأًى مِنْهُ
لِيَتَذَكَّرَ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى (قَوْلُهُ أَيْ
مَمْحُوَّ الرَّأْسِ) فَسَّرَ بِهِ احْتِرَازًا مِنْ أَنْ
تُقْطَعَ بِخَيْطٍ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي
الْكَرَاهَةَ، لِأَنَّ بَعْضَ الْحَيَوَانَاتِ مُطَوَّقٌ فَلَا
يَتَحَقَّقُ قَطْعُهُ إلَّا بِمَحْوِهِ، وَهُوَ بِأَنْ
يَجْعَلَ الْخَيْطَ عَلَى كُلِّ رَأْسِهِ بِحَيْثُ يَخْفَى
أَوْ يَطْلِيَهُ بِطِلَاءٍ يُخْفِيهِ أَوْ يَغْسِلَهُ أَوْ
نَحْوَ ذَلِكَ، أَمَّا لَوْ قَطَعَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا
لَا تَرْتَفِعُ الْكَرَاهَةُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ
تُقْطَعُ أَطْرَافُهُ وَهُوَ حَيٌّ (قَوْلُهُ عَلَى مَا
قَالُوا) يُشْعِرُ بِالْخِلَافِ، وَقِيلَ يُكْرَهُ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَهُ بَلْ
الضِّرَامَ جَمْرًا أَوْ نَارًا (قَوْلُهُ وَتُعَادُ) صَرَّحَ
بِلَفْظِ الْوُجُوبِ الشَّيْخُ قِوَامُ الدِّينِ الْكَاكِيُّ
فِي شَرْحِ الْمَنَارِ، وَلَفْظُ الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ:
أَعْنِي قَوْلَهُ وَتُعَادُ، يُفِيدُهُ أَيْضًا عَلَى مَا
عُرِفَ، وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ بَيْنَ كَوْنِ تِلْكَ
الْكَرَاهَةِ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ فَتَجِبُ الْإِعَادَةُ أَوْ
تَنْزِيهٍ فَتُسْتَحَبُّ، فَإِنَّ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ
(1/416)
لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ وَلَوْ كُنْتُمْ
فِي الصَّلَاةِ» وَلِأَنَّ فِيهِ إزَالَةُ الشَّغْلِ
فَأَشْبَهَ دَرْءَ الْمَارِّ وَيَسْتَوِي جَمِيعُ أَنْوَاعِ
الْحَيَّاتِ هُوَ الصَّحِيحُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا
(وَيُكْرَهُ عَدُّ الْآيِ وَالتَّسْبِيحَاتِ بِالْيَدِ فِي
الصَّلَاةِ) وَكَذَلِكَ عَدُّ السُّوَرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فِي رُتْبَةِ الْوَاجِبِ، فَإِنَّ الظَّنِّيَّ إنْ أَفَادَ
الْمَنْعَ بِدَلَالَةٍ قَطْعِيَّةٍ: أَعْنِي بِطَرِيقِ
الْحَقِيقَةِ مُجَرَّدٌ عَنْ الْقَرَائِنِ الصَّارِفَةِ
عَنْهُ، فَالثَّابِتُ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ، وَإِنْ أَفَادَ
إلْزَامَ الْفِعْلِ كَذَلِكَ فَالْوُجُوبُ، وَإِنْ أَفَادَ
نَدْبَ الْمَنْعِ فَتَنْزِيهِيَّةٌ أَوْ الْفِعْلِ
فَالْمَنْدُوبُ وَلِذَا كَانَ لَازِمُهُمَا مَعْنًى وَاحِدًا
وَهُوَ تَرَتُّبُ الْإِثْمِ بِتَرْكِ مُقْتَضَاهُمَا
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ فِي
الصَّلَاةِ الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ
حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَشْمَلُ مَا إذَا احْتَاجَ إلَى عَمَلٍ
كَثِيرٍ فِي ذَلِكَ أَوْ قَلِيلٍ، وَقِيلَ بَلْ إذَا كَانَ
قَلِيلًا. وَفِي الْمَبْسُوطِ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا
تَفْصِيلَ فِيهِ لِأَنَّهُ رُخْصَةٌ كَالْمَشْيِ فِي سَبْقِ
الْحَدَثِ وَالِاسْتِقَاءِ مِنْ الْبِئْرِ وَالتَّوَضُّؤِ
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الِاسْتِقَاءَ غَيْرُ مُفْسِدٍ فِي
سَبْقِ الْحَدَثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ خِلَافُهُ، وَبَحْثُهُ
بِأَنَّهُ لَا تَفْصِيلَ فِي الرُّخْصَةِ بِالنَّصِّ
يَسْتَلْزِمُ مِثْلَهُ فِي عِلَاجِ الْمَارِّ إذَا كَثُرَ
فَإِنَّهُ أَيْضًا مَأْمُورٌ بِهِ بِالنَّصِّ كَمَا
قَدَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ مُفْسِدٌ عِنْدَهُمْ.
فَمَا هُوَ جَوَابُهُ عَنْ عِلَاجِ الْمَارِّ هُوَ جَوَابُنَا
فِي قَتْلِ الْحَيَّةِ، ثُمَّ أُلْحِقَ فِيمَا يُظْهِرُ
الْفَسَادَ، وَقَوْلُهُمْ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ لَا
يَسْتَلْزِمُ بَقَاءَ الصِّحَّةِ عَلَى نَهْجِ مَا قَالُوهُ،
وَمِنْ الْفَسَادِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ إذَا قَاتَلُوا فِي
الصَّلَاةِ بَلْ أَثَرُهُ فِي رَفْعِ الْإِثْمِ بِمُبَاشَرَةِ
الْمُفْسِدِ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَرَامًا
صَحِيحٌ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ
لَا تُقْتَلُ الْحَيَّةُ الْبَيْضَاءُ الَّتِي تَمْشِي
مُسْتَوِيَةً لِأَنَّهَا مِنْ الْجَانِّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ
وَالْأَبْتَرَ، وَإِيَّاكُمْ وَالْحَيَّةَ الْبَيْضَاءَ
فَإِنَّهَا مِنْ الْجِنِّ» .
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا بَأْس بِقَتْلِ الْكُلِّ لِأَنَّهُ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَاهَدَ الْجِنَّ أَنْ
لَا يَدْخُلُوا بُيُوتَ أُمَّتِهِ وَلَا يُظْهِرُوا
أَنْفُسَهُمْ، فَإِذَا خَالَفُوا فَقَدْ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ
فَلَا حُرْمَةَ لَهُمْ، وَقَدْ حَصَلَ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيمَنْ بَعْدَهُ الضَّرَرُ
بِقَتْلِ بَعْضِ الْحَيَّاتِ مِنْ الْجِنِّ، فَالْحَقُّ أَنَّ
الْحِلَّ ثَابِتٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْأَوْلَى الْإِمْسَاكُ
عَمَّا فِيهِ عَلَامَةُ الْجَانِّ لَا لِلْحُرْمَةِ بَلْ
لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْمُتَوَهَّمِ
(1/417)
لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ
الصَّلَاةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي
الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ جَمِيعًا مُرَاعَاةً لِسُنَّةِ
الْقِرَاءَةِ وَالْعَمَلِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ.
قُلْنَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعُدَّ ذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ
فَيَسْتَغْنِيَ عَنْ الْعَدِّ بَعْدَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مِنْ جِهَتِهِمْ.
وَقِيلَ يُنْذِرُهَا فَيَقُولُ خَلِّي طَرِيقَ الْمُسْلِمِينَ
أَوْ ارْجِعِي بِإِذْنِ اللَّهِ، فَإِنْ أَبَتْ قَتَلَهَا
وَهَذَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ
(قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ) فِي التَّجْرِيدِ
قَوْلُ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ مَحَلُّ
الْخِلَافِ فِيمَا عَدَّ بِالْأَصَابِعِ أَوْ بِخَيْطٍ
يَمْسِكُهُ، أَمَّا إذَا أَحْصَى بِقَلْبِهِ أَوْ غَمَزَ
بِأَنَامِلِهِ فَلَا كَرَاهَةَ.
. [فُرُوعٌ أُخْرَى]
يُكْرَهُ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ الَّذِي لَا يُفْسِدُ
كَالضَّرْبَةِ الْوَاحِدَةِ وَتَغْمِيضِ الْعَيْنَيْنِ
وَرَفْعِهِمَا إلَى جِهَةِ السَّمَاءِ وَتَغْطِيَةِ الْفَمِ
أَوْ الْأَنْفِ وَالتَّثَاؤُبِ إذَا أَمْكَنَهُ الْكَظْمُ،
فَإِنْ عَجَزَ فَفَتَحَ غَطَّى فَاهُ بِكُمِّهِ أَوْ يَدِهِ
وَإِلَّا يُكْرَهُ. وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ أَيْضًا مَعَ
تَشْمِيرِ الْكُمِّ عَنْ السَّاعِدِ وَمَكْشُوفِ الرَّأْسِ
إلَّا لِقَصْدِ التَّضَرُّعِ، وَلَا بَأْسَ مَعَ شَدِّ
الْوَسَطِ، وَيُكْرَهُ سَتْرُ الْقَدَمَيْنِ فِي السُّجُودِ،
وَتُكْرَهُ مَعَ نَجَاسَةٍ لَا تَمْنَعُ إلَّا إنْ خَافَ
فَوْتَ الْوَقْتِ أَوْ الْجَمَاعَةَ وَلَا جَمَاعَةَ أُخْرَى،
وَيَقْطَعُ الصَّلَاةَ إنْ لَمْ يَخَفْ ذَلِكَ إذَا تَذَكَّرَ
هَذِهِ النَّجَاسَةَ، وَكَذَا يَقْطَعُ لِإِغَاثَةِ
الْمَلْهُوفِ أَوْ خَوْفٍ عَلَى أَجْنَبِيٍّ أَنْ يَسْقُطَ
مِنْ سَطْحٍ أَوْ يَغْرَقَ أَوْ يُحْرَقَ وَنَحْوِهِ.
وَلَهُ أَنْ يَقْطَعَ إذَا سُرِقَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ
قَدْرُ دِرْهَمٍ لَا لِنِدَاءِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ إلَّا أَنْ
يَسْتَغِيثَ وَتُكْرَهُ مَعَ مُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ
سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الشُّرُوعِ أَوْ قَبْلَهُ، وَفِي فِيهِ
دِرْهَمٌ أَوْ لُؤْلُؤَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ سُنَّةِ
الْقِرَاءَةِ، وَفِي أَرْضِ غَيْرِهِ. فَإِذَا اُبْتُلِيَ
بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ فِي الطَّرِيقِ إنْ كَانَتْ
الْأَرْضُ مَزْرُوعَةً أَوْ لِكَافِرٍ فَفِي الطَّرِيقِ
وَإِلَّا فَفِي الْأَرْضِ. وَلَوْ كَانَ فِي بَيْتِ إنْسَانٍ
إنْ اسْتَأْذَنَهُ فَأَحْسَنُ وَإِلَّا فَلَا بَأْسَ،
وَيُكْرَهُ وَقُدَّامُهُ عَذِرَةٌ كَمَا يُكْرَهُ أَنْ تَكُونَ
قِبْلَةُ الْمَسْجِدِ إلَى حَمَّامٍ أَوْ مَخْرَجٍ أَوْ
قَبْرٍ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهِ حَائِلُ
حَائِطٍ لَا يُكْرَهُ،
. وَيُكْرَهُ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ إذَا كَانَ لَهُ الْتِفَاتٌ
إلَيْهِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ «لَا صَلَاةَ
بِحَضْرَةِ طَعَامٍ. وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ»
وَمَا فِي أَبِي دَاوُد «لَا تُؤَخِّرُوا الصَّلَاةَ لِطَعَامٍ
وَلَا غَيْرِهِ» يُحْمَلُ عَلَى تَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتِهَا
جَمْعًا بَيْنَهُمَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«أَمَا يَأْمَنُ الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ
أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ أَوْ يَجْعَلَ
صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ»
(1/418)
فَصْلٌ وَيُكْرَهُ اسْتِقْبَالُ
الْقِبْلَةِ بِالْفَرْجِ فِي الْخَلَاءِ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ.
وَالِاسْتِدْبَارُ يُكْرَهُ فِي رِوَايَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ
تَرْكِ التَّعْظِيمِ، وَلَا يُكْرَهُ فِي رِوَايَةٍ لِأَنَّ
الْمُسْتَدْبَرَ فَرْجُهُ غَيْرُ مُوَازٍ لِلْقِبْلَةِ. وَمَا
يَنْحَطُّ مِنْهُ يَنْحَطُّ إلَى الْأَرْضِ، بِخِلَافِ
الْمُسْتَقْبِلِ لِأَنَّ فَرْجَهُ مُوَازٍ لَهَا وَمَا
يَنْحَطُّ مِنْهُ يَنْحَطُّ إلَيْهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَعَنْهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ
«التَّثَاؤُبُ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ
أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ» وَعَنْ جَابِرٍ بْنِ
سُمْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ
أَبْصَارَهُمْ إلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَا
تَرْجِعُ إلَيْهِمْ»
[فَصْلٌ وَيُكْرَهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِالْفَرْجِ فِي
الْخَلَاءِ]
(فَصْلٌ)
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
نَهَى عَنْ ذَلِكَ) قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- «إذَا أَتَيْتُمْ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا
الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ
غَرِّبُوا» أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ (قَوْلُهُ وَلَا يُكْرَهُ
فِي رِوَايَةٍ) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - قَالَ «رَقَيْتُ يَوْمًا عَلَى بَيْتِ أُخْتِي
حَفْصَةَ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ
مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةِ» وَلِأَنَّ فَرْجَهُ غَيْرُ مُوَازٍ
لَهَا، إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ الْحَدِيثُ السَّابِقُ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ
لِتَقَدُّمِ الْمَانِعِ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ. وَاعْلَمْ
أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ
عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ
الرِّوَايَةِ تَصِيرُ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ: ذَهَبَتْ
طَائِفَةٌ إلَى الْكَرَاهَةِ مُطْلَقًا مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ
وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَخْذًا بِعُمُومِ
الْأَوَّلِ مَعَ تَقْوِيَتِهِ بِقَوْلِ أَبِي أَيُّوبَ
قَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ
نَحْوَ الْكَعْبَةِ فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا وَنَسْتَغْفِرُ
اللَّهَ، وَطَائِفَةٌ كَرِهُوهُ فِي الْفَضَاءِ دُونَ
الْبُنْيَانِ مُطْلَقًا مِنْهُمْ الشَّعْبِيُّ وَالشَّافِعِيُّ
وَأَحْمَدُ أَخْذًا بِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد عَنْ مَرْوَانَ
الْأَصْفَرِ: رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ
وَجَلَسَ يَبُولُ إلَيْهَا، فَقُلْت: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ
أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ هَذَا؟ . قَالَ بَلَى إنَّمَا
نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْفَضَاءِ فَإِذَا كَانَ بَيْنَك
وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَسْتُرُك فَلَا بَأْسَ.
وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحَيْهِمَا،
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَا ذَكَرْنَاهُ
آنِفًا مِنْ رُؤْيَتِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَطَائِفَةٌ رَخَّصُوهُ مُطْلَقًا،
فَمِنْهُمْ مَنْ طَرَحَ الْأَحَادِيثَ لِتَعَارُضِهَا ثُمَّ
رَجَعَ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ وَالْمُعَارَضَةُ
بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ، وَمَا رَوَاهُ ابْنُ
مَاجَهْ عَنْ عِرَاكٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «ذُكِرَ عِنْدَ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمٌ
يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا بِفُرُوجِهِمْ الْقِبْلَةَ
فَقَالَ: أُرَاهُمْ قَدْ فَعَلُوهَا اسْتَقْبِلُوا
بِمَقْعَدَتِي الْقِبْلَةَ» .
وَقَوْلُ أَحْمَدَ أَحْسَنُ مَا فِي الرُّخْصَةِ حَدِيثُ
عَائِشَةَ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَإِنَّ
(1/419)
(وَتَكْرَهُ الْمُجَامَعَةُ فَوْقَ
الْمَسْجِدِ وَالْبَوْلُ وَالتَّخَلِّي) لِأَنَّ سَطْحَ
الْمَسْجِدِ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَصِحَّ
الِاقْتِدَاءُ مِنْهُ بِمَنْ تَحْتَهُ، وَلَا يَبْطُلُ
الِاعْتِكَافُ بِالصُّعُودِ إلَيْهِ، وَلَا يَحِلُّ لِلْجُنُبِ
الْوُقُوفُ عَلَيْهِ (وَلَا بَأْسَ بِالْبَوْلِ فَوْقَ بَيْتٍ
فِيهِ مَسْجِدٌ) وَالْمُرَادُ مَا أُعِدَّ لِلصَّلَاةِ فِي
الْبَيْتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مَخْرَجَهُ حَسَنٌ بِنَاءً عَلَى إنْكَارِهِ أَنَّ عِرَاكًا
سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ مِمَّنْ يُمْكِنُ
كَوْنُهُ لَقِيَهَا فَقَدْ قَالُوا إنَّهُ سَمِعَ مِنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ تُوُفِّيَ هُوَ وَعَائِشَةُ فِي
سَنَةٍ وَاحِدَةِ فَلَا يَبْعُدُ سَمَاعَهُ مِنْهَا مَعَ
كَوْنِهِمَا فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ
حَدِيثَ عِرَاكٍ عَنْ عَائِشَةَ «جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ
تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا» الْحَدِيثَ.
ثُمَّ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ
مِنْ غَيْرِ جِهَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ الَّذِي فِي
حَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ قَالَ عِرَاكٌ فِيهَا حَدَّثَتْنِي
عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُ النَّاسِ
أَمَرَ بِمَقْعَدَتِهِ فَاسْتَقْبَلَ بِهَا الْقِبْلَةَ» .
وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى النَّسْخَ تَمَسُّكًا بِمَا
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ
فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ
فَرَأَيْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ بِعَامٍ يَسْتَقْبِلُهَا»
وَلَفْظُ ابْنِ حِبَّانَ وَمَنْ بَعْدَهُ.
حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ فَزَالَتْ تُهْمَةُ
التَّدْلِيسِ، وَلَفْظُهُمْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ
الْقِبْلَةَ أَوْ نَسْتَدْبِرَهَا بِفُرُوجِنَا إذَا هَرَقْنَا
الْمَاءَ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ يَبُولُ
إلَى الْقِبْلَةِ» وَأَبَانُ بْنُ صَالِحٍ وَثَّقَهُ
الْمُزَكُّونَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو
حَاتِمٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ الْكَبِيرِ:
سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ يَعْنِي الْبُخَارِيَّ
عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَالْأَحْوَطُ
الْمَنْعُ لِأَنَّ النَّاسِخَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي
قُوَّةِ الْمَنْسُوخِ وَهَذَا وَإِنْ صَحَّ لَا يُقَاوِمُ مَا
تَقَدَّمَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السِّتَّةُ وَغَيْرَهُ
مِمَّا أَخْرَجَ كَثِيرًا.
مَعَ أَنَّ الَّذِي فِيهِ حِكَايَةُ فِعْلِهِ وَهُوَ لَيْسَ
صَرِيحًا فِي نَسْخِ التَّشْرِيعِ الْقَوْلِيِّ لِجَوَازِ
الْخُصُوصِيَّةِ: وَلَوْ نَسِيَ فَجَلَسَ مُسْتَقْبِلًا
فَذَكَرَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الِانْحِرَافُ بِقَدْرِ مَا
يُمْكِنُهُ: أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْآثَارِ
عَنْ عَمْرِو بْنِ جُمَيْعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَسَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ جَلَسَ
يَبُولُ قُبَالَةَ الْمَسْجِدِ فَذَكَرَ فَتَحَرَّفَ عَنْهَا
إجْلَالًا لَهَا لَمْ يَقُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى يُغْفَرَ
لَهُ» وَكَمَا يُكْرَهُ لِلْبَالِغِ ذَلِكَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ
يُمْسِكَ الصَّغِيرَ نَحْوَهَا لِيَبُولَ وَقَالُوا: يُكْرَهُ
أَنْ يَمُدَّ رِجْلَيْهِ فِي النَّوْمِ وَغَيْرِهِ إلَى
الْقِبْلَةِ أَوْ الْمُصْحَفِ أَوْ كُتُبِ الْفِقْهِ إلَّا
أَنْ تَكُون عَلَى مَكَان مُرْتَفِعٍ عَنْ الْمُحَاذَاةِ
(قَوْلُهُ وَتُكْرَهُ الْمُجَامَعَةُ) وَصَرَّحَ
بِالتَّحْرِيمِ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي
الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] لَكِنَّ الْحَقَّ كَرَاهَةُ
التَّحْرِيمِ.
لِأَنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ إنَّمَا هِيَ عَلَى تَحْرِيمِ
الْوَطْءِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمُعْتَكِفِ فَتُفِيدُ أَنَّ
الْوَطْءَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ، فَعِنْدَ عَدَمِ
الِاعْتِكَافِ لَا يَكُونُ لَفْظُ الْآيَةِ دَالًا عَلَى
مَنْعٍ فَالْمَنْعُ لِلْمَسْجِدِ حِينَئِذٍ بَلْ لَوْ كَانَ
مُعْتَكِفًا اعْتِكَافًا نَفْلًا أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: لَا
يَحْرُمُ الْوَطْءُ عَلَيْهِ لِلِاعْتِكَافِ لِمَا عُرِفَ مِنْ
أَنَّ قَطْعَ نَفْلِ الِاعْتِكَافِ عَلَى الرِّوَايَةِ
الْمُخْتَارَةِ إنْهَاءٌ لِلْعِبَادَةِ لَا إبْطَالٌ،
وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ لِلْمَسْجِدِ بِدَلِيلٍ آخَرَ
فَلَيْسَتْ الْآيَةُ عَلَى إطْلَاقِهَا فِي كُلِّ اعْتِكَافٍ
إلَّا أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ الَّذِي
هُوَ إنْهَاءٌ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ كَالْخُرُوجِ مِنْ
الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ، وَمَبْدَؤُهُ
يَقَعُ فِي الْعِبَادَةِ فَصَارَ كَالْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ
بِالْحَدَثِ يَكُونُ إنْهَاءً مَحْظُورًا.
وَلَوْ سُلِّمَ عَدَمُ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا قُلْنَاهُ
عَيْنًا كَانَتْ مُحْتَمِلَةً كَوْنَ التَّحْرِيمِ
لِلِاعْتِكَافِ أَوْ لِلْمَسْجِدِ فَتَكُونُ ظَنِّيَّةَ
الدَّلَالَةِ، وَبِمِثْلِهَا تَثْبُتُ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ
لَا التَّحْرِيمُ. وَالْمُرَادُ بِالتَّخَلِّي التَّغَوُّطُ
لِأَنَّ سَطْحَ الْمَسْجِدِ لَهُ حُكْمُهُ إلَى عَنَانِ
السَّمَاءِ، وَقَدْ أُمِرَ بِتَطْهِيرِهِ وَالْبَوْلُ
يُنَافِيهِ، وَإِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ يَنْزَوِي مِنْ
النُّخَامَةِ كَمَا تَنْزَوِي الْجَلْدَةُ مِنْ
(1/420)
لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ حُكْمَ
الْمَسْجِدِ وَإِنْ نَدَبْنَا إلَيْهِ
(وَيُكْرَهُ أَنْ يُغْلَقَ بَابُ الْمَسْجِدِ) لِأَنَّهُ
يُشْبِهُ الْمَنْعَ مِنْ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ لَا بَأْسَ بِهِ
إذَا خِيفَ عَلَى مَتَاعِ الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ أَوَانِ
الصَّلَاةِ (وَلَا بَأْسَ أَنْ يُنْقَشَ الْمَسْجِدُ
بِالْجِصِّ وَالسَّاجِ وَمَاءِ الذَّهَبِ) وَقَوْلُهُ لَا
بَأْسَ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ
لَا يَأْثَمُ بِهِ، وَقِيلَ هُوَ قُرْبَةٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
النَّارِ عَلَى مَا رُوِيَ فَكَيْفَ بِالْبَوْلِ (قَوْلُهُ
لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ حُكْمَ الْمَسْجِدِ) حَتَّى لَا
يَصِحَّ فِيهِ الِاعْتِكَافُ إلَّا لِلنِّسَاءِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مُصَلَّى الْعِيدِ وَالْجِنَازَةِ،
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنَّمَا لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي
جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ لِكَوْنِهِ مَكَانًا وَاحِدًا وَهُوَ
الْمُعْتَبَرُ فِي جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَنْعَ مِنْ الصَّلَاةِ)
وَهُوَ حَرَامٌ، قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ
مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}
[البقرة: 114] (قَوْلُهُ وَقِيلَ لَا بَأْسَ إذَا خِيفَ عَلَى
مَتَاعِ الْمَسْجِدِ) أَحْسَنُ مِنْ التَّقْيِيدِ بِزَمَانِنَا
كَمَا فِي عِبَارَةِ بَعْضِهِمْ فَالْمَدَارُ خَشْيَةُ
الضَّرَرِ عَلَى الْمَسْجِدِ، فَإِنْ ثَبَتَ فِي زَمَانِنَا
فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ ثَبَتَ كَذَلِكَ إلَّا فِي أَوْقَاتِ
الصَّلَاةِ أَوْ لَا فَلَا، أَوْ فِي بَعْضِهَا فَفِي
بَعْضِهَا (قَوْلُهُ وَقِيلَ هُوَ قُرْبَةٌ) لِمَا فِيهِ مِنْ
تَعْظِيمِ الْمَسْجِدِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ
تُزَيَّنَ الْمَسَاجِدُ» الْحَدِيثَ، وَالْأَقْوَالُ ثَلَاثَةٌ
وَعِنْدَنَا لَا بَأْسَ بِهِ. وَمَحْمَلُ الْكَرَاهَةِ
التَّكَلُّفُ بِدَقَائِقِ النُّقُوشِ وَنَحْوِهِ خُصُوصًا فِي
الْمِحْرَابِ أَوْ التَّزْيِينُ مَعَ تَرْكِ الصَّلَوَاتِ أَوْ
عَدَمُ إعْطَائِهِ حَقَّهُ مِنْ اللَّغَطِ فِيهِ وَالْجُلُوسِ
لِحَدِيثِ الدُّنْيَا وَرَفْعِ الْأَصْوَاتِ بِدَلِيلِ آخِرِ
الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ «وَقُلُوبُهُمْ خَاوِيَةٌ مِنْ
الْإِيمَانِ» هَذَا إذَا فَعَلَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ أَمَّا
الْمُتَوَلِّي فَيَفْعَلُ مَا يَرْجِعُ إلَى إحْكَامِ
الْبِنَاءِ حَتَّى لَوْ جَعَلَ الْبَيَاضَ فَوْقَ السَّوَادِ
لِلنَّقَاءِ ضَمِنَ كَذَا فِي الْغَايَةِ، وَعَلَى هَذَا
تَحْلِيَةُ الْمُصْحَفِ بِالذَّهَبِ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَكَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ يَكْرَهُونَ شَدَّ الْمَصَاحِفِ
وَاِتِّخَاذِ الْمَشَدَّةِ لَهَا لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَنْعَ
كَالْغَلْقِ.
وَهَذِهِ فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْمَسْجِدِ لَا
شَكَّ أَنَّ الدَّفْعَ لِلْفُقَرَاءِ أَوْلَى مِنْ
تَزْيِينِهِ، وَلَوْ قِيلَ بِأَنَّهُ قُرْبَةٌ، وَلَا يُحْفَرُ
فِي الْمَسْجِدِ بِئْرٌ وَلَوْ كَانَتْ بِئْرًا قَدِيمَةً
كَبِئْرِ زَمْزَمَ تُرِكَتْ، وَلَوْ حَفَرَ فَتَلِفَ فِيهِ
شَيْءٌ إنْ حَفَرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرُهُمْ
بِإِذْنِهِمْ لَا يَضْمَنُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ
ضَمِنَ أَضَرَّ ذَلِكَ بِأَهْلِهِ أَوْ لَا.
وَلَا يَجُوزُ غَرْسُ الْأَشْجَارِ فِيهِ إلَّا إنْ كَانَ ذَا
نَزٍّ وَالْأُسْطُوَانَاتُ لَا تَسْتَقِرُّ بِهِ فَيَجُوزُ
لِتَشْرَبَ ذَلِكَ الْمَاءَ فَيَحْصُلَ بِهَا النَّفْعُ
(1/421)
وَهَذَا إذَا فَعَلَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ،
أَمَّا الْمُتَوَلِّي فَيَفْعَلُ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ مَا
يَرْجِعُ إلَى إحْكَامِ الْبِنَاءِ دُونَ مَا يَرْجِعُ إلَى
النَّقْشِ حَتَّى لَوْ فَعَلَ يَضْمَنُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَّخِذَ فِيهِ بَيْتًا لِمَتَاعِهِ،
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذَهُ طَرِيقًا بِغَيْرِ عُذْرٍ،
فَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ لَا بَأْسَ، وَلَا يَبْزُقُ فِيهِ
فَيَأْخُذَ النُّخَامَةَ بِثَوْبِهِ،.
وَلَوْ بَزَقَ كَانَ فَوْقَ الْحَصِيرِ أَسْهَلَ مِنْهُ
تَحْتَهَا لِأَنَّ مَا تَحْتَهَا مَسْجِدٌ حَقِيقَةً
وَالْحُصْرُ لَهَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ بِهِ
حَقِيقَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ بَوَارٌ يَدْفِنُهَا فِي
التُّرَابِ وَلَا يَدْعُهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَكَذَا
يُكْرَهُ أَنْ يَمْسَحَ رِجْلَهُ مِنْ الطِّينِ
بِأُسْطُوَانَتِه أَوْ حَائِطِهِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ
يَمْسَحَ بِبُرْدَتِهِ أَوْ قِطْعَةِ خَشَبٍ أَوْ حَصِيرٍ
مُلْقَاةٍ فِيهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَبِتُرَابِ
الْمَسْجِدِ إنْ كَانَ مَجْمُوعًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ
كَانَ مَبْسُوطًا يُكْرَهُ،.
وَإِذَا نَزَحَ الْمَاءَ النَّجِسَ مِنْ الْبِئْرِ كُرِهَ أَنْ
يَبُلَّ بِهِ الطِّينَ فَيُطَيِّنَ بِهِ الْمَسْجِدَ عَلَى
قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ نَجَاسَةَ الطِّينِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ
فِي بَابِ الْأَنْجَاسِ وَيُكْرَهُ التَّوَضِّي فِي
الْمَسْجِدِ وَالْمَضْمَضَةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعٌ
اُتُّخِذَ لِذَلِكَ لَا يُصَلَّى فِيهِ
، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُعْمَلَ فِيهِ الصَّنَائِعُ لِأَنَّهُ
مُخَلَّصٌ لِلَّهِ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِغَيْرِ
الْعِبَادَةِ غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْخَيَّاطِ إذَا
جَلَسَ فِيهِ لِمَصْلَحَتِهِ مِنْ دَفْعِ الصِّبْيَانِ
وَصِيَانَةِ الْمَسْجِدِ لَا بَأْسَ بِهِ لِلضَّرُورَةِ. وَلَا
يَدُقُّ الثَّوْبَ عِنْدَ طَيِّهِ دَقَّا عَنِيفًا.
وَاَلَّذِي يَكْتُبُ إذَا كَانَ بِأَجْرٍ يُكْرَهُ وَبِغَيْرِ
أَجْرٍ لَا يُكْرَهُ، هَذَا إذَا كَتَبَ الْعِلْمَ
وَالْقُرْآنَ لِأَنَّهُ فِي عِبَادَةٍ، أَمَّا هَؤُلَاءِ
الْمُكْتِبُونَ الَّذِينَ تَجْتَمِعُ عِنْدَهُمْ الصِّبْيَانُ
وَاللَّغَطُ فَلَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَغَطٌ لِأَنَّهُمْ فِي
صِنَاعَةٍ لَا عِبَادَةٍ، إذْ هُمْ يَقْصِدُونَ الْإِجَادَةَ
لَيْسَ هُوَ لِلَّهِ بَلْ لِلِارْتِزَاقِ، وَمُعَلِّمُ
الصِّبْيَانِ الْقُرْآنَ كَالْكَاتِبِ إنْ كَانَ لِأَجْرٍ لَا
وَحِسْبَةً لَا بَأْسَ بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ هَذَا
إنْ كَانَ لِضَرُورَةِ الْحَرِّ وَغَيْرِهِ لَا يُكْرَهُ
وَإِلَّا فَيُكْرَهُ، وَسَكَتَ عَنْ كَوْنِهِ بِأَجْرٍ أَوْ
غَيْرِهِ، وَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ
حِسْبَةً، فَأَمَّا إنْ كَانَ بِأَجْرٍ فَلَا شَكَّ فِي
الْكَرَاهَةِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ حِسْبَةً وَلَا
ضَرُورَةَ يُكْرَهُ لِأَنَّ نَفْسَ التَّعْلِيمِ وَمُرَاجَعَةَ
الْأَطْفَالِ لَا تَخْلُو عَمَّا يُكْرَهُ فِي الْمَسْجِدِ،
وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ صَلَاةٍ جَائِزٌ لَا
لِلْمُصِيبَةِ،.
وَالْكَلَامُ الْمُبَاحُ فِيهِ مَكْرُوهٌ يَأْكُلُ
الْحَسَنَاتِ وَالنَّوْمُ فِيهِ مَكْرُوهٌ، وَقِيلَ لَا بَأْسَ
لِلْغَرِيبِ أَنْ يَنَامَ فِيهِ. وَفِي النِّهَايَةِ عَنْ
الْحَلْوَانِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الصَّوْمِ عَنْ
أَصْحَابِنَا يُكْرَهُ أَنْ يَتَّخِذَ فِي الْمَسْجِدِ
مَكَانًا مُعِينًا يُصَلِّي فِيهِ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ
تَصِيرُ لَهُ طَبْعًا فِيهِ وَتَثْقُلُ فِي غَيْرِهِ،
وَالْعِبَادَةُ إذَا صَارَتْ طَبْعًا فَسَبِيلُهَا التَّرْكُ
وَلِذَا كُرِهَ صَوْمُ الْأَبَدِ انْتَهَى. فَكَيْفَ بِمَنْ
اتَّخَذَهُ لِغَرَضٍ آخَرَ فَاسِدٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(1/422)
|