مختصر التحرير شرح الكوكب المنير

"فَصْلٌ":"الْمَكْرُوهُ ضِدُّ الْمَنْدُوبِ"1 .
"وَهُوَ" لُغَةً ضِدُّ الْمَحْبُوبِ، أَخْذًا مِنْ الْكَرَاهَةِ. وَقِيلَ: مِنْ الْكَرِيهَةِ، وَهِيَ الشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ2.
وَفِي اصْطِلاحِ أَهْلِ الشَّرْعِ: "مَا مُدِحَ تَارِكُهُ، وَلَمْ يُذَمَّ فَاعِلُهُ"3.
فَخَرَجَ بِـ "مَا مُدِحَ": الْمُبَاحُ، فَإِنَّهُ لا مَدْحَ فِيهِ وَلا ذَمَّ.
وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: "تَارِكُهُ": الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ، فَإِنَّ فَاعِلَهُمَا يُمْدَحُ لا تَارِكُهُمَا.
وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: "وَلَمْ يُذَمَّ فَاعِلُهُ": الْحَرَامُ، فَإِنَّهُ يُذَمُّ فَاعِلُهُ، لأَنَّهُ - وَإِنْ شَارَكَ الْمَكْرُوهَ فِي الْمَدْحِ بِالتَّرْكِ- فَإِنَّهُ يُفَارِقُهُ فِي ذَمِّ فَاعِلِهِ4.
"وَلا ثَوَابَ فِي فِعْلِهِ".
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي "فُرُوعِهِ": قَالُوا فِي الأُصُولِ: الْمَكْرُوهُ لا ثَوَابَ فِي فِعْلِهِ. قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُمْ: مَا كُرِهَ بِالذَّاتِ لا بِالْعَرَضِ. قَالَ وَقَدْ يُحْمَلُ قَوْلُهُمْ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَلِهَذَا لَمَّا احْتَجَّ مَنْ كَرِهَ صَلاةَ الْجِنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ
ـــــــ
1 في ش: الواجب، والمكروه ضد المندوب لأن المندوب هو ما طلب الشارع فعله طلباً غير جازم، والمكروه هو ما طلب الشارع تركه طلباً غير جازم. "اننظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص63". كما أن المكروه ضد الواجب، قال الغزالي: "وكما يتضاد الحرام والواجب فيتضاد المكروه والواجب فلا يدخل مكروه تحت الأمر" "المستصفى 1/ 79".
2 انظر: المصباح المنير 2/ 818.
3 انظر في تعريف المكروه "المدخل إلى مذهب أحمد ص63، الإحكام، الآمدي 1/ 122، مختصر الطوفي ص28، نهاية السول 1/ 61، إرشاد الفحول ص6، شرح الورقات ص29، التلويح على التوضيح 3/ 81، التعريفات، للجرجاني ص246".
4 انظر: نهاية السول 1/ 62.

(1/413)


بِالْخَبَرِ الضَّعِيفِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ: "مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الأَجْرِ شَيْءٌ"1، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِالأَجْرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، لا اعْتِقَادًا وَلا بَحْثًا.
"وَهُوَ" أَيْ الْمَكْرُوهُ "تَكْلِيفٌ وَمَنْهِيٌّ2 3 عَنْ حَقِيقَةٍ 3"، لأَنَّ الْعُلَمَاءَ
ـــــــ
1 رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والبيهقي وابن شيبه، قال ابن الجوزي: "حديث لا يصح"، وقال النووي: "إنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به"، وسبب ضعفه أن كل طرقه عن صالح بن أبي صالح مولى التوأمة بنت أمية بن خلف، وصالح اختلط كلامه في آخر عمره، قال البيهقي: "وصالح مختلف في عدالته، كان مالك بن أنس يجرحه"، وفي رواية أبي داود وابن ماجة: "فلا شيء عليه"، وقال البنا الساعاتي: إن الحديث صحيح لأنه سمع من صالح قبل أن يخرف، وحَمل الحديث على نقص الأخر في حق من صلى في المسجد، ورجع ولم يشيعها إلى المقبرة، لما فاته من تشييعه إلى المقبرة وحضور دفنه. "انظر: سنن أبي داود 3/ 282، الفتح الرباني 7/ 248، 249، فيض القدير 6/ 171، سنن ابن ماجة 1/ 486، السنن الكبرى 4/ 52، مسند أحمد: 2/ 444".
2 جمع المصنف رحمه الله تعالى بين حكم التكليف وحكم النهي للمكروه، وفاسه على المندوب، والعبارة توهم بأن الحكم متفق عليه في الأمرين، وقد رأينا سابقاً "ص405-406".
أن المندوب تكليف عند الحنابلة وأبي بكر الباقلاني وأبي إسحاق الإسفراييني، بينما قال أكثر المذاهب والعلماء، إن المندوب ليس تكليفاً، وكذلك قال الجمهور: إن المكروه ليس تكليفاً، خلافاً للحنابلة.
أما كون الأمر حقيقة في المندوب، وكون النهي حقيقة في المكروه فهو رأي حماهير الأئمة والمذاهب، خلافاً للحنفية وبعض الحنابلة وبعض الشافعية الذين يرون أن المندوب مأمور به مجازاً، كما سبق "ص406-407"، ويأتي هذا الخلاف في المكروه، قال ابن الحاجب: المكروه منهي عنه، غير مكلف به كالمندوب، وقال عبد الشكور: المكروه كالمندوب، لا نهي ولا تكليف، والدليل والاختلاف "مسلم الثبوت مع شحه فواتح الرحموت 1/ 112" انظر: مختصر ابن الحاجب وشرح العضد 2/ 5، المسودة ص35، تيسير التحرير 2/ 225، الإحكام، الآمدي 1/ 122، مناهج العقول 1/ 161، حاشية البناني 2/ 225، شرح تنقيح الفصول ص79.
3 في ش: عن حقيقة.

(1/414)


ذَكَرُوا أَنَّهُ عَلَى وِزَانِ1 الْمَنْدُوبِ2. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَنْدُوبَ تَكْلِيفٌ وَمَأْمُورٌ بِهِ حَقِيقَةً3 عَلَى الأَصَحِّ4.
"وَمُطْلَقُ الأَمْرِ5 لا يَتَنَاوَلُهُ" أَيْ لا يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ6.
وَقِيلَ: بَلَى. وَنَقَلَهُ ابْنُ7 السَّمْعَانِيِّ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ8 مِنْ أَصْحَابِنَا: هُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا9.
وَاسْتُدِلَّ لِلأَوَّلِ بِأَنَّ الْمَكْرُوهَ مَطْلُوبُ التَّرْكِ وَالْمَأْمُورَ مَطْلُوبُ الْفِعْلِ، فَيَتَنَافَيَانِ10، وَلا يَصِحُّ الاسْتِدْلال لِصِحَّةِ طَوَافِ الْمُحْدِثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
ـــــــ
1 في ش: زان.
2 انظر: مناهج العقول 1/ 61، المدخل إلى مذهب أحمد ص63، مختصر الطوفي ص28، تيسير التحرير 2/ 225، الإحكام، الآمدي 1/ 122، شرح العضد 2/ 5.
3 ساقطة من ش.
4 صفحة 405-407.
5 انظر بيان ذلك في "المحلي على جمع الجوامع, وتقريرات الشربيني عليه 1/ 197".
6 وهو قول الشافعية وأكثر الحنابلة والجرجاني من الحنفية، لأن مطلق الأمر بالصلاة مثلاً لا يتناول الصلاة المشتملة على السدل ورفع البصر إلى السماء والالتفات ونحو ذلك من المكروهات "انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص63، القواعد والفوائد الأصولية ص107، المستصفى 1/ 79، المحلي على جمع الجوامع 1/ 197، المسودة ص15".
7 ساقطة من ز ع ب ض.
8 هو رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز، أبو محمد التميمي، البغدادي، الفقيه، الواعظ، شيخ الحنابلة، تقديم في الفقه والأصول والتفسير والعربية توفي سنة 488هـ. "انظر: شذرات الذهب 3/ 384، طبقات الحنابلة 2/ 250، ذيل طبقات الحنابلة 1/ 77، المنهج الأحمد 2/ 162، طبقات المفسرين 1/ 171، طبقات القراء 1/ 284".
9 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص907، وهذا ما نقله السبكي عن الحنفية أيضاً "جمع الجوامع 1/ 198".
10 انظر: مختصر الطوفي ص28، القواعد والفوائد الأصولية ص107، المستصفى 1/ 79، المحلي على جمع الجوامع 1/ 199.

(1/415)


{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 1، وَلا لِعَدَمِ التَّرْتِيبِ وَالْمُولاةِ2 بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الْوُضُوءِ: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ} 3.
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَكَذَا4 وَطْءُ الزَّوْجِ الثَّانِي فِي حَيْضٍ لا يُحِلُّهَا لِلأَوَّلِ5.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلافِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 6 فَعِنْدَنَا لا يَتَنَاوَلُ الطَّوَافَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَلا مَنْكُوسًا7. وَعِنْدَهُمْ يَتَنَاوَلُهُ، فَإِنَّهُمْ - وَإِنْ اعْتَقَدُوا كَرَاهَتَهُ- قَالُوا فِيهِ: يُجْزِئُ، لِدُخُولِهِ تَحْتَ الأَمْرِ. وَعِنْدَنَا لا يَدْخُلُ، لأَنَّهُ لا يَجُوزُ أَصْلاً، فَلا طَوَافَ بِدُونِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الطَّهَارَةُ وَوُقُوعُهُ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمَخْصُوصَةِ8.
وَعِبَارَةُ "جَمْعِ الْجَوَامِعِ" كَمَا فِي الْمَتْنِ. وَزَادَ: "خِلافًا لِلْحَنَفِيَّةِ"9.
وَاعْتَرَضَهَا10 شَارِحُهُ الْكُورَانِيُّ بِأَنَّ عَدَمَ التَّنَاوُلِ يُشْعِرُ بِصَلاحِ الْمَحَلِّ، وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ11 فِي الْخَارِجِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَلْ عَدَمُ التَّنَاوُلِ لِعَدَمِ قَابِلِيَّةِ
ـــــــ
1 الآية 29 من الحج.
2 انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص107، المسودة ص51.
3 الآية 6 من المائدة.
4 في ش: وإذا.
5 قال ابن قدامة: واشترط أكثر أصحابنا أن يكون الوطء حلالاً، فإن وطئها في حيض أو نفاس أو إحرام من أحدهما أو منهما، أو أحدهما صائمُ فرضٍ لم تحل، لأنه وطء حرام لحقّ الله تعالى، فلم يحصل به الإحلال. "المغني 7/ 517".
6 الآية 29 من الحج.
7 المنكوس: المقلوب، وهو الذي رجلاه إلى الأعلى، ورأسه إلى الأسفل. "المصباح المنير 2/ 966".
8 انظر: المستصفى 1/ 80.
9 جمع الجوامع 1/ 197-198.
10 في ش: واعتراضهما.
11 في ش: يصح.

(1/416)


الْمَحَلِّ بَعْدَ تَعَلُّقِ الْكَرَاهَةِ1.
وَقَوْلُهُ: "خِلافًا لِلْحَنَفِيَّةِ": صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَائِلُونَ بِأَنَّ الأَمْرَ يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ، وَهَذَا أَمْرٌ لا يُعْقَلُ؛ لأَنَّ الْمُبَاحَ عِنْدَهُمْ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، مَعَ كَوْنِ2 طَرَفَيْهِ عَلَى حَدِّ الْجَوَازِ. فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ3 يَكُونَ الْمَكْرُوهُ مِنْ جُزْئِيَّاتِ4 الْمَأْمُورِ بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّوَرِ؟ وَكُتُبُهُمْ - أُصُولاً وَفُرُوعًا - مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ الصَّلاةَ فِي الأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ فَاسِدَةٌ، حَتَّى الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُطْلَقًا5 انْتَهَى.
ـــــــ
1 هذه المسألة فرع عن مسألة الأمر والنهي في شيء واحد، والعلماء متفقون على أن الأمر والنهي أو الإيجاب والتحريم لا يحتمعان في أمر واحد بالذات، أما إذا كان له جهتان، فإن كانتا متلازمتين فلا يجتمعان كالأول، وإن كانت الجهتان غير متلازمتين فلا مانع من اجتماع الأمر والنهي أو الإيجاب والتحريم في الشيء الواحد لكن العلماء اختلفوا في تلازم الجهتين وعدم تلازمهما، كما اختلف العلماء في متعلق النهي، فقال الجمهور: إن النهي يقتضي الفساد والبطلان، بينما فرق الحنفية بين النهي الوارد على الأصول فإنه يوجب البطلان، وبين النهي الوارد على الوصف فإنه يوجب الفساد، أما النهي الوارد على أمر آخر يجاور الشيء أو يتعلق به، فلا يؤثر عليه، وبناء على ذلك اختلف العلماء في فروع كثيرة كالصلاة في الأرض المغصوبة، فقال الحنابلة بعدم صحتها، لأن الصلاة لا تكون واجبة ومحرومة في أن واحد، وقال الجمهور بصحتها، لأن الوجوب يتعلق بالصلاة، والنهي يتعلق بالغصب، وكالصلاة في الأوقات المكروهة، فقال الحنفية والمالكية بصحتها، لأن النهي على الوقت، وليس على ذات الصلاة، وقال الشافعية والحنابلة بعدم صحتها، لأن الوقت ملازم للصلاة، ثم قال الشافعية تصح الصلاة في الأماكن المكروهة، لأن المكان غير ملازم للصلاة، خلافاً للوقت، واتفق الجميع على عدم صحة الصوم في يوم النحر، لأن صوم يوم النحر لا ينفك في اليوم، ويلخص الشربيي ذلك فيقول: وحاصله تخصيص الدعوى بما يجوز انفكاك الجهتين فيه. "انظر: تقريرات الشربيني على جمع الجوامع 1/ 197-198، حاشية البناني 1/ 201، أصول السرخسي 1/ 89، المسودة ص81، كشف الأسرار 1/ 177 وما بعدها، حاشية ابن عابدين 5/ 49، بدائع الصنائع 5/ 299، الفروق للقرفي 2/ 83، 183، المستصفى 1/ 95".
2 في ع: كونه.
3 في ش: بأن.
4 في ش: جزئياته.
5 إن اعتراض الكوراني على جمع الجوامع غير دقيق، وأن الصلاة في الأوقات المكروهة صحيحة =

(1/417)


"وَهُوَ" أَيْ الْمَكْرُوهُ "فِي عُرْفِ الْمُتَأَخِّرِينَ: لِلتَّنْزِيهِ"، يَعْنِي أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّهُمْ إذَا أَطْلَقُوا الْكَرَاهَةَ، فَمُرَادُهُمْ التَّنْزِيهُ، لا التَّحْرِيمُ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ لا يَمْتَنِعُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْحَرَامِ1، لَكِنْ قَدْ جَرَتْ
ـــــــ
= ناقصة عند الحنفية وليست فاسدة، لأن الحنفية يرون أنّ الوقت ظرف للصلاة، ولذلك فأن تعلق الصلاة بالوقت تعلق مجاورة، فإن شرع المصلي بأداء العصر مثلاً، واستمرت صلاته إلى الوقت المكروه فإن صلاته صحيحة، وليست مكروهة، قال عبيد الله بن مسعود: "لما كان الوقت متسعاً جاز له شغل كل الوقت، فبعض الفساد الذي يتصل بالبناء" ثم يقول: "فاعترض الفساد بالغروب على البعض الفاسد فلا يفسد" "التوضيح على التنقيح 11/ 202". وقال البزدوي: "منها الصلاة وقت طلوع الشمس ودلوكها، مشروعية بأصلها إذ لا قبح في أركانها وشروطها، والوقت صحيح باصله، فاسد بوصفه، وهو أنه منسوب إلى الشيطان، كما جاءت به السنة، إلا أن الصلاة لا توجد بالوقت لأنها ظرفها، لا معيارها، وهو سببها، فصارت الصلاة ناقصة لا فاسدة"، ثم عقب البخاري فقال: "بخلاف الصلاة في الأرض المغصوبة، فإن المكان ليس بسبب ولا وصف، فلا يؤثر في الفساد ولا في النقصان "كشف الأسرار 1/ 277-278"، وقال السرخسي الحنفي: "لأن النهي باعتبار وصف الوقت الذي هو ظرف للأداء يُمَكّنُ نقصاناً في الأداء" "أصول السرخسي 1/ 89"، وأكد الكاساني أن صلاة النفل والتطوع مكروهة في الأوقات المكروهة، "بدائع الصنائع 1/ 295 وما بعدها"، وهذا يبين أن الأمر يتناول المكروه عند الحنفية كما جاء في "جمع الجوامع"، وأن اعترض الكوراني غير صحيح، وأن نقله عن الحنفية غير دقيق، ولذلك قال الشربيني: "فمنازعة النقل عنهم مردودة" "تقريرات الشربيني على جمع الجوامع 1/ 198"، ولكن ابن اللحام نقل عن الحنفية قولين، فقال: قال الجرجاني من الحنفية لا يتناوله، وقال الرازي الحنفي يتناوله "القواعد والفوائد الأصولية ص107" وهو ما نقله المجد بن تيمية في "المسودة ص51".
1 قسم الحنفية المكروه إلى قسمين: مكروه تحريمي، ومكروه تنزيهي، والمكروه التحريمي هو ما طلب الشارع تركه طلباً جازماً بدليل ظني، مثل لبس الحرير والذهب على الرجال الثابت بالحديث الذي رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي حلّ لإناثهم" ومثل البيع علىالبيع، والخطبة على الخطبة، وحكمه أنه إلى الحرام أقرب، وهو قسم من الحرام عند الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف، ويأخذ أحكام الحرام تقريباً من تحريم الفعل وطلب الترك واستحقاق العقاب على الفعل، ولكن لا يكفر جاحده، والمكروه التنزيهي هو ما طلب الشارع تركه طلباً غير جازم "انظر: =

(1/418)


عَادَتُهُمْ وَعُرْفُهُمْ: أَنَّهُمْ إذَا أَطْلَقُوهُ أَرَادُوا التَّنْزِيهَ 1 لا التَّحْرِيمَ"1. وَهَذَا مُصْطَلَحٌ لا مُشَاحَّةَ فِيهِ.
"وَيُطْلَقُ" الْمَكْرُوهُ "عَلَى الْحَرَامِ"2، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلامِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ3. وَمِنْ كَلامِهِ "أَكْرَهُ الْمُتْعَةَ، وَالصَّلاةَ فِي الْمَقَابِرِ" وَهُمَا مُحَرَّمَانِ.
لَكِنْ لَوْ وَرَدَ عَنْ الإِمَامِ أَحْمَدَ الْكَرَاهَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ مِنْ خَارِجٍ عَلَى التَّحْرِيمِ وَلا عَلَى التَّنْزِيهِ: فَلِلأَصْحَابِ فِيهَا وَجْهَانِ:
- أَحَدُهُمَا: - وَاخْتَارَهُ الْخَلاَّلُ وَصَاحِبُهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَابْنُ حَامِدٍ وَغَيْرُهُمْ- أَنَّ الْمُرَادَ التَّحْرِيمُ4.
ـــــــ
= التوضيح 3/ 80، التعريفات للجرجاني ص249، الفتح الكبير 1/ 428".
وقسم بعض الشافعية المكروه إلى قسمين بحسب محل دليل النهي غير الجازم، فإن كان محل النهي مخصوصاً بأمر معين، فهو مكروه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" رواه الستة وأحمد، وأن كان النهي غير الجازم غيرَ مخصوص بأمر معين فيكون فعله خلاف الأولى، كالنهي عن ترك المندوبات. "انظر: حاشية البناني 1/ 80، الإحكام، الآمدي 1/ 122، شرح الورقات ص29، الفتح الكبير 1/ 106، مختصر ابن الحاجب وشرح العضد 2/ 5، المدخل إلى مذهب أحمد ص64، الروضة ص23، القواعد والفوائد الأصولية ص107".
1 ساقطة من ش.
2 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص63، مختصر الطوفي ص29، الروضة ص23، مختصر ابن الحاجب وشرح العضد 2/ 5، إعلان الموقعين 1/ 40 وما بعدها.
3 قال ابن بدران: إن الإمامين أحمد ومالكاً يطلقانه على الحرام الذي يكون ذليله ظنياً تورعاً منهما "المدخل إلى مذهب أحمد ص64" وقال ابن القيم: وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك، حيث تورع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم، وأطلقو لفظ الكراهية، فنفى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة الكراهية "إعلان الموقعين 1/ 39".
4 انظر: الإنصاف 12/ 248.

(1/419)


- وَالثَّانِي: - وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الأَصْحَابِ-: أَنَّ الْمُرَادَ التَّنْزِيهُ1.
وَمِنْ كَلامِ أَحْمَدَ: "أَكْرَهُ النَّفْخَ فِي الطَّعَامِ، وَإِدْمَانَ اللَّحْمِ وَالْخُبْزِ الْكِبَارِ"2، وَكَرَاهَةُ ذَلِكَ لِلتَّنْزِيهِ.
وَقَدْ وَرَدَ الْمَكْرُوهُ بِمَعْنَى الْحَرَامِ فِي قَوْله تَعَالَى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} 3.
"وَتَرْكُ الأَوْلَى4، وَهُوَ" أَيْ تَرْكُ الأَوْلَى "تَرْكُ مَا فِعْلُهُ رَاجِحٌ" عَلَى تَرْكِهِ "أَوْ عَكْسُهُ" وَهُوَ فِعْلُ مَا تَرْكُهُ رَاجِحٌ عَلَى فِعْلِهِ "وَلَوْ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ" أَيْ عَنْ التَّرْكِ "كَتَرْكِ مَنْدُوبٍ".
قَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ: وَتُطْلَقُ الْكَرَاهَةُ فِي الشَّرْعِ بِالاشْتِرَاكِ عَلَى الْحَرَامِ، وَعَلَى تَرْكِ الأَوْلَى، وَعَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ. وَقَدْ يُزَادُ: مَا فِيهِ شُبْهَةٌ وَتَرَدُّدٌ5.
"وَيُقَالُ لِفَاعِلِهِ" أَيْ فَاعِلِ الْمَكْرُوهِ "مُخَالِفٌ، وَمُسِيءٌ، وَغَيْرُ مُمْتَثِلٍ"6، مَعَ أَنَّهُ لا يُذَمُّ فَاعِلُهُ، وَلا يَأْثَمُ عَلَى الأَصَحِّ.
قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِيمَنْ زَادَ عَلَى التَّشَهُّدِ الأَوَّلِ7-: أساء.
ـــــــ
1 وهو قول الطوفي "انظر: مختصر الطوفي ص29، الإنصاف 12/ 247".
2 وكراهية الخبز الكبار لأنه ليس فيه بركة كما قال الإمام أحمد "انظر: كشاف القناع 6/ 195".
3 الآية 38 من الإسراء.
4 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص63، مختصر الطوفي ص29، تيسير التحرير 2/ 225، مختصر ابن الحاجب وشرح العضد: 2/ 5.
5 وهذا ما قاله الآمدي، "الإحكام، له 1/ 122" وانظر: إرشاد الفحول ص6، تيسير التحرير 2/ 225.
6 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص64.
7 ساقطة من ش.

(1/420)


وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ - فِيمَنْ أُمِرَ بِحَجَّةٍ1 أَوْ عُمْرَةٍ فِي شَهْرٍ، فَفَعَلَهُ فِي غَيْرِهِ-: أَسَاءَ لِمُخَالَفَتِهِ.
وَذَكَرَ غَيْرُهُ - فِي مَأْمُومٍ وَافَقَ إمَامًا فِي أَفْعَالِهِ -: أَسَاءَ.
وَظَاهِرُ كَلامِ بَعْضِهِمْ: تَخْتَصُّ الإِسَاءَةُ بِالْحَرَامِ. فَلا يُقَالُ: أَسَاءَ، إلاَّ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ2.
وَذَكَرَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: يَأْثَمُ بِتَرْكِ السُّنَنِ أَكْثَرَ عُمْرِهِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ3. وَلأَنَّهُ مُتَّهَمٌ أَنْ يَعْتَقِدَهُ غَيْرَ سُنَّةٍ، وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَنْ تَرَكَ الْوِتْرَ-: رَجُلُ سُوءٍ، مَعَ أَنَّهُ سُنَّةٌ4.
قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ": وَاَلَّذِي يَظْهَرُ: أَنَّ إطْلاقَ الإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ رَجُلُ سُوءٍ، إنَّمَا مُرَادُهُ مَنْ اعْتَقَدَ5 أَنَّهُ غَيْرُ6 سُنَّةٍ، وَتَرَكَهُ لِذَلِكَ. فَيَبْقَى كَأَنَّهُ اعْتَقَدَ السُّنَّةَ الَّتِي سَنّهَا الرَّسُولُ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] غَيْرَ سُنَّةٍ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وَمُعَانِدٌ لِمَا سَنَّهُ، أَوْ أَنَّهُ تَرَكَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَتَرْكُهُ لَهُ7 كَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي قَلْبِهِ مَا لا يُرِيدُهُ الرَّسُولُ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]8.
ـــــــ
1 في ش: بحجّ.
2 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص64.
3 رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد من حديث طويل عن أنس، ورواه مسلم وأبو داود والدارمي عن عائشة.. وأوله: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته..." والمراد بالسنة: الطريقة، والرغبة عن السنة: الإعراض عنها، وأراد صلى الله عليه وسلم أن التارك لهديه القويم، المائل إلى الرهبانية خارج عن الاتباع، أو معناه: من تركها إعراضاً عنها، غير معتقد لها على ما هي عليه. "انظر: صحيح البخاري بحاشية السندي 3/ 237، صحيح مسلم 2/ 102، نيل الأوطار 6/ 113، 117، سنن النسائي 6/ 50، مسند أحمد 3/ 241، سنن الدارمي 2/ 133".
4 انظر: المدخل إلى مذهب أحمد ص64.
5 في ب: اعتقده.
6 في ب: غيره.
7 ساقطة من ش.
8 انظر: شرح الورقات ص26.

(1/421)