كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية

"باب موجب الأمر"
وإذا ثبت خصوص الصيغة ثبت خصوص المراد في أصل الوضع وهو قول عامة الفقهاء ومن الناس من قال: إنه مجمل في حق الحكم لا يجب به حكم
ـــــــ
"باب موجب الأمر"
أي حكم الأمر, الباب المتقدم في بيان لزوم الصيغة للمراد بالأمر بحيث لا يوجد ذلك المراد بدونها وبيان اختصاص ذلك المعنى بالصيغة ولكن ليس فيه بيان ذلك المراد صريحا وهذا الباب في بيان المراد أنه متعدد أم واحد, متعين أو مبهم قوله: "وإذا ثبت خصوص الصيغة" أي لزومها للمعنى واختصاصها به ثبت خصوص المراد أي انفراد المعنى وتعينه في أصل الوضع; لأنه لو لم يكن معناه منفردا أو متعينا مع أن الصيغة المخصوصة لازمة له يلزم الاشتراك أو الإجمال في الصيغة وكلاهما خلاف الأصل وهذا; لأن الغرض من وضع الألفاظ الإفهام للسامع والاشتراك والإجمال يخلان به إلا أن الاشتراك والإجمال وقعا لعوارض قد ذكرنا وسنذكرها أيضا إن شاء الله تعالى.
"فإن قيل" إنه في بيان خصوص اللفظ; ولهذا قال: الخاص لفظ وضع لكذا وما ذكر في هذا الباب من أقسام خصوص المعنى فكيف يستقيم أن يجعل من أقسام الخاص اللفظي "قلنا" لا يتم خصوص اللفظ إلا ببيان خصوص المعنى أعني تفرده; لأنه قال في تحديد الخاص لفظ وضع لمعنى واحد على الانفراد فلا بد من التعرض لجانب خصوص المعنى ليتم خصوص اللفظ; فلهذا جعله من أقسام الخاص.
واعلم أن صيغة الأمر استعملت لوجوه والمشهور منها ثمانية عشر وجها, للوجوب كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وللندب كقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] وللإرشاد إلى الأوثق كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] والفرق بين الإرشاد والندب أن الندب لثواب الآخرة والإرشاد للتنبيه على مصلحة الدنيا ولا ينقص ثواب بترك الإشهاد في المداينات ولا يزيد بفعله, وللإباحة كقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] وللإكرام كقوله

(1/163)


إلا بدليل زائد واحتجوا بأن صيغة الأمر استعلمت في معان مختلفة للإيجاب مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] وللندب مثل
ـــــــ
تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46] وللامتنان كقوله تعالى: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأنعام: 142] وللإهانة كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] وللتسوية كقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور: 16] وللتعجب كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] أي ما أسمعهم وما أبصرهم وللتكوين وكمال القدرة كقوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] وللاحتقار كقوله تعالى: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس: 80] وللإخبار كقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً} [التوبة: 82] وللتهديد كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] و {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ} [الاسراء: 64] ويقرب منه الإنذار كقوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُوا} [ابراهيم: 30]; وإن كان قد جعلوه قسما آخر, وللتعجيز كقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] وللتسخير كقوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] وللتمني كقول الشاعر:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
وللتأديب كقوله عليه السلام لابن عباس: رضي الله عنهما: "كل مما يليك" 1, وهو قريب من الندب إذ الأدب مندوب إليه, وللدعاء كقولك اللهم اغفر لي.
إذا عرفت هذا فنقول اتفقوا على أن صيغة افعل ليست حقيقة في جميع هذه الوجوه; لأن معنى التسخير والتعجيز والتسوية مثلا غير مستفاد من مجرد الصيغة بل إنما يفهم ذلك من القرائن, إنما الذي وقع الخلاف فيه أمور أربعة: الوجوب والندب والإباحة والتهديد فقال بعض الواقفية الأمر مشترك بين هذه الوجوه الأربعة بالاشتراك اللفظي كلفظ العين ونقل ذلك عن الأشعري في بعض الروايات وابن شريح من أصحاب الشافعي وبعض الشيعة وإلى هذا القول أشار الشيخ حيث جعل التوبيخ من مواجبه. وقيل هو مشترك بين الوجوب والندب والإباحة بالاشتراك اللفظي وقيل بالمعنوي, وهو أن يكون حقيقة في الإذن الشامل للثلاثة, وهو مذهب المرتضى2 من الشيعة فعلى هذين القولين
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الأطعمة 7/88 ومسلم في الأشربة حديث رقم 2022 وأبو داود في الأطعمة حديث رقم 3777 والترمذي في الأطعمة حديث رقم 1857.
2 المرتضى هو علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ولد سنة 355 وتوفي في 25 وبيع الأول انظر معجم المؤلفين 7/81 – 81.

(1/164)


..................................................
يكون في التهديد مجازا. وقيل هو مشترك في الإيجاب والندب لفظا, وهو منقول عن الشافعي, وقيل معنى بأن يجعل حقيقة في معنى الطلب الشامل لهما, وهو ترجيح الفعل على الترك, وقال أبو الحسن الأشعري: في رواية والقاضي الباقلاني والغزالي, ومن تبعهم لا يدرى أنه حقيقة في الوجوب فقط أو في الندب فقط أو فيهما معا بالاشتراك فعلى قول هؤلاء جميعا لا حكم له أصلا بدون القرينة إلا التوقف مع اعتقاد أن ما أراد الله تعالى منه حق; لأنه محتمل لازدحام المعاني فيه وحكم المجمل التوقف لا أن التوقف عند البعض في نفس الموجب وعند البعض في تعيينه, وقال مشايخ سمرقند: رئيسهم الشيخ أبو منصور رحمهم الله إن حكمه الوجوب عملا لا اعتقادا, وهو أن لا يعتقد فيه بندب ولا إيجاب بطريق التعيين بل يعتقد على الإبهام أن ما أراد الله تعالى منه من الإيجاب والندب فهو حق ولكن يؤتى بالفعل لا محالة حتى إنه إذا أريد به الإيجاب يحصل الخروج عن العهدة; وإن أريد به الندب يحصل الثواب فهذا بيان أقوال الواقفية, فأما عامة العلماء من الفقهاء والمتكلمين فقالوا: إنه حقيقة في واحد من هذه المعاني عينا من غير اشتراك ولا إجمال إلا أنهم اختلفوا في تعيينه فذهب الجمهور من الفقهاء وجماعة من المعتزلة كأبي الحسين البصري والجبائي في أحد قوليه إلى أنه حقيقة في الوجوب مجاز فيما عداه, وذهب جماعة من الفقهاء والشافعي في أحد قوليه وعامة المعتزلة إلى أنه حقيقة في الندب مجاز فيما سواه, وذهب طائفة إلى أنه حقيقة في الإباحة ونقل ذلك عن بعض أصحاب مالك رحمه الله.
قوله: "واحتجوا" أي الطائفة الأولى من الواقفية بأن صيغة الأمر استعملت في معان مختلفة, وهي ما ذكر في الكتاب من غير أن يثبت ترجيح أحدها على الباقي.
والأصل في الاستعمال الحقيقة فيثبت الاشتراك الذي هو من أقسام الإجمال عندهم فلا يجب العمل به إلا بدليل زائد يرجح أحد المعاني على سائرها لاستحالة ترجيح أحد المتساويين بلا مرجح, والتقريع التعجيز والإفحام والتوبيخ التهديد والفرق بينهما أن في التقريع لا يكون المأمور قادرا على إتيان المأمور به; ولهذا يلحق به افعل كذا إن استطعت كقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] {فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] والمراد منه النفي أي الإتيان بالسورة أو الشمس من المغرب ليس بموجود ومقدور أصلا وفي التوبيخ يكون المأمور قادرا على إتيان المأمور به كقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] فإن المأمور قادر على الكفر والإيمان جميعا إلا أن المأمور به في التوبيخ ليس بمطلوب بل المراد النهي منه أي لا تفعل هذا فإنك إن فعلته ستلحق بك عقوبته ولهذا يلحق به افعل

(1/165)


قوله: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] وللإباحة مثل قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وللتقريع مثل قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ
ـــــــ
فإنك تستحق به العقاب, ثم قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ} [الاسراء: 64] أي استخف واستزل وهيج من استطعت منهم على المعاصي بوسوستك ودعائك إلى الشر من قبيل التهديد لا من قبيل التقريع الذي ذكره الشيخ كذا في الكشاف والمطلع وعين المعاني وعامة التفاسير والتقويم وأصول شمس الأئمة وأصول أبي اليسر وغيرها ألا ترى أن اللعين قادر على الوسوسة والدعاء إلى الشر; وإن لم يكن قادرا على الإضلال والإغواء فأنى يكون هذا من باب التقريع, ولا حاجة إلى ذكر التقريع ههنا; وإن ذكر في بعض الكتب; لأنه في بيان المعاني الأصلية ليثبت الاشتراك على زعم الخصم وهذا من المعاني المجازية بالاتفاق فلا حاجة إلى ذكره.
وما ذكرنا هو المتمسك للباقين من القائلين بالاشتراك اللفظي إلا أنهم قالوا حمله على الإباحة أو التهديد الذي هو المنع بعيد; لأنا ندرك التفرقة في اللغات كلها بين قوله افعل وقوله لا تفعل وبين قوله إن شئت فافعل; وإن شئت لا تفعل حتى إذا قدرنا انتفاء القرائن كلها وقدرنا هذه الصيغة منقولة عن غائب لا في فعل معين من قيام أو قعود أو صلاة أو صيام حتى يتوهم فيه قرينة دالة بل في الفعل مطلقا سبق إلى فهمنا اختلاف معاني هذه الصيغ وعلمنا قطعا أنها ليست بألفاظ مترادفة على معنى واحد كما أنا ندرك التفرقة بين قولهم قام زيد ويقوم زيد في أن الأول للماضي والثاني للمستقبل, وإن كان قد يعبر بالماضي عن المستقبل وبالعكس لقرائن تدل, وكما ميزوا الماضي عن المستقبل ميزوا الأمر عن النهي وقالوا: الأمر قوله افعل والنهي لا تفعل; وإنهما لا ينبئان عن معنى قوله إن شئت فافعل; وإن شئت فلا تفعل. وهذا أمر نعلمه بالضرورة من اللغات فعلم بما ذكرنا أن قوله افعل يدل على ترجيح جانب الفعل على جانب الترك والتهديد الذي هو المنع خلافه, وكذا قوله أبحت لك إن شئت فافعل; وإن شئت فلا تفعل يرفع الترجيح فبقي الاشتراك بين الندب والوجوب.
ومن قال: إنه مشترك بالاشتراك المعنوي قال جعله حقيقة في الإذن المشترك بين الثلاثة أو الطلب المشترك بين الوجوب والندب أولى دفعا للاشتراك والمجاز, ثم الواقفية إنما قالوا بوجوب الصلاة بقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} بقرينة: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] وبما ورد من التهديدات في ترك الصلاة وما ورد من تكليف الصلاة في حال شدة الخوف والمرض إلى غير ذلك. وأما في الزكاة فقد اقترن بقوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}

(1/166)


اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} [الاسراء: 64] وللتوبيخ مثل قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وإذا اختلفت وجوهه لم يجب العمل به إلا بدليل ولعامة العلماء أن صيغة الأمر لفظ خاص من تصاريف الفعل, وكما أن العبارات لا تقصر عن المعاني, فكذلك العبارات في أصل الوضع مختصة بالمراد ولا يثبت الاشتراك إلا بعارض, فكذلك صيغة الأمر لمعنى خاص ثم الاشتراك إنما يثبت بضرب من الدليل المغير كسائر ألفاظ الخصوص.
ـــــــ
[التوبة: 34] الآية وأما في الصوم فبقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] وقوله عز اسمه : {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وإيجاب تداركه على الحائض, وكذلك الزنا والقتل وغيرهما من المحرمات وردت فيها تهديدات ودلالات تواردت على طول مدة النبوة لا تحصى.
قوله: "ولعامة العلماء" أي الذين قالوا بأن للأمر موجبا متعينا أن صيغة الأمر لفظ خاص من تصاريف الفعل, والأولى أن يقال صيغة الأمر أحد تصاريف الفعل كما قال شمس الأئمة; لأن النزاع وقع في خصوصه فلا يستقيم أن يجعل مقدمة الدليل, وكما أن العبارات لا تقصر عن المعاني حتى كانت كافية في الدلالة على المعاني ولم يحتج إلى شيء آخر على ما بيناه في الباب المتقدم فكذلك العبارات مختصة بالمعاني أي كل عبارة مختصة بمعنى في أصل الوضع والمراد بالمراد الجنس. ولا يثبت الاشتراك أي في العبارة إلا بعارض لما مر أن الغرض من وضع الكلام إفهام المراد للسامع والاشتراك يخل به فلم يكن أصلا ولكنه قد يقع بعارض, وهو تعدد الوضع مع غفلة الواضع إن كانت اللغات اصطلاحية, وذلك بأن كان الواضع نسي وضعه الأول وقد اشتهر ذلك إن كان الواضع متعددا وقد غفل كل واحد عن وضع صاحبه واشتهر الوضعان بين الأقوام, أو الابتلاء إن كانت توقيفية وقد مر بيانه, فكذلك صيغة الأمر لا بد أن تكون مختصة بمعنى خاص في أصل الوضع, واللام في المعنى إشارة إلى اختصاص الصيغة بالمعنى.
ثم الاشتراك يثبت بضرب من الدليل المغير كسائر ألفاظ الخصوص, السائر بمعنى الجميع يقال سائر الناس أي جميعهم كذا في الصحاح, أو بمعنى الباقي كما هو أصله فقد ذكر في الفائق أنه اسم فاعل من سأر إذا بقي ومنه السؤر وهذا مما يغلط فيه الخاصة فيضعه موضع الجميع والمصدر بمعنى الفاعل والتشبيه متعلق بقوله لمعنى خاص أي صيغة الأمر لمعنى خاص ولا يثبت الاشتراك والتغير فيها عن الوضع الأصلي إلا بعارض كجميع الألفاظ الخاصة أو باقيها; فإنها لمعان خاصة ولا يثبت الاشتراك والتغير فيها

(1/167)


ثم الفقهاء سوى الواقفية اختلفوا في حكم الأمر قال بعضهم حكمه الإباحة وقال بعضهم: الندب وقال عامة العلماء: حكمه الوجوب.
أما الذين قالوا بالإباحة قالوا إن ما ثبت أمرا كان مقتضيا لموجبه فيثبت
ـــــــ
إلا بدليل مغير كما قلنا. ويجوز أن يكون معناه كسائر الألفاظ التي يحصل بها الخصوص في العام, فيكون إضافة الألفاظ إلى الخصوص إضافة السبب إلى المسبب كقولك وقت الظهر والتشبيه متعلقا بقوله بضرب من الدليل المغير, وإلى هذا الوجه أشار شمس الأئمة فقال: فلا بد من أن يكون صيغة الأمر لمعنى خاص في أصل الوضع ولا يثبت الاشتراك فيه إلا بعارض مغير بمنزلة دليل الخصوص في العام, ويجوز أنه لم يرد بالاشتراك الاشتراك الحقيقي المصطلح; وإنما أراد به الاشتراك الصوري الذي يحدث للألفاظ بسبب الاستعارة بين المعنى الحقيقي والمجازي فإن لفظ الأسد باعتبار ظاهر الاستعمال مشترك بين الحيوان المخصوص وبين الشجاع وهذا الاشتراك لا يمنع خصوص اللفظ; وإنما يثبت بعدما ثبت خصوص اللفظ في معناه الموضوع له بدليل يقترن باللفظ أنه غير عن موضوعه الأصلي وأريد به هذا المعنى الآخر; ولهذا لا يخل هذا الاشتراك بالفهم; لأن قيام الدليل الذي يسمونه قرينة لازم له فيدل على المراد لا محالة بخلاف الاشتراك الحقيقي فإنه لا يثبت معه الخصوص ويثبت بالاستعمال الخالي عن القرينة; ولهذا يخل بالفهم ألا ترى أنك إذا قلت رأيت أسدا يفهم منه الهيكل المخصوص لا غير وإذا قلت رأيت أسدا يرمي يفهم منه الإنسان الشجاع لا غير فأما إذا قلت رأيت عينا فلا يفهم منه شيء معين, ثم الخصوم لما استدلوا باستعمال الأمر في المعاني المختلفة أنه مشترك حقيقي نظرا إلى أن الأصل في الاستعمال الحقيقة.
واستدل الشيخ على أنه خاص بأن الأصل في الكلام الخصوص دون الاشتراك أجاب عما تمسكوا به فقال بعدما ثبت خصوص الصيغة بما ذكرنا من الدليل وإليه أشار بقوله: ثم قد يثبت الاشتراك الصوري أي المجاز بالدليل المغير, وهو القرينة كسائر الألفاظ الخاصة تصرف إلى المجاز بالقرائن المنضمة إليها فيثبت بالاستعمال الذي تمسكتم به بعدما ثبت الخصوص هذا النوع من الاشتراك لا الاشتراك الحقيقي; لأنه لا يجتمع مع الخصوص, والحاصل أن الاستعمال يدل على الاشتراك وعلى المجاز فحمله على المجاز أولى; لأنه لا يخل بالفهم.
قوله: "وأما الذين قالوا بالإباحة" قالوا الفاء في جواب إما لازم لكن المشايخ قد يتركونها كثيرا; لأن نظرهم كان إلى المعنى لا إلى اللفظ كذا كان يقول شيخنا العلامة

(1/168)


أدناه, وهو الإباحة والذين قالوا بالندب قالوا لا بد مما يوجب ترجيح جانب الوجود وأدنى ذلك معنى الندب إلا أن هذا فاسد لأنه إذا ثبت أنه موضوع.
ـــــــ
مولانا حافظ الملة والدين نور الله مضجعه: قالوا: إن ما ثبت كونه أمرا أي الذي ثبت كونه أمرا من الصيغ الموضوعة, وقيل هو احتراز عن السؤال والدعاء والتوبيخ ونحوها فإن الصيغة في هذه المعاني ليست بأمر على الحقيقة باتفاق هؤلاء كان مقتضيا لموجبه لا محالة, فيثبت أدناه أي أدنى ما يصح أن يثبت بالأمر, وهو الإباحة كما إذا وكل رجلا في ماله يثبت به الحفظ; لأنه أدنى ما يراد بهذا اللفظ وهو متيقن, وفي التقويم قالوا: الأمر لطلب وجود المأمور به, ولا وجود له إلا بالائتمار فدل ضرورة على انفتاح طريق الائتمار عليه وأدناه الإباحة. وأما النادبون فقالوا: لا يجوز أن يكون موجبه الإباحة; لأن الأمر لطلب الفعل, ولا بد فيه من أن يكون جانب إيجاد الفعل راجحا على جانب الترك وليس في الإباحة ذلك; لأن كليهما فيها سواء ولما لم يكن بد من الترجح ولا يحصل ذلك إلا بالوجوب أو الندب يثبت أدناهما للتيقن به, ولا يثبت الزيادة; لأن معنى الطلب قد تحقق فلا معنى لإثبات صفة زائدة بعد من غير ضرورة; وإنما يحصل الترجيح بالندب لاقتضائه كون الفعل أحسن من الترك وتعلق الثواب به, قال الشيخ: رحمه الله إلا أن هذا أي القول بالندب مع دليله فاسد, خصه بالحكم بالفساد دون القول الأول; لأن دليل النادبين قد تضمن إفساد القول الأول فلا حاجة إلى التعرض له.
قوله: "لأنه" الضمير للشأن إذا ثبت أن الأمر موضوع لمعناه المخصوص, وهو طلب الفعل بما ذكر من الدليل كان الكمال أصلا في ذلك المعنى; لأن الناقص ثابت من وجه دون وجه وكماله بالوجوب لا بالندب; لأن استحقاق العقاب لما ترتب على تركه كترتب الثواب على فعله دل أن الفعل مطلوب الأمر من كل وجه فيثبت به كمال الطلب من جانبه, وكذا المطلوب, وهو الفعل يحصل به من جانب المأمور غالبا فأما الندب ففيه نقصان في جانب الطلب لعدم ترتب العقاب على تركه, وكذا لا يؤدي إلى وجود المطلوب غالبا, وإذا كان كمال الطلب في الوجوب وجب القول به إذ لا قصور في دلالة الصيغة على الطلب; لأنها موضوعة لذلك ولا في ولاية الأمر; لأنه مفترض الطاعة يملك الإلزام, وكان قوله لا قصور في دلالة الصيغة احتراز عن صيغة اقترن بها ما يمنع صرفها إلى الإيجاب مع كمال ولاية المتكلم كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40] فكان قصور الصيغة عبارة عن عدم دلالتها على موضوعها, وهو الإيجاب. وقوله ولا في ولاية المتكلم احتراز عما إذا اقترن بالمتكلم ما يمنع صرفها إلى الإيجاب مع كمال دلالتها عليه كما في الدعاء والالتماس, قال أبو اليسر: الأمر لفظ فكان

(1/169)


لمعناه المخصوص به كان الكمال أصلا فيه فثبت أعلاه على احتمال الأدنى إذ لا قصور في الصيغة ولا في ولاية المتكلم والحجة لعامة العلماء الكتاب والإجماع والدليل المعقول أما الكتاب قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]
ـــــــ
المراد به خاصا كاملا; لأن الأصل في الأشياء الكمال والنقصان بعارض والكمال إنما يكون بالوجوب; لأن الوجوب يحمله على الوجود فكان الوجود بواسطة الوجوب مضافا إلى الأمر السابق فمن جعل الأمر للإباحة أو الندب جعل النقصان أصلا والكمال بعارض, وهذا قلب القضية.
ولا حجة للنادبين في قوله عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم, وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا" 1 حيث فوض الأمر إلى مشيئتنا, وهو دليل الندبية; لأنا لا نسلم أنه رده إلى مشيئتنا بل رده إلى استطاعتنا, فإنه قال: {مَا اسْتَطَعْتُمْ} ولم يقل فافعلوا ما شئتم, وليس الرد إلى الاستطاعة من خواص المندوب بل كل واجب كذلك, ولما بين فساد شبهة الخصم شرع في بيان الاحتجاج على مذهبه ومدعاه; لأنه لا يلزم من إبطال مذهب الخصم صحة هذا القول فقال: والحجة لعامة العلماء وفي بعض النسخ الفقهاء, وهو أحسن لمطابقته قوله ثم الفقهاء سوى الواقفية, والإجماع أي دلالته; لأن الإجماع في صورة أخرى ولكن يلزم منه ثبوت الحكم في هذه الصورة قوله: "قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} " الآية قولنا مبتدأ وأن نقول خبره وكن ويكون من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود أي إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له احدث فهو يحدث عقيب ذلك بلا توقف. وهذا مثل; لأن مراد الله لا يمتنع عليه وأن وجوده عند إرادته غير متوقف كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع الممتثل ولا قول ثمة, والمعنى أن إيجاد كل مقدور على الله تعالى بهذه السهولة فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من شق المقدورات كذا في الكشاف وسمي المعدوم شيئا باعتبار ما يئول إليه, واعلم أن أهل السنة لا يرون تعلق وجود الأشياء بهذا الأمر بل وجودها متعلق بخلق الله وإيجاده وتكوينه وهو صفته الأزلية وهذا الكلام عبارة عن سرعة حصول المخلوق بإيجاده وكمال قدرته على ذلك بطريق الاستدلال بالشاهد يعني لو كان في قدرة البشر إيجاد الأشياء عن العدم بهذه الكلمة التي ليست في كلامهم ما هو أوجز في الدلالة على التكوين منها فيكون ما أرادوا وجوده عقيب المتكلم بهذه الكلمة بلا صنع آخر منهم
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الاعتصام 9/117 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1337 وابن ماجة في المقدمة حديث رقم 1 و2.

(1/170)


وهذا عندنا على أنه أريد به ذكر الأمر بهذه الكلمة والتكلم بها على الحقيقة لا مجازا عن الإيجاد بل كلاما بحقيقته من غير تشبيه ولا تعطيل وقد
ـــــــ
أليس يكون الإيجاد عليهم في غاية اليسر فتكوين العالم وأمثاله أيسر على الله بكثير, وعند الأشعري, ومن تابعه من متكلمي أهل الحديث وجود الأشياء متعلق بكلامه الأزلي وهذه الكلمة دالة عليه لا إن كانت من حرف وصوت أو كان لكلامه وقت أو حال تعالى عن ذلك كذا ذكر في شرح التأويلات في غير موضع, وهذا; لأنهم لما قالوا بأن التكوين عين المكون لم يمكنهم تعليق التكوين بالتكوين فعلقوه بالأمر, وعندنا لما كان التكوين صفة ثابتة أزلية أمكن تعليق الوجود به فلا حاجة إلى تعليقه بالأمر فجعلناه عبارة عن سرعة الإيجاد وسهولته. وذكر في التيسير في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] أنه تعالى لم يرد به أنه خاطبه بكلمة كن فيكون بهذا الخطاب; لأنه لو جعل خطابا حقيقة فأما أن يكون خطابا للمعدوم وبه يوجد أو خطابا للموجود بعدما وجد, لا جائز أن يكون خطابا للمعدوم; لأنه لا شيء فكيف يخاطب ولا جائز أن يكون خطابا للموجود; لأنه قد كان فكيف يقال له كن, وهو كائن; وإنما هو بيان أنه إذا شاء كونه كونه فكان.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن الشيخ رحمه الله إنما اختار في هذا الكتاب أن المراد بقوله كن حقيقة التكلم بهذه الكلمة لا أنه مجاز عن الإيجاد والتكوين موافقا لمذهب الأشعرية مخالفا لعامة أهل السنة; لأن التمسك بالآية في إثبات المطلوب على هذا القول أظهر, وعن هذا اختار للتمسك هذه الآية من بين سائر الآي التي فيها هذه الكلمة; لأنها أدل على أن المراد حقيقة التكلم إذ القول فيها مكرر مذكور في المبتدأ والخبر بخلاف سائر الآيات, فقال: وهذا عندنا أي معنى الآية عندنا, وأراد بقوله عندنا نفسه وأقر أنه دون السلف المتقدمين, على أن الضمير للشأن والظرف خبر المبتدأ مرفوع المحل, أريد به أي بالنص, ذكر الأمر إضافة المصدر إلى المفعول أي الأمر مذكور عند وجود الأشياء بهذه الكلمة التي هي أوجز الكلمات لا بكلمة أحدث وتكون ونحوهما., والتكلم معطوف على ذكر, والظرف وهو قوله على الحقيقة منصوب المحل على الحال وذو الحال الضمير في بها والتكلم هو العامل فيها أي أريد بالنص التكلم بهذه الكلمة حقيقة. وقوله لا مجازا وبل كلاما عطف على الظرف المنصوب المحل, ولو قيل لا مجاز وبل كلام بالرفع عطفا على الظرف المرفوع المحل, وهو قوله على أنه أريد به كذا لكان أحسن; لأن الخلاف إنما وقع في نفس التكلم أهو موجود عند وجود الأشياء أم لا لا في وصف التكلم أنه موجود بطريق الحقيقة أم هو موجود بطريق المجاز

(1/171)


أجرى سنته في الإيجاد بعبارة الأمر ولو لم يكن الوجود مقصودا بالأمر لما استقام قرينة للإيجاد بعبارة الأمر وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ
ـــــــ
ومجازا بالنصب يقتضي أن يكون الخلاف في الوصف لا في الأصل. وقوله من غير تشبيه نفي لقول الكرامية فإنهم يقولون إنه تعالى يصير متكلما بخلق الحروف والأصوات في ذاته وهذا يؤدي إلى تشبيه كلامه بكلام المخلوقين وتشبيه ذاته بذواتهم أيضا إذ يلزم منه أن يكون ذاته محل الحوادث كذوات المخلوقين تعالى عن ذلك علوا كبيرا, وقوله ولا تعطيل نفي لقول المعتزلة فإنهم أنكروا كلام النفس وقالوا إنه تعالى لم يكن متكلما في الأزل; وإنما صار متكلما بخلق هذه الحروف والأصوات في محالها وهذا يؤدي إلى التعطيل وقد مر شرحه, ثم شرع في بيان وجه التمسك بهذا النص فقال وقد أجرى سنته في الإيجاد بعبارة الأمر ولو لم يكن الوجود مقصودا من الأمر مقرونا به لما استقام أن يكون الوجود قرينة للإيجاد أي للآمر إذ الإيجاد ليس إلا الأمر على هذا القول, وذلك; لأن الفاء في مثل هذه الصورة لبيان أنه نتيجة للأول ثابت به كما يقال أطعمه فأشبعه وسقاه فأرواه فلو لم يكن الوجود مستفادا بالأمر; لكان قوله كن فيكون بمنزلة قولك سقيته فأشبعته وأطعمته فأرويته, وهذا لا يجوز خصوصا من الحكيم الذي لا يسفه.
وذكر بعض الشارحين أن مذهب الشيخ غير مذهب الأشعرية فإن عندهم وجود الأشياء بخطاب كن لا غير كما أن عند أهل السنة بالإيجاد لا غير ومذهب الشيخ أنه بالخطاب والإيجاد معا فكان هذا مذهبا ثالثا, والدليل عليه أن قوله وقد أجرى سنته إنما يستعمل فيما إذا أمكن أن يثبت ذلك الشيء بغير ذلك السبب كما أن إجراء السنة أن لا يوجد ولد بلا أب وقد أمكن أن يوجد بلا أب كما وجد عيسى عليه السلام كذلك, وقد قال هنا أجرى سنته في الإيجاد بعبارة الأمر, فذلك يقتضي أن يمكن ثبوت الوجود بدون الخطاب وليس هذا بمذهب الأشعرية, ولهذا صرف هذا الشارح الضمير المستكن في استقام إلى الآمر لا إلى الوجود وجعل الإيجاد على حقيقته لا عبارة عن الآمر وقال: معناه ولو لم يكن الوجود مقرونا بالآمر لما استقام الأمر قرينة للإيجاد يعني لو لم يكن للآمر أثر في الوجود كما أن للإيجاد أثرا فيه لم يستقم أن يضم الأمر إلى الإيجاد في تكون الأشياء ووجودها; لأن الشيء إنما يضم ويقرن بغيره لتحقيق موجب ذلك الغير إذا كان له أثر في ذلك فأما إذا لم يكن له أثر فلا يضم.
قال; فإن قيل فإذا حصل الوجود بالإيجاد فما فائدة هذا الأمر, قلنا إظهار العظمة والقدرة كما أنه تعالى يبعث من في القبور يبعثه ولكن وسطه نفخ الصور لإظهار العظمة,

(1/172)


بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] فقد نسب وأضاف القيام إلى الأمر وذلك دليل على حقية الوجود مقصودا بالأمر وقال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63]
ـــــــ
أو يقال دلت الدلائل العقلية على أن الوجود بالإيجاد ووردت النصوص القاطعة على أنه بهذا الأمر فوجب القول بموجبهما من غير اشتغال بطلب الفائدة كما أن في الآيات المتشابهة وجب الإيمان من غير اشتغال بالتأويل.
قال العبد الضعيف أصلحه الله إن كان معنى هذا الكلام ما ذكر هذا الشارح فلا يخلو من أن يتعلق الوجود بالآمر كما يتعلق بالإيجاد أو لا تعلق له به أصلا بل هو علامة تعرف بها الملائكة أن عنده يحدث خلق كما هو قول بعض المفسرين على ما ذكر في المطلع وعين المعاني; فإن كان الأول فلا يخلو من أن يكون كلاهما علة واحدة للوجود, وذلك لا يجوز; لأنه يؤدي إلى افتقار صفة الإيجاد إلى شيء آخر في إثبات موجبه وذلك دلالة النقصان تعالى صفاته عن ذلك.
ولا يلزم عليه الإرادة فإن الوجود موقوف على الإرادة أيضا كما هو موقوف على الإيجاد ولم يلزم منه نقصان صفة الإيجاد; لأن الإرادة من أسبابه أو شرائطه ولا تأثير لها في الوجود وكلامنا فيما هو مؤثر فيه ألا ترى أنه لا واسطة بين الوجود وبين الإيجاد أو الأمر على هذا المذهب فكان من قبيل العلل لا من قبيل الأسباب بخلاف الإرادة; لأن الوجود لا يضاف إليها بلا واسطة أو يكون كل واحد علة للوجود وثبوت معلول واحد بعلتين محال; وإن كان الثاني فلا يستقيم التمسك بهذا النص على المدعي; لأن الوجود لما تعلق بالإيجاد, ولم يتعلق بالخطاب لا يكون الوجود قرينة للأمر وحكما له فكيف يستدل به على أن الأمر للوجوب فثبت أن الأولى أن يجعل الوجود متعلقا بالخطاب لا بالإيجاد عند الشيخ كما هو مذهب الأشعري ليصح تمسكه بهذه الآية.
يؤيده ما ذكره شمس الأئمة أن المراد حقيقة هذه الكلمة عندنا لا أن يكون مجازا عن التكوين كما زعم بعضهم, فإنا نستدل به على أن كلام الله تعالى غير محدث ولا مخلوق; لأنه سابق على المحدثات أجمع يريد به ما تمسكت الأشعرية في إثبات أزلية كلام الله تعالى بهذه الآية فقالوا: إنه تعالى أخبر أنه خلق المخلوقات بخطاب كن فلو كان هذا مخلوقا لاحتاج إلى خطاب آخر, وكذا في الثاني والثالث إلى ما لا يتناهى.
وقد استدل الشيخ أيضا في نسخة أخرى بهذه الآية على أن الأمر للوجوب مع أنه جعل الأمر فيها كناية عن الإيجاد فقال كن صيغة الأمر والمراد من الأمر الإيجاد كنى

(1/173)


.....................................................
بالأمر عن الإيجاد والكناية لا يصح إلا لمشابهة بينهما ولا مشابهة بينهما إلا بطريق السببية, وهو أن يكون الأمر للإيجاب ثم الإيجاب حامل على الوجود فصار الوجود مضافا إلى الأمر بواسطة الوجوب, والفرق بينهما أن الطريق الأول يدل على أن أصل الأمر للوجود ثم نقل إلى الوجوب لما سنذكره والطريق الثاني يشير إلى أن أصله للوجوب ثم استعير للإيجاد استعارة السبب للمسبب.
"فإن قيل" فعلى ما اختار الشيخ في هذا الكتاب يلزم منه الأمر للمعدوم وذلك لا يصح لعدم شرطه, وهو الفهم ألا ترى أن الصبي والمجنون ليسا بمأمورين لعدم الفهم والمعدوم سواء حالا منهما. "قلنا" هذا أمر تكوين لا أمر تكليف فلا يتوقف على الفهم بل يتوقف على الإمكان ألا ترى أن أمر التكليف الذي من شرطه الوجود والفهم قد يتعلق بالمعدوم على معنى أن الشخص الذي سيوحد يصير مأمورا ومكلفا بالأمر الأزلي القائم بذات الله تعالى أو بأمر النبي السابق على زمان وجود هذا الشخص; ولهذا كنا مأمورين بأوامره عليه السلام; وإن كنا معدومين حينئذ, ومن أنكره فهو معاند, فكذلك يصح أمر التكوين على تقدير ما تصور كونه في علمه إلى هذا أشير في عين المعاني, وأجيب عنه أيضا بأن الأمر للمعدوم إنما لا يصح إذا لم يتعلق به فائدة وقد تعلق به أعظم الفوائد ههنا, وهو الوجود فلذلك صح.
وهل يسمى الأمر للمعدوم في الأزل أمرا وخطابا الحق أنه يسمى أمرا; لأن الأمر هو الطلب, وهو موجود في الأزل ولا يسمى خطابا عرفا فإنه يصح منا أن نقول أمرنا النبي عليه السلام بكذا ولا يصح أن نقول خاطبنا بكذا قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} الآية أي ومن آياته قيام السموات والأرض واستمساكهما بغير عمد, قال الفراء: أن تدوما قائمتين أي ثابتتين تماما لمنافع الخلق: {بِأَمْرِهِ} بأن أمرهما الله تعالى فقال لهما كونا قائمتين, وقيل بإقامته وتدبيره, وسياق كلام الشيخ يدل على أن القيام عبارة عن الوجود عنده.
ثم إن كان الأمر على حقيقته كما اختار ههنا فالتمسك ظاهر, وهو ما ذكر في الكتاب, "ومقصودا" حال عن الوجود والعامل فيها حقية إذ هي مصدر والتقدير حق الوجود مقصودا. وإن كان كناية عن الإيجاد فهو ما ذكر الشيخ في شرح التقويم أنه تعالى كنى بالأمر عن إيجاد السموات والأرض, فلا بد من مناسبة بينهما ولا طريق إلا أن يجعل الأمر إيجابا حتى يحمل المأمور على الإيجاد فيحصل الوجود فيصير الأمر سببا للوجود فيصح الكناية بطريق السببية وقد تقدم مثله قوله قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ} الآية يقال خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت معرض عنه وخالفني عنه إذا أعرض عنه وأنت قاصده, ويلقاك

(1/174)


وكذلك دلالة الإجماع حجة; لأن من أراد طلب فعل لم يكن في وسعه أن
ـــــــ
الرجل صادرا عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول خالفني إلى الماء يريد أنه قد ذهب إليه واردا وأنا ذاهب عنه صادرا.
فمن الأول قوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم.
ومن الثاني قوله عز ذكره: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] أي الذين يخالفون المؤمنين عن أمره أي يعرضون وهم المنافقون والمخالف لا بد له من مخالف فاستغنى عن ذكره بذكر المخالف عنه; لأن الغرض ذكر المخالف والمخالف عنه لا غير, والضمير في أمره لله سبحانه, أو للرسول عليه السلام, وهو الأظهر; لأنه بناء على قوله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور: 63] والدعاء على طريق العلو ممن هو مفترض الطاعة أمر, ويؤيده ما ذكر عن المبرد أن معناه لا تجعلوا أمره إياكم ودعاءه لكم إلى شيء كما يكون من بعضكم لبعض إذ كان أمره فرضا لازما قال ومثله قوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] وعلى هذا يكون المصدر مضافا إلى الفاعل: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63] محنة في الدنيا ويصيبهم عذاب أليم في الآخرة., ووجه التمسك أنه تعالى ألحق الوعيد بمخالفة أمر النبي عليه السلام مطلقا ومخالفة أمره هي ترك ما أمر به إذ المخالفة ضد الموافقة وموافقته إتيان بما أمر به فيكون مخالفته ترك ذلك, ولو لم يكن مخالفة أمره حراما مطلقا لما ألحق الوعيد به وإذا كان مخالفة أمره, وهي ترك المأمور به مطلقا حراما يكون الإتيان بالمأمور به واجبا ضرورة وإذا كان إتيان ما أمر به الرسول واجبا كان الإتيان بما أمر به الله تعالى كذلك بالطريق الأولى كذا في الميزان وغيره.
وفي التمسك بهذه الآية اعتراضات مع أجوبتها صفحنا عن ذكرها احترازا عن الإطناب "قوله", وكذلك دلالة الإجماع أي الإجماع في صورة أخرى يدل على ثبوت المطلوب ههنا, وهو أن العقلاء أجمعوا على أن من أراد أن يطلب فعلا من غيره لا يجد لفظا موضوعا لإظهار مقصوده سوى صيغ الأمر فهذا الإجماع يدل على أن المطلوب من الأمر وجود الفعل وأنه موضوع له, وإلا لم يستقم طلبهم الفعل من المأمور بهذه الصيغة فهذا هو المراد بدلالة الإجماع والدلالة تعمل عمل الصريح إذا لم يوجد صريح يخالفه فيثبت بها المدعي, ونظيره إثبات نجاسة سؤر الكلب بدلالة الإجماع, فإن الإجماع المنعقد على وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب يدل على نجاسة سؤره; لأن لسانه يلاقي الماء دون الإناء فلما تنجس الإناء فالماء أولى., ولا يقال لا نسلم أنهم لم يجدوا لفظا

(1/175)


يطلبه إلا بلفظ الأمر, والدليل المعقول أن تصاريف الأفعال وضعت لمعان على الخصوص كسائر العبارات فصار معنى المضي للماضي حقا لازما إلا بدليل
ـــــــ
لإظهار هذا المقصود سوى الأمر; لأن قولهم أوجبت عليك كذا أو ألزمت أو أطلب منك كذا وأمثالها يدل عليه أيضا ألا ترى أن النبي عليه السلام لو قال أوجبت عليكم كذا أو ألزمت كان ذلك بمنزلة قوله افعلوا كذا في وجوب الفعل بالاتفاق, لأنا نقول لا دلالة لما ذكرت على المطلوب من صيغ الأمر حقيقة; لأنه إخبار عن الإيجاب والطلب لا إنشاء وكلامنا فيه; ولهذا يجري فيه التصديق والتكذيب ولا مدخل لهما في الإنشاء إلا أنه قد يراد به الإنشاء, ويصير كناية عن الأمر فحينئذ يثبت به الإلزام بطريق الاقتضاء كما عرف وصار معناه أوجبت عليك كذا لأني أمرتك به, كسائر العبارات من الأسامي مثل رجل وفرس وحمار والحروف مثل من وعن وإلى وعلى, إلا بدليل كلحوق حرف الشرط به في قولك إن فعلت كذا فعبدي حر وكعدم إمكان إجرائه على حقيقته مثل الإخبار عن أمور القيامة بصيغة الماضي كقوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34] {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الزمر: 71] {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [الزمر: 73], عبر بها عن الماضي لتحققه وكونه ثابتا لا محالة كأنه تحقق ومضى, وكذلك الحال أي كما أن معنى المضي للماضي لازم, فكذلك معنى الحال لصيغة المضارع لازم إلا بدليل, واحتمال أن يكون المضارع للاستقبال لا يخرجه عن موضوعه, وهو الحال وهذا على مذهب بعض النحاة وبعض الفقهاء فإنهم قالوا في قول الرجل كل مملوك أملكه فهو حر أنه يتناول ما هو في ملكه في الحال ولا يتناول ما سيملكه على ما عرف في شرح الجامع الصغير, فكذلك صيغة الأمر لطلب المأمور به فيكون المأمور به حقا لازما بالأمر في أصل الوضع ليفيد الأمر فائدته., وقوله ألا ترى متصل بقوله حقا لازما, أو هو توضيح لما ثبت بهذه الدلائل;; لأن جميعها يدل على أن موجب الأمر هو الوجود إلا قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ} [النور: 63] فإنه يدل على أن موجبه الوجوب فاستوضح ذلك بقوله ألا ترى أن الأمر فعل متعد إلى آخره.
"فإن قيل" لا يستقيم أن يكون الائتمار أي الامتثال لازما للأمر; لأنه إن أراد به اللازم اللغوي فالائتمار ليس كذلك; لأنه متعد يقال ايتمر زيد عمرا واللازم إنما سمي لازما للزومه على الفاعل وعدم تعديه إلى الغير, وإن أراد به اللازم الحقيقي الذي ينتفي الملزوم بانتفائه فالائتمار ليس كذلك أيضا; لأن الأمر يتحقق بدون الامتثال ألا ترى أن الأمر قد يتحقق من الله تعالى للكفارة بالإيمان بدون الائتمار منهم ولهذا صح أن يقال أمرته فلم

(1/176)


وكذلك الحال واحتمال أن يكون من الاستقبال لا يخرجه عن موضوعه, فكذلك صيغة الأمر لطلب المأمور به فيكون حقا لازما به على أصل الوضع ألا ترى أن الأمر فعل متعد لازمه ائتمر, ولا وجود المتعدي إلا أن يثبت لازمه كالكسر لا يتحقق إلا بالانكسار فقضية الأمر لغة أن لا يثبت إلا بالامتثال إلا أن ذلك لو ثبت بالأمر نفسه لسقط الاختيار من المأمور أصلا
ـــــــ
يأتمر كما صح أن يقال أمرته فائتمر ولا يصح أن يقال كسرته فلم ينكسر "قلنا" أنا لا ننكر أن الائتمار متعد في ذاته ولكن ما هو متعد إلى مفعول واحد قد يكون لازما بالنسبة إلى ما هو متعد إلى مفعولين للزومه على الفاعل والمفعول الواحد وعدم تعديه إلى المفعول الآخر فيصلح أن يكون لازما أي مطاوعا لما هو متعد إلى مفعولين كما يقال علمته القرآن فتعلمه وأطعمته الطعام فطعمه وكسوته الثوب فاكتساه والأمر متعد إلى مفعولين إلى أحدهما بنفسه وإلى الآخر بالباء يقال أمرت زيدا بكذا فيصلح أن يكون الائتمار لازما له, وأما قوله الائتمار ليس بلازم حقيقي له لتحقق الأمر بدونه فالجواب عنه ما ذكر في الكتاب. وهو أن الائتمار لازم الأمر في الأصل لما ذكرنا أن المقصود منه حصول الفعل كما أن الغرض من الكسر حصول الانكسار ولهذا يقال أمرته فائتمر كما يقال كسرته فانكسر فكما لا يتحقق الكسر بدون الانكسار فكذلك ينبغي أن لا يتحقق الأمر بدون الائتمار بالنظر إلى الأصل إلا أن الائتمار لو جعل لازم الأمر كما هو مقتضى الأصل حتى يثبت الائتمار بنفس الأمر لسقط الاختيار من المأمور أصلا وصار ملحقا بالجمادات وفيه نزوع إلى مذهب الجبر فلذلك نقل الشرع حكم الوجود, وهو كونه لازما للأمر عنه إلى الوجوب لكونه مفضيا إلى الوجود نظرا إلى العقل والديانة فصار الوجوب لازما للأمر بعدما كان الوجود لازما له. وقوله حقا أي ثابتا حال عن الوجوب, وقوله بالأمر متعلق بحقا قال الشيخ رحمه الله في نسخة أخرى فاجتمع ههنا ما يوجب الوجود عقيب الأمر وما يوجب التراخي; لأن اعتبار جانب الأمر يوجب الوجود عقيبه واعتبار كون المأمور مخاطبا مكلفا يوجب التراخي إلى حين إيجاده فاعتبرنا المعنيين وأثبتنا بالأمر آكد ما يكون من وجوه الطلب, وهو الوجوب خلفا عن الوجود وقلنا بتراخي حقيقة الوجود إلى اختياره وقال أبو اليسر: الائتمار من حكم الأمر كما أن الانكسار من حكم الكسر إلا أن حصوله بفعل مختار فيقتضي وجوب الفعل حتى يحصل الائتمار فإن الائتمار لا يحصل بدونه والدليل على أنه من حكم الأمر أن المأمور إذا لم يكن ذا اختيار في الائتمار يحصل الائتمار عقيب الأمر بلا واسطة كالانكسار عقيب الكسر قال الله تعالى لقوم موسى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] وقد حصل الائتمار عقيب

(1/177)


وللمأمور عندنا ضرب من الاختيار; وإن كان ضروريا فنقل حكم الوجود إلى الوجوب حقا لازما بالأمر لا يتوقف على اختيار المأمور توقف الوجود على اختيار المأمور صيانة واحترازا عن الجبر; فلذلك صار الأمر للإيجاب ولو وجب التوقف في حكم الأمر لوجب في النهي فيصير حكمهما واحدا, وهو باطل وما اعتبره
ـــــــ
الأمر وقد أنبأنا عن الائتمار عقيب الأمر في قوله عز ذكره: {كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] وجعل القيام موجب الأمر فيما لا اختيار له في قوله عز اسمه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] فعرفنا أن الائتمار موجب الأمر كما أن الانكسار موجب الكسر.
قوله: "وللمأمور ضرب من الاختيار" إنما قال ذلك; لأن الاختيار المطلق الكامل لله تعالى واختيار العبد تابع لذلك قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] وقال الشيخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله: في بيان الاعتقاد بالفارسية آن مختاري كه جملة مختاران باختيار خود جزان نكند كه أو خواهد ويجوز أن يكون هذا معنى قوله: وإن كان ضروريا يعني لما لم يسع للعبد أن يختار خلاف ما أراده الله تعالى منه كان مضطرا في ذلك الاختيار كالمكره على المشي إلى المقتل فإنه مختار في رفع الأقدام حقيقة, وفي حمله على هذا الوجه نفي مذهب الجبرية والقدرية جميعا فإن الفرقة الأولى نفت اختيار العبد أصلا والفرقة الثانية أثبتوه مطلقا حتى كان للعبد أن يختار خلاف ما أراد الله تعالى منه عندهم فأثبت الشيخ أمرا بين أمرين كما هو دأب أهل السنة في ترك الغلو والتقصير, ويجوز أن يكون معناه أن العبد مضطر في ثبوت هذه الصفة له كما هو مضطر في كونه عاقلا وجاهلا وأبيض وأسود وطويلا وقصيرا; لأنه ليس في وسعه إثبات هذه الصفة ولا نفيها كما ليس في وسعه إثبات تلك الصفات ولا نفيها, ولما فرغ عن إقامة الدليل على مدعاه وإلى الفراغ أشار بقوله والله أعلم شرع في الجواب عن شبهة الواقفية, فقال ولو وجب التوقف في حكم الأمر لوجب في حكم النهي لوجود الداعي إليه على ما زعمتم, وهو استعماله في معان مختلفة, مثل التحريم كقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا} [آل عمران: 130] والكراهة كالنهي عن الصلاة في أرض مغصوبة وعن الصلاة في ثوب واحد, والتنزيه كقوله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] والتحقير كقوله تعالى {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ} [طه: 131] وبيان العاقبة كقوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا} [التوبة: 66] والإرشاد كقوله تعالى: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] والشفقة كالنهي عن اتخاذ الدواب كراسي والمشي في نعل

(1/178)


الواقفية من الاحتمال يبطل الحقائق كلها, وذلك محال ألا ترى أنا لم ندع أنه محكم وإذا أريد بالأمر الإباحة أو الندب فقد زعم بعضهم أنه حقيقة وقال الكرخي: والجصاص: بل هو مجاز; لأن اسم
ـــــــ
واحد وحينئذ يصير حكمهما واحدا وهو باطل; لأنهما ضدان بإجماع أهل اللسان ويستحيل أن يكون الأثر الثابت بالضدين شيئا واحدا.
قوله: "يبطل الحقائق كلها"; لأنه ما من كلام إلا وفيه احتمال قريب أو بعيد من نسخ أو خصوص أو مجاز فلو أوجب مجرد الاحتمال التوقف لتعطلت النصوص وأحكام الشرع وذلك باطل قوله: "ألا ترى أنا لم ندع أنه محكم" أي نحن ما أنكرنا احتمال صيغة الأمر غير ما وضع له من الوجوب حيث لم نقل إنه محكم ولكنا أنكرنا ثبوت المحتمل عند عدم الدليل كما حققناه في أول باب الخصوص.
قوله: "وإذا أريد بالأمر الإباحة والندب" إلى قوله, وهذا أصح, جمع الشيخ بين الإباحة والندب وبين الخلاف فيهما على نمط واحد ونحن نبين كل فصل على حدة فنقول اختلف القائلون بأن الأمر للوجوب في أنه إذا أريد به الندب كان حقيقة فيه أو مجازا فذهب عامة أصحابنا وجمهور الفقهاء إلى أنه مجاز فيه, وهو اختيار الشيخ أبي الحسن الكرخي وأبي بكر الجصاص وشمس الأئمة السرخسي وصدر الإسلام أبي اليسر والمحققين من أصحاب الشافعي., قال أبو اليسر: قال أبو حنيفة وأصحابه وعامة الفقهاء إن الأمر إذا أريد به الندب فهو مجاز فيه, وذهب بعض أصحاب الشافعي وجمهور أصحاب الحديث إلى أنه حقيقة فيه وإليه مال الشيخ, وشبهتهم أن المندوب بعض الواجب; لأن الواجب هو ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه والندب ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه, فإذا أريد به الندب فقد أريد به بعض ما يشتمل عليه الوجوب فكان حقيقة فيه كما لو أريد من العام بعضه يكون حقيقة فيه وكما لو أطلق لفظ الإنسان على الأعمى والأشل ومقطوع الرجل يكون حقيقة; وإن فات بعضه, وكيف لا ومن شرط المجاز أن يكون المعنى المجازي مغايرا للمعنى الحقيقي وهذا هو عين المعنى الحقيقي; لأنه جزؤه إلا أنه قاصر فكيف يكون اللفظ فيه مجازا; ولأن من شرط ثبوت المجاز انتفاء الحقيقة بالكلية فما بقي شيء من الحقيقة لا يتحقق الشرط فلا يتحقق المجاز.
وحجة الجمهور أن الأمر حقيقة في الإيجاب, فإذا استعمل في غيره يكون مجازا كما لو استعمل في التهديد, والدليل على أن الندب غير الإيجاب أن من لوازم الإيجاب استحقاق العقوبة على الترك ومن لوازم الندب عدم استحقاقها على الترك وباشتراكهما في استحقاق الثواب لا ينتفي هذه الغيرية فثبت أنه مجاز فيه ألا ترى أنه يصح نفيه فإنه لو قال ما أمرت بصلاة الضحى ولا بصوم أيام الحيض يصح ولا يكذب بخلاف ما لو قال ما

(1/179)


الحقيقة لا يتردد بين النفي والإثبات فلما جاز أن يقال إني غير مأمور بالنفل دل أنه مجاز لأنه جاز أصله وتعداه
ـــــــ
أمرت بالصلوات الخمس ولا بصيام رمضان فإنه يكذب بل يكفر وصحة التكذيب والنفي من خواص المجاز.
وليس هذا كالعام إذا أريد به بعضه فإنه حقيقة فيه; لأنه موضوع لشمول جمع من المسميات لا لاستغراقها عندنا والشمول موجود في البعض والكل حتى إن من شرط الاستغراق فيه يقول إنه مجاز في البعض أيضا., وكذا لفظ الإنسان موضوع بإزاء معنى الإنسانية وبالعمى والشلل لا ينتقض ذلك المعنى بخلاف الأمر فإنه موضوع للطلب المانع من النقيض والندب مغاير له لا محالة, ولا نسلم أن من شرط المجاز انتفاء الحقيقة بالكلية بل الشرط انتفاء الكلية وذلك يحصل بانتفاء جزء منها كما يحصل بانتفاء كلها, يوضحه أن أهل اللسان اتفقوا على أن إطلاق اسم الكل على البعض من جهات المجاز ولو كان الانتفاء بالكلية شرطا لما صح هذا القول منهم. وأما إذا أريد به الإباحة فقد ذكر عبد القاهر البغدادي1 في أصوله أن المباح غير مأمور به عند جمهور الأمة سوى طائفة من المعتزلة البغدادية وهذا قول شاذ خارج عن الإجماع وذكر أبو اليسر وصاحب الميزان أنه إذا أريد به الإباحة فهو مجاز فيه بالإجماع; لأن الأمر طلب تحصيل المأمور به وليس في الإباحة طلب بل معناه التخيير بين الشيئين إن شاء فعل; وإن شاء لم يفعل فلم يكن أمرا بل كان إرشادا فكان مجازا فيه بالإجماع بخلاف ما إذا أريد به الندب فإن فيه طلب تحصيل المندوب إليه.
والحاصل أن الحكم بأنه حقيقة في الإباحة مع القول بأنه حقيقة في الوجوب لا يصح إلا بأن يجعل مشتركا بين الإيجاب والندب والإباحة بالاشتراك اللفظي أو بالمعنوي, وهو أن يجعل موضوعا للإذن المشترك بين الثلاثة كما هو مذهب بعض الشيعة, وكذا القول بأنه حقيقة في الندب مع كونه حقيقة في الوجوب لا يمكن إلا بأن يجعل مشتركا بينهما بالاشتراك اللفظي أو المعنوي بأن يجعل موضوعا لمطلق الطلب كما هو مذهب بعض أصحابنا من مشايخ سمرقند ومذهب بعض أصحاب الشافعي فأما من جعله خاصا في الوجوب عينا فلا يمكنه القول بأنه حقيقة في غيره إليه أشير في الميزان.
وإذا حققت ما ذكرنا عرفت أن الخلاف فيهما ليس على نمط واحد كما أشار إليه
ـــــــ
1 هو عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن عبد الله التميمي البغدادي الشافعي أبو منصور الفقيه المتكلم الأشعري توفي سنة 429 هـ انظر وفيات الأعيان 1/375.

(1/180)


ووجه القول الآخر أن معنى الإباحة أو الندب من الوجوب بعضه في التقدير كأنه قاصر لا مغاير; لأن الوجوب ينتظمه وهذا أصح.
ويتصل بهذا الأصل أن الأمر بعد الحظر لا يتعلق بالندب والإباحة
ـــــــ
الشيخ في قوله وزعم بعضهم, وعرفت أيضا أن قوله وهذا أصح مخالف لقول العامة بل للإجماع على ما ذكره أبو اليسر ووجهه ما ذكر في بعض الشروح أن الندب والإباحة ليسا بمغايرين للوجوب; لأن الغيرين موجودان جاز وجود أحدهما بدون الآخر على ما عرف في مسألة الصفات والوجوب لا يتصور بدون الإباحة والندب فلم يكونا مغايرين للوجوب; فلهذا كان الأمر حقيقة فيهما وظهر مما ذكرنا أنه لم يتجاوز عن موضوعه فكيف يسمى مجازا, ولكن لقائل أن يقول قد بينا أن معنى الندب الثواب على الفعل وعدم العقاب على الترك ومعنى الإباحة التخيير بين الفعل والترك والوجوب يتصور بدون هذين المعنيين بل لا يثبت معهما كما يتصور الندب والإباحة بدون الوجوب فكان مغايرا لهما ألبتة فيكون مجازا فيهما.
وقوله زعم معناه قال لكن من عادة العرب أن من قال كلاما, وكان عندهم كاذبا فيه قالوا زعم فلان وإذا كان صادقا عندهم قالوا قال فلان ومنه قيل زعم كنية الكذب, وفي التحقيق الزعم ادعاء العلم بالشيء ولا علم ومنه قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن: 7] وقوله عليه السلام: "بئس مطية الرجل زعموا" 1.
ـــــــ
1 اخرجه أبو داود في الأدب حديث رقم 4972 والإمام أحمد في المسند 4/119 والبخاري في الأدب المفرد حديث رقم 762.

(1/181)


"الأمر بعد الخطر"
قوله: "ويتصل بهذا الأصل" أي بالأمر إذ هو أصل عظيم من أصول الفقه, واعلم أن جمهور الأصوليين على أن موجب الأمر المطلق قبل الحظر وبعده سواء فمن قال بأن موجبه التوقف أو الندب أو الإباحة قبل الحظر فكذلك يقول بعده, ومن قال بأن موجبه الوجوب قبل الحظر فعامتهم على أن موجبه الوجوب بعد الحظر أيضا, وذهبت طائفة من أصحاب الشافعي إلى أن موجبه قبل الحظر الوجوب وبعده الإباحة وعليه دل ظاهر قول الشافعي في أحكام القرآن كذا ذكره صاحب القواطع, هذا هو المشهور المذكور في عامة الكتب, ورأيت في نسخة من أصول الفقه أن الفعل إن كان مباحا في أصله ثم ورد حظر معلق بغاية

(1/181)


لا محلة بل هو للإيجاب عندنا إلا بدليل استدلالا بأصله وصيغته ومنهم من قال بالندب والإباحة لقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}
ـــــــ
أو بشرط أو لعلة عرضت فالأمر الوارد بعد زوال ما علق الحظر به يفيد الإباحة عند جمهور أهل العلم كقوله تعالى: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]; لأن الصيد كان حلالا على الإطلاق ثم حرم بسبب الإحرام فكان قوله تعالى: {فَاصْطَادُوا} إعلاما بأن سبب التحريم قد ارتفع وعاد الأمر إلى أصله; وإن كان الحظر واردا ابتداء غير معلل بعلة عارضة ولا معلق بشرط ولا غاية فالأمر الوارد بعده هو المختلف فيه., وذكر في المعتمد الأمر إذا ورد بعد حظر عقلي أو شرعي أفاد ما يفيد لو لم يتقدمه حظر من وجوب أو ندب وقال بعض الفقهاء إنه يفيد بعد الحظر الشرعي الإباحة وهذا الكلام يشير إلى أنه لا خلاف في الحظر العقلي أنه لا يدل على أن الأمر للإباحة مثل الأمر بالقتل والذبح.
احتج من قال بأنه يفيد الإباحة بأن هذا النوع من الأمر للإباحة في أغلب الاستعمال كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10] {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] وقوله عليه السلام: "كنت نهيتكم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت ألا فانتبذوا" 1 وكقول الرجل لعبده ادخل الدار بعدما قال له لا تدخل الدار, فإنه يفهم منه الإباحة دون الوجوب, وهذا; لأن الحظر المتقدم قرينة دالة على أن المقصود رفع الحظر لا الإيجاب كما أن عجز المأمور قرينة دالة على أن المقصود ظهور عجزه لا وجود الفعل فصار كأن الآمر قال قد كنت منعتك عن كذا فرفعت ذلك المنع وأذنت لك فيه.
واحتج العامة بأن المقتضي للوجوب قائم, وهو الصيغة الدالة على الوجوب إذ الوجوب هو الأصل فيها والعارض الموجود لا يصلح معارضا لذلك; لأنه كما جاز الانتقال من المنع إلى الإذن جاز الانتقال منه إلى الإيجاب والعلم به ضروري, كيف وقد ورد الأمر بعد الحظر للوجوب أيضا كقوله تعالى {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] وقوله عز اسمه: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} [الأحزاب: 53] وكالأمر للحائض والنفساء بالصلاة والصوم بعد زوال الحيض والنفاس. وكالأمر بالصلاة بعد زوال السكر, وكالأمر بالقتل في شخص حرام القتل بالإسلام أو الذمة بارتكاب أسباب موجبة للقتل من الحراب والردة وقطع الطريق, وكالأمر بالحدود بسبب الجنايات بعدما كان ذلك
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الأشربة حديث رقم 63 و64 و65 وابن ماجه في الأشربة حديث رقم 3450 والترمذي في الأشربة حديث رقم 1869.

(1/182)


[المائدة: 2] لكن ذلك عندنا بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] ارتدها لا بصيغته ابن سيرين نسخة ومن هذا الأصل الاختلاف في الموجب.
ـــــــ
محظورا, وكقول الرجل لعبده اسقني بعدما قال له لا تسقني فهذا كله يفيد الوجوب; وإن كان بعد الحظر فثبت بما ذكرنا أن الحظر المتقدم لا يصلح قرينة لصرف الصيغة عن الوجوب إلى الإباحة كما أن الإيجاب المتقدم لا يصلح قرينة لصرف النهي الوارد بعده عن التحريم إلى الكراهة أو التنزيه بالاتفاق; وإنما فهم الإباحة فيما ذكروا من النظائر بقرائن غير الحظر المتقدم, فإنه لولا الحظر المتقدم لفهم منها الإباحة أيضا, وهي أن الاصطياد وأخواتها شرعت حقا للعبد, فلو وجبت عليه لصارت حقا عليه فيعود الأمر على موضوعه بالنقض; ولهذا لم يحمل الأمر بالكتابة عند المداينة ولا الأمر بالإشهاد عند المبايعة على الإيجاب; وإن لم يتقدمه حظر لئلا يصير حقا علينا بعدما شرع حقا لنا.
قوله: "ومنهم من قال بالندب والإباحة" إنما جمع الشيخ بين الندب والإباحة; وإن لم يوجد القول بالندب في عامة الكتب; وإنما المذكور فيها الإباحة فقط; لأنه قد قيل في قوله تعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] إنه أمر ندب حتى قيل يستحب القعود في هذه الساعة لندب الله تعالى إلى ذلك وقال سعيد بن جبير إذا انصرفت من الجمعة فساوم بشيء.; وإن لم تشتره, وعن ابن سيرين قال إنه ليعجبني أن يكون لي حاجة يوم الجمعة فأقضيها بعد الانصراف كذا في التيسير, وذكر شمس الأئمة رحمه الله في شرح كتاب الكسب أنه أمر إيجاب فقال أصل الكسب فريضة بقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] يعني الكسب والأمر حقيقة في الوجوب, قال وما ذكرنا من التفسير مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: "طلب الكسب بعد الصلاة هو الفريضة بعد الفريضة وتلا قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} 1 [الجمعة: 10]" الآية وما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن شئت فاخرج; وإن شئت فصل إلى العصر وإن شئت فاقعد يدل على أنه أمر إباحة.
قوله: "ومن هذا الأصل الاختلاف في الموجب" أي ومما يتعلق بالخاص الاختلاف في موجب الأمر في معنى التكرار قد يثبت بما ذكر في البابين أن الصيغة مخصوصة بالوجوب, وأن الوجوب مختص بهذه الصيغة ولا يثبت بغيرها فبعد ذلك اختلفوا في أن ذلك الوجوب المختص بالصيغة يوجب العموم والتكرار أم يوجب فعلا واحدا خاصا حقيقة أو حكما وهذا الباب لبيانه.
ـــــــ
1 ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10/291 والطبراني في الكبير 10/9993.

(1/183)