كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية

"باب الطعن يلحق الحديث من قبل غير راويه"
وهذا على قسمين قسم من ذلك ما يلحقه من الطعن من قبل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقسم منه ما يلحقه من قبل أئمة الحديث وما يلحقه من قبل الصحابة فعلى وجهين إما أن يكون من جنس ما يحتمل الخفاء عليه أو لا يحتمله, والقسم الثاني على وجهين أيضا إما أن يقع الطعن مبهما بلا تفسير أو يكون مفسرا بسبب الجرح فإن كان مفسرا فعلى وجهين أيضا إما أن يكون السبب مما يصلح الجرح به أو لا يصلح فإن صلح فعلى وجهين إما أن يكون
ـــــــ
"باب الطعن يلحق للحديث من قبل غير راويه"
قوله "إما أن يكون من جنس ما يحتمل الخفاء عليه" أي يكون الحديث الذي طعن فيه من جنس ما يحتمل الخفاء عن الطاعن أم لا, والقسم الثاني وهو ما يلحقه النكير من أئمة الحديث, أما القسم الأول وهو ما لحقه طعن من الصحابة رضي الله عنهم فمثل ما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" أي حد زنا غير المحصن بغير المحصن, وبهذا الحديث تمسك الشافعي رحمه الله فجعل النفي إلى موضع بينه وبين موضع الزاني مدة السفر من تمام الحد ولم يعمل علماؤنا به; لأن عمر رضي الله عنه نفى رجلا فلحق بالروم مرتدا فحلف, وقال والله لا أنفي أحدا أبدا فلو كان النفي حدا لما حلف; لأن الحد لا يترك بالارتداد فعرفنا أن ذلك كان بطريق السياسة والمصلحة كما "نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيت المخنث من المدينة" ومعلوم أن التخنث لا يوجب النفي حدا بالإجماع, وكما نفى عمر رضي الله عنه نصر بن الحجاج منها حين سمع قائلة تقول:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أو من سبيل إلى نصر بن حجاج
والجمال لا يوجب النفي ولكن فعل ذلك للمصلحة فإن قال ما ذنبي يا أمير المؤمنين فقال لا ذنب لك إنما الذنب لي حيث لم أطهر دار الهجرة عنك, وقال علي

(3/103)


ذلك مجتهدا في كونه جرحا أو متفقا عليه, فإن كان متفقا عليه فعلى وجهين أيضا إما أن يكون الطاعن موصوفا بالإتقان والنصيحة أو بالعصبية والعداوة. أما القسم الأول فمثال ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" فقد حلف عمر أن لا ينفي أحدا أبدا, وقال علي رضي الله عنه كفى بالنفي فتنة وهذا من جنس ما لا يحتمل الخفاء عليهما; لأن إقامة الحدود من خط الأئمة ومبناه على الشهرة وعمر وعلي رضي الله عنهما من أئمة الهدى فلو صح لما خفي وهذا لأنا تلقينا الدين منهم فيبعد أن يخفى عليهم فيحمل ذلك على الانتساخ وكذلك لما امتنع عمر من القسمة في سواد العراق علم أن القسمة من رسول الله عليه السلام لم تكن حتما, وقال محمد بن سيرين في
ـــــــ
رضي الله عنه كفى بالنفي فتنة ولو كان النفي حدا لما سماه فتنة, وهذا أي خروج الحديث من كونه حجة بمخالفة بعض الأئمة من الصحابة باعتبار انقطاع توهم أنه لم يبلغه; لأنا تلقينا الدين منهم فيبعد أن يخفى عليهم مثل هذا الحديث ولا يظن بهم مخالفة حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحال فأحسن الوجوه فيه أن من خالف علم انتساخه أو علم أن ذلك الحكم لم يجب حتما.
قوله: "وكذلك لما امتنع عمر" إذا فتح الإمام بلدة عنوة وقهرا كان للإمام أن يجعلهم أرقاء ويقسمهم وأراضيهم بين الغانمين وله أن يدعهم أحرارا يضرب عليهم الجزية ويترك الأراضي عليهم بالخراج ولا يقسمها, وقال الشافعي رحمه الله له ذلك في الرقاب دون الأراضي; لأن "النبي صلى الله عليه وسلم قسم خيبر حين فتحها بين الصحابة" وكذلك كان يفعل في كل بلدة فتحها, ولعلمائنا رحمهم الله أن عمر رضي الله عنه لما فتح السواد قهرا وعنوة من عليهم برقابهم وأراضيهم وجعل عليهم الجزية في رءوسهم والخراج في أراضيهم مع علمنا أنه لم يخف عليه قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وغيرها بين الصحابة حين افتتحها عرفنا أن ذلك لم يكن حكما حتما منه عليه السلام على وجه لا يجوز غيرها في الغنائم إذ لو كان حتما لما امتنع عنه, وإنما فعل ذلك بعد ما شاور الصحابة فإنه روي أنه استشارهم مرارا ثم جمعهم فقال أما إني لو تلوت من كتاب الله تعالى استغنيت بها عنكم ثم تلا قوله عز وجل: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} "الحشر: 7"، إلى قوله عز ذكره {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} "الحشر: 10"، ثم قال أرى لمن بعدكم في هذا الفيء نصيبا ولو قسمتها بينكم لم يكن لما بعدكم نصيب فمن بها عليهم وجعل الجزية على رءوسهم والخراج على أراضيهم ليكون ذلك لهم ولمن يأتي بعدهم من المسلمين, ولم

(3/104)


متعة النساء هم شهدوا بها وهم نهوا عنها وما عن رأيهم رغبة ولا في نصحهم تهمة, فإن قيل ابن مسعود لم يعمل بأخذ الركب بل عمل بالتطبيق ولم يوجب جرحا قلنا لأنه لم ينكر الوضع لكنه رأى رخصة ورأى التطبيق عزيمة والعزيمة أولى إلا أن ذلك رخصة إسقاط عندنا.
ـــــــ
يخالفه على ذلك إلا بلال وأصحابه لقلة بصرهم بفقه الآية فقد كانوا أصحاب الظواهر دون المعنى فلم يعتبر خلافهم مع إجماع أهل الفقه منهم ولم يحمدوا على هذا الخلاف حتى دعا عليهم على المنبر فقال اللهم أكفني بلالا وأصحابه فما حال الحول ومنهم عين تطرف أي ماتوا جميعا, التطبيق أن يضم المصلي إحدى الكفين إلى الأخرى ويرسلهما بين فخذيه في الركوع, ذكر الشيخ في السؤال لم يعمل بأخذ الركب أي بحديث أخذ الركب وذكر في الجواب أنه لم ينكر الوضع ولم يقل لم ينكر الأخذ وذلك لأن المذكور في بعض الروايات الأخذ على ما روي عنه عليه السلام أنه قال: "سننت لكم الركب فخذوا بالركب" 1. وقال عمر رضي الله عنه "يا معشر الناس أمرنا بالركب فخذوا بالركب" وفي بعض الروايات الوضع على ما روي عن وائل بن حجر أنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع وضع يديه على ركبتيه". وكذا في حديث ابن مسعود رضي الله عنه وذكر في بعضها الجمع بينهما كما روى أبو حميد الساعدي رضي الله عنه "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع وضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما"2 لكنه رآه أي رأى الوضع أو الأخذ رخصة أي رخصة ترفيه; لأنه كان يلحقهم المشقة في التطبيق مع طول الركوع فإنهم كانوا يخافون السقوط على الأرض فأمروا بالأخذ بالركب تيسيرا عليهم كرخصة الإفطار في السفر لا تعيينا عليهم بالأخذ بالركب.
"إلا أن ذلك" أي الوضع أو الأخذ رخصة إسقاط عندنا كرخصة قصر الصلاة في السفر فلم تبق العزيمة وهو التطبيق مشروعا أصلا, وهو مذهب عامة الصحابة رضوان الله عليهم, والدليل عليه أن "سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رأى ابنا له يطبق فنهاه فقال رأيت عبد الله يفعله فقال رحم الله ابن أم عبد كنا أمرنا بهذا ثم نهينا عنه"3 ولأن الإنسان إنما يخير بين العزيمة والرخصة إذا كان في العزيمة نوع تخفيف وفي الرخصة كذلك فحينئذ يفيد التخيير, فأما إذا لم يكن في العزيمة نوع تخفيف وفي الرخصة تخفيف
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الصلاة حديث رقم 258.
2 أخرجه الترمذي في الصلاة حديث رقم 260، وأبو داود في الصلاة حديث رقم 730-735.
3 أخرجه أبو داود في الصلاة حديث رقم 868، والإمام أحمد في المسند (1/378).

(3/105)


ومثال القسم الآخر ما روي عن أبي موسى الأشعري أنه لم يعمل بحديث الوضوء على من قهقه في الصلاة ولم تكن جرحا; لأن ذلك من الحوادث النادرة فاحتمل الخفاء, وأما الطعن من أئمة الحديث فلا يقبل مجملا; لأن العدالة في
ـــــــ
انقلبت تلك الرخصة عزيمة وهاهنا ليس في العزيمة تخفيف وفي الرخصة نوع تخفيف فانقلبت عزيمة.
قوله: "ومثال القسم الآخر" أي نظير القسم الآخر وهو ما يكون من جنس ما يحتمل الخفاء على الراوي ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه لم يعمل بحديث القهقهة وهو ما روى زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ أقبل أعمى فوقع في بئر أو زبية فضحك بعض القوم فلما فرغ عليه السلام قال "من ضحك منكم قهقهة فليعد الوضوء والصلاة" ثم لم يوجب ما ذكر عن أبي موسى إن ثبت جرحا في الحديث; لأن ما رواه زيد من الحوادث النادرة فاحتمل الخفاء على أبي موسى فلذلك لم يعمل به, على أنا لا نسلم أنه لم يعمل به فإنه قد اشتهر عن أبي العالية رواية هذا الحديث مسندا ومرسلا عن أبي موسى كذا في الأسرار ولم ينقل عن أحد من الثقات أنه ترك العمل به فالظاهر أن ما ذكروه غير ثابت.
ثم في هذا القسم لم يخرج الحديث عن كونه حجة; لأن الحديث الصحيح واجب العمل به فلا يترك العمل به بمخالفة بعض الصحابة إذا أمكن الحمل على وجه حسن, وقد أمكن هاهنا بأن يقال إنما عمل أو أفتى بخلافه; لأنه خفي عليه النص ولو بلغه لرجع إليه فالواجب على من بلغه الحديث بطريق صحيح أن يعمل به.
قوله "وأما الطعن من أئمة الحديث فلا يقبل مجملا" أي مبهما بأن يقول هذا الحديث غير ثابت أو منكر أو فلان متروك الحديث أو ذاهب الحديث أو مجروح أو ليس بعدل من غير أن يذكر سبب الطعن وهو مذهب عامة الفقهاء والمحدثين, وذهب القاضي أبو بكر الباقلاني وجماعة إلى أن الجرح المطلق مقبول; لأن الجارح إن لم يكن بصيرا بأسباب الجرح فلا يصلح للتزكية وإن كان بصيرا بها فلا معنى لاشتراط بيان السبب إذ الغالب مع عدالته وبصيرته أنه ما أخبر إلا وهو صادق في مقاله, واختلاف الناس في أسباب الجرح وإن كان ثابتا إلا أن الظاهر من حال العدل البصير بأسباب الجرح أن يكون عارفا بمواقع الخلاف في ذلك فلا يطلق الجرح إلا في صورة علم الوفاق عليها وإلا كان مدلسا ملبسا بما يوهم الجرح على من لا يعتقده وهو خلاف مقتضى العدالة, ألا ترى أن التعديل المطلق مقبول بأن قال المعدل هو عدل أو ثقة أو مقبول الحديث أو مقبول الشهادة فكذا الجرح المطلق, ولعامة العلماء أن العدالة ثابتة لكل مسلم باعتبار العقل والدين

(3/106)


المسلمين ظاهرة خصوصا في القرون الأولى فلو وجب الرد بمطلق الطعن لبطلت السنن ألا يرى أن شهادة الحكم أضيق من هذا ولا يقبل فيها من المزكي الجرح المطلق فهذا أولى, وإذا فسره بما لا يصلح جرحا لم يقبل وذلك مثل من
ـــــــ
خصوصا في القرون الأولى وهي القرون الثلاثة التي شهد النبي صلى الله عليه وسلم بعدالتها فلا يترك هذا الظاهر بالجرح المبهم; لأن الجارح ربما اعتقد ما لا يصلح سببا للجرح جارحا بأن ارتكب الراوي صغيرة من غير إصرار أو شرب النبيذ معتقدا إباحته أو لعب بالشطرنج كذلك فجرحه بناء عليه. وكذا العادة الظاهرة أن الإنسان إذا لحقه من غيره ما يسوءه فإنه يعجز عن إمساك لسانه عنه فيطعن فيه طعنا مبهما إلا إن عصمه الله عز وجل ثم إذا استفسر لا يكون له أصل فثبت أن لا بد فيه من بيان السبب, بخلاف التعديل; لأن أسبابه لا تنضبط ولا تنحصر فلا معنى للتكليف بذكرها, وقولهم الغالب أنه ما أخبر إلا وهو صادق في مقاله غير مسلم لجواز أن يكون إخباره بناء على اعتقاده. وكذا قولهم الظاهر أنه يكون عارفا بمواقع الخلاف لجواز أن لا يعرف ذلك, قال الغزالي رحمه الله والصحيح عندنا أن هذا مختلف باختلاف أحوال المعدل فمن حصلت الثقة ببصيرته وضبطه يكتفى بإطلاقه ومن عرفت عدالته في نفسه ولم يعرف بصيرته بأسباب الجرح والتعديل استخبرناه عن السبب, وذكر أبو عمرو الدمشقي في كتاب معرفة أنواع علم الحديث في هذه المسألة أن البخاري قد احتج بجماعة سبق من غيره الجرح لهم كعكرمة مولى ابن عباس وكإسماعيل بن أبي أويس وعاصم بن علي وعمرو بن مرزوق وغيرهم, واحتج مسلم بسويد بن سعيد وجماعة اشتهر الطعن فيهم وهكذا فعل أبو داود السختياني1 وذلك دال على أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا إذا فسر سببه.
فإن قيل: قد اعتمد الناس في جرح الرواة على الكتب التي صنفها أئمة الحديث فيه وقلما يتعرضون فيها لبيان السبب بل يقتصرون على مجرد قولهم فلان ضعيف وفلان ليس بشيء أو هذا حديث ضعيف وهذا حديث غير ثابت ونحو ذلك فاشتراط بيان السبب يفضي إلى تعطيل ذلك, فالجواب أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به فقد اعتمدناه في أن يوقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك بناء على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية يوجب مثلها التوقف ثم من انزاحت عنه الريبة منهم نبحث عن حاله قبلنا حديثه ولم نتوقف كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين وغيرهما ممن منهم مثل هذا الجرح من غيرهم.
ـــــــ
1 هو سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد الأزدي السجستاني أبو داود الحافظ الفقيه 202-275هـ. طبقات الحنابلة 1/118-120.

(3/107)


طعن في أبي حنيفة رحمه الله أنه دس ابنه ليأخذ كتب أستاذه حماد وهذا دلالة إتقانه; لأنه كان لا يستجيز الرواية إلا عن حفظ وإتقان ولا يأمن الحافظ الزلل وإن جد حفظه وحسن ضبطه فالرجوع إلى كتب الأستاذ آية إتقانه لا جرح فيه, ومن ذلك طعنهم بالتدليس وذلك أن تقول حدثني فلان عن فلان من غير أن
ـــــــ
قوله: "وذلك مثل من طعن" أي الطعن المفسر بما لا يصلح جرحا مثل طعن من طعن في أبي حنيفة رحمه الله من الحساد المتعنتين أنه دس ابنه أي أخفاه ليأخذ كتب أستاذه حماد عند وفاته فكان يروي منها وهذا ليس بصحيح; لأنه رحمه الله كان أعلى حالا وأجل منصبا من أن ينسب إليه ذلك ويأبى كل الإباء دقة نظره في دقائق الورع والتقوى, وعلو درجته في العلم والفتوى, وقد طعن الحساد في حقه بهذا الجنس كثيرا حتى صنفوا في طعنه كتبا ورسائل ولكن لم يزده طعنهم إلا شرفا وعلوا, ورفعة بين الأنام وسموا, فشاع مذهبه في الدنيا واشتهر, وبلغ أقطار الأرض نور علمه واشتهر, وقد عرف من له أدنى بصيرة وإنصاف, وجانب التعصب والاعتساف أن كل ما قالوه افتراء, ومثله عنه براء, ولئن سلمنا أنه صحيح فليس فيه ما يوجب طعنا فيه; لأنه إما أن أخذها تملكا وغصبا بغير رضاء مالكها أو أخذها برضاه, فالأول منتف; لأن ذلك لا يليق بحال من هو دونه في العلم والتقوى بل بحال أكثر العوام فكيف يليق بحاله, وإن أخذها بإذن المالك تملكا أو عارية, فإما أنه روى منها شيئا أو لم يرو فإن لم يرو فليس للطعن فيه مدخل وإن روى فإما إن روى منها ما سمعه من أستاذه أو ما أجاز له بروايته أو روى ما لم يسمعه منه ولم يجز له بروايته. فالأول دلالة الإتقان كما ذكر في الكتاب فلا يصلح سببا للجرح, والثاني كذلك; لأنه رواية بطريق الوجادة وهو طريق مسلوك صحيح على ما مر بيانه. الإتقان الإحكام., "وإن جد حفظه" أي عظم, أو معناه جد في حفظه أي اجتهد فحذف حرف في وأسند الفعل إلى الحفظ مجازا.
قوله "ومن ذلك" أي ومن الطعن المفسر الذي لا يصلح جرحا طعنهم بالتدليس, التدليس كتمان عيب السلعة عن المشتري, وهو في اصطلاحهم كتمان انقطاع أو خلل في إسناد الحديث بإيراد لفظ يوهم الاتصال والصحة, وقيل هو ترك اسم من يروى عنه وذكر اسم من يروي عنه شيخه, وذكر أبو عمرو الدمشقي أن التدليس قسمان أحدهما تدليس الإسناد وهو أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه موهما أنه سمعه منه أو عمن عاصره ولم يلقه موهما أنه قد لقيه وسمعه منه, وقد يكون بينهما واحد أو أكثر ومن شأنه أن لا يقول في ذلك حدثنا ولا أخبرنا وإنما يقول قال فلان أو عن فلان.

(3/108)


يتصل الحديث بقوله حدثنا أو أخبرنا وسموه عنعنة; لأن هذا يوهم شبهة الإرسال وحقيقته ليس بجرح على ما مر فشبهته أولى ومن ذلك طعنهم بالتلبيس
ـــــــ
والثاني تدليس الشيوخ وهو أن يروي عن شيخ حديثا سمعه منه فيسميه أو يكتبه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف, ثم قال فالقسم الأول مكروه جدا ذمه أكثر العلماء حتى قال بعضهم التدليس أخو الكذب, وعن شعبة أنه قال لأن أزني أحب إلي من أن أدلس وهذا من شعبة إفراط محمول على المبالغة في الزجر عنه, والقسم الثاني أمره أخف وفيه تضييع للمروي عنه وتوعير لطريق معرفته على من يطلب الوقوف على حاله ويختلف الحال في كراهة ذلك بحسب الغرض الحامل عليه فقد يحمله على ذلك كون شيخه الذي غير سمته غير ثقة أو كونه متأخر الوفاة قد شاركه في السماع منه جماعة دونه أو كونه أصغر سنا منه أو كون الراوي كثير الرواية عنه فلا يجب الإكثار من ذكر شخص واحد على صورة واحدة. قال واختلف في قبول رواية من عرف بالنوع الأول من التدليس فجعله فريق من أهل الحديث والفقهاء مجروحا بذلك وقالوا لا يقبل روايته بين السماع أو لم يبين, والصحيح التفصيل وأن ما رواه المدلس بلفظ محتمل لم يبين فيه السماع والاتصال حكمه حكم المرسل وأنواعه وما رواه بلفظ مبين للاتصال نحو سمعت وحدثنا وأخبرنا وأشباهها فهو صحيح قال وفي الصحيحين وغيرهما من الكتب من هذا الضرب كثير جدا كقتادة والأعمش وسفيان وغيرهم وهذا لأن التدليس ليس كذبا وإنما هو ضرب من الإبهام بلفظ محتمل فلا ينسب الفسق به فيقبل ما بين فيه الاتصال ورفع عنه الإبهام, وذكر غيره أن من عرف بالتدليس وغلب عليه ذلك إن لم يخبر باسم من يروي عنه إذا استكشف يسقط الاحتجاج بحديثه; لأن التدليس منه تزوير وإيهام لما لا حقيقة له وذلك يؤثر في صدقه وإن أخبر باسمه إذا استكشف وأضاف الحديث إلى ناقله لا يسقط الاحتجاج بحديثه ولا يوجب قدحا فيه, وقد كان سفيان بن عيينة يدلس فإذا سئل عمن حدثه بالخبر نص على اسمه ولم يكتمه وهذا شيء مشهور عنه وهو غير قادح, قال علي بن خشرم كنا في مجلس سفيان بن عيينة فقال. قال الزهري فقيل له حدثكم الزهري فقال لا لم أسمعه من الزهري ولا ممن سمعه من الزهري حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري, هذا بيان التدليس ومذهب أصحاب الحديث فيه وتبين بهذا أن التدليس بترك اسم المروي عنه لا يصلح للجرح عندنا; لأن عدالة الراوي تقتضي أنه ما ترك ذكره إلا لأنه عدل ثقة عنده لما ذكرنا في المرسل ويجري ذلك مجرى تعديله صريحا والصحابة كانوا يروون أحاديث ويتركون أسامي رواتها كما ذكرنا في المرسل فلو كان ذلك يوجب سقوط الخبر لما استجازوا ذلك.

(3/109)


على من كنى عن الراوي ولو يسمه ولم ينسبه مثل قول سفيان الثوري حدثني أبو سعيد وهو يحتمل الثقة وغير الثقة ومثل قول محمد بن الحسن
ـــــــ
وكذا التدليس بالكناية عن المروي عنه الذي سماه الشيخ تلبيسا; لأنه أدنى من الترك إلا إذا علم أنه فعل ذلك; لأن المروي عنه غير مقبول الحديث فحينئذ لا يقبل; لأنه خيانة وغش فيقدح في الظن, هكذا قال بعض الأصوليين وإليه أشار الشيخ في الكتاب بقوله وإنما يصير هذا جرحا إذا استفسر فلم يفسر.
فأما العنعنة التي ذكرها الشيخ من التدليس فهي كذلك عند بعضهم ولكن عند عامتهم هي ليست بتدليس فإن أبا عمرو قد ذكر في كتابه أن الإسناد المعنعن وهو الذي يقال فيه فلان عن فلان عد عند بعض الناس من قبيل المرسل والمنقطع حتى يتبين اتصاله بغيره والصحيح أنه من قبيل الإسناد المتصل. قال وإلى هذا ذهب الجماهير من أئمة الحديث وغيرهم وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم فيها وقبلوه وادعى أبو عمرو الداني1 المقرئ الحافظ إجماع أهل النقل على ذلك. قال وهذا بشرط أن يكون الذين أضيفت العنعنة إليهم قد ثبتت ملاقاة بعضهم بعضا مع براءتهم عن وصمة التدليس فحينئذ يحمل على ظاهر الاتصال إلا أن يظهر فيه خلاف ذلك, وذكر الحاكم أبو عبد الله الحافظ في كتاب معرفة علوم الحديث أن الأحاديث المعنعنة متصلة بإجماع أهل النقل إذا لم يكن فيها تدليس.
قوله: "ومن ذلك" أي ومما لا يصلح جرحا طعنهم بالتدليس على من كنى عن الراوي أي أبهم راوي الأصل وهو المروي عنه, "ولم يسمه" أي لم يذكر اسمه الذي عرف به, "ولم ينسبه" أي إلى أبيه وقبيلته فلم يقل أخبرني فلان بن فلان الفلاني, "وهو" أي قوله أبو سعيد يحتمل الثقة وهو الحسن البصري الزاهد رحمه الله, وغير الثقة مثل محمد بن السائب الكلبي فيما أظنه ومثل عطية العوفي يروي التفسير عن أبي سعيد وهو الكلبي يدلس به موهما أنه أبو سعيد الخدري.
ومن نظائره رجلان بصريان اسم كل واحد منهما إسماعيل بن مسلم2 حدثا عن الحسن البصري أحدهما يكنى أبا ربيعة وكان متروك الحديث يروي عنه سفيان الثوري
ـــــــ
1 هو المقرئ الحافظ المفسر أبو عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر الأموي. توفي سنة 444هـ، أنظر معجم الأدباء 12/121-124.
2 الأول هو إسماعيل بن مسلم المكي أبو أسحاق البصري والثاني أسماعيل بن مسلم أبو محمد البصري القاضي. تهذيب التهذيب 1/331-332.

(3/110)


رحمه الله حدثني الثقة من أصحابنا من غير تفسير; لأن الكناية عن الراوي لا بأس به صيانة عن الطعن فيه وصيانة للطاعن واختصارا وليس كل من اتهم من وجه ما يسقط به كل حديثه ومثل سفيان الثوري مع جلال
ـــــــ
ويزيد بن هارون وأبو عاصم النبيل والآخر يكنى أبا محمد كان ثقة يروي عنه يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع وأبو نعيم فيميز بينهما عند الرواية بالكنية, ورجلان بالكوفة اسم كل واحد منهما إسماعيل بن أبان أحدهما غنوي وهو غير ثقة والآخر ثقة وهو إسماعيل بن أبان الوراق.
قوله: "حدثني الثقة من أصحابنا" أراد به محمدا وأبا يوسف رحمهما الله وإنما أبهم لخشونة وقعت بينهما, واختلف في أن التعديل على الإبهام من غير تسمية المعدل بأن قال الراوي حدثنا الثقة أو من لا أتهمه أو من لا أثق به هل يكتفى به أم لا؟ فعند أبي بكر الصيرفي وبعض أصحاب الحديث لا يكتفى به; لأنه قد يكون ثقة عنده, وقد اطلع غيره على جرحه بما هو جارح عنده أو بالإجماع فيحتاج إلى أن يسميه حتى يعرف وعند بعضهم إن كان القائل لذلك عالما أجزأ ذلك في حق من يوافقه في مذهبه وإن لم يوافقه لا يكفي, وعندنا يكفي ذلك في حق الجميع; لأن العدل لا يحكم على أحد بكونه ثقة إلا بعد تحقق عدالته والتفحص عن أسبابها فيقبل هذا منه كما لو سماه. وقال هو ثقة أو عدل من غير بيان سبب; "لأن الكناية عن الراوي" يعني طعنهم بكذا لا يصلح للجرح; لأن الكناية عن الراوي أي عن المروي عنه كما تحتمل أن تكون لكون المروي عنه متهما تحتمل أن تكون لأجل صيانته عن الطعن الباطل فيه ولأجل صيانة الطاعن وهو السامع عن الوقوع في الغيبة والمذمة لمسلم من غير حجة ثم هذه الكناية وإن كانت مذمومة للمعنى الأول فهي للمعنى الثاني أمر لا بأس به فيحمل عليه بدلالة عدالة الراوي, ولئن سلمنا أنه كنى للمعنى الأول وهو كون المروي عنه متهما.
"فليس كل من اتهم من وجه ما يسقط به كل حديثه" أي ليس كل اتهام ما يسقط به جميع رواية الراوي إذ الأسباب الموجبة للطعن على نوعين: ما يوجب عموم الطعن وما لا يوجبه.
فالأول مثل الزنا وشرب الخمر والكذب وسائر الكبائر فإن من ارتكب واحدا منها وجب رد جميع رواياته; لأن عقله ودينه لما لم يمنعاه عن ارتكابه لا يمنعاه عن الكذب في الرواية أيضا.
والثاني مثل اختلاط العقل والسهو والغفلة فإنها توجب رد ما رواه في حالة

(3/111)


قدره وتقدمه في العلم والورع وتسميته ثقة شهادة بعدالته فأنى يصير جرحا, ووجه الكناية أن الرجل قد يطعن فيه بباطل فيحق صيانته.
ـــــــ
الاختلاط والسهو والغفلة ولا توجب رد جميع رواياته إذا لم يغلب السهو والغفلة عليه لزوال العلة الموجبة للرد في غير هذه الأحوال ونظيره الشاهد يرد جميع شهاداته بالفسق لعموم العلة الموجبة للرد ولا ترد بتهمة الأبوة إلا ما اختص بها وهو ما شهد به لابنه لزوال العلة الموجبة للرد في غيره. وإذا كان كذلك لا يلزم في كتابته لأجل الاتهام رد ما رواه لجواز أن يكون السبب الموجب للطعن غير شامل للجميع "مثل الكلبي" هو أبو سعيد محمد بن السائب الكلبي1 صاحب التفسير ويقال له أبو النضر أيضا طعنوا فيه بأنه يروي تفسير كل آية عن النبي صلى الله عليه وسلم ويسمى زوائد الكلبي, وبأنه روى حديثا عن الحجاج فسأله عمن يرويه فقال عن الحسن بن علي رضي الله عنهما فلما جرح قيل له هل سمعت ذلك من الحسن فقال لا ولكني رويت عن الحسن غيظا له, وذكر في الأنساب أن الثوري ومحمد بن إسحاق يرويان عنه ويقولان حدثنا أبو النضر حتى لا يعرف, قال وكان الكلبي سبئيا من أصحاب عبد الله بن سبإ من أولئك الذين يقولون إن عليا لم يمت وإنه راجع إلى الدنيا قبل قيام الساعة فيملؤها عدلا كما ملئت جورا وإذا رأوا سحابة قالوا أمير المؤمنين فيها والرعد صوته والبرق صوته حتى تبرأ واحد منهم, وقال:
ومن قوم إذا ذكروا عليا ... يصلون الصلاة على السحاب
مات الكلبي سنة ست وأربعين ومائة "وأمثاله" مثل عطاء بن السائب وربيعة بن عبد الرحمن وسعيد بن أبي عروبة وغيرهم اختلطت عقولهم فلم يقبل رواياتهم التي بعد الاختلاط وقبلت الروايات التي قبله فإن قيل ما نقل عن الكلبي يوجب الطعن عاما فينبغي أن لا يقبل رواياته جميعا قلنا إنما يوجب ذلك إذا ثبت ما نقلوه عنه بطريق القطع فأما إذا اتهم به فلا يثبت حكمه في غير موضع التهمة وينبغي أن لا يثبت في موضع التهمة أيضا إلا أن ذلك يورث شبهة في الثبوت وبالشبهة ترد الحجة وينتفي ترجيح الصدق في الخبر فلذلك لم يثبت. أو معناه ليس كل من اتهم بوجه ساقط الحديث مثل الكلبي وعبد الله بن لهيعة والحسن بن عمارة وسفيان الثوري وغيرهم فإنه قد طعن في كل واحد منهم بوجه ولكن علو درجتهم في الدين وتقدم رتبتهم في العلم والورع منع من قبول ذلك الطعن في حقهم ومن رد حديثهم به إذ لو رد حديث أمثال هؤلاء بطعن كل واحد انقطع طريق الرواية واندرست الأخبار إذ لم يوجد بعد الأنبياء عليهم السلام من لا يوجد فيه أدنى
ـــــــ
1 هو أبو النضر محمد بن بشر بن عمرو بن الحارث الكلبي المفسر المتوفي سنة 146هـ، أنظر الوافي بالوفيات 3/83.

(3/112)


وقد يروي عمن هو دونه في السن أو قرينه أو هو من أصحابه وذلك صحيح عند أهل الفقه وعلماء الشريعة وإن طال سنده فيكني عنه صيانة عن الطعن بالباطل وإنما يصير هذا جرحا إذا استفسر فلم يفسر ومن ذلك ما لا
ـــــــ
شيء مما يجرح به إلا من شاء الله تعالى فلذلك لم يلتفت إلى مثل هذا الطعن ويحمل على أحسن الوجوه وهو قصد الصيانة كما ذكر.
قوله: "وقد يروي عمن هو دونه في السن" كرواية الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري عن مالك, أو قرينه أي مثله يقال قرنه في السن وقرينه إذا كان مثله فيه, وذلك على قسمين أحدهما أن يروي كل واحد منهما عن الآخر كرواية الزهري عن عمر بن عبد العزيز ورواية عمر عنه ويسمى هذا مدبجا, والثاني أن يروي أحدهما عن الآخر ولا يروي الآخر عنه مثل رواية سليمان التيمي عن مسعر وهما قرينان.
"أو هو من أصحابه" أي تلامذته كرواية عبد الغني الحافظ1 عن محمد بن علي الصوري2 وكرواية أبي بكر البرقاني3 عن أبي بكر الخطيب البغدادي.
واعلم أن العلو في الإسناد عند أهل الحديث سنة مرغوب فيها والنزول فيه مفضول مرغوب عنه; لأن العلو في الإسناد يبعد الإسناد من الخلل إذ كل رجل من رجال السند يحتمل أن يقع الخلل من جهته سهوا أو عمدا ففي قلتهم قلة جهات الخلل وفي كثرتهم كثرة جهاته لكن النقل بالطريقين صحيح بالاتفاق إذا وجدت الشرائط التي مر ذكرها فالشيخ نظر إلى الصحة في هذا المقام لحصول غرضه بها وهو دفع الطعن, فقال: "وذلك" أي ما ذكرنا وهو الرواية عن هؤلاء "صحيح عند أهل الفقه وعلماء الشريعة" أي أهل الحديث وإن طال سند الحديث بها لكثرة الوسائط فيها بالنسبة إلى الرواية عمن هو فوقه, وإذا كان كذلك صح الكناية عن المروي عنه صيانة لنفسه عن الطعن الباطل بأنه روي بإسناد نازل, "وإنما يصير هذا" أي المذكور وهو الكناية عن المروي عنه "جرحا في الراوي إذا استفسر الراوي" عن المروي عنه "فلم يفسر" كما بيناه.
قوله: "ومن ذلك" أي ومن الطعن بما لا يصلح له الطعن بما لا يعد ذنبا على
ـــــــ
1 وهو الحافظ عبدلاغني بن سعيد علي بن سعيد الأزدي المصري، أبو محمد 332-409هـ، أنظر البداية والنهاية 12/7.
2 هو أبو عبد الله محمد بن علي الصوري 376-441هـ، أنظر البداية والنهاية 12/60.
3 هو أبو بكر أحمد بن محمد بن أحد بن غالب الخوارزمي الشافعي البرقاني 336-425هـ، أنظر شذرات الذهب 3/228.

(3/113)


يعد ذنبا في الشريعة مثل ما طعن الجاهل في محمد بن الحسن رحمه الله; لأنه سأل عبد الله بن المبارك أن يقرأ عليه أحاديث سمعها فأبى فقيل له فيه فقال لا تعجبني أخلاقه; لأن هذا إن صح فليس به بأس; لأن أخلاق الفقهاء تخالف أخلاق الزهاد; لأن هؤلاء أهل عزلة وأولئك أهل قدوة, وقد يحسن في منزل القدوة ما يقبح في منزل العزلة وينعكس ذلك مرة وقد قال فيه عبد الله بن المبارك لا يزال في هذه الأمة من يحمي الله به دينهم ودنياهم فقيل له ومن ذلك اليوم؟
ـــــــ
الشريعة ولا يوجب قدحا في المروءة. "لأنه": أي محمدا. "فقيل له": أي لعبد الله. "فيه": أي في إبائه عن الاستماع يعني قيل له لم لا تجيبه إلى استماع الأحاديث. "لأن أخلاق الفقهاء تخالف أخلاق الزهاد" واعتبر هذا بموسى والعبد الصالح فإن موسى عليه السلام لما كان من أهل القدوة لم يستطع صبرا على ما رأى من العبد الصالح من خرق السفينة وقتل النفس وإقامة الجدار حتى أنكرها عليه مع أنه قد واعد له الصبر, وقد يحسن في منزل القدوة ما يقبح في منزل العزلة حتى استحب للمفتي الأخذ بالرخص تيسيرا على العوام مثل التوضؤ بماء الحمام والصلاة في الأماكن الطاهرة ظاهرا بدون المصلى وعدم الاحتراز على طين الشوارع في موضع حكموا بطهارته فيها ولا يليق ذلك بأهل العزلة بل الأخذ بالاحتياط والعمل بالعزيمة أولى بهم. "وينعكس ذلك مرة" أي يحسن في منزلة العزلة ما يقبح في منزل القدوة مثل ما يحكى عن مشايخ العزلة من أمور ظاهرها مخالف للشريعة صدرت عنهم بناء على تأويل وأعذار ظهر لهم, مثل ما حكي عن المنصور الحلاج1 من قوله أنا الحق وما حكي عن أبي يزيد البسطامي2 رحمه الله ليس في الجنة سوى الله وقوله سبحاني ما أعظم شأني وما حكي عن الشبلي3 رحمه الله من إتلاف المال وإلقائه في البحر. وقوله "وقد قال فيه" كذا دليل عدم صحة هذا الطعن.
قوله: "ومثال ذلك" أي مثال الطعن بما ليس بذنب الطعن بركض الدابة وهو حثها على العدو على ما روي عن شعبة بن الحجاج أنه قيل له لم تركت حديث فلان؟ قال
ـــــــ
1 هو أبو المغيث الحسين بن منصور، الصوفي المعروف، قتل سنة 309هـ، أنظر وفيات الأعيان 2/140-157.
2 هوأبو يزيد طيفور بن عيسى بن آدم بن سروشان البسطامي، والمتوفي سنة 261هـ، أنظر وفيات الأعيان 2/531.
3 هو أبو بكر دلف بن جحد الشبلي، الصوفي، 247-334هـ، أنظر حلية الأولياء 10/366-375.

(3/114)


فقال محمد بن الحسن الكوفي. ومثال ذلك من طعن بركض الدابة مع أن ذلك من أسباب الجهاد كالسباق بالخيل والأقدام ومثل طعن بعضهم بالمزاح وهو أمر ورد الشرع به بعد أن يكون حقا لا باطلا إلا أن يكون أمرا يستفزه الخفة فيتخبط ولا يبالي, ومن ذلك الطعن بالصغر وذلك لا يقدح بعد أن ثبت الإتقان عند التحمل والبلوغ والعدالة عند الرواية مع ما تقدم ذكره وذلك مثل حديث ثعلبة بن صعير العذري في صدقة الفطر أنها نصف صاع من حنطة. ألا ترى أن
ـــــــ
رأيته يركض على برذون فتركت حديثه, "مع أن ذلك" أي الركض من أسباب الجهاد إذ هو من جنس السباق بالخيل الذي هو مندوب في الشرع على ما قاله عليه السلام: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر" 1 فأنى يجعل ذلك طعنا, "ومن ذلك طعنهم بالصغر", شرط بعض أصحاب الحديث البلوغ عند التحمل والأداء جميعا فلم يعتبروا سماع الصبي أصلا, وقال قوم الحد في السماع خمس عشرة سنة وقيل ثلاث عشرة سنة, فقال الشيخ لا يقدح الصغر عند التحمل في الرواية إذا ثبت الإتقان عند التحمل, وقد بينا هذه المسألة من قبل, "وذلك" أي الحديث الذي طعن فيه بصغر رواية عند التحمل مثل حديث عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري أنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أدوا عن كل حر وعبد صغير أو كبير نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير" فقالوا هذا الحديث لا يعادل حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب"2; لأن أبا سعيد من أكابر الصحابة وعبد الله بن ثعلبة من أصاغرهم فإنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وهو صغير وهذا الطعن باطل لما مر أن كثيرا من الصحابة تحملوا في صغرهم وقبل ذلك منهم بعد الكبر والشافعي رحمه الله أخذ بحديث نعمان بن بشير في إثبات حق الرجوع للوالد فيما يهب لولده. وقد روي أنه نحله أبوه غلاما وهو ابن سبع سنين فعرفنا أن مثل هذا لا يكون طعنا عند الفقهاء, والصحيح في نسبة عبد الله العذري دون العدوي فإن أبا علي الغساني قال العدوي في نسبته كما قال أحمد بن صالح المصري تصحيف إنما هو من بني عذرة, وذكر في المغرب العذرة وجع في الحلق من الدم وبها سميت القبيلة
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الجهاد حديث رقم 4547، والترمذي في الجهاد حديث رقم 1700. وابن ماجه في الجهاد حديث رقم 2878. والإمام أحمد في المسند 2/256.
2 أخرجه مسلم في الزكاة حديث رقم 985. والترمذي في الزكاة حديث رقم 673 وأبو داود في الزكاة حديث رقم 1616.وابن ماجه في الزكاة حديث رقم 1829. والإمام أحمد في المسند 3/23.

(3/115)


رواية ابن عباس لصغره لم تسقط ولذلك قدمناه على حديث أبي سعيد الخدري في صدقة الفطر أنها صاع من حنطة; لأنهما استويا في الاتصال وهذا أثبت متنا من حديث أبي سعيد وقد انضاف إلى ذلك رواية ابن عباس أيضا ومن ذلك الطعن بأن من لم يحترف رواية الحديث لم يصح حديثه; لأن العبرة لصحة الإتقان
ـــــــ
المنسوب إليها عبد الله بن ثعلبة بن صغير العذري ومن روى العدوي فكأنه نسبه إلى جده الأكبر وهو عدي بن صغير العبدي كذا في معرفة الصحابة لأبي نعيم والصحيح هو الأول.
"ولذلك قدمناه" أي ولأن الصغر لا يقدح في الرواية قدمنا حديث عبد الله ثعلبة على حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه; "لأنهما" أي الحديثين استويا في الاتصال بالنبي عليه السلام; لأن حديث عبد الله مع صغره مثل حديث أبي سعيد في صحة السند على أن عند أصحاب الحديث حديث أبي سعيد من قبيل الموقوف فإنهم قالوا قول الصحابي كنا نفعل كذا وكنا نقول كذا إن لم يضف إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من قبيل الموقوف. وإن أضافه إلى زمانه عليه السلام فكذلك عند أبي بكر الإسماعيلي1 وجماعة وعند الحاكم أبي عبد الله وغيره من قبيل المرفوع, وحديث أبي سعيد من القسم الأول, "وهذا" أي حديث عبد الله أثبت متنا أي أدل على المعنى وأبعد من الاحتمال من حديث أبي سعيد; لأنه ذكر الحديث مع القصة فقال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته "أدوا صدقة الفطر" الحديث وذلك دليل الإتقان وفيه ذكر الأمر ممن هو مفترض الطاعة وهو الرسول صلى الله عليه وسلم وليس حديث أبي سعيد كذلك; لأن القصة لم تذكر فيه وهو أيضا حكاية فعلهم; لأنه قال كنا نخرج وذلك ليس بموجب وليس فيه أيضا بيان أن أداء كل الصاع كان بطريق الوجوب فيجوز أن يكون أداء بصفة بطريق الوجوب وأداء الباقي بطريق التبرع, وانضاف إلى ذلك أي إلى حديث عبد الله حديث ابن عباس رضي الله عنهم وهو ما روي أنه قال: "أخرجوا صدقة صومكم فرض رسول الله عليه السلام هذه الصدقة صاعا من تمر أو شعير أو نصف صاع قمح على كل حر أو مملوك ذكر أو أنثى صغير أو كبير2.
قوله: "ومن ذلك" أي ومن الطعن الذي لا يقبل الطعن بعدم احتراف الرواية
ـــــــ
1 هو أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الإسماعيلي، الجرجاني الشافعي، المحدث الفقيه 277-271. أنظر شذرات الذهب 3/75.
2 أخرجه أبو داود في الزكاة حديث رقم 1622.

(3/116)


وهذا مثل طعن من طعن في أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لم يحترف رواية الحديث وإن كان قد فعله من هو دونه في المنزلة فكذلك في كل عصر إذا صح الإتقان سقطت العادة, وقد قبل النبي عليه السلام خبر الأعرابي على رؤية الهلال ولم يكن اعتاد الرواية, وقد يقع الطعن بسبب هو مجتهد فيه مثل الطعن بالإرسال ومثل الطعن بالاستكثار من فروع مسائل الفقه فلا يقبل, فإن وقع الطعن مفسرا بما هو فسق وجرح لكن الطاعن متهم بالعصبية والعداوة لم يسمع مثل طعن الملحدين في أهل السنة ومثل طعن من ينتحل مذهب الشافعي رحمه الله على بعض أصحابنا المتقدمين رحمة الله عليهم. وأما وجوه الطعن على الصحة فكثيرة قد تبلغ ثلاثين فصاعدا أو أربعين, وقد ذكرنا بعضه فيما تقدم وهذا الكتاب لا يسعها.
ـــــــ
واعتيادها مثل طعن بعض أصحاب الشافعي رحمه الله في القاضي الإمام أبي زيد رحمه الله وتقسيمه الأخبار بالمتواتر والمشهور والغريب والمستنكر في التقويم بأنه لم يكن من أهل هذا الفن ولم يكن له علم بصحيح الأخبار وسقيمها فكان الأولى به أن يترك الخوض في هذا المعنى ويحيله على أهله فإن من خاض فيما ليس من شأنه افتضح عند أهله. وهذا طعن باطل أعني بعدم الاعتياد; لأن العبرة للإتقان لا للاحتراف وربما يكون إتقان من لم يحترف الرواية أكثر من إتقان من اعتادها, وأما طعنهم على القاضي الإمام أبي زيد فغير متوجه; لأن ما ذكره أمر كلي وبيان اصطلاح لا حاجة فيه إلى معرفة أفراد الأحاديث وأسانيدها وصحتها وسقمها وإلى معرفة الرجال وأحوالهم من العدالة والفسق بل يعرفه من له أدنى بصيرة من المخلصين فكيف يخفى عليه ذلك مع غزارة علمه ومهارته في كل فن بل الحامل لهم على ذلك التعصب والحسد وإلا كيف لم يطعنوا على غيره من الأصوليين الذين لا ممارسة لهم بعلم الحديث من أصحاب الشافعي وغيرهم حيث ذكروا في كتبهم مباحث تتعلق بعلم الحديث أكثر مما ذكره القاضي الإمام رحمه الله, "إذا صح الإتقان سقطت العادة" أي إذا تحقق الإتقان سقط اعتبار العادة ولم يلتفت إليها بعد.
قوله: "وقد يقع الطعن بسبب هو مجتهد فيه مثل الطعن بالاستكثار" من فروع الفقه كما ذكر بعض المحدثين في حق أبي يوسف رحمه الله أنه كان إماما حافظا متقنا إلا أنه اشتغل بالفقه, ووجهه أنه لما اشتغل بالفقه وصرف همته إليه لا بد من أن يقع خلل في حفظ الحديث وضبطه وهو باطل أيضا; لأن ذلك دليل الاجتهاد وقوة الذهن فيستدل به على حسن الضبط والإتقان فكيف يصلح أن يكون طعنا؟ وجعله شمس الأئمة رحمه الله

(3/117)


ومن طلبها في مظانها وقف عليها إن شاء الله تعالى وهذه الحجج التي ذكرنا وجوهها من الكتاب والسنة لا تتعارض في أنفسها وضعا ولا تتناقض; لأن ذلك من أمارات الفجر الحدث تعالى الله عن ذلك, وإنما يقع التعارض بينهما لجهلنا بالناسخ من المنسوخ فلا بد من بيان هذه الجملة والله أعلم وهذا
ـــــــ
من قبيل ما تقدم وهو أولى; لأنه أشبه بالطعن بعدم الاحتراف والطعن بالإرسال وهو باطل أيضا; لأنه دليل تأكيد الخبر واتقان الراوي في السماع من غير واحد, وقد ذكرنا بعضه أي بعض ما يصح به الجرح فيما تقدم من الأبواب مثل ارتكاب بعض الكبائر والإصرار على الصغائر ومخالفة الحديث الغريب الكتاب والسنة المشهورة وعمل الراوي بخلاف الحديث الذي رواه بعد بلوغه إياه ونحوها. ومن طلبها أي وجوه الطعن على الصحة في مظانها أي مواضعها وهي كتب الجرح والتعديل التي صنفها أئمة الحديث, ومظنة الشيء موضعه ومألفه الذي يظن كونه فيه.
قوله "لا تتعارض في أنفسها وضعا ولا تتناقض" فالتناقض عند من لم يجوز تخصيص العلة وجود الدليل في بعض الصور مع تخلف المدلول عنه سواء كان لمانع أو لا لمانع, وعند من جوزه هو وجود الدليل مع تخلف المدلول بلا مانع, والتعارض تقابل الحجتين المتساويتين على وجه لا يمكن الجمع بينهما بوجه فالتناقض يوجب بطلان الدليل والتعارض يمنع ثبوت الحكم من غير أن يتعرض الدليل, هذا هو الفرق بينهما إلا أن كل واحد منهما في النصوص مستلزم للآخر فإن تخلف المدلول عن الدليل لا يكون إلا لمانع فيكون ذلك المانع معارضا للدليل فيما تخلف عنه. وكذا إذا تعارض النصان يكون الحكم متخلفا عن كل واحد لا محالة فيتحقق التناقض فلذلك جمع الشيخ بينهما كذا قيل, والظاهر أنهما بمعنى المترادفين هاهنا; لأن التناقض في الكلام في عامة الاصطلاحات هو اختلاف كلامين بالنفي والإثبات بحيث يقتضي لذاته أن يكون أحدهما صدقا والآخر كذبا وهذا هو عين التعارض فيكون كلاهما بمعنى; لأن ذلك أي التعارض والتناقض من علامات العجز; لأن من أقام حجة متناقضة على شيء كان ذلك لعجزه عن إقامة حجة غير متناقضة وكذا إذا أثبت حكما بدليل عارضه دليل آخر يوجب خلافه كان ذلك لعجزه عن إقامة دليل سالم عن المعارضة. والله تعالى يتعالى عن أن يوصف به, وإنما يقع التعارض بين هذه الحجج والتناقض أي التناقض الذي استلزمه التعارض لجهلنا بالناسخ والمنسوخ فإن أحدهما لا بد من أن يكون متقدما فيكون منسوخا بالمتأخر فإذا لم يعرف التاريخ لا يمكن التمييز بين المتقدم والمتأخر فيقع التعارض ظاهرا بالنسبة إلينا من غير أن يتمكن التعارض في الحكم حقيقة. فلا بد من بيان هذه الجملة: أي التعارض وما يتعلق به من بيان شرطه وحكمه وغير ذلك. وهذا: أي الذي نشرع فيه.

(3/118)