قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف فصل: في تعريف ما يظهر من معارف الأولياء
وأحوالهم
للأحوال
آثار تظهر على الجوارح والأبدان، فإذا أردت معرفة مراتب الرجال
فانظر إلى ما يظهر عليهم من الآثار، ويغلب عليهم من الأقوال
والأعمال، فمن غلب عليه آثار الخوف كالبكاء والاقشعرار عند ذكر
الوعيد فهو من الخائفين، ومن غلب عليه السرور والاستبشار عند
ذكر الوعد فاعلم أنه من الراجين ومن غلبا عليه عند ذكرهما فهو
من الخائفين الراجين، ومن غلب عليه الهشاشة والبشاشة عند ذكر
الجمال فهو من المحبين، الراجين، ومن غلب عليه الانقباض والذل
عند ذكر العظمة والجلال فهو من الهائبين المعظمين، ومن غلب
عليه الانقطاع عن الأسباب عند نزول النوازل وحلول المصائب فهو
من المتوكلين، ومن غلب عليه من هؤلاء أفضل المعارف والأحوال
فهو الأفضل، ومن غلب عليه الخوف والرجاء فهو الأسفل، ومن غلب
عليه محبة الإجلال فهو أفضل ممن غلب عليه محبة الإنعام
والإفضال، وغلبة الخوف خير من غلبة الرجاء. وكان الأنبياء
يتصفون بهذه الأحوال في مظانها وعند تحقق أسبابها وقد يغلب
الحال على الضعيف من الأولياء فيفقد لبه لعظمة ربه، وقد يضحك
أحدهم طمعا في قرب ربه وإسعاده، ويبكي أحدهم خوفا من طرده
وإبعاده. فكل من هؤلاء إذا ذكر نفسه بهذه الصفات في خلوة نشأ
عن تذكره بهذه الأحوال، فسبحان من أنعم عليهم وأحسن إليهم بما
وصلوا إليه وقدموا عليه، فإذا غلب الحال على أحدهم خرج عن
الإدراك والإحساس، فلو ضرب وجه أحدهم بالسيف لما أحس به، وقد
كان أحد هؤلاء في الزمن القديم لينشر بالمناشر فلا يبالي بذلك،
ولمثل هذه لما تهدد فرعون السحرة
ج / 2 ص -193-
بالقطع والصلب قالوا: لا ضير، فيحتمل أن حالاتهم اقتضت ذلك،
ويحتمل أنهم قالوا ذلك صبرا على البلاء في ذات الله، يدل عليه
قولهم: ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين.
فصل: في بيان أحوال الناس
معظم الناس
خاسرون، وأقلهم رابحون، فمن أراد أن ينظر في خسره وربحه فليعرض
نفسه على الكتاب والسنة فإن وافقهما فهو الرابح إن صدق ظنه في
موافقتهما، وإن كذب ظنه فيا حسرة عليه، وقد أخبر الله بخسران
الخاسرين وربح الرابحين، وأقسم بالعصر إن الإنسان لفي خسر إلا
من اجتمع فيه أربعة أوصاف: أحدها: الإيمان. والثاني: العمل
الصالح والثالث: التواصي بالحق. والرابع: التواصي بالصبر. وقد
روي أن الصحابة كانوا إذا اجتمعوا لم يفترقوا حتى يقرءوها،
واختلف في العصر فقيل: هي الصلاة الوسطى، صلاة العصر، وقيل:
العصر آخر النهار، وقيل: العصر الدهر، واختلف في الصالحات
فقيل: هي الفرائض، وقيل هي الأعمال الصالحات، واختلف في الحق
فقيل: هو الله، والتقدير تواصوا بطاعة الحق وقيل: الإسلام،
وقيل القرآن والتقدير تواصوا باتباع الحق كقوله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وقوله:
{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}
وأما الصبر فيحتمل أن يراد به الصبر على الطاعات فيدخل الصبر عن
المعصية وعلى الطاعة، ويحتمل الصبر على المصائب والبليات،
ويحتمل على البليات والطاعات، وعن المعاصي والمخالفات واجتماع
هذه الخصال في الإنسان عزيز نادر في هذا الزمان، وكيف يتحقق
الإنسان أنه جامع لهذه الصفات التي أقسم الله على خسران من خرج
عنها وبعد منها مع علمه بقبح أقواله وسوء أعماله، فكم من عاص
يظن أنه مطيع، ومن بعيد يظن أنه قريب، ومن مخالف يعتقد أنه
موافق، ومن منتهك يعتقد أنه متنسك، ومن مدبر يعتقد أنه مقبل،
ومن هارب يعتقد أنه طالب، ومن جاهل يعتقد أنه عارف، ومن آمن
يعتقد أنه خائف، ومن مراء يعتقد أنه مخلص، ومن ضال يعتقد أنه
ج / 2 ص -194-
مهتد، ومن عم يعتقد أنه مبصر، ومن راغب يعتقد أنه زاهد ؟، وكم
من عمل يعتمد عليه المرائي وهو وبال عليه ؟، وكم من طاعة يهلك
بها المتسمع وهي مردودة إليه ؟، والشرع ميزان يوزن به الرجال،
وبه يتيقن الربح من الخسران، فمن رجح في ميزان الشرع كان من
أولياء الله، وتختلف مراتب الرجحان، ومن نقص في ميزان الشرع
فأولئك أهل الخسران، وتتفاوت خفتهم في الميزان، وأخسها مراتب
الكفارة، ولا تزال المراتب تتناقص حتى تنتهي إلى منزلة مرتكب
أصغر الصغائر، فإذا رأيت إنسانا يطير في الهواء ويمشي على
الماء أو يخبر بالمغيبات، ويخالف الشرع بارتكاب المحرمات بغير
سبب محلل، أو يترك الواجبات بغير سبب مجوز، فاعلم أنه شيطان
نصبه الله فتنة للجهلة وليس ذلك ببعيد من الأسباب التي وصفها
الله للضلال، فإن الدجال يحيي ويميت فتنة لأهل الضلال، وكذلك
يأتي الخربة فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، وكذلك يظهر للناس
أنه معه جنة ونار فناره جنة، وجنته نار، وكذلك من يأكل الحيات
ويدخل النيران فإنه مرتكب الحرام بأكل الحيات، وفاتن الناس
بدخول النيران ليقتدوا به في ضلالته ويتابعوه على جهالته.
فصل: في معرفة تفضيل بعض الموجودات الحادثات على
بعض الجواهر والأجسام
الأجسام
كلها متساوية من جهة ذواتها، وإنما يفضل بعضها على بعض بصفاتها
وأعراضها وأنسابها إلى الأوصاف الشريفة والأفعال النفيسة.
والفضائل ضربان: أحدهما فضائل الجمادات كفضل الجوهر على الذهب
وفضل الذهب على الفضة، وفضل الفضة على الحديد، وفضل الأنوار
على الظلمات، وفضل الشفاف على غير الشفاف، وفضل اللطيف على
الكثيف، والنير على المظلم، والحسن على القبيح.
الضرب الثاني فضائل الخيرات وهي أقسام: أحدها: حسن الصورة.
ج / 2 ص -195-
والثاني: قوى الأجسام، كالقوى الحادثة والممسكة والدافعة
والغاذية، والقوى على الجهاد والقتال وحمل الأعباء والأثقال.
الثالث: الصفات الداعية إلى الخيور، والوازعة عن الشرور:
كالغيرة والنخوة والحياء والشجاعة والحلم والأناة والسخاء.
الرابع: العقول. الخامس: الحواس. السادس: العلوم المكتسبة وهي
أقسام: أحدها: معرفة وجود الإله وصفاته الذاتية والسلبية
والعقلية. الثاني: معرفة إرسال الرسل وإنزال الكتب وتنبيه
الأنبياء. الثالث: معرفة ما شرعه الله من الأحكام الخمسة
وأسبابها وشرائعها وتوابعها. السابع: الأحوال الناشئة عما ذكره
من المعارف. الثامن: القيام بطاعة الله في كل ما أمر به ونهى
عنه. التاسع: ما رتبه الله على هذه المعارف والأحوال والطاعات
من لذات الآخرة وأفراحها بالنعيم الروحاني: كلذة الأمن من عذاب
الله، والأنس بقربه وجواره، وسماعه وكلامه، وتبشيره بالرضا
الدائم، وكذلك النظر إلى وجهه الكريم مع الخلاص من عذابه
الأليم. فهذه فضائل بعضها أفضل من بعض فمن اتصف بأفضلها كان من
أفضل البرية، ولا شك أن معرفة الله ومعرفة صفاته ولذات رضاه
والنظر إلى وجهه الكريم أفضل مما عداهن، وأفضل الملائكة من قام
به أفضل هذه الصفات، فإن تساوى اثنان من الملائكة في ذلك لم
يفضل أحدهما على الآخر وإن فضل البشر على الملك بشيء من ذلك
كان أفضل منه، وإن فضل الملك على البشر بشيء من ذلك كان أفضل
منه، والفضل منحصر في أوصاف الكمال، والكمال إنما يكون
بالمعارف والطاعات والأحوال. أما بالأفراح واللذات فإنه أحسن
إلى أجساد الأنبياء والأولياء بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا
خطر على قلب بشر. وأحسن إلى أرواحهم بالمعارف الكاملة والأحوال
المتوالية، وأذاقهم لذة النظر إليه وسرور رضاه عنهم وكرامة
تسليمه عليهم فمن أين للملائكة مثل هذا ؟
واعلم أن الأجساد مساكن الأرواح وللساكن والمسكن أحوال:
إحداها: أن يكون الساكن أشرف من المسكن. الثانية: أن يكون
المسكن أشرف من الساكن
ج / 2 ص -196-
الثالث: يتساويا في الشرف فلا يفضل أحدهما على الآخر وإذا كان
الشرف للساكن فلا مبالاة بخساسة المسكن، وإذا كان الشرف للمسكن
فلا يتشرف به الساكن والأجساد مساكن الأرواح، وقد اختلف الناس
في التفضيل الواقع بين البشر والملك: فإن فاضل بينهما مفضل من
جهة تفاوت الأجساد التي هي مساكن الأرواح فلا شك أن الملائكة
أفضل وأشرف من أجساد البشر المركبة من الأخلاط المستقذرة، وإن
فاضل بين أرواح البشر وأرواح الملائكة مع قطع النظر إلى
الأجساد، فأرواح الأنبياء أفضل من أرواح الملائكة، لأنهم فضلوا
عليهم من وجوه: أحدها الإرسال ورسل الملائكة قليل، ولأن رسول
الملائكة يأتي إلى نبي واحد، ورسول الأمم يأتي إلى أمم وإلى
أمة واحدة فيهديهم الله على يديه فيكون له أجر تبليغه، ومثل
أجر كل من اهتدى على يديه، وليس مثل هذا الملك. الثاني: القيام
بالجهاد في سبيل الله. الثالث: الصبر على المصائب الدنيا
ومحنها والله يحب الصابرين. الرابع: الرضا بمر القضاء وحلوه.
الخامس: نفع العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجلب
المنافع ودفع المكاره، وليس للملائكة شيء مثل هذا السادس: ما
أعده في الآخرة لعباده الصالحين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت
ولا خطر على قلب بشر، ولم يثبت مثل هذا للملائكة. السابع: ما
أعده الله لهم في الآخرة من النعيم الروحاني كالأنس والرضا
والنظر إلى وجهه الكريم، وليس للملائكة مثل هذا. فإن قيل
الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون، والأنبياء يفترون
وينامون؟ قلت إذا فترت الأنبياء عن التسبيح فقد يأتون في حال
فتورهم من الثناء على الله ومن الطاعات والعبادات بما هو أفضل
من التسبيح، والنوم مختص بأجسادهم، وقلوبهم متيقظة غير نائمة
وسيساوونهم في الآخرة في إلهام التسبيح كما يلهمون النفس.
الوجه الثامن: وهو مختص بآدم عليه السلام أن الله عرفه من
أسماء كل شيء ومنافعه ما لا يعرفون.
ج / 2 ص -197-
الوجه التاسع: وهو أيضا مختص به أن الله تعالى أمر الملائكة
بالسجود لآدم، ولا شك أن المسجود له أفضل وأشرف من الساجدين.
وعلى الجملة فما يفضل الملائكة على الأنبياء إلا هجام يبنى
التفضيل على خيالات توهمها، وأوهام فاسدة اعتمدها ولم يتقرر
بالخيالات والتوهمات من أمور يعلم الله خلافها، بل قد يرى
الإنسان اثنين فيظن أن أحدهما أفضل من الآخر، لما يرى من طاعته
الظاهرة، والآخر أفضل منه بدرجات كثيرة لما اشتمل عليه من
المعارف والأحوال، والقليل من أعمال الأعرف خير من الكثير من
أعمال العارف، وأين الثناء من المستحضرين لأوصاف الجلال وتعرف
الكمال من ثناء المسبحين بألسنتهم الغافلين بقلوبهم. ليس
التكحل في العينين كالكحل ليس استجلاب الأحوال باستذكارها
المعارف كمن تحضره المعارف بغير سعي ولا اكتساب، ولا عبرة بفضل
أجساد الملائكة على أجساد الأنبياء، لأن الأجساد مساكن ولا شرف
بالمساكن، وإنما الشرف بالأوصاف القائمة بالساكن، والاعتبار
إنما هو بالساكنين دون المساكن، فإن الأنبياء قد سكنوا بطون
أمهاتهم مع القطع بأنهم أفضل من أمهاتهم. "نفس عصام سودت
عصاما" فروح المسيح عليه السلام أفضل من جسد مريم، وكذلك روح
إبراهيم عليه السلام أفضل من جسد أمه. وأما من كفر من أولاد
المؤمنات فهم شر البرية، ومساكنهم خير منهم، فإذا حملت مؤمنة
بكافر كان جسدها خيرا من روحه، إذ قام بروحه أخس الصفات وهو
الكفر برب الأرضين والسموات. فإن قيل أين محل الأرواح من
الأجساد؟ قلنا في كل جسد روحان: إحداهما: روح اليقظة، وهي
الروح التي أجرى الله العادة أنها إذا كانت في الجسد كان
الإنسان مستيقظا، فإذا خرجت من الجسد نام الإنسان ورأت تلك
الروح المنامات إذا فارقت الجسد، فإن رأتها في السموات صحت
الرؤيا فلا سبيل للشياطين إلى السموات، وإن رأتها دون السماء
كان من إلقاء الشياطين وتحريفهم، فإذا رجعت هذه الروح إلى
الإنسان يستيقظ الإنسان كما كان.
ج / 2 ص -198-
الروح الثانية: روح الحياة وهي الروح التي أجرى الله العادة
أنها إذا كانت في الجسد كان حيا، فإذا فارقته مات الجسد فإذا
رجعت إليه حيي. وهاتان الروحان في باطن الإنسان لا يعرف باطن
مقرهما إلا من أطلعه الله على ذلك، فهما كجنينين في بطن امرأة
واحدة، وقد يكون في بطن الإنسان روح ثالثة وهي روح الشيطان
ومقرها الصدور بدليل قوله:
{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} وجاء في الحديث الصحيح:
"إن المتثائب إذا قال هاه هاه ضحك الشيطان في جوفه" وجاء في الحديث:
"إن للملك لمة وإن للشيطان لمة"
وقال بعض المتكلمين: الذي يظهر أن الروح بقرب القلب، ولا يبعد
عندي أن يكون الروح في القلب، ويجوز أن يحضر الملك في باطن
الإنسان حيث يحل الروحان، ويحضر الشيطان. ويجوز في كل واحدة من
الأرواح أن تكون جوهرا فردا يقوم به ما يليق به من الصفات
الخسيسة والنفيسة، ويجوز أن تكون كل واحدة منهن جسما لطيفا حيا
سميعا بصيرا عليما قديرا مريدا متكلما، فتكون حيوانا كاملا في
داخل حيوان ناقص، ويجوز أن تكون الأرواح كلها نورانية لطيفة
شفافة، ويجوز أن يخص ذلك بأرواح المؤمنين والملائكة، دون أرواح
الجن والشياطين. فإن قيل: إذا أتى جبريل النبي عليه السلام في
صورة دحية فأين تكون روحه؟ في الجسد الذي يتشبه بجسد دحية، أم
في الجسد الذي خلق عليه ستمائة جناح؟ فإن كانت في الجسد الأعظم
فما الذي أتى إلى الرسول جبريل لا من جهة روحه ولا من جهة
جسده، وإن كانت في الجسد المشبه دحية فهل يموت الجسد الذي له
ستمائة جناح كما تموت الأجساد إذا فارقتها الأرواح أم يبقى حيا
خاليا من الروح المنتقلة من الجسد المشبه بجسد دحية؟ قلت: لا
يبعد أن يكون انتقالها من الجسد الأول غير موجب لموته، لأن موت
الأجساد بمفارقة الأرواح ليس بواجب عقلا، وإنما هو بعبادة
مطردة أجراها الله في أرواح بني آدم فيبقى ذلك الجسد حيا لا
ينقص معارفه ولا طاعته شيء، ويكون انتقال روحه إلى الجسد
الثاني
ج / 2 ص -199-
كانتقال أرواح الشهداء إلى أجواف الطيور الخضر، تأكل تلك
الطيور من ثمار الجنة وتشرب من أنهارها وتأوي إلى قناديل معلقة
بالعرش.
وقالت طائفة: الأرواح باقية في القبور، ولذلك سلم عليه السلام
عليهم وأمرنا بالتسليم عليهم، وقال:
"سلام على أهل الديار من المسلمين والمؤمنين"
وأهل الدار في عرف الناس من سكن الدار أو كان بفنائها، وقد
أمرنا بالاستعاذة من عذاب القبر، ومر بقبرين فقال:
"إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير"
وهذا يدل على أن الأرواح في القبور دون أفنيتها وهو المختار.
ولذلك قال عليه السلام في المؤمن: "ويفسح له في قبره ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون" وقيل إن الأنبياء ترفع أجسادهم ولم يثبت ذلك، وزعمت طائفة أن أرواح
الكفار ببئر باليمن وظاهر السنة يرد عليهم فإنه عليه السلام
أمر بالتعوذ من عذاب القبر، وقال:
"لولا أن
لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب الموتى في قبورهم" والأرواح كلها تنتقل يوم القيامة إلى أجساد غير أجسادها، لأن ضرس
الكافر مثل أحد، وغلظ جسده مسيرة ثلاثة أيام، ومقعده كما بين
مكة والمدينة، وأجساد المؤمنين على هيئة جسد آدم ستون ذراعا في
السماء فما الديار الديار ولا الخيام الخيام.
[فائدة] إن قيل أيهما أفضل النبوة أم الإرسال؟
فنقول النبوة أفضل لأن النبوة إخبار عما يستحقه الرب من صفات
الجمال ونعوت الكمال وهي متعلقة بالله من طرفيها، والإرسال
دونها، أمر بالإبلاغ إلى العباد فهو متعلق بالله من أحد طرفيه
وبالعباد من الطرف الآخر، ولا شك أن ما يتعلق من طرفيه أفضل
مما يتعلق به من أحد طرفيه، والنبوة سابقة على الإرسال فإن قول
الله لموسى:
{إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}
مقدم على قوله:
{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} فجميع ما تحدث به قبل قوله: اذهب إلى فرعون نبوة، وما أمره بعد ذلك
من التبليغ فهو إرسال.
ج / 2 ص -200-
والحاصل أن النبوة راجعة إلى التعريف بالإله وبما يجب له،
والإرسال إلى أمر الرسول بأن يبلغ عنه إلى عباده أو إلى بعض
عباده ما أوجبه عليهم من معرفته وطاعته واجتناب معصيته، وكذلك
الرسول عليه السلام لما قال له جبريل:
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى قوله:
{إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى}
كان هذا نبوة، وكان ابتداء الرسالة حين جاء جبريل: بـ{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ}.
[فائدة]: إذا استوى اثنان في حال من الأحوال فهما في التفضل
سيان، وإن تفاوتا في ذلك بطول الزمان وقصره كان من طال زمانه
أفضل ممن قصر زمانه عند اتحاد الحال، فإن تفاوتا في الأحوال:
فإن كانت إحدى الحالتين أشرف وأطول زمانا، فلا شك أن صاحبها
أشرف وأفضل، مثاله الخائف مع الهائب، فإن الهيبة أفضل من
الخوف، فإذا طال زمان الهيبة وقصر زمن الخوف فقد فضلته من
وجهين اثنين، وإن استوى الزمان كان الهائب أفضل وكذلك إن قصر
زمان الهيبة عن زمن الخوف كان الهيبة أفضل لعلو رتبتها وشرفها
ألا ترى أن وزن دينار من الجوهر أفضل من الدينار، والدينار
أفضل من الدرهمين والعشرة لشرف وصفه على وصف الفضة، والدرهم
أفضل من مائة درهم من النحاس لشرف وصفه، وبهذا الميزان يعرف
تفاوت الرجال وكذلك تعرف مراتب الطائعين بملابسة بعضهم لأفضل
الطاعات وبملابسة الآخرين لأدنى الطاعات وإن استووا في الطاعات
لم يجز التفضل في باب الطاعات، وإن كثرت طاعات أحدهم وقلت
معارف الآخر وأحواله يقدم شرف المعارف والأحوال على شرف
الأعمال والأقوال، ولهذا جاء في الحديث: "ما سبقكم أبو بكر بصوم ولا صلاة ولكن بأمر وقر في صدره" وقال عليه السلام لما استعظم بعضهم طاعاته:
"إني لأرجو أن أكون أعلمكم بالله وأشدكم له خشية" لفضل المعرفة وشدة الخشية على كثرة الأعمال والله أعلم. |