كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية

المجلد الثالث
باب بيان قسم الانقطاع
...
بسم الله الرحمن الرحيم
أما المرتبة الثانية:
باب بيان قسم الانقطاع
وهو نوعان ظاهر وباطن أما الظاهر فالمرسل من الأخبار وذلك أربعة أنواع ما أرسله الصحابي والثاني ما أرسله القرن الثاني والثالث ما أرسله العدل في كل عصر والرابع ما أرسل من وجه واتصل من وجه آخر أما القسم الأول فمقبول بالإجماع وتفسير ذلك أن من الصحابة من كان من الفتيان قلت صحبته فكان يروي عن غيره من الصحابة فإذا أطلق الرواية فقال قال رسول الله عليه
ـــــــ
"باب بيان قسم الانقطاع"
الإرسال خلاف التقييد لغة, وكأن هذا النوع الذي نحن بصدده سمي مرسلا لعدم تقيده بذكر الواسطة التي بين الراوي والمروي عنه, وهو في اصطلاح المحدثين أن يترك التابعي الواسطة التي بينه وبين الرسول عليه السلام فيقول قال رسول الله عليه السلام كذا كما كان يفعله سعيد بن المسيب ومكحول الدمشقي وإبراهيم النخعي والحسن البصري وغيرهم. فإن ترك الراوي واسطة بين الراويين مثل أن يقول من لم يعاصر أبا هريرة قال أبو هريرة فهذا يسمى منقطعا عندهم. هذا إذا كان المتروك واسطة واحدة فإن كان أكثر من واحدة فهو المسمى بالمعضل عندهم. قال أبو عمر وعثمان بن عبد الرحمن الدمشقي المعروف بابن الصلاح في كتاب معرفة أنواع علم الحديث المعضل لقب لنوع خاص من المنقطع, وهو الذي سقط عن إسناده اثنان فصاعدا وأصحاب الحديث يقولون أعضله فهو معضل بفتح الضاد, وهو اصطلاح مشكل المأخذ من حيث اللغة وبحثت فوجدت له قولهم أمر عضيل أي مستغلق شديد ولا التفات في ذلك إلى معضل بكسر الضاد وإن كان مثل عضيل في المعنى.

(3/3)


السلام كان ذلك منه مقبولا وإن احتمل الإرسال; لأن من ثبتت صحبته لم يحمل حديثه إلا على سماعه بنفسه إلا أن يصرح بالرواية عن غيره. وأما إرسال القرن الثاني والثالث فحجة عندنا, وهو فوق المسند كذلك ذكره عيسى بن أبان, وقال الشافعي رحمه الله لا يقبل المرسل إلا أن يثبت اتصاله من وجه آخر ولهذا قبلت مراسيل سعيد بن المسيب لأني وجدتها مسانيد وحكى أصحاب مالك بن أنس عنه أنه كان يقبل المراسيل ويعمل بها مثل قولنا احتج المخالف بأن
ـــــــ
والكل يسمى إرسالا عند الفقهاء والأصوليين وتقسيمه ما ذكر في الكتاب فالقسم الأول, وهو مرسل الصحابة مقبول بالإجماع; فإنه حكي عن الشافعي رحمه الله أنه خص مراسيل الصحابة بالقبول, وحكي عنه أيضا أنه قال: إذا قال الصحابي قال النبي عليه السلام كذا وكذا قبلت إلا إن أعلم أنه أرسله, كذا في المعتمد.
وأما إرسال القرن الثاني والثالث فحجة عندنا, وهو مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل وأكثر المتكلمين, وعند أهل الظاهر وجماعة من أئمة الحديث لا يقبل المرسل أصلا, وقال الشافعي رحمه الله: لا يقبل إلا إذا اقترن به ما يتقوى به فحينئذ يقبل وذلك بأن يتأيد بآية أو سنة مشهورة أو موافقة أو غيرها قياس أو قول صحابي أو تلقته الأمة بالقبول أو عرف من حال المرسل أنه لا يروي عمن فيه علة من جهالة أو غيرها أو اشترك في إرساله عدلان ثقتان بشرط أن يكون شيوخهما مختلفة أو ثبت اتصاله بوجه آخر بأن أسنده غير مرسله أو أسنده مرسله مرة أخرى. قال: ولهذا أي ولثبوت الاتصال بوجه آخر قبلت مراسيل سعيد بن المسيب لأني اتبعتها فوجدتها مسانيد وأكثر ما رواه مرسلا إنما سمعه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والمذكور في كتبهم قال: وأقبل مراسيل سعيد بن المسيب لأني اعتبرتها فوجدتها بهذه الشرائط قال ومن هذا حاله أحب قبول مراسيله ولا أستطيع أن أقول: إن الحجة ثبتت به كثبوتها بالمتصل. وفي المغرب المراسيل اسم جمع للمرسل كالمناكير للمنكر, وفي غيره المراسيل جمع المرسل والياء فيها للإشباع كما في الدراهيم والصياريف تمسك من أبى قبول المرسل بأن الخبر إنما يكون حجة باعتبار أوصاف في الراوي ولا طريق لمعرفة تلك الأوصاف في الراوي إذا كان غير معلوم والعلم به إنما يحصل بالإشارة عند حضرته وبذكر اسمه ونسبه عند غيبته فإذا لم يذكره أصلا لم يحصل العلم به ولا بأوصافه فتحقق انقطاع هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكون حجة, يوضحه أنه لو ذكر المروي عنه ولم يعدله وبقي مجهولا لم يقبله فإذا لم يذكره فالجهل أتم; لأن من لا يعرف عينه لا يعرف عدالته ولا معنى لقول من قال رواية العدل عنه تعديل له وإن لم يذكر اسمه; لأن طريق معرفة الجرح

(3/4)


الجهل بالراوي جهل بصفاته التي بها يصح روايته لكنا نقول لا بأس بالإرسال استدلالا بعمل الصحابة والمعنى المعقول أما عمل الصحابة; فإن أبا هريرة لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصبح جنبا فلا صوم له" فردت عائشة رضي الله عنها قال سمعته من الفضل بن عباس فدل ذلك على أنه كان معروفا عندهم ولما روى ابن عباس أن النبي عليه السلام قال: "لا ربا إلا في النسيئة" فعورض في ذلك بربا النقد قال سمعته من أسامة بن زيد, وقال البراء بن عازب رضي الله عنه ما كل ما نحدث سمعناه من رسول الله عليه السلام وإنما حدثنا عنه لكنا
ـــــــ
والعدالة الاجتهاد, وقد يكون الواحد عدلا عند إنسان مجروحا عند غيره بأن يقف منه على ما كان الآخر لا يقف عليه والمعتبر عدالته عند المروي له فلو قبلنا الرواية من غير كشف لكنا قبلناها تقليدا لا علما. وكيف يجعل رواية العدل تعديلا للمروي عنه وقد رووا حديثا وقديما عمن لم يحمدوا في الرواية أمره؟, قال الشعبي حدثني الحارث1 وكان والله كذابا, وروى شعبة وسفيان عن جابر الجعفي2 مع ظهور أمره في الكذب, وروى عنه أبو حنيفة رحمه الله قال: ما رأيت أحدا أكذب من جابر وروى الشافعي عن إبراهيم محمد بن يحيى الأسلمي وكان قدريا رافضيا ورضي بالكذب أيضا وروى مالك بن أنس رحمه الله عن عبد الكريم أبي أمية البصري, وهو ممن تكلموا فيه وروى أبو يوسف ومحمد عن الحسن بن عمارة وعبد الله بن المحرر3 وغيرهما من المجروحين وأرسل الزهري فقيل له: من حدثك؟ فقال: رجل على باب عبد الملك بن مروان, وإذا كان كذلك لا يمكن أن يجعل إرساله تعديلا للمروي عنه, بخلاف ما إذا قال حدثني فلان, وهو عدل; لأنه يمكن للمروي له أن يتأمل فيه فإن سكنت نفسه إلى قوله قبله, وإلا يتفحص عنه وبأن الناس تكلفوا لحفظ أسانيد في باب الأخبار فلو كانت الحجة تقوم بالمرسل لكان تكلفهم اشتغالا بما لا يفيد فيبعد أن يقال اجتمع الناس على ما لا يفيد.
وتمسك من قبله بالإجماع والدليل المعقول. أما الإجماع فمن وجهين أحدهما اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على قبول المرسل; فإنهم اتفقوا على قبول روايات ابن عباس رضي الله عنهما مع أنه لم يسمع من النبي عليه السلام إلا أربعة أحاديث لصغر سنه كذا
ـــــــ
1 هو الحارث بن عبد الله الهمذاني الأعور، أنظر ميزان الإعتدال 1/435.
2 هو جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي الكوفي.ِ أحد علماء الشيعة.. أنظر ميزان الإعتدال 1/379-384.
3 هو عبد الله بن المحرر الجزري. أنظر ميزان 2/500.

(3/5)


لا نكذب, وأما المعنى فهو أن كلامنا في إرسال من لو أسند عن غيره قبل إسناده ولا يظن به الكذب عليه فلأن لا يظن به الكذب على رسول الله عليه
ـــــــ
ذكر الغزالي وذكر شمس الأئمة إلا بضعة عشر حديثا وصرح بذلك في حديث الربا في النسيئة حيث قال حدثني به أسامة بن زيد وروي أن "رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يلبي حتى رمى جمرة العقبة" فلما روجع قال حدثني به أخي الفضل بن عباس1. وروى ابن عمر رضي الله عنهما "من صلى على جنازة فله قيراط" 2 الحديث ثم أسنده إلى أبي هريرة, وروى أبو هريرة رضي الله عنه وأسنده إلى الفضل كما ذكر في الكتاب, وحديث البراء مذكور فيه أيضا ونعمان بن بشير لم يسمع من رسول الله عليه السلام إلا حديثا واحدا, وهو قوله صلى الله عليه وسلم "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد, وإذا فسدت فسد سائر الجسد ألا وهي القلب" 3, ثم كثرت روايته عن رسول الله عليه السلام مرسلا ولما أرسل هؤلاء وقبل الصحابة مراسيلهم ولم يرو عن أحد منهم إنكار ذلك وتفحص أنهم رووه عن رسول الله عليه السلام بواسطة أو بغير واسطة صار ذلك إجماعا منهم على جواز ذلك ووجوب قبوله.
"فإن قيل" نحن نسلم ذلك في الصحابة ونقبل مراسيلهم لثبوت عدالتهم قطعا بالنصوص وإنما الكلام فيمن بعدهم.
"قلنا": لا فرق بين صحابي يرسل وتابعي يرسل; لأن عدالتهم ثبتت بشهادة الرسول أيضا خصوصا إذا كان الإرسال من وجوه التابعين مثل عطاء بن أبي رباح من أهل مكة وسعيد بن المسيب من أهل المدينة وبعض الفقهاء السبعة, ومثل الشعبي والنخعي من أهل الكوفة وأبي العالية4 والحسن من أهل البصرة ومكحول5 من أهل الشام; فإنهم
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1281.والترمذي في الحج حديث رقم 918. وأبو داود في المناسك حديث رقم:1815. وابن ماجه في المناسح حديث رقم 3039-3040. والإمام أحمد في المسند 1/210.
2 أخرجه مسلم في الجنائز حديث رقم 946. وأبو داود في الجنائز حديث رقم 3168-3169. والترمذي في الجنائز حديث رقم 1040. وابن ماجه في الجنائز حديث رقم: 1539، والإمام أحمد في المسند 2/233.
3 مسلم في المساقاة حديث رقم 1599. وأبو داود في البيوع حديث رقم 3329-3330 والترمذي في البيوع حديث رقم 1205. وابن ماجه في الفتن حديث رقم 3984. والإمام أحمد في المسند 2/279.
4 هو أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي التابعي الفقيه المقرئ، تذكرة الحفاظ للذهبي 1/61-62.
5 هو أبو عبد الله بن أبي مسلم الهذلي الفقيه من التابعين حلية الأولياء 5/177-193.

(3/6)


السلام أولى والمعتاد من الأمر أن العدل إذا وضح له الطريق واستبان له الإسناد طوى الأمر وعزم عليه فقال قال رسول الله عليه السلام, وإذا لم يتضح له الأمر
ـــــــ
كانوا يرسلون ولا يظن بهم إلا الصدق, وقال الحسن كنت إذا اجتمع لي أربعة من الصحابة على حديث أرسلته إرسالا وعنه أنه قال: متى قلت لكم حدثني فلان فهو حديثه لا غير ومتى قلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته من سبعين أو أكثر, وقال ابن سيرين ما كنا نسند الحديث إلى أن وقعت الفتنة, وقال الأعمش قلت لإبراهيم إذا رويت لي حديثا عن عبد الله فأسنده لي فقال: إذا قلت لك حدثني فلان عن عبد الله فهو الذي روى لي ذلك, وإذا قلت لك قال عبد الله فقد رواه لي غير واحد.
ثم تقول: إرسال هؤلاء الكبار, إما أن كان باعتبار سماعهم ممن ليس بعدل عندهم أو باعتبار سماعهم من عدل مع اعتقادهم أن ذلك ليس بحجة أو على اعتقادهم أن المرسل حجة كالمسند والأول باطل; فإن من يستجيز الرواية ممن يعرفه غير عدل من غير بيان لا تقبل روايته مرسلا ولا مسندا ولا يظن بهم هذا والثاني باطل أيضا; لأنه قول بأنهم كتموا موضع الحجة بترك الإسناد مع علمهم أن الحجة لا تقوم بدونه فتعين الثالث وهم أنهم اعتقدوا أن المرسل حجة كالمسند وما قيل إنهم أرسلوا ليطلب ذلك في المسانيد فاسد; لأنه إما أن يقال لم يكن عندهم إسناد ذلك أو كان ولم يذكروا والأول باطل; لأنه قول بأنهم تقولوا ما لم يسمعوا ليطلب ذلك في المسموعات ولا يظن هذا بمن دونهم فكيف بهم والثاني كذلك; لأنه إذا كان عندهم الإسناد, وقد علموا أن الحجة لا تقوم بدونه فليس في تركه إلا القصد إلى إتعاب النفس بالطلب ولو قال من لا يرى الاحتجاج بخبر الواحد إنهم إنما رووا ذلك ليطلب ذلك في المتواتر لا يكون هذا الكلام مقبولا منه بالاتفاق فكذلك هذا.
وذكر الشيخ في "شرح التقويم" إنا أجمعنا أن مراسيل الصحابة إنما قبلت لكونهم عدولا لا لكونهم صحابة كما قبلت شهادتهم وصار إجماعهم حجة لذلك ثم شهادة غيرهم من العدول مقبولة وإجماع كل عصر حجة لوجود العدالة فوجب قبول إرسالهم أيضا لوجود العلة, والثاني أن من زمان الرسول عليه السلام إلى يومنا هذا يرسلون من غير تحاش وامتناع وملؤا الكتب من المراسيل ولم يروا أن أحدا من الأمة أنكر عليهم ذلك, ولم يزل العلماء من سلفهم وخلفهم يقولون قال رسول الله كذا وقال فلان كذا ولو كان المرسل مردودا لامتنعوا من روايته ولم يقروا عليه فكان ذلك إجماعا منهم على قبوله.
وأما المعنى فما ذكر في الكتاب, وهو ظاهر والإسناد في قوله لو أسند عن غيره ضمن معنى الرواية فعدى بكلمة عن "عزم عليه" أي اعتمد عليه وحكم بثبوته عن النبي

(3/7)


نسبه إلى من سمعه لتحمله ما تحمل عنه فعمد أصحاب ظاهر الحديث فردوا أقوى الأمرين وفيه تعطيل كثير من السنن.
إلا أنا أخرناه مع هذا عن المشهور; لأن هذا ضرب مزية للمراسيل بالاجتهاد فلم يجز النسخ بمثله بخلاف المتواتر والمشهور فأما قوله إن الجهالة تنافي شروط الحجة فغلط; لأن الذي أرسل إذا كان ثقة يقبل إسناده
ـــــــ
عليه السلام "فعمد" بفتح الميم أي قصد يقال عمدت للشيء أعمد عمدا إذا قصد له أي تعمدت, وهو نقيض الخطاء.
"أقوى الأمرين" : وهو المرسل والأمران المسند والمرسل وفيه أي في رد المرسل تعطيل كثير من السنن; فإن المراسيل جمعت فبلغت قريبا من خمسين جزءا وهذا تشنيع عليهم; فإنهم سموا أنفسهم أصحاب الحديث وانتصبوا لحيازة الأحاديث والعمل بها, ثم ردوا منها ما هو أقوى أقسامها مع كثرته في نفسه فكان هذا تعطيلا للسنن وتضييعا لها لا حفظا لها وإحاطة بها, ثم المعنى المذكور في الكتاب يشير إلى ترجيح المرسل على المسند عند المعارضة, وقد نص الشيخ عليه في بعض تصانيفه أيضا فقال المرسل عندنا مثل المسند المشهور وفوق المسند الواحد إلا أنه لا يجوز الزيادة به على الكتاب.
والحاصل أن الذين جعلوا المراسيل حجة اختلفوا عند تعارض المرسل والمسند على ثلاثة مذاهب فذهب عيسى بن أبان إلى ترجيح المرسل, وهو اختيار الشيخ على ما دل عليه سياق كلامه وذهب عبد الجبار إلى أنهما يستويان وذهب الباقون إلى ترجيح المسند على المرسل لتحقق المعرفة برواة المسند وعدالتهم دون رواة المرسل, ولا شك أن رواية من عرفت عدالته أولى ممن لا يعرف عدالته ولا نفسه وتمسك من سوى بينهما بأن الإرسال لا يمكن إجراؤه على ظاهره; لأنه يقتضي الجزم بصحة خبر الواحد, وهو غير جائز فيحمل قوله قال رسول الله عليه السلام كذا, على أن المراد منه أني أظن أنه قال كذا, وإذا كان كذلك كان مثل الإسناد; لأن معنى الإسناد هذا أيضا. فإن قال الراوي إذا أرسلت الحديث فقد حدثته عن جماعة من الثقات فحينئذ يكون مرسله أقوى من حديث أسنده إلى واحد لأجل الكثرة. واحتج من رجح المرسل بما ذكر في الكتاب.
قوله "إلا أنا أخرناه" استثناء بمعنى لكن وجواب عما يقال لما كان المرسل عندكم فوق المسند كان مثل المشهور فينبغي أن يجوز الزيادة به على الكتاب كما يجوز بالمشهور, فقال هذه مزية ثبتت للمراسيل بالاجتهاد والرأي فيكون مثل قوة ثبتت بالقياس وقوة المشهور ثبتت بالتنصيص وما ثبتت بالتنصيص فوق ما ثبتت بالرأي فلا يكون المرسل مثل المشهور فلا يجوز الزيادة به.

(3/8)


لم يتهم بالغفلة عن حال من سكت عن ذكره وإنما علينا تقليد من عرفنا عدالته لا معرفة ما أبهمه ألا ترى أنه إذا أثنى على من أسند إليه خيرا
ـــــــ
قوله: "وإنما علينا تقليد من عرفنا عدالته" جواب عما يقال ما ذكرتم لا يكفي للتعديل; لأن الراوي ساكت عن الجرح ولو كان السكوت عن الجرح تعديلا لكان السكوت عن التعديل جرحا وليس كذلك فقال الواجب علينا تقليد من عرفنا عدالته, وهو المرسل لا اتباع من أبهمه, وهو المروي عنه والمرسل عدل فلا يتهم بالغفلة عن حال من روي عنه, وما ذكروا أن العدول قد نقلوا عن المجروحين فكذلك إلا أنهم نبهوا على جرحهم وأخبروا عن حالهم, فأما إن سكتوا بعد الرواية عن حالهم فلا وكيف يظن بهم ذلك وفيه تلبيس الأمر على المروي له وتحميل له على العمل بما ليس بحجة كما بينا وما ذكروا من الاحتمالات الأخر ليس بمانع, بدليل أن العنعنة كافية في الرواية وتلك الاحتمالات موجودة فيها; فإن من قال: روى فلان عن فلان, يحتمل أنه لم يسمع فلان عن فلان بل بلغه بواسطة هي مجهولة ويحتمل أن تلك الواسطة لا يكون عدلا أو يكون عدلا عند الراوي غير عدل عند المروي له ومع هذا يقبل بالإجماع فكذلك هذا.
وما ذكره الشافعي رحمه الله من اشتراط انضمام بعض ما ذكرنا إلى المرسل لقبوله فليس بصحيح; لأن المنضم إليه إن كان حجة بنفسه يكون الحكم ثابتا به ولا يكون للمرسل تأثير في مقابلته وإن لم يكن حجة فاقترانه إلى ما ليس بحجة لا يفيد أيضا; لأنه لا يجوز أن ينضم ما ليس بحجة إلى ما ليس بحجة فيصير حجة كذا في المعتمد. واعترض عليه بأن الظن قد يحصل أو يتقوى بانضمام ما لا يفيد الظن إلى مثله كانضمام شاهد إلى شاهد وكانضمام أخبار آحاد إلى أمثالها يفيد العلم.
قوله "ألا ترى أنه إذا أثنى على من أسند إليه خيرا ولم يعرفه" : يحتمل وجهين: أحدهما: أن الراوي إذا ذكر المروي عنه, وقال: هو ثقة عندي أو عدل لزم قبول خبره بالاتفاق كذا في المعتمد والقواطع ولا يلزم التفحص عن حاله مع احتمال أنه لو تفحص عنها يقف على بعض أسباب الجرح أو يقف على ما لم يعده الراوي جرحا, وهو جرح عنده, فكذا هذا. وعلى هذا الوجه يكون الضمير البارز في "لم يعرفه" راجعا إلى الخير.
والثاني: وهو الذي يدل عليه ظاهر الكلام أن الراوي إذا أبهم المروي عنه وأثنى عليه خيرا بأن قال حدثني الثقة أو سمعته عن عدل أو أخبرني من لا أتهمه صحت الرواية ويكون الخبر مقبولا, فكذا إذا أرسل يكون مقبولا; لأن الرواية مع السكوت عن الطعن في المروي عنه تعديل له أيضا, ولكن هذا لا يصح إلزاما عليهم; فإن الشرط عندهم أن يسمي الراوي كل واحد من الرواة باسمه المشهور الذي يتميز به عن غيره ليثبت الاتصال فيكون

(3/9)


ولم يعرفه بما يقع لنا العلم به صحت روايته؟ فكذلك هذا وأما إرسال من دون هؤلاء فقد اختلف فيه فقال بعض مشايخنا يقبل إرسال كل عدل. وقال
ـــــــ
هذا من الشيخ ردا للمختلف إلى المختلف وسيأتي بيانه, أو يكون إلزاما على الشافعي; فإنه قد قال في كثير من المواضع حدثني الثقة حدثني من لا أتهمه ثم لم يقبل المرسل الذي هو في معناه.
ورأيت في بعض كتبهم أنه إنما قال ذلك; لأنه قد اشتهر من عناه الشافعي بهذا الكلام فأراد بمن يثق به إبراهيم بن إسماعيل وبمن لا يتهمه يحيى بن حسان فصارت الكناية كالتسمية وقيل: إنه إنما قال ذلك احتجاجا لنفسه ولم يقله احتجاجا على خصمه وله في حق نفسه أن يعمل بما يثق بصحته وإن لم يكن له ذلك في حق غيره ولكن هذا لا يخلو عن تكلف فعلى هذا الوجه يكون الضمير عائدا إلى من. وقولهم إذا سمى المروي عنه ولم يعدله وبقي مجهولا لم يقبله قلنا عند بعض مشايخنا: يقبل خبره إذا كان الراوي عدلا ويكون روايته مع السكوت عن الجرح تعديلا له كما لو قال هو عدل صريحا ولئن سلمنا أنه لا يقبل فالفرق بينهما أن المرسل قد حكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه قال ذلك والعدل المتدين لا يقدم عليه إلا إذا كان من سمعه عنه ثقة عنده فيكون هذا تعديلا عنه تقديرا بخلاف ما إذا سماه; فإنه لم يحكم على النبي عليه السلام بذلك بل ينسب ذلك إلى المخبر الذي سماه فلا يستدل به على أنه عدل عنده بل يحتمل أنه مع كونه مستورا عنده يروي عنه بناء على ظاهر حاله وفوض تعرف حاله إلى السامع حقيقة حيث ذكر اسمه.
وقولهم: لو جاز العمل بالمراسيل لم يكن للاستيثاق والتفحص عن عدالة الرواة فائدة: قلنا: فائدته من وجهين: أحدهما: أنه إذا أسند أمكن للسامع الفحص عن عدالتهم فيكون ظنه بعدالتهم آكد من ظنه بها عند الإرسال; لأن ظن الإنسان إلى فحصه وخبرته أقوى من طمأنينته إلى خبرة غيره وهذا يقتضي ترجيح المسند على المرسل. والثاني: أنه قد يشتبه عليه حال من أخبره به فلا يقدم على جرحه وتزكيته فيذكره ليتفحص عنه غيره. قال شمس الأئمة رحمه الله: اشتغال الناس بالإسناد كاشتغالهم بالتكلف لسماع الخبر من وجوه مختلفة وذلك لا يدل على أن خبر الواحد لا يكون حجة فكذلك اشتغالهم بالإسناد لا يكون دليلا على أن المرسل لا يكون حجة.
قوله "وأما إرسال من دون هؤلاء" أي دون القرون الثلاثة فقد اختلف فيه قال الشيخ أبو الحسن الكرخي: يقبل إرسال كل عدل في كل عصر; لأن العلة التي توجب قبول مراسيل القرون الثلاثة وهي العدالة والضبط تشمل سائر القرون, وقال عيسى بن أبان لا يقبل إلا مراسيل من كان من أئمة النقل مشهورا بأخذ الناس العلم منه فإن لم يكن كذلك

(3/10)


بعضهم: لا يقبل. أما وجه القول الأول فما ذكرنا, وأما الثاني فلأن الزمان زمان فسق فلا بد من البيان إلا أن يروي الثقات مرسله كما رووا مسنده مثل إرسال محمد بن الحسن وأمثاله. وأما الفصل الأخير فقد رد بعض أهل الحديث
ـــــــ
وكان عدلا لا يقبل مسنده ويوقف مرسله إلى أن يعرض على أهل العلم, وقال أبو بكر الرازي: لا يقبل إرسال من بعد القرون الثلاثة إلا إذا اشتهر بأنه لا يروي إلا عمن هو عدل ثقة لشهادة النبي عليه السلام على من بعد القرون الثلاثة بالكذب بقوله ثم يفشو الكذب فلا يثبت عدالة من كان في زمن شهد النبي عليه السلام على أهله بالكذب إلا برواية من كان معلوم العدالة بعلم أنه لا يروي إلا عن عدل كذا ذكر شمس الأئمة وذكر في المعتمد إذا قال الإنسان في عصرنا: قال النبي عليه السلام كذا يقبل إن كان ذلك الخبر معروفا في جملة الأحاديث وإن لم يكن معروفا لا يقبل لا لأنه مرسل بل لأن الأحاديث قد ضبطت وجمعت فما لا يعرفه أصحاب الحديث منها في وقتنا هذا فهو كذب وإن كان العصر الذي أرسل فيه المرسل عصرا لم يضبط فيه السنن قبل مرسله.
قوله "إلا أن يروي الثقات مرسله كما رووا مسنده" بالإضافة والهاء استثناء من قوله لا يقبل ومعناه لا يقبل مرسل من بعد القرون الثلاثة إلا إذا روى الثقات مرسله عنه وقبلوه كما رووا مسنده فحينئذ يقبل ذلك المرسل; لأن رواية الثقات عنه وقبولهم ذلك المرسل تعديل له وشهادة على اتصال المرسل برسول الله صلى الله عليه وسلم فيقبل كإرسال القرون الثلاثة وهذا معنى قول عيسى بن أبان يوقف إلى أن يعرض على أهل العلم, وهو اختيار الشيخ واختار شمس الأئمة قول أبي بكر الرازي رحمهم الله.
قوله "وأما الفصل الأخير" وهو ما أرسل من وجه واتصل من وجه آخر, وهو على وجهين: إما أن أسنده هذا المرسل أو غيره ففي الوجه الأول بعض من لم يقبل المراسيل لا يقبل هذا الخبر وإن أسنده هذا الراوي; لأن إرساله يدل على أنه إنما لم يذكر الراوي لضعف فيه فستره له والحال هذه خيانة منه فلم يقبل وهذا لم يقبل بعض أهل الحديث سائر مسانيد هذا المرسل وجعلوه بالإرسال ساقط الحديث وعامتهم على أنه يقبل منه هذا المسند وغيره من المسانيد; لأنه يجوز أن يكون سمع الحديث مسندا ونسي من يروي عنه, وقد علم أنه سمعه مسندا متصلا فأرسله اعتمادا عليه ثم تذكره فأسنده ثانيا أو كان ذاكرا للإسناد فأسنده ثم نسي من يروي عنه فأرسله ثانيا فلا يقدح إرساله في إسناده ولكن إنما يقبل إسناده عندهم إذا أتى بلفظ صريح مثل أن يقول حدثني فلان أو سمعت فلانا ولا يقبل إذا أتى بلفظ موهم مثل أن يقول عن فلان ونحوه هكذا نقل عن الشافعي رحمه الله أيضا إليه أشير في المعتمد., وأما في الوجه الثاني فقد ذكر أبو عمرو المعروف بابن

(3/11)


الاتصال بالانقطاع وعامتهم على أن الانقطاع يجعل عفوا بالاتصال من وجه آخر.
وأما الانقطاع الباطل فنوعان انقطاع بالمعارضة وانقطاع لنقصان وقصور في الناقل أما الأول; فإنما يظهر بالعرض على الأصول فإذا خالف شيئا من ذلك كان مردودا منقطعا وذلك أربعة أوجه أيضا ما خالف كتاب الله والثاني ما خالف السنة المعروفة والثالث ما شذ من الحديث فيما اشتهر من الحوادث
ـــــــ
الصلاح في كتاب "معرفة أنواع علم الحديث" أن الحديث الذي رواه بعض الثقات مرسلا وبعضهم متصلا مثل حديث "لا نكاح إلا بولي" رواه إسرائيل بن يونس في أخرى عن جده أبي إسحاق السبيعي عن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسندا هكذا متصلا, ورواه سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا قد اختلف فيه فحكى الخطيب الحافظ أن أكثر أصحاب الحديث يرون الحكم في هذا وأشباهه للمرسل وعن بعضهم أن الحكم للأحفظ فإذا كان من أرسله أحفظ ممن وصله فالحكم لمن أرسله لا يقدح ذلك في عدالة من وصله وأهليته ومنهم من قال من أسند حديثا قد أرسله الحافظ فإرسالهم له يقدح في مسنده وفي عدالته وأهليته ومنهم من قال الحكم من أسنده إذا كان ضابطا عدلا فيقبل خبره وإن خالفه غيره سواء كان المخالف له واحدا أو جماعة قال وهذا القول هو الصحيح, وهو المأخوذ في الفقه وأصوله ويلتحق بهذا ما إذا كان الذي وصله هو الذي أرسله, وهكذا إذا رفع بعضهم الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووقفه بعضهم على الصحابي أو رفعه واحد في وقت ووقفه هو أيضا في وقت آخر فالحكم على الأصح لما زاده الثقة من الوصل والرفع. فوجه عدم القبول أن الراوي لما سكت عن تسميته المروي عنه كان ذلك بمنزلة الجرح فيه وإسناد الآخر بمنزلة التعديل, وإذا استوى الجرح والتعديل يغلب الجرح لما عرف. ووجه القبول أن عدالة المسند يقتضي قبول الخبر وليس في إرسال من أرسله ما يقتضي أن لا يقبل إسناد من يسنده; لأنه يجوز أن يكون من أرسله سمعه مرسلا أو نسي المروي عنه كما ذكرنا ومن أسنده سمعه مسندا فلا يقدح إرساله في إسناد الآخر ولأن المسند مثبت والمرسل ساكت ولو كان نافيا فالمثبت مقدم عليه; لأنه علم ما خفى عليه.
قوله "انقطاع بالمعارضة", وهو أن تعارض الخبر دليل أقوى منه يمنع ثبوت حكمه; لأنه لما عارضه ما هو فوقه سقط حكمه; لأن المغلوب في مقابلة الغالب ساقط فينقطع معنى ضرورة لنقصان وقصور في الناقل بفوات بعض شرائطه التي ذكرناها من العدالة والإسلام والضبط والعقل شيئا من ذلك أي مما يعرض عليه, وهو الأصول, "وذلك" أي

(3/12)


وعم به البلوى فورد مخالفا للجماعة. والرابع أن يعرض عنه الأئمة من أصحاب النبي عليه السلام أما الأول فلأن الكتاب ثابت بيقين فلا يترك بما فيه شبهة ويستوي في ذلك الخاص والعام والنص والظاهر, حتى إن العام من الكتاب لا يخص بخبر الواحد عندنا خلافا للشافعي رحمه الله ولا يزاد على الكتاب بخبر الواحد عندنا ولا يترك الظاهر من الكتاب ولا ينسخ بخبر الواحد وإن كان نصا; لأن المتن أصل والمعنى فرع له والمتن من الكتاب فوق المتن من السنة لثبوته ثبوتا بلا شبهة فيه فوجب الترجيح به قبل المصير إلى المعنى
ـــــــ
الانقطاع المعنوي الحاصل بمخالفة الأصول أربعة أوجه أيضا كالانقطاع الظاهر "السنة المعروفة" أي المشهورة أو المتواترة "مخالفا للجماعة" أي لقول الجماعة ولو لم يكن مخالفا لقولهم لصار مثل الخبر المشهور بموافقتهم على ما بينا.
قوله "ويستوي في ذلك الخاص والعام" اعلم أن خبر الواحد إذا ورد مخالفا لمقتضى العقل. فإن أمكن تأويله من غير تعسف يقبل التأويل الصحيح وإن لم يمكن تأويله إلا بتعسف لم يقبل; لأنه لو جاز التأويل مع التعسف لبطل التناقض من الكلام كله ويجب فيما لا يمكن تأويله القطع على أن النبي عليه السلام لم يقله إلا حكاية عن الغير أو مع زيادة أو نقصان.
وإن كان مخالفا لنص الكتاب أو للسنة المتواترة أو للإجماع فكذلك; لأن هذه الأدلة قطعية وخبر الواحد ظني ولا تعارض بين القطعي والظني بوجه بل الظني يسقط بمقابلة القطعي.
فإن خالف خبر الواحد عموم الكتاب أو ظاهره فهو محل الخلاف فعندنا لا يجوز تخصيص العموم وترك الظاهر وحمله على المجاز بخبر الواحد كما لا يجوز ترك الخاص والنص من الكتاب به, وإليه أشار الشيخ بقوله ويستوي في ذلك أي في عدم جواز الترك بخبر الواحد الخاص والعام والنص والظاهر حتى إن العام من الكتاب مثل قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97]، لا يخص بقوله عليه السلام "الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم" ولا يترك ظاهر قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، بقوله عليه السلام "الطواف بالبيت صلاة وشرطه شرط الصلاة" ولا ظاهر قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية، بحديث التسمية على ما مر بيانه.
وعند الشافعي وعامة الأصوليين يجوز تخصيص العموم به ويثبت التعارض بينه وبين ظاهر الكتاب, وعموماته لا توجب اليقين عندهم وإنما تفيد غلبة الظن كخبر الواحد

(3/13)


وقد قال النبي عليه السلام "تكثر لكم الأحاديث من بعدي فإذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافق كتاب الله تعالى فاقبلوه وما خالفه فردوه" فلذلك نقول: إنه لا يقبل خبر الواحد في نسخ الكتاب ويقبل
ـــــــ
فيجوز تخصيصها ومعارضتها به عندهم. وعند العراقيين من مشايخنا والقاضي الإمام أبي زيد ومن تابعه من المتأخرين لما أفادت عمومات الكتاب وظواهر اليقين كالنصوص والخصوصات لا يجوز تخصيصها ومعارضتها به فأما عند من جعلها ظنية من مشايخنا مثل الشيخ أبي منصور ومن تابعه من مشايخ سمرقند فيحتمل أن يجوز تخصيصها به كما ذهب إليه الفريق الأول, والأوجه أنه لا يجوز عندهم أيضا; لأن الاحتمال في خبر الواحد فوق الاحتمال في العام والظاهر من الكتاب; لأن الشبهة فيهما من حيث المعنى, وهو احتمال إرادة البعض من العموم وإرادة المجاز من الظاهر ولكن لا شبهة في ثبوت متنهما أي نظمهما وعبارتهما والشبهة في خبر الواحد في ثبوت متنه ومعناه جميعا; لأنه إن كان من الظواهر فظاهر وإن كان نصا في معناه فكذلك; لأن المعنى مودع في اللفظ وتابع له في الثبوت, وهو معنى قوله المتن أصل والمعنى فرع له فلا بد من أن يؤثر الشبهة المتمكنة في اللفظ في ثبوت معناه ضرورة, ولهذا لا يكفر منكر لفظه ولا منكر معناه بخلاف منكر الظاهر والعام من الكتاب; فإنه يكفر. وإذا كان كذلك لا يجوز ترجيح خبر الواحد على ظاهر الكتاب ولا تخصيص عمومه به; لأن فيه ترك العمل بالدليل الأقوى بما هو أضعف منه وذلك لا يجوز.
فإن قيل إن الصحابة خصوا قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11]، بقوله عليه السلام "لا ميراث لقاتل" وقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12]، {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] بقوله عليه السلام: "لا يتوارث أهل ملتين شتى" 1 وقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، بقوله عليه السلام: "لا تنكح المرأة على عمتها" في شواهد لها كثيرة فثبت أن تخصيص الكتاب بخبر الواحد جائز.
قلنا: هذه أحاديث مشهورة يجوز الزيادة بمثلها على الكتاب ولا كلام فيها إنما الكلام في خبر شاذ خالف عموم الكتاب هل يجوز التخصيص به وليس فيما ذكرتم دليل على جوازه والدليل على عدم الجواز أن عمر وعائشة وأسامة رضي الله عنهم رووا خبر
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الفرائض، حديث رقم 2911، ابن ماجه في الفرائض حديث رقم: 2731. والإمام أحمد في المسند 2/178.

(3/14)


فيما ليس من كتاب الله على وجه لا ينسخه ومن رد أخبار الآحاد فقد أبطل
ـــــــ
فاطمة بنت قيس ولم يخصوا به قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]، حتى قال رضي الله عنه: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري صدقت أم كذبت حفظت أم نسيت".
قوله: "وقد قال النبي عليه السلام "تكثر لكم الأحاديث" الحديث أهل الحديث طعنوا فيه وقالوا روى هذا الحديث يزيد بن ربيعة عن أبي الأشعث عن ثوبان ويزيد بن ربيعة مجهول ولا يعرف له سماع عن أبي الأشعث عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان فكان منقطعا أيضا فلا يصح الاحتجاج به وحكي عن يحيى بن معين أنه قال هذا حديث وضعته الزنادقة, وهو علم هذه الأمة في علم الحديث وتزكية الرواة على أنه مخالف للكتاب أيضا, وهو قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، فيكون الاحتجاج به ساقطا على ما يقتضيه ظاهره والجواب أن الإمام أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري أورد هذا الحديث في كتابه, وهو الطود المتبع في هذا الفن وإمام أهل هذه الصنعة فكفى بإيراده دليلا على صحته ولم يلتفت إلى طعن غيره بعد, ولا نسلم أنه مخالف للكتاب; لأن وجوب القبول بالكتاب إنما يثبت فيما تحقق أنه من عند الرسول عليه السلام بالسماع منه أو بالتواتر ووجوب العرض إنما يثبت فيما تردد ثبوته من الرسول عليه السلام إذ هو المراد من قوله إذا روي لكم عني حديث فلا يكون فيه مخالفة للكتاب بوجه على أن المراد من الآية والله أعلم ما أعطاكم الرسول من الغنيمة فاقبلوه وما نهاكم عنه أي عن أخذه فانتهوا, وعن ابن عباس والحسن وما نهيتكم عنه هو الغلول, وقد تأيد هذا الحديث بما روي عن محمد بن جبير بن مطعم أن النبي عليه السلام قال: "ما حدثتم عني مما تعرفون فصدقوا به وما حدثتم عني مما تنكرون فلا تصدقوا فإني لا أقول المنكر" وإنما يعرف ذلك بالعرض على الكتاب.
"ولذلك" أي ولأن ترك الكتاب لا يجوز بخبر الواحد يقول لا يقبل خبر الواحد في نسخ الكتاب وهذا بالاتفاق في النسخ صورة ومعنى; لأن ما ثبت بالدليل القطعي لا يجوز رفعه بالدليل الظني لاشتراط المماثلة في النسخ, وأما النسخ من حيث المعنى فكذلك عندنا وعند المخالف يجوز على أنه بيان لا على أنه نسخ كما سيأتي بيانه إن شاء الله عز وجل. "ويقبل فيما ليس في كتاب الله تعالى على وجه لا ينسخه" أي يعمل به على وجه لا يؤدي إلى النسخ فإذا أدى إليه يترك مثال الأول حديث حل متروك التسمية عمدا يقتضي نسخ ظاهر الكتاب فلا يجوز العمل به ولا يقبل أصلا. ومثال الثاني خبر تعيين الفاتحة وتعديل الأركان ووجوب الطهارة في الطواف يجب العمل به فيما لا يؤدي إلى نسخ

(3/15)


الحجة فوقع في العمل بالشبهة وهو القياس أو استصحاب الحال الذي ليس بحجة أصلا ومن عمل بالآحاد على مخالفة الكتاب ونسخه فقد أبطل اليقين والأول فتح باب الجهل والإلحاد. والثاني فتح باب البدعة وإنما سواء السبيل فيما قاله أصحابنا في تنزيل كل منزلته ومثال هذا مس الذكر أنه يخالف الكتاب; لأن الله تعالى مدح المتطهرين بالاستنجاء بقوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108]، والمستنجي يمس ذكره, وهو بمنزلة البول عند من
ـــــــ
الكتاب فيشترط التعيين والتعديل والطهارة على وجه يتحقق النقصان بفواتها في العبادة ولم يفت أصل الجواز إذ لو فات لأدى إلى نسخ الكتاب ومن أراد أخبار الآحاد فقد أبطل الحجة لما مر أن خبر الواحد من حجج الشرع فوقع في العمل بالشبهة, وهو القياس; لأن الشبهة في القياس في أصله بحيث لا يخلو عنها وفي الخبر عارض أو استصحاب الحال الذي ليس بحجة أصلا ثم بعض من رد خبر الواحد عمل بالقياس عند وقوع الحادثة وبعضهم رد القياس أصلا وعمل بالاستصحاب في الحوادث فالشيخ أشار إلى فساد المذهبين جميعا.
"فقد أبطل اليقين" يعني بما فيه شبهة والأول فتح باب الجهل والإلحاد; لأن ترك الحجة والأخذ بالشبهة أو بما ليس بحجة عدول عن الصواب ومنشؤه الجهل, والثاني: وهو العمل بالآحاد على مخالفة الكتاب ونسخه فتح باب البدعة; لأن السلف لم يعملوا بالآحاد على مخالفة الكتاب على ما حكينا من قول عمر رضي الله عنه لا ندع كتاب ربنا بكذا.
قوله "ومثال هذا" أي مثال الانقطاع بمخالفة الكتاب حديث مس الذكر فإنه مخالف للكتاب; لأن الله تعالى مدح المتطهرين بالاستنجاء بالماء بقوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108]، فإنه نزل فيه على ما روي أن "النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت الآية مشى إلى مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط؟ فقالوا: يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا النبي عليه السلام: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108]، والاستنجاء بالماء لا يتصور إلا بمس الفرجين جميعا, وقد ثبت بالنص أنه من التطهر فلو جعل المس حدثا لا يتصور أن يكون الاستنجاء تطهرا; لأن التطهر إنما يحصل بزوال الحدث فلا يحصل مع إثبات حدث آخر كما لو توضأ مع سيلان الدم والبول من غير عذر, ولكنهم يقولون: نحن لا نجعله تطهرا عن الحدث ليكون المس منافيا له بل هو تطهر عن النجاسة الحقيقية بمنزلة تطهير الثوب وباعتبار هذه الطهارة استحقوا المدح لا باعتبار

(3/16)


جعله حدثا. ومثل حديث فاطمة بنت قيس الذي رويناه في النفقة أنه يخالف الكتاب, وهو قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]، الآية ومعناه وأنفقوا عليهن من وجدكم, وقد قلنا: إن الظاهر من الكتاب أحق من نص الآحاد وكذلك مما خالف الكتاب من السنن أيضا حديث القضاء بالشاهد واليمين; لأن الله تعالى: قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، ثم فسر ذلك بنوعين برجلين بقوله: {مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، وبقوله: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، ومثل هذا إنما يذكر لقصر
ـــــــ
الطهارة عن الحدث إذ الكل كانوا فيها سواء وهذه الطهارة لا تزول بالمس كما لو فسا أو رعف بعد الاستنجاء فلا يكون الحديث مخالفا للكتاب وأجيب عنه بأنه تعالى جعل الاستنجاء تطهرا مطلقا فينبغي أن يكون تطهرا حقيقة وحكما فلو جعل المس حدثا لا يكون تطهرا من كل وجه ولا يخلو هذا الجواب عن ضعف.
قوله: "وكذلك" أي وكحديث المس وحديث فاطمة حديث القضاء بالشاهد واليمين الذي تمسك به الشافعي رحمه الله في إيجاب القضاء بالشاهد الواحد إذا انضم إليه يمين المدعي, وهو ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن "رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد" وفي بعض الروايات بشاهد ويمين الطالب1, وهو مذهب علي وأبي بن كعب رضي الله عنهما. وعلماؤنا لم يعملوا بهذا الحديث لمخالفته الكتاب من وجوه: أحدها: أن الله تعالى قال: {وَاسْتَشْهِدُوا} أمر بالاستشهاد لإحياء الحق, وهو مجمل في حق ما هو شهادة, كقول القائل كل يكون مجملا ثم فسره بنوعين برجلين وبرجل وامرأتين أما على المساواة أو الترتيب فيقتضي ذلك اقتصار الاستشهاد المطلوب بالأمر على النوعين; لأن المجمل إذا فسر كان ذلك بيانا لجميع ما يتناوله اللفظ كقول الرجل: كل طعام كذا أو طعام كذا, كان التفسير اللاحق بيانا لجميع ما أريد من المأكول بقوله كل. وكذا لو قال تفقه من فلان أو فلان كان التفسير الملحق به قصر الأمر بالتفقه عليهما حتى لا يكون التفقه على غيرهما من موجبات الأمر, وكذا لو قال: استشهد زيدا على صفقتك أو خالدا. لم يكن استشهاد غيرهما من المأمور استشهادا لحكم الأمر لا محالة بل يكون زيادة عليه فكذلك هاهنا يصير المذكور بيانا للكل فمن جعل الشاهد واليمين حجة فقد زاد على النص بخبر الواحد, وهو جار مجرى النسخ فلا يجوز به.
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الأقضية حديث رقم 1712. وأبو داود في الأقضية حديث رقم 3608. والترمذي في الأحكام حديث رقم 1343. وأخرجه ابن ماجه في الأحكام حديث رقم 2368.

(3/17)


الحكم عليه ولأنه قال {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282]، ولا مزيد على الأدنى ولأنه انتقل إلى غير المعهود, وهو شهادة النساء ولو كان الشاهد واليمين
ـــــــ
وثانيها: أنه تعالى قال: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282]، نص على أدنى ما ينتفي به الريبة شهادة شاهدين أو شهادة رجل وامرأتين وليس وراء الأدنى شيء ينتفي به الريبة, وهو معنى قوله "ولا مزيد على الأدنى" يعني في جانب القلة والتسفل فلو كان الشاهد مع اليمين حجة لزم منه انتفاء كون المذكور في الكتاب أدنى في انتفاء الريبة وذلك لا يجوز فكان في جعله حجة إبطال موجب الكتاب.
وثالثها: أنه تعالى نقل الحكم من المعتاد, وهو استشهاد الرجال إلى غير المعتاد, وهو استشهاد النساء مبالغة في البيان مع أن حضورهن مجالس الحكام ومحافل الرجل غير معهود بل هو حرام من غير ضرورة; لأنهن أمرن بالقرار في البيوت بقوله عز ذكره {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33]، فلو كان يمين المدعي مع الشاهد الواحد حجة وأمكن للمدعي الوصول إلى حقه بها لما استقام السكوت عنها في الحكمة والانتقال إلى ذكر من لا يستشهد عادة مع كل هذا الاستقصاء في البيان بل كان الابتداء باليمين والشاهد أولى; لأنه أعم وأيسر وجودا من الشهيدين أو كان ذكر الشاهد واليمين بعد ذكر الرجلين أولى; لأن الشاهد الواحد لما كان موجودا وبانضمام عين المدعي إليه يتمكن المدعي من الوصول إلى حقه لم يتحقق الضرورة المبيحة لحضور النساء محفل الرجال كما لو وجد الرجلان فكان النص دليلا من هذا الوجه بطريق الإشارة على أن الشاهد واليمين ليس بحجة.
"وكان ذلك" أي الانتقال من المعهود, وهو استشهاد الرجال إلى غير المعهود, وهو استشهاد النساء بيانا على الاستقصاء أنه ليس وراء الأمرين المذكورين شيء آخر يصلح حجة للمدعي وإن الشاهد واليمين ليس بحجة فهذا تقرير ما ذكر في الكتاب. ولكن للخصم أن يقول على الوجه الأول: لا أسلم القصر; لأن له طرقا أربعة على ما ذكر في أول هذا الكتاب ولم يوجد واحد منها فكيف تستقيم دعوى القصر من غير دليله ولئن سلمنا القصر على ما زعمتم فهو ثابت بطريق المفهوم, وهو ليس بحجة عندكم وعندي وإن كان حجة ولكن إذا لم يعارضه دليل آخر فإذا عارضه سقط الاحتجاج به فلا يكون في العمل بهذا الحديث مخالفة الكتاب وأن يقول على الوجه الثاني: لا دلالة لهذا النص من هذا الوجه على ما ذكرتم; لأن نظم الكتاب ليس على ما هو المذكور في الكتب بل نظمه {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282]، واسم الإشارة راجع إلى أن تكتبوه في قوله عز اسمه {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ}

(3/18)


حجة لكان مقدما على غير المعهود وصار ذلك بيانا على الاستقصاء, وقال في آية أخرى {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106]، فنقل إلى شهادة الكافر حين كانت حجة على المسلمين وذلك غير معهود في موت المسلمين ووصاياهم فيبعد أن يترك المعهود ويأمر بغيره ولأنه ذكر في ذلك يمين الشاهد بقوله {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106]، ويمين الخصم في الجملة مشروع
ـــــــ
[البقرة: 282]، والأدنى بمعنى الأقرب لا بمعنى الأقل أي ذلكم الكتب أقسط أي أعدل عند الله وأقوم للشهادة أي أعدل على أدائها {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282]، أي أقرب من انتفاء الريب, كذا في الكشاف وغيره ولا يجوز أن يصرف الإشارة إلى قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، وأن يجعل الأدنى بمعنى الأقل; لأن قوله تعالى: {أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} [البقرة: 282]، لا ينقاد له, وإذا كان كذلك لا يكون الحديث مخالفا للكتاب من هذا الوجه أيضا ثم أكد الشيخ الوجه الأخير بيان وجهين آخرين:
أحدهما أنه تعالى نقل الحكم عن استشهاد مسلمين على وصية المسلم إلى استشهاد كافرين حين كانت شهادة الكفار حجة على المسلمين باعتبار قلة المسلمين في قوله عز ذكره {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106]، أي عدد الشهود فيما بينكم إذا حضر أحدكم الموت وقت الوصية اثنان عدلان من أهل دينكم أو آخران من غير أهل دينكم إن لم يجدوا مسلمين و"أو" للترتيب, كذا فسره ابن عباس وسعيد بن جبير وجماعة من أهل العلم فلو كان اليمين مع الشاهد حجة لنقل الحكم إليه لا إلى شهادة الكفار; لأن تجويز شهادتهم على المسلمين كان باعتبار الضرورة, وقد أمكن دفعها بالشاهد واليمين الذي هو أقرب إلى الحق من شهادة الكفار وأيسر وجودا منها فعلم أنه ليس بحجة.
والثاني أنه تعالى نقل الحكم عند وقوع الارتياب والشك في صدق الشاهد إلى تحليف الشاهد بقوله عز اسمه: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً} [المائدة: 106]، الآية وتحليف الشاهد حينئذ كان مشروعا ثم نسخ, ولو كان المتنازع فيه حجة لكان النقل إليه أولى; لأنه أقرب إلى اليمين المشروعة إذ اليمين المشروعة على المدعى عليه وأنه أحد الخصمين والمدعي يشبهه من حيث إنه خصم وتحليفه في الجملة مشروع أيضا كما في التحالف وكما في القسامة على مذهب البعض, فأما يمين الشاهد فلا أصل له في الشرع; لأنه أمين ولا يمين على الأمين في موضع فكان النقل إلى يمين الشاهد في غاية البيان أن يمين المدعي ليست بمشروعة. وأمثال هذا أي نظائر ما ورد مخالفا للكتاب

(3/19)


فأما يمين الشاهد فلا فصار النقل إلى يمين الشاهد في غاية البيان بأن يمين المدعي ليست بحجة وأمثال هذا كثير ومثله خبر المصراة.
وكذلك ما خالف السنة المشهورة أيضا لما قلنا: إنه فوقه فلا ينسخ به وذلك مثل حديث الشاهد واليمين; لأنه خالف المشهور, وهو قوله "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" يعني المدعى عليه ومثل حديث سعد بن وقاص رضي الله عنه في بيع التمر بالرطب مخالف
ـــــــ
من السنن الغريبة كثيرة مثل خبر متروك التسمية وخبر وجوب الملتجئي إلى الحرم وخبر وجوب الطهارة في الطواف وسائر ما مر بيانه.
قوله "وكذلك ما خالف السنة المشهورة أيضا" أي ومثل الخبر المخالف للكتاب الخبر المخالف للسنة في أنه يكون مردودا أيضا وهذا هو القسم الثاني من الانقطاع الباطن "لما قلنا إنه" أي الخبر المشهور فوق خبر الواحد حتى جازت الزيادة على الكتاب بالمشهور دون خبر الواحد فلا يجوز أن ينسخ المشهور الذي هو أقوى بخبر الواحد الذي هو أضعف وذلك أي مثال هذا الأصل حديث الشاهد واليمين أيضا; فإنه ورد مخالفا للحديث المشهور, وهو ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" 1 وفي رواية "على من أنكر" وبيان المخالفة من وجهين: أحدهما: أن الشرع جعل جميع الأيمان في جانب المنكر دون المدعي; لأن اللام يقتضي استغراق الجنس فمن جعل يمين المدعي حجة فقد خالف النص ولم يعمل بمقتضاه, وهو الاستغراق. والثاني: أن الشرع جعل الخصوم قسمين: قسما مدعيا وقسما منكرا, والحجة قسمين: قسما بينة وقسما يمينا, وحصر جنس اليمين على من أنكر وجنس البينة على المدعي وهذا يقتضي قطع الشركة وعدم الجمع بين اليمين والبينة في جانب والعمل بخبر الشاهد واليمين توجب ترك العمل بموجب هذا الخبر المشهور فيكون مردودا. كيف وقد طعن فيه يحيى بن معين وإبراهيم النخعي والزهري حتى قال الزهري والنخعي أول من أفرد الإقامة معاوية وأول من قضى بشاهد ويمين معاوية وقد "قال النبي صلى الله عليه وسلم للخضرمي حين امتنع عن استحلاف الكندي في دعوى أرض "ليس لك منه إلا ذلك" 2 فهذا يقتضي الحصر ولو كانت يمين المدعي مشروعة لكان له طريق آخر غير الاستحلاف.
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الأحكام حديث رقم 1341.
2 أخرجه مسلم في الإيمان حديث رقم 139. أبو داود في الإيمان حديث رقم 3245. والترمذي في الأحكام حديث رقم 1340. والإمام أحمد في المسند 4/317.

(3/20)


لقوله عليه السلام: "التمر بالتمر" بزيادة مماثلة هي ناسخة للمشهور, باعتبار
ـــــــ
قوله "ومثل حديث سعد" إلى آخره بيع الرطب بالتمر كيلا بكيل يجوز عند أبي حنيفة ولا يجوز عند أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله لحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: "أينقص إذا جف قالوا نعم قال فلا إذا" , فالنبي عليه السلام أفسد البيع وأشار بقوله أتنقص إذا جف إلى وجوب بناء معرفة المساواة على أعدل الأحوال وعند البناء عليه يصير أجزاء الرطب أقل فلا يجوز لتفاوت قائم للحال عند الاعتبار بأجزاء التمورة كما لا يجوز المقلي بغير المقلي لتفاوت قائم في الحال عند الاعتبار بأجزاء غير المقلي.
واستدل أبو حنيفة رحمه الله بالحديث المشهور, وهو قوله عليه السلام: "التمر بالتمر مثل بمثل" ; فإنه يستدعي الجواز وذلك; لأن التمر ينطلق على الرطب; لأنه اسم جنس للتمرة الخارجة من النخل من حين ينعقد إلى أن يدرك وبما يتردد عليها من الأحوال والصفات لا يختلف اسم الذات كاسم الآدمي لا يتبدل باختلاف أحواله. والدليل عليه ما روي "أنه عليه السلام نهى عن بيع التمر حتى يزهى1 فقيل: وما يزهى فقال أن يحمر أو يصفر" فسماه تمرا وهو بسر, وقال شاعرهم:
وما العيش إلا نومة وتشرق ... وتمر على رأس النخيل وماء
والمراد الرطب. وكذا لو أوصى برطب على رأس النخيل فيبس قبل أن يموت الموصي لا يبطل الوصية ولو تبدل الجنس باليبس لبطلت كما لو أوصى بعنب فصار زبيبا قبل الموت وكذا لو أسلم في تمر فاقتضى رطبا أو على العكس صح ولو اختلفا لكان هذا استبدالا, وهو غير جائز, وإذا ثبت أنه تمر, وقد وجد شرط العقد, وهو المماثلة حالة العقد فيجوز ولا يعتبر المماثلة في أعدل الأحوال; لأن شرط العقد يعتبر عند العقد فيجب أن يعتبر المساواة في البدلين اللذين ورد عليهما العقد وهما الرطب والتمر فأما اعتبار حالة مفقودة يتوقع حدوثها في بابي الحال فلا فكان اعتبار الأعدل كاعتبار الأجود وأنه ساقط بالنص.
واعلم أن صاحب الشرع أسقط اعتبار التفاوت في الجودة بقوله عليه السلام: "جيدها ورديها سواء" واعتبر التفاوت بين النقد والنسيئة حيث شرط اليد باليد وصفة الجودة لا تكون حادثة بصنع العباد والتفاوت بين النقد والنسيئة حادث بصنع العباد, وهو
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في السلام، باب رقم 3-4، ومسلم في المساقاة حديث رقم 1555، وأبو داود في البيوع، حديث رقم 3368، والترمذي في البيوع، حديث رقم 1226.

(3/21)


جودة ليست من المقدار إلا أن أبا يوسف ومحمدا رحمهما الله عملا به
ـــــــ
اشتراط الأجل فصار هذا أصلا إن كل تفاوت يبتنى على صنع العباد فذلك مفسد للعقد وفي المقلية بغير المقلية والحنطة بالدقيق التفاوت بهذه الصفة وكل تفاوت يبتنى على ما هو ثابت بأصل الخلقة من غير صنع العباد فهو ساقط الاعتبار والتفاوت بين الرطب والتمر بهذه الصفة فلا يكون معتبرا كالتفاوت بين الجيد والرديء, وأما الجواب عن الحديث فمن وجهين أحدهما ما ذكر الشيخ في الكتاب, وهو أن هذا الحديث مخالف للحديث المشهور; فإنه يقتضي اشتراط المماثلة في الكيل مطلقا لجواز العقد حتى لو وجدت المساواة في حال يبوسة البدلين أو في حال رطوبتهما أو في حال يبوسة أحدهما ورطوبة الآخر جاز العقد فالتقييد باشتراط المماثلة في أعدل الأحوال, وهو حال يبوستهما كما هو مقتضى حديث سعد متضمن لنسخ ذلك الإطلاق فلا يجوز بخبر الواحد, وهو معنى قوله بزيادة مماثلة هي ناسخة للمشهور والباء للسببية أي المخالفة بسبب اقتضائه زيادة مماثلة لا يقتضيها الخبر المشهور وهي المساواة في حالة الجفاف, والباء في باعتبار جودة متعلقة بالزيادة أي اشتراط تلك الزيادة باعتبار جودة وجدت في أحدهما وفقدت في الآخر لا باعتبار زيادة في القدر في أحدهما دون الآخر وذلك لأن للتمر فضل جودة على الرطب من حيث الادخار من غير انتقاص ولكن لا تفاوت بينهما من حيث الإجزاء; لأن للتمر إن كان فضل اكتناز ففي الرطب فضل رطوبة هي مقصودة شاغلة للكيل لا يظهر التفاوت بينهما إلا بعد ذهابها بالجفاف, وقد عرفت أن الفضل والمساواة في الجودة ساقطا الاعتبار شرعا إنما المعتبر المساواة والفضل قدرا فكيف يصلح اعتبار المماثلة الراجعة إلى الجودة ناسخا لما ثبت بالحديث المشهور. وقوله ليست من المقدار يحتمل أن يكون احترازا عن فوات المماثلة باعتبار القلي; فإن بالقلي ينتفخ الحبات إذا كانت رطبة وتضمر إذا قليت يابسة فلا تساوي المقلية في الدخول في الكيل غير المقلية باعتبار الانتفاخ والضمور وهذا التفاوت رجع إلى القدر فيجوز أن يؤثر في منع الجواز وذكر في مختصر التقويم أن الحديث المشهور يوجب أحكاما ثلاثة:
أحدها: وجوب المماثلة شرطا للجواز فيجوز البيع حال وجود المماثلة بهذا النص.
والثاني: أنه يدل على تحريم فضل قائم; لأن المراد منه الفضل على الذات.
والثالث: الفضل الذي ينعدم به المماثلة وخبر الواحد يخالفه في هذه الأمور الثلاثة; لأنه أوجب حرمة البيع حال وجود المماثلة في المعيار وأوجب حرمة فضل لا ينعدم به المماثلة; لأن المماثلة شرط للجواز حالة العقد والفضل الذي يوجد بعد الجفاف لا يعدم

(3/22)


على أن اسم التمر لا يتناول الرطب في العادة كما في اليمين. وأما القسم الثالث
ـــــــ
المماثلة الموجودة حال العقد وهذا الفضل موهوم غير قائم حال العقد فإذا خالف المشهور في هذه الأحكام لم يقبل. والثاني أنه غير ثابت على ما حكي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لما دخل بغداد سألوه عن هذه المسألة وكانوا أشداء عليه لمخالفته الخبر فقال: الرطب لا يخلو من أن يكون تمرا أو لم يكن فإن كان تمرا جاز العقد لقوله عليه السلام: "التمر بالتمر مثل بمثل" وإن لم يكن تمرا جاز أيضا لقوله عليه السلام: "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم" فأورد عليه حديث سعد فقال: هذا الحديث دار على زيد أبي عياش وهو ممن لا يقبل حديثه واستحسن أهل الحديث منه هذا الطعن حتى قال ابن المبارك: كيف يقال: أبو حنيفة لا يعرف الحديث وهو يقول زيد أبو عياش ممن لا يقبل حديثه؟, كذا في المبسوط ولكن يرد عليه أن الحنطة المقلية إن كانت حنطة ينبغي أن يجوز بيعها بغير المقلية كيلا بكيل لقوله عليه السلام: "الحنطة بالحنطة مثل بمثل" وإن لم يكن حنطة ينبغي أن يجوز أيضا لقوله عليه السلام: "إذا اختلفا النوعان فبيعوا كيف شئتم" والحكم بخلافه, ولهذا قال القاضي الإمام في الأسرار وشمس الأئمة في المبسوط ما ذكر أبو حنيفة رحمه الله حسن في المناظرات لدفع الخصم ولكن الحجة لا تتم به لجواز قسم ثالث كما في الحنطة المقلية معناه يجوز أن يكون الرطب قسما ثالثا لا يكون تمرا مطلقا لفوات وصف اليبوسة عنه ولا يكون غيره مطلقا لبقاء أجزائه عند صيرورته تمرا كالحنطة المقلية ليست عين الحنطة على الإطلاق لفوات وصف الإثبات عنها بالمقلي وليست غيرها أيضا لوجود أجزاء الحنطة فيها, وكذا الحنطة مع الدقيق, وإذا كان كذلك كان الاعتماد على ما ذكرنا أولا.
قوله "إلا أن" أي لكن أبا يوسف ومحمدا عملا به أي بحديث سعد جواب عما يقال: إنهما وافقا أبا حنيفة رحمهم الله في أن خبر الواحد يرد بمخالفته المشهور ثم إنهما عملا بحديث سعد مع مخالفته الخبر المشهور فقال: إنهما إنما عملا به; لأنهما لم يسلما مخالفته للمشهور بناء على أن المشهور تناول التمر والرطب ليس بتمر عادة أي عرفا بدليل أن من حلف لا يأكل تمرا فأكل رطبا أو حلف لا يأكل هذا الرطب فأكله بعدما صار تمرا لم يحنث, وإذا كان كذلك لا يكون المشهور متناولا لما تضمنه حديث سعد فلا يتحقق المخالفة فيجب العمل به. وأجيب عنه بأنه قد ثبت أن الرطب من جنس التمر لما قلنا لكن اليمين قد يختلف باختلاف الداعي مع قيام الجنسية والرطوبة في الرطب وصف داع إلى المنع مرة وإلى الإقدام أخرى فيتقيد اليمين بالوصف كما لو قال لامرأته إن خرجت من هذه الدار فعبدي حر يتقيد بحال قيام النكاح; لأنه يدعوه إلى المنع عن الخروج والخروج

(3/23)


فلأن الحادثة إذا اشتهرت وخفي الحديث كان ذلك دلالة على السهو; لأن الحادثة إذا اشتهرت استحال أن يخفى عليهم ما يثبت به حكم الحادثة, ألا ترى أنه كيف اشتهر في الحلف فإذا شذ الحديث مع اشتهار الحادثة كان ذلك زيافة
ـــــــ
في الأحوال جنس واحد لكن لما اختلف الداعي اختلفت اليمين كذا هاهنا, ألا ترى أنه لو حلف لا يأكل هذا الرطب وهو تمر انعقدت يمينه ولو كان غيره لما انعقدت كما لو تبين أنه عنب, إليه أشير في مختلفات المصنف رحمه الله قال شمس الأئمة رحمه الله بعد بيان القسمين ففي هذين النوعين من الانتقاد للحديث علم كثير وصيانة للدين بليغة; فإن أصل الأهواء والبدع إنما ظهر من قبل ترك عرض أخبار الآحاد على الكتاب والسنة; فإن قوما جعلوها أصلا مع الشبهة في اتصالها برسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أنها لا توجب علم اليقين ثم تأولوا عليها الكتاب والسنة المشهورة فجعلوا التبع متبوعا وجعلوا الأساس ما هو غير متيقن به فوقعوا في الأهواء والبدع بمنزلة من أنكر خبر الواحد; فإنه كما لما لم يجوز العمل به احتاج إلى القياس ليعمل به وفيه أنواع من الشبهة أو إلى استصحاب الحال وهو ليس بحجة أصلا, وترك العمل بالحجة إلى ما ليس بحجة يكون فتحا لباب الإلحاد وجعل ما هو غير متيقن به أصلا, ثم يخرج ما فيه التيقن عليه يكون فتحا لباب الأهواء والبدع وكل واحد منهما مردود وإنما سواء السبيل ما ذهب إليه علماؤنا رحمهم الله من إنزال كل حجة منزلتها; فإنهم جعلوا الكتاب والسنة المشهورة أصلا ثم خرجوا عليها ما فيه بعض الشبهة, وهو المروي بطريق الآحاد مما كان منه موافقا للكتاب أو المشهور قبلوه وأوجبوا العمل به وما كان مخالفا لهما ردوه على أن العمل بالكتاب والسنة أوجب من العمل بالغريب بخلافه وما لم يجدوه في شيء من الأخبار صاروا حينئذ إلى القياس في معرفة حكمه لتحقق الحاجة إليه.
قوله "وأما القسم الثالث" فكذا خبر الواحد إذا ورد موجبا للعمل فيما يعم به البلوى أي فيما يمس الحاجة إليه في عموم الأحوال لا يقبل عند الشيخ أبي الحسن الكرخي من أصحابنا المتقدمين, وهو مختار المتأخرين منهم, وعند عامة الأصوليين يقبل إذا صح سنده, وهو مذهب الشافعي وجميع أصحاب الحديث تمسك من قبله بعمل الصحابة رضي الله عنهم فإنهم عملوا به فيما يعم به البلوى مثل ما روي عن "ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: كنا نخابر أربعين سنة حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي عليه السلام نهى عن ذلك فانتهينا" ومثل رجوعهم إلى خبر عائشة رضي الله عنها في وجوب الغسل بالتقاء الختانين وبأن خبر العدل في هذا الباب يفيد ظن الصدق فيجب قبوله كما إذا لم يعم به البلوى, ألا ترى أن القياس يقبل فيه مع أنه أضعف من خبر الواحد فلأن يقبل فيه الخبر كان أولى.

(3/24)


وانقطاعا وذلك مثل حديث الجهر بالتسمية ومثل حديث مس الذكر وما أشبه ذلك.
ـــــــ
واحتج من لم يقبله بأن العادة تقتضي استفاضة نقل ما يعم به البلوى وذلك; لأن ما يعم به البلوى كمس الذكر لو كان مما ينتقض به الطهارة لأشاعه النبي عليه السلام ولم يقتصر على مخاطبة الآحاد بل يلقيه إلى عدد يحصل به التواتر أو الشهرة مبالغة في إشاعته لئلا يفضي إلى بطلان صلاة كثير من الأمة من غير شعور به, ولهذا تواتر نقل القرآن واشتهر أخبار البيع والنكاح والطلاق وغيرها ولما لم يشتهر علمنا أنه سهو أو منسوخ.
ألا ترى أن المتأخرين لما قبلوه اشتهر فيهم فلو كان ثابتا في المتقدمين لاشتهر أيضا ولما تفرد الواحد بنقله مع حاجة العامة إلى معرفته, ولهذا لم تقبل شهادة الواحد من أهل المصر على رؤية هلال رمضان إذا لم تكن بالسماء علة ولم يقبل قول الصبي فيما يدعي من إنفاق مال عظيم على اليتيم في مدة يسيرة وإن كان ذلك محتملا; لأن الظاهر يكذبه في ذلك, ولهذا لو انفرد واحد بنقل قتل ملك في السوق لا يقبل; لأن في العادة يبعد أن لا يستفيض مثله, فكذا هذا يوضحه أنا لم نقبل قول الرافضة في دعواهم النص على إمامة علي رضي الله عنه; لأن أمر الإمامة مما يعم به البلوى لحاجة الجميع إليه فلو كان النص ثابتا لنقل نقلا مستفيضا وحين لم ينقل دل أنه غير ثابت. ولكن المخالفين يقولون: لا يلزم من عموم البلوى اشتهار حكمها; فإن حكم الفصد والحجامة والقهقهة في الصلاة وإفراد الإقامة وتثنيتها وقراءة الفاتحة خلف الإمام وتركها والجهر بالتسمية وإخفائها وعامة تفاصيل الصلاة لم تشتهر مع أن هذه الحوادث عامة والسر فيه أن الله تعالى لم يكلف الرسول صلى الله عليه وسلم بإشاعة جميع الأحكام بل كلفه بإشاعة البعض وجوز له رد الخلق إلى خبر الواحد في البعض كما جوز له ردهم إلى القياس في قاعدة الربا مع أنه يسهل عليه أن يقول: لا تبيعوا المطعوم بالمطعوم أو المكيل بالمكيل حتى يستغنى عن الاستنباط عن الأشياء الستة فيجوز أن يكون ما يعم به البلوى من جملة ما يقتضي مصلحة الخلق أن يردوا فيه إلى خبر الواحد وعند ذلك يكون صدق الراوي ممكنا فيجب تصديقه. وأجيب عنه بأن الأصل فيما عم به البلوى اشتهار حكمه لما ذكرنا من الدليل ولكنه قد لا يشتهر أيضا إما لترك كل واحد من النقلة الرواية اعتمادا على غيره أو لعارض آخر من موت عامتهم في حرب أو وباء أو نحو ذلك كما نقل أن محمد بن إسماعيل رحمه الله لما جمع الصحيح سمعه منه قريب من مائة ألف ولم يثق عند الرواية إلا محمد بن يوسف بن مطر الفربري لكن العوارض لا تعتبر في مقابلة الأصل من غير دليل فقولهم يجوز أن يكون كذا لا يقدح فيما ذكرنا; لأنا لم ندع الاشتهار عند عموم البلوى قطعا بل ادعيناه ظاهرا,

(3/25)


وأما القسم الأخير فلأن الصحابة رضي الله عنهم هم الأصول في نقل الشريعة فإعراضهم يدل على انقطاعه وانتساخه وذلك أن يختلفوا في حادثة بآرائهم
ـــــــ
وكذا الصحابة إنما عملوا بخبر الواحد في تلك الحوادث لقرائن اختصت به أو لصيرورته مشهورا عند بلوغه إياهم وقولهم: إنه يفيد ظن الصدق غير مسلم; لأن عدم شهرته يعارض ظن الصدق فلا يحصل الظن مع المعارض بخلاف القياس; لأنه لا معارض له وذلك أي شذوذ الحديث مع اشتهار الحادثة مثل حديث الجهر بالتسمية, وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم" وروى أبو قلابة عن أنس رضي الله عنه أن "النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم"1 ولما شذ مع اشتهار الحادثة ومع أنه معارض بأحاديث أقوى منه في الصحة دالة على خلافه لم يعمل به ومثل حديث مس الذكر الذي روته بسرة; فإنه شاذ لانفرادها بروايته مع عموم الحاجة إلى معرفته فدل ذلك على زيافته إذ القول بأن النبي عليه السلام خصها بتعليم هذا الحكم مع أنها لا تحتاج إليه ولم يعلم سائر الصحابة مع شدة الحاجة إليه شبه المحال, كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله. ولا يقال: قد روى هذا الحديث أيضا ابن عمر وأبو هريرة وجابر وسالم وزيد بن خالد وعائشة وأم حبيبة وغيرهم فكيف يكون شاذا مع رواية هؤلاء الكبار؟, لأنا نقول: تلك الروايات مضطربة الأسانيد غير صحيحة لضعف رجالها ولمعارضتها أيضا بروايات صحيحة تخالفها على ما بينها أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في شرح الآثار فلا ينتفي الشذوذ بها وما أشبه ذلك مثل خبر الوضوء مما مسته النار وخبر الوضوء من حمل الجنازة وخبر رفع اليدين عن الركوع وعند رفع الرأس من الركوع ونحوها.
قوله "وأما القسم الأخير" أي من النوع الأول من الانقطاع الباطن, وقد تفرد بهذا النوع من الرد للحديث بعض أصحابنا المتقدمين وعامة المتأخرين وخالفهم في ذلك غيرهم من الأصوليين وأهل الحديث قائلين بأن الحديث إذا ثبت وصح سنده فخلاف الصحابي إياه وتركه العمل والمحاجة به لا يوجب رده; لأن الخبر حجة على كافة الأمة والصحابي محجوج به كغيره; فإن قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وقوله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وردا عامين من غير تخصيص لبعض الأمة دون البعض ومن رده احتج بأن الصحابة رضي الله عنهم هم الأصول في نقل
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في البسملة رقم 245.

(3/26)


ولم يحاج بعضهم في ذلك بحديث كان ذلك زيافة; لأن استعمال الرأي والإعراض عن النص غير سائغ وذلك مثل حديث الطلاق بالرجال والعدة بالنساء; لأن الصحابة اختلفوا ولم يرجعوا إليه وكذلك اختلفوا في زكاة الصبي
ـــــــ
الدين لم يتهموا بترك الاحتجاج بما هو حجة والاشتغال بما ليس بحجة مع أن عنايتهم بالحجج كانت أقوى من عناية غيرهم بها فترك المحاجاة والعمل به عند ظهور الاختلاف فيهم دليل ظاهر على أنه سهو ممن رواه بعدهم أو منسوخ ولكنهم يقولون: إنما يكون ذلك دليلا إذا بلغهم الخبر ثم لم يحاجوا به فلعلهم لم يحاجوا به لعدم بلوغه إياهم; فإنهم قد تفرقوا في البلاد بعد وفاة الرسول عليه السلام فيجوز أن من سمع الخبر لم يكن حاضرا عند اختلافهم ولم يبلغه اختلافهم ليروي لهم الخبر فلا يجوز أن يرد بمثله لحديث إذا ثبتت عدالة رواته "وذلك" أي الحديث المنقطع بهذا الطريق مثل حديث الطلاق بالرجال الذي تمسك به الشافعي رحمه الله في اعتبار عدد الطلاق بحال الرجل, وهو ما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الطلاق بالرجال والعدة بالنساء" فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في هذه المسألة فذهب عمر وعثمان وزيد وعائشة رضي الله عنهم إلى أنه معتبر بحال الرجل في الرق والحرية كما هو قول الشافعي وذهب علي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما إلى أنه معتبر بحال المرأة كما هو مذهبنا. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه يعتبر بمن رق منهما حتى لا يملك الزوج عليها ثلاث تطليقات إلا إذا كانا حرين, ثم إنهم تكلموا في هذه المسألة بالرأي وأعرضوا عن الاحتجاج بهذا الحديث مع أن راويه وهو زيد فيهم فدل ذلك على أنه غير ثابت أو منسوخ.
"وكذلك اختلفوا في زكاة الصبي" أي في وجوب الزكاة عليه اختلافا ظاهرا, فذهب علي وابن عباس رضي الله عنهم إلى أنه لا زكاة في ماله كما هو مذهبنا وذهب عبد الله بن عمر وعائشة رضي الله عنهم إلى الوجوب كما هو مذهب الشافعي وذهب ابن مسعود رضي الله عنه إلى أن الوصي يعد السنين عليه ثم يخبره بعد البلوغ إن شاء أدى وإن شاء لم يؤد ولم تجز المحاجة بينهم بالحديث الذي رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ابتغوا في أموال اليتامى خيرا كي لا تأكلها الصدقة" وفي رواية كي لا تأكلها الزكاة وفي رواية "من ولي يتيما له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة" 1 ولو كان ثابتا لجرت المحاجاة به بعد تحقق الحاجة بظهور الخلاف كما تجري اليوم; لأنهم كانوا أولع بالنص منا ولو احتجوا به لاشتهر أكثر من شهرة الفتوى ولرجع
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الزكاة، حديث رقم 641.

(3/27)


ولم يرجعوا إلى قوله "ابتغوا في أموال اليتامى خيرا" كي لا تأكلها الزكاة فهذا انقطاع باطن معنوي أعرض عنه الخصم وتمسك بظاهر الانقطاع كما هو دأبه.
وأما القسم الآخر فأنواع أربعة: خبر المستور وخبر الفاسق وخبر
ـــــــ
المحجوج عليه إليه إذا ثبت عنده; لأنهم أشد انقيادا للحق من غيرهم ولما لم يثبت شيء من ذلك علم أنه مزيف.
واعلم أن من لا يرد الحديث بهذين الوجهين الأخيرين من مشايخنا أجابوا عن الأحاديث التي زيفت بهما بأنها معارضة بأحاديث أخر أقوى منها في الصحة; فإن حديث الجهر بالتسمية معارض بما روى البخاري بإسناده عن أنس رضي الله عنه "صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وكانوا يستفتحون القراءة ب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] 1، وروى مسلم هذا الخبر في صحيحه وفيه أنهم لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]، وفي رواية أخرى ولم أسمع أحدا منهم قال {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} , وفي رواية رابعة ولم يجهر أحد منهم ب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1].
وحديث مس الذكر معارض بما مر ذكره وحديث الطلاق بالرجال معارض بما روت عائشة رضي الله عنها "طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان," مع أنه قد قيل: إنه كلام زيد ولم يثبت رفعه إلى النبي عليه السلام وأنه مؤول بأن إيقاع الطلاق إلى الرجال وحديث عمرو محمول على النفقة بمعارضة دلائل ذكرت في موضعها; فإن النفقة قد تسمى صدقة قال عليه السلام: "نفقة الرجل على نفسه صدقة" وفسر الإنفاق في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، بالتصدق والدليل عليه أنه أضاف الأكل إلى جميع المال والزكاة لا يأكل ما دون النصاب والنفقة تأتي على الكل ولفظ الزكاة في الرواية الأخرى محمول على زكاة الرأس والله أعلم.
قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله: إن الخبر يصير مزيفا بالوجهين الأولين أي مخالفة الكتاب والسنة المشهورة بمقابلة ما هو فوقه كنقد بلد رايج يصير زيفا في مقابلة نقد فوقه ببلد آخر ويصير مزيفا بالوجهين الأخيرين لتهمة الكذب إما قصدا أو غفلة كالزيف من نقد بلده لزيادة غش وقع فيه "فهذا" أي النوع الأول من الانقطاع المعنوي
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الآذان باب رقم 189. ومسلم في الصلاة حديث رقم 399. وأبو داود في الصلاة حديث رقم 782. والترمذي في الصلاة حديث رقم 246.

(3/28)


الصبي العاقل والمعتوه والمغفل والمساهل وخبر صاحب الهوى.
أما خبر المستور فقد قال في كتاب الاستحسان: إنه مثل الفاسق فيما يخبر من نجاسة الماء وفي رواية الحسن هو مثل العدل وهذه الرواية بناء على القضاء بظاهر العدالة والصحيح ما حكاه محمد أن المستور كالفاسق لا يكون خبره حجة حتى تظهر عدالته وهذا بلا خلاف في باب الحديث احتياطا إلا في الصدر الأول على ما قلنا في المجهول.
ـــــــ
المنقسم على الأقسام الأربعة انقطاع باطن معنوي لاتصال الخبر برسول الله صلى الله عليه وسلم صورة باعتبار الإسناد وانقطاعه عنه معنى لما ذكرنا أعرض عنه الخصم أي الشافعي حيث لم يلتفت إلى هذا النوع من الانقطاع "وتمسك بظاهر الانقطاع" أي اعتبر الانقطاع الظاهر حتى رد المراسيل لانقطاعها صورة وإن كانت متصلة معنى كما هو دأبه أي عادته في بناء الأحكام على الظواهر.
قوله "وأما القسم الآخر" بفتح الخاء يعني من الانقطاع الباطن, وهو الانقطاع لقصور ونقصان في الناقل فأربعة أنواع: أحدها: خبر المستور, وهو الذي لم يعرف عدالته ولا فسقه. وثانيها: خبر الفاسق, وهو المسلم الذي صدرت عنه كبيرة أو واظب على صغيرة على ما قيل. وثالثها: خبر المعتوه, وهو الناقص العقل من غير جنون على ما يعرف بعد إن شاء الله عز وجل والمغفل على لفظ اسم المفعول من التغفيل, وهو الذي لا فطنة له وقيل الغفلة للعقل كالنوم للعين والمساهل, وهو الذي لا يأخذ في الأمور بالحزم, وإنما جعل الجميع قسما لاستواء أحكامه. والرابع: خبر صاحب الهوى, وهو المخطئ في الأصول المعاند بعد تبين الحق لدعاء هواه إلى خلاف الحق, "وأما خبر المستور فقد قال" أي محمد "في كتاب الاستحسان إنه مثل الفاسق فيما يخبر من نجاسة الماء" فقال وإذا حضر المسافر الصلاة ولم يجد ماء إلا في إناء أخبره رجل أنه قذر, وهو عنده مسلم مرضي لم يتوضأ به وإن كان فاسقا فله أن يتوضأ بذلك الماء وكذلك إن كان مستورا لحق المستور بالفاسق, وهو ظاهر الرواية وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله المستور في هذا الخبر كالعدل, وهو ظاهر على مذهبه; فإنه يجوز القضاء بشهادة المستورين إذا لم يطعن الخصم لثبوت عدالتهم ظاهرا بقوله عليه السلام "المسلمون عدول بعضهم على بعض" . وكذا نقل عن عمر رضي الله عنه فهذا من صاحب الشرع تعديل لكل مسلم وتعديل صاحب الشرع أولى من تعديل المزكي ولكن الأصح ما ذكره محمد رحمه الله في الكتاب; لأنه لا بد من اشتراط العدالة لترجح جانب الصدق في الخبر

(3/29)


وأما خبر الفاسق فليس بحجة في الدين أصلا لرجحان كذبه على صدقه, وقد قال محمد رحمه الله في الفاسق إذا أخبر بحل أو حرمة أن السامع يحكم رأيه فيه; لأن ذلك أمر خاص لا يستقيم طلبه وتلقيه من جهة العدول فوجب
ـــــــ
وما كان شرطا لا يكتفي بوجوده ظاهرا كمن قال لعبده: إن لم تدخل الدار اليوم فأنت حر, ثم مضى اليوم فقال العبد: لم أدخل, وقال المولى: دخلت; فالقول قول المولى; لأن عدم الدخول شرط فلا يكفي ثبوته ظاهرا ليزول العتق كذا في المبسوط.
"وهذا" أي كون المستور كالفاسق ثابت بلا خلاف في باب الحديث احتياطا; لأن أمر الدين أهم فلا يكون رواية المستور حجة باتفاق الروايات إنما اختلاف الرواية في إخباره عن نجاسة الماء لا غير "إلا في الصدر الأول" أي في القرون الثلاثة; فإن رواية المستور منهم مقبولة لكون العدالة أصلا فيهم على ما قلنا في المجهول بينهم في الباب المتقدم. وذكر شمس الأئمة رحمه الله ما يدل على أن الخلاف ثابت في الحديث أيضا; فإنه قال: وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أن المستور بمنزلة العدل في رواية الأخبار لثبوت العدالة ظاهرا إلا أن ما ذكره محمد في الاستحسان أصح; لأن الفسق في أهل الزمان غالب فلا يعتمد رواية المستور ما لم يثبت عدالته كما لا يعتمد شهادته في القضاء قبل أن يظهر عدالته وهذا لحديث عباد بن كثير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحدثوا عمن لا تعملون بشهادته" ولأن في رواية الحديث معنى الإلزام فلا بد من أن يعتمد فيه دليل ملزم, وهو العدالة التي تظهر بالتفحص عن أحوال الراوي ولا اعتبار بظاهر العدالة وإن بين في قوله عليه السلام "المسلمون عدول" الاكتفاء بها; لأنه معارض بقوله عليه السلام يفشو الكذب ولا يلزم على ما ذكرنا رواية العبد; فإنها تقبل مع أن شهادته لا تقبل; لأن في الحديث إشارة إلى عدم قبول رواية من كانت له شهادة ثم لا تقبل كالفاسق والعبد لا شهادة له أصلا فلا يتناوله الحديث.
قوله "فليس بحجة في الدين أصلا" زعم بعض المشايخ أن في رواية الفاسق يجب تحكيم الرأي فإن كان أكبر رأي السامع أنه صادق وجب عليه أن يعمل به استدلالا بما إذا أخبر بنجاسة الماء أو طهارته أو بحل الطعام وحرمته; فإنه يجب تحكيم الرأي فيه مع أنه أمر ديني فكذلك هاهنا فرد الشيخ ذلك, وقال خبره في الدين أي نقله للحديث غير مقبول أصلا سواء وقع في قلب السامع صدقه أم لا; لأن الخبر إنما يصير حجة بترجح الصدق فيه وبالفسق يزول ترجحه بل يترجح جانب الكذب فيه; لأنه لما لم يمنعه العقل والدين عن ارتكاب محظور الدين لا يمنعانه عن الكذب أيضا فلا يكون خبره حجة بخلاف أخباره عن حرمة طعام أو حله أو نجاسة ماء أو طهارته حيث يقبل إذا تأيد بأكبر الرأي; "لأن ذلك"

(3/30)


التحري في خبره فأما هنا فلا ضرورة في المصير إلى روايته وفي العدول كثرة وبهم غنية إلا أن الضرورة في حل الطعام والشراب غير لازمة; لأن العمل بالأصل ممكن, وهو أن الماء طاهر في الأصل فلم يجعل الفسق هدرا بخلاف خبر الفاسق في الهدايا وجه والوكالات ونحوها; لأن الضرورة ثمة لازمة وفيه آخر نذكره في
ـــــــ
أي الحرمة والحل والنجاسة والطهارة أمر خاص بالنسبة إلى رواية الحديث ربما يتعذر الوقوف عليه من جهة غيره لحصول العلم له بذلك دون غيره فتقبل إذا انضم إليه التحري أي تحكيم الرأي للضرورة "فأما هاهنا" أي في رواية الحديث فلا ضرورة في المصير إلى قبول روايته; لأن في العدول الذين تلقوا نقل الأخبار كثرة تمكن الوقوف على معرفة الحديث بالسماع منهم فلا حاجة إلى الاعتماد على خبر الفاسق, وذكر في المبسوط بعد بيان مسألة إخبار الفاسق بنجاسة الماء ثم بين أي محمد في الفاسق والمستور أنه يحكم رأيه فإن كان أكبر رأيه أنه صادق يتيمم ولا يتوضأ به; لأن أكبر الرأي فيما بني على الاحتياط كاليقين, وإن أراقه ثم تيمم كان أحوط وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب توضأ به ولا يتيمم.
"فإن قيل" كان ينبغي أن يتيمم احتياطا لمعنى التعارض في خبر الفاسق كما في سؤر الحمار يجمع بين التوضؤ والتيمم احتياطا لتعارض الأدلة في سؤر الحمار قلنا حكم التوقف في خبر الفاسق معلوم بالنص وفي الأمر بالتيمم هاهنا عمل بخبره من وجه فكان بخلاف النص, وإذا ثبت التوقف في خبره بقي أصل الطهارة للماء فلا حاجة إلى ضم التيمم إليه, واستدل بحديث عمر رضي الله عنه حين ورد ماء حياض مع عمرو بن العاص فقال عمرو لرجل من أهل الماء أخبرنا عن السباع أترد ماءكم هذا فقال عمر رضي الله عنه لا تخبرنا عن شيء فلولا أن خبره عد خيرا ما نهاه عن ذلك وعمرو بن العاص بالسؤال قصد الأخذ بالاحتياط, وقد كرهه عمر رضي الله عنهما لوجود دليل الطهارة باعتبار الأصل فعرفنا أنه ما بقي هذا الدليل لا حاجة إلى احتياط آخر, ثم فرق الشيخ بين قبول خبره في حرمة الطعام ونجاسة الماء وبين قبوله في الهدايا والوكالات والمضاربات وسائر المعاملات التي تنفك عن معنى الإلزام حيث يجب التحري في القسم الأول ولا يجب في القسم الثاني بل يجوز الاعتماد على خبره مطلقا من غير تحكيم الرأي فقال إلا أن الضرورة أي لكن الضرورة غير لازمة إلى آخره, وكان من حق الكلام; لأن العمل بالأصل ممكن, وهو أن الطعام والشراب حلال في الأصل لتقدم ذكر حل الطعام والشراب دون نجاسة الماء وطهارته لكن المسألتين لما اتفقتا في الحكم قال الماء طاهر في الأصل فيفهم منه أن الأصل في الطعام والشراب الحل أيضا فلم يجعل الفسق هدرا أي باطلا ساقطا بل وجب ضم التحري إليه

(3/31)


باب محل الخبر إن شاء الله تعالى. وأما الصبي والمعتوه فقد ذكر محمد رحمه الله في كتاب الاستحسان بعد ذكر العدل والفاسق والكافر, وكذلك الصبي والمعتوه إذا عقلا ما يقولان.
فقال بعضهم هما مثل العدل المسلم البالغ والصحيح أنهما مثل الكافر لا يقوم حجة بخبرهما ولا يفوض أمر الدين إليهما لما قلنا: إن خبرهما لا
ـــــــ
بخلاف خبر الفاسق في الهدايا والوكالات بأن قال إن فلانا أهدى إليك هذا الشيء أو قال إن فلانا وكلك ببيع هذا الشيء أو وكلني به, ونحوها من المعاملات حيث يجوز الاعتماد على خبره من غير وجوب ضم التحري إليه; "لأن الضرورة ثمه" بسكون الهاء لازمة; لأن كل من يبعث هدية لا يجد عدلا يبعثها على يديه وكذا في الوكالة وليس فيها أصل يمكن العمل به فجعل الفسق هدرا وجوز قبول قوله مطلقا كخبر العدل. "وفيه" أي في الفرق وجه آخر, وهو أن الحل والحرمة فيه معنى الإلزام من وجه فلم يجعل خبر الفاسق فيهما معتمدا عليه على الإطلاق حتى ينضم إليه أكبر الرأي وما ذكرنا من المعاملات ينفك عن معنى الإلزام فجاز الاعتماد فيها على خبره مطلقا.
قوله: "قال بعضهم" كذا إنما نشأ الخلاف من تعدد المعطوف عليه; فإنه سبق ذكر العدل والفاسق والكافر فذكر محمد في المبسوط, وإذا حضر المسافر الصلاة ولم يجد ماء إلا في إناء أخبره رجل أنه قذر, وهو عنده مسلم مرضي لم يتوضأ به وإن كان فاسقا فله أن يتوضأ به وكذلك إن كان مستورا فإن كان الذي أخبره بنجاسة الماء رجلا من أهل الذمة لم يقبل قوله وكذلك الصبي والمعتوه إذا عقلا ما يقولان فقال بعض أصحابنا مراده بهذا العطف أن الصبي كالبالغ إذا كان مرضيا فجعله عطفا على العدل لا على الكافر بدليل أنه قيده بقوله إذا عقلا ما يقولان ولو كان عطفا على الكافر لم يكن لهذا التقييد فائدة; لأنهما إذا لم يعقلا ما يقولان لم يقبل خبرهما أيضا, وهذا لما ذكرنا أن اعتبار الحرية والذكورة لما سقط في هذا الباب سقط اعتبار البلوغ كما في المعاملات, والدليل عليه أن أهل قباء قبلوا خبر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما أخبرهم بتحويل القبلة إلى الكعبة حتى استداروا كهيئتهم وكان ابن عمر حينئذ صغيرا; فإنه عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر أو أحد, وهو ابن أربع عشرة سنة فرده لصغره وتحويل القبلة كان قبل بدر بشهرين. وقال بعضهم مراده العطف على الفاسق حتى وجب ضم التحري إلى خبره كما في خبر الفاسق والمستور "والصحيح" أن مراده العطف على الكافر; لأنه أقرب إليه فلا يجعل عطفا على الأبعد من غير ضرورة "لما قلنا" يعني في أول باب تفسير الشروط "أن خبرهما لا يصلح

(3/32)


يصلح ملزما بحال; لأن الولاية المتعدية فرع للولاية القائمة وليس لهما ولاية ملزمة في حق أنفسهما وإنما هي مجوزة فكيف يثبت متعدية ملزمة وإنما. قلنا: إنها متعدية ملزمة; لأن ما يخبر عنه الصبي من أمور الدين لا يلزمه; لأنه غير مخاطب فيصير غيره مقصودا بخبره فيصير من باب الإلزام بمنزلة خبر الكافر بخلاف العبد لما قلنا والمعتوه مثل الصبي نص على ذلك محمد في غير موضع من المبسوط ألا ترى أن الصحابة تحملوا في صغرهم ونقلوا في كبرهم, وقد قال محمد في الكافر يخبر بنجاسة الماء: إنه لا يعمل بخبره ويتوضأ
ـــــــ
ملزما بحال" يعني سواء انضم إليه التحري أولم ينضم إليه; "لأن الولاية المتعدية فرع للولاية القائمة" أي ثبوت الولاية على الغير فرع لثبوتها على نفسه إذ الأصل في الولايات ولاية المرء على نفسه ثم تتعدى إلى غيره عند وجود شرط التعدي; لأن الولاية قدرة ومن لا يقدر في نفسه لا يمكنه إثباتها لغيره, "وليس لهما" أي للصبي والمعتوه ولاية ملزمة على أنفسهما بالإجماع "وإنما هي مجوزة" يعني تصرفهما جائز الثبوت حتى لو انضم إليه رأي الولي يصير ملزما ولو كان ملزما ابتداء لم يحتج إلى انضمام رأيه إليه. "وإنما قلنا: إنها متعدية" يعني لو قبلنا خبرهما صارت ولايتهما متعدية إلى الغير ملزمة عليه بمنزلة خبر الكافر; فإنه لما لم يلزمه موجب ما أخبر به لكونه غير مخاطب بالشرائع كان خبره ملزما على الغير ابتداء والكافر ليس من أهل الإلزام, فكذا الصبي "بخلاف العبد لما قلنا" أي في آخر باب تفسير الشروط, وهو قوله: "والمرأة والعبد من أهل الرواية" إلى آخره وذلك لأنه عاقل بالغ مخاطب مساو للحر في أمور الدين فلا يكون الغير مقصودا بخبره بل يلزمه أولا ثم يتعدى إلى الغير كما في الشهادة بهلال رمضان فلا يكون هذا من باب الولاية وبالرق إن خرج من أهلية الولاية لم يخرج من أهلية الالتزام وما فيه التزام يساوي العبد الحر فيه لكونه مخاطبا وقوله, ألا ترى متصل بقوله لا يقوم الحجة بخبرهما أوبقوله فكيف يثبت متعدية ملزمة, ومعناه أن الصحابة أي بعضهم تحملوا الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم في صغرهم ونقلوها في كبرهم دون صغرهم, ولو كانت رواية الصغار حجة لنقلوها في صغرهم كما نقلوها في كبرهم, وقد بيناه من قبل, والجواب عن حديث أهل قباء أنه قد روي أيضا أن الذي أتاهم أنس رضي الله عنه فيحمل على أنهما جاءا جميعا وأنهم اعتمدوا على رواية البالغ, وهو أنس دون عبد الله بن عمر رضي الله عنه أو كان ابن عمر بالغا يومئذ; فإنه ابن أربع عشرة سنة يجوز أن يكون بالغا إلا أن النبي عليه السلام رده في القتال لضعف بنيته يومئذ لا لأنه كان صغيرا كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله.
قوله "وقال محمد" إلى آخره فرق محمد رحمه الله بين خبر الفاسق والكافر فيما

(3/33)


به فإن تيمم وأراق الماء فهو أحب إلي, وفي الفاسق جعل الاحتياط أصلا ويجب أن يكون كذلك في رواية الحديث فيما يستحب من الاحتياط وكذلك رواية الصبي فيه يجب أن يكون مثل رواية الكافر دون الفاسق المسلم, ألا ترى أن الفاسق شاهد عندنا بخلاف الصبي والكافر غير شاهد على المسلم أصلا فصار الصبي المسلم والكافر البالغ في أمور الدين سواء والفاسق فوقهما حتى أنا
ـــــــ
يرجع إلى الاحتياط فأوجب الاحتياط, وهو الاحتراز عن النجاسة في خبر الفاسق ولم يوجبه في خبر الكافر فقال في الكافر إذا أخبر بنجاسة الماء لا يعمل المخبر عنه بخبره وإن وقع في قلبه صدقه بل يتوضأ بذلك الماء ولكن إن أراق الماء إذا وقع في قلبه صدقه ثم تيمم بعد كان ذلك أحب إلي, وإن تيمم من غير إراقة وصلى لا تجوز صلاته والفاسق إذ أخبر بنجاسة الماء ووقع في قلبه صدقه فالأولى أن يريق الماء ثم يتيمم فإن تيمم ولم يرق الماء جازت صلاته ولو توضأ به وصلى من غير أن يتيمم لا يجوز صلاته فأوجب الاحتراز عن النجاسة في مسألة الفاسق حيث جوز التيمم من غير إراقة ولم يجوز التوضؤ به, وهو معنى قوله جعل الاحتياط أصلا أي بنى الحكم, وهو الجواز وعدم الجواز على الاحتياط ولم يجعل كذلك في مسألة الكافر حيث لم يجوز التيمم بدون الإراقة وجوز التوضؤ به, وقيل: معناه أنه جعل الاحتياط أي التحري أصلا في خبر الفاسق; فإن التحري هو الاحتياط حيث قال يحكم السامع رأيه فلم يجعل خبره حجة ولا هدرا بل جعل التحري فيه أصلا ولم يجعل الاحتياط أي التحري أصلا في خبر الكافر حيث لم يعمل بخبره أصلا وذكر الشيخ في بعض تصانيفه, وقد دلت على هذه التقاسيم مسائل ذكرها محمد بن الحسن رحمه الله قال أخبره عدل بنجاسة الماء; فإنه يجب عليه التيمم ولا يجب الإراقة; لأن العمل بخبره واجب وفي خبر الفاسق يجب التيمم لكن الإراقة أفضل; لأن خبره يوجب العمل بعد التثبت لكن مع شبهة فلقيام شبهة عدم الوجوب أي وجوب العمل أمرناه بالإراقة ولوجود أصل الوجوب أوجبنا التيمم, وفي خبر الكافر لا يجب التيمم لكن أحب إلي أن يريق الماء; لأن العمل بخبره وإن لم يجب; لأنه لا ولاية له على المسلم ولا عدالة له في حق المسلمين لكن شبهة وجوب العمل ثابتة بشهادته; لأنه ذو ولاية على جنسه وفي خبر الصبي اختلاف المشايخ وينبغي أن لا يجب بخبره شبهة وجوب العمل.
قوله "ويجب أن يكون كذلك" أي يجب أن يكون شأن الكافر في رواية الحديث كشأنه في الإخبار عن نجاسة الماء فيما يستحب من الاحتياط أي من الأخذ به يعني لا يقبل خبره في الدين ولا يكون حجة كما لم يقبل في نجاسة الماء إلا أن الاحتياط لو كان في العمل به يستحب الأخذ به من غير وجوب كما استحب الإراقة ثم التيمم هناك ويجوز

(3/34)


نقول في خبره بنجاسة الماء إذا وقع في قلبه أنه صادق يتيمم من غير إراقة الماء فإن أراق الماء فهو أحوط للتيمم, وأما في خبر الكافر إذا وقع في قلب السامع صدقه بنجاسة الماء توضأ به ولم يتيمم فإن أراق ثم تيمم فهو أفضل, وكذلك الصبي والمعتوه; لأن الذي يلي هذا العطف في كتاب الاستحسان الكافر وفي رواية الحديث يجب أن يكون كذلك في حكم الاحتياط خاصة, وأما
ـــــــ
أن يكون معناه ويجب أن يكون الفرق ثابتا بين خبر الكافر والفاسق في رواية الحديث فيما يستحب من الاحتياط أيضا وإن لم يكن خبر خبرهما حجة كثبوته في إخبارهما عن نجاسة الماء فإذا روى الكافر حديثا لا يكون حجة أصلا ولكن لو كان الاحتياط في الأخذ به يكون الاستحباب في العمل به فوق الاستحباب في العمل بخبر الكافر وعلى هذا الوجه يدل سياق الكلام, "فإن أراق الماء فهو أحوط للتيمم" أي الإراقة ثم التيمم أحوط من التيمم بلا إراقة لاحتمال كون الماء طاهرا وكون المخبر كاذبا فيكون الاحتياط في الإراقة ليصير عادما للماء فيحصل الطهارة بيقين, "فإن أراقه ثم تيمم فهو أفضل" أي الإراقة ثم التيمم أفضل من التوضؤ به لاحتمال أن يكون صادقا إذ الكفر لا ينافي الصدق فلا يحصل الطهارة بالتوضؤ به ويتنجس الأعضاء فكان الاحتياط في إراقته ثم التيمم بعده ليحصل الطهارة والاحتراز عن النجاسة بيقين. وقوله إذا وقع في قلبه صدقه يتوضأ به في مسألة الكافر ليس بمذكور على جهة الشرط للتوضؤ كما هو مذكور على جهة الشرط لصحة التيمم في مسألة الفاسق; فإنه لو لم يقع في قلبه صدق الكافر في إخباره يتوضأ بالطريق الأولى ولكن الغرض من ذكره تحقيق الفرق بين خبره وخبر الفاسق إذ الفرق بينهما يظهر في هذه الحالة فأما إذا لم يقع الصدق في قلب السامع فالكافر والفاسق في ذلك سواء.
قوله: "وكذلك الصبي والمعتوه" أي وكالكافر الصبي والمعتوه في حكم الإخبار عن نجاسة الماء وطهارته لما ذكر وفي رواية الحديث يجب أن يكون كذلك أي يكون الصبي أو كل واحد منها كالكافر أيضا حتى لا يقبل خبره لما مر. وقوله: "حكم الاحتياط خاصة" يجوز أن يكون معناه أن الاحتياط في رد خبر الصبي والمعتوه كما أن الاحتياط في رد خبر الكافر لتحقق التهمة في خبر هؤلاء فسوينا بينهما وبين الكافر في هذا الحكم الذي كان الاحتياط في القول به خاصة دون سائر الأحكام فرقا بينه وبين المسلم فيها ويجوز أن يكون معناه وفي رواية الحديث يجب أن يكون الصبي كالكافر فلا يكون خبره حجة خصوصا في حكم الاحتياط; فإن العمل بالاحتياط في خبر الكافر مستحب مع كفره واتهامه بعداوة المسلمين فكان العمل بالاحتياط في خبر الصبي المسلم أولى بالاستحباب أو خصوصا في حكم الاحتياط; فإن العمل بالاحتياط في خبر الكافر مستحب لا واجب مع

(3/35)


المغفل الشديد الغفلة, وهو مثل الصبي والمعتوه فأما تهمة الغفلة فليس بشيء ولا يخلو عامة البشر عن ضرب غفلة إذا كان عامة حاله التيقظ, وأما المساهل; فإنما نعني به المجازف الذي لا يبالي من السهو والخطأ والتزوير وهذا مثل المغفل إذا اعتاد ذلك فقد يكون العادة للزم من الخلقة. وأما صاحب الهوى; فإن أصحابنا رحمهم الله عملوا بشهادتهم إلا الخطابية; لأن صاحب الهوى وقع فيه لتعمقه وذلك يصده عن الكذب فلم يصلح شبهة وتهمة إلا من
ـــــــ
كمال عقله وتدينه بحرمة الكذب فكان الاستحباب وانتفاء الوجوب في خبر الصبي أولى لنقصان عقله وعدم احترازه عن الكذب لا منه من العقاب, وإنما قال وجب أن يكون كذا هاهنا وفيما تقدم; لأن الرواية غير محفوظة عن السلف في نقل هؤلاء الحديث.
"وأما المغفل الشديد الغفلة" أي قويها وذلك بأن غلب طبعه الغفلة والنسيان في عامة الأحوال فمثل الصبي والمعتوه في أن خبره لا يكون حجة أصلا كخبرهما; لأن معنى السهو والغلط يترجح في الرواية باعتبار غلبة الغفلة كما يترجح جانب الكذب باعتبار الفسق, ولا يقال ينبغي أن يقبل خبره إذا كان عدلا; لأن العدل لا يروى إلا عن تيقظ وضبط ولا يجوز الرواية عن غفلة; لأنا نقول أن من لا يضبط قد يظن أنه قد ضبط ومن سها يظن أنه ما سها فيروي على حسب ظنه, وكذا الحكم فيمن يساوي ذكره وغفلته إلا عند قاضي القضاة من المعتزلة; فإنه يقبل خبره عنده; لأن الأصل في الخبر الصحة وكونه حجة إلا بعارض فإذا لم يترجح غفلة الراوي على تيقظه وذكره بقي حجة كما كان ولم يترك بالاحتمال كما إذا شك في الحدث بعد الطهارة. ونحن نقول الخبر لا يصير حجة إلا إذا تكاملت شرائطه وذلك عند ترجح ذكر الراوي على غفلته فقبل ترجحه لا يكون حجة بخلاف الشك في الطهارة; فإن سبق الطهارة يرجحها حتى لو انفرد الشك عن سبق الطهارة لم يحكم بها "فأما تهمة الغفلة" أي وهمها بأن يوهم السامع أن الراوي روى عن غفلة; لأنه قد يغفل في بعض الأمور فيرد خبره فليس بشيء; لأن الغالب إذا كان عليه التيقظ وجودة الضبط فهو بمنزلة من لا غفلة به في الرواية والشهادة فيقبل خبره ما لم يعلم أنه سها فيه والمساهل المجازف الذي لا يبالي من السهو والغلط ولا يشتغل فيه بالتدارك بعد أن يعلم به, وقيل المساهل هو الذي لا يصرف اهتمامه إلى أمور الدين ولا يحتاط في موضع الاحتياط, والتزوير تزيين الكذب وزورت الشيء حسنته وقومته كذا في الصحاح.
قوله "فأما صاحب الهوى" الهوى ميلان النفس إلى ما تستلذ به من الشهوات من غير داعية الشرع واحترز به عما أبيح في الشرع من الشهوات وذلك; لأن الهوى مما يذم

(3/36)


يتدين بتصديق المدعي إذا كان ينتحل بنحلته فيتهم بالباطل والزور مثل
ـــــــ
عليه الشخص ويهان به ونفس الالتذاذ بالشهوات قد كان موجودا في الأنبياء عليهم السلام مع براءتهم عن الهوى وعصمتهم عنه فعلم أنه لا بد من هذا القيد, واعلم أن ممن اتبع الهوى من يجب إكفاره كغلاة المجسمة والروافض وغيرهم ويسمى الكافر المتأول, ومنهم من لا يجب إكفاره ويسمى الفاسق المتأول.
واختلف في القسم الأول فذهب جماعة من الأصوليين إلى أن شهادة من كفر في هواه مقبولة وكذا روايته; لأنه إذا لم يخرج عن أهل القبلة وكان متحرجا معظما للدين غير عالم بكفره يحصل ظن الصدق في خبره فيقبل كخبر المسلم العدل, وذهب أكثرهم إلى ردهما; لأن الكافر ليس بأهل للشهادة ولا للرواية لما بينا وكونه متأولا ممتنعا عن المعصية غير عالم بكفره لا نجعله أهلا لهما; فإن كل كافر متأول إذ اليهود لا يعلمون بكفرهم وتورعه عن الكذب كتورع النصراني فلا يلتفت إليه بل هذا المنصب لا يستفاد إلا بالإسلام كذا ذكر الغزالي في المستصفى.
واختلف في القسم الثاني أيضا فذهب القاضي أبو بكر الباقلاني ومن تابعه إلى رد شهادته وروايته جميعا; لأن الفسق في العمل مانع من القبول فالفسق في الاعتقاد أولى; لأنه أقوى. أقصى ما في الباب أنه جاهل بفسقه لكن جهله بفسقه فسق آخر انضم إلى فسق فكان أولى بالمنع ولم يكن عذرا كجهله بكفره وبرقها, وذهب الجمهور إلى أن قبول شهادة الفاسق إنما لا يقبل لتهمة الكذب; فإنه لما تعاطى محظور دينه مع علمه بحرمته دل ذلك على جرأته على الكذب فيقدح في الظن بصدقه فأما الفسق من حيث الاعتقاد ولا يدل عليه; لأنه إنما وقع فيه لغلوه في الاحتراز عن المحظور حيث قال بكفر من ارتكب الذنب أو بخروجه من الإيمان به فهذا الاعتقاد يحمل على التحرز عن الكذب أشد الاحتراز لا على الإقدام عليه فكان هذا الفسق نظير تناول متروك التسمية عمدا أو شرب المثلث على اعتقاد الإباحة فلا يصير به مردود الشهادة "إلا الخطابية" وهم قوم من الروافض نسبوا إلى أبي الخطاب محمد بن أبي وهب الأجدع فإن شهادتهم لا تقبل; لأنهم يتدينون بتصديق المدعي إذا حلف عندهم أنه محق ويقولون: المسلم لا يحلف كاذبا فاعتقاده هذا تمكن تهمة الكذب في شهادته كذا في المبسوط, وذكر في التهذيب لمحيي السنة وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية; فإنهم يرون الكذب كفرا فربما يسمع ممن يوافقه في الاعتقاد أن لي على فلان كذا فيشهد على موافقة قوله لما يرى أنه لا يخبر الكذب إلا أن يقول: أقر فلان لفلان بكذا أو رأيت فلانا أقرض فلانا أو قتل فلانا فيقبل, وهو معنى قوله إلا من تدين بتصديق المدعي أي اعتقد ذلك "إذا كان ينتحل بنحلته" أو ينتسب إلى ملته يقال: فلان ينتحل مذهب كذا أي ينتسب إليه ويتدين به والنحلة الملة والاستثناء

(3/37)


الخطابية وكذلك من قال بالإلهام: إنه حجة يجب أن لا تجوز شهادته أيضا, وأما في باب السنن; فإن المذهب المختار عندنا أن لا يقبل رواية من انتحل الهوى والبدعة ودعا الناس إليه على هذا أئمة الفقه والحديث كلهم; لأن المحاجة والدعوة إلى الهوى سبب داع إلى التقول فلا يؤتمن على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كذلك الشهادة في حقوق الناس; لأن ذلك لا يدعو إلى
ـــــــ
متعلق بمحذوف يعني فلم يصلح تعمقه شبهة وتهمة فيكون صاحب الهوى مقبول الشهادة إلا الذي تدين بكذا, "وكذلك" أي وكمن تدين بتصديق المدعي "من قال بالإلهام" أي من اعتقد أن الإلهام حجة موجبة للعلم لا يقبل شهادته أيضا; لأن اعتقاده ذلك تمكن تهمة الكذب فربما أقدم على أداء الشهادة بهذا الطريق, والإلهام ما حرك القلب بعلم يدعوك إلى العمل به من غير استدلال بدليل ولا نظر في حجة.
قوله "فأما في باب السنن" إلى آخره هذا الذي ذكرنا حكم الشهادة فأما رواية هذا القسم, وهو الفاسق المتأول فمقبولة على الإطلاق عند بعض من قبل شهادتهم لما ذكرنا من انتفاء تهمة الكذب; فإن من احترز عن الكذب على غير الرسول كان أشد تحرزا من الكذب عليه; لأنه أعظم جناية فتقبل روايته كما تقبل شهادته وعند بعضهم تقبل إذا لم يكن داعيا للناس إلى هواه ولا يقبل إذا كان كذلك بخلاف الشهادة حيث يقبل على كل حال لما ذكر من الفرق في الكتاب, وهو مذهب عامة أهل الفقه والحديث; فإن الإمام الحافظ أبا عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري1 من أئمة الحديث ذكر في كتاب معرفة الإكليل أن روايات المبتدعة وأهل الأهواء مقبولة عند أكثر أهل الحديث إذا كانوا فيها صادقين فقد حدث محمد بن إسماعيل البخاري في الجامع الصحيح عن عباد بن يعقوب الرواجني, وكان الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة2 يقول: حدثنا الصدق في روايته المتهم في دينه عباد بن يعقوب3, وقد احتج البخاري أيضا في الصحيح بمحمد بن زياد الألهاني وجرير بن عثمان الرحبي, وقد اشتهر عنهما النصب واتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بأبي معاوية محمد بن خازم وعبيد الله بن موسى وقد اشتهر عنهما الغلو
ـــــــ
1 هو المعروف بالحاكم النيسابوري، ولد سنة 404هـ. أنظر وفيات الأعيان 4/280-281.
2 هو الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح السلمي (223-311هـ، أنظر البداية والنهاية 11/149.
3 هو أبو سعيد عباد بن يعقوب الرواجني البخاري.

(3/38)


التزوير في ذلك فلم ترد شهادته فإذا صح هذا كان صاحب الهوى بمنزلة الفاسق في باب السنن والأحاديث.
وأما المرتبة الثالثة:
ـــــــ
فأما مالك بن أنس فإنه يقول: لا يوجد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه, ولا من كذاب يكذب على رسول الله عليه السلام. وذكر أبو الحسين البصري أيضا في "المعتمد" الفسق في الاعتقاد إذا كان صاحبه متحرجا في أفعاله عند جل الفقهاء لا يمنع من قبول الحديث لا من تقدم قبل بعضهم حديث بعض بعد الفرقة وقبل التابعون رواية الفريقين, قال. وكذا الكفر بتأويل إذا لم يخرج من أهل القبلة وكان متحرجا; لأن الظن بصدقه غير زائل وكثير من أصحاب الحديث قبلوا رواية سلفنا كالحسن وقتادة وعمرو بن عبيد1 مع علمهم بمذهبهم وإكفارهم من يقول بقولهم, وقد نصبوا على ذلك فأما من يظهر عنه العناد في مذهبه مع ظهوره عنده; فإنه لا يقبل حديثه كما لا يقبل حديث الفاسق بأفعال الجوارح. وذكر أبو اليسر أيضا المبتدع إن كان ممن يكفر لا يقبل خبره وإن كان ممن لا يكفر فإن كان ممن يعتقد وضع الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل خبره أيضا لتوهم الكذب كالكرامية; فإنهم يعتقدون جواز وضع الحديث للترغيب والترهيب وإن لم يكن ممن يعتقد الوضع وكان عدلا يقبل خبره لرجحان صدقه على كذبه فثبت بما ذكرنا أن الصحيح في رواية المبتدع هو التفصيل كما أشار إليه الشيخ والله أعلم.
قوله "وأما المرتبة الثالثة" أي القسم الثالث من الأقسام المذكورة في أول باب أقسام السنة.
ـــــــ
1 أبو عثمان عمرو بن عبيد توفي سنة 144هـ. أنظر وفيات الأعيان 2/101-102.

(3/39)