مختصر التحرير شرح الكوكب المنير

فصل في عدم الكلام في مجالس الخوف ونحوه
...
"فَصْلٌ"
قَالَ الْعُلَمَاءُ: احْذَرْ الْكَلامَ فِي مَجَالِسِ الْخَوْفِ، فَإِنَّ الْخَوْفَ يُذْهِلُ1 الْعَقْلَ الَّذِي مِنْهُ يَسْتَمِدُّ2 الْمُنَاظِرُ حُجَّتَهُ، وَيَسْتَقِي مِنْهُ الرَّأْيَ فِي دَفْعِ شُبُهَاتِ الْخَصْمِ، وَإِنَّمَا يُذْهِلُهُ وَيَشْغَلُهُ بِطَلَبِهِ حِرَاسَةَ نَفْسِهِ، الَّتِي هِيَ3 أَهَمُّ مِنْ مَذْهَبِهِ وَدَلِيلِ مَذْهَبِهِ، فَاجْتَنِبْ مُكَالَمَةَ مَنْ تَخَافُ، فَإِنَّهَا مُمِيتَةٌ لِلْخَوَاطِرِ، مَانِعَةٌ مِنْ التَّثَبُّتِ4.
وَاحْذَرْ مُكَالَمَةَ5 مَنْ اشْتَدَّ بُغْضُك إيَّاهُ، فَإِنَّهَا6 دَاعِيَةٌ إلَى الضَّجَرِ وَالْغَضَبِ، مِنْ قِلَّةِ مَا يَكُونُ مِنْهُ و7َالضَّجَرُ، وَالْغَضَبُ مُضَيِّقٌ لِلصَّدْرِ، وَمُضْعِفٌ لِقُوَى الْعَقْلِ8.
ـــــــ
1 في ض: يذهب.
2 في ض: يستمد منه.
3 ساقطة من ز.
4 في ش: التثبيت.
5 في ب ض ز: كلام.
6 في ب ض ز: فإنه.
7 ساقطة من ش.
8 في ز: العقول.

(4/387)


وَاحْذَرْ الْمَحَافِلَ الَّتِي لا إنْصَافَ فِيهَا فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَك وَبَيْنَ خَصْمِك فِي الإِقْبَالِ وَالاسْتِمَاعِ، وَلا أَدَبَ لَهُمْ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الشَّرْعِ إلَى الْحُكْمِ عَلَيْك، وَمِنْ إظْهَارِ الْعَصَبِيَّةِ لِخَصْمِك.
وَالاعْتِرَاضُ يَخْلُقُ الْكَلامَ، وَيُذْهِبُ بَهْجَةَ الْمَعَانِي بِمَا يُلْجَأُ إلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ التَّرْدَادِ. وَمَنْ تَرَكَ التَّرْدَادَ مَعَ الاعْتِرَاضِ: انْقَطَعَ كَلامُهُ وَبَطَلَتْ مَعَانِيهِ.
وَاحْذَرْ اسْتِصْغَارَ خَصْمِك، فَإِنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ التَّحَفُّظِ، وَيُثَبِّطُ عَنْ الْمُغَالَبَةِ1، وَلَعَلَّ الْكَلامَ يُحْكَى فَيُعْتَدُّ عَلَيْك بِالتَّقْصِيرِ.
وَاحْذَرْ كَلامَ مَنْ لا يَفْهَمُ عَنْكَ، فَإِنَّهُ يُضْجِرُكَ وَيُغْضِبُكَ إلاَّ أَنْ يَكُونَ2 لَهُ3 غَرِيزَةٌ صَحِيحَةٌ، وَيَكُونَ الَّذِي بَطَّأَ بِهِ عَنْ الْفَهْمِ فَقْدُ الاعْتِيَادِ، فَهَذَا خَلِيلٌ4 مُسْتَرْشِدٌ فَعَلِّمْهُ، وَلَيْسَ بِخَصْمٍ فَتُجَادِلُهُ وَتُنَازِعُهُ.
وَقَدِّرْ فِي نَفْسِك الصَّبْرَ وَالْحِلْمَ5 لِئَلاَّ تَسْتَفِزّكَ6 بَغَتَاتُ7
ـــــــ
1 في ب ز: المبالغة.
2 في ض ز: تكون.
3 في ش: لك.
4 في ض: جليل.
5 في ش: والحكم.
6 في ض: يستفزك.
7 في ش: لفتات.

(4/388)


الإِغْضَابِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحِلْمِ خَاصَّةٌ1 تُجْتَلَبُ، لَكَانَتْ مَعُونَةً عَلَى الْمُنَاظَرَةِ تُوجِبُ إضَافَتَهُ إلَيْهَا.
وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ الانْقِطَاعِ إلاَّ مَنْ قَرَنَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - بِالْعِصْمَةِ مِنْ الزَّلَلِ، وَلَيْسَ حَدُّ الْعَالِمِ: أَنْ يَكُونَ حَاذِقًا بِالْجَدَلِ، فَالْعِلْمُ2 بِضَاعَةٌ3، وَالْجَدَلُ صِنَاعَةٌ، إلاَّ أَنَّ مَادَّةَ الْجَدَلِ وَالْمُجَادِلِ تَحْتَاجُ4 إلَى5 الْعَالِمِ، وَالْعَالِمُ لا يَحْتَاجُ فِي عِلْمِهِ إلَى الْمُجَادِلِ، كَمَا يَحْتَاجُ الْمُجَادِلُ فِي جَدَلِهِ إلَى الْعَالِمِ.
وَلَيْسَ حَدُّ الْجَدَلِ بِالْمُجَادَلَةِ: أَنْ لا6 يَنْقَطِعَ الْمُجَادِلُ أَبَدًا، أَوْ7 لا يَكُونَ مِنْهُ انْقِطَاعٌ كَثِيرٌ إذَا كَثُرَتْ مُجَادَلَتُهُ. وَلَكِنَّ الْمُجَادِلَ: مَنْ كَانَ طَرِيقُهُ فِي الْجَدَلِ مَحْمُودًا، وَإِنْ نَالَهُ الانْقِطَاعُ لِبَعْضِ8 الآفَاتِ9 الَّتِي تُعْرَفُ10. ثُمَّ قَالَ:
ـــــــ
1 في ب ز: خاصة لها.
2 في ض: والعلم.
3 في ب ض ز: صناعة.
4 في ض: يحتاج.
5 في ض: إليه.
6 ساقطة من ض.
7 في ب ض ز: و.
8 في ش: في بعض.
9 في ش: الأوقات.
10 انظر: الكافية في الجدل ص 530 وما بعدها، الجدل لابن عقيل ص 2، المنهاج في ترتيب الحجاج ص 10.

(4/389)