كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية
المجلد الأول
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب
الحمد لله مصور النسم في شبكات الأرحام بلا مظاهرة ومعونة,
ومقدر القسم لطبقات الأنام بلا كلفة ومئونة, شارع مشارع
الأحكام بلطفه وأفضاله, ناهج مناهج الحلال والحرام بكرمه
ونواله, مبدع فرائد الدرر من خطرات الفكر بسحائب فضله
وإكرامه, منشئ لطائف العبر من شواهد النظر برواتب طوله
وإنعامه, الذي أكمل بعنايته رونق الدين وأبهة الإسلام,
وصير برعايته الملة الحنيفية مرتفعة الأعلام, نحمده حمدا
تاه في وصفه أفهام العقلاء, ونشكره شكرا حار في قدره أوهام
الألباء, على ما أوضح مناهج الشرع ورفع معالمه, وأحكم
قواعد الدين وأثبت دعائمه.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة رسخت
عروقها في صميم الجنان, ودعت صاحبها إلى نعيم الجنان.
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي جبله الله من سلالة المجد
والكرم, وبعثه إلى كافة الخلق والأمم, فأبان معالم الدين
وأثاره, وأضاء سبل اليقين ومناره, حتى سطع نور الشرع عن
ظلام الجفاء بحسن عنايته, وظهر نور الدين عن أكمام الخفاء
بيمن كفايته, صلى الله عليه وعلى آله الذين لم تستر أقمار
دينهم بغمام الشك والبداء, ولم تحتجب أنوار يقينهم بأكمام
الأهواء, صلاة تتجدد على تعاقب الليالي والأيام, وتتزايد
على انتقاص الشهور والأعوام, وسلم تسليما.
"وبعد" فإن علوم الدين أحق المفاخر بالتوقير والتبجيل,
وأولى الفضائل بالتفضيل والتحصيل, إذ هي الطريقة المسلوكة
لنيل السعادات في الدنيا, والمرقاة المنصوبة إلى الفوز
بالكرامات في العقبى, بنورها يهتدى من ظلمات الغواية إلى
سبيل الرشاد, وبيمنها يرتقى من حضيض الجهالة إلى ذروة
الاجتهاد, لا سيما علم أصول الفقه الذي هو أصعبها مدارك,
وأدقها مسالك, وأعمها عوائد, وأتمها فوائد, لولاه لبقيت
(1/7)
لطائف علوم
الدين كامنة الآثار, ونجوم سماء الفقه والحكمة مطموسة
الأنوار, لا تدخل ميامنه تحت الإحصاء, ولا تدرك محاسنه
بالاستقصاء. ثم إن كتاب أصول الفقه المنسوب إلى الشيخ
الإمام المعظم, والحبر الهمام المكرم, العالم العامل
الرباني, مؤيد المذهب النعماني, قدوة المحققين أسوة
المدققين صاحب المقامات العلية والكرامات السنية مفخر
الأنام فخر الإسلام أبي الحسن علي بن محمد بن الحسين
البزدوي تغمده الله بالرحمة والرضوان, وأسكنه أعلى منازل
الجنان, امتاز من بين الكتب المصنفة في هذا الفن شرفا
وسموا, وحل محله مقام الثريا مجدا وعلوا, ضمن فيه أصول
الشرع وأحكامه, وأدرج فيه ما به نظام الفقه وقوامه, وهو
كتاب عجيب الصنعة رائع الترتيب, صحيح الأسلوب مليح
التركيب, ليس في جودة تركيبه وحسن ترتيبه مرية, وليس وراء
عبادان قرية, لكنه صعب المرام, أبي الزمام, لا سبيل إلى
الوصول إلى معرفة لطفه وغرائبه, ولا طريق إلى الإحاطة
بطرفه وعجائبه, إلا لمن أقبل بكليته على تحقيقه وتحصيله,
وشد حيازيمه للإحاطة لجملته وتفصيله, بعد أن رزق في اقتباس
العلم ذهنا جليا, وذرعا من هو أجس أضاليل المنى خليا, وقد
تبحر مع ذلك في الأحكام والفروع, وأحاط بما جاء فيها من
المنقول والمسموع. وقد سألني إخواني في الدين, وأعواني على
طلب اليقين, أن أكتب لهم شرحا يكشف عن أوجه غوامض معانيه
نقابها, ويرفع عن اللطائف المستترة في مبانيه حجابها,
ويوضح ما أبهم من رموزه وإشاراته المعضلة, ويبين ما أجمل
من ألفاظه وعباراته المشكلة, ظنا منهم أني لما استسعدت
بخدمة شيخي, وسيدي وسندي وأستاذي وعمي, وهو الإمام المحقق
الرباني, والقرم المدقق الصمداني, ناصب رايات الشريعة,
كاشف آيات الحقيقة, فتاح أقفال المشكلات, كشاف غوامض
المعضلات, فخر الحق والدين, ملاذ العلماء في العالمين, قطب
المتهجدين, ختم المجتهدين, محمد بن إلياس المايمرغي1 أفاض
الله عليه سجال إنعامه وغفرانه, وصب عليه شآبيب إكرامه
ورضوانه, ونشأت في حجره برواتب بره وأفضاله, وربيت في بيته
بصنائع جوده ونواله, لعلي فزت بدرر من غرر فرائده. وأخذت
حظا وافرا من موائد فوائده, وإنه قد كان مختصا من بين
العلماء باتفاق الأنام بتحقيق دقائق مصنفات فخر الإسلام
فاستعفيت عن هذا الأمر الخطير وتشبثت بأهداب المعاذير,
علما مني بأني لست من فرسان هذا الميدان, ولا لي بالإبلاء
في مواقفه يدان, وأين أنا من ذلك وقد تحيرت الفحول في حل
مشكلاته,
ـــــــ
1 هو محمد بن محمد بن إلياس المايمرغي فقيه حنفي توفي سنة
751 هـ.
(1/8)
بعد تهالكهم في
بحثه وتنقيره, وعجزت التحارير عن درك معضلاته, مع حرصهم
على تحقيقه وتفكيره, فلم يزدهم ذلك إلا المبالغة في
الإلحاح علي, والإقامة في مواقف الاقتراح لدي, فلم أجد بدا
من إنجاح مسئولهم, ولا مندوحة عن تحقيق مأمولهم, فأجبتهم
إلى ملتمسهم تفاديا من عقوقهم, وسعيا إلى أداء حقوقهم,
وشرعت في هذا الأمر العظيم المهم, والخطب الجسيم المدلهم,
مستعينا بالله الكريم الجليل, راجيا منه أن يهديني سواء
السبيل, متوكلا على كرمه الشامل في طلب التوفيق لإتمامه,
معتمدا على إنعامه العام في سؤال التيسير لابتدائه
واختتامه. راغبا إليه في أن يجعل ما أقاسيه خالصا لوجهه
الكريم, متعوذا به من أن يتلقاني بسخطه وعقابه الأليم,
مبتهلا إليه في أن يحفظني عن الخطإ والزلل, ويلهمني طريق
الصواب والسداد في القول والعمل, متضرعا إليه في أن ينفعني
به وأئمة الإسلام, ويجمعني وإياهم ببركات جمعه في دار
السلام.
ولما كان هذا الكتاب كاشفا عن غوامض محتجبة عن الأبصار
ناسب أن سميته كشف الأسرار.
وأرجو أن يكون كتابا سبق عامة الشروح ترتيبا وجمالا, وفاق
نظائره تحقيقا وكمالا, ومن نظر فيه بعين الإنصاف, عرف دعوى
الصدق من الخلاف, ثم إني, وإن لم آل جهدا في تأليف هذا
الكتاب وترتيبه, ولم أدخر جدا في تسديده وتهذيبه, فلا بد
من أن يقع فيه عثرة وزلل, وأن يوجد فيه خطأ وخطل, فلا
يتعجب الواقف عليه عنه, فإن ذلك مما لا ينجو منه أحد ولا
يستنكفه بشر وقد روى البويطي1 عن الشافعي2 رحمه الله أنه
قال له إني صنفت هذه الكتب فلم آل فيها الصواب فلا بد أن
يوجد فيها ما يخالف كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه
السلام قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:
82] فما وجدتم فيها مما يخالف كتاب الله وسنة رسوله فإني
راجع عنه إلى كتاب الله وسنة رسوله.
وقال المزني3 قرأت كتاب الرسالة على الشافعي ثمانين مرة
فما من مرة
ـــــــ
1 البويطي: هو أبو يعقوب يوسف بن يحيى القرشي البويطي من
كبار أصحاب الشافعي توفي سنة 332هـ.
2 الإمام المجتهد ناصر السنة محمد بن إدريس بن العباس بن
عثمان بن شافع المطلبي القرشي ولد في غزة سنة 150 هـ توفي
سنة 204 هـ.
3 هو الإمام أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن
عمرو بن مسلم المزني توفي سنة 264 هـ.
(1/9)
إلا وكان نقف
على خطأ فقال الشافعي: هيه أبى الله أن يكون كتاب صحيحا
غير كتابه.
فالمأمول ممن وقف عليه بعد أن جانب التعصب والتعسف ونبذ
وراء ظهره التكلف والتصلف, أن يسعى في إصلاحه بقدر الوسع
والإمكان, أداء لحق الأخوة في الإيمان, وإحرازا لحسن
الأحدوثة بين الأنام, وإدخارا لجزيل المثوبة في دار
السلام, والله الموفق والمثيب عليه أتوكل وإليه أنيب.
"قال العبد الضعيف" عبد العزيز بن أحمد بن محمد البخاري
ستر الله عيوبه وغفر ذنوبه. حدثني بهذا الكتاب شيخي
وأستاذي وعمي الذي تقدم ذكره آنفا قراءة عليه بسرخس1 في
المدرسة الملكية العباسية قال حدثني به أستاذ أئمة الدنيا
مظهر كلمة الله العليا شمس الأئمة محمد بن عبد الستار بن
محمد الكردري2 من أول الكتاب إلى باب أسباب الشرائع ومنه
إلى آخر الكتاب الشيخ الإمام والقرم الهمام بدر الملة
والدين محمد بن محمود بن عبد الكريم الكردري3 المعروف
بخواهر زاده راويا عن خاله هذا قال حدثنا شيخ شيوخ الإسلام
برهان الدين علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الرشداني4 قال
حدثنا إمام الأئمة ومقتدى الأمة نجم الدين أبو حفص عمر بن
أحمد النسفي5 عن الشيخ الإمام المصنف قدس الله أرواحهم.
ـــــــ
1 سرخس: مدينة من نواحي خراسان بين نيسابور ومرو معجم
البلدان 3/208 – 209.
2 هو محمد بن عبد الستار بن الكردري شمس الأئمة فقيه حنفي
ولد سنة 559 هـ وتوفي سنة 642 هـ.
3 محمد بن محمود بن عبد الكريم الكردري بدر الدين المعروف
بخواهر زاده توفي سنة 651 هـ.
4 هو برهان الدين علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني
الرشداني المعروف بالمرغيناني توفي سنة 593 هـ.
5 هو نجم الدين أبو حفص عمر بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن
لقمان النسفي ولد سنة 461 هـ وتوفي سنة 537 هـ.
(1/10)
|