قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف

ج / 1 ص -9-            فصل: في بيان مقاصد هذا الكتاب
الغرض بوضع هذا الكتاب بيان مصالح الطاعات والمعاملات وسائر التصرفات لسعي العباد في تحصيلها، وبيان مقاصد المخالفات ليسعى العباد في درئها، وبيان مصالح العبادات ليكون العباد على خبر منها، وبيان ما يقدم من بعض المصالح على بعض، وما يؤخر من بعض المفاسد على بعض، وما يدخل تحت اكتساب العبيد دون ما لا قدرة لهم عليه ولا سبيل لهم إليه، والشريعة كلها مصالح إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح، فإذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيرا يحثك عليه أو شرا يزجرك عنه، أو جمعا بين الحث والزجر، وقد أبان في كتابه ما في بعض الأحكام من المفاسد حثا على اجتناب المفاسد وما في بعض الأحكام من المصالح حثا على إتيان المصالح.

فصل: في تقسيم اكتساب العباد
اعلم أن اكتساب العباد ضربان: أحدهما ما هو سبب للمصالح وهو أنواع: أحدها: ما هو سبب لمصالح دنيوية. والثاني: ما هو سبب لمصالح أخروية. الثالث ما هو سبب لمصالح دنيوية وأخروية، وكل هذه الاكتسابات مأمور بها، ويتأكد الأمر بها على قدر مراتبها في الحسن والرشاد، ومن هذه الاكتسابات ما هو خير من الثواب كالمعرفة والإيمان، وقد يكون الثواب خيرا من الاكتساب كالنظر إلى وجه الله الكريم ورضاه الذي هو أعلى من كل نعيم سوى النظر إلى وجهه الكريم. الضرب الثاني: من الاكتساب ما هو سبب للمفاسد وهو أنواع: أحدهما: ما هو سبب لمفاسد دنيوية، الثاني ما هو سبب لمفاسد أخروية، الثالث: ما هو سبب لمفاسد دنيوية وأخروية، وكل هذه الاكتسابات منهي عنها، ويتأكد النهي عنها على قدر مراتبها في القبح والفساد.

 

ج / 1 ص -10-         فصل: في بيان حقيقة المصالح والمفاسد
المصالح أربعة أنواع: اللذات وأسبابها، والأفراح وأسبابها. والمفاسد أربعة أنواع: الآلام وأسبابها، والغموم وأسبابها، وهي منقسمة إلى دنيوية وأخروية، فأما لذات الدنيا وأسبابها وأفراحها وآلامها وأسبابها، وغمومها وأسبابها، فمعلومة بالعادات، ومن أفضل لذات الدنيا لذات المعارف وبعض الأحوال، ولذات بعض الأفعال في حق الأنبياء والأبدال، فليس من جعلت قرة عينه في الصلاة كمن جعلت الصلاة شاقة عليه، وليس من يرتاح إلى إيتاء الزكاة كمن يبذلها وهو كاره لها، وأما لذات الآخرة وأسبابها وأفراحها وأسبابها، وآلامها وأسبابها وغمومها وأسبابها، فقد دل عليه الوعيد، والزجر والتهديد. وأما اللذات فمثل قوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}، وقوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ}. وأما الأفراح ففي مثل قوله تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً}، وقوله: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. وفي مثل قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ}. وأما الآلام ففي مثل قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}. وأما الغموم ففي مثل قوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا}. فائدة سعى الناس كلهم في جانب الأفراح واللذات وفي درء الغموم المؤلمات، فمنهم من يطلب الأعلى من ذلك فالأعلى وقليل ما هم. ومنهم من يقتصر على طلب الأدنى، ومنهم الساعون في المتوسطات، والقدر من وراء سعي السعادة وكل متسبب في مطلوبه. فمن بين ظافر وخائب ومغلوب وغالب ورابح وخاسر ومتمكن وحاسر، كلهم يتقلبون وإلى القضاء ينقلبون، فمن طلب لذات المعارف والأحوال في الدنيا ولذة النظر والقرب في الآخرة فهو أفضل الطالبين، لأن مطلوبه أفضل من كل مطلوب، ومن طلب نعيم الجنان وأفراحها ولذاتها

 

ج / 1 ص -11-         فهو في الدرجة الثانية، ومن طلب أفراح هذه الدار ولذاتها في الدرجة الثالثة، ثم يتفاوت هؤلاء الطلاب في رتب مطلوباتهم. فمنهم الأعلون والمتوسطون، فأما طلاب الآخرة فاقتصروا من طلب لذات الدنيا وأفراحها على ما يدفع الحاجة أو الضرورة واشتغلوا بمطالب الآخرة، ولن يصل أحد منهم إلا إلى ما قدر له، وقد غر بعضهم أنهم أدركوا بعض ما طلبوا فظنوا أنهم نالوا ذلك بحزمهم وقواهم فخابوا ونكصوا ووكلوا إلى أنفسهم فهلكوا، ومنهم من واظب أنه لا ينال خيرا إلا بتوفيق الله ولا ينال ضيرا إلا بإرادة الله فهؤلاء لا يزالون في زيادة، لأن الطاعات والمعارف والأحوال إذا دامت أدت إلى أمثالها وإلى أفضل منها. وعلى الجملة فمن أقبل على الله أقبل الله عليه، ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه، ومن تقرب إلى الله شبرا تقرب منه ذراعا، ومن تقرب منه ذراعا تقرب منه باعا، ومن مشى إليه هرول إليه ومن نسب شيئا إلى نفسه فقد زل وضل، ومن نسب الأشياء إلى خالقها المنعم بها كان في الزيادة، لأن الله تعالى قال: {لئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}، {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}. وأفضل ما تقرب به التذلل لعزة الله والتخضع لعظمته والإيحاش لهيبته، والتبري من الحول والقوة إلا به، وهذا شأن العارفين، وما خرج عنه فهو طريق الجاهلين أو الغافلين، وقد تمت الحكمة وفرغ من القسمة، وسينزل كل أحد في دار قراره حكما وعدلا وحقا، قسطا وفضلا، وما ثبت في القدم لا يخلفه العدم ولا تغيره الهمم، بعد أن جرى به القلم وقضاه العدل الحكم، فأين المهرب وإلى أين المذهب وقد عز المطلب ووقع ما يذهب، فيا خيبة من طلب ما لم تجز به الأقدار ولم تكتبه الأقلام، يا لها من مصيبة ما أعظمها وخيبة ما أفحمها. أين المهرب من الله وأين الذهاب عن الله وأين الفرار من قدرة الله؟ بينا يرى أحدهم قريبا دانيا إذ أصبح بعيدا نائيا، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا حفظا ولا رفعا

 

ج / 1 ص -12-         بأي نواحي الأرض نرجو وصالكم وأنتم ملوك ما لمقصدكم نحو والله لن تصل إلى شيء إلا بالله فكيف توصل بغيره.

فصل: في تقسيم المصالح
[فصل] المصالح ضربان: أحدهما حقيقي وهو الأفراح واللذات، والثاني مجازي وهو أسبابها، وربما كانت أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها أو تباح لا لكونها مفاسد بل لكونها مؤدية إلى مصالح، وذلك كقطع الأيدي المتآكلة حفظا للأرواح، وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد، وكذلك العقوبات الشرعية كلها ليست مطلوبة لكونها مفاسد بل لكونها المقصودة من شرعها كقطع السارق وقطع الطريق وقتل الجناة ورجم الزناة وجلدهم وتغريبهم: وكذلك التعزيرات، كل هذه مفاسد أوجبها الشرع لتحصيل ما رتب عليها من المصالح الحقيقة، وتسميتها بالمصالح من مجاز تسمية السبب باسم المسبب. وكذلك المفاسد ضربان: أحدهما حقيقي وهو الغموم والآلام، والثاني مجازي وهو أسبابها، وربما كانت أسباب المفاسد مصالح فنهى الشرع عنها لا لكونها مصالح بل لأدائها إلى المفاسد وذلك كالسعي في تحصيل اللذات المحرمات والشبهات المكروهات والترفهات بترك مشاق الواجبات والمندوبات فإنها مصالح نهي عنها لا لكونها مصالح بل لأدائها إلى المفاسد الحقيقة وتسميتها مفاسد من مجاز تسمية السبب باسم المسبب. [فائدة] المصالح المحضة قليلة وكذلك المفاسد المحضة، والأكثر منها اشتمل على المصالح والمفاسد ويدل عليه قوله عليه السلام: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات". والمكاره مفاسد من جهة كونها مكروهات مؤلمات، والشهوات مصالح من جهة كونها شهوات ملذات مشتهيات، والإنسان بطبعه يؤثر ما رجحت مصلحته على مفسدته، وينفر مما رجحت مفسدته على مصلحته، ولذلك شرعت الحدود ووقع التهديد والزجر والوعيد، فإن الإنسان إذا نظر إلى اللذات وإلى ما يترتب عليهما من الحدود والعقوبات العاجلة والآجلة نفر منها بطبعه لرجحان مفاسدها، لكن الأشقياء لا يستحضرون ذكر مفاسدها إذا قصدوها، ولذلك يقدمون عليها، فإن

 

ج / 1 ص -13-         العاقل إذا ذكر ما في قبلة محرمة من التعزير والذم العاجلين والعقاب الآجل، زجره ذلك. وكذلك إذا ذكر اطلاع الرب سبحانه عليه حمله ألم الاستحياء والخجل على ترك المعصية واجتناب لذاتها، وكذلك إذا فكر في المصالح الشاقة من الغموم والآلام دعاه ذلك إلى تركها، فإذا ذكر ما يترتب عليها من مصالح الدنيا والآخرة حمله ذلك على الصبر على مكارهها ومشاقها، ألا ترى أن المريض يصبر على ألم مرارة الدواء، وألم قلع الأضراس المتوجعة وألم قطع الأعضاء المتآكلة؛ لما يتوقع من لذات العافية وفرحاتها. وكذلك إذا ذكر اطلاع الرب عليه ونظره إليه حمله ذلك على الطاعة وتحمل مكارهها ومشاقها، وكذلك ترك الطعام الشهي والشراب الهني لما يتوقع من سوء عاقبة أكله وشربه، ولو شاء الله لما جعل في الطاعات شيئا من المكاره والمشقات، كما فعل بالملائكة، ولما جعل في المعاصي شيئا من اللذات والراحات، ولو فعل ذلك لما قعد أحد عن طاعة ولا أقدم على معصية، ولكن سبق القضاء بشدة الابتلاء، وليس الملائكة كذلك فإنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، إذ لا مشقة عليهم في ذلك ولا ألم. وكذلك أهل الجنة يلهمون التسبيح، كما يلهمون النفس، وكذلك لو شاء الله لم يخلق الأوهام ولا الشكوك ولا التخيلات ولا الظنون في العقائد ولا في غيرها، بل خلق العلم بالأشياء من غير توهم مضلل ولا شك متعب، ولا تخيل مجهل ولا ظن موهم، وليت شعري هل تزول هذه الأشياء في الجنة بحيث لا يبقى لأهلها إلا محض العلوم التي بها يتم نعيمهم وسرورهم وفرحهم وحبورهم، أم يبقى ذلك كما هو في الدنيا؟ ولقد أعد الله لهم في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولعل هذا يكون من جملة ما أعد الله لهم، فسبحان من لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، وإنما نفع الطاعات لأربابها وسوء المخالفات لأصحابها. والقلوب معادن الخواطر والكفر والإيمان والعزوم والإرادات والبغض

 

ج / 1 ص -14-         والحب والطواعية والإباء والمعارف والأقوال، وكذلك استحسان الحسن واستقباح القبيح، وكذلك الظنون الصادقة والكاذبة، وقد قسم لكل قلب من ذلك ما سبقت به الأقدار وجرت به الأقلام، والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، أسعد من أسعد بغير علة، وأشقى من أشقى بغير سبب، وكيف الخلاص مما حق وكتب، وأين المهرب مما حتم ووجب؟ فمثل القلب كمثل نهر تجري فيه المياه على الدوام، فكذلك الخواطر في ورودها على قلوب الأنام لا يذهب خاطرنا به ولا ما ابتنى عليه من العزوم والأحوال والكفر والإيمان والطاعة والعصيان إلا رده خاطر إما من نوعه أو من غير نوعه ثم المياه الجارية منها ما ينفع، ومنها ما يضر، ومنها ما لا يضر ولا ينفع، فكذلك الخواطر الجارية في القلوب والواردة عليها منها ما ينفع ومنها ما يضر ومنها ما لا ينفع ولا يضر والإنسان بعد ذلك مكلف باجتناب العزوم على المفاسد ووسائلها، وبالقصود إلى المصالح وأسبابها ولا تكليف قبل ورود الخواطر، ولا بورود الخواطر ولا بميل الطبع إلى ما وردت به الخواطر، ولا بنفوره عما أتت به الخواطر. والخواطر ضربان: أحدهما ما يرد على القلوب من غير اكتساب كورود المياه على الأنهار. الضرب الثاني: ما يرد على القلوب من الخواطر بالاكتساب، وعلى الاكتساب يترتب المدح والذم والثواب والعقاب.

فصل: في الحث على جلب المصالح ودرء المفاسد
لما علم الرب سبحانه أنه قد جبل عباده على الميل إلى الأفراح واللذات، والنفور من الغموم والمؤلمات وأنه قد حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات، وعد من عصى هواه وأطاع مولاه بما أعده في الجنان من المثوبة والرضوان، ترغيبا في الطاعات ليتحملوا مكارهها ومشاقها، ويتوعد من عصى مولاه وأطاع هواه بما أعده في النيران من العقوبة والهوان، زجرا عن المخالفات ليجتنبوا ملاذها ورفاهيتها، ومدح الطائعين ترغيبا في الدخول في حمده ومدحته، وذم

 

ج / 1 ص -15-         العاصين تنفيرا من الدخول في لومه ومذمته. وكذلك وضع الحدود والعقوبات العاجلة زجرا عن السيئات. فالواجب على العباد اتباع الرشاد، وتنكب أسباب الفساد، وقضاء الله وقدره من وراء ذلك، فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه، ولا خروج لعبد عما حكم له أو عليه من سعادة أو شقاوة.

فصل: في بيان أن الأسباب الشرعية بمثابة الأوقات
التكاليف كلها مبنية على الأسباب المعتادة من غير أن تكون الأسباب جالبة للمصالح بأنفسها ولا دارئة للمفاسد بأنفسها، بل الأسباب في الحقيقة مواقيت للأحكام ولمصالح الأحكام، والله هو الجالب للمصالح الدارئ للمفاسد، ولكنه أجرى عادته وطرد سنته بترتيب بعض مخلوقاته على بعض، لتعريف العباد عند وجود الأسباب ما رتب عليها من خير فيطلبوه عند وقوعها ووجودها، وما رتب عليها من شر فيجتنبوه عند قيامها وتحققها وهذا هو الغالب في العادة، وكثير من ينفك عن ذلك، فكم من مرغب لم يرغب، وكم من مرهب لم يرهب، وكم من مزجور لم يزدجر، وكم من مذكر لم يتذكر، وكم من مأمور بالصبر لم يصطبر، ولو شاء الله لقطع كل مسبب عن سببه، وخلق المسببات كلها مجردة عن الأسباب، وكذلك لو شاء لخلق الأسباب كلها مجردة عن المسببات، لكنه قرن الأسباب بالمسببات في مطرد العادات، ليضل بذلك من يشاء ويهدي من يشاء. وكذلك لو شاء لأقام الأجساد بدون الطعام والشراب ولما تحلل شيء من أجزائها حتى يحتاج إلى الخلف والإبدال. فله أن يخلق ألم النار بغير نار ولذة الشراب والطعام والجماع من غير ماء ولا طعام ولا جماع. وكذلك الحكم في جميع الأسباب المؤلمات، واللذات لو شاء لخلقها دون مسبباتها، ولو شاء لخلق مسبباتها دونها وكذلك القوى التي أودعها الله في النبات والحيوان لو شاء لخلق آثارها ابتداء كجذب الغذاء بغير قوة جاذبة، وأمسك الغذاء في حال إمساكه بغير قوة ممسكة، وغذى بغير، قوة مغذية، ودفع بغير قوة دافعة، وصور بغير قوة
 

 

ج / 1 ص -16-         مصورة، ولما رأى الأغبياء العمي عن الأمور الإلهية ربط المسببات من غير انفكاك في مطرد العادات، اعتقدوا أن المسببات صادرة عن الأسباب، وأن الأسباب أفادتها الوجود؛ فاقتطعوا ذلك عن رب الأرباب ومسبب الأسباب، وأضافوه إلى تلك الأسباب:

ولو أن ليلى أبرزت حسن وجهها               لهام بها اللوام مثل هيامي

ولكنها أخفت محاسن وجهها                    فضلوا جميعا عن حضور مقامي

وما أشد طمع الناس في معرفة ما لم يضع الله على معرفته سببا، كلما نظروا فيه وحرصوا عليه ازدادوا حيرة وغفلة، فالحزم الإضراب عنه كما فعل السلف الصالح، والبصائر كالأبصار فمن حرص أن يرى ببصره ما وارته الجبال لم ينفعه إطالة تحديقه إلى ذلك مع قيام الساتر. وكذلك تحديق البصائر إلى ما غيبه الله عنها وستره بالأوهام والظنون والاعتقادات الفاسدة كم من اعتقاد جزم المرء به وبالغ في الإنكار على مخالفه ثم تبين له خطؤه وقبحه بعد الجزم بصوابه وحسنه. ومن السعادة أن يختار المرء لنفسه المواظبة على أفضل الأعمال فأفضلها بحيث لا يضع بذلك ما هو أولى بالتقديم منه، والسعادة كلها في اتباع الشريعة في كل ورد وصدر، ونبذ الهوى فيما يخالفها؛ فقد قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}، أي فلا يضل في الدنيا عن الصواب ولا يشقى في الآخرة بالعذاب. وقال ابن عباس في قوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}، الكتاب والسنة {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} ما من طاعة يأتي بها الطالب على وجهها إلا أحدثت في قلبه نورا، وكلما كثرت الطاعات تراكمت الأنوار حتى يصير المطيع إلى درجات العارفين الأبرار {الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وهذا مما يعرفه المطيعون المخلصون. فإذا خلت الأعمال عن الإخلاص لم يزدد العاملون إلا ظلمة في القلوب، لأنهم عاصون بترك الإخلاص وإبطال ما أفسده الرياء والتصنع من الأعمال. وعلى الجملة فلو أن الرب سبحانه وتعالى

 

ج / 1 ص -17-         عرف عباده نفسه وأوصافه من غير نظر ولا استدلال لهاموا في جلاله وتحيروا في كماله، لكنه كشف الحجاب بينه وبين السعداء وسدله بينه وبين الأشقياء، فلا يستطيع أحد كشف حجاب سدله الله ولا حفظ ما ضيعه الله وأهمله، جرت المقادير من الأزل واستمرت في الأبد وجفت الأقلام بما قضي على الأنام؛ فلا يتقدم أحد منهم قدر أنملة ولا يتأخر إلا بمقادير سابقة وكتابة لاحقة. فلو تهيأت أسباب السعادة كلها للأشقياء لما سعدوا، ولو تهيأت أسباب الشقاوة كلها للسعداء لما شقوا: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ}، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ}.

فصل: في بيان ما رتب على الطاعات والمخالفات
الطاعات ضربان: أحدهما ما هو مصلحة في الآخرة كالصوم والصلاة والنسك والاعتكاف. الضرب الثاني: ما هو مصلحة في الآخرة لباذله وفي الدنيا لآخذيه كالزكاة والصدقات والضحايا والهدايا والأوقاف والصلاة، والخير كله في الطاعات والشر كله في المخالفات؛ ولذلك جاء القرآن بالحث على الطاعات دقها وجلها قليلها وكثيرها جليلها وحقيرها، والزجر عن المخالفات دقها وجلها قليلها وكثيرها جليلها وحقيرها، فأما الحث على الطاعات فبمدحها وبمدح فاعليها، وبما وعدوا عليها من الرضا والمثوبات، وبما رتب عليها في الدنيا من الكفاية والهداية، والتأهل للشهادة والرواية والولاية. وأما الزجر عن المخالفات فبذمها وذم فاعليها، وبما وعدوا عليها من السخط والعقوبات، وبرد الشهادات والولايات والانعزال عن الولايات. وأما ما قرن بالآيات من الصفات فإنه جاء أيضا حاثا على الطاعات، وزجرا عن المخالفات، مثل أن يذكر سعة رحمته ليرجوه فيعملوا بالطاعات، ويذكر شدة نقمته ليخافوه فيجتنبوا المخالفات، ويذكر نظره إليهم، ليستحيوا من اطلاعه عليهم فلا يعصوه، ويذكر تفرده بالضر والنفع، ليتوكلوا عليه ويغوضوا إليه، ويذكر إنعامه عليهم وإحسانه إليهم، ليحبوه ويطيعوه ولا

 

ج / 1 ص -18-         يخالفوه، فإن القلوب مجبولة على حب من أنعم عليها وأحسن إليها. وكذلك يذكر أوصاف كماله ليعظموه ويهابوه، ويذكر سمعه ليحفظوا ألسنتهم من مخالفته، ويذكر بصره ليستحيوا من نظر مراقبته، ويجمع بين ذكر رحمته وعقوبته، ليكونوا بين الخوف والرجاء، فإن السطوة لو أفردت بالذكر لخيف من أدائها إلى القنوط من رحمته، ولو أفردت الرحمة بالذكر لخيف من إفضائها إلى الغرور بإحسانه وكرامته، مثل قوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ}، وقوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقد يجمع المدائح في بعض المواضع، ليتعرف بها إلى عباده فيعرفوه بها ويعاملوه بمقتضاها. وكذلك ما ذكره في قصص الأولين وإنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين، إنما ذكره زجرا عن الكفر وحثا على الإيمان، فيا خيبة من خالفه وعصاه، ويا غبطة من أطاعه واتقاه.