كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية "باب
تقسيم الراوي الذي جعل خبره حجة"
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه وهو ضربان معروف ومجهول
والمعروف نوعان من عرف بالفقه والتقدم في الاجتهاد ومن عرف
بالرواية دون الفقه والفتيا وأما المجهول فعلى وجوه إما أن
يروي عنه الثقات ويعملوا بحديثه ويشهدوا له بصحة حديثه
ويسكتوا عن الطعن فيه أو يعارضوه بالطعن والرد أو اختلف
فيه أو لم يظهر حديثه بين السلف فصار قسم المجهول على خمسة
أوجه أما المعروفون فالخلفاء الراشدون وعبد الله بن مسعود
وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو وزيد بن ثابت ومعاذ
بن جبل وأبو موسى الأشعري وعائشة رضي الله عنهم وغيرهم ممن
اشتهر بالفقه والنظر وحديثهم حجة إن وافق القياس أو خالفه
فإن وافقه تأيد به, وإن خالفه ترك القياس به, وقال
ـــــــ
"باب تقسيم الراوي الذي جعل خبره حجة"
وإذا ثبت أن خبر الواحد حجة فاعلم أن كل خبر وليس المراد
بالقبول التصديق, ولا بالرد التكذيب بل يجب علينا قبول قول
العدل, وربما يكون كاذبا أو غالطا, ولا يجوز قبول قول
الفاسق, وربما يكون صادقا بل المقبول ما يجب العمل به
والمردود ما لا تكليف علينا في العمل به ثم للقبول شرائط
بعضها متفق عليه وبعضها مختلف فيه وهذا الباب لبيان بعض
شرائطه; لأن حاصله اشتراط كون الراوي معروفا بالرواية
والعدالة والضبط والفقاهة لقبول خبره مطلقا, موافقا للقياس
أو مخالفا وليست الفقاهة فيه شرطا عند البعض.
"أما المعروفون" يعني بالفقه من الصحابة وغيرهم مثل أبي بن
كعب وعبد الرحمن بن عوف وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن
الزبير, قوله "وحديثهم حجة إن وافق القياس أو خالفه" وهو
مذهب الجمهور من الفقهاء وأئمة الحديث فإن وافقه تأيد به
أي
(2/550)
مالك رحمه الله
فيما يحكى عنه بل القياس مقدم عليه; لأن القياس حجة بإجماع
السلف وفي اتصال هذا الحديث شبهة والجواب أن الخبر يقين
ـــــــ
قوي الحديث بالقياس يعني يكون التمسك بالحديث لا بالقياس
بل يكون القياس مؤيدا له وقال مالك رحمه الله فيما يحكى
عنه: بل القياس مقدم على الحديث أراد أنه لم يشتهر هذا
المذهب عنه قال صاحب القواطع وقد حكي عن مالك أن خبر
الواحد إذا خالف القياس لا يقبل وهذا القول باطل سمج
مستقبح عظيم, وأنا أجل منزلة مالك عن مثل هذا القول ولا
يدرى ثبوته منه. وذكر أبو الحسين البصري في المعتمد أن
القياس إذا عارضه خبر واحد فإن كانت علة القياس منصوصة بنص
قطعي وخبر الواحد ينفي موجبها, وجب العمل بالقياس بلا
خلاف; لأن النص على العلة كالنص على حكمها فلا يجوز أن
يعارضها خبر الواحد. وإن كانت منصوصة بنص ظني يتحقق
المعارضة ويكون العمل بالخبر أولى من القياس بالاتفاق;
لأنه دال على الحكم بصريحه والخبر الدال على العلة يدل على
الحكم بواسطة, وإن كانت مستنبطة من أصل ظني كان الأخذ
بالخبر أولى بلا خلاف; لأن الظن والاحتمال كلما كان أقل
كان أولى بالاعتبار وذلك في الخبر, وإن كانت مستنبطة من
أصل قطعي والخبر المعارض للقياس خبر واحد فهو موضع الخلاف
وإن كان الأصوليون ذكروا الخلاف مطلقا. فعند الشافعي
وجمهور أئمة الحديث الخبر راجح سواء كان الراوي عالما
فقيها أو لم يكن بعد إن كان عدلا ضابطا وهو مذهب الشيخ أبي
الحسن الكرخي وقال عيسى بن أبان إن كان الراوي عدلا ضابطا
عالما وجب تقديم خبره على القياس وإلا كان موضع الاجتهاد.
وحكي عن مالك أنه رجح القياس على خبر الواحد فإنه عمل
بالقياس في الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا ولم يعمل بالخبر
الوارد فيه واحتج في ذلك بأنه قد اشتهر من الصحابة الأخذ
بالقياس ورد خبر الواحد فإن ابن عباس لما سمع أبا هريرة
رضي الله عنهم يروي: "توضئوا مما مسته النار" قال لو توضأت
بماء سخن أكنت تتوضأ منه1 ولما سمعه يروي: "من حمل جنازة
فليتوضأ" قال أيلزمنا الوضوء من حمل عيدان يابسة2 ورد علي
رضي الله عنه حديث بروع بالقياس3 ورد عمر رضي الله عنه
حديث فاطمة بنت قيس بالقياس ورد إبراهيم النخعي والشعبي ما
ـــــــ
1 أخرجه الترمذفي الطهارة حديث رقم 79 وابن ماجة في
الطهارة حديث رقم 485 والإمام أحمد في المسند 1/236.
2 أخرجه أبود داود في الجنائز حديث رقم 3161 والترمذي في
الجنائز حديث رقم 993 وابن ماجة مختصرا حديث رقم 1463
والإمام أحمد في المسند 2/545.
3 أخرجه أبو داود في النكاح حديث رقم 2114- 2116 والترمذي
في النكاح حديث رقم 1145 وابن ماجة في النكاح حديث رقم
1891
(2/551)
بأصله; وإنما
دخلت الشبهة في نقله والرأي محتمل بأصله في كل وصف على
الخصوص فكان الاحتمال في الرأي أصلا وفي الحديث عارضا ولأن
الوصف في
ـــــــ
يروى أن ولد الزنا شر الثلاثة, وقال: لو كان ولد الزنا شر
الثلاثة لما انتظر بأمه أن تضع حملها وهذا نوع قياس وبأن
القياس حجة بإجماع السلف من الصحابة وفي اتصال خبر إلى
النبي عليه السلام شبهة فكان الثابت بالقياس الذي هو ثابت
بالإجماع أقوى من الثابت بخبر الواحد فكان العمل به أولى
وبأن القياس أثبت من خبر الواحد لجواز السهو والكذب على
الراوي, ولا يوجد ذلك في القياس وبأن القياس لا يحتمل
تخصيصا والخبر يحتمله فكان غير المحتمل أولى من المحتمل.
واحتج من قدم خبر الواحد على القياس بإجماع الصحابة رضي
الله عنهم فإنهم كانوا يتركون أحكامهم بالقياس إذا سمعوا
خبر الواحد فإن أبا بكر رضي الله عنه نقض حكما حكم فيه
برأيه لحديث سمعه من بلال وترك عمر رضي الله عنه رأيه في
الجنين وفي دية الأصابع بالحديث حتى قال كدنا نقضي فيه
برأينا وفيه سنة رسول الله عليه السلام وترك رأيه في عدم
توريث المرأة من دية زوجها بالحديث الذي رواه الضحاك بن
مزاحم وترك ابن عمر رضي الله عنهما رأيه في المزارعة
بالحديث الذي سمعه من رافع بن خديج ونقض عمر بن عبد العزيز
ما حكم به من رد الغلة على البائع عند الرد بالعيب بما روي
عن النبي عليه السلام أن: "الخراج بالضمان" وفي نظائره
كثرة.
وأما ما ذكر من ردهم خبر الواحد فذلك لأسباب عارضة لا
لترجيحهم القياس عليه وبأن الخبر يقين بأصله; لأنه قول
الرسول عليه السلام لا احتمال للخطأ فيه; وإنما الشبهة في
طريقه وهو النقل; ولهذا لو ارتفعت الشبهة كان حجة قطعا
بمنزلة المسموع منه عليه السلام والرأي محتمل بأصله في كل
وصف أي كل وصف من أوصاف النص يحتمل أن يكون هو المؤثر في
الحكم, ويحتمل أن لا يكون فكان الاحتمال الثابت في الأصل
أقوى من الاحتمال الثابت في الطريق بعد التيقن بالأصل فكان
الأخذ بما هو أضعف احتمالا وهو الخبر أولى. وقوله فكان
الاحتمال في الرأي أصلا يعني الأصل في الرأي الاحتمال وعدم
اليقين; لأن الوقوف على الوصف الذي هو مناط الحكم لا يتحقق
بطريق التيقن إلا بالنص أو بالإجماع, وذلك أمر عارض
واليقين في الخبر أصل; لأنه الكلام المسموع من الرسول صلى
الله عليه وسلم وهو حجة بلا شبهة; وإنما تحققت الشبهة
بعارض النقل وتخلل الواسطة واحتمال الغلط والنسيان فكان
الاحتمال فيه عارضا والاحتمال الأصلي أقوى من الاحتمال
العارض فلهذا كان العمل بالخبر أولى وذكر بعض الأصوليين أن
التمسك بالخبر لا يتم إلا بثلاث مقدمات ثبوته عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ودلالته على الحكم ووجوب العمل
(2/552)
النص كالخبر,
والرأي والنظر فيه كالسماع, والقياس عمل به والوصف ساكت عن
البيان والخبر بيان نفسه فكان الخبر فوق الوصف في الإبانة,
والسماع فوق الرأي في الإصابة. ولهذا قدمنا خبر الواحد على
التحري في القبلة فلا يجوز التحري معه, وأما رواية من لم
يعرف بالفقه ولكنه معروف بالعدالة والضبط مثل أبي هريرة
وأنس بن مالك رضي الله عنهما فإن وافق القياس عمل به, وإن
خالفه
ـــــــ
به والأولى ظنية والثانية والثالثة يقينيتان فأما التمسك
بالقياس فلا يتم إلا بأربع مقدمات أو خمس ثبوت حكم الأصل.
وكونه معللا بالعلة الفلانية وحصول تلك العلة في الفرع
وعدم المانع في الفرع عند من يجوز تخصيص العلة ووجوب العمل
به, والأولى والخامسة يقينيتان, والبواقي ظنية وإذا كان
كذلك كان العمل بالخبر أقل ظنا من العمل بالقياس فوجب أن
يكون الخبر راجحا.
قوله "ولأن الوصف في النص كالخبر" أي الوصف الذي عينه
المجتهد لتعليق الحكم به بمنزلة الخبر من حيث إن الحكم
يضاف إليه كالخبر والنظر فيه أي التأمل والوقوف على تأثيره
بمنزلة سماع الخبر من الراوي والقياس عمل به أي تعدية
الحكم بوساطته إلى الفرع وهو العمل بذلك الوصف بمنزلة
العمل بالخبر. والوصف ساكت عن البيان أي عن إثبات المدعى
نصا; لأن القايس إنما جعله شاهدا على الحكم بضرب إشارة من
الشرع والخبر بيان نفسه حقيقة; لأنه ناطق بالحكم فكان أقوى
من الوصف في الإبانة أي في إظهار الحكم وإثباته, والسماع
فوق الرأي في الإصابة إذ لا مدخل للاحتمال فيه; لأنه ثابت
حسا, والغلط لا يجري في المحسوسات, ولا كذلك الرأي فلا
يجوز ترك القوي بالضعيف وأما ما تمسك الخصم به من رد
الصحابة الخبر بالقياس فليس كذلك بل ردوه لعدم فقه الراوي
أو لمعان عارضة ذكرناها ونذكرها أيضا. وقوله بأن القياس
حجة بالإجماع وفي اتصال خبر الواحد شبهة في غاية السقوط;
لأن خبر الواحد حجة بالإجماع أيضا والشبهة في القياس أكثر
منها في خبر الواحد فكيف يكون أقوى منه وقوله لاحتمال
الكذب والسهو مدخل في الخبر دون القياس معارض بأن احتمال
كون الحكم غير متعلق بالوصف المستنبط ثابت في القياس دون
الخبر وقوله الخبر محتمل للتخصيص, والقياس لا يحتمله قلنا:
الكلام في خبر يرد ويخالفه القياس وفي هذه الصورة لا
احتمال
قوله "فإن وافق" أي خبر من عرف بالعدالة والضبط دون الفقه
القياس عمل به أي يجب العمل بذلك الخبر, وإن خالف القياس
لم يترك الخبر إلا بالضرورة وانسداد باب الرأي من كل وجه
حتى إذا كان موافقا لقياس مخالفا لقياس آخر لم يترك الحديث
بخلاف
(2/553)
لم يترك إلا
بالضرورة وانسداد باب الرأي ووجه ذلك أن ضبط حديث النبي
عليه السلام عظيم الخطر وقد كان النقل بالمعنى مستفيضا
فيهم فإذا قصر فقه الراوي عن درك معاني حديث النبي عليه
السلام وإحاطتها لم يؤمن من أن يذهب عليه شيء من معانيه
بنقله فيدخله شبهة زائدة يخلو عنها القياس فيحتاط في مثله
وإنما نعني بما قلنا قصورا عند المقابلة بفقه الحديث فأما
الازدراء بهم فمعاذ
ـــــــ
خبر المجهول فإنه إن كان موافقا لقياس مخالفا لآخر جاز
تركه والعمل بالقياس المخالف كذا ذكر في بعض فوائد هذا
الكتاب. وقوله وانسداد باب الرأي تفسير للضرورة وفي قوله
لم يترك إلا بالضرورة لطف ورعاية أدب كما ترى ووجه ذلك أي
وجه عدم القبول عند انسداد باب الرأي أن ضبط حديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم عظيم الخطر; لأنه عليه السلام قد
أوتي جوامع الكلم واختصر له اختصارا كما أخبر عن ذلك,
والوقوف على كل معنى ضمنه في كلامه أمر عظيم; ولهذا قلت
رواية الكبار من الصحابة رضي الله عنهم, ألا ترى إلى ما
روي عن عمرو بن ميمون أنه قال صحبت ابن مسعود رضي الله عنه
سنين ما سمعته يروي حديثا إلا مرة واحدة فإنه قال سمعت
رسول الله عليه السلام ثم أخذه البهر والفرق وجعلت فرائصه
ترتعد فقال نحو هذا أو قريبا منه أو كلاما هذا معناه سمعت
رسول الله عليه السلام يقول كذا1 وقد كان نقل الحديث
بالمعنى مستفيضا فيهم على ما جاء في كثير من الأخبار أمر
النبي عليه السلام بكذا ونهى عن كذا ولما ظهر ذلك منهم
احتمل أن هذا الراوي نقل معنى كلام رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعبارة لا تنتظم المعاني التي انتظمها عبارة
الرسول عليه السلام لقصور فقهه عن دركها إذ النقل لا يتحقق
إلا بقدر فهم المعنى فيدخل هذا الخبر شبهة زائدة تخلو عنها
القياس فإن الشبهة في القياس ليست إلا في الوصف الذي هو
أصل القياس وهاهنا تمكنت شبهة في متن الخبر بعدما تمكنت
شبهة في الاتصال فكان فيه شبهتان وفي القياس شبهة واحدة
فيحتاط في مثل هذا الخبر بترجيح ما هو أقل شبهة وهو القياس
عليه;
ولهذا قال أصحابنا لا يجوز للقاضي نقل عبارة الشهود إلى
عبارة نفسه إذا لم يكن فقيها لاحتمال الزيادة في محل
النقصان أو النقصان في محل الزيادة. ثم هذا الكلام لما
أوهم أنه ازدرى ببعض الصحابة وطعن فيهم بالغلط وعدم الفهم
كما ترى اعتذر عنه بقوله; وإنما نعني بما قلنا من قصور فقه
الراوي قصورا عند المقابلة بفقه الحديث أي عند المقابلة
بما هو فقه لفظ النبي عليه السلام فإما أن نعني به
الازدراء أي الاستخفاف بهم فمعاذ الله عن ذلك فإن محمدا
حكى عن أبي حنيفة رحمهما الله
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجة في المقدمة حدبث رقم 23.
(2/554)
الله من ذلك
فإن محمدا رحمه الله يحكي عن أبي حنيفة رضي الله عنه في
غير موضع أنه احتج بمذهب أنس بن مالك رضي الله عنه وقلده
فما ظنك في أبي هريرة رضي الله عنه حتى أن المذهب عند
أصحابنا رحمهم الله في ذلك أنه لا يرد حديث أمثالهم إلا
إذا انسد باب الرأي والقياس; لأنه إذا انسد صار الحديث
ـــــــ
أنه احتج في مواضع كثيرة مثل تقدير الحيض وغيره بمذهب أنس
بن مالك رضي الله عنه مقلدا له فما ظنك في أبي هريرة مع
أنه أعلى درجة في العلم من أنس رضي الله عنهما لاشتراكهما
في الصحبة واختصاص أبي هريرة بدعاء الرسول عليه السلام له
بالفهم ونفثه في ردائه على ما روي عنه أنه قال: "حضرت
مجلسا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "من يبسط منكم
رداءه حتى أفيض فيه مقالتي فيضمها إليه ثم لا ينساها"
فبسطت بردة كانت علي فأفاض رسول الله عليه السلام فيها
مقالته فضممتها إلى صدري فما نسيت بعد ذلك شيئا1"; لأنه
إذا انسد باب الرأي صار الحديث ناسخا يعني إذا تحققت
الضرورة بانسداد باب الرأي من كل وجه وجب ترك الخبر; لأنه
لو عمل به وترك القياس صار الحديث مع التوهم الذي ذكرنا
ناسخا للكتاب وهو, قوله تعالى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي
الْأَبْصَارِ} "الحشر: 2" فإنه يقتضي وجوب العمل بالقياس
والحديث المشهور وهو حديث معاذ وغيره معارضا للإجماع فإن
الأمة أجمعت على كون القياس حجة عند عدم دليل أقوى منه
ونفاة القياس حدثوا بعد القرون الثلاثة فلا يعبأ بخلافهم
بخلاف خبر الفقيه; لأن التوهم المذكور لما انقطع عنه كان
أقوى من القياس لبقاء الشبهة في طريقه دون أصله فلا يلزم
من تقديمه عليه مخالفة هذه الأدلة; لأنها توجب العمل به
عند عدم الأقوى فأما عند وجوده فتوجب العمل بالأقوى وترك
العمل بالقياس فلا يتحقق النسخ والمعارضة. وإنما قال
معارضا; لأنه لا نسخ للإجماع بالحديث; وإنما ينسخ بإجماع
آخر مثله
قوله "وذلك" أي كون الحديث ناسخا عند انسداد باب الرأي,
مثل حديث أبي هريرة أو مثال ما ذكرنا حديث أبي هريرة في
المصراة وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها
بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها,
وإن سخطها ردها وصاعا من تمر2" ويروى "بأحد النظرين" ،
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث رقم 2492 والترمذي في
المناقب حديث رقم 3834 والإمام أحمد في المسند 2/240. 1
أخرجه مسلم في البيوع حديث رررقم 1524 وأبو داود حديث رقم
3443 والترمذي في البيوع حديث رقم 1251 وابن ماجة في
التجارات حديث رقم 2239 والإمام أحمد في المسند 2/242
(2/555)
ناسخا للكتاب
والحديث المشهور ومعارضا للإجماع, وذلك مثل حديث أبي هريرة
رضي الله عنه في المصراة أنه انسد فيه باب الرأي فصار
ناسخا للكتاب والسنة المعروفة معارضا للإجماع في ضمان
العدوان بالمثل والقيمة دون التمر
ـــــــ
ويروى: "من اشترى شاة محفلة فهو بخير النظرين ثلاثة أيام"
الحديث والتصرية في اللغة الجمع يقال صريت الماء وصريته أي
جمعته والمراد بها في الحديث جمع اللبن في الضرع بالشد
وترك الحلب مدة ليتخيل المشتري أنها غزيرة اللبن والتحفيل
بمعناها أيضا وقوله بأحد النظرين قيل النظر الأول عند
الحلبة الأولى والنظر الآخر عند الحلبة الأخرى, ومعنى قوله
بخير النظرين نظره لنفسه بالاختيار والإمساك, ونظره للبائع
بالرد والفسخ ثم الشافعي رحمه الله جعل التصرية عيبا حتى
كان للمشتري الخيار إذا تبين بعد الحلب خلاف ما تخيله
تمسكا بهذا الحديث وهو حديث صحيح مخرج في الصحيحين وإذا صح
الحديث يترك القياس بمقابلته مع أن الحديث موافق للأصول;
لأن الخيار إنما يثبت لغرور كان من البائع, والغرور يثبت
للمشتري حق الرجوع كما لو اشترى صبرة حنطة فوجد في وسطها
دكانا أو اشترى قفة من الثمار فوجد في أسفلها حشيشا.
والمذكور في بعض كتبهم أن التغرير الفعلي منزل منزلة
الالتزام اللفظي فصار كما لو شرط الغزارة, وعندنا التصرية
ليست بعيب, ولا يكون للمشتري ولاية الرد بسببها من غير
شرط; لأن البيع يقتضي سلامة المبيع وبقلة اللبن لا ينعدم
صفة السلامة; لأن اللبن ثمرة وبعدمها لا تنعدم صفة السلامة
فبقلتها أولى, ولا يجوز أن يثبت الخيار للغرور; لأن
المشتري مغتر لا مغرور فإنه ظنها غزيرة اللبن بناء على شيء
مشتبه فإن انتفاخ الضرع قد يكون بكثرة اللبن وقد يكون
بالتحفيل وهو أظهر على ما عليه عادات الناس في ترويج
السلعة بالحيل فيكون هو مغترا في بناء ظنه على المحتمل
والمحتمل لا يكون حجة.
فأما الحديث فمخالف للقياس فكان ناسخا للكتاب والسنة
الموجبين للعمل بالقياس معارضا للإجماع الموجب للعمل به
كما ذكرنا فيكون مردودا; لأن من أحاديث أبي هريرة رضي الله
عنه إنما يقبل ما لا يخالف القياس فأما ما خالفه فالقياس
مقدم عليه كذا في الأسرار والمبسوط وأما الذي يدل عليه سوق
الكلام في الكتاب فهو أن حديث المصراة ورد مخالفا للقياس
وانسد فيه باب الرأي; لأن ضمان العدوان فيما له مثل مقدر
بالمثل بالكتاب وهو قوله تعالى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} "البفرة: 149". وفيما
لا مثل له مقدر بالقيمة بالحديث المعروف وهو, قوله عليه
السلام: "من أعتق شقصا له في عبد قوم عليه نصيب شريكه إن
كان موسرا" على ما بيناه في باب الأداء والقضاء وقد انعقد
الإجماع أيضا على وجوب المثل أو القيمة عند فوات العين
وتعذر
(2/556)
وفي وجوه أخر
ذكرناها في موضعها.وأما المجهول فإنما نعني به
ـــــــ
الرد ثم اللبن إن كان من ذوات الأمثال يضمن بالمثل ويكون
القول في بيان المقدار قول من عليه, وإن لم يكن منها يضمن
بالقيمة فإيجاب التمر مكانه يكون مخالفا للحكم الثابت
بالكتاب والسنة والإجماع فيكون نسخا ومعارضة كما ذكر في
الكتاب. وقوله: "في ضمان العدوان" متعلق بمجموع قوله صار
ناسخا للكتاب والسنة معارضا للإجماع أي يلزم من العمل بهذا
الحديث نسخ الكتاب والسنة ومعارضة الإجماع في حق هذا الحكم
وقوله وفي وجوه أخر ذكرناها في موضعها عطف عليه أي صار
معارضا للإجماع في هذا الوجه وفي وجوه أخر وهي ما ذكر
الشيخ في بعض مصنفاته في أصول الفقه والقاضي الإمام في
الأسرار أن حديث المصراة ورد مخالفا للقياس من وجوه: أحدها
أنه أوجب رد صاع من تمر بإزاء اللبن واللبن الذي يحلب بعد
الشراء والقبض لا يكون مضمونا على المشتري; لأنه فرع ملكه
الصحيح فلا يضمن بالتعدي لعدم التعدي. ولا يضمن بالعقد;
لأن ضمان العقد ينتهي بالقبض ألا ترى أنه لا يضمن اللبن
الذي يحدث بعد القبض فكذلك اللبن الذي كان حين العقد ثم
حلب بعد القبض; لأن اللبن الذي كان عند العقد لم يكن مالا;
لأنه باطل كالحبل; وإنما يصير مالا بالحلب فلا يدخل تحت
العقد وهو في حكم ما ليس بمال فيصير بمنزلة الحادث بعد
القبض ويصير كالكسب ولئن كان مالا كان صفة للشاة فيعتبر
مالا تبعا كالصوف فلا يكون له حصة من الثمن ما لم يزايل
الأصل ولو زال قبل القبض بآفة لم يسقط شيء من الثمن نقدا
فكذا إذا قبض والوصف متصل بالأصل لا يصير حصة من الثمن,
ولا يصير مضمونا ولئن جاز أن يقابله ضمان فهو ضمان العقد
ينبغي أن يسقط من البائع حصته من الثمن كما لو اشترى شيئين
ثم رد أحدهما ولئن كان ضمان التعدي وجب أن يضمن مثل اللبن
كيلا أو دراهم كما قلنا أما الصاع من التمر بلا تقويم قل
اللبن أو كثر فلا وجه له في الشرع ومع هذا كله ظاهره يدل
على توقيت خيار العيب وهو غير موقت بوقت بالإجماع فثبت أنه
مخالف للقياس من جميع الوجوه فوجب رده بالقياس أو حمله على
تأويل وإن بعد احترازا عن الرد وهو أن الخصومة في شاة
محفلة فندب النبي عليه السلام البائع إلى الاسترداد صلحا
لا حكما فأبى بعلة اللبن في ثلاثة أيام فزاد النبي عليه
السلام بذلك السبب صاعا من تمر فقبل البائع الشاة والتمر
ورد الثمن صلحا لا حكما, وكان هذا شراء مبتدأ لا حكما فظن
الراوي أنه كان حكما وكانوا يستجيزون نقل الخبر بما عندهم
من المعنى فنقل على ما ظن بعبارته فإن قيل إنكم حملتم بخبر
القهقهة على مخالفة القياس مع أن راويه معبد الجهني وأنه
لم يعرف بالفقه بين الصحابة فخبر المصراة أولى بالقبول
والعمل به; لأنه أثبت
(2/557)
-------------------------------------------------
ـــــــ
متنا وأقوى سندا وراويه وهو أبو هريرة أعلى رتبة في العلم
من معبد. قلنا: قد روى خبر القهقهة كثير من الصحابة مثل
أبي موسى الأشعري وجابر وأنس وعمران بن الحصين وأسامة بن
زيد وعمل به كبراء الصحابة والتابعين مثل علي وابن مسعود
وابن عمر والحسن وإبراهيم ومكحول فلذلك وجب قبوله وتقديمه
على القياس إليه أشير في الأسرار. وذكر الشيخ أبو الفضل
الكرماني في إشارات الأسرار أن بعض أصحاب الشافعي شنع
علينا ونسب أصحابنا إلى الطعن على أبي هريرة وأمثاله من
أصحاب رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وكان ذلك
منه سلوكا للمعاندة; لأنا إنما نتبع الصحابة فنقول: لا
إشكال أن ابن عباس وعائشة من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم
وكانا مقدمين على أبي هريرة في الفقه والفتوى وكانا لا
يريان ترك القياس الجلي بقول أبي هريرة فإنه روى أن الوضوء
مما مسته النار فرد عليه ابن عباس بالقياس ولم يشتغل
بالسنة وكذا عائشة وعلي رضي الله عنهم فاتبعنا الصحابة في
ترك روايته بالقياس ولكنا لا نظن به وبجميع الصحابة إلا
الصدق.
واعلم أن ما ذكرنا من اشتراط فقه الراوي لتقديم خبره على
القياس مذهب عيسى بن أبان واختاره القاضي الإمام أبو زيد
وخرج عليه حديث المصراة وخبر العرايا وتابعه أكثر
المتأخرين. فأما عند الشيخ أبي الحسن الكرخي ومن تابعه من
أصحابنا فليس فقه الراوي بشرط لتقديم خبره على القياس بل
يقبل خبر كل عدل ضابط إذا لم يكن مخالفا للكتاب والسنة
المشهورة ويقدم على القياس قال أبو اليسر وإليه مال أكثر
العلماء; لأن التغيير من الراوي بعد ثبوت عدالته وضبطه
موهوم. والظاهر أنه يروي كما سمع ولو غير لغير على وجه لا
يتغير المعنى هذا هو الظاهر من أحوال الصحابة والرواة
العدول; لأن الأخبار وردت بلسانهم فعلمهم باللسان يمنع من
غفلتهم عن المعنى وعدم وقوفهم عليه وعدالتهم وتقواهم تدفع
تهمة التزايد عليه والنقصان عنه قال: ولأن القياس الصحيح
هو الذي يوجب وهنا في روايته, والوقوف على القياس الصحيح
متعذر فيجب القبول كي لا يتوقف العمل بالأخبار. واستدل
غيره على صحة هذا القول بأن عمر رضي الله عنه قبل حديث حمل
بن مالك في الجنين وقضى به, وإن كان مخالفا للقياس; لأن
الجنين إن كان حيا وجبت الدية كاملة, وإن كان ميتا لا يجب
فيه شيء; ولهذا قال كدنا أن نقضي فيه برأينا وفيه سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقبل أيضا خبر الضحاك في توريث
المرأة من دية زوجها وكان القياس خلاف ذلك; لأن الميراث
إنما يثبت فيما كان يملكه المورث قبل الموت والزوج لا يملك
الدية قبل الموت; لأنها تجب بعد الموت ومعلوم أنهما لم
يكونا من فقهاء الصحابة وله شواهد كثيرة.
(2/558)
المجهول في
رواية الحديث بأن لم يعرف إلا بحديث أو بحديثين مثل
ـــــــ
ولم ينقل هذا القول عن أصحابنا أيضا بل المنقول عنهم أن
خبر الواحد مقدم على القياس ولم ينقل التفضيل, ألا ترى
أنهم عملوا بخبر أبي هريرة رضي الله عنه في الصائم إذا أكل
أو شرب ناسيا, وإن كان مخالفا للقياس حتى قال أبو حنيفة
رحمه الله لولا الرواية لقلت بالقياس ونقل عن أبي يوسف -
رحمه الله - في بعض أماليه أنه أخذ لحديث المصراة وأثبت
الخيار للمشتري. وقد ثبت عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال
ما جاءنا عن الله وعن رسوله فعلى الرأس والعين ولم ينقل عن
أحد من السلف اشتراط الفقه في الراوي فثبت أن هذا القول
مستحدث وأجاب عن حديث المصراة والعرية وأشباههما فقال:
إنما ترك أصحابنا العمل بها لمخالفتها الكتاب أو السنة
المشهورة لا لفوات فقه الراوي وأن حديث المصراة مخالف
لظاهر الكتاب والسنة كما بينا وحديث العرية مخالف للسنة
المشهورة وهي, قوله عليه السلام: "والتمر بالتمر مثل بمثل
كيل بكيل" على أنا لا نسلم أن أبا هريرة رضي الله عنه لم
يكن فقيها بل كان فقيها ولم يعدم شيئا من أسباب الاجتهاد
وقد كان يفتي في زمان الصحابة وما كان يفتي في ذلك الزمان
إلا فقيه مجتهد وكان من علية أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم ورضي عنهم وقد دعا النبي عليه السلام له بالحفظ
فاستجاب الله تعالى له فيه حتى انتشر في العالم ذكره
وحديثه وقال إسحاق الحنظلي ثبت عندنا في الأحكام ثلاثة
آلاف من الأحاديث روى أبو هريرة منها ألفا وخمسمائة وقال
البخاري روى عنه سبعمائة نفر من أولاد المهاجرين والأنصار
وقد روى جماعة من الصحابة عنه فلا وجه إلى رد حديثه
بالقياس.
قوله "وأما المجهول" إلى آخره واعلم أن عامة السلف وجماهير
الخلف اتفقوا على عدالة جميع الصحابة رضي الله عنهم; لأن
عدالتهم ثبتت بتعديل الله تعالى إياهم وثنائه عليهم في آي
كثيرة مثل قوله تعالى {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ
بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}
"التوبة: 100" الآية وقوله عز اسمه {وَالَّذِينَ مَعَهُ
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} "الفتح: 29" وقوله جل ثناؤه
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ
يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} "الفتح: 18" في شواهد
لها كثيرة وبقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أصحابي
كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" , ولا شك أنه لا اهتداء من
غير عدالة وقوله عليه السلام: "لا تذكروا أصحابي إلا بخير
فلو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهبا ما أدرك مد أحدهم, ولا
نصيفه1" . وقوله عليه السلام: "إن الله تعالى اختار لي
أصحابا
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث رقم 2540 وأبو داود في
السنة حديث رقم 4658 والترمذي في المناقب حديث رقم 3861
وابن ماجة في االمقدمةحديث رقم 161.
(2/559)
-------------------------------------------------
ـــــــ
وأصهارا وأنصارا" واختيار الله عز وجل لا يكون لمن ليس
بعدل, ولا تعديل أعلى من تعديل علام الغيوب وتعديل رسوله
كيف ولو لم يرد الثناء لكان ما اشتهر وتواتر من حالهم في
الهجرة والجهاد وبذلهم الجهد والأموال وقتلهم الآباء
والأولاد في موالاة الرسول ونصرته كافيا في القطع
بعدالتهم. وأما ما جرى بينهم من الفتن فبناء على التأويل
والاجتهاد فإن كل فريق ظن أن الواجب ما صار إليه, وأنه
أوفق للدين وأصلح لأمور المسلمين فلا يوجب ذلك طعنا فيهم.
ولكنهم اختلفوا في تفسير الصحابي فذهب عامة أصحاب الحديث
وبعض أصحاب الشافعي إلى أن من صحب النبي عليه السلام لحظة
فهو صحابي; لأن اللفظ مشتق من الصحبة وهي تعم القليل
والكثير وذهب جمهور الأصوليين إلى أنه اسم لمن اختص بالنبي
عليه السلام وطالت صحبته معه على طريق التتبع له والأخذ
منه; ولهذا لا يوصف من جالس عالما ساعة بأنه من أصحابه
وكذا إذا أطال المجالسة معه إذا لم يكن على طريق التتبع له
والأخذ عنه. وكذا لو حلف زيد أنه ليس صاحب عمرو وقد صحبه
لحظة لا يحنث بالاتفاق قال الغزالي رحمه الله الاسم لا
ينطلق إلا على من صحبه ثم يكفي للاسم من حيث الوضع الصحبة
ولو ساعة, ولكن العرب تخصص الاسم بمن كثرت صحبته ويعرف ذلك
بالتواتر والنقل الصحيح, ولا حد لتلك الكثرة بتقدير بل
بتقريب قلت وسمعت عن شيخي رحمه الله أن أدناها ستة أشهر
وذكر في الكفاية لأبي بكر أحمد بن علي البغدادي أن سعيد بن
المسيب كان يقول: الصحابة لا نعدهم إلا من أقام مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو
غزوتين.
وإذا عرفت هذا علمت أن المجهول في الصدر الأول لا يكون من
الصحابة; لأن المراد منه من لم يعرف ذاته إلا برواية لحديث
النبي رواه ولم يعرف عدالته, ولا فسقه, ولا طول صحبته وقد
عرفت عدالة الصحابة واشتهر طول صحبتهم فكيف يكون هو داخلا
فيهم وعلمت أن وابصة وسلمة ومعقلا, وإن رأوا النبي عليه
السلام ورووا عنه لا يعدون من الصحابة على ما اختاره
الأصوليون لعدم معرفة طول صحبتهم ويؤيده ما ذكر شمس الأئمة
رحمه الله; وإنما نعني بهذا اللفظ أي بالمجهول من لم يشتهر
بطول الصحبة مع الرسول عليه السلام; وإنما عرف بما روى من
حديث أو حديثين. وإنما فسر الشيخ المجهول بقوله: نعني به
المجهول في رواية الحديث; لأنه قد يراد بهذا اللفظ مجهول
النسب وتلك الجهالة مانعة عن القبول عند البعض, وإن لم تكن
مانعة عند عامة الأصوليين وأهل الحديث فكأنه احترز به عنها
وسلمة بن المحبق بكسر الباء لا غير كذا في المغرب وأصحاب
(2/560)
وابصة بن معبد
وسلمة بن المحبق ومعقل بن سنان فإن روى عنه السلف وشهدوا
له بصحة الحديث صار حديثه مثل حديث المعروف بشهادة أهل
المعرفة, وإن سكتوا عن الطعن بعد النقل فكذلك; لأن السكوت
في موضع
ـــــــ
الحديث يروونه بفتح الباء واسم المحبق صخر بن البليد بن
الحارث ويقال سلمة بن عمرو بن المحبق نسب إلى جده روى عن:
النبي عليه السلام أنه قال فيمن وطئ جارية امرأته فإن
"طاوعته فهي له وعليه مثلها, وإن استكرهها فهي حرة وعليه
مثلها1" ولم نعمل بهذا الحديث; لأن القياس الصحيح يرده وهو
كالمخالف للكتاب والسنة المشهورة والإجماع كحديث المصراة.
ومعقل بن سنان وفي بعض النسخ معقل بن يسار وكلاهما ممن روى
عن النبي عليه السلام فمعقل بن يسار من مزينة مضر وهو ممن
بايع تحت الشجرة سكن البصرة مات في ولاية عبد الله بن زياد
في آخر سني معاوية ومعقل بن سنان من أشجع بن ريث بن غطفان
أبي محمد ويقال أبو عبد الرحمن شهد فتح مكة مع رسول الله
عليه السلام سكن الكوفة وقتل يوم الحرة بالمدينة صبرا سنة
ثلاث وستين ووابصة وهو ابن معبد بن عبيد بن قيس بن كعب نزل
الكوفة ثم تحول إلى الجزيرة وبها مات. وعن وابصة أن "رجلا
صلى خلف الصفوف وحده فأمره النبي عليه السلام أن يعيد"
وقوله :وشهدوا له بصحة الحديث بيان أن روايتهم عنه للقبول
والعمل به لا للرد عليه "صار حديثه مثل حديث المعروف
بشهادة أهل المعرفة" يعني مثل حديث المعروف بالفقه
والعدالة والضبط فيقبل ويقدم على القياس; لأنهم كانوا أهل
فقه وضبط وتقوى ولم يتهموا بالتقصير في أمر الدين وكانوا
لا يقبلون الحديث حتى يصح عندهم أنه مروي عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقد ظهر منهم رد ما خالف القياس من روايتهم
فلا يكون قبولهم إلا لعلمهم بعدالة هذا الراوي وحسن ضبطه
أو; لأنه موافق لما سمعوه من رسول الله عليه السلام أو
لرواية بعض المشهورين عنه وهو معنى قوله بشهادة أهل
المعرفة وهو في الحقيقة جواب عما يقال كيف يقبل روايته وهو
مجهول لم يظهر عدالته ولا ضبطه فقال قد صار مثل المعروف
بشهادة أهل المعرفة وتعديلهم إياه, وإن سكتوا عن الطعن بعد
النقل فكذلك يعني إن سكتوا عن الرد بعدما بلغهم روايته
الحديث فهو مقبول أيضا; لأن السكوت في موضع الحاجة لا يحل
إلا على وجه الرضاء بالمسموع والمرئي فكان
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الحدود حديث رقم 4460 وابن ماجة في
الحدود حديث رقم 553 والإمام أحمد في المسند 3/476.
(2/561)
الحاجة إلى
البيان بيان, ولا يتهم السلف بالتقصير, وإن اختلف فيه مع
نقل الثقات عنه فكذلك عندنا مثل حديث معقل بن سنان أبي
محمد الأشجعي في حديث: "بروع بنت واشق الأشجعية أنه مات
عنها هلال بن أبي مرة ولم يكن فرض لها ولا دخل بها فقضى
لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمهر مثل نسائها" فعمل
بحديثه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ورده علي رضي الله
عنه لما خالف رأيه, وقال: ما نصنع
ـــــــ
سكوتهم عن الرد دليل التقرير بمنزلة ما لو قبلوه ورووا عنه
إذ لو لم يكن كذلك لتطرقت نسبة التقصير إليهم وأنهم لم
يتهموا بذلك,وإن اختلف فيه مع نقل الثقات عنه فكذلك أي إن
عمل به البعض ورد البعض يقبل أيضا; لأنه لما قبله بعض
الفقهاء المشهورين صار كأنه رواه بنفسه مثل حديث معقل بن
سنان الأشجعي في حديث بروع أي قصتها وذلك أن ابن مسعود رضي
الله عنه سئل عمن تزوج امرأة ولم يسم لها مهرا حتى مات
عنها فلم يجب شهرا وكان السائل يتردد إليه ثم قال بعد شهر:
أجتهد فيه برأيي فإن يك صوابا فمن الله, وإن يك خطأ فمن
ابن أم عبد وفي رواية فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه
بريئان منه أرى فيها مهر مثل نسائها لا وكس فيه, ولا شطط
أي لا نقص ولا مجاوزة حد فقام معقل بن سنان الأشجعي وأبو
الجراح صاحب راية الأشجعيين وقالا: نشهد: "أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق الأشجعية من بني
رآس بن كلاب بمثل قضائك هذا وقد كان هلال بن مرة مات عنها
من غير فرض مهر ودخول" فسر ابن مسعود رضي الله عنه بذلك
سرورا لم يسر مثله بعد إسلامه لما وافق قضاؤه قضاء رسول
الله عليه السلام ورده علي رضي الله عنه فقال ما نصنع بقول
إعرابي بوال على عقبيه حسبها الميراث ولما اختلف في قبوله
أخذنا به لما ذكرنا وفي قوله لما خالف رأيه إشارة إلى أنه
إنما رده لمخالفته القياس الذي عنده وهو أن المعقود عليه
عاد إليها سالما فلا يستوجب بمقابلته عوضا كما لو طلقها
قبل الدخول بها وجعل الرأي أولى من رواية مثل هذا المجهول
وهو مذهبنا أيضا كما سنبين وقيل إنما رده لمذهب تفرد به
وهو أنه كان تخلف الراوي ولم ير هذا الرجل لتخلفه. وقوله
أعرابي بوال على عقبيه إشارة إلى أنه من الذين غلب فيهم
الجهل من أهل البوادي وسكان الرمال إذ من عادتهم الاحتباء
في الجلوس من غير إزار والبول في المكان الذي جلسوا فيه
إذا احتاجوا إليه وعدم المبالاة بإصابته أعقابهم وذلك من
الجهل وقلة الاحتياط وذكر في الصحاح بروع اسم امرأة وهي
بروع بنت واشق وأصحاب الحديث يقولونه بكسر الباء والصواب
الفتح; لأنه ليس في الكلام فعول إلا خروع وعتود اسم واد
واعلم أن خبر المجهول مردود عند الشافعي رحمه الله; لأن
الصحابة رضي الله عنهم ردوا أخبار المجاهيل فإن عمر رضي
الله عنه رد خبر فاطمة بنت قيس وعليا رضي الله
(2/562)
بقول أعرابي
بوال على عقبيه ولم يعمل الشافعي رحمه الله بهذا القسم;
لأنه خالف القياس عنده وعندنا هو حجة; لأنه وافق القياس
عندنا; وإنما يترك إذا خالف القياس وقد روى عنه الثقات,
مثل عبد الله بن مسعود وعلقمة ومسروق
ـــــــ
عنه رد خبر الأشجعي ومن رد خبر المجهول منهم لم ينكر عليه
غيره فكان ذلك بمنزلة الإجماع على رده وعندنا خبر المجهول
من القرون الثلاثة مقبول; لأن العدالة كانت أصلا في ذلك
الزمان بخبر رسول الله عليه السلام: "خير الناس قرني الذي
بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم1" الحديث:
"والنبي عليه السلام قبل شهادة الأعرابي في رؤية الهلال من
غير تفحص عن عدالته; وإنما تفحص عن إسلامه فقط فقال حين
أخبر عن رؤية الهلال "أتشهد أن لا إله إلا الله" قال نعم
فقال: "أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم فأمر بلالا أن
يؤذن في الناس بالصوم2", وهذا يرد تأويلهم أنه عليه السلام
عرف عدالته إما بالوحي أو بالخبرة; لأنه عليه السلام لم
يكن عالما بإسلامه فكيف بعدالته وأما رد بعض الصحابة أخبار
المجاهيل فبناء على عوارض على ما عرف كذا ذكر في عامة
الكتب.
ثم هو منقسم على الأقسام الخمسة المذكورة في الكتاب, ولا
خلاف أن القسم الأول مقبول لما بينا. وقد ذكر في القواطع,
وإن عمل الراوي بالخبر كان ذلك تعديلا للمروي عنه إلا أن
يعمل بموجب الخبر لا لأجل الخبر, وينبغي أن يكون القسم
الثاني مقبولا بلا خلاف أيضا; لأنه لا يظن بهم السكوت عند
معرفة بطلانه, ولا خلاف أن القسم الرابع مردود فكان القسم
الخامس موضع الخلاف ويجوز أن يكون القسم الثالث كذلك أيضا
وإليه يشير, قوله عندنا في هذا القسم دون القسمين الأولين
فيقبل عندنا لما ذكرنا, ولا يقبل عنده; لأن الرد عارض
القبول فيتساقطان ويصير الخبر بمنزلة ما لو لم يلحقه رد
ولا قبول فيلتحق بالقسم الخامس ويجوز أن يكون هذا القسم
مقبولا بالاتفاق بشرط أن يكون موافقا للقياس فإن خالفه
يرد; لأن الخلاف الواقع في قبوله كان أدنى حالا من الذي
اتفق على قبوله فيشترط تأيده بالقياس كالقسم الخامس عندنا
إلا أن هذا المثال وهو حديث معقل موافق للقياس عندنا; لأن
المهر يجب بنفس العقد عندنا ويتأكد بالموت كما يتأكد
بالوطء; لأن بالموت ينتهي النكاح الذي هو عقد العمر والشيء
إذا انتهى تقرر
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث رقم 1964 وأبو داود في
السنة حديث رقم 4657 والإمام أحمد في المسند 4/426
2 أخرجه أبو داود في الصيام حديث رقم 2340 والترمذي في
الصوم حديث رقم 691 وابن ماجة في الصيام حديث رقم 1652.
(2/563)
ونافع بن جبير
والحسن فثبت بروايتهم عدالته مع أنه من قرن العدول فلذلك
صار حجة, وساعده عليه أناس من أشجع منهم أبو الجراح
وغيره.فأما إذا كان ظهر حديثه ولم يظهر من السلف إلا الرد
لم يقبل حديثه وصار مستنكرا لا يعمل به
ـــــــ
كانتهاء الصلاة بالسلام فيكون بمنزلة تسليم المعقود عليه
وهو الوطء; ولهذا وجبت العدة فيجب تمام مهر المثل وإذا كان
موافقا للقياس وجب العمل به. وعند الشافعي رحمه الله هو
مخالف للقياس; لأن الأصل عنده أن المهر لا يجب إلا بالفرض
وبالتراضي أو بقضاء القاضي أو باستيفاء المعقود عليه فإذا
لم يوجد واحد منها إلى أن مات الزوج لا يجب شيء; لأن
المعقود عليه رجع إليها سالما فكان بمنزلة ما لو طلقها قبل
الدخول بها وبمنزلة هلاك المبيع قبل القبض وإذا كان مخالفا
للقياس وجب رده به فعلى هذا كان, قوله ولم يعمل الشافعي
بهذا القسم إلى آخره بيانا أن خلاف الشافعي في المثال لا
في الأصل وهو قوله, وإن اختلف فيه فكذلك وكان معنى قوله
بهذا القسم بهذا المثال الذي هو من هذا القسم ولو جعلت اسم
الإشارة راجعا إلى قوله, وإن اختلف فيه فكذلك لا يلائمه
التعليل الذي ذكره وعلى التقديرين لا يخلو الكلام عن نوع
اشتباه والله أعلم بمراد المصنف وقوله وقد روى أي هذا
الحديث عنه أي عن معقل الثقات أي العدول مثل ابن مسعود من
القرن الأول وعلقمة وغيره من القرن الثاني فثبت بروايتهم
عنه وعلمهم به عدالته دليل ثان على وجوب العمل به. وقوله
مع أنه أي معقلا من قرن العدول دليل ثالث, وإشارة إلى
الجواب عما قال بعض أصحاب الشافعي إن رواية المجهول في
الكفر والصبا لا تقبل فكذا رواية مجهول الحال في الفسق
فأشار إلى أن العدالة في ذلك الزمان أصل بشهادة الرسول
عليه السلام فوجب التمسك به إلى أن يظهر معارض ينقضه فأما
الصبا والكفر في مجهول الحال فيهما فأصل فلا يترك إلا
بيقين يعارضه فيفترقان.
قوله "فأما إذا ظهر حديثه ولم يظهر من السلف إلا الرد" فلا
يجوز العمل به إذا خالف القياس; لأنهم كانوا لا يتهمون برد
الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا يترك
العمل به وترجيح الرأي بخلافه عليه فاتفاقهم على الرد دليل
على أنهم اتهموه في هذه الرواية ولو قال الراوي أوهمت لم
يعمل بروايته فإذا ظهر ذلك ممن فوقه وهو رد الفقهاء من
الصحابة كان أولى كذا قال شمس الأئمة رحمه الله ويسمى هذا
النوع منكرا ومستنكرا; لأن أهل الحديث لم يعرفوا صحته وهو
دون الموضوع فإن الموضوع لا يحتمل أن يكون حديثا مثل ما
روى محمد بن سعيد عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي إلا أن يشاء
الله" فوضع هذا الاستثناء لما كان يدعو إليه من الإلحاد
والزندقة ويدعي التنبؤ فأما المنكر فيحتمل أن يكون حديثا;
لأن كونه حديثا إن لم
(2/564)
على خلاف
القياس وصار هذا غير حجة يحتمل أن يكون حجة على العكس من
المشهور أنه حجة يحتمل شبهة عند التأمل وأما إذا لم يظهر
حديثه في السلف فلم يقابل برد, ولا قبول لم يترك به القياس
ولم يجب العمل به لكن العمل به جائز
ـــــــ
يكن معلوما عند أهل الصنعة فكونه موضوعا ليس بمعلوم لهم
أيضا فكان من الجائز أن يكون الراوي صادقا في الرواية
ولكنه مع هذا الاحتمال ليس بحجة لا في حق الجواز, ولا في
حق الوجوب. وذكر الشيخ أبو عمرو الدمشقي إذا انفرد الراوي
بشيء فإن كان ما انفرد به مخالفا لما رواه من هو أولى منه
بالحفظ لذلك والضبط كان ما انفرد به شاذا مردودا, وإن لم
يكن فيه مخالفة لما رواه غيره بل هو أمر رواه هو ولم يروه
غيره فإن كان عدلا حافظا موثوقا بإتقانه وضبطه قبل ما
انفرد به, وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه كان انفراده به جازما
له مزحزحا له عن حيز الصحيح ثم هو بعد ذلك دائر بين مراتب
متفاوتة بحسب الحال فيه فإن كان المنفرد به غير بعيد من
درجة الحافظ الضابط المقبول تفرده استحسنا حديثه ذلك ولم
نحطه إلى قبيل الحديث الضعيف, وإن كان بعيدا من ذلك رددنا
ما انفرد به وكان من قبيل الشاذ المنكر فحصل من هذا أن
الشاذ المردود قسمان: أحدهما الحديث الفرد المخالف والثاني
الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابرا لما
يوجبه التفرد والشذوذ من النكارة والضعف ثم قال والصواب في
المنكر التفصيل الذي بيناه في الشاذ فإنه بمعناه فالمنكر
يكون قسمين على ما ذكرناه في الشاذ.
قوله "وأما إذا لم يظهر حديثه" أي لم يبلغهم حديث هذا
المجهول ولم يظهر فيه منهم رد, ولا قبول فلم يترك به
القياس ولم يجب العمل به في زماننا يعني إذا ظهر حديثه في
زماننا لا يجب العمل به ولكن العمل به يجوز إذا وافق
القياس; لأن من كان في الصدر الأول فالعدالة ثابتة له
باعتبار الظاهر لما بينا من غلبة العدالة في ذلك الزمان
فباعتبار هذا الظاهر يترجح جانب الصدق في خبره وباعتبار
أنه لم يشتهر في السلف يتمكن تهمة الوهم فيه فيجوز العمل
به إذا وافق القياس على وجه حسن الظن به ولكن لا يجب العمل
به; لأن الوجوب شرعا لا يثبت بمثل هذا الطريق الضعيف كذا
قال شمس الأئمة فإن قيل: إذا وافقه القياس ولم يجب العمل
به كان الحكم ثابتا بالقياس فما فائدة جواز العمل به قلنا:
هي جواز إضافة الحكم إليه فلا يتمكن نافي القياس من منع
هذا الحكم لكونه مضافا إلى الحديث.; ولذلك أي ولكون
العدالة أصلا في تلك الأزمنة جوز أبو حنيفة رحمه الله
القضاء بظاهر العدالة أي بشهادة المستور ولم يجب على
القاضي القضاء به; لأنه كان في القرن الثالث, والغالب على
أهله الصدق فأما في زماننا فخبر مثل هذا المجهول لا يقبل,
ولا يصح العمل به ما لم يتأيد بقبول العدول لغلبة الفسق
على أهل هذا الزمان; ولهذا لم يجوز
(2/565)
لأن العدالة
أصل في ذلك الزمان ولذلك جوز أبو حنيفة رحمه الله القضاء
بظاهر العدالة من غير تعديل حتى أن رواية مثل هذا المجهول
في زماننا لا تحل العمل به لظهور الفسق فصار المتواتر يوجب
علم اليقين والمشهور علم طمأنينة وخبر الواحد علم غالب
الرأي والمستنكر منه يفيد الظن وإن الظن لا يغني من الحق
شيئا والمستتر منه في حيز الجواز للعمل به دون الوجوب
والله أعلم.
ـــــــ
أبو يوسف ومحمد رحمهما الله القضاء بشهادة المستور; لأنهما
كانا في زمان فشو الكذب كذا ذكر شمس الأئمة وذكر صدر
الإسلام أبو اليسر رحمهما الله أن الراوي إذا كان مجهولا
لا يعرف عدالته إن عمل به الصحابة أو التابعون رضي الله
عنهم بما روى يجب قبول خبره; لأنهم لا يعملون به إلا بعد
معرفة الراوي بالعدالة وثبوت ما روى وأما إذا لم يظهر عمل
الصحابة, ولا عمل التابعين فأصحاب أبي حنيفة رحمهم الله
اختلفوا فيه قال بعضهم: يجب العمل به ما لم يخالف القياس
الصحيح فإذا خالفه لا يجب العمل به حينئذ وبعضهم قالوا: لا
يجب العمل به ما لم يوافق القياس وهذا قول الشافعي وأصحابه
رحمهم الله وقال بعضهم يجب العمل به, وإن خالف القياس
والصحيح هو القول الأول فالشافعي رحمه الله يقول بأن
المجهول لا يعرف عدالته وهي شرط لقبول الأخبار فلا يقبل
خبره; ولهذا لم يقبل خبر معقل بن سنان في إيجاب المهر في
المفوضة. وأصحابنا قالوا الظاهر من حالهم العدالة, والفسق
بأمور عارضة فيجب بناء الحكم على الظاهر كما يجعل في حق
الإسلام وأما حديث معقل فقد قبله عبد الله بن مسعود رضي
الله عنه ولا يقبل إلا بعد معرفته بالعدالة فثبت عدالته
فيجب قبول خبره على أن معقلا رجل معروف عدل عدله جماعة من
الثقات منهم البخاري قال ويجوز أن يكون قول أبي يوسف ومحمد
في هذه المسألة كقول أبي حنيفة رحمهم الله, وإن كانا
يشترطان العدالة حقيقة ولا يكتفيان بالعدالة الظاهرة; لأن
في ذلك الزمان هو زمان الصحابة كان الغالب العدالة فيهم
بخلاف سائر الأزمنة.
ثم لخص الشيخ الكلام وبين حاصله فقال: فصار المتواتر من
الخبر يوجب علم اليقين وفي مقابلته الموضوع لانقطاع احتمال
كونه حجة بالكلية والمشهور علم طمأنينة وفي مقابلته
المنكر; لأن المشهور حجة يحتمل أن يكون غير حجة والمنكر
على عكسه. والمراد من الظن في قوله والمستنكر منه أي من
الخبر يفيد الظن الوهم فإن الظن ما كان جانب الثبوت فيه
راجحا وهو الذي عبر عنه بغالب الرأي والوهم ما كان عدم
الثبوت فيه راجحا والمستنكر بهذه المثابة وخبر الواحد علم
غالب الرأي أي خبر الواحد الذي هو معروف بالضبط والعدالة
أو في حكم المعروف وفي
(2/566)
ومثال المستنكر
مثل حديث: "فاطمة بنت قيس أن النبي عليه السلام لم يجعل
لها نفقة, ولا سكنى" فقد رده عمر رضي الله عنه فقال لا ندع
كتاب
ـــــــ
مقابلته المستتر أي خبر المجهول الذي هو لم يقابل برد, ولا
قبول; لأن ذلك يوجب العمل وهذا لا يوجبه.
قوله "ومثال المستنكر" كذا المبتوتة تستحق النفقة والسكنى
عندنا ما دامت في العدة وهو مذهب عمر وعبد الله بن مسعود
وإبراهيم النخعي والثوري وجماعة من أهل العلم. وقالت طائفة
منهم لها السكنى دون النفقة إلا أن تكون حاملا حكي ذلك عن
ابن المسيب وبه قال الزهري ومالك والشافعي والليث
والأوزاعي وابن أبي ليلى وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما
أنه لا نفقة لها, ولا سكنى إلا أن تكون حاملا وهو قول
الحسن وعطاء بن أبي رباح والشعبي وأحمد بن حنبل وإسحاق
لحديث فاطمة بنت قيس أخبرت أن زوجها أبا عمرو بن حفص
المخزومي طلقها ثلاثا فأمر بنفقة أصوع من شعير فاستقلتها
وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعثه مع علي رضي الله عنهما
نحو اليمن فانطلق خالد بن الوليد في نفر من بني مخزوم إلى
النبي عليه السلام فقال: يا رسول الله إن أبا عمرو طلق
فاطمة ثلاثا فهل لها نفقة فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس
لها نفقة, ولا سكنى وأرسل إليها أن تنتقل إلى أم شريك" ثم
أرسل إليها أن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون فانتقلي
إلى ابن أم مكتوم فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك وأما الفريق
الثاني فيقولون ليس في روايات أهل الحجاز ذكر السكنى في
حديث فاطمة والمذكور في بعض الروايات: "لا نفقة لك إلا أن
تكوني حاملا إنما النفقة لمن يملك الزوج رجعتها" فأوجبنا
السكنى بعموم قوله تعالى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} "الطلاق: 1" الآية. وقوله
عز اسمه {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ
وُجْدِكُمْ} "الطلاق: 6" فإن كل واحد يعم المبتوتة
والمطلقة الرجعية ولم يوجب النفقة بالحديث وبمفهوم قوله
تعالى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا
عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} "الطلاق: 6"
فإنه بمفهومه يدل على انتفائها عند عدم الحمل والمعنى فيه
أنها إنما تستحق النفقة صلة للزوجية وقد انقطعت بالطلاق
البائن إلا أنها إذا كانت حاملا تستحق النفقة صيانة للولد
وحضانة له كما بعد انقضاء العدة بالولادة إذا كانت ترضعه
وعلماؤنا قالوا إنها محتبسة بحق نكاحه فتستحق النفقة
كالحامل والمطلقة الرجعية وكما تستحق السكنى فإن كل واحد
منهما حق مالي مستحق لها بالنكاح, والعدة حق من حقوق
النكاح فكما يبقى باعتبار هذا الحق ما كان لها من استحقاق
السكنى فكذلك النفقة.
(2/567)
ربنا, ولا سنة
نبينا صلى الله عليه وسلم بقول امرأة لا ندري أصدقت أم
كذبت أحفظت أم نسيت قال عيسى بن أبان فيه أنه أراد بالكتاب
والسنة القياس وقد رده
ـــــــ
ولأن في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه أسكنوهن من حيث
سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم وقد بينا فيما تقدم أن
بقراءته يزاد على الكتاب فدل ذلك على أن النفقة مستحقة لها
بسبب العدة وأن قوله تعالى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} "الطلاق: 6" لإزالة إشكال كان
يقع عسى, فإن مدة الحمل تطول عادة فكان يشكل أنها هل
تستوجب النفقة بسبب العدة في مدة الحمل وإن طالت فأزال
الله تعالى هذا الإشكال بقوله {حَتَّى يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ} "الطلاق: 6". وأما حديث فاطمة فقد ذكر في
الأسرار أن الزيادة المذكورة في بعض الروايات: "لا نفقة لك
إلا أن تكوني حاملا" غير ثابتة في موضع يعتمد عليه من
الكتب والروايات وأما متن الحديث فقد روي عن عمر رضي الله
عنه أنه قال حين روي له هذا الحديث لا ندع كتاب ربنا, ولا
سنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت أحفظت أم نسيت
فهذا من عمر رضي الله عنه طعن مقبول فإنه أخبر أنها متهمة
بالكذب والغفلة والنسيان ثم أخبر أنه ورد مخالفا للكتاب
والسنة فدل على أن في كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه
السلام نفقة لهذه المعتدة قال عيسى بن أبان إنه أراد بقوله
كتاب ربنا وسنة نبينا القياس الصحيح فإنه ثابت بالكتاب
والسنة إذ لو كان المراد عين النص لتلاه ولروى السنة فيكون
بيانا أنه ورد مخالفا للقياس فلا يقبل إلا أن يكون مشهورا
أو الراوي فقيها. وأشار أبو جعفر الطحاوي في شرح الآثار
إلى أنه أراد من الكتاب قوله تعالى {لا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} "الطلاق: 1" الآية ومن
السنة ما قال عمر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: "لها السكنى والنفقة" وعن عائشة رضي الله
عنها أنها قالت ما لفاطمة إلا تتقي الله تعني في قولها لا
سكنى, ولا نفقة وكانت تقول تلك امرأة فتنت العالم وعن
أسامة بن زيد زوجها أنها إذا ذكرت من ذلك شيئا رماها بكل
شيء تناله يده وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن أنكر الناس على
فاطمة ما كانت تحدث به من خروجها قبل أن تحل وعن أبي إسحاق
قال كنت جالسا مع الأسود في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي
فحدث الشعبي بحديث فاطمة فأخذ الأسود كفا من حصباء فقال
ويلك تحدث بمثل هذا. ورده إبراهيم النخعي والثوري ومروان
بن الحكم وهو أمير بالمدينة ورد عمر رضي الله عنه كان
بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ولم
ينكر ذلك عليه أحد فدل تركهم النكير على أن مذهبهم فيه
كمذهبه وقيل لسعيد بن المسيب: أين تعتد المطلقة ثلاثا ؟
فقال في بيتها فذكر له حديث فاطمة فقال تلك المرأة فتنت
الناس إنها استطالت على أحمائها فأمرها رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن
(2/568)
غيره من
الصحابة أيضا وكذلك حديث بسرة بنت صفوان في مس الذكر
ـــــــ
تعتد في بيت أم مكتوم وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت
لفاطمة إنما لم يقض لك بالنفقة; لأنك كنت ناشزة أو تأويله
أن زوجها كان غائبا ووكل أخاه بالنفقة عليها من الشعير
فأبت فلم يقض لها بشيء آخر لغيبة الزوج كذا في الأسرار
وغيره
فإن قيل: قد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عمل بهذا
الحديث وتابعه جماعة وقد سميناهم فكان من القسم الثالث
فينبغي أن يكون مقبولا عندكم كخبر الأشجعي في المفوضة, ولا
يكون مستنكرا. قلنا: إنما يقبل القسم الثالث بشرط أن لا
يكون مخالفا للكتاب والسنة والقياس الصحيح كما بينا وهذا
الحديث مع لحوق الرد به ممن ذكرنا مخالف لظاهر الكتاب
والسنة على ما أشار إليه عمر رضي الله عنه وللقياس أيضا
فلا يعتبر قبول هذه الطائفة في مقابلة رد تلك الجماعة
فلذلك كان مستنكرا.
قوله "وكذلك حديث بسرة1" أي وكحديث بسرة بنت صفوان الذي
تمسك به الشافعي في أن مس فرج نفسه أو غيره بباطن الكف بلا
حائل حدث من هذا القسم وهو المستنكر فإن عمر وعليا وابن
مسعود وابن عباس وعمارا وأبا الدرداء وسعد بن أبي وقاص
وعمران بن الحصين رضي الله عنهم لم يعملوا به حتى قال علي
رضي الله عنه لا أبالي أمسسته أم أرنبة أنفي, وكذا نقل عن
جماعة من الصحابة وقال بعضهم إن كان نجسا فاقطعه وتذاكر
عروة ومروان الوضوء من مس الفرج فقال مروان حدثتني بسرة
بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر
بالوضوء من مس الفرج فلم يرفع عروة بحديثها رأسا وروى ابن
زيد عن ربيعة أنه كان يقول: هل يأخذ بحديث بسرة أحد والله
لو أن بسرة شهدت على هذه النقلة لما أجزت شهادتها إنما
قوام الدين الصلاة; وإنما قوام الصلاة الطهور فلم يكن في
صحابة رسول الله عليه السلام من يقيم هذا الدين إلا بسرة
قال ابن زيد على هذا أدركنا مشايخنا ما منهم أحد يرى في مس
الذكر وضوء وعن يحيى بن معين أنه قال ثلاثة من الأخبار لا
تصح عن رسول الله عليه السلام منها خبر مس الذكر ووقعت هذه
المسألة في زمن عبد الملك بن مروان فشاور الصحابة فأجمع من
بقي منهم على أنه لا وضوء فيه قالوا لا ندع كتاب ربنا وسنة
نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت يعنون بسرة بنت
صفوان. ومعنى قولهم كتاب ربنا أن الله تعالى بين الأحداث
وكانت نجسة من دم حيض وغائط ومني وشرع الاستنجاء بالماء
بقوله عز ذكره {فيه
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الطهارة حديث رقم 82 وأبو داود في
الطهارة حديث رقم 181 وابن ماجة في الطهارة حديث رقم 479
والإمام أحمد في المسند 6/406.
(2/569)
من هذا القسم;
وإنما جعل خبرا لعدل حجة بشرائط في الراوي.وهذا
ـــــــ
رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} "التوبة:
108"والاستنجاء بالماء لا يتصور إلا بمس الفرجين فلما ثبت
بالنص أنه من التطهير لم يجز أن يجعل حدثا بمثل هذا الخبر
وأما السنة فما روي عن قيس بن طلق عن أبيه أنه قال: "قلت
يا رسول الله أفي مس الذكر وضوء فقال "لا1" وروت عائشة رضي
الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن مس
الذكر فقال "ما أبالي مسسته أم مسست أنفي" فنبه على العلة
وهي أنه عضو طاهر وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه:
"سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت مسست ذكري وأنا
في الصلاة فقال " لا بأس به" وقد رويت آثار توافق حديث
بسرة إلا أنها مضطربة الأسانيد وحديث قيس بن طلق مستقيم
الإسناد غير مضطرب قال علي بن المديني حديث قيس أحسن من
حديث بسرة كذا في الأسرار و"شرح الآثار" والله أعلم
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الطهارة حديث رقم 183 والترمذي في
الطهارة حديث رقم 85.
(2/570)
|