فصول البدائع في أصول الشرائع

الفصل الرابع: في حكمه
وهو التعدية اتفاقًا وكذا حكم التعليل عندنا لكونه مرادفًا له لا عند الشافعي رضي الله عنه لأن التعليل أعم عنده كما بالمقاصرة وهو مذهب بعض أصحابنا منهم علم الهدى رحمه الله وسؤال الدور مر أجوبته الخمسة فلا يصح التعدية لكونها حكمًا لازمًا ولبيانه ثلاثة مباحث.
1 - أن ما يعلل له ستة:
1 - إثبات موجب الحكم كإثبات تحريم الجنس المنفرد النسيئة بإشارة النص المحرم لحقيقة الفضل بالقدر والجنس فإن لبعض العلة شبهة العلة فيصلح لإثبات شبهة الفضل الذي في الحلول المضاف إلى صنع العباد بخلاف الجودة وحكم الربا مما يستوى شبهته بحقيقته لقول الراوي أن النبي عليه السلام نهى عن الربا والريبة وللإجماع على عدم جواز البيع مجازفة وإن غلب ظن التساوى أو بإشارة النص أو الإجماع المحرمين للريبة كذا قيل. والحق أنه بإشارة المجموع منه ومن أحدهما وهي المرادة بدلالة النص مجازًا في عبارة فخر الإِسلام رحمه الله وكإسقاط السفر شطر الصلاة بإشارة التصدق المنصوص فيما لا يحتمل التمليك أو بإشارة الإجماع على أن التخيير إذا لم يتضمن رفقًا كان ربوبيته فلا

(2/370)


يثبت للعبد.
2 - إثبات صفة كسوم أنعام الزكاة بحديث ليس في العوامل خلافًا لمالك رحمه الله وصفة الحل بالوطئ المصاهرة عند الشافعي بمفهوم قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23]، ونحن لا نشترط بدلالة {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] الآية وصفة الحرمة أو الدور بينهما وبين الإباحة للقتل وصفة القصد أو العقد الدائر بينهما لليمين الموجبين الكفارة على المذهبين.
3 - إثبات شرطه كشرط تسمية الذبيحة بالنص وصوم الاعتكاف وشهود النكاح عندنا بالحديث وشرطه للطلاق عنده بإشارة النص وعدمه عندنا بعبارة المختلعة يلحقها صريح الطلاق.
4 - إثبات صفة كصفة شهود النكاح لرجال عدول كما عنده وأم مختلطة مطلقًا كما عندنا وصفة الوضوء واحد لكونه قربة فلا يصح بلا نية عنده بعموم حديثها أو إطلاقه عندنا بإشارة إجماع صحة الصلوات الخمس بوضوء واحد.
5 - إثبات الحكم كالبتيراء عنده برواية إلا الإيتار بركعة لا عندنا بحكاية النهى عنها وكصوم بعض اليوم بشرط عدم الأكل فيه عنده بدلالة نص الأضحى لا عندنا لأن الصوم لقهر النفس الأمارة وإمساك الأضحى ليكون أو التناول من ضيافة الله تعالى وكحرم المدينة عنده أحاديث تحريمها لا عندنا لرواية عائشة رضي الله عنها وحديث أن نغير وجواز دخولها بغير إحرام.
وأحاديث التحريم للاحترام وكإشعار البدن سنة عند الشافعي رضي الله عنه لحكاية فعله عليه السلام حسن عند الصاحبين لجنس التخيير مكروه عند الإِمام لأثر ليس بسنة.
6 - إثبات صفة كصفة الوتر سنة عندهم بخبر ثلاث كتب على وواجب عند الإِمام لحديث أن الله زادكم وصفة الأضحية فعنده سنة وعندنا واجبة كلاهما لقوله عليه السلام ضحوا فإنها سنة أبيكم إبراهيم ومن وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا إذ طرفاه دليل الوجوب فالمراد بالسنة الطريقة وصفة العمرة سنة مؤكدة عندنا لرواية جابر وأبى هريرة وغيرهما وواجبة كالحج عنده لقوله تعالى: {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} [التوبة: 3] دل أن حجًا أصغر والخبر العمرة واجبة وصفة الرهن فبعد اتفاقهم على أنه وثيقة لجانب الاستيفاء حتى لا يصح ما لا يصح فيه الاستيفاء كالحمر وأم الولد وعلى أن الثابت به للمرتهن حق الحبس وثبوت اليد.
قلنا بأنها يد الاستيفاء ودوام الحبس فبهلاكه يتم الاستيفاء ويسقط من الدين بقدره

(2/371)


ولا يسترده الراهن للانتفاع وقال يد الحبس لتعلق الدين بإيفائه من مالية العين بالبيع فيهلك أمانة لا مضمونًا ويسترده الراهن لينتفع فيرد إلى المرتهن بعد الفراغ له الحديث أو دلالة الإجماع على أنه لتوثيق الاستيفاء أي بتعيين المحل للإيفاء بالبيع كما يضم ذمة إلى ذمة في الكفاله والحبس ليس من ضرورة توثقه.
ولنا إشارة لفظة فإن أحكام العقود الشرعية مقيسة من ألفاظها والرهن للحبس والأمر الحقيقي يوسف بالشرعية لكونه مطلقًا شرعًا وكذا موجب الكفاله ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة لا للدين ليكون الثابت به وثيقة لا حقيقة فجعل فرع الدين وهو المطالبة أصلا موصلا إلى الحقيقة لأن فروع الأصول أصول الفروع فليدم الحبس ثم دوام المطالبة هنا وصفة حكم البيع وهو الملك ثابت بنفسه عندنا لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وقول عمر رضي الله عنه صفقة وهي اللازمة النافذة لغة ومخيرًا إلى آخر اَلمجلس عنده بحديث الخيار ونحمله على التفريق بالأقوال جمعًا.
والاختلاف في صوم يوم النحر من قبيل الخامس ليس الرأى بل للاختلاف في صفة حكم النهى يقتضي مشروعية أصله عندنا لأنه تكليف يستدعى تصوره ومنسوخيته عنده لاقتضاء القبح أن لا يشرع فلا يرضى إذا عرفت فالتعليل لإثبات الأقسام الستة أو رفعها ابتداء باطل اتفاقًا لأنه شركة في الشرع ولتعدية حكم شرعي أو وصفه من أصل إلى فرع جائز اتفاقًا ولتعدية الأقسام الأربعة الأول كسببية اللواطة كالزنا لوجوب الحد وشرطية النية للوضوء كالتيمم جائز عن أكثر أصحاب الشافعي رحمه الله واختاره فخر الإِسلام ومن تبعه منا ولذا تكلم بالرأى في اشتراط التقابض في بيع طعام بعينه بطعام بعينه عنده لا عندنا لوجود الأصل لهما وهو الصرف بأخهما مالان يجرى فيهما الربا وسائر السلع بأنهما مالان عينان بخلاف وجوب التسمية في الذبيحة والصوم في الاعتكاف فثبوتهما منصوص وليس لهما أصل منصوص.
ولا يرد أن لسقوط اشتراط الشهود في النكاح أصلًا وهو سائر المعاملات كبيع الأمة واشتراط التسمية هو الناسى واشتراط الصوم في الاعتكاف الوقوف لأنه لبث في مكان ولحرم المدينة حرم مكة لأن سبب اشتراط الشهود كونه للتناسل ووروده على محل خطير لا كونه معاملة ولا سقوط عن الناسى لأنه جعل مباشرًا حكمًا للعذر كالمفطر ناسيًا فقد عدل به عن القياس فلا يقاس وكذا حرم مكة وليس حرم المدينة في معناه لأنها مفضلة على سائر البلاد ومحرمة منذ خلقها الله تعالى وكذا كون الوقوف عبادة معدول به عنه ومنعه القاض أبو زيد الدبوسى وغيره من جمهور أصحابنا وهو المختار.

(2/372)


لنا أولًا أن لا محل بتحقق فيه سببية الوصف الملحق أو شرطيته معللا باشتماله على الحكمة المقصودة به فهو مناسب مرسل لا يعتبر لكونه شركة في وضع المشروعات.
وثانيًا: أن القدر من الحكمة الثابت في سببية الوصف الأول أو شرطيته غير مضبوط في الثاني لاختلافهما فلا يمكن التشريك في الحكم.
وثالثًا: أن الحكمة المشتركة بين الوصفين إن ظهرت وانضبطت وصحت لنوط الحكم استغنت عن ذكر الوصفين فالقياس في حكمهما وإن لم تظهر ولم تضبط أو لم تصلح لنوطه فإن كان لها مظنة فالقياس بين الحكمين بها وإن لم يكن فلا جامع.
وأقول: تلخيص الأدلة إن وجد بين الوصفين مؤثر يصلح جامعًا فلا حاجة إلى الشيئين بل يقاس الحكم على الحكم وإن لم يوجد فالوصف مرسل وجعله سببًا أو شرطًا شرع جديد فالمعدى في طعام بعينه بمثله جواز البيع بدون التقابض أو عدمه لهم قياس العلماء المثقل على المحدد في سببية القصاص واللواطة على الزنا في سببية الحد.
قلنا ليس قياسًا بل دلالة ولئن سلم فليسا من المبحث لأن الوصف المتضمن للحكمة والحكمة متحدان فيهما فهو السبب لا الوصفان كالقتل العمد العدوان والزجر لحفظ النفس في الأول وإيلاج فرج في فرج محرم مشتهى طبعًا والزجر لحفظ النسب في الثاني.
الثاني: إن التعدية بالقياس لا تخرى في الحدود والكفارات والمقادير الأصلية والرخص خلافًا للشافعية والمالكية.
لنا في المقدرات كالرخص أنها غير معقول المعنى كما هي في غيرهما والخصوم متفقون فيها وفي غيرها أنهما شرعتا ماحيتين للأثام وزاجرتين فأي رأى يعرف مقدار الاسم الداعي إليهما ومقدار ما يحصل به إزالة الإثم الحاصل لأنهما مما يندرئ بالشبهات والقياس فيه شبهة وأعنى بها اختلال المعنى الذي تعلقتا به في نفسه كما مر لا الواقعة في طريق الثبوت ولأن شبهته أقوى مما في خبر الواحد والشهادة ولذا لا يعارضمها فلا ينتقض بهما.
لهم أولًا عموم أدلة حجية القياس.
قلنا قد خص عنها العمليات فكذا هما جمعا بين الأدلة.
وثاثنًا: وقوعه فيهما كما قال على رضي الله عنه في حد الشرب إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فأرى عليه حد الافتراء وقبله الصحابة وهذا إقامة المظنة الشيء مقامه كتحريم مقدمات الزنا كالخلوة الصحيحة لا قياس للشرب على القذف بجامع الافتراء لعدم تحقق الجامع في الفرع فدل على صحة القياس فيه كما دل على صحة مطلقه.

(2/373)


قلنا: محمول على السماع وعلى أنه بيان وجه المسموع أو على أنه مجمع عليه وذا منه بيان سنده كيف وأنه في المقدرات وأن الإفضاء بهذه المرالب في غايه البعد فليس في معنى الخلوة ومقدمات الزنا وصور الاندراء أقرب منه بكثير.
وثالثًا: أن الظن إذا حصل وجب العمل به في العمليات كما في غيرها وهذا ثابت بالاستقراء والإجماع لا القياس ليدور.
قلنا: نعم لكن لكل عملي ظن يناسبه وإلا فلا صورة للاندراء أصلا.
قال الإِمام الرازي ينبغي أن يفصل يقال إن وجد العلة والمقيس عليه يجوز القياس فيها وإلا لا لأنهم أجمعوا على إلحاق قتل الصيد خطأ أو نسيانًا بقتله متعمدًا المنصوص لأن هيئة المحرم مذكرة فلا لعذر في التقصير بخلاف الصائم كإلحاق الأكل بالوقاع في الإفطار.
قلنا بل الحكم في الأول بالسنة وفي الثاني بالدلالة.
الثالث: قال الرازى يجوز القياس على أصل محصور في عدد كقوله عليه السلام خمس من الفواسق الحديث لعموم أدلة حجيته وللإجماع على لعدية حكم الربا من الأشياء الستة والحق خلافه لئلا يلزم إبطال العدد وإلحاق الموذيات ابتداء مثل البرغوث والبعوض والقراد والسباع الصائلة بالفواسق الخمس كما أجمعوا عليه بدلالة النص لا بالقياس فلا نزاع فيه أما حديث الربا فالمذكور فيه الأسماء الأعلام لا العدد وقد ذكرنا في بحث المفهومات ما لو روجع إليه علم مقصود الحنفيه رضي الله عنه.
خاتمة: قيل ليس في الشرع جمل لا يجرى فيها القياس بل لا بد من النظر في مسأله هل يجرى فيها أم لا والمختار وجودها.
لنا ما تقدم من الأسباب والشروط مطلقا والأحكام ابتداء والحدود والكفارات.
لهم أن حد الحكم الشرعي يشمل الأحكام فهي متماثلة فيجب اشتراكها فلما جرى في البعض فليجز في الكل.
قك لا نعلم التماثل فإنه الاشتراك في الجنس وهذا في النوع.
تنبيه: الأكثر في اصطلاح الأصوليين إطلاق الجنس على المندرج والنوع على ما اندرج فيه عكس المنطقين وهذا منه.

خاتمة الفصول في عدة تقسيمات للقياس:
1 - باعتبار القوة أنه جلى إن علم فيه نفى الفارق بين الأصل والفرع قطعًا كالأمة على العبد في أحكام العتق للقطع بأن الشارع لم يعتبر المذكورة والأنوثة فيها وخفى إن ظن به كقياسهم النبيذ على الخمر فإن اعتبار خصوصية الخمر محتمل.

(2/374)


2 - باعتبار الظهور إن كان وجه القياس مما يسبق إليه الإفهام يسمى قياسًا وإن لم يسبق إخفائه عبر أصحابنا عنه بالاستحسان وإن كان أعم منه لكنه الغالب فهو دليل يقع في مقابلة القياس الظاهر وعن أبو الحسين بترك وجه اجتهادى غير شامل لوجه خفى أقوى هو في حكم الطارئ على الأول فاحترز بقوله غير شامل من ترك العموم إلى الخصوص وبقوله في حكم الطارئ عن القياس المتروك به الاستحسان وقيد الطارئ بالحكم لأن المتأخر ظهور الوجه الاستحساني لا ثبوته كما بالضرورة والنص وذلك أما الأثر كالسلم والإجارة وبقاء الصوم مع المنافي في الناسي وأما الإجماع كالاستصناع ودخول الحمام وتخصيص أثر السلم وإجماع الاستصناع عموم قوله لا تبع ما إليس عندك لا ينافى تمثيل الاستحسان بهما نظرًا إلى معناه.
ومناط حكمه العام وأما الضرورة كطهارة الحياض والآبار وأما القياس الخفى وهو باعتبار مقابلته للقياس الظاهر قسمان يلزم منهما كون الظاهر المقابل له قسمين أيضًا أحدهما بأقوى تأثيره بالنسبة إلى القياس فالمقابل له ما ضعفه أثره فالأول مرجح وهو المراد عند إطلاق الاستحسان.
وثانيهما: ما ظهر صحته وخفي فساده والمراد ظهورها بالنسبة إلى جهة فساده فلا ينافى الخفاء بالنسبة إلى القياس فالمقابل ما ظهر فساده وخفى صحته بأن ينضم إلى وجه القياس معنى دقيق يرجحه على وجه الاستحسان فيرجح الثاني لأن قوة التعليل بالتأثير لا الظهور ألا يرى أن الآخرة راجحة على الدنيا الظاهرة لأنها خير وأبقى والعقل على الحسن إذ النقل بدونه ليس بحجة منال الأول سؤر سباع الطير نجس قياسًا على سؤر سباع البهائم بجامع خلط اللعاب المتولد من نجس اللحم لا نجس العين لجواز الانتفاع به بلا ضرورة فثبت النجاسة المجاورة ولذا اختار المحققون أنه لا يظهر بالذكاة وإن ذكر في موضعين من الهداية طهر طاهر استحسانًا لشربها بمنقارها وهو عظم جاف طاهر من الميت فمن الحس أولى.
وهذا عدم الحكم لعدم العلة لا تخصيص العلة لكن يكره لعدم احترازها عن النجاسة كالدجاجة المخلاة ومنا من عده استحسانًا ضرورة لأن سباع الطير تنقض من الهواء فلا يمكن صون الأوانى ولا سيما في الصحارى بخلاف سباع الوحش فالكراهة على هذا لكون الضرورة غير لازمة وهذا غزير.
ومنه أن تولى الواحد طرفى النكاح لا يجوز عند الشافعي رضي الله عنه مطلقًا قياسًا للتنافى بين الفعلين بلفظ واحد في زمان واحد وكذا شراء الأب مال الصغير من نفسه أو

(2/375)


بيع مال نفسه منه بالعدل عند زفر رحمه الله قياسًا للتنافى في الحقوق الراجعة إلى العقود بخلاف النكاح ويجوز الأمران عندنا استحسانًا.
أما الأول إذا لم يكن فضوليًا من جانب وهو خمس مسائل فلأن الناكح سفير ولو من جانب لرجوع حقوقه إلى الأصيل كالرسالة من الشخصين بخلاف البيع إلا عند الشافعي رضي الله عنه.
وأما الثاني فلرعاية مصلحة الصغير لأن للأب ولاية كاملة وشفقة شاملة ثم قاس الإِمام الوصى على الأب في ذلك ومثال الثاني سجدة التلاوة تؤدى بالركوع في الصلاة لا خارجها عندنا قياسًا إلحاقا له بها بجامع التواضع ولتشابههما فيه لأنه تعالى أقامه مقام السجدة في قوله {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24] فالآية لإثبات الجامع لا إثبات القياس لا استحسانًا كما عند الشافعي رضي الله عنه لأن السجود المأمور به لا يؤدى بالركوع كسجود الصلاة مع أنه أقرب وكالتلاوة خارجها فله أثر ظاهر هو العمل بحقيقة كل شيء وفساد خفى هو التسوية بين المقصود وغيره فرجحنا القياس لصحته الباطنة بأن سجود التلاوة لم تجب قربة مقصودة أي مستقلة بل متابعة لها.
ولذا ولا يلتزم مطلقه بالنذر كالطهارة إذ الغرض ما يصلح تواضعًا مخالفة للمستكبرين بإشارة سياق آيات السجدة لكن على قصد العبادة ولذا اشترط لها شرائط فيسقط بالركوع سقوط طهارة والصلاة بطهارة غيرها وإن ظهر فساده بالعمل بشبيه المجاز من غير تعذر الحقيقة أما الركوع خارجها فلم يشرع أصلا وأما السجدة الصلواتية فهي قربة مقصودة بخطاب مستقل ولا خطاب مثله لسجدة التلاوة ويلتزم بالنذر في ضمن الصلاة أو لأن المأمور فيها الجمع بين الركوع والسجود ونيابة أحدهما عن الآخر ينافيه وجعل الأول قياسًا لأن وجهه يناسب المفهوم من ظاهر إطلاق اللفظ لا من التأمل وفي حقيقتي المأمور به وما قام مقامه.
أصل مفيد: قد يكون قربة مقصودة ما ليس كذلك إذا صار دينًا في الذمة كسجدة التلاوة بفوات محل أدائها بخلاف الطهارة فلا تؤدى بالركوع ولا بالسجدة الصلواتية إلا عقيب تلاوة الآية رجع بعده إلى القيام أولا ولكون الركوع كالمجاز فيها لا بد له من النية وهذا عزيز منه كرر آية السجدة في ركعتين يكفى واحدة عند أبى يوسف قياسًا لاتحاد مجلسهما كفى ركعة لا عند محمَّد رحمه الله استحسانًا إذ الحكم باتحاد القراءة في الركعتين يخلى إحديهما عنها فيفسد صلاته فعاد شرع اتحاد السبب على موضوعه وهو التخفيف على التالى بالنقض.

(2/376)


قلنا أدلة تداخل السبب شاملة والاتحاد الحكمي لا ينافي التعدد الحقيقي فمن الجائز إجزاء الواحدة للأول وجواز الصلاة للثاني ومنه أن القول للصباغ في قوله صبغت بأجر كذا إلا لصاحب الثوب في قوله صبغت بغير أجر عند محمَّد إذا عرف أنه ما يعمل بغير أجر استحسانا إذ المعروف كالمشروط والقول لمن شهد له الظاهر مع اليمين فترك به القياس الظاهر وهو أن القول قول منكر الأجر وكذا عند أبي يوسف رحمه الله إذاكان عامله مرارًا مع الأجرة لأن العادة هى الظاهرة فترك به تحليف المنكر استحسانًا آخر وقال الإِمام رضي الله عنه صاحب الثوب ينكر تقوم عمله في الحقيقة لإنكاره العقد الذي لا تقوم له إلا به فالقول له واستحسانهم إليس بشىء لأن الاستصحاب حجة للدفع لا للاستحقاق.
ومنه أقاما بينة على ارتهان عين في يد ثالث وقبض بتهاتر البينتان قياسًا لتعذر القضاء لكل منهما بالنصف للزوم الشيوع المانع عن صحة الرهن وبالكل لكل لضيق المحل ولمعين لعدم الأولوية كما أقاما على نكاح امرأة أجنبية وفي الاستحسان رهن عندهما كأنهما ارتهناه جملة للجهالة بالتاريخ كما أقاما على شرائهما من ثالث فأخذنا بالقياس لقوة أثرة المستتر لأن كلا يثبت ببينته الحق لنفسه على حدة ولم يرض بمزاحمة الآخر في حق الحبس.
واعترض ترجيح الاستحسان بوجوه:
1 - أن القضاء برهينة كل لكل ممكن كما إذا ارتهناه صفقة يكون رهنًا عند كل بتمامه.
أجاب صاحب الهداية بأنه عمل على خلاف الحجة لأن بينة كل تثبت حبسًا يكون وسيلة إلى مثله في الاستيفاء لا إلى شطره وهذ إليس انتقالا بل تقوية لكون الشيوع مانعًا عن صحة الرهن فإن ترتب الشرط على استحقاق الكل شيوع مانع لحبس يكون وسيلة إلى مثله في الاستيفاء.
2 - أنه عمل بالحجتين من وجه فهو أولى من إبطالهما من كل وجه كما أقاما بينة أنه له ينصف.
قلنا مسلم عند إمكانه لكن لزوم الشيوع المانع مؤيد لرعاية موجب الحجة كما في الإنكاح.
3 - أنه إذا لم يرض كل منهما بمزاحمة الآخر في الحبس فلأن لا يرضى بانتفاء حقه في الجنس بالكلية أولى.

(2/377)


قلنا انتفاء حقه للعجز عن القضاء لا لاقتضاء الرضاء كما في النكاح فلا تقريب ومنه اختلف المتعاقدان في ذراع المسلم فيه لخالفًا قياسًا لأن اختلافهما في المستحق بعقد السلم لا استحسانًا لأن الذراع ليس أصل المبيع بل وصفه لأنه يوجب جودة في الثوب بخلاف الكيل والوزن وذا لا يوجب التحالف فعلنا بالصحة الباطنة للقياس وهي أن الاختلاف في الوصف هنا يوجب الاختلاف والوزن وذا لا يوجب التحالف فعلمنا بالصحة الباطنة للقياس وهي أن الاختلاف في الوصف هنا يوجب الاختلاف في الأصل.
لا يقال لم جعلوهما بالنظر إلى المقابلة قسمين فالأقسام ليست بمنحصر فيهما بل باعتبار قوة كل منهما وضعفه أربعة من اثنين في اثنين فيرجح الاستحسان منها فيما قوى أثره دون القياس والقياس في الثلاثة الآخر وباعتبار أن كلا صحيح الظاهر والباطن وفاسدهما ومختلفيهما ستة عشر من أربعة في أربعة فصحيحيهما من القياس راجح على أربعة الاستحسان وضعفهما مرجوح عنهما بقى لفانية لمختلفي القياس فصحيحيهما من الاستحسان راجح عليهما وضعيفهما مرجوح عنهما بقى أربعة لمختلفى أحدهما في نحتلفى الآخر فصحيح الباطن الفاسد الظاهر من الاستحسان يرجح على عكسه من القياس لا عكسه عليه ولا المتفق منهما فإن هذه الثلاثة بالعكس.
لأنا نقول التقسيم الأول مستدرك لأن القوة عين الصحة والضعف عين الفساد فاندرج في الثاني وإنما خصوا القسمين من الستة عشر للثانى لأن الاشتباه المحوج إلى الترجيح كان فيهما إذ لا اشتباه في راجحية القياس في الأربعة الأولى ومرجوحيته في الأربعة الثانية ولا في راجحية الاستحسان في الاثنين الأول ومرجوحيته في الاثنين الثاني ولا في راجحية القياس في المتفقين من الأربعة الباقية بقى اثنان مختلفان فيهما الاشتباه ولعدم الاشتباه بينهما لا يكاد يقع ممن له أدنى التمييز فضلا عن أن يقع من المجتهد المبرز في شأو دقائق المعالى وهذا هو المراد بالامتناع لا نفى الإمكان العقلي كما ظن.
تتمة: الفرق بين المستحسن بالقياس الخفى الذي هو المراد بإطلاقه والثلاثة الآخر أنه يعلى لا هى للعدول بها عن السنن اللهم إلا دلالة إذا تساويا في جميع المعالى المؤثرة.
مثاله: إذا اختلفا في الثمن قبل قبض المبيع فاليمين على المشترى قياسًا لأنه المنكر وعينهما قياسًا خفيًا لأن البايع ينكر وجوب تسليم المبيع بقبض ما هو ثمن في زعم المشترى والمشترى ينكر زيادة الثمن فتعدى التخالف إلى ما اختلف وارثاهما قبل قبضه أو الموجران في مقدار الأجرة قبل اسئيفاء المنفعة وأما بعد القبض فالتخالف ثبت بالحديث حال قيام السلعة على خلاف القياس إذ البايع لا ينكر شيئًا فلا يعدى إلى

(2/378)


الوارث وحال هلاك السلعة عند الأولين ولا يمكن إن حمل الحديث على ما قبل القبض ليوافق القياس.
إما لقوله ترادا وإما لتقييده بقيام السلعة فإن الهلاك قبل القبض يوجب فسخ البيع فلا يتصور فيه اختلافهم إليحترز عنه وأجرى محمَّد رحمه الله الكل على قياس التخالف لأن كلا يدعى عقدًا ينكره الآخر إلا الإجارة لعدم إمكان رد العقود عليه أو قيمته.
قلنا لا يختلف العقد باختلاف الثمن ولذا يملك الوكيل بالبيع بألف البيع بألفين.
تنبيه: تعدية المستحسن تعدية لا لحكم القياس بل لحكم أصله في الحقيقة وهو وجوب اليمين على المنكر مطلقًا ولظهوره بالاستحسان أضيفت إليه.
تنبيه آخر: إنكار الاستحسان زعمًا أنه خارج عن الأدلة الأربعة وأنه التشس لها كاشتداد الرائحة في النبيذ على الخمر فقياس دلالة ومآله إلى الاستدلال بأحد المعلولين على العلة وبهًا على الآخر.
الرابع: إن لم يبين جامعيه الجامع بنفى الفارق فذاك ما مر وإن بينت به يسمى قياسًا في معنى الأصل وتنقيح المناط مثل ما مر في حديث الأعرابي كما يسمى بيانها بالمناسبة في الأول تخريج المناط.
الخامس: إن كان الفرع نظير الأصل حكمًا وعلة فقياس الاستقامة وإن كان نقيضه فيهما فقياس العكس وقد سلفا.