كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية "فصل
في تعليل الأصول"
قال الشيخ الإمام: واختلفوا في هذه الأصول, فقال بعضهم: هي
غير شاهدة أي غير معلولة إلا بدليل, وقال بعضهم هي معلولة
بكل وصف يمكن إلا بمانع, وقال بعضهم: هي معلومة لكن لا بد
من دليل مميز وهذا أشبه بمذهب الشافعي
ـــــــ
"فصل في تعليل الأصول"
لما بين في أول الباب أن الأصول وهي النصوص شهود الله
تعالى في حقوقه وأحكامه, وشهادتها معانيها الجامعة بين
الفروع والأصول بين في هذا الفصل اختلاف الناس في ذلك
فقال: واختلفوا يعني القائلين بالقياس في هذه الأصول, وهي
النصوص المتضمنة للأحكام من الكتاب والسنة أو الأصول
الثلاثة وهي الكتاب والسنة والإجماع والأول أظهر فقال
بعضهم أي بعض القايسين: هي غير شاهدة أي غير معلولة في
الأصل إلا بدليل أي إذا قام دليل في البعض على كونه معلولا
فحينئذ يجوز تعليله ويصح اللازم به على الخصم واسترذل بعض
أهل اللغة إطلاق لفظ المعلول على النص في عباراتهم فقالوا:
العلة التي هي المصدر لازم, والنعت منه عليل فالصواب أن
يقال: هذا النص معلل بكذا وأجيب عنه بأنه قد جاء عل فهو
معلول أي ذو علة نص عليه في المغرب والصحاح, والعلة في
اصطلاح الفقهاء عبارة عن المعنى الذي تعلق به حكم النص على
ما عرف تفسيرها في أول التقويم مأخوذة من العلة بمعنى
المرض فيجوز أن يقال: هذا النص معلول أي ذو علة بهذا
المعنى كما يقال للمريض: معلول أي ذو علة بمعنى المرض وقال
بعضهم: هي معلولة بكل وصف يمكن التعليل به, ويصلح لإضافة
الحكم إليه إلا أن يمنع مانع أي يقوم دليل من نص أو إجماع
في البعض يمنع من التعليل ببعض الأوصاف فحينئذ يمنع
التعليل بالجميع, ويقتصر على ما عدم فيه المانع وقال
بعضهم: وهم عامة مثبتي القياس هي معلولة أي الأصل فيها
التعليل, ولكن بوصف قام الدليل على تميزه من بين سائر
الأوصاف في كونه متعلق الحكم لا بكل وصف يعني لا حاجة في
تعليل كل نص إلى إقامة الدليل على أن هذا النص معلول بل
يكتفى فيه بأن الأصل في النصوص التعليل لكن يحتاج فيه
إقامة الدليل على أن هذا الوصف من بين
(3/431)
رحمه الله
والقول الرابع قولنا إنا نقول: هي معلومة شاهدة إلا بمانع
ولا بد من دلالة التمييز ولا بد قبل ذلك من قيام الدليل
على أنه للحال شاهد, وعلى هذا اختلافنا في تعليل الذهب
والفضة بالوزن وأنكر الشافعي رحمه الله التعليل فلا يصح
الاستدلال بأن النصوص في الأصل معلومة إلا بإقامة الدليل
في هذا النص
ـــــــ
سائر الأوصاف هو الذي تعلق الحكم به وهذا أي هذا القول
أشبه بمذهب الشافعي رحمه الله; لأنه لما جوز التعليل بعلة
قاصرة وليس فيه إلزام على الغير جاز الاكتفاء بهذا القدر
وهو أن الأصل في النصوص كونها معلولة ولأنه لما جعل
الاستصحاب حجة ملزمة على الغير مع أنه تمسك بالأصل لم يحتج
إلى إقامة الدليل في كل نص أنه شاهد للحال بل التعليل يكون
ملزما عنده نظرا إلى أن الأصل في النصوص التعليل وإنما
قال: وهذا أشبه; لأن هذا المذهب لم ينقل عن الشافعي نصا بل
استدل بمسائله عليه, وأسند صاحب الميزان هذا القول إلى
الشافعي وإلى بعض أصحابنا أيضا والقول الرابع: قولنا إنا
نقول هي معلولة شاهدة, أي الأصل فيها التعليل عندنا أيضا
ومعلولة, شاهدة بمعنى واحد إلا بمانع مثل النصوص الواردة
في المقدرات من العبادات والعقوبات ولا بد في ذلك أي في
جواز التعليل من دلالة التمييز أي دليل يميز الوصف المؤثر
من سائر الأوصاف ولا بد قبل ذلك أي قبل الشروع في التعليل
وتمييز الوصف المؤثر من إقامة الدليل على أنه أي النص نريد
استخراج العلة منه للحال شاهد أي معلول; لأن الظاهر وهو أن
الأصل في النصوص التعليل يصلح للدفع لا للإلزام, وهذا
القول مذهب بعض أصحابنا كذا ذكر في الميزان وإن كان القاضي
الإمام والشيخان ذكروه مذهبا لأصحابنا على الإطلاق.
واختار صاحب الميزان القول الثالث كما هو مذهب العامة
فقال: إن أحكام الله تعالي مبنية علي الحكم ومصالح العباد
وهو المراد بقولنا:النصوص معلولة أي الأحكام الثابتة بها
متعلقة بمعان ومصالح وحكم فإذا عقل ذالك المعني يجب القول
بالتعدية.ولأن الأصل إن كان واحدا واستخرج منه كل من خالف
علة لتعلق الحكم بها كان الأصل معلولا باتفاقهم وإن كان كل
واحد استخرج من أصل علي حدة فمتي علله بوصف مؤثر ووجد فيه
ما هو العلة يكون معلولا فلا حاجة إلي قيام النص أو
الإجماع علي كونه معلولا.
وذكر في بعض نسخ أصول الفقه زعم بشر المريسي وأبو الحسن
الكرخي أن من شرط صحة القياس أن ينعقد الإجماع علي كون حكم
الأصل معللا او يقوم نص عليه وزعم عثمان السبتي أن القياس
لا يجوز علي أصل حتي يقوم دليل خاص علي جواز القياس عليه.
وكلاهما باطل لأن مدرك الإحتجاج بالقياس إجماع الصحابة وقد
علمنا من تتبع أحوالهم في مجري اجنهاداتهم أنهم كانوا
يقيسون لفرع علي الصل عند ظن وجود
(3/432)
على الخصوص أنه
معلول احتج أهل المقالة الأولى بأن النص موجب بصيغته
وبالتعليل ينتقل حكمه إلى معناه, وذلك كالمجاز من الحقيقة
فلا تترك إلا بدليل ألا ترى أن الأوصاف متعارضة. والتعليل
بالكل غير ممكن وبكل وصف
ـــــــ
مايظن أنه علة في الأصل في الفرع من غير توقف علي دليل يدل
علي كون الأصل معللا أو دليل خاص علي جواز القياس عليه حتي
قاس بعضهم قوله: أنت علي حرام علي الإطلاق وبعضهم علي
الظهار وبعضهم اليمين من غير أن يقوم دليل من نص أو إجماع
علي كون تلك الأصول معللة ولا علي جواز القياس عليها ولم
ينكر البعض علي بعض ولم يرد عليه بأن ما ذكرت من الأصل غير
متفق عليه مما أدي إلي خلاف إجماعهم باطل.
قوله "احتج أهل المقالة الأولى" وهم الذين قالوا بأن الأصل
في النصوص عدم التعليل بأن النص قبل التعليل يثبت الحكم
بصيغته على موجب اللغة وليس المعنى الشرعي مما يدل عليه
النص لغة; ولهذا اختص به الفقهاء دون أهل اللغة وبالتعليل
يتغير ذلك الحكم بانتقاله من الصيغة إلى المعنى; إذ لو لم
ينتقل لا يمكن التعدية ألا ترى حكم النص في قوله عليه
السلام "الحنطة بالحنطة مثل بمثل والفضل ربا" حرمة فضل
الحنطة على الحنطة في البيع وبالتعليل يصير حكمه بيع
المكيل بالمكيل في الجنس سواء كان حنطة أو غيرها ثم المعنى
الشرعي من الصيغة بمنزلة المجاز من الحقيقة فإن معرفة صيغة
النص تتوقف على السماع توقف معرفة الحقيقة عليه, ومعرفة
المعنى الشرعي من النص لا تتوقف عليه كمعرفة المجاز فكان
الاشتغال بالتعليل تغييرا لحكم النص وتركا للحقيقة إلى
المجاز بل أبعد; لأن المجاز أحد نوعي الكلام والمعنى
المستنبط ليس من أنواع النص, ولا من أنواع الكلام, وإذا
كان كذلك كان الأصل هو العلم بصيغة النص دون معناه فلا
يجوز ترك هذا الأصل وتغييره إلا بدليل كما لا يجوز ترك
الحقيقة وتغيير معناها إلا بدليل وذلك إشارة إلى المعنى أو
إلى انتقال الحكم والضمير في فلا يترك راجع إلى النص. ثم
استوضح هذا بذكر دليل آخر فقال ألا ترى أن الأوصاف متعارضة
يعني يقتضي كل وصف من أوصاف النص غير ما يقتضيه الآخر فإن
وصف الطعم في حديث الربا يقتضي حرمة بيع التفاحة
بالتفاحتين وإباحة بيع قفيز من الجص بقفيزين منه على خلاف
ما يقتضيه القدر والجنس.
"والتعليل بالكل" أي بجميع أوصاف النص بأن يجعل الكل علة
واحدة غير ممكن; لأن ذلك لا يوجد في غير المنصوص عليه
فالتعليل يوجب انسداد باب القياس لاقتضائه قصد الحكم على
النص أو التعليل بكل واحد من الأوصاف بأن يجعل كل وصف علة
غير ممكن لإفضائه إلى التناقض فإن التعليل بالقدر والجنس
يوجب خلاف ما يوجبه
(3/433)
محتمل فكان
الوقف أصلا, واحتج أهل المقالة الثانية بأن الشرع لما جعل
القياس حجة لا يصير حجة إلا بأن يجعل أوصاف النص علة
وشهادة صارت الأوصاف كلها صالحة فصلح الإثبات بكل وصف إلا
بمانع مثل رواية الحديث لما كان حجة, والاجتماع متعذر صارت
رواية كل عدل حجة لا يترك إلا بمانع فكذلك هذا ولما صار
القياس دليلا صار التعليل والشهادة من النص أصلا فلا يترك
بالاحتمال, وإنما التعليل لإثبات حكم الفرع فأما النص
فيبقى موجبا كما كان,
ـــــــ
التعليل كما قلنا أو التعليل بالقدر والجنس يوجب التعدية
إلى الجنس والنورة والحديد وغيرها, والتعليل بالطعم
والثمنية يوجب قصر الحكم على المنصوص عليه, وهو الطعام في
قوله عليه السلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام, والذهب
والفضة" في حديث الأشياء الستة, والتعدية وعدمها أمران
متناقضان فيكون التعليل المؤدي إليه باطلا وبكل وصف محتمل
يعني بعدما تحققت المعارضة ولم يمكن التعليل بالجميع وبكل
وصف كما قلنا لا يمكن التعليل بواحد منها أيضا; لأن كل وصف
عينه المجتهد للتعليل به يحتمل أن يكون هو المعنى الموجب
للحكم, ويحتمل أن لا يكون, والمحتمل لا يكون حجة; إذ الحجة
لا تثبت بالاحتمال والشك فكان الوقف أي الوقوف عن التعليل
هو الأصل إلا إذا قام دليل يرجح بعض الأوصاف فحينئذ يجوز
الاشتغال بالتعليل فإن الترجيح بعد المعارضة إنما يثبت
بالدليل. ولأن الحكم ظهر عقيب كل الأوصاف التي اشتمل عليها
النص فالتعليل بالبعض تخصيص فلا يثبت إلا بدليل وحاصل هذا
القول أن التعليل لا يجوز إلا فيما يثبت علته بنص أو
إجماع.
قوله: "واحتج أهل المقالة الثانية" وهم الذين قالوا: الأصل
في النصوص التعليل, وأن التعليل يجوز بكل وصف يمكن وبأن
الشرع أي الشارع لما جعل القياس حجة بما مر ذكره من
الدلائل, ولا يتأتى القياس إلا بالوقوف على المعنى الذي
صلح علة من النص كان جواز التعليل أصلا في كل نص; لأن تلك
الدلائل لم تفصل بين نص ونص ولما صار التعليل أصلا ولا
يمكن التعليل بجميع الأوصاف لتأديه إلى انسداد باب القياس,
ولا بواحد منها للجهالة وفساد ترجيح الشيء بلا مرجح صارت
الأوصاف كلها صالحة أي صار كل وصف صالحا للتعليل به فكانت
صلاحية التعليل بكل وصف أصلا فصلح الإثبات أي إثبات الحكم
بكل وصف إلا بمانع بأن يعارض بعض الأوصاف بعضا أو يخالف
نصا أو إجماعا مثل رواية الحديث فإن الحديث لما كان حجة,
والعمل به واجبا, ولا يثبت الحديث إلا بنقل الرواة واجتماع
الرواة على رواية كل حديث متعذر صارت رواية كل عدل حجة لا
تترك إلا بمانع بأن يخالف دليلا قطعيا من نص أو إجماع أو
يظهر فسق الراوي فكذلك
(3/434)
ووجه القول
الثالث أنه لما ثبت القول بالتعليل وصار ذلك أصلا بطل
التعليل بكل الأوصاف; لأنه ما شرع إلا للقياس مرة, وللحجر
أخرى عند الشافعي وهذا يسد باب القياس أصلا فوجب التعليل
بواحد من الجملة فلا بد من دليل يوجب التمييز; لأن التعليل
بالمجهول باطل, والواحد من الجملة هو للتيقن بعد سقوط
ـــــــ
هذا أي فمثل رواية الحديث تعليل النص لما تعذر التعليل
بالجميع يجعل كل وصف علة وظهر بهذا فساد قولهم: إن الأوصاف
متعارضة; لأن بمجرد اختلاف الأوصاف لما لم يتحقق المعارضة
إذا أمكن العمل بالكل لا يثبت أيضا عند كثرة أوصاف النص مع
إمكان العمل بالكل إلا أن يمنع منه مانع. ثم أجاب عن
قولهم: التعليل بكل وصف محتمل بقوله: ولما صار القياس
دليلا أي في الشرع صار التعليل والشهادة من النص أي من كل
نص أصلا لتعميم الحكم لكن يبقى في كل وصف احتمال أنه ليس
بمراد بعد قيام الدليل على كونه حجة فلا يترك أي ذلك الأصل
بالاحتمال; لأن ما ثبت أصلا بالدليل لا يخرج بالاحتمال من
أن يكون حجة كما لا يثبت بالاحتمال كونه حجة وعن قولهم
التعليل تغيير للحكم وترك للحقيقة إلى المجاز, وإنما
التعليل لإثبات حكم الفرع يعني أثر التعليل في إثبات حكم
الفرع لا في تغيير حكم الأصل فإن الحكم في المنصوص بعد
التعليل ثابت بالنص لا بالعلة كما كان قبل التعليل, فلم
يكن فيه تغيير للحكم, ولا ترك للحقيقة بل فيه تقريره
بإظهار المعنى الذي يحصل به طمأنينة القلب وانشراح الصدر
ووجه القول الثالث, وهو قول بعض أصحابنا والشافعي أنه لما
يثبت القول بالتعليل بالدلائل الموجبة للقياس وصار ذلك أي
التعليل أصلا في النصوص بطل التعليل بكل الأوصاف أي
بجميعها بأن يجعل الكل علة; لأنه أي التعليل شرع للقياس
مرة أي لتعدية الحكم إلى غير المنصوص عليه وإلحاقه به
وللحجر أخرى عند الشافعي فإنه جوز التعليل بعلة قاصرة لا
لمجرد الحجر فحسب وهذا أي التعليل بجميع الأوصاف يسد باب
القياس أصلا لما بينا أن ما يوجد فيه جميع الأوصاف يكون
فردا من جنس المنصوص عليه فيكون الحكم ثابتا فيه بالنص لا
بالقياس فيكون التعليل حينئذ للحجر لا غير, وهو خلاف ما
اتفق عليه القائلون بالقياس, ولما انتفى التعليل بالجميع
وجب التعليل بواحد من الجملة وهو مجهول, والتعليل بالمجهول
لتعدية الحكم باطل, فلا بد من دليل عين وصفا من سائر
الأوصاف للتعليل وقوله: والواحد من الجملة جواب عما يقال:
إن لم يكن التعليل بالجملة فلم وجب النقل إلى الواحد مع
إمكان التعليل بالوصفين والأكثر منها فقال: لأن الواحد وهو
المتيقن به بعد سقوط الجملة كما في وقت الصلاة لما تعذر
سببية الجميع جعل الجزء الأدنى سببا للتيقن به, والتعليل
بالوصفين وأكثر جائز لكن الزيادة على الواحد
(3/435)
الجملة لكنه
مجهول وقلنا نحن: إن دليل التمييز شرط على ما نبين إن شاء
الله تعالى لكنا نحتاج قبل ذلك إلى قيام الدلالة على كون
الأصل شاهدا للحال لا ناقدا وجدنا من النصوص ما هو غير
معلول فاحتمل هذا أن يكون من تلك الجملة لكن هذا الأصل لم
يسقط بالاحتمال, ولم يبق حجة على غيره, وهو الفرع
بالاحتمال أيضا على مثال استصحاب الحال ولا يلزم عليه أن
الاقتداء بالنبي
ـــــــ
لا يثبت إلا بالدليل أيضا هذا تقدير ما ذكر في الكتاب ولكن
لأهل المقالة الثانية أن يقولوا: لا يلزم من عدم صحة
التعليل بجميع الأوصاف عدم صحته بكل واحد منها إذا أمكن
التعليل به لعدم سد باب القياس فيه بل فيه فتحة وزيادة
تعميم لحكم النص فإذا جاز التعليل بكل وصف لم يجب النقل
إلى الواحد المجهول الذي يحتاج إلى دليل مميز وفي كلام
القاضي الإمام جواب عنه فإنه قال: الدلائل الموجبة للقياس
جعلت النص معلولا ليمكن القياس; إذ لا قياس إلا بكون النص
معللا, وإلا لكان يثبت بوصف من الجملة فلم يجب بتلك
الدلائل أن يجعل كل وصف علة بل صار البعض من الجملة علة
واحتمل الزيادة على الواحدة فلا تثبت الزيادة على الواحد
إلا بدليل وذكر شمس الأئمة رحمه الله أن الصحابة إنما
اختلفوا في الفروع لاختلافهم في الوصف الذي هو علة في
النص; إذ كل واحد منهم ادعى أن العلة ما قاله فكان ذلك
اتفاقا منهم أن أحد الأوصاف هو العلة فلا يجوز التعليل
بجميع الأوصاف وبكل وصف; لأنه على مخالفة الإجماع.
قوله "وقلنا نحن: إن دليل التمييز شرط". يعني هذا الذي
ذكرنا هو المختار ودليل التمييز شرط عندنا أيضا كما هو شرط
عندهم إلا أن عندهم دليل التمييز الإخالة, وعندنا التأثير
على ما نبين في باب ركن القياس إن شاء الله عز وجل لكنا
نحتاج قبل ذلك أي قبل بيان التميز والشروع في التعليل إلى
إقامة الدليل على كون الأصل أي النص الذي يريد تعليله
شاهدا أي معللا في الحال وليس بمقتصر على مورده بل يعدي
حكمه إلى غيره كالحكم الثابت بالخارج من السبيلين تعدى إلى
مثقوب السرة بالإجماع فيجوز تعليله بعد بوصف قام إلى
الدليل على كونه علة; لأن الأصل في النصوص, وإن كان هو
التعليل إلا أنه ثابت من طريق الظاهر, وقد وجدنا من النصوص
ما هو غير معلول بالاتفاق واحتمال أن يكون هذا النص المعين
من تلك الجملة فلا يصح التمسك بذلك الأصل والإلزام به على
الغير مع هذا الاحتمال; لأن الظاهر يصلح حجة للدفع لا
للإلزام لكن هذا الأصل, وهو كون التعليل أصلا في النصوص لم
يسقط بالاحتمال أيضا حتى جاز التعليل للعمل به قبل قيام
الدليل على كونه معلولا وإن لم يصح الإلزام به على الغير
وعلى مثال استصحاب الحال فإنه لما كان ثابتا بطريق الظاهر
صلح حجة دافعة لا ملزمة حتى إن حياة
(3/436)
عليه السلام
واجب مع قيام الاختصاص في بعض الأمور; لأن الاقتداء بالنبي
عليه السلام إنما صار واجبا لكونه رسولا وإماما وهذا لا
شبهة فيه فلم يسقط العمل بما دخل من الاحتمال في نفس
العمل. فأما هنا فإن النص نوعان معلول وغير معلول فيصير
الاحتمال واقعا في نفس الحجة, ولأن الشرع ابتلانا بالموقف
مرة وبالاستنباط أخرى كل ذلك أصل فلما اعتدلا لم يستقم
الاكتفاء بأحد الأصلين,
ـــــــ
المفقود لما كانت ثابتة بطريق الاستصحاب نجعل حجة لدفع
الاستحقاق حتى لا يورث ماله, ولا يصلح سببا للاستحقاق حتى
لو مات قريبه لا يرثه المفقود لاحتمال الموت وكذلك مجهول
الحال إذا شهد لا يرد شهادته باحتمال كونه عبدا; إذ الأصل
في بني آدم هو الحرية. ولكن لو طعن الخصم في حريته لم يصر
حجة عليه باعتبار الأصل لاحتمال زواله بعارض, ولا يبطل
حرمة في نفسه أيضا بهذا الاحتمال فكذلك هذا, فإذا قام
الدليل على كون الأصل شاهدا لم يبق الاحتمال فصار حجة.
قوله: "ولا يلزم" جواب عن سؤال يرد على هذا الأصل, وتقديره
أن الاقتداء بالرسول في أفعاله أصل بقوله تعالى: {لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
[الأحزاب: 21] {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] كما أن التعليل في النصوص
أصل بالدلائل الموجبة للقياس, وقد ثبت اختصاص النبي عليه
السلام ببعض الأفعال مثل إباحة صوم الوصال, وحل التسع
وإباحة النكاح بغير مهر, وأخذ الصفي من الغنيمة وغيرها كما
ثبت عدم التعليل في بعض النصوص ثم جاز العمل بذلك الأصل من
غير اشتراط قيام دليل على عدم الاختصاص حتى جاز الاقتداء
به في أفعاله, وصح الإلزام به على الغير ما لم يقم الدليل
المانع فينبغي أن يجوز العمل بالأصل ها هنا أيضا من غير
اشتراط قيام دليل على كون هذا النص المعين معللا ما لم
يمنع عنه مانع فقال الاقتداء بالنبي عليه السلام إنما وجب
لكونه رسولا وإماما صادقا بقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] وليس في كونه
رسولا وإماما شبهة فوجب علينا الاقتداء به لوجود العلة
الموجبة له قطعا ولم يسقط العمل به بالاحتمال الداخل في
نفس العمل دون العلة الموجبة وهو احتمال الاختصاص كما لا
يسقط العمل بالعام باحتمال الخصوص لما كان أصله موجبا ما
لم يقم دليل التخصيص. فأما فيما نحن فيه فالاحتمال في نفس
الحجة للوجهين المذكورين في الكتاب فلم يكن بد من قيام
الدليل على أنه معلول للحال ليصح العمل به بمنزلة المجمل
لما كان الاحتمال في نفسه لم يصح العمل به ما لم يقم دليل
يبين المراد منه ومن لم يعتبر هذا الشرط من أصحابنا متمسكا
بإجماع الصحابة على ما بينا وبأن أحدا من العلماء لم يشغل
بإقامة الدليل على كون الأصل معللا
(3/437)
فأما الرسول
عليه السلام فإنما بعث للاقتداء لا معارض لذلك فلم يبطل
بالاحتمال ومثال هذا الأصل قولنا في الذهب والفضة: إن حكم
النص في ذلك معلول فلا يسمع منا الاستدلال بالأصل وهو أن
التعليل أصل في النصوص بل لا بد من إقامة الدلالة على أن
هذا النص بعينه معلول, ودلالة ذلك أن هذا النص تضمن حكم
التعيين بقوله يدا بيد, وذلك من باب الربا أيضا ألا ترى أن
تعيين أحد
ـــــــ
في مناظراتهم ومقايساتهم ولم يطلب ذلك خصمه منه أجاب عن
هذه الكلمات فقال بعدما ثبت أن الأصل في النصوص هو التعليل
لا وجه إلى اشتراط دليل آخر لصحة التعليل; إذ التعليل لا
يصح إلا بوصف مؤثر, والأثر إنما يعرف بالكتاب أو السنة
والإجماع على ما ستعرفه فكان ظهور الوصف المؤثر من هذا
النص دليلا على كونه معلولا; إذ لا معنى لكونه معلولا إلا
تعلق حكمه بمعنى مؤثر يدرك بالعقل فأي حاجة إلى إقامة دليل
آخر على كونه معلولا وليس هذا كاستصحاب الحال فإن الأصل
فيه لم يثبت بدليل ألا ترى أن حياة المفقود وحرية الشاهد
لم تثبتا بدليل بل بظاهر الحال, فأما كون الأصل معلولا فقد
ثبت بقبول التعليل وظهور الوصف المؤثر فوضح الفرق وتبين
أنه كالاقتداء بالرسول عليه السلام في صحة العمل به في هذا
الفرد المعين كالعمل بالاقتداء في الفعل المعين. وكما أن
النصوص نوعان معلول وغير معلول فأفعال النبي عليه السلام
أيضا نوعان ما يقتدى به وما لا يقتدى به وكما ابتلينا
بالوقف في غير المعلول وبالاستنباط في المعلول فقد ابتلينا
بالاقتداء فيما يصلح الاقتداء به وبعدم الاقتداء فيما ثبت
الاختصاص فيه فكانا من قبيل واحد فهذا كلام الفريقين في
هذه المسألة فعليك بعد بالترجيح.
قوله: "ومثال هذا الأصل" وهو أنه لا بد في التعليل من
إقامة الدليل على كون الأصل معلولا ولا يكتفي فيه بأن
الأصل في النصوص التعليل وقولنا في الذهب والفضة إن حكم
النص وهو حرمة الفضل وفي ذلك أي في النصوص معلول بعلة
متعدية وهي الوزن والجنس على خلاف ما قال الشافعي رحمه
الله أنه ليس بمعلول أو مخصوص بعلة الثمنية فلا يسمع منا
الاستدلال أي التمسك بالأصل من غير إقامة الدليل على أن
هذا النص وهو قوله عليه السلام "الذهب بالذهب والفضة
بالفضة مثلا بمثل يدا بيد" بعينه معلول ودلالة ذلك أي
الدليل على أن هذا النص بعينه معلول أن هذا النص تضمن حكم
التعين أي حكما هو التعيين من قبيل قولك: علم الطب وحكم
التطهير بقوله عليه السلام "يدا بيد" إذ المراد منه
التعيين, فإن اليد آلة التعيين كالإحضار والإشارة كما تضمن
وجوب المماثلة بقوله مثلا بمثل وذلك من باب الربا أيضا أي
وجوب التعيين من باب الاحتراز عن الربا كوجوب المماثلة
للاحتراز عن الربا يعني كلا الحكمين متعلق
(3/438)
البدلين شرط
جواز كل بيع احتراز عن الدين وتعيين الآخر واجب طلبا
للاستواء بينهما احترازا عن شبهة الفضل الذي هو ربا, وقد
قال النبي عليه السلام "إنما الربا في النسيئة" وقد وجدنا
هذا الحكم متعديا عنه حتى قال الشافعي رحمه الله
ـــــــ
بمعنى واحد ألا ترى دليلا على أن وجوبه للاحتراز عن الربا
يعني الدليل على أن وجوبه لما قلنا: إن تعيين أحد البدلين
شرط جواز كل بيع للاحتراز عن الدين بالدين الذي هو نسيئة
بنسيئة, وذلك من باب الربا لقوله عليه السلام "إنما الربا
في النسيئة1" . وتعيين الأخرى أي وجوب تعيين البدل الآخر
فيما نحن بصدده, وهو الصرف لطلب المساواة بين البدلين في
العينية, فإن المساواة بينهما في القدر العينية شرط عند
اتفاق الجنس بقوله: مثلا بمثل يدا بيد, والمساواة في
العينية شرط عند اختلاف الجنس بقوله: وإذا اختلف النوعان
فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد وقوله طلبا للتسوية
متعلق بواجب وقوله: احتراز متعلق بالمجموع, أو بقوله: طلبا
وهو أظهر وإنما وجب تحصيل المساواة بينهما في العينية
احترازا عن شبهة الفضل الذي هو ربا فإن العين خير من الدين
وإن كان حالا; ولهذا لم يجز أداء الزكاة العين من الدين
ولم يحنث في قوله: إن كان له مال فعبده حر إذا لم يكن له
مال عين, وله ديون على الناس كما وجبت المساواة في القدر
احترازا عن حقيقة الفضل فثبت أن وجوب التعين للاحتراز عن
الربا كوجوب المساواة.
وقد وجدنا هذا الحكم وهو وجوب التعيين متعديا عن هذا الأصل
إلى الفروع حتى شرط الشافعي رحمه الله التقابض في المجلس
في بيع الطعام بالطعام عند اتحاد الجنس واختلافه ليحصل
التعيين كما شرطناه جميعا في بدلي الصرف عند اتحاد الجنس
واختلافه لذلك. وقلنا جميعا فيمن اشترى حنطة بعينها بشعير
بغير عينه غير مقبوض في المجلس أنه باطل وإن كان موصوفا;
لأن بترك التعيين في أحد البدلين بعدم المساواة في اليد
كما لو باع ذهبا بفضة ولم يقبض أحدهما في المجلس وإنما قال
حالا غير مؤجل ليكون وجه الجواز ظهر يعني مع كونه حالا
موصوفا لا يجوز لعدم التعيين لما قلنا من اشتراط تعين
البديل طلبا للمساواة احترازا عن شبهة الفضل ووجب تعيين
رأس مال السلم يعني بالقبض في المجلس سواء كان من الأثمان
أو من غيرها; لأن المسلم فيه أبدا يكون دينا ورأس المال في
الأغلب هو الدراهم والدنانير, وأنها لا يتعين إلا بالقبض
فشرطنا القبض الذي يحصل به التعيين كي لا يكون افتراقا عن
دين بدين ثم لو كان شيئا يتعين بالتعيين بدون القبض يشترط
القبض أيضا, ولا يكتفى فيه بالتعيين دفعا لحرج التمييز عن
العوام وإلحاقا للفرد بالأغلب
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في المساقاة حديث رقم 1596، وابن ماجة برقم
2257، والإمام أحمد في المسند 5/3.
(3/439)
في بيع الطعام:
إن التقابض شرط, وقلنا جميعا فيمن اشترى حنطة بعينها بشعير
بغير عينه حالا غير مؤجل إنه باطل, وإن كان موصوفا لما
قلنا, ووجب تعيين رأس مال السلم بالإجماع, وإذا ثبت التعدي
في ذلك ثبت أنه معلول فلا تعدي بلا تعليل بالإجماع فقد صح
التعدي ولم يكن الثمنية مانعة, وإذا ثبت فيه ثبت في
مسألتنا; لأنه هو بعينه بل ربا الفضل أثبت منه, وقال
الشافعي رحمه الله: إن تحريم الخمر معلول فلا بد من إقامة
الدليل عليه, ولا دليل عليه من قبل
ـــــــ
فيثبت بما ذكرنا أن هذا الحكم قد تعدى إلى الفروع; إذ لا
معنى للتعدي إلا وجود حكم النص في غير المنصوص عليه, وعدم
اقتصاره عليه إذا ثبت التعدي في ذلك أي في حكم التعيين ثبت
أنه أي النص معلول فلا يعدى بلا تعليل أي الحكم لا يعدى
إلى الفرع بلا تعليل الأصل بالإجماع, وثبت أن التعليل بعلة
قاصرة لا يمنع من التعدي بعلة متعدية; لأن التعدي قد صح ها
هنا, ولم يكن الثمنية مانعة وإذا ثبت فيه أي ثبت للتعليل
هذا النص في تعدي حكم التعيين إلى ما ذكرنا من الصور, ولم
يكن الثمنية مانعة منه ثبت تعليله في مسألتنا أي فيما
تنازعنا فيه وهو تعدي وجوب المماثلة إلى سائر الموزونات
لأنه هو بعينه أي لأن التعليل لوجوب المماثلة عين التعليل
لتعدي حكم التعيين فإن تعدي وجوب المماثلة للاحتراز عن
الربا كما أن تعدي وجوب التعيين للاحتراز عن الربا أيضا بل
ربا الفضل أثبت منه أي من ربا النسيئة يعني ربا الفضل الذي
بني تعدي وجوب المماثلة عليه أسرع ثبوتا من ربا النسيئة
الذي بني تعدي التعيين عليه; لأنه حقيقة الفضل وربا
النسيئة شبهة الفضل, والحقيقة أولى بالثبوت من الشبهة.
فإن قيل: لا نسلم وجود التعدي في هذا الحكم; لأن معنى
التعدي أن يوجد الحكم في الفرع الذي لا نص فيه بناء على
علة جامعة بين الأصل والفرع, والتعيين فيما ذكرتم ثابت
بالنص لا بالعلة فإنه عليه السلام قال في كل واحد من
الأشياء الستة عند المقابلة بجنسه "يدا بيد قبضا بقبض" ثم
قال: " وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم" بعد أن يكون
يدا بيد فيجب القبض المعين عند اتفاق الجنس واختلافه بهذا
النص في رأس مال السلم "بنهيه عليه السلام عن الكالئ
بالكالئ" فكان القبض المعين واجبا في هذا المسائل بالنص لا
بالتعليل وإذا كان كذلك لم يثبت كون هذا النص معلولا يوضحه
أن من شرط صحة التعليل عدم النص في الفروع فمع وجود هذه
النصوص فيما ذكرتم من الفروع كيف يمكن القول بتعدي الحكم
من الذهب والفضة إليها قلنا: وجود النص في الفرع لا يمنع
صحة التعدي من محل آخر إليه بالتعليل إذا كان التعليل
موافقا للنص عند البعض, وإنما يمنع إذا كان على خلاف النص,
ألا ترى أن الفقهاء عن آخرهم يقولون: هذا الحكم ثابت
بالنص,
(3/440)
النص بل الدليل
دل على خلافه, فإن النص أوجب تحريم الخمر لعينها, وليست
حرمة سائر الأشربة ونجاستها من باب التعدي لكنه ثبت بدليل
فيه شبهة احتياطا ومثال هذا الشاهد لما قبلت شهادته مع صفة
الجهل بحدود الشرع باطل
ـــــــ
والمعقول على معنى أنه لولا النص لكان الحكم ثابتا
بالقياس, ولم يكن معدولا به عن القياس, فإذا وجد النص كان
القياس مؤكدا له, وكان النص مقررا للقياس, ويتعاضد كل واحد
منهما بالآخر كما إذا وجد نصان من الكتاب أو من السنة أو
منهما جميعا فثبت أن وجود النص في الفرع لا يقدح فيما
ذكرنا بل مؤكد كون الأصل المقيس عليه معلولا.
قوله: "قال الشافعي" علل الشافعي رحمه الله تحريم الخمر
بوصف الإسكار. وقال: هذا وصف مؤثر; لأن المنع من شرب ما
يستر العقل الذي صار به الإنسان أهلا للخطاب والتكليف
ويجعله كالزائل, أمر معقول ولهذا لم يشربها نبي قط ولم
يشربها كثير من الصحابة قبل التحريم فيلحق سائر الأشربة
المسكرة بها بعلة الإسكار فيحرم قليلها وكثيرها, ويجب الحد
بشرب القليل منها كالخمر فقال الشيخ رحمه الله: لا بد من
إقامة الدليل أولا على كون النص المحرم لها معلولا ليصح
تعليله بعد, ولا دليل عليه من قبل النص بل الدليل من النص
دال على أنه غير معلول, فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله تعالى حرم الخمر لعينها قليلها وكثيرها, والسكر
من كل شراب" فلو كانت الحرمة متعلقة بالسكر لم يثبت في
القليل كما ذهب إليه بعض أهل الأهواء وقوله: ليست حرمة
سائر الأشربة ونجاستها جواب عما يقال: قد تعدى حكم الحرمة
حكم النجاسة من الخمر إلى بعض الأشربة المسكرة مثل المطبوخ
أدنى طبخة إذا اشتد والنيء من نبيذ الزبيب والتمر إذا اشتد
كما تعدى حكم التعيين في المثال المذكور إلى الفروع فثبت
به أن النص المحرم للخمر معلول; إذ لا تعدي بلا تعليل
فقال: ليست حرمة سائر الأشربة أي باقي الأشربة المحرمة
ونجاستها من باب التعدي ألا ترى أنهما لم يثبتا على الوصف
الذي ثبتا في الخمر حتى يكفر مستحل الخمر ولا يكفر مستحل
سائر الأشربة ونجاسة الخمر غليظة لا يعفى عنها أكثر من قدر
الدرهم, ونجاسة سائر الأشربة المحرمة خفيفة يعفى عنها ما
دون ربع الثوب. كذا لا يجوز بيع الخمر بالإجماع ويجوز بيع
سائر الأشربة المحرمة عند أبي حنيفة رحمه الله إليه أشير
في المبسوط لكنه أي لكن الحكم وهو الحرمة والنجاسة فيه أي
في سائر الأشربة ثبت بدليل فيه شبهة بطريق الاحتياط, وهو
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الخمر من
هاتين الشجرتين1" مشيرا إلى النخلة والكرمة فظاهره يوجب أن
يكون حكم
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الأشربة حديث رقم 1985، والترمذي في
الأشربة حديث رقم 1875، وأبو داود في الأشربة حديث رقم
3678، وابن ماجة برقم 3378، والإمام أحمد في المسند 2/496.
(3/441)
الطعن بالجهل
وصحح الطعن بالرق فكذلك ها هنا متى وجدنا النص شاهدا مع ما
ذكر من الطعن بطل الطعن, ومتى وقع الطعن في الشاهد بما هو
جرح وهو الرق لم يجز الحكم بظاهر الحرية إلا بحجة فكذلك
هنا لا يصح العمل به مع الاحتمال إلا بالحجة والله أعلم.
ـــــــ
هذه الأشربة حكم الخمر; إذ النبي عليه السلام بعث مبينا
للحكم لا للغة فكان معناه ما يتخذ منهما له حكم الخمر,
وإذا كان كذلك لا يثبت به كون النص معلولا ومثال هذا أي
نظير ما ذكرنا أن وصف الثمنية لما لم يمنع من تعدي حكم
التعيين لا يصح الطعن به بأن يقال: هذا النص معلول بهذا
الوصف فلا يصح أن يكون معلولا بوصف آخر, وأن التمسك بالأصل
لما لم يصلح حجة يلزمه صح الطعن باحتمال كون هذا النص
المعين غير معلول وطلب إقامة الدليل على كونه معلولا طعن
الشاهد بالجهل والرق فإن الطعن بالجهل لا يصح وبالرق يصح
على ما قرر في الكتاب متى وجد بالنص شاهدا أي معللا مع ما
ذكر الخصم من الطعن بأنه معلول بالثمنية بطل هذا الطعن
والله أعلم.
(3/442)
|