كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية

باب المشهور من الأخبار
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه المشهور ما كان من الآحاد في الأصل ثم انتشر فصار ينقله قوم لا يتوهم تواطؤهم على الكذب, وهم القرن الثاني بعد الصحابة رضي الله عنهم, ومن بعدهم وأولئك قوم ثقات أئمة لا يتهمون فصار
ـــــــ
"باب المشهور من الأخبار"
"في هذا الباب لبيان القسم الثاني"
من أقسام الاتصال, وهو الذي فيه ضرب شبهة صورة لا معنى; لأنه لما كان من الآحاد في الأصل كان في الاتصال ضرب شبهة صورة, ولما تلقته الأمة بالقبول مع عدالتهم وتصلبهم في الدين كان بمنزلة المتواتر. وهو اسم لخبر كان من الآحاد في الأصل أي في الابتداء ثم انتشر في القرن الثاني حتى روته جماعة لا يتصور تواطؤهم على الكذب, وقيل هو ما تلقته العلماء بالقبول. والاعتبار للاشتهار في القرن الثاني والثالث, ولا عبرة للاشتهار في القرون التي بعد القرون الثلاثة فإن عامة أخبار الآحاد اشتهرت في هذه القرون, ولا تسمى مشهورة فلا يجوز بها الزيادة على الكتاب مثل خبر الفاتحة والتسمية في الوضوء وغيرهما. ويسمى هذا القسم مشهورا, ومستفيضا من شهر يشهر شهرا وشهرة فاشتهر أي وضح, ومنه شهر سيفه إذا سله. واستفاض الخبر أي شاع وخبر مستفيض أي منتشر بين الناس.
وأما حكمه فقد اختلف فيه فذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه ملحق بخبر الواحد فلا يفيد إلا الظن. وذهب أبو بكر الجصاص وجماعة من أصحابنا إلى أنه مثل المتواتر فيثبت به علم اليقين لكن بطريق الاستدلال لا بطريق الضرورة, وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي فقد ذكر في القواطع: خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول يقطع بصدقه مثل خبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية وخبر أبو هريرة في تحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها وخبر حمل بن مالك في الجنين, وما أشبه هذه الأخبار. وذهب

(2/534)


بشهادتهم وتصديقهم بمنزلة المتواتر حجة من حجج الله تعالى حتى قال الجصاص: إنه أحد قسمي المتواتر وقال عيسى بن أبان: إن المشهور من الأخبار يضلل جاحده, ولا يكفر مثل حديث المسح على الخفين وحديث الرجم وهو الصحيح عندنا; لأن المشهور بشهادة السلف صار حجة للعمل به كالمتواتر فصحت الزيادة به على كتاب الله تعالى, وهو نسخ عندنا وذلك مثل زيادة الرجم والمسح على الخفين والتتابع في صيام كفارة اليمين لكنه لما كان في الأصل من الآحاد ثبت به شبهة فسقط به علم اليقين, ولم يستقم اعتباره في العمل
ـــــــ
عيسى بن أبان من أصحابنا إلى أنه يوجب علم طمأنينة لا علم يقين فكان دون المتواتر, وفوق خبر الواحد حتى جازت الزيادة به على كتاب الله التي هي تعدل النسخ, وإن لم يجز النسخ به مطلقا, وهو اختيار القاضي الإمام أبي زيد والشيخين وعامة المتأخرين. قال أبو اليسر وحاصل الاختلاف راجع إلى الإكفار فعند الفريق الأول يعني من أصحابنا يكفر جاحده وعند الفريق الثاني لا يكفر ونص شمس الأئمة رحمه الله على أن جاحده لا يكفر بالاتفاق, وإليه أشير في الميزان أيضا وعلى هذا لا يظهر أثر الخلاف في الأحكام. وجه قول الفريق الأول من أصحابنا أن التابعين لما أجمعوا على قبوله والعمل به ثبت صدقه; لأنه لا يتوهم اتفاقهم على القبول إلا بجامع جمعهم عليه, وليس ذلك إلا تعيين جانب الصدق في الرواة ولهذا سمينا العلم الثابت به استدلاليا لا ضروريا إلا أنه لا يكفر جاحده; لأن إنكاره وجحوده لا يؤدي إلى تكذيب الرسول عليه السلام; لأنه لم يسمع من الرسول عليه السلام عدد لا يتصور تواطؤهم على الكذب بل هو خبر واحد قبله العلماء في العصر الثاني, وإنما يؤدي إلى تخطئة العلماء في القبول واتهامهم بعدم التأمل في كونه عن الرسول غاية التأمل, وتخطئة العلماء ليست بكفر بل هي بدعة وضلال بخلاف إنكار المتواتر فإنه يؤدي إلى تكذيب الرسول عليه السلام إذ المتواتر بمنزلة المسموع منه وتكذيب الرسول كفر. وجه قول الفريق الآخر ما ذكر في الكتاب أنه, وإن صار حجة بشهادة السلف بحيث صحت الزيادة به على الكتاب لكن بقي فيه شبهة الانفصال, وتوهم الكذب باعتبار أن رواته في الأصل لم يبلغوا حد التواتر فيسقط به علم اليقين ولهذا لم يكفر جاحده; لأنه لا يثبت إلا بإنكار اليقين., ولم يستقم اعتباره أي اعتبار ما يثبت فيه من الشبهة أو اعتبار كونه من الآحاد في الأصل. في العمل أي في كونه موجبا للعمل; لأن الشبهة الثابتة في خبر الواحد والقياس التي هي فوق هذه الشبهة لا تؤثر في إسقاط العمل بهما فهذه أولى. فاعتبرناه في العلم فأثرت في سقوط اليقين, إلا بما يشق دركه فيكون من هذا الوجه كالمتواتر لكن العلم بالمتواتر كان لصدق في نفسه لانقطاع توهم الكذب بالكلية, والعلم

(2/535)


فاعتبرناه في العلم; لأنا لا نجد وسعا في رد المتواتر, وإنما يشك فيه صاحب الوسواس, ونخرج في رد المشهور; لأنه لا يمتاز عن المتواتر إلا بما يشق دركه لكن العلم بالمتواتر كان لصدق في نفسه فصار يقينا, والعلم بالمشهور لغفلة عن ابتدائه وسكون إلى حاله فسمي علم طمأنينة, والأول علم اليقين.
ـــــــ
بالمشهور لغفلة عن ابتدائه وسكون إلى حاله يعني إنما يحصل له العلم بلا اضطراب وشبهة إذا غفل عن كونه خبر واحد في الأصل وسكن إلى شهرته الحادثة في الحال, وكونه مقبولا عند العلماء لكن لو تأمل في ابتدائه لاعتراه وهم وتخالجه شك فلذلك سمي علم طمأنينة.
قوله "وذلك" أي الزيادة على النص بالخبر المشهور. مثل زيادة الرجم في حق المحصن بقوله عليه السلام: "والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" . وبرجم النبي عليه السلام ماعزا وغيرهما. والمسح على الخفين بحديث المغيرة وغيره. والتتابع في صوم كفارة اليمين بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه فصيام ثلاثة أيام متتابعات. وقد تحقق النسخ معنى في هذه الصور بهذه الزيادات فإن عموم قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} "النور: 2". يتناول المحصن كما يتناول غيره فبزيادة الرجم انتسخ حكم الجلد في حقه. وكذا قوله تعالى {وَأَرْجُلَكُمْ} "المائدة: 6". يتناول حالة التخفف في إيجاب الغسل فبزيادة المسح انتسخ الحكم في هذه الحالة. وكذا إطلاق قوله عز اسمه: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} "البقرة: 196"و"المائدة: 89". يوجب جواز التفرق والتتابع فيه فبتقييده بالتتابع انتسخ جواز التفرق., وليس ما ذكرنا من قبيل التخصيص; لأن من شرطه عندنا أن يكون المخصص مثل المخصوص منه في القوة, وأن يكون متصلا لا متراخيا, ولم يوجد الشرطان جميعا. ثم النظائر الثلاثة المذكورة, وإن كانت متساوية في جواز الزيادة بها على الكتاب, ولكنها متفاوتة في حق تضليل جاحدها فقد قال عيسى بن أبان إن هذا القسم يعني الخبر الذي دون المتواتر ثلاثة أنواع.
قسم يضلل جاحده, ولا يكفر مثل خبر الرجم لاتفاق العلماء من الصدر الأول والثاني على قبوله. وقسم لا يضلل جاحده, ولكن يخطأ ويخشى عليه المأثم نحو خبر المسح على الخف لشبهة الاختلاف فيه في الصدر الأول فإن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم كانا يقولان سلوا هؤلاء الذين يرون المسح مثل مسح رسول الله عليه السلام بعد سورة المائدة, وقد نقل رجوعهما عن ذلك فلشبهة الاختلاف لا يضلل جاحده, ولكن يخشى

(2/536)


---------------------------------------------------------
ـــــــ
عليه الإثم; لأن باعتبار الرجوع يثبت الإجماع, وقد ثبت الإجماع على قبوله في الصدر الثاني والثالث, ولا يسع مخالفة الإجماع فلذلك يخشى على جاحده المأثم. وقسم لا يخشى على جاحده المأثم, ولكن يخطأ في ذلك مثل الأخبار التي اختلف فيها الفقهاء في باب الأحكام; لأنه لما ظهر الاختلاف فيها في كل قرن كان لكل من ترجح عنده جانب الصدق أن يخطئ صاحبه, ولكن لا يؤثم في ذلك; لأنه صار إليه عن اجتهاد, والإثم في الخطأ موضوع عن المجتهد كذا ذكر الإمام شمس الأئمة رحمه الله.

(2/537)