كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية

"باب العزيمة والرخصة"
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه العزيمة في الأحكام الشرعية اسم لما هو أصل منها غير متعلق بالعوارض سميت عزيمة ; لأنها من حيث كانت أصولا
ـــــــ
"باب العزيمة والرخصة"
اختلفت عبارات الأصوليين في تفسير العزيمة والرخصة بناء على أن بعضهم جعلوا الأحكام منحصرة على هذين القسمين وبعضهم لم يجعلوها كذلك. فبعض من حصرها عليهما قال العزيمة الحكم الثابت على وجه ليس فيه مخالفة دليل شرعي. والرخصة الحكم الثابت على خلاف الدليل لمعارض راجح. واعترض عليه بجواز النكاح فإنه حكم ثابت على خلاف الدليل إذ الأصل في الحرة عدم الاستيلاء عليها. وبوجوب الزكاة والقتل قصاصا فإن كل واحد ثابت على خلاف الدليل إذ الأصل حرمة التعرض في مال الغير ونفسه ولا يسمى شيء منها رخصة.
وقيل: العزيمة ما سلم دليله عن المانع , والرخصة ما لم يسلم عنه. وبعض من لم يعتبر الانحصار قال العزيمة ملزم العباد بإيجاب الله تعالى كالعبادات الخمس ونحوها والرخصة ما وسع للمكلف فعله لعذر فيه مع قيام السبب المحرم. فاختصت العزيمة بالواجبات على هذا التفسير , وخرج الندب والكراهة عن العزيمة من غير دخول في الرخصة فلم ينحصر الأحكام في القسمين. وعليه يدل كلام القاضي الإمام أيضا فإنه قال العزيمة ما لزمناه من حقوق الله تعالى من العبادات والحل والحرمة أصلا بحق أنه إلهنا ونحن عبيده فابتلانا بما شاء. والرخصة إطلاق بعد حظر بعذر تيسيرا.
ثم أول كلام الشيخ يشير إلى أنه اعتبر الانحصار حيث قال , وأحكام هذه الأقسام ينقسم إلى قسمين ولا شك أن الإباحة والكراهة من أحكام هذه الأقسام كوجوب الفعل والترك فتدخلان في القسمين , وكذا تفسيره العزيمة والرخصة يدل عليه أيضا فإن حاصل معناهما على ما ذكر العزيمة ما هو أصل من الأحكام والرخصة ما ليس بأصل. أو العزيمة ما لم يتعلق بالعوارض والرخصة بخلافه , وهذا يدل على انحصار الأحكام فيهما كما ترى

(2/433)


كانت في نهاية التوكيد حقا لصاحب الشرع , وهو نافذ الأمر واجب الطاعة والرخصة اسم لما بني على أعذار العباد وهو ما يستباح بعذر مع قيام المحرم والاسمان معا دليلان على المراد. أما العزم فهو القصد المتناهي في التوكيد
ـــــــ
لكن آخر كلامه , وهو تقسيمه العزيمة يدل على خلافه ; لأن الإباحة لم تذكر في هذا التقسيم , ولا في تقسيم الرخصة فكان مشتبها. إلا أن يقال الأحكام منحصرة في القسمين عنده كما يدل عليه أول كلامه , والإباحة داخلة في العزيمة لوكادة شرعيتها كالنفل إذ ليس إلى العباد رفعها لا أن الشيخ لم يذكرها في تقسيم العزيمة ; لأن غرضه بيان ما تعلق به الثواب من العزائم وذلك في الأقسام المذكورة دون الإباحة ; لأنها تتعلق بمصالح الدنيا. وقوله العزيمة اسم لما هو أصل منها أي من الأحكام تمام التعريف. وقوله غير متعلق بالعوارض تفسير لأصالتها لا تقييد. ويدخل في هذا التعريف ما يتعلق بالفعل كالعبادات , وما يتعلق بالترك كالحرمات. ويؤيده ما ذكره صاحب الميزان بعد تقسيم الأحكام إلى الفرض والواجب والسنة والنفل والمباح والحرام والمكروه وغيرها أن العزيمة اسم للحكم الأصلي في الشرع على الأقسام التي ذكرنا من الفرض والواجب والسنة والنفل ونحوها لا لعارض سميت أي الأحكام الأصلية عزيمة. ; لأنها من حيث كانت أصولا أي مشروعة ابتداء. حقا لصاحب الشرع مفعول له أي كانت في نهاية التوكيد من حيث إنها كانت أصولا لأجل أنها حق له أو هو مصدر مؤكد لغيره. وهو نافذ الأمر واجب الطاعة فكان أمره مفترض الامتثال وشرعه واجب القبول فكان مؤكدا. وقوله والرخصة اسم لما بني على أعذار العباد تعريف الرخصة. وقوله , وهو ما يستباح مع قيام المحرم تفسير له يعني أريد بقوله ما بني على أعذار العباد ما يستباح بعذر مع قيام المحرم. فقوله ما يستباح عام يتناول الفعل والترك. وقوله لعذر احتراز عما أبيح لا لعذر ونظائره كثيرة. وقوله مع قيام المحرم احتراز عن مثل الصيام عند فقد الرقبة في الظهار إذ لا يمكن دعوى قيام السبب المحرم عند فقد الرقبة مع استحالة التكليف بإعتاقها حينئذ بل الظهار سبب لوجوب الإعتاق في حالة ولوجوب الصيام في حالة أخرى. واعترض عليه بأنه إن أريد بالاستباحة الإباحة بدون الحرمة فهو تخصيص العلة ; لأن قيام المحرم بدون حكمه لمانع تخصيص له. وإن أريد بها الإباحة مع قيام الحرمة فهو جمع بين المتضادين وكلاهما فاسد. ولا يفيد تغيير العبارة بأن الرخصة هي ما رخص مع قيام المحرم ; لأن الترخيص غير خارج عن الإباحة فكان في معنى الأول وزيادة , وهي أنه استعمل رخص في حد الرخصة , وإن أمكن تأويله باللغوي دون الاصطلاحي ; لأن أقله استعمال اللفظ المبهم في التعريف , وهو قبيح. وأجيب عنه بأن المراد من قوله يستباح يعامل به معاملة

(2/434)


حتى صار العزم يمينا وقال الله تعالى {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} "طه: 115" أي لم يكن له قصد مؤكد في العصيان, وقال جل ذكره: {كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} "الأحقاف: 32" وأما الرخصة فتنبئ عن اليسر والسهولة يقال: رخص السعر إذا تيسرت الإصابة لكثرة الأشكال وقلة الرغائب.
ـــــــ
المباح لا أنه يصير مباحا حقيقة ; لأن دليل الحرمة قائم إلا أنه لا يؤاخذ بتلك الحرمة بالنص وليس من ضرورة سقوط المؤاخذة انتفاء الحرمة فإن من ارتكب كبيرة وعفا الله عنه, ولم يؤاخذه بها لا تسمى مباحة في حقه لعدم المؤاخذ. ولهذا ذكر صدر الإسلام الرخصة ترك المؤاخذة بالفعل مع وجود السبب المحرم للفعل وحرمة الفعل وترك المؤاخذة بترك الفعل مع قيام السبب الموجب للفعل, وكون الفعل واجبا. وذكر في الميزان الرخصة اسم لما تغير عن الأمر الأصلي إلى تخفيف ويسر ترفيها وتوسعة على أصحاب الأعذار. وقال بعض أصحاب الحديث: الرخصة ما وسع على المكلف فعله بعذر مع كونه حراما في حق من لا عذر له أو وسع على المكلف تركه مع قيام الوجوب في حق غير المعذور. وسوى بين الرخص كلها, وقال لا يجوز أن تكون الرخصة حرام التحصيل قال النبي عليه السلام: "إن الله تعالى يحب أن يؤتى برخصه كما يحب أن يؤتى بعزائمه" , "وقال عليه السلام لعمار حين أجرى كلمة الكفر على لسانه بالإكراه: "فإن عادوا فعد" . كيف وفي بعض الرخص يجب تحصيله كما في تناول الميتة والدم عند الإكراه والمخمصة. قال صاحب الميزان: وهذا صحيح ويجب أن يكون قول أصحابنا هذا فإن معنى الرخصة السهولة واليسر وذلك في سقوط الحظر والعقوبة جميعا. والاسمان معا دليلان على المراد أي يدلان لغة على الوكادة واليسر المرادين في الشرع منهما فكانا اسمين شرعيين مراعى فيهما معنى اللغة. حتى كان العزم يمينا. ولو قال أعزم أن أفعل كذا كان يمينا عندنا وقال الشافعي رحمه الله لا يكون يمينا ; لأنه لم يحلف بالله, ولا بصفة من صفاته. ولكنا نقول العزم لغة أقصى ما يراد من الإيجاب والتوكيد, والإنسان يؤكد كلامه باليمين. وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لامرأته أسماء بنت عميس عزمت عليك أن لا تصومي اليوم الذي مت فيه فأفطرت وقالت ما كنت لأتبعه حنثا فعرفت العزم يمينا فإن عرفته لغة فقولها حجة, وإن عرفته شرعا فكذلك كذا في الأسرار. وفي الصحاح عزمت عليه أي اقتسمت عليه قوله تعالى. {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} "الأحقاف: 32". أي فاصبر على أذى قومك كما صبر أولوا الحزم والرأي الصواب من الرسل على بلايا ابتلوا بها تظفر بالثواب كما ظفروا به ثم أنهم خصوا من بين الأنبياء, وإن كان الكل على الحق لانتفاء الوهن وشبهته في طلبهم للحق وزيادة ثباتهم عليه عند توجه الشدائد والمكاره

(2/435)


والعزيمة أربعة أقسام فريضة وواجب وسنة ونفل فهذه أصول الشرع وإن كانت متفاوتة في أنفسها أما الفرض فمعناه التقدير والقطع في اللغة قال الله تعالى {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} "الةنور: 1" أي قدرناها وقطعنا الأحكام
ـــــــ
إليهم وقوة صبرهم عليه فيها. وقيل هم ستة. نوح فإنه صبر على أذى قومه مدة طويلة., وإبراهيم صبر على النار وذبح الولد., وإسحاق على الذبح. ويعقوب على فقد الولد وذهاب البصر. ويوسف على الجب والسجن. وأيوب على الضر. وقيل هم أصحاب الشرائع نوح, وإبراهيم, وموسى وعيسى, ومحمد فعلى هذا يكون من للتبعيض. وقيل الرسل كلهم أولوا العزم, ولم يبعث الله رسولا إلا كان ذا عزم وحزم ورأي, وكمال عقل, ومن على هذا القول للتبيين, وهو الصحيح إليه أشير في التيسير وغيره.
"والعزيمة أربعة أقسام الفرض" إلى آخره. يدخل في هذه الأقسام الفعل والترك فإن ترك المنهي عنه فرض. إن كان الدليل مقطوعا به كترك أكل الميتة وشرب الخمر. وواجب إن دخل فيه شبهة كترك أكل الضب واللعب بالشطرنج. وسنة أو نفل إن كان دونه كترك ما قيل فيه لا بأس به. ويؤيده ما ذكر شمس الأئمة الواجب ما يكون لازم الأداء شرعا أو واجب الترك فيما يرجع إلى الحل والحرمة. ذكر في بعض نسخ الأصول لأصحابنا الفعل الصادر عن المكلف لا يخلو من أن يترجح جانب الأداء فيه أو جانب الترك أو لا هذا, ولا ذلك. أما الأول فذلك إما أن يكفر جاحده ويضلل, وهو الفرض. أو لا يكفر وذلك أما أن يتعلق العقاب بتركه, وهو الواجب. أو لا يتعلق وذلك إما أن يكون ظاهرا واظب عليه النبي عليه السلام, وهو السنة المشهورة أو لا يكون, وهو النفل والتطوع والمندوب. وأما الثاني فإما أن يتعلق العقاب بالإتيان به, وهو الحرام. أو لا يتعلق, وهو المكروه. وأما الثالث فهو المباح إذ ليس في أدائه ثواب, ولا في تركه عقاب.
وذكر بعضهم العزيمة لا تخلو من أن يكفر جاحدها أو لا والأول هو الفرض. والثاني لا يخلو من أن يعاقب بتركه أو لا والأول هو الواجب. والثاني لا يخلو من أن يستحق بترك الملازمة أو لا والأول هو السنة والثاني النفل. ويدخل في القسم الأخير المباح إن جعل المباح من العزائم. فهذه أصول الشرع أي هذه أحكام شرعت ابتداء في الشريعة من غير نظر إلى أعذار العباد فكانت من العزائم, وإن كانت متفاوتة في أنفسها. وكأنه أشار إلى رد قول من قال من أصحابنا إن النوافل ليست من العزائم ; لأنها شرعت جبرا للنقصان في أداء ما هو عزيمة من الفرائض أو قطعا لطمع الشيطان في منع العباد من أداء الفرائض من حيث إنهم لما رغبوا في أداء النوافل مع أنها ليست عليهم فذلك دليل رغبتهم في أداء الفرائض بالطريق الأولى. فقال هذه الأقسام الأربعة سواء في أنها شرعت

(2/436)


فيها قطعا, والفرائض في الشرع مقدرة لا تحتمل زيادة ولا نقصانا أي مقطوعة ثبتت بدليل لا شبهة فيه مثل الإيمان والصلاة والزكاة والحج وسميت مكتوبة وهذا الاسم يشير إلى ضرب من التخفيف ففي التقدير والتناهي يسر, ويشير إلى شدة المحافظة والرعاية.
وأما الواجب فإنما أخذ من الوجوب, وهو السقوط قال الله تعالى فإذا {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} "الحج: 36" ومعنى السقوط أنه ساقط علما هو الوصف الخاص فسمي به أو لما لم يفد العلم صار كالساقط عليه لا
ـــــــ
ابتداء لا بناء على أعذار العباد فكانت عزائم لوكادة شرعيتها, وإن تفاوتت في ذواتها ألا ترى أن النفل مشروع ابتداء لا يحتمل التغير بعارض يكون من العباد فكان عزيمة كالفرض, وما ذكروا مقصود الأداء, وليس كلامنا فيه.
"الواجب"
"والفرائض" أي المفروضات في الشرع مقدرة يعني روعي فيها كلا المعنيين فهي مقدرة لا تحتمل زيادة, ولا نقصانا. مقطوعة عما يغايرها من جنسها المشروع كذا في الميزان. أو مقطوعة عن احتمال أن لا تكون ثابتة ; لأنها تثبت بدليل لا شبهة فيه. فصار الفرض اسما لمقدر ثابت بدليل قطعي مثل الإيمان فإنه مقدر بتصديق ما جاء من عند الله حتى لو نقض شيئا منه أو زاد لا يجوز فإنه لو قال أنا أؤمن بما جاء من عند الله وبما جاء من عند غير الله لا يكون مؤمنا. وسميت مكتوبة ; لأنها كتبت علينا في اللوح المحفوظ. وهذا الاسم أي اسم الفرض يشير إلى ضرب من التخفيف ; لأنه ينبئ عن التقدير, وفيه يسر بالنسبة إلى ما ليس بمقدور ولله تعالى أن يأمر عباده بشغل جميع العمر بخدمته بحكم الملكية فترك ذلك إلى مقدر قليل يكون دلالة التخفيف واليسر, وكأنه تعالى لما أوجبه علينا جعله مقدرا لئلا يصعب علينا أداؤه ويصير مؤدى لا محالة فكان التقدير فيه لشدة المحافظة والملازمة عليه. ألا ترى أنه تعالى كيف أعقب قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} "البقرة 183". بقوله جل اسمه {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} "البقرة: 183-184". منها على التخفيف بإيراد جمعي القلة, وهما الأيام المعدودات كأنه قيل كتب عليكم الصيام أياما قلائل ليتيسر عليكم الأداء ويسهل المحافظة عليه فعرفنا أن الغرض من التقدير التيسير والمقصود من التيسير شدة المحافظة على الأداء.
قوله "أخذ من الوجوب, وهو السقوط" فسر الشيخ الوجوب بالسقوط والوجبة بالاضطراب والمذكور في كتب اللغة أن الوجوب هو اللزوم والوجبة هو السقوط مع الهدة والوجب الاضطراب. "ومعنى السقوط أنه ساقط علما" أي في إثبات العلم اليقيني هو

(2/437)


كما يحمل ويحتمل أن يؤخذ من الوجبة, وهو الاضطراب سمي به لاضطرابه, وهو في الشرع اسم لما لزمنا بدليل فيه شبهة مثل تعيين الفاتحة وتعديل الأركان والطهارة في الطواف وصدقة الفطر والأضحية والوتر. السنة معتناها الطريق والسنن ويقال سن الماء إذا صبه. وهو معروف الإشتقاق. وهو في الشرع اسم للطريق المسلوك في الدين.والنفل اسم للزيادة
ـــــــ
ساقط في نفسه ملحق بالمعدوم, وإن كان في إيجاب العمل ثابتا موجودا. هو الوصف الخاص أي كون الواجب ساقطا في حق العلم وصف مختص به لا يوجد ذلك في الفرض يعني سقط عنه أحد نوعي ما تعلق بالفرض, وهو العلم وبقي العلم لازما به فسمي بهذا الاسم ليقع التمييز بينه وبين الفرض. أو سمي به ; لأنه لما لم يفد العلم اليقيني صار كالساقط على المكلف بدون اختياره. لا كما يحمل أي يتحمل يعني لا يكون مثل الذي يتحمل ويرفع باختيار, وهو الفرض فإنه لما كان ثابتا قطعا يتحمل اختيار وشرح صدر. قال الإمام العلامة مولانا حميد الملة والدين رحمه الله: ونظيره أن أميرا أمر واحدا من غلمانه بحمل شيء إلى موضع فتحمله فلما غاب عن بصره, وأخذ في الطريق أخبره واحد أن الأمير قد أمر بحمل هذا الشيء الآخر أيضا إلى ذلك الموضع, ولم يحصل العلم له بإخباره فتحمله أيضا كان المأمور في تحمل الأول مختارا طائعا, وفي تحمل الثاني بمنزلة المدفوع إليه كأنه سقط عليه من غير رضاه واختياره.
قوله "والسنة" كذا السنة لغة الطريقة مرضية كانت أو غير مرضية وسنن الطريق معظمه ووسطته والسن الصب برفق من باب طلب فإن أخذت السنة منه فباعتبار أن المار ينصت ويجري فيها جريان الماء, ومنه قول الشاعر:
وسالت بأعناق المطي الأباطح.
"وهو" أي لفظ السنة في الشريعة "اسم للطريق المسلوك في الدين" يعني من غير افتراض, ولا وجوب كما أشار إليه في بيان الحكم سواء سلكه الرسول أو غيره ممن هو علم في الدين. وذكر في بعض النسخ لا خلاف في أن السنة هي الطريقة المسلوكة في الدين, وإنما الخلاف في أن اللفظ السنة إذا أطلق ينصرف إلى سنة الرسول أو إليها, وإلى سنة الصحابي على ما تبين بعد بل زيادة على ما شرع له الجهاد, وهو إعلاء دين الله, وكبت أعداء الله وتحصيل الثواب في الآخرة.
وفي المغرب النفل ما ينفله الغازي أي يعطاه زائدا على سهمه, وهو أن يقول الإمام أو الأمير من قتل قتيلا فله سلبه أو قال للسرية ما أصبتم فهو لكم أو ربعه أو نصفه, ولا يخمس وعليه الوفاء به وسمي ولد الولد نافلة ذلك أي

(2/438)


في اللغة حتى سميت الغنيمة نفلا لأنها غير مقصودة بل زيادة على ما شرع له الجهاد وسمي ولد الولد نافلة لذلك أما الفرض فحكمه اللزوم علما وتصديقا بالقلب, وهو الإسلام وعملا بالبدن, وهو من أركان الشرائع ويكفر جاحده ويفسق
ـــــــ
لكونه زائدا على مقصود النكاح فإنه شرع لتحصيل الولد من صلبه والحافد زيادة عليه فكذا النافلة اسم لما شرع زيادة على الفرائض والواجبات.
ثم اختلفت العبارات في حدود هذه الأقسام فقيل الفرض هو ما يعاقب المكلف على تركه ويثاب على تحصيله. واعترض عليه بالصلاة في أول الوقت فإنها تقع فرضا, ولو تركها لا يأثم بتركه حتى لو مات قبل آخر الوقت لا شيء عليه. وبصوم رمضان في السفر فإنه يقع فرضا, ولا يعاقب على تركه. وبأن تارك الفرض قد يعفى عنه ولا يعاقب, ولا يخرج الفرض بذلك عن كونه فرضا. وقيل هو ما يخاف أن يعاقب على تركه. وقيل هو ما فيه وعيد لتاركه. ويعترض عليهما بترك الصلاة في أول الوقت وترك صوم السفر أيضا.
والصحيح ما قيل الفرض ما ثبت بدليل قطعي واستحقق الذم على تركه مطلقا من غير عذر. فقوله ما ثبت بدليل قطعي يتناول المندوب والمباح إذ قد يثبت كل واحد منهما بدليل قطعي أيضا كقوله تعالى {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} "الحج 77" {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} "البقرة: 60و187 و"الأعراف: 31" و"الوطور:19" و"الحاقة: 24" و"المرسلات: 43". واحترز بقوله واستحق الذم على تركه عنهما. وبقوله مطلقا عمن ترك الصلاة في أول الوقت على عزم الأداء في آخره وعن ترك الصوم في السفر إلى خلفه, وهو القضاء وأمثالها ; لأن ذلك ليس بترك مطلقا فلا يستحق الذم به. وبقوله من غير عذر عن المسافر والمريض إذا تركا الصوم, وماتا قبل الإقامة والصحة فإنهما لا يستحقان الذم ; لأن تركهما بعذر. وإذا بدل لفظ القطعي بالظني فهو حد الواجب. وحد السنة هو الطريقة المسلوكة في الدين من غير افتراض, ولا وجوب. وأما حد النفل, وهو المسمى بالمندوب والمستحب والتطوع فقيل ما فعله خير من تركه في الشرع. وقيل هو ما يمدح المكلف على فعله, ولا يذم على تركه. وقيل هو المطلوب فعله شرعا من غير ذم على تركه مطلقا. واحترز بقوله من غير ذم على تركه عن الواجب المضيق. وبقوله مطلقا عن الموسع والمخير والكفاية.
قوله "وأما الفرض فحكمه اللزوم علما وتصديقا بالقلب" أي يجب الاعتقاد بحقيته قطعا ويقينا لكونه ثابتا بدليل مقطوع به. "وهو الإسلام" أي الاعتقاد بهذه الصفة يكون إسلاما حتى لو تبدل بضده يكون كفرا. "وعملا بالبدن" أي يجب إقامته بالبدن حتى لو ترك العمل به غير مستخف به يكون عاصيا, وفاسقا إذا كان بغير عذر, ولكنه لا

(2/439)


تاركه بلا عذر. وأما حكم الوجوب فلزومه عملا بمنزلة الفرض لا علما على اليقين لما في دليله من الشبهة حتى لا يكفر جاحده ويفسق تاركه إذا استخف بأخبار الآحاد فأما متأولا فلا. وأنكر الشافعي رحمه الله هذا القسم. وألحقه
ـــــــ
يكون كافرا إلا أنه ترك ما هو من أركان الشرائع لا ما هو أصل الدين لبقاء الاعتقاد على حاله. ويكفر جاحده أي ينسب إلى الكفر من أكفره إذا ادعاه كافرا. ومنه لا تكفر أهل قبلتك. وأما لا تكفروا أهل قبلتكم فغير ثبت رواية. وإن كان جائزا لغة قال الكميت1 يخاطب أهل البيت. وكان شيعيا:
وطائفة قد كفروني بحبكم ... وطائفة قالوا مسيء ومذنب
كذا في المغرب. "وأما حكم الوجوب" أي الواجب فلزومه عملا لا علما أي يجب إقامته بالبدن. ولكن لا يجب اعتقاد لزومه; لأن دليله لا يوجب اليقين ولزوم الاعتقاد مبني على الدليل اليقيني. ويفسق تاركه إذا استخف. إذا ترك العمل به فهو على ثلاثة أوجه أما إن تركه مستخفا بأخبار الآحاد بأن لا يرى العمل بها واجبا أو تركه متأولا لها أو تركه غير مستخف. ولا متأول. ففي القسم الأول يجب تضليله. وإن لم يكفر; لأنه راد لخبر الواحد وذلك بدعة. وفي القسم الثاني لا يجب التضليل. ولا التفسيق; لأن التأويل سيرة السلف والخلف في النصوص عند التعارض. وفي القسم الأخير يفسق. ولا يضلل; لأن العمل به لما وجب كان الأداء طاعة والترك من غير تأويل عصيانا. وفسقا هذا هو المذكور في عامة الكتب وعليه يدل كلام شمس الأئمة رحمه الله أيضا. وهو الصحيح.
والمذكور هاهنا يشير إلى أن تركه لا يوجب التضليل أصلا ويوجب التفسيق بشرط أن يكون مستخفا. ولا يوجبه إذا كان متأولا. وليس فيه دلالة على التفسيق في القسم الثالث بل هو ساكت عنه والمذكور بعده بخطوط يدل على إثبات التضليل في القسم الأول فيكون معنى ما ذكر هنا ويفسق تاركه ويضلل إذا استخف. والمذكور في التقويم يدل على أنه لا تضليل فيه أصلا. ولا تفسيق إلا في القسم الأول فإنه ذكر فيه الواجب كالمكتوبة في لزوم العمل والنافلة في حق الاعتقاد حتى لا يجب تكفير جاحده. ولا تضليله وحكمه أن لا يكفر المخالف بتكذيبه. ولا يفسق بتركه عملا إلا أن يكون مستخفا بأخبار الآحاد فيفسقه.
قوله "وأنكر الشافعي هذا القسم" أي أنكر التفرقة بين الفرض والواجب وقال هما
ـــــــ
1 هو الشاعر المشهور الكميت بن زيد بن خنيس بن مجالد الأسدي الكوفي المتوفي سنة 126ه معجم المؤلفين 8/147.

(2/440)


بالفرائض فقلنا أنكر الاسم فلا معنى له بعد إقامة الدليل على أنه يخالف اسم الفريضة, وأنكر الحكم بطل إنكاره أيضا; لأن الدلائل نوعان ما لا شبهة فيه من الكتاب والسنة, وما فيه شبهة, وهذا أمر لا ينكر, وإذا تفاوت الدليل لم ينكر تفاوت الحكم وبيان ذلك أن النص الذي لا شبهة فيه أوجب قراءة القرآن في الصلاة, وهو قوله تعالى {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} "المزمل: 20" وخبر
ـــــــ
مترادفان وينطلقان على معنى واحد, وهو الذي يذم تاركه ويلام شرعا بوجه سواء ثبت بطريق قطعي أو ظني. قال: واختلاف طريق الثبوت لا يوجب اختلافه في نفسه فإن اختلاف طرق النوافل لا يوجب اختلاف حقائقها, وكذلك اختلاف طرق الحرام بالقطع والظن غير موجب اختلافه في نفسه من حيث الحرام. قال وتخصيص اسم الفرض بالمقطوع والوا جب بالمظنون تحكم; لأن الفرض لغة هو التقدير مطلقا سواء كان مقطوعا أو مظنونا به. وكذا الواجب هو الساقط سواء كان مظنونا به مقطوعا به فكان تخصيص كل واحد بقسم تحكما.
ونحن نقول إنه إن أنكر الاسم أي أنكر كونهما متباينين لغة فلا معنى له لما بينا من معنى كل واحد منهما, ومباينة أحد المعنيين للآخر, وإن أنكر الحكم أي أنكر التفرقة بينهما حكما بأن قال لا تفاوت بينهما في لزوم العمل بطل إنكاره أيضا; لأن التفرقة بين ما ثبت بدليل مقطوع به وبين ما ثبت بدليل مظنون ظاهرة, إذ ثبوت المدلول على حسب الدليل فمتى كان التفاوت ثابتا بين الدليلين لا بد من ثبوته بين المدلولين. وأما قولهم تخصيص كل لفظ بقسم تحكم فليس كذلك; لأنا نخص الفرض بقسم باعتبار معنى القطع ونخص الواجب بقسم باعتبار معنى السقوط على الوجه الذي بينا, ولا يوجد معنى القطع في الواجب, ولا معنى السقوط على الوجه الذي بينا في الفرض فأنى يلزم التحكم, وسائر الأسماء الشرعية والعرفية بهذه المثابة. قال الغزالي رحمه الله: وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله قد اصطلحوا على تخصيص اسم الفرض بما يقطع بوجوبه وتخصيص اسم الواجب بما ثبت ظنا ونحن لا ننكر انقسام الواجب إلى مقطوع ومظنون, ولا حجر في اصطلاحات بعد تفهم المعاني. فصار الحاصل أن وجوب العمل في الواجب عند الشافعي مثل وجوب العمل في الفرض والتفاوت بينهما في ثبوت العلم وعدمه وعندنا التفاوت بينهما ثابت في وجوب العمل أيضا حتى كان وجوب العمل في الفرض أقوى من وجوبه في الواجب. وبيان ذلك أي بيان التفاوت الذي بينا أن النص المقطوع به, وهو قوله تعالى {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} "المزمل 20". أوجب قراءة القرآن في الصلاة إذ المراد منه القرآن في الصلاة بالإجماع

(2/441)


الواحد وفيه شبهة تعين الفاتحة فلم يجز تغير الأول بالثاني بل يجب العمل بالثاني على أنه تكميل لحكم الأول مع قرار الأول وذلك فيما قلنا وكذلك الكتاب أوجب الركوع وخبر الواحد أوجب التعديل, وكذلك الطواف مع الطهارة فمن رد خبر الواحد فقد ضل عن سواء السبيل ومن سواه بالكتاب والسنة المتواترة
ـــــــ
. وبدليل قوله عز اسمه {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} "المزمل: 20". وكان قيام ثلث الليل فرضا فانتسخ أصله في قوله أو تقديره في قوله بقوله تعالى. {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} "المزمل: 20" أي في كل صلاة على القول الأول أو في صلاة الليل على القول الثاني. وبأن الأمر للإيجاب, ولا وجوب خارج الصلاة فيتعين القراءة في الصلاة, وهذا النص بإطلاقه وعمومه يتناول الفاتحة وغيرها فيخرج عن العهدة بقراءة غير الفاتحة كما يخرج بقراءتها. وخبر الواحد, وهو قوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" أوجب الفاتحة علينا فوجب العمل بخبر الواحد على وجه لا يلزم منه تغيير موجب الكتاب, وذلك بأن يجعل قراءة الفاتحة واجبة يجب العمل بها من غير أن يكون فرضا ليتقرر الكتاب على حاله ويحصل العمل بالدليلين على مرتبتهما. ولا يقال قد خص من النص ما دون الآية بالإجماع, وهو قرآن حتى لو أنكره يكفر فيخص ما دون الفاتحة بالخبر أيضا.; لأنا نقول عدم جواز ما دون الآية ليس باعتبار التخصيص, ولكن ذلك لا يسمى قراءة عرفا فلا يدخل إطلاق قوله تعالى { فَاقْرَؤُوا} . ولهذا لا يحرم قراءة ما دون الآية على الجنب والحائض; لأنها لا تسمى قراءة عرفا كما لو تكلم بكلمة واحدة أو حرف واحد منه, ولكن ما دون الآية من القرآن حقيقة فإنكاره يكون كفرا كإنكار كلمة أو حرف. فمن رد خبر الواحد كما رده الرافضة وغيرهم فقد ضل عن سواء السبيل أي عن وسطه, ومن سواه بالكتاب والسنة المتواترة في إثبات الفرضية كما فعله أصحاب الظواهر من أهل الحديث حتى كان الثابت به مثل الثابت بالكتاب في العمل من غير تفاوت بينهما فقد أخطأ كما بيناه في باب أحكام الخصوص. وما ذكروا أن ثبوت العلم بالكتاب وخبر المتواتر وعدم ثبوته بخبر الواحدة كاف لإثبات التفاوت بينهما لا يغنيهم شيئا; لأنه لا بد من ظهوره في وجوب العمل الثابت بهما لتفاوت الدليلين في ذاتيهما ضعفا وقوة وذلك فيما قلنا حيث راعينا حد الكتاب الثابت باليقين بأن لم يلحق خبر الواحد به زيادة عليه وراعينا حد خبر الواحد بأن أوجبنا العمل به. وكذا السعي في الحج والعمرة بالجر يعني السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة واجب عندنا, وليس بركن حتى لو تركه رأسا في حج أو عمرة يجبر بالدم ويتم الحج والعمرة وعند الشافعي رحمه الله هو ركن, ولا يتم حج, ولا عمرة إلا به ; لأنه عليه السلام سعى بين الصفا والمروة وقال لأصحابه.: "إن الله تعالى كتب عليكم

(2/442)


فقد أخطأ في رفعه عن منزلته ووضع الأعلى عن منزلته, وإنما الطريق المستقيم ما قلنا وكذلك السعي في الحج والعمرة وما أشبه ذلك وكذلك تأخير المغرب إلى العشاء بالمزدلفة واجب ثبت بخبر الواحد, وإذا صلى في الطريق أمر بالإعادة
ـــــــ
السعي فاسعوا". ولقوله عليه السلام: "ما أتم الله لامرئ حجة, ولا عمرة لا يطوف لها بين الصفا والمروة" . إلا أنا تمسكنا في ذلك بقوله تعالى {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} "البقرة: 158"., ومثل هذا اللفظ يوجب الإباحة لا الإيجاب إلا أنا تركنا ظاهره في حكم الإيجاب بدليل الإجماع فبقي ما وراءه على ظاهره وعملنا بخبر الواحد في إثبات الإيجاب دون الركنية على ما بينا. وإن قرأت والعمرة بالرفع فمعناه, وكذا العمرة واجبة, وليست بفريضة. وقال الشافعي رحمه الله هي فريضة مثل الحج لما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة فريضة كفريضة الحج1" . وعندنا لما ضعف الدليل عن إثبات الفرضية لكونه خبرا لواحد ثبت به الوجوب. وما أشبه ذلك أي المذكور مثل صدقة الفطر والأضحية وقراءة التشهد والصلاة على النبي; لأن هذه الأشياء لما ثبتت بأخبار الآحاد كانت من الواجبات لا من الأركان. ولا يلزم القعدة الأخيرة; لأنها تثبت باتفاق الآثار إنه عليه السلام ما سلم إلا بعد القعدة الأخيرة كذا في الأسرار.; ولأن الخبر الموجب لها التحق بيانا بمجمل الكتاب على ما عرف.
قوله "وكذلك تأخير المغرب" أي مثل وجوب ما ذكرنا من الأحكام تأخير المغرب إلى العشاء بالمزدلفة ليلة النحر حيث أفاض الناس من عرفات واجب ثبت بخبر الواحد, وهو ما روي أن أسامة بن زيد رضي الله عنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق إلى المزدلفة فقال الصلاة يا رسول الله. فقال: "الصلاة أمامك2" . ومراده من هذا اللفظ إما الوقت أو المكان; لأن الصلاة فعل المصلي, وفعله لا يتصور أمامه فثبت أن التأخير واجب. فإذا صلى المغرب بعرفات أو في الطريق بعد غيبوبة الشمس أو بعد غيبوبة الشفق يؤمر بالإعادة عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف رحمهم الله لا يجب الإعادة, وكان مسيئا; لأنه أداها في وقتها الثابت بالكتاب أو السنة المتواترة إلا أن التأخير سنة فيكون مسيئا بتركه. ولهما أن وقت المغرب في هذا الوقت وقت العشاء, ومكان الأداء مزدلفة بالحديث فإذا أداها قبل وقتها أو في غير مكانها وجب عليه الإعادة عملا بالسنة كما في
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1277 وابن ماجة في المناسك حديث رقم 2986
2 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1280 وأبو داود في المناسك حديث رقم 1925 وابن ماجة في المناسك حديث رقم 3019 ولإمام أحمد في المسند 5/200

(2/443)


عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله عملا بخبر الواحد فإن لم يفعل حتى طلع الفجر سقطت الإعادة; لأن تأخير المغرب إنما وجب إلى وقت العشاء وقد انتهى وقت العشاء فانتهى العمل فلا يبقى الفساد من بعد إلا بالعلم, وخبر الواحد لا يوجبه ولا يعارض حكم الكتاب فلا يفسد العشاء وكذلك الترتيب في الصلوات واجب بخبر الواحد فإذا ضاق الوقت أو كثرت
ـــــــ
سائر الصلوات إذا أديت قبل وقتها, وكالجمعة وصلاة العيد إذا أديتا في غير المصر أو فنائه, وكالظهر المؤدى في المنزل يوم الجمعة فإن لم يفعل أي لم يعد حتى طلع الفجر سقطت الإعادة; لأن الإعادة إنما وجبت ليحصل الجمع بينهما في الوقت والمكان كما يوجبه الحديث فإذا طلع الفجر وانتهى وقت الجمع, وهو وقت العشاء سقطت الإعادة; لأنا إنما أوجبناها بالخبر فلو أوجبناها بعد طلوع الفجر لحكمنا بفساد ما أدى مطلقا وذلك من باب العلم, وخبر الواحد لا يوجب العلم. ولا يعارض أي خبر الواحد مقتضى الكتاب, وهو جواز المغرب المؤداة فلا يفسد العشاء أي بفتح الياء العشاء الأولى, وهي المغرب المؤداة. أو بضمها يعني لا يفسد تذكر الصلاة التي وجبت إعادتها العشاء الأخيرة; لأنها ليست بفائتة بيقين الأول أظهر.
قوله "وكذلك الترتيب في الصلوات". أي الترتيب بين الفوائت والوقتية واجب ثبت بخبر الواحد, وهو قوله عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها" . وما روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فلم يذكرها إلا, وهو مع الإمام فليصل التي هو فيها ثم ليصل التي ذكرها ثم ليصل التي صلى مع الإمام" . وأنه يوجب العمل دون العلم فوجب العمل به ما لم يعارض الكتاب والخبر المتواتر فعند سعة الوقت لا معارضة; لأن الكتاب, وهو قوله تعالى {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} "النساء: 103". يوجب الأداء في مطلق الوقت بحيث لا يفوته عنه, ولا يوجب الأداء في وقت التذكر لا محالة, وخبر الواحد يوجب تقديم الفائتة, وأدائها في وقت التذكر, وأمكن الجمع بينهما فوجب العمل به. فأما عند ضيق الوقت تحقق التعارض لتعين الوقت للوقتية بحيث لا يجوز التأخير عنه واقتضاء خبر الواحد تقديم الفائتة المستلزم لتفويتها عن الوقت وعدم جوازها قبل الفائتة فوجب ترجيح الكتاب على خبر الواحد فلذلك سقط العمل به.
وكذا الحكم في كثرة الفوائت; لأنه في معنى ضيق الوقت لتأدية رعاية الترتيب فيها إلى تفويت الوقتية أيضا. فإن قيل العمل بخبر الواحد غير ممكن عند سعة الوقت إلا بعد

(2/444)


الفوائت فصار معارضا بحكم الكتاب بتغير الوقتية سقط العمل به وثبت
ـــــــ
رفع موجب الكتاب أيضا فإنه وإن لم يوجب الأداء في الحال لكنه يقتضي الجواز أو الخروج عن العهدة إذا تحقق الأداء وخبر الواحد ينفي فلا يجب العمل به على الوجه الذي ذكرتم; لأنه يكون إبطالا لا لموجب الكتاب بخبر الواحد وذلك باطل كما قلتم في خبر التعيين والتعديل واشتراط الطهارة في الطواف. قلنا هذا لا يلزم أبا حنيفة رحمه الله فإنه يقول بالفساد الموقوف حتى لو ترك صلاة ثم صلى صلوات كثيرة مع تذكرها يسقط الترتيب, ولا يكون عليه إلا قضاء الفائتة عنده; لأن فساد المؤديات بعدها لم يكن بدليل مقطوع به ليجب قضاؤها مطلقا, وإنما كان لوجوب الترتيب بخبر الواحد وقد سقط ذلك عملا عند كثرة الصلوات فلا يلزمه إلا قضاء المتروكة, والقول بالوقف لا يوجب رفع الجواز كيف ومختار الشيخ أن بمجرد خروج الوقت تنقلب الوقتية المؤداة صحيحة فإنه ذكر في شرح المبسوط في هذه المسألة محتجا لأبي حنيفة رحمه الله أن حكم الفساد ليس بمتقرر فيما أدى بل هو شيء يفتى به في الوقت حتى يعيده ثانيا في الوقت ليكون عملا بخبر الواحد وبكتاب الله تعالى بقدر الإمكان فمتى مضى الوقت لو حكمنا بفساد الوقتية كان ذلك تركا للعمل بالكتاب والخبر المتواتر بناء على ما يقتضيه خبر الواحد, وذلك لا يجوز بل يجب القول بالجواز مطلقا, ولا يعتبر خبر الواحد في مقابلته معارضا له. قال: وإلى هذا أشار محمد في الكتاب فإنه استدل بمسألة الحاج إذا صلى المغرب في الطريق فإنه يعيد فإذا لم يعد حتى طلع الفجر أخرت عنه; لأنها صلاة أديت في وقتها إلى آخر ما ذكرنا فكذلك هاهنا. وأما أبو يوسف ومحمد رحمهما الله فيقولان إن الجواز, وإن ارتفع في أول الوقت لكنه مباح; لأن تفويت الجواز منه مباح بترك الصلاة مختارا فلأن يجوز ذلك الخبر أولى, ولما لم يجز تفويته عن الوقت اختيارا لا يجوز بخبر الواحد أيضا; ولأنا ما رفعنا الجواز لكن أخرناه إلى ما بعد الفائتة, وإذا لم تقدم الفائتة لم يحصل العمل بالخبر أصلا فالأول تأخير والثاني إبطال. والتأخير أهون منه فوجب القول به كذا قال شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله.
وذكر في بعض الفوائد أن كثرة الفوائت لما التحقت بضيق الوقت في سقوط الترتيب كان قلتها بمنزلة سعة الوقت في وجوب الترتيب فوجوب الإعادة عند القلة بعد خروج الوقت كان بمنزلة وجوبها في الوقت وبمنزلة وجوب الإعادة لتغرب قبل طلوع الفجر; لأن القلة بمنزلة سعة الوقت فكان وقت العمل بخبر الواحد باقيا تقديرا. وتبين بما ذكرنا الفرق بين وجوب تعيين الفاتحة ووجوب التعديل واشتراط الطهارة في الطواف وبين وجوب الترتيب فإنا لو أوجبنا التعيين أو التعديل أو الطهارة على وجه يؤدي إلى فساد

(2/445)


الحطيم من البيت بخبر الواحد فجعلنا الطواف واجبا لا يعارض الأصل.وحكم
ـــــــ
الصلاة والطواف يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد, ولو أوجبنا الترتيب عند سعة الوقت على وجه يؤثر في فساد الوقتية لا يؤدي إلى نسخ الكتاب بل يكون تأخيرا لحكمة مع أن له ولاية التأخير فوجب القول به عملا بخبر الواحد.
فإن قيل لما تعين آخر الوقت للوقتية حتى وجب تقديمها على الفائتة ينبغي أنه لو قدم الفائتة لا يجوز كما لو قدم الوقتية على الفائتة في أول الوقت لا يجوز لتعينه وقتا للفائتة. قلنا المنع عن تقديم الوقتية في أول الوقت لمعنى يختص بها بدليل أنه لو تنفل أو عمل عملا آخر لم يمنع عنه فيوجب الفساد أما المنع عن تقديم الفائتة في آخر الوقت فقد ثبت لمعنى في غيرها, وهو أن لا يؤدي إلى تفويت الوقتية عن الوقت ولهذا يكره له الاشتغال بالنافلة وبعمل آخر فلم يوجب الفساد كذا ذكر في شرح القدوري1 لأبي نصر البغدادي2 رحمه الله.
قوله "وثبت الحطيم من البيت", وهو اسم لموضع متصل بالبيت من الجانب الغربي بينه وبين البيت فرجة. وسمي بالحطيم; لأنه حطم من البيت أي كسر فعيل بمعنى مفعول كالقتيل والجريح. أو; لأن من دعا على من ظلمه فيه حطمه الله كما جاء في الحديث فكان فعيلا بمعنى فاعل كالعليم. ثم يجب على الطائف أن يطوف وراء الحطيم من البيت ولا يدخل تلك الفرجة في طوافه لأنه قد ثبت أنه من البيت بخبر الواحد, وهو ما روي: "أن عائشة رضي الله عنها نذرت أن تصلي في البيت ركعتين إن فتح الله تعالى مكة على رسوله فجاء بها النبي عليه السلام عام حجة الوداع ليلا إلى البيت فصدها خزنة البيت وقالوا إنا نعظم هذا البيت في الجاهلية والإسلام, ومن تعظيمها أن لا نفتح بابه في الليالي فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها, وأدخلها في الحطيم وقال: "صلي هاهنا فإن الحطيم من البيت إلا أن قومك قصرت بهم النفقة فأخرجوه من البيت, ولولا حدثان عهد قومك بالجاهلية لنقضت بناء الكعبة, وأظهرت قواعد الخليل, وأدخلت الحطيم في البيت, وألصقت العتبة بالأرض وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا, ولئن عشت إلى قابل لأفعلن ذلك3" .
ـــــــ
1 هو الفقيه الحنفي أحمد بن محمد بن أحمد أبو الحسين البغدادي القدوري ولد سنة 362ه توفي سنة 428ه أنظروفيات الأعيان 1/78-79.
2 هو شارع مختصر القدوري أبو نصر أحمد بن محمد بن محمد الأقطع الحنفي توفي سنة 474ه أنظر الفوائد البهية ص 40.
3 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1333 والإمام أحمد في المسند 6/57.

(2/446)


السنة أن يطالب المرء بإقامتها من غير افتراض ولا وجوب لأنها طريقة أمرنا بإحيائها فيستحق اللائمة بتركها إلا أن السنة عندنا قد تقع على سنة النبي عليه
ـــــــ
"فجعلنا الطواف به". أي بالحطيم واجبا بهذا الخبر أو جعلنا الطواف على الحطيم به أي بهذا الخبر واجبا. لا يعارض الأصل أي لا يساويه حتى لو تركه يؤمر بإعادة الطواف من الأصل أو إعادته على الحطيم ما دام بمكة ليتحقق العمل بخبر الواحد. ولو رجع من غير إعادة يجزيه ويجبر بالدم لوجود أصل الفرض, وهو الدوران حول البيت مع تمكن النقصان فيه بترك الطواف على الحطيم. ولو توجه إلى الحطيم لا يجوز صلاته; لأن كونه من البيت ثبت بخبر الواحد فلا يتأدى به ما ثبت فرضا بالكتاب, وهو التوجه إلى الكعبة.
قوله "وحكم السنة" كذا قال شمس الأئمة رحمه الله حكم السنة هو الاتباع فقد ثبت بالدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم متبع فيما سلك من طريق الدين, وكذا الصحابة بعده, وهذا الاتباع الثابت بمطلق السنة خال عن صفة الفرضية والوجوب إلا أن تكون من أعلام الدين نحو صلاة العيد والآذان والإقامة والصلاة بالجماعة فإن ذلك بمنزلة الواجب على ما نبينه بعد وذكر أبو اليسر, وأما السنة فكل نفل واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل التشهد في الصلوات والسنن الرواتب وحكمها أنه يندب إلى تحصيلها ويلام على تركها مع لحوق إثم يسير وكل نفل لم يواظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل تركه في حالة كالطهارة لكل صلاة وتكرار الغسل في أعضاء الوضوء والترتيب في الوضوء فإنه يندب إلى تحصيله, ولكن لا يلام على تركه, ولا يلحق بتركه وزر. وأما التراويح في رمضان فإنه سنة الصحابة فإنه لم يواظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بل واظب عليها الصحابة, وهذا مما يندب إلى تحصيله ويلام على تركه, ولكنه دون ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن سنة النبي أقوى من سنة الصحابة., وهذا عندنا, وأصحاب الشافعي يقولون السنة نفل واظب عليه النبي عليه السلام فأما النفل الذي واظب عليه الصحابة فليس بسنة, وهو على أصلهم مستقيم فإنهم لا يرون, أقوال الصحابة حجة فلا يجعلون أفعالهم أيضا سنة وعندنا أقوال الصحابة حجة فيكون أفعالهم سنة; لأنها طريقة أمرنا بإحيائها بقوله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} "الأحزاب: 21". وقوله عز اسمه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} "الحشر: 7". وبقوله عليه السلام: "عليكم بسنتي" الحديث. وقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك سنتي لم ينل شفاعتي1" . والإحياء في الفعل فترك الفعل يستوجب اللائمة أي الملامة في الدنيا
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في السنة حديث رقم 4607 والتزمذي في العلم حديث رقم 2676 وابن ماجة في المقدمة حديث رقم 42 والإمام أحمد في المسند 4/126.

(2/447)


السلام وغيره وقال الشافعي رحمه الله مطلقها طريقة النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك
ـــــــ
وحرمان الشفاعة في العقبى. "إلا أن السنة" استثناء منقطع أي لا خلاف في أن تفسير السنة وحكمها ما ذكرنا الاختلاف في أن إطلاق لفظ السنة يقع على سنة الرسول أو يحتمل سنته وسنة غيره. والحاصل أن الراوي إذا قال من السنة كذا فعند عامة أصحابنا المتقدمين, وأصحاب الشافعي وجمهور أصحاب الحديث يحمل على سنة الرسول عليه السلام, وإليه ذهب صاحب الميزان من المتأخرين. وعند الشيخ أبي الحسن الكرخي من أصحابنا وأبي بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي لا يجب حمله على سنة الرسول إلا بدليل, وإليه ذهب القاضي الإمام أبو زيد والشيخ المصنف وشمس الأئمة, ومن تابعهم من المتأخرين.
وكذا الخلاف في قول الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا. تمسكوا في ذلك بأن لفظ السنة يطلق على طريقة غير الرسول من الصحابة فإن الصحابة قد سنوا أحكاما كما قال علي رضي الله عنه: "جلد الرسول في الخمر أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة1". وقد قال عليه السلام "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" . أطلق اسم السنة على طريقتهم. وقال عليه السلام: "من سن سنة حسنة فله أجرها2" . الحديث, وقد عنى بذلك سنة غيره. والسلف كانوا يطلقون اسم السنة على طريقة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وقد حكي عن الشافعي أنه قال إذا قال مالك السنة عندنا أو السنة ببلدنا كذا فإنما يريد به سنة سليمان بن بلال, وكان عريف السوق, وإذا كان كذلك لم يدل على إطلاق لفظ السنة على أن المراد طريقة الرسول عليه السلام أو غيره فلا يجوز تقييده بطريقته إلا بدليل. واحتج الفريق الأول بأن الرسول هو المقتدى والمتبع على الإطلاق فلفظ السنة على الإطلاق لا يحمل إلا على سننه كما لو قيل هذا الفعل طاعة لا يحمل إلا على طاعة الله وطاعة رسوله, وأما إضافتها إلى غير الرسول فجاز لاقتدائه فيها بسنة الرسول فوجب أن يحمل عند الإطلاق على حقيقته دون مجازه., وما ذكروا من الحديث والإطلاق لا يلزم; لأنا لا ننكر جواز إطلاق هذا اللفظ على طريقة غير الرسول مع التقييد, وإنما نمنع أن يفهم من إطلاق اسم السنة غير سنة الرسول كذا في "الميزان" "والمعتمد". وقولهم اللفظ مطلق فلا يجوز تقييده من غير دليل قلنا لا بد من
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحدوح حديث رقم 1707 وابن ماجة في الحدود رقم 2571 زافمام أحمد في المسند 1/82.
2 أخرجه مسلم في الزكاة حديث رقم 1017 والترمذي مختصرا في العلم حديث رقم 2675 وابن ماجة في المقدمة حديث رقم 203 والإمام أحمد في المسند 4/357.

(2/448)


في أرش ما دون النفس في النساء أنه لا ينتصف إلى الثلث لقول سعيد بن المسيب رضي الله عنه السنة وقال في ذلك في قتل الحر بالعبد وعندنا هي مطلقة لا قيد فيها فلا يقيد بلا دليل وكان السلف يقولون سنة العمرين والسنن نوعان سنة
ـــــــ
تقييده إما بطريقة الرسول عليه السلام أو بطريقة غيره فتقييده بالأولى أولى لما ذكرنا قوله
"قال ذلك في أرش ما دون النفس" إلى آخره دية المرأة عندنا على النصف من دية الرجل في النفس, وما دونها وعند الشافعي رحمه الله المرأة تساوي الرجل إذا كان الأرش بقدر ثلث الدية أو دونه فإن زاد على الثلث فحينئذ حالها فيه على النصف من حال الرجل لما حكي عن ربيعة أنه قال قلت لسعيد بن المسيب ما تقول فيمن قطع إصبع امرأة قال عليه عشر من الإبل قلت فإن قطع إصبعين منها قال عليه عشرون من الإبل قلت فإن قطع ثلاثة أصابع قال عليه ثلاثون من الإبل قلت فإن قطع أربعة أصابع قال عليه عشرون من الإبل قلت سبحان الله لما كثر ألمها واشتد مصابها قل أرشها قال أعراقي أنت؟ قلت لا بل جاهل مسترشد أو عاقل مستثبت فقال إنه السنة.
وهذا اللفظ إذا أطلق فالمراد به سنة الرسول عليه السلام, ومراسيل سعيد عنده مقبولة فكان هذا بمنزلة حديث مسند فيجب العمل به. وحجتنا في ذلك ما ذكره ربيعة فإنه لو وجب بقطع ثلاثة أصابع منها ثلاثون من الإبل ما سقط بقطع الإصبع الرابع عشرة من الواجب لا تأثير القطع في إيجاب الأرش لا في إسقاطه فهذا شيء يحيله العقل وقول سعيد إنه السنة محتمل يجوز أنه أراد سنة نفسه أو سنة غيره من الصحابة رضي الله عنهم; لأن التأمل في الدين لإثبات حكم أو استنباط معنى طريقة حسنة فيطلق عليه اسم السنة كما يقال سنة العمرين كما ذكرنا كيف وقد أفتى كبار الصحابة مثل علي وعمر رضي الله عنهما بخلافه. وفي المبسوط إن ما روي نادر مثل هذا الحكم الذي يحيله عقل كل عاقل لا يمكن إثباته بالشاذ النادر. وقال ذلك في قتل الحر بالعبد. يقتل الحر بالعبد عندنا وعند الشافعي رحمه الله لا يقتل لما روي عن ابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم أنهما قالا من السنة أن لا يقتل الحر بالعبد والسنة تحمل على سنة الرسول عند الإطلاق.
وقلنا لما كان هذا اللفظ محتملا لا يصح الاحتجاج به. ومن قال من مشايخنا: إن مطلق السنة محمول على سنة الرسول عليه السلام أجاب. عن قول سعيد بأن السنة إنما تحمل على سنة الرسول إذا لم يقم دليل على أن المراد طريقة الغير, وقد قام هاهنا فإن أهل النفل خرجوه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه كذا قال عبد القاهر البغدادي من أئمة

(2/449)


الهدى وتاركها يستوجب إساءة وكراهية والزوائد وتاركها لا يستوجب إساءة كسير النبي عليه السلام في لباسه وقيامه وقعوده وعلى هذا مسائل باب الأذان كتاب الصلاة اختلفت فقيل مرة يكره ومرة أساء ومرة لا بأس به لما قلنا
ـــــــ
الحديث. وإليه أشير في المبسوط فقيل وقول سعيد إنه السنة يعني سنة زيد. وعن قول ابن عمر وابن الزبير إنه محمول على السيد إذا قتل عبده فقد كانوا مختلفين في ذلك فمنهم من يوجب القصاص مستدلا بقوله عليه السلام: "من قتل عبده قتلناه1" . فقالا ذلك ردا على من قال منهم يقتل السيد بعبده كذا في المبسوط
قوله "سنة الهدى" يعني سنة أخذها من تكميل الهدى أي الدين, وهي التي تعلق بتركها كراهية أو إساءة. والإساءة دون الكراهة, وهي مثل الأذان والإقامة والجماعة والسنن الرواتب. ولهذا قال محمد في بعضها إنه يصير مسيئا في بعضها إنه يأثم, وفي بعضها يجب القضاء, وهي سنة الفجر, ولكن لا يعاقب بتركها; لأنها ليست بفريضة, ولا واجبة.
"والزوائد" أي والنوع الثاني الزوائد, وهي التي لا يتعلق بتركها كراهة, ولا إساءة نحو تطويل القراءة في الصلاة وتطويل الركوع والسجود وسائر أفعاله التي يأتي بها في الصلاة في حالة القيام والركوع والسجود, وأفعاله خارج الصلاة من المشي واللبس والأكل فإن العبد لا يطالب بإقامتها, ولا يأثم بتركها, ولا يصير مسيئا والأفضل أن يأتي بها كذا في بعض مصنفات الشيخ. وذكر في المبسوط قال مكحول: السنة سنتان سنة أخذها هدى وتركها لا بأس به كالسنن التي لم يواظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسنة أخذها هدى وتركها ضلالة كالآذان والإقامة وصلاة العيد. وعلى هذا قال محمد رحمه الله: إذا أصر أهل مصر على ترك الآذان والإقامة أمروا بهما فإن أبوا قوتلوا على ذلك بالسلاح كما يقاتلون عند الإصرار على ترك الفرائض والواجبات. وقال أبو يوسف رحمه الله المقاتلة بالسلاح عند ترك الفرائض والواجبات فأما السنن فإنما يؤدبون على تركها, ولا يقاتلون على ذلك ليظهر الفرق بين الواجب وغيره. ومحمد رحمه الله يقول ما كان من أعلام الدين فالإصرار على تركه استخفاف بالدين فيقاتلون على ذلك لهذا.
"وعلى هذا" أي على أن السنن نوعان اختلفت أجوبة مسائل باب الآذان فقيل مرة يكره, ومرة أساء, ومرة لا بأس لما قلنا أن ترك ما هو من سنن الهدي يوجب الكراهة والإساءة, وترك ما هو من السنن الزوائد لا يوجب شيئا منهما. وذلك مثل قول محمد يكره الآذان قاعدا
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الديات حديث رقم 4515 والترمذي في الديات حديث رقم 1414 وابن ماجة في الديات حديث رقم 2663 والإمام أحمد في المسند 5/10.

(2/450)


وإذا قيل يعيد فذلك من حكم الوجوب وأما النفل فما يثاب المرء على فعله, ولا يعاقب على تركه ولذلك قلنا إن ما زاد على القصر من صلاة السفر نفل,
ـــــــ
لما روي في حديث الرؤيا أن الملك قام على جذم حائط أي أصله. ويكره تكرار الآذان في مسجد محلة. ويكره ترك استقبال القبلة لمخالفة السنة, وإن صلى أهل المصر بجماعة بغير آذان, ولا إقامة فقد أساءوا لترك السنة المشهورة., وإن صلين يعني النساء بآذان وإقامة جازت صلاتهن مع الإساءة فالإساءة لمخالفة السنة والتعريض للفتنة. ولا بأس بأن يؤذن رجل ويقيم آخر لأن كل واحد منهما ذكر مقصوده فلا بأس بأن يأتي بكل واحد منهما رجل آخر, ولا يؤذن لصلاة قبل دخول وقتها ويعاد في الوقت; لأن المقصود, وهو إعلام الناس بدخول الوقت لم يحصل ويعاد آذان الجنب, وكذا آذان المرأة فما ذكرنا, وأمثاله يخرج على هذه الأصل.
قوله "وأما النفل فما يثاب المرء على فعله, ولا يعاقب على تركه" عرف النفل ببيان حكمه إذ المذكور حكم النفل ولهذا قال شمس الأئمة وحكم النفل شرعا أنه يثاب على فعله, ولا يعاقب على تركه. وقال القاضي الإمام نوافل العبادات هي التي يبتدئ بها العبد زيادة على الفرائض والسنن المشهورة, وحكمها أن يثاب العبد على فعلها, ولا يذم على تركها; لأنها جعلت زيادة له لا عليه بخلاف السنة فإنها طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن حيث سبيلها الإحياء كان حقا علينا فعوتبنا على تركها. "ولذلك" أي, ولما ذكرنا أن النفل كذا قلنا أن ما زاد على القصر في صلاة السفر, وهو الشفع الثاني نفل; لأن العبد لا يلام على تركه رأسا, وأصلا ويثاب على فعله في الجملة. وإذا ثبت أنه نفل لا يصح خلطه بالفرض كما في الفجر. ولا يلزم عليه صوم المسافر فإنه يثاب على فعله, ولا يعاقب على تركه ثم إنه لو أداه يقع فرضا; لأن المراد من الترك, وهو الترك مطلقا وصوم المسافر ليس كذلك فإنه يعاقب على تركه في الجملة. ألا ترى أنه لو أدرك عدة من أيام أخر يجب عليه قضاء الصوم ويعاقب على تركه فلم يكن الصوم في السفر نفلا. ولا الزيادة على الآية أو الثلاث في القراءة في الصلاة فإنه يثاب عليها, ولا يعاقب على تركها مع أنها تقع فرضا.; لأنا لا نسلم أنها قبل وجودها وتحققها كانت فرضا بل هي كانت نفلا إذا لم يكن في ذمته الإتيان بها, ولذلك استقام عليها حد النفل, ولكنها انقلبت فرضا بعد وجودها لدخولها تحت مطلق الأمر وعمومه, وهو قوله تعالى {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} "المزمل: 20". كانقلاب اليمين سببا للكفارة بعد فوات البر ألا ترى أن النافلة تصير فرضا بالشروع حتى لو أفسدها يجب القضاء ويعاقب على تركها بعد أن لم يكن كذلك قبل الشروع فكذا الزيادة على الثلاث يجوز أن يصير فرضا بعد الوجود لتناول

(2/451)


والنفل شرع دائما فلذلك جعلناه من العزائم ولذلك صح قاعدا وراكبا; لأنه ما شرع بلازم العجز لا محالة فلازم اليسر, وهذا القدر من جنس الرخص وقال الشافعي رحمه الله لما شرع النفل على هذا الوصف وجب أن يبقى كذلك غير لازم وقد غيرتم أنتم وقلت إن ما لم يفعل بعد فهو مخير فيه فبطل المؤدى
ـــــــ
الأمر إياها فإن الأمر إنما وقع على الأدنى, ولم ينصرف إلى ما فوقه; لأنه لم يكن مقداره معلوما في نفسه فإذا أتى به فقد صار مقدارا معلوما فأمكن صرف الأمر إليه كذا ذكره أبو اليسر.
فأما الأمر بالصلاة فيتناول أفعالا مقدرة فالزيادة عليها لا تدخل تحت الأمر بحال فلا تقع فرضا. "ولذلك جعلناه من العزائم" أي; ولأن النفل شرع دائما جعلناه من العزائم; لأن دوام شرعيته يدل على وكادته وأصالته, إذ لو بني على أعذار العباد لشرع في وقت العذر لا دائما. ولا يقال لا نسلم أنه شرع دائما لأنه منهي عنه في الأوقات الثلاث وبعد الفجر والعصر.; لأنا نقول هو مشروع في هذه الأوقات مع كونه منهيا عنه حتى لو شرع فيه, وأفسده يجب القضاء عليه في الأصح. ولذا صح قاعدا أي ولأجل أنه شرع دائما صح أداؤه قاعدا مع القدرة على القيام. لو راكبا مع القدرة على النزول بالإيماء. وإن لم يكن متوجها إلى القبلة; لأن النفل على الوصف الذي شرع, وهو وصف الدوام يلازم العجز والحرج فلا يمكن إقامته آناء الليل والنهار قائما; لأنه يعترض عليه الحوادث من المرض والضعف والحاجة إلى الركوب ونحوها باعتبار الأصل تعتبر هذه العوارض في الحال إذ لو لم تعتبر العوارض أدى إلى الحرج فلذلك جوزنا الأداء على أي وصف نشط قائما وقاعدا وراكبا. وهذا القدر أي شرعية الأداء قاعدا أو راكبا من غير عذر من جنس الرخص; لأن العذر قدر موجودا باعتبار الأصل فكان شرعيته بناء عليه فكان له شبهة بالرخصة من هذا الوجه. وكأنه أخر ذكره عن سائر أقسام العزائم; لأنه لم يخلص عزيمة.
قوله "وقال الشافعي" إلى آخره إذا شرع في صلاة النفل أو في صوم النفل يؤاخذ بالمضي فيه, ولو لم يمض يؤاخذ بالقضاء عندنا وعند الشافعي رحمه الله لا يؤاخذ بواحد منهما; لأن النفل للشرع على هذا الوصف, وهو أنه غير لازم حتى يثاب على فعله, ولا يعاقب على تركه وجب أن يبقى كذلك بعد الشروع. ولا يصير لازما; لأن حقيقة الشيء لا يتغير بالشروع ألا ترى أنه بعد الشروع نفل كما كان قبله, ولهذا يتأدى بنية النفل, ولو أتمه كان مؤديا للنفل لا مسقطا للواجب, ولا يمنع صحة الخلوة ويباح الإفطار بعذر الضيافة, ولو صار فرضا لما ثبتت هذه الأحكام. وإذا كان نفلا حقيقة وجب أن يكون مخيرا في الباقي كما كان مخيرا في الابتداء تحقيقا للنفلية; لأن آخره من جنس أوله. وقد غيرتم أنتم

(2/452)


حكما له كالمظنون وقلنا نحن إن ما أداه فقد صار لغيره مسلما إليه وحق غيره محترم مضمون عليه إتلافه ولا سبيل إليه إلا بالإلزام الباقي, وهما أمران متعارضان
ـــــــ
حيث قلتم باللزوم في الباقي. "وقلت" أنا إن ما لم نفعل بعد أي بعد ما أدى جزءا منه. وهو مخير فيه أي فيما لم يؤد; لأنه نفل فيكون على وفق الابتداء فمن أخرج عشرة دراهم للتصدق نفلا فتصدق بدرهم وسلم كان بالخيار في الباقي, وكذا إذا تصدق, ولم يسلم كان الخيار في التسليم فكذا إذا صلى ركعة كان بالخيار في الركعة الأخرى. وإذا ثبت له الخيار في الباقي وحل له ترك ما لم يأت به; لأنه لم يلتزمه يبطل المؤدى ضمنا له وتبعا لترك ما ليس عليه فلا يكون إبطالا حكما كمسافر صلى الظهر لا يحل له إبطالها لكن يحل له إقامة الجمعة ثم الظهر يبطل حكما لما جعل ذلك إليه وحل له, وكمن أحرق حصائد أرض نفسه فاحترق زرع جاره أو سقى نفسه فنزت أرض جاره لا يجعل ذلك إتلافا; لأنه ثبت تبعا لما هو حلال له. ولما كان بطلان المؤدى أمرا حكميا لا بصنعه لا يضمن بالقضاء كالمظنون, وهو ما إذا شرع في صلاة أو صوم على ظن أنه عليه فتبين أنه ليس عليه يصير شارعا في النفل بالاتفاق, ولو أفسده لا يجب عليه القضاء لما ذكرنا أنه مخير في الأداء, وإن البطلان ضمني فكذا هاهنا. ولا معنى لاعتبار الشروع بالنذر; لأن النذر التزام بالقول, وله ولاية ذلك فإذا أتى بكلمة الالتزام لزمه, وأما الشروع فليس بالتزام بل هو أداء بعض العبادة, ولم يوجد فيما بقي التزام فلا يلزمه. ونظيره الكفالة مع الفرض أو الصدقة فإن الكفيل لما التزم بالقول فيلزمه ما التزم فأما المقرض والمتصدق فلا يلتزم بالقول, ولكن شرع في الإعطاء فبقدر ما أدى يصح, ولا يلزمه ما لم يعط. يوضح الفرق بينهما لو نذر أربع ركعات يلزمه, ولو شرع ينوي أربع ركعات لا يلزمه. ولو نذر الصلاة قائما يلزمه القيام, ولو شرع قائما لا يلزمه. ولو نذر صوم يوم النحر يلزمه عندكم, ولو شرع فيه لا يلزمه على أن الشروع أداء بالفعل والنذر إيجاب في الذمة بالقول ثم في النذر يلزمه بقدر ما سمى فكذلك بالشروع يلزمه بقدر ما أدى, وما لم يؤده لا يلزمه كما أن ما لم يسمه بالنذر لا يلزمه. فبطل المؤدى يعني عند الامتناع عن أداء الباقي. حكما له أي للامتناع الثابت بالتخيير.
قوله "وقلنا نحن إن أداه فقد صار لغيره" يعني صار عبادة لله تعالى مسلما إليه; لأنه لما شرع في الصوم أو في الصلاة, وأدى جزءا منه فقد تقرب إلى الله تعالى بأداء ذلك الجزء وصار العمل لله تعالى حقا له بالنص ولهذا لو مات كان مثابا على ذلك. وحق غيره محترم أي حرام التعرض بالإفساد ومضمون عليه إتلافه بالنص والإجماع فوجب صيانته وحفظه احترازا عن ارتكاب المحرم ووجوب الضمان, ولا سبيل إليه أي إلى حفظه

(2/453)


أعني المؤدي وغير المؤدي فوجب الترجيح لما قلنا بالاحتياط في العبادة
ـــــــ
وصيانته أو إلى كونه مضمونا إلا بإلزام الباقي, وهما أمران متعارضان أعني المؤدى وغير المؤدى يعني لو نظر إلى المؤدى يلزم إلزام الباقي صيانة له عن البطلان, ولو نظر إلى غير المؤدى نفسه يلزم أن يكون غير لازم; لأنه في ذاته نفل كما قاله الشافعي. فوجب الترجيح لما قلنا اللام ليست للتعليل بل هي صلة الترجيح أي وجب ترجيح ما قلنا بالاحتياط في العبادة فإن قيل لا نسلم أن المؤدى صار عبادة لله تعالى; لأن ما شرع فيه عبادة صوم أو صلاة, وهي مما لا يتجزأ فلا يكون الموجود طاعة إلا بانضمام الباقي إليه, وإذا لم يكن طاعة لا يحرم إبطاله. ولئن سلمنا كونه عبادة فلا نسلم أن أداء الباقي شرط لبقائه عبادة; لأنه عرض يستحيل بقاؤه فكما وجد انقضى وعدم, ولا تصور للغير بعد العدم.
والدليل عليه أن المؤدى باعتراض الموت لا يخرج عن كونه عبادة حتى ينال به الثواب بلا خلاف بين الأمة, ولو كان أداء الباقي شرطا لبقائه عبادة لبطل بفوات الشرط. يوضحه أن أداء الباقي لو جعل شرطا لا يخلو من أن يجعل شرطا لانعقاد المؤدى عبادة أو لبقائه عبادة فإن قلتم بالأول فالامتناع عن مباشرة شرط الانعقاد لا يعد إبطالا, وإن قلتم بالثاني فهو خلاف المعقول; لأنه لما انعقد عبادة بدون الباقي فلأن يبقى بدونه كان الأولى; لأن البقاء أسهل من الابتداء. ولئن سلمنا كون الباقي شرط لبقائه عبادة فلا نسلم أن الامتناع عن أداء الباقي إبطال له; لأن الإبطال إنما يحصل بمصادفة الفعل وذلك فيما مضى من الأفعال محال, ولكنه إذا امتنع فات وصف العبادة عن المؤدى فلا يكون مضافا إلى فعله كما ذكرنا من النظائر. قلنا نحن لا ندعي أن المؤدى صوم أو صلاة في الحال, ولكنا نقول هو أفعال الصوم والصلاة على معنى أنه يصير مع غيره صوما تاما شرعيا فكان له عرضية أن يصير صوما أو صلاة بضم الغير إليه فيكون المؤدي متقربا إلى الله تعالى بهذا الفعل فيكون عبادة من هذا الوجه, ولكنه باعتبار أنه جزء مما لا يتجزأ لا حكم له بدون الأجزاء الأخر ضرورة ثبوت الاتحاد فكان كل جزء عبادة متعلقة بما قبله وبما بعده من الأجزاء إذ لا بد له من التعلق لضرورة الاتحاد فجعل هذا الجزء عبادة وجعل كل جزء مقدما عليه شرطا لانعقاده عبادة وكل جزء يوجد بعده شرط لبقائه على وصف العبادة. فانعقد الجزء المتقدم عبادة وجعل شرطا لانعقاد الأجزاء التي بعده عبادة وانعقد الجزء الأخير عبادة وجعل شرطا لبقاء الأجزاء التي تقدمته على وصف العبادة وكل جزء من الأجزاء المتوسطة انعقد عبادة, وكان شرطا لبقاء ما تقدمه على وصف العبادة وشرطا لانعقاد ما تعقبه عبادة فقلنا هكذا عملا بالدلائل بقدر الإمكان. ولا معنى لقولهم إنه لا يحتمل التغيير بعد العدم; لأن ذلك خلاف النص والإجماع فإنه تعالى قال {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} .

(2/454)


وهو كالنذر صار لله تعالى تسمية لا فعلا ثم وجب لصيانته ابتداء الفعل
ـــــــ
"التوبة: 17-69" وقال عز اسمه: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} "محمد: 33". ولا يرد النهي إلا عما يتصور, ولا خلاف بين الأمة أيضا أن بالردة تبطل الأعمال المتقدمة, وإن كان قد أعطي لها حكم التمام والفراغ, ولما كان الختم على الإيمان شرطا لبقاء ما مضى فلم لا يجوز أن يكون وجود الجزء المتعقب شرطا لبقاء ما تقدم على وصف العبادة., وأما في اعتراض الموت فجعل في التقدير كأن اليوم في حقه لم يكن إلا هذا القدر, وإن الصلاة لم تكن مشروعة إلا هذا القدر; لأنه تعالى هكذا جعل في فضل المهاجر, وإن لم يحصل ما هو المقصود بالهجرة من تأيد البعض بالبعض والتقوي على الذب عن الجورة فكذا فيما نحن فيه وذلك لأن الموت منه لا مبطل على ما عرف. وقولهم انعقد عبادة بدون الباقي فبقي بدونه; لأن البقاء أسهل من الابتداء ينتقض بقبض بدلي الصرف ورأس مال السلم فإنه شرط للبقاء دون الابتداء. وقولهم الامتناع عن أداء الباقي ليس بإبطال قلنا لما أتى بما يناقض العبادة فسدت الأجزاء المتقدمة, ولم يوجد سوى فعله ووجه الفساد لا محالة عند هذا الفعل فجعل مفسدا; لأن الإفساد فعل يحصل به الفساد, وليس من ضرورته أن يضاف المحل الذي حصل فيه الفساد كمن قطع حبلا مملوكا علق به قنديل غيره فسقط القنديل وانكسر جعل متلفا له حقيقة وشرعا, وإن لم يصادف فعله القنديل. وكذا شق زق نفسه فيه مائع لغيره. ومسألتنا إحراق الحصائد وسقي الأرض لا تلزمان فإن ذلك غير مضاف إلى فعله بل إلى رخاوة الأرض, وهبوب الريح, وأشباه ذلك. ألا ترى أن ذلك ينفصل عن فعله عن العادة الجارية بخلاف ما نحن فيه حتى لو كان ذلك على وجه يحصل به الفساد لا محالة بأن كان الماء كثيرا بحيث يعلم أنه لا يحتمله أرضه أو كان الإحراق في يوم ريح لأضيف إليه فيضمن ما فسد من الأرض والزرع. وأما مصلي الظهر إذا راح إلى الجمعة فنقول هو مبطل لصفة الفرضية غير أنه ليس بمنهي عنه; لأنه أبطل ونقض ليؤدي أحسن منه والهادم ليبني أحسن مما كان لا يعد هادما كهادم المسجد ليبني أحسن منه لا يعد ساعيا في خرابه. وصار حاصل الكلام أن ما أدى يوجب عليه حفظ المؤدى, وطريق حفظه أداء الباقي فصار الشروع موجب أداء الباقي بهذه الواسطة وكل صوم أو صلاة يجب أداؤه يجب قضاؤه إذا فسد.
قوله "وهو كالنذر". ثم استدل بالنذر على ما ادعاه فقال, وهو أي الجزء المؤدى بمنزلة المنذور من حيث إن كل واحد منهما صار حقا لله تعالى. أما المؤدى فلما ذكرنا أنه وقع لله تعالى مسلما إليه, وأما المنذور فلأنه جعل لله تعالى تسمية, ولا شك أن ما وقع لله تعالى فعلا أقوى مما صار له تسمية; لأنه بمنزلة الوعد, وأن إيجاب ابتداء الفعل أقوى من

(2/455)


فلأن يجب لصيانة ابتداء الفعل بقاؤه أولى والسنن كثيرة في الصلاة والحج وغير ذلك.
ـــــــ
إيجاب بقائه لما عرف أن البقاء أسهل من الابتداء ثم وجب لصيانة أدنى الأمرين, وهو التسمية ما هو أقوى الأمرين, وهو ابتداء الفعل فلأن يجب لصيانة ما هو أقوى الأمرين, وهو ابتداء الفعل أدنى الأمرين, وهو إيفاء الفعل, وإتمامه كان أولى. وما ذكر الخصم أن النذر والشروع بمنزلة الكفالة والإقراض فليس كذلك; لأن الكفالة, وإن كانت كالنذر باعتبار أنه التزم فالشروع ليس كالإقراض; لأن الإقراض أو التصدق تبرع بالعين والمقصود منه دفع حاجة المستقرض أو الفقير فلا يثبت ذلك قبل التسليم فكان كل واحد قبل التسليم نظير الصلاة في النية والتطهر واستقبال القبلة. فأما المقصود في البدنيات فعمل يستوفى وقد حصل البعض منه فكان كبعض المال المسلم إلى الفقير أو المستقرض, وإليه أشار الشيخ بقوله مسلما إليه ثم إذا تصدق ببعض المال لزمه أن لا يبطله بالرجوع فكذا إذا أتى ببعض العمل وصار مسلما إلى الله تعالى لزمه أن لا يبطله بالامتناع عن أداء الباقي, وإنما افترقا من حيث إن القدر الموجود من الصدقة يبقى صدقة بدون ما لم يوجد, والقدر الموجود من فعل الصلاة والصوم لا يبقى قربة بدون الباقي فيلزمه المضي هاهنا, ولا يلزمه في الصدقة. فأما إباحة الإفطار بعذر الضيافة فرخصه مع بقاء الحظر ولذا كان الامتناع أفضل وذلك كمن صلى الفرض ورأى بقربه صبيا كاد يحترق أو يغرق, وهو قادر على الاستنقاذ أبيح له قطع الفرض واستنقاذ الصبي بل يجب عليه ذلك صيانة للصبي عن الهلاك, وفيه إبطال حق الله تعالى لحق الآدمي فكذا فيما نحن فيه يرخص له الإفطار احترازا عن أذى المسلم, وصحة الخلوة ممنوعة أيضا بل هي فاسدة كذا ذكر الشيخ أبو المعين في طريقته.
وأما الشروع في النفل قائما, وإتمامه قاعدا أو نية الأربع مع التسليم على رأس الركعتين ففارقا النذر; لأن وجود ما وراء الركعتين وصفة القيام ليسا بشرطين لبقاء المؤدى عبادة وذكر الشيخ في شرح التقويم أن وجوب الباقي لمعنى في غيره, وهو صيانة المؤدى لا لمعنى في نفسه فلا يمنع صحة الخلوة, وإباحة الإفطار بعذر الضيافة واقتداءه بالمتنفل; لأنه في حق نفسه نفل. وأما فضل المظنون فالقياس فيه ما قاله زفر رحمه الله; لأن المؤدى انعقد عبادة فيجب صيانتها بالمضي فيه إلا علماءنا استحسنوا وقالوا إن سبب الوجوب, وهو الشروع صادف الواجب فيلغو; لأن الوجوب لا يتكرر في شيء واحد كما لو قال لله علي ظهر اليوم وذلك; لأن العبد إنما يؤاخذ بما عنده لا بما عند الله تعالى; لأن ذلك ليس في وسعه عنده أنه شرع في الواجب فكان كما لو شرع في الظهر أو صوم القضاء ثم أفسده

(2/456)


---------------------------------------------------------
ـــــــ
لا يجب بهذا الشروع والإفساد شيء فكذا هذا. ونحن لا نقول إن جميع القرب يلزم حفظها ويضمن بإفسادها بل يجب عبادة نفل التزمها وحصلها باختياره, وهذه القربة حصلت له بدون اختياره من جهة الشرع, وإذا لم يلتزمه باختياره لم يصر ضامنا للعهدة فلا يجب عليه صيانته, وهذا; لأن القياس يوجب أن لا ينعقد فعله عبادة أصلا; لأن الواجب الذي قصد إليه ليس بموجود والنفل لا ينعقد قربة بدون القصد إليه إلا أن الشرع جعله نفلا من غير قصده نظرا له فجعله منعقدا فيما له فيه نظر, وهو أنه لو أتمه يصلح سببا للثواب, ولا يجعل منعقدا فيما له فيه ضرر, وهو وجوب الصيانة عليه. وهو كالقرب في حق الصبي لما شرعت نظرا له تجعل مشروعة فيما له فيه نظر, وهو الصحة بعد الأداء, ولم تجعل مشروعة فيما له فيه ضرر, وهو الوجوب. والسنن كثيرة يعني لا احتياج إلى إيراد النظائر فإنها كثيرة في باب الصلاة والحج وغير ذلك من الطهارة والصوم والاعتكاف على ما تضمنتها كتب الفروع.

(2/457)