الإيجاز في شرح
سنن أبي داود السجستاني بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله رب العالمين، اللهمَّ صل على محمد، وعلى آل
محمدٍ وسلم، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فهده نُبَذٌ مهمةٌ في "شرح سنن أبي داود" رحمه اللهُ أقتصر
فيها على عيون الكلام، مما يتعلَّق بلغاته وألفاظه
وأسانيده ودقائقه، وضبط ما قد يُشكل من ألفاظ المتون
والأسماء، والإشارة إلى بعض ما يستنبط من الحديث من
الأحكام وغيرها، والتنبيه على صحَّة الحديث أو حُسْنه أو
ضَعْفه، وبيان صواب ما تَخْتَلفُ فيه النُّسخ، وبالله
التوفيق.
1 - فصل
رُوينا عن الإمام أبي داود صاحب الكتاب رحمه الله أنه قال:
"ذَكَرْتُ في كتابي هذا الصحيح وما يُشبهه ويقاربه". وفي
رواية عنه ما معناه أنه يذكر في كلِّ بابٍ أصَحَّ ما
عَرَفَهُ في ذلك الباب (1)، وقال (2): "ما كان في كتابي
__________
(1) قال الإمام أبو داود رحمه الله في "رسالته إلى أهل
مكة" (ص 30): "أما بعد؛ عافانا الله وإياكم عافية لا مكروه
معها، ولا عقاب بعدها، فإنكم سألتم أن أذكر لكم الأحاديث
التي في "كتاب السنن"، أهي أصح ما عرفت في الباب؟ ووقفت
على جميع ما ذكرتم فاعلموا أنه كذلك كله".
ففي هذا الكلام منه رحمه الله بيانٌ لمنهجه فيه، وهو أنه
يذكر أصح ما عرفه في الباب، وقد ذكر بعد ذلك استثناء لما
قد يشذ عن المنهج الذي انتهجه رحمه الله.
(2) "رسالته إلى أهل مكة" (ص 37 - 38).
(1/47)
من حديث فيه وهنٌ شديد فقد بَيَّنْتُه (1)،
وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح (2)،
__________
(1) بعدها في "الرسالة": "فقد بينته، ومنه ما لا يصح
سنده"، والظاهر من هذه العبارة، أن أبا داود رحمه اللهُ قد
يبين أمرًا في الإسناد، لا ينزل به إلى درجة الوهن الشديد،
وإنما قد يكون ما نبه عليه من باب الحديث أبو الحسن، أو
الضعيف ضعفًا يسيرًا والذي يقبل الاعتضاد والله أعلم. ووقع
في "سننه" حديثان فيهما ضعف شديد، هما:
الأول: حديث على إثر رقم (3064، 3065) وفي إسناده محمد بن
الحسن المخزومي، قال شيخنا عنه في "ضعيف سنن أبي داود":
"ضعيف جدًّا".
قلت: فيه ابن زبالة، وسيأتي الجواب عنه في التعليق على (ص
52) ".
والآخر: حديث رقم (3259) وحكم عليه شيخنا بـ (الضعف) فقط-
وفيه يحيى بن العلاء البجلي، قال أحمد عنه: "كذاب يضع
الحديث". وتركه الفلاس والنسائي والدارقطني.
إلا أن أبا داود قال عنه: "ضعّفوه"، فهو يعرف ضعفه، ولعله
ليس بشديد عنده، والله أعلم!. وانظر كلمة الذهبي في
"السير" (13/ 214 - 215).
وستأتي برمتها قريبًا.
(2) شرح الحافظ ابن حجر رحمه الله هذه الكلمة شرحًا وافيًا
في "النكت على مقدمة ابن الصلاح" (1/ 435 - 445)، ومما قال
بعد تحقيق وكلام: "وهذا جميعه إن حملنا قوله: "وما لم أقل
فيه شيئًا فهو صالح" على أن مراده أنه صالح للحُجَّة، وهو
الظاهر، وإن حملناه على ما هو أعَمَّ من ذلك؛ وهو الصلاحية
للحجة أو للاستشهاد أو للمتابعة، فلا يلزم منه أنه يحتج
بالضعيف. ويحتاج إلى تأمل تلك المواضع التي يسكت عليها وهي
ضعيفة، هل فيها أفراد أم لا؟ إن وجد فيها أفراد تعيَّن
الحمل على الأول، وإلا حمل على الثاني، وعلى كل تقدير، فلا
يصلح ما سكت عليه للاحتجاج مطلقاً".
قال أبو عبيدة: الذي تعامل به أهل الصنعة الحديثية،
والمخرجون أن سكوت أبي داود في "سننه" أوسع من كونه
(صالحًا) للحجة؛ بل يشمل الاعتضاد، ولذا تعقب شيخنا
الألباني في مقالته المنشورة في مجلة "المسلمون" (6/ 1007
- 1012) صاحب كتاب "التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول"
لما قال على إثر الحديث المسكوت عليه عند أبي داود:
"إسناده صالح" =
(1/48)
وبعضها أصحُّ من بعض" (1).
__________
= قال: "يوهم بذلك القراء الدين لا علم عندهم باصطلاحات
العلماء أنه صالحٌ حجةً أي أنه حسن أو صحيح، كما هو
الاصطلاح الغالب عند العلماء، وهو المتبادر من هذه اللفظة
(صالح)، مع أن فيما سكت عليه أبو داود كثيرًا من الضعاف،
ذلك لأن له فيها اصطلاحًا خاصًّا، فهو يعني بها ما هو أعم
من ذلك بحيث يشمل الضعيف الصالح للاستشهاد به لا للاحتجاج
كما يشمل ما فوقه، على ما قرره الحافظ ابن حجر، فما جرى
عليه بعض المتأخرين من أن ما سكت عليه أبو داود فهو حسن،
خطأ محض، يدل عليه قول أبي داود نفسه: "وما فيه وهن شديد
بينته، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من
بعض". فهذا نص على أنه إنما يبين ما فيه ضعف شديد، وما كان
فيه ضعف غير شديد سكت عليه وسماه صالحًا، من أجل ذلك نجد
العلماء المحققين يتتبعون ما سكت عليه أبو داود ببيان حاله
من صحة أو ضعف، حتى قال النووي (أ) في بعض هذه الأحاديث
الضعيفة عنده: "وإنما لم يصرِّح أبو داود بضعفه لأنه
ظاهر". ذكره المناوي، وعليه كان ينبغي على المصنف أن يعقب
كل حديث رواه أبو داود ساكتًا عن ضعفه ببيان حاله تبعًا
للعلماء المحققين، لا بأن يتبعه بقوله: "صالح". وإن كان
ضعيفًا بين الضعف؛ دفعًا للوهم الذي ذكرنا، ولأنه لا يفهم
منه على الضبط درجة الحديث التي تعهد المؤلف بيانها بقوله
المذكرر في مقدمة كتابه: "كل حديث سكت عنه أبو داود فهو
صالح" وسأتبع ذلك في بيان درجة ما رواه بقولي: "بسند صالح
". وليس في قوله البيان المذكرر، لما حققته آنفًا أن قول
أبي داود "صالح" يشمل الضعيف والحسن والصحيح، فأين
البيان؟! ".
وانظر لزامًا "بذل المجهود" (ص 27 - 28) للسخاوي، فإنه
مهم.
(1) نقلها المصنِّف في مقدمة "خلاصة الأحكام في مهمات
السنن وقواعد الإسلام" (1/ 61) وقال على إثرها: "هذا
الفقه، ومقتضاه أن ما أطلقه أبو داود فهو صحيح أو حسن
يُحْتَجُّ به، إلا أن يظهر فيه ما يقتضي ضَعْفَه". =
__________
(أ) في كتابنا هذا (ص 56).
(1/49)
فعلى هذا، ما وجدنا في "سنن أبي داود" وليس
هو في "الصحيحين" أو أحدهما، لا نص على صِحَّته أو حسنه
أحدٌ ممن يعتمد، ولم يُضَعّفْه أبو داود، فهو حَسَنٌ عند
أبي داود أو صحيح، فنحكمُ بالقدر المحقق: وهو أنه حَسَنٌ
(1)، فإن نَصَّ على ضَعْفِهِ من يُعتمد، أو رأى العارفُ في
...
__________
= قلت: وروي عن أبي داود أنه قال: "وما سكتُّ عنه فهو
حسن". كذا في "الباعث الحثيث" (ص. ن. ط الفيحاء)! وهذه
الرواية تخالف كلامه المتقدم وهو قوله: "فهو صالح". وهذا
هو المعروف عنه، فقول: "فهو حسن" شاذٌّ لم يثبت عنه،
ووجِّهت هذه الرواية -على تقدير صحتها- بأنها حسن للاحتجاج
به، وهو معنى الاعتبار، انظر "النكت الوفية" (ق 72/ ب- 73/
أ).
وطوَّل البقاعي في "النكت الوفية" (73/ أ) تقرير قول أبي
داود: "وبعضها أصح من بعض" أنه لا يقتضي اشتراكًا في
الصحة، وإنما مراده المفاضلة بين الأحاديث في الاحتجاج،
وإن بعضها أقوى في باب الاحتجاج من بعض، لا المشاركة في
نفس الصحة، قال: "فظهر بهذا أن (أصح). ليست على بابها".
قاله في سياق مهم، وسيأتيك كلامه بطوله قريبًا فانظره غير
مأمور، وتجد هناك كلامًا للسخاوي يخص هذه العبارة،
فتأمَّله، والله الموفق.
(1) هذا تقرير ابن الصلاح في "علومه" وتعقّب:
تعقّبه ابنُ رشيد بأن قال: "ليس يلزم أن يستفاد من كون
الحديث لم ينص عليه أبو داود بضعف ولا نص عليه غيره لصحة
أن الحديث عند أبي داود حسن، إذ قد يكون عنده صحيحًا، وان
لم يكن عند غيره كذلك". نقلهُ ابن سيد الناس في "النفح
الشذي" (1/ 218) وقال: "وهذا تعقب حسن".
ونظمه العراقي في "ألفيته" (1/ 96 - 98 مع "التذكرة")،
ونقل في "التقييد والإيضاح" (53) هذا، وقال بعد كلام:
"والاحتياط أن يقال (صالح) كما عبَّر هو عن نفسه". وسيأتيك
أن قول ابن رشيد صحيح من جهة، ومنتقد من جهة أخرى، وأفصح
البقاعي في "النكت الوفية" (ق 72/ ب- 73/ أ) عن ذلك لما
قال مُتعقِّبًا كلام النووي هذا: " ... وعلى تقدير تسليم
أن مراده =
(1/50)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= صالح للاحتجاج، ولا يستلزم الحكم بتحسين ما سكت عليه،
فإنه يرى الاحتجاج بالضعيف إذا لم يجد في الباب غيره ..
اقتداء بأحمد -رضي الله عنه-".
قال أبو عبيدة: هنا تنبيهات مهمات:
الأول: ما قرَّره البقاعي هو الصواب، وسبقه إليه غير واحد
من المحققين، وتبعه عليه جماعة، وسيأتي بيان ذلك مفصَّلاً
إن شاء الله تعالى.
الثاني: هنالك جماعات من الرواة سكت عليهم أبو داود في
"سننه"، وتكلم عليهم في "سؤالات الآجري" له بما يشعر بصحةِ
التوجيه المنقول آنفًا عن البقاعي، إذا قدْح أبي داود فيهم
ليس بشديد وبعضهم من الثقات، وأسوق لك أسماء هؤلاء الرواة
-ويمكنك أن تقف على قول أبي داود فيهم من "التهذيب"- وخرج
لهم في "سننه" وسكت عنهم: إبراهيم بن مهاجر البجلي، أسامة
بن زيد الليثي مولاهم، إسماعيل بن عبد الملك بن أبي
الصفيراء، بكير بن عامر البَجَليّ، تمام بن نجيح الأسدي،
ثابت بن قيس الفقاري، الحسين بن علي الأسود -ولابن حجر
تفصيل مفيد فيما نحن بصدده، فلينظر لزامًا- الحسين بن علي
بن مسلم الحنفي، خصيف بن عبد الرحمن الجزري، سفيان بن حسين
بن أبو الحسن، سلمة بن أبو الفضل الأبرش، سليمان بن كثير
العبدي، سليمان بن موسى الزهري، شريك بن أبو عبد الله
القاضي، صالح بن أبي الاخضر، الضَّحَّاك بن عثمان، عاصم بن
أبو عبد الله العمري، عبادة بن راشد التَّميمي، عباد بن
منصور الباجي، عبد الله بن عمر الرعيني، عبد الله بن
لهيعة، عبد الرحمن بن أبو إسحاق الواسطي، عبد الرحمن ابن
ثابت العنسي، عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، عبد الرحمن بن
عثمان أبو بحر البكراوي، عبد الرحمن بن معاوية الأنصاري،
عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روَّاد، عبيد الله بن أبو
عبد الله العتكي، عبيد الله بن أبي زياد القداح، عبيد الله
بن زحر، عتبة بن أبي الحكم الهمداني، عطية بن سعد العوفي،
عكرمة بن عمار، عمارة بن زاذان، عمران بن دوار العمط، غسان
ابن عوف المازني، فرج بن فضالة، فليح بن سليمان، ليث بن
أبي سُليم، محمد بن بكر البرساني، محمد بن ثابت العبدي،
محمد بن الحسين بن زبالة -ولابن حجر كلام مهم يؤكد ما نحن
بصدده فلينظر =
(1/51)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= لزامًا- محمد ابن عيسى بن سميع، محمد بن مسلم بن سوسن،
محمد بن مسلم بن أبي وضاح، مخلد بن يزيد، مسكين بن بكير
الحراني، مصعب بن شيبة، مطر بن طهمان الوراق، منصور بن عبد
الرحمن الغداني، المنهال بن خليفة العجلي، موسى بن يعقوب
بن زمعة المدني، النعمان بن راشد الجزري، النهاس بن قَهم
القيسي، الوليد بن أبو عبد الله بن أبي ثور، الوليد بن أبو
عبد الله بن جميع الزهري، يحيى بن سلمة بن كهيل، يحيى بن
العلاء البجلي، يزيد بن أبي زياد القرشي، يونس بن بكير بن
واصل الشيباني، يونس بن الحارث الثقفي، أبو بكر بن أبو عبد
الله بن أبي مريم الغساني. وهؤلاء حقًّا -باستثناء بن
زبالة- ليس فيهم كذاب، وقد صرح أبو داود نفسه بكذب محمد بن
أبو الحسن بن زبالة، ولذا قال ابن حجر في "التهذيب" (7/
107) في ترجمته متعقبًا: "لم يخرج له أبو داود شيئًا".
قال: "وكيف يخرج له وقد صرّح بكذبه، ثم تفسيره الذي ذكره
أبو داود قد رواه الطبراني، بعد أن روى الحديث من طريق
هارون عنه بسنده فيه إلى أبيض ثم أعقبه بتفسيره، فلو كان
أبو داود يقصد الإخراج له، لأخرج حديثه كما صنع الطبراني"
انتهى.
الثالث: الظاهر من السياق أن المسكوت عنه في "السنن" هو
فقط الذي يحكم بأنه (صالح). ولذا قال ابن كثير في "اختصار
علوم الحديث" (ص 50 - 51): "وما سكت عليه فهو حسن: ما سكت
عليه في "سننه" فقط، أو مطلقًا؟ هذا مما ينبغي التنبيه
عليه، والتيقظ له".
الرابع: قول المصنف: "وليس هو في "الصحيحين" أو أحدهما"
مما ينبغي أن يعلم: أن هناك أحاديث كثيرة سكت عنها أبو
داود في "سننه" وهي في "الصحيحين" أو أحدهما.
ومن خلال تتبع تخريج شيخنا الألباني لـ "سنن أبي داود"
ووضعه الرموز (ق) للمتفق عليه (خ) للبخاري و (م) لمسلم نجد
أن نحو (850) حديثًا في "السنن" سكت عنها أبو داود وأصولها
في "الصحيحين" وهذه نماذج من ذلك:
(1/52)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
رقم الحديث في "السنن" ... رقمه في "صحيح البخاري" ...
رقمه في "صحيح مسلم"
4 ... 142 ... 375/ 221
9 ... 144 ... 264/ 59
12 ... 145 ... 266/ 61، 62
20 ... 216 ... 292/ 111
23 ... 224 ... 273/ 73، 74
31 ... 154 ... 276/ 64، 65
43 ... 150 - 152 ... 270، 271
49 ... 244 ... 254/ 45
55 ... 245 ... 254/ 45
60 ... 5954 ... 225/ 2
وينظر من "السنن" الأرقام (103، 106، 118، 119، 176، 196،
199، 391، 397، 398، 401، 402، 407، 409، 412، 417، 423،
... ) وهنالك أحاديث في "سنن أبي داود" ومسكوت عنها، وهي
عند البخاري في "صحيحه" ويبلغ عددها نحو المئتين، وهذا
نموذج للمقارنة:
رقمه في "سنن أبي داود" ... رقمه في "صحيح البخاري"
79 ... 193
100 ... 197
138 ... 157
253 ... 277
307 ... 326
358 ... 312
451 ... 446
529 ... 641
542 ... 643
627 ... 360
وهنالك أحاديث في "سنن أبي داود" ومسكوت عنها، وهي عند
مسلم في "صحيحه" ويبلغ عددها نحو ست مئة حديث، وهذا نموذج
للمقارنة:
(1/53)
سنده ما يقتضي الضَّعْفَ ولا جابر له،
حَكَمْنا بِضَعْفِهِ (1).
__________
الرقم في "سنن أبي داود" ... الرقم في "صحيح مسلم"
7 ... 262
16 ... 370
18 ... 373
25 ... 269
38 ... 263
51 ... 253
53 ... 261
58 ... 256
71 ... 279
120 ... 236
وهنالك أحاديث كثيرة في "سنن أبي داود" ومسكوت عنها وهي
(صحيحة): ويزيد عددها على الألف وأربع مئة حديث.
بقي التنبيه على وجود أحاديث في "السنن" وهي ضعيفة، وسكت
عنها أبو داود، ويبلغ عددها نحو الأربع مئة والثمانين
حديثًا. انظر: "السنن" الأرقام "3، 5، 22، 27، 29، 35، 42،
90، 91، 95، 127، 133، 135،134، 246،244، 247، 249، 256،
257، 270، 271، 281، 302، 313، 328، 348، 359، 388، 408،
450، 452، 457، 458، 461، 464، 484، 488، 490، 491، 497،
512، 513، 514، 528، 530، 543، 545، 546، 577، 578، 593،
617، 633، 639، 659، 669، 670، 677، ... ".
وهذا كله يؤكد صحة ما قدمناه من أن مراد أبي داود بـ
(صالح) أوسع من الاحتجاج. وهذا الذي توصل إليه أخونا
الباحث أبو العباس نصر بن صالح الخولاني في كتابه "القول
الراجح فيما سكت عنه الإمام أبو داود وقال بأنه صالح". وقد
استفدتُ من دراسته هذا في الهامش السابق، والله الموفِّق.
(1) قال المصنِّف رحمه الله في "التقريب" (ص 30) في معرض
حديثه عن (الحديث أبو الحسن): "ومن مظانه: "سنن أبي داود"،
فقد جاء عنه أنه يذكر فيه الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وما
كان فيه وهنٌ شديدٌ بيّنه، وما لم يذكر فيه شيئًا فهو
صالح. =
(1/54)
وقد قال الحافظ أبو عبد الله بن منده (1):
"إن أبا داود يخرج الإسناد
__________
= فعلى هذا؛ ما وجدناه في كتابه مطلقًا ولم يصححه غيره من
المعتمدين ولا ضعّفه؛ فهو حسن عند أبي داود".
وقد نقل هذه الكلمة -وهي شبيهة بكلامه هنا- الحافظ ابن حجر
في "النكت" (1/ 444 - 445) ثم قال: "قلت: وهذا هو التحقيق"
لكنه خالف ذلك في مواضع من "شرح المهذب"، وغيره من
تصانيفه، فاحتج بأحاديث كثيرة من أجل سكوت أبي داود عليها،
فلا يغتر بذلك".
قال أبو عبيدة: وهنالك مأخذ آخر مهم على كلام النووي
السابق! وهو: أنه أشعر أن للعارف النظر في قسم واحد مما
سكت عليه أبو داود، وهو ما وصفه أحد غيره بالضعف، ولذا
تعقبه السخاوي في "فتح المغيث" (1/ 76) فقال -بعد أن نقل
كلامه المَزْبورِ هنا بتصرف-: "وما أشعر به كلامه من
التفرقة بين الضعيف وغيره فيه نظر. والتحقيق التمييز لمن
له أهلية النظر، وردّ المسكوت عليه إلى ما يليق بحاله من
صحةٍ وحسنٍ وغيرهما كما هو المعتمد، ورجحه هو -أي النووي-
وإن كان رحمه الله قد أقرّ في مختصرَيه -أي: "الإرشاد" و
"التقريب"- ابن الصلاح على دعواه هنا -أي بتحسين ما سكت
عليه أبو داود-". ثم قال: "وممن لم يكن ذا تمييز؛ فالأحوط
أن يقول في المسكوت عليه (صالح) كما هي عبارته"!! وانظر ما
قدمناه سابقًا عن شيخنا الألباني رحمه الله تعالى.
(1) هو محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده (ت 395 هـ)
وكلامه في كتابه "شروط الأئمة" (73) قال على إثر سماعه من
محمد بن سعد البارودي بمصر قوله: "كان من مذهب النسائي أن
يخرِّج عن كل مَنْ لم يجمع على تركه". قال: "وكان أبو داود
السِّجستاني كذلك يأخذ مأخذه، ويخرج الإسناد الضعيف؛ لأنه
أقوى عنده من رأي الرجال"، فليس عنده "إذا لم يجد في الباب
غيره"، مع أنها في "التقريب" للنووي، وذكرها ابن الصلاح في
"علوم الحديث" (ص 33/ 34) وهي في "النكت على ابن الصلاح"
(1/ 322) و "توضيح الأفكار" (1/ 211).
ونقل المنذري في "مختصر سنن أبي داود" (8/ 149) عن ابن
منده قوله: "إن شرط أبي داود إخراج حديث قوم لم يجمع على
تركهم إذا صحّ الحديث باتصال الإسناد من غير قطع ولا
إرسال".
(1/55)
الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره؛ لأنه
أقوى عنده من رأي الرجال".
واعلم أنه وقع في "سنن أبي داود" أحاديث ظاهرة الضعف لم
يُبَيِّنْها، مع أنها مُتفقٌ على ضَعْفها عند المحدثين:
كالمرسل والمنقطع، وروايته عن مجهول: كشيخ ورجلٍ ونحوه.
فقد يقال: إن هذا مخالف لقوله: "ما كان فيه وهن شديد
بَيَّنْتُه"!
وجوابه: أنه لمَّا كان ضعف هذا النوع ظاهرًا، استغنى
بظهوره عن التصريح ببيانه (1).
2 - فصل
ينبغي للمشتغل بالفقه ولغيره الاعتناء بـ"سنن أبي داود"،
وبمعرفته التامة، فإن معظم أحاديث الأحكام التي يحتجُّ بها
فيه، مع سهولة متناوله، وتلخيص أحاديثه، وبراعة
مُصَنَّفِهِ، واعتنائه بتهذيبه (2).
__________
(1) قال النووي في "خلاصة الأحكام" (1/ 60): "واعلم أن
"سنن أبي داود والترمذي والنسائي" فيها الصحيح والحسن
والضعيف، لكن ضعفُها يسير".
ونقل ابن الملقن في "البدر المنير" (1/ 301 - 302) جل هذا
الفصل عن النووي وعزاه له، وقال بعد ذكره لأجوبة أخرى غير
المذكورة هنا وختم بجواب النووي هذا، وقال: "قلت: فعلى كل
حال لا بد من تأويل كلام أبي داود، والحق فيه ما قرره
النووي".
(2) قال أبو داود في "رسالته" (ص 46): "ولا أعلم بعد
القرآن ألزمَ للناس أن يتعلّموا من هذا الكتاب، ولا يضر
رجلا أن لا يكتب من العلم -بعدما يكتب هذا الكتاب- شيئًا،
وإذا نظر فيه وتدبره وتفهمه حينئذٍ يعلم مقداره".
وقال (ص 54): "ولم أصنف في "كتاب السنن" إلا الأحكام، ولم
أصنف كتب الزهد وفضائل الأعمال وغيرها، فهذه الاربعة
الآلاف والثمان مائة، كلها في الأحكام". =
(1/56)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وقال ابن القيام في "تهذيب السنن" (1/ 23) عنه: "صار
حكمًا بين أهل الإسلام، وفصلًا في موارد النزاع والخصام،
فإليه يتحاكم المنصفون، وبحكمه يرضى المحققون".
ونقله السخاوي في "بذل المجهود" (37 - 38) وقال على إثره:
"بل كان جماعة من فقهاء المذاهب يحفظونه ويعتمدون
مُحَصَّله ومضمونه، وخصوصًا وقد قال حجة الإسلام أبو حامد
الغزالي في كتاب "المُستصفى": إن المجتهد لا يحتاج إلى
تتبع الأحاديث على تفرقها وانتشارها، بل يكفي أن يكون له
أصلٌ مصححٌ وقعت العناية فيه بجميع أحاديث الأحكام كـ"سنن
أبي داود" ... ".
قلت: نصّ كلام الغزالي في "المستصفى" (2/ 348) -وهو في
"روضة الطالبين" للنووي (11/ 95) - قال: "وزاد الغزالي ...
" فذكره، وأشار الزركشي في "البحر المحيط" (4/ 491) أنه
قاله الغزالي وجماعة من المحققين ... وتبعه على ذلك
الرافعي ونقله الإسنوي في "المهمات" عن النووي ونصه: "وزاد
المصنف ... " أي الرافعي. والنص عينُه عزاه السيوطي في
"البحر الذي زخر" (3/ 1204)، والبصري في "ختمه لأبي داود"
(ق 4/ أ) إلى الرافعي، ونقل السخاوي في "بذل المجهود" (38
- 39) كلام النووي من قوله: "ينبغي للمشتغل .. " إلى هنا
وعزاه لـ "شرحه على سنن أبي داود".
ونقله عن النووي أيضًا السخاوي في "فتح المغيث" (1/ 88)،
والسيوطي في "مرقاة الصعود على سنن أبي داود"، (ق 5) وفي
"البحر الذي زخر" (3/ 1205) والبصري في "ختم سنن أبي داود"
(ق4/ أ) وصديق حسن خان في "الحطة" (213). وقال السخاوي في
"البذل" على إثره:
"لكنه قد تعقب في "الروضة" كلام الغزالي، حيث قال: "إنه لا
يصح التمثيل "بسنن أبي داود"؛ فإنه لم يستوعب الصحيح من
أحاديث الأحكام ولا معظمه، وذلك ظاهر بل معرفته ضرورية لمن
له أدنى اطلاع، وكم في "صحيحي البخاري ومسلم" من حديث
حُكْمي ليس في "سنن أبي داود"، أما ما في "كتاب الترمذي
والنسائي" وغيرهما من الكتب المعتمدة، فكثرته وشهرته غنية
عن التصريح بها" [انتهى ما في "روضة الطالبين" (11/ 95)].
=
(1/57)
رُوِّينا عن الإمام أبي سليمان حمد بن محمد
بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي رحمه الله قال (1): "كتاب
السنن" لأبي داود رحمه الله كتابٌ شريفٌ، لم يُصَنَّف في
علم (2) الدين كتاب مثله، وقد رُزق القبول من الناس كافة،
__________
= قال السخاوي: "وكذا قال التقي ابن دقيق العيد في "شرح
العنوان" له: "التمثيل بسنن أبي داود ليس بجيد عندنا
لوجهين: أحدهما: أنه لا يحوي السنن المحتاج إليها،
والثاني: أن في بعضه ما لا يحتج به في الأحكام" اهـ.
وأجاب الجمال الإسنوي، شيخ شيوخنا في "المهمات": بأنه لم
يَدَّع الاستيعاب، وإنما قال فيه: "الاعتناء بالجميع".
قيل: "وهذا لا يدفع السؤال؛ لأنه إذا علم إهماله لكثير من
الأحاديث فلا يكفي في نفي الحديث عدم وجوده فيه؛ لاحتمال
وجوده في غيره، فلا تقعُ الكفاية" انتهى.
وكل هذا منهم بناء على أن الغزالي عبر بـ "الجميع" أما حيث
عبر بـ "الجمع" على ما هو الواقع في نسخ "المستصفى" حسبما
جَزَمَ به البدر الزركشي [في "البحر" (6/ 201)، فلا.
ويساعده أنه لم يقع لأحد جمع جميع أحاديث الأحكام في تصنيف
لعدم إمكانه، على أن أبا داود نفسه ممن صرّح -كما تقدم-
بالحصر فيما يعلم ويتعين حمله على المعظم.
وممن صرح بكونه جمعَ المعظم خاصة البندنيجي من الأئمة
المتقدمين، والولي العراقي من المتأخرين، فإنه قال: "لا
نسلم أنه لم يستوعب معظم أحاديث الأحكام، فالحق أنه ذكر
معظمها، وما لم يذكره منها فهو يسير بالنسبة لما ذكره"
انتهى كلام السخاوي.
وما أحسن قول ابن حجر رحمه الله في "ديوانه" (104 - 105)
في قصيدته التي امتدح فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -
وذكر فيها ختم هذا الكتاب:
فَاقَ التصانيف الكبار بجمعِه ال ... أحكامَ فيها يبذل
المجهودا
قد كان أقوى من رأى في بابه ... يأتي به ويحرر التجويدا
فجزاه عنا الله أفضل ما جزى ... من في الديانة أبطل
الترديدا
(1) "معالم السنن" (1/ 6)، ونقله عنه المصنف في تهذيب
الأسماء واللغات" (2/ 227)، والسخاوي في "بذل المجهود" (ص
45).
(2) في "تهذيب الأسماء واللغات": "حكم".
(1/58)
فصار حَكَمًا بين (1) فرق العلماء، وطبقات
الفقهاء، على اختلاف مذاهبهم (2)، وعليه مَعَوَّلُ أهل
العراق وأهل مصر وبلاد المغرب وكثير من أهل الأرض (3)،
وأما أهل خراسان فقد أولع أكثرهم بصحيحي البخاري ومسلم
(4)، ومن نحَا نحوهما في جمع الصحيح على شرطهما (5)، إلاَّ
أن كتاب أبي داود أحسنُ رَصْفًا وأكثر فِقْهًا (6). قال:
"وكتاب أبي عيسى أيضًا كتاب حَسَنٌ"، قال: "والحديث ثلاثة
أقسام: صحيح وحَسَنٌ وضعيفٌ" (7)، وعلى أبو الحسن مدار
أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله
__________
(1) كلمة "بين" مكررة في الأصل مرتين.
(2) بعدها في "المعالم": "فلكل فيه وِرْدٌ ومنه شِرب".
وسقط من "تهذيب الأسماء واللغات" أيضًا.
(3) في "معالم السنن": "وكثير من مدن أقطار الأرض". وفي
"تهذيب الأسماء واللغات": "وكثير من أقطار الأرض".
(4) في "معالم السنن": "بكتاب محمد بن إسماعيل، ومسلم بن
الحجاج".
(5) بعدها في "معالم السنن": "في السبك والانتقاد".
(6) سئل أبو أبو القاسم خلف بن أبو القاسم الحافظ، فقيل
له: "أي كتاب أحبّ إليك في السنن، كتاب النسائي أو كتاب
البخاري؟ فقال: كتاب البخاري. فقيل له: أيهما أحب إليك
كتاب البخاري أو كتاب أبي داود؟ قال: كتاب أبي داود
أحسنهما وأصلحهما"، ذكره ابن خير في "فهرسته" (107)
والسخاوي في "بذل المجهود" (ص 107). ونَقظغل ابنُ خير عن
أبي محمد بن يربوع إيباءه هذا القول، ورده، فانظر كلامه.
(7) العبارة في "معالم السنن" هكذا: "ثم اعلموا أن الحديث
عند أهله على ثلاثة أقسام: حديث صحيح، وحديث حسن، وحديث
سقيم". وبعدها: "فالصحيح عندهم ما اتصل سنده، وعدلت نقلته،
والحسن منه ما عرف مخرجه واثشهر رجاله، وعليه مدار .. "
وتكلمت على (الحسن) وأنه بالحد المذكور لا يفرق عن
(الصحيح)! في شرحي "نظم الاقتراح" للعراقي، وسمّيتُه
"البيان والإيضاح" (رقم 14)، وكذا في تعليقي على "الكافي"
للتبريزي.
(1/59)
عامة الفقهاء". وقال: "وكتاب أبي داود
جامعٌ لهذين النوعين (1)، وأما الضعيف فكتاب أبي داود خلي
منه (2)، وإن وقع فيه شيءٌ منه (3) لضربٍ من الحاجة (4)
فإنه لا يألو أن يبيِّن أمره، ويذكرَ علَّته، ويخرج من
عهدته" (5).
__________
(1) بعدها في "معالم السنن" "من الحديث".
(2) عبارة "معالم السنن" هكذا: "فأما السقيم منه فعلى
طبقات؛ شرها الموضوع، ثم المقلوب، أعني ما قلب إسناده، ثم
المجهول، وكتاب أبي داود خَليٌّ منها، بريء من جملة
وجوههما، فإن ... ".
(3) بدل "منه" في "معالم السنن": "من بعض أقسامها".
(4) بعدها في "معالم السنن": "تدعوه إلى ذكره".
(5) قال الذهبي في "السير" (13/ 214 - 215) على إثره:
"قلتُ: فقد وفى رحمه الله بذلك بحسب اجتهاده، وبيّن ما
ضعفه شديد، ووهنه غير محتمل، وكاسر عن ما ضعفه خفيفٌ
مُحتمل، فلا يلزم من سكوته -والحالة هذه- عن الحديث أن
يكون حسنًا عنده، ولا سيما إذا حكمنا على حد أبو الحسن
باصطلاحنا المولد الحادث، الذي هو في عُرف السلَفِ يعودُ
إلى قسمٍ من أقسام الصحيح، الذي يجب العمل به عند جمهور
العلماء، أو الذي يرغب عنه أبو أبو عبد الله البخاري،
ويمشّيه مسلم، وبالعكس، فهو داخل في أداني مراتب الصحة،
فإنه لو انحط عن ذلك لخرج عن الاحتجاج، ولبقي متجاذبًا بين
الضعف والحسن، فكتاب أبي داود أعلى ما فيه من الثابت ما
أخرجه الشيخان، وذلك نحو من شطر الكتاب (أ)، ثم يليه ما
أخرجه أحد الشيخين، ورغب عنه الآخر، ثم يليه ما رغبا عنه،
وكان إسناده جيدًا، سَالمًا من علّة وشذوذ، ثم يليه ما كان
إسناده صالحًا، وقِبله العلماء لمجيئه من وجهين لينين
فصاعدًا، يعضد كل إسنادٍ منهما الآخر، ثم يليه ما ضُعفَ =
__________
(أ) ليس كذلك حتى لو دخل فيه ما انفرد به البخاري أو مسلم،
فعند أبي داود من المتفق عليه نحو (850) حديثاً، وعنده من
انفرادات البخاري نحو (200) حديثًا، ومن انفرادات مسلم نحو
(600) حديثاً، فالمجموع ألف وست مئة وخمسون (1650) حديثًا،
وهذا نحو الثلث من أحاديث الكتاب.
(1/60)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= إسناده لنقصِ حفظ راويه، فمثل هذا يمشِّيه أبو داود،
ويسكتُ عنه غالبًا، ثم يليه ما كان بيِّن الضعفِ من جهة
راويه، فهذا لا يسكت عنه، بل يوهنه غالبًا، وقد يسكتُ عنه
بحسب شهرته ونكارته، والله أعلم" انتهى.
ونقل العلامة ابن الأمير الصنعاني -رحمه الله تعالى-: في
"توضيح الأفكار" (1/ 198) عن النجم الطوفي أنه حكى عن
العلامة تقي الدين ابن تيمية أنه قال: "اعتبرت "مسند أحمد"
فوجدته موافقًا لشرط أبى داود، ومن هنا تظهر لك طريقة من
يحتج بكل ما سكت عنه أبو داود، فإنه يخرج أحاديث جماعة من
الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عنها مثل ابن لهيعة، وصالح مولى
التوءمة، وعبد الله بن محمد بن عقيل، وموسى بن وردان،
وسلمة بن أبو الفضل، ودلهم بن صالح، وغيرهم، فلا ينبغي
للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم، ويتابعه في
الاحتجاج بهم؛ بل طريقه أن ينظر: هل لذلك الحديث متابع
يعتضد به، أو هو غريب فيتوقف فيه؛ لا سيما إن كان مخالفًا
لرواية من هو أوثق منه؛ فإنه ينحط إلى قبيل المنكر، وقد
يخرج لمن هو أضعف من هؤلاء بكثير كالحارث بن دحية، وصدقة
الدقيقي، وعمرو بن واقد العمري، ومحمد بن عبد الرحمن
البيلماني، وأبي حيان الكلبي، وسليمان بن أرقم، وإسحاق بن
أبو عبد الله بن أبي فروة، وأمثالهم في المتروكين، وكذلك
ما فيه من الأسانيد التي فيها من أبهمت أسماؤهم فلا يتجه
الحكم لأحاديث هؤلاء بالحسن من أجل سكوت أبي داود؛ لأن
سكوته تارة يكون اكتفاءً بما تقدم من الكلام في ذلك الراوي
في نفس كتابه، وتارة يكون لذهول منه، وتارة يكون لظهور شدة
ضعف ذلك الراوي واتفاق الأئمة على طرح روايته، كأبي
الحويرث، ويحيى بن العلاء، وغيرهما، وتارة يكون من اختلاف
الرواة عنه وهو الأكثر فإن في رواية أبي الحسن ابن العبد
عنه من الكلام على جماعة من الرواة والأسانيد ما ليس في
رواية اللؤلؤي وإن كانت روايته عنه أشهر". ثم عدَّ أمثلة
من أحاديث "السنن" فيها ما يؤكد ما قاله، ثم قال: "والصواب
عدم الاعتماد على مجرد سكوته لما وصفنا من أنه يحتج
بإلاحاديث الضعيفة، ويقدمها على القياس إن ثبت ذلك عنه،
والمعتمد على مجرد سكوته لا يرى ذلك، فكيف يقلده فيه هذا
جميعه إن حملنا قوله: "وما لم أقل فيه شيء =
(1/61)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= فهو صالح" على أن مراده صالح للحجية وللاستشهاد
والمتابعة، فلا يلزم منه أن يحتج بالضعيف، ويحتاج إلى تأمل
تلك المواضع التي سكت عليها وهي ضعيفة، هل منها أفراد أو
لا، إن وجد فيها أفراد تعين الحمل على الأول وإلا حمل على
الثاني، وعلى كل تقدير فلا يصلح ما سكت عنه للاحتجاج
مطلقًا" اهـ، وقال -رحمه الله تعالى- أيضًا (1/ 201):
"وتحقيق عبارته: أن الذي سكت عنه ليس فيه وهن شديد، وهو
يحتمل أن لا وهن فيه أصلاً، فيكون صحيحًا أو حسنًا، ويحتمل
أن فيه وهنًا لكنه غير شديد، وحينئذٍ فالصواب أن يحتمل
الثلاثة: أبو الحسن والصحة، والوهن غير الشديد، لا كما
قاله ابن الصلاح، ولا كما قاله ابن رشيد" اهـ ـ (أ).
ونقل الشوكاني -رحمه الله تعالى- في مقدمة "نيل الأوطار"
(1/ 15) ط. دار الفكر) كلام الصنعاني هذا، وضمّنه أيضا
كلام النووي، ونسوقه بحروفه، لزيادة البيان السابق، قال
رحمه الله تعالى: "ومن هذا القبيل ما سكت عنه أبو داود،
وذلك لما رواه ابن الصلاح عن أبي داود أنه قال: "ما كان في
كتابي هذا من حديث فيه وهن شديد بينته وما لم أذكر فيه
شيئًا فهو صالح وبعضها أصح من بعض".
قال: "روينا عنه أنه قال: ذكرت الصحيح وما يشبهه وما
يقاربه".
قال الإمام الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير أنه أجاز ابن
الصلاح والنووي وغيرهما من الحفَّاظ العمل بما سكت عنه أبو
داود لأجل هذا الكلام المروي عنه وأمثاله مما روي عنه.
قال النووي: إلا أن يظهر في بعضها أمر يقدح في الصحة
والحسن وجب ترك ذلك.
قال ابن الصلاح: وعلى هذا ما وجدناه في كتابه مذكورًا
مطلقًا ولم نعلم صحته؛ عرفنا أنه من أبو الحسن عند أبي
داود؛ لأن ما سكت عنه يحتمل عند أبي داود الصحة والحسن،
انتهى.
وقد اعتنى المنذري -رحمه الله- في نقد الأحاديث المذكورة
في "سنن =
__________
(أ) تقدم قوله مع موافقة ابن سيد الناس له.
(1/62)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= أبي داود"، وبيَّن ضعف كثير مما سكت عنه، فيكون ذلك
خارجًا عما يجوز العمل به وما سكتا عليه جميعًا، فلا شك
أنه صالح للاحتجاج إلا في مواضع يسيرة قد نبهت على بعضها
في هذا الشرح". انتهى كلامه.
وممن نحى منحى التفصيل والتقعيد، والوقوف على منشأ خطأ فهم
عبارة أبي داود الحافظ البقاعي -رحمه الله تعالى- (تلميذ
ابن حجر).
قال رحمه الله تعالى في كتابه "النكت الوفية" (ق 72/ ب-73/
أ) ما نصّه:
" ... فليس بمسلم أن كل ما سكت عليه أبو داود يكون حسنًا؛
بل هو وهم أتى من جهة أن أبا داود يريد بقوله "صالح"
صلاحيّة الاحتجاج.
ومن فهم أن "أصح" في قوله: "وبعضها أصح من بعض" تقتضي
اشتراكًا في الصحة، وكذا قوله: "أنه يذكر في كل باب أصح ما
عرف فيه" وليس الأمر في ذلك كذلك، أما من جهة قوله: "صالح"
فلأنه كما يحتمل أن يريد صلاحيته للاحتجاج، فكذا يحتمل أن
يريد صلاحيته للاعتبار، فإن أبا داود قال في الرسالة التي
أرسلها إلى من سأله عن اصطلاحه في كتابه: "ذكرت فيه الصحيح
وما يشبهه ويقاربه، وما فيه وهن شديد بيَّنته، وما لا،
فصالح، وبعضها أصح من بعض".
ثم قال -رحمه الله تعالى-: "واشتمل هذا الكلام على خمسة
أنواع:
الأول: الصحيح، ويجوز أن يريد به الصحيح لذاته.
الثاني: شبهه ويمكن أن يريد به الصحيح لغيره.
الثالث: مقاربه ويحتمل أن يريد أبو الحسن لذاته.
والرابع: الذي فيه وهن شديد.
وقوله: "وما لا" يفهم منه: أن الذي فيه وهن ليس بشديد فهو
قسم خامس، فإن لم يعتضد كان صالحًا للاعتبار فقط، وإن
اعتضد صار حسنًا لغيره، أي الهيئة المجموعة وصلح للاحتجاج
وكان قسمًا سادسًا. وعلى تقدير تسليم أن مراده صالح
للاحتجاج لا يستلزم الحكم بتحسين ما سكت عليه، فإنه يرى
الاحتجاج بالضعيف إذا لم يوجد في الباب غيره ... اقتداء
بأحمد -رضي الله عنه- اهـ. وممَّن حرر المسألة وفصلها
السخاوي في "فتح المغيث" (1/ 78 - 79) ونسوق كلامه بطوله،
وقد جمع فيه الأقوال السابقة ونقحها وهذبها وحررها، فقال:
=
(1/63)
قال (1): "وُيحكى لنا عن أبي داود أنه قال:
"ما ذكرتُ في كتابي حديثًا اجتمع الناس على تركه"، قال
(2): "وكان تصنيف علماء الحديث قبل (3) أبي داود: الجوامع
والمسانيد ونحوهما، فَتَجمَعُ تلك الكتبُ
__________
= "فالمسكوت عليه إما صحيح أو أصح إلا أن الواقع خلافه،
ولا مانع من استعمال أصح بالمعنى اللغوي، أي، التشبيه؛ بل
قد استعمله كذلك غير واحد، منهم: الترمذي، فإنه يورد
الحديث من جهة الضعيف ثم من جهة غيره، ويقول عقب الثاني:
إنه أصح من حديث فلان الضعيف، وصنيع أبي داود يقتضيه لما
في المسكوت عليه من الضعيف بالاستقراء، وكذا هو واضح من
حصره التبيين بالوهن الشديد، إذ مفهومه أن غير الشديد لا
يبينه.
وحينئذٍ فالصلاحية في كلامه أعم من أن تكون للاحتجاج أو
الاستشهاد، فما ارتقى إلى الصحة ثم أبو الحسن فهو بالمعنى
الأول، وما عداها فهو بالمعنى الثاني، وما قصر عن ذلك فهو
الذي فيه وهن شديد، وقد التزم بيانه، وقد تكون الصلاحية
على ظاهرها في الاحتجاج ولا ينافيه وجود الضعيف؛ لأنه كما
سيأتي يخرج الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره وهو أقوى عنده
من رأي الرجال، ولذلك قال ابن عبد البر: "إن كل ما سكت
عليه صحيح عنده، لا سيما إن لم يكن في الباب غيره". على أن
في قول ابن الصلاح: "وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عند
غيره". ما يوحي إلى التنبيه لما أشار إليه ابن رشيد كما
نبه عليه ابن سيد الناس؛ لأنه جوز أن يخالف حكمه حكم غيره
في طرف، فكذلك يجوِّز أن يخالفه في طرف آخر، وفيه نظر
لاستلزامه نقض ما قرره.
وبالجملة: فالمسكوت عنه أقسام، منه ما هو في "الصحيحين"،
أو على شرط الصحة، أو حسن لذاته، أو مع الاعتضاد، وهما
كثير في كتابه جدًا، ومنه ما هو ضعيف، لكنه من رواية من لم
يجمع على تركه".
(1) "معالم السنن" (1/ 6)، وفيه: "وَحُكيَ".
(2) "معالم السنن" (1/ 7)، ونقله عنه المصنف في "تهذيب
الأسماء واللغات" (2/ 227).
(3) في "معالم السنن": "قبل زمان".
(1/64)
مع (1) السنن والأحكام أخبارًا وقصصًا
ومواعظَ وآدابًا، فأمّا السنن المحضة فلم يقصد أَحَدٌ (2)
منهم جمعها واستيفاءها (3) على حسب ما اتَّفَقَ لأبي داود،
ولذلك حَلَّ هذا الكتاب عند أئمة الحديث وعلماء الأثر
مَحَلَّ العجب، فَضُربت فيه أكباد الإبل، ودامت إليه
الرَّحلُ " (4). ثم رَوَى الخطابيُّ بإسناده عن إبراهيم
الحربي (5) قال: "لما صَنَّفَ أبو داود هذا الكتاب، أُلين
له الحديث كما أُلين لداود - صلى الله عليه وسلم -
الحديد". قال الخطابي (6): "وسمعتُ ابن الأعرابي يقول
-ونحن نسمع منه هذا الكتاب (7) -: "لو أنَّ رجلاً لم يكن
عنده من العلم إلا المصحف (8) ثم
__________
(1) بدل (مع) في "معالم السنن": "إلى ما فيها من".
(2) في "معالم السنن": "واحد".
(3) بعدها في "معالم السنن": "ولم يقدر على تخليصها
(تلخيصها) واختصار مواضعها من أثناء تلك الأحاديث الطويلة،
ومن أدلة سياقها" ونقله المصنف في "تهذيب الأسماء واللغات"
(2/ 227) عدا "ومن أدلة سياقها".
(4) في الأصل: "الرجل"! وفي "معالم السنن": "الرحل"، جمع
رحلة وهو الصواب، وكذا عند المصنِّف في "تهذيب الأسماء
واللغات".
(5) قول الحربي عند ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (22/ 195 -
196) مسندًا.
وذكره المصنف في "تهذيب الأسماء واللغات" (2/ 226)،
والذهبي في "السير" (13/ 212)، و"تاريخ الإسلام" (6/ 552)،
والمزي في "تهذيب الكمال" (11/ 365)، والسخاوي في "بذل
المجهود" (75). وعزاه في "السير" والمري والسخاوي للحربي،
ومحمد بن أبو إسحاق الصغاني، وأورد مقولة الصغاني: ابن
طاهر في "شروط الأئمة الستة" (103).
(6) "معالم السنن" (1/ 8) ونقله عنه المصنف في "تهذيب
الأسماء واللغات" (2/ 226).
(7) بعدها في "معالم السنن": "فأشار إلى النسخة وهي بين
يديه".
(8) بعدها في "معالم السنن": "الذي فيه كتاب الله".
(1/65)
هذا الكتاب، لم يَحْتَجْ معهما إلى شيءٍ من
العلم البَتَّة" (1)، قال الخطابي: "وهذا كما قال لا شكَّ
فيه؛ لأنَّ الله (سبحانه وتعالى) أنزل كتابه تبيانًا لكل
شيءٍ، وقال تعالى: {ومَا فَرطنَا فِي الكتب مِن شَيء} (2)
[الأنعام: 38]، لكن التبيان ضَرْبان: جَليٌّ ذَكَرَهُ
نَصًّا (3)، وخَفيٌّ بيَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم -
(4)، فمن جمع (5) الكتاب والسنَّة فقد استكمل ضَرْبَي (6)
البيان، وقد جمع أبو داود في كتابه من الحديث في أصول
العلم، وأمهات السنن، وأحكام الفقه، ما لا نعلم مُتقدّمًا
سبقه إليه، ولا متأخرًا لحقه فيه [رحمه الله] (7) ".
ورُوّينا عن أبي داود رحمه الله قال: "كتبتُ عن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - خمس
__________
(1) نقله السخاوي في "بذل المجهود" (59 ط أضواء السلف).
(2) بعدها في "معالم السنن": (فأخبر سبحانه أنه لم يغادر
شيئًا من أمر الدين لم يتضمن بيانه الكتاب إلاَّ أن البيان
على ضربين".
(3) جاءت العبارة في "معالم السنن" هكذا: "وبيان جلي،
تناوله الذكر نَصًّا"، وهكذا نقلها عنه المصنف في "تهذيب
الأسماء واللغات" (2/ 226 - 227) والسخاوي في "بذل
المجهود" (ص 60).
(4) جاءت العبارة في "معالم السنن" هكذا: "وبيان خفي اشتمل
عليه معنى التلاوة ضمنًا، فما كان من هذا الضرب، كان تفصيل
بيانه موكولاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو معنى
قوله سبحانه: {لِتُبَيِنَ لِلناسِ مَا نُزِّلَ إلَيهم
وَلَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُون} [النحل: 44] ". وهكذا نقله
عنه المصنف في "تهذيب الأسماء واللغات" (2/ 227)، والسخاوي
في "بذل المجهود" (ص 60).
(5) في "معالم السنن": "جمع بين"، وهكذا هي عند السخاوي،
وسقطت من "تهذيب الأسماء واللغات".
(6) في "معالم السنن": "استوفى وجهي"، وهكذا هي عند المصنف
في "التهذيب" وعند السخاوي.
(7) ليست في "معالم السنن".
(1/66)
مئة ألف حديث، انتخبتُ منها ما ضَمَّنْتُه
هذا الكتاب -يعني كتاب "السنن"- جمعتُ فيه أربعة آلاف
وثمان مئة حديث، ذكرتُ الصحيح وما يشبهه ويقاربه" (1).
__________
(1) هو أصل مسائل مالك والشافعي والثوري، والفقهاء
المعتبرين في زمانه، انتخبه -وهو أربعة آلاف وثمان مئة في
العدد- من خمسة مئة ألف حديث بالسند، أفاده السخاوي في
"بذل المجهود" (ص 31) من كلام أبي داود، وقال على إثره:
"وكأنه اقتصر في هذه العدة على غير المتكرر، وإلاَّ فقد
قال أبو الحسن بن العبد فيما هو له مقرر: إنه ستة آلاف على
التحرير، منها أربعة بغير تكرير، قال: والبصري يزيد على
البغدادي فيما علمه، ست مئة ونيفًا وستين حديثًا مع نيفٍ
وألفِ كلمة.
هذا مع إيراده لها على أحسن ترتيب وأبدع نظام، وقرب شبهه
من صنيع مسلم الإمام، في الحرصِ على تمييز ألفاظ الشيوخ في
الصيغ والأنساب، فضلاً عن المتون المقصودة بالانتخاب".
قلت: بلغ عدد الأحاديث في رواية اللؤلؤي وهي المطبوعة
المشهورة (5274) حديثًا، ونقل ابن الصلاح في "مقدمته"
(52)، والمصنف في "تهذيب الأسماء واللغات" (2/ 226)،
و"التقريب" (1/ 167) مع "التدريب"، والذهبي في "السير"
(13/ 209 - 210) مقولة أبي داود هذه وزاد عليها، وأولها:
"وقال أبو أبو بكر بن داسة: سمعت أبا داود يقول: كتبتُ عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... " بنحوها. وذكرها
أيضًا: العراقي في "فتح المغيث" (1/ 45)، ولم يحدد هؤلاء
مصدرًا لها.
وذكرها العراقي في "التقييد والإيضاح" (55)، والبقاعي في
"النكت الوفية" (ق 72/ أ)، وحاجي خليفة في "كشف الظنون"
(2/ 1004 - 1005)، وعزووها إلى أبي داود في "رسالته إلى
أهل مكة"! وهذا ليس بصحيح، فهي ليست فيه! ويفهم من إيراد
الحازمي لها في "شروط الأئمة" (55) أنها ليست في رسالته؛
لأنه ذكر قسمًا منها، ثم قال: "وقد رَوينا عن أبي أبو بكر
بن داسة .. " وذكر هذه العبارة.
بقي بعد هذا: "قول أبي داود: "وما يشبهه" يعني في الصحة،
"وما يقاربه": =
(1/67)
ورُوّينا عن أبي العلاء المحسن بن محمد بن
إبراهيم الوَاذَارِيِّ قال: "رأيت النبي - صلى الله عليه
وسلم - في المنام فقال: من أراد أن يستمسك بالسنن، فليقرأ
كتاب أبي داود" (1).
الوَاذَارِيّ -بالذال المعجّمة (2) - مَنْسُوبٌ إلى واذار:
قرية من قرى أصبهان (3).
3 - فَصل
في اسم مؤلف الكتاب، هو: أبو داود سليمان بن الأشعث بن أبو
إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو بن عِمْران الأزْدِيّْ
السِّجسْتَاني (4)، ....
__________
= يعني فيها أيضًا" قاله ابن سيد الناس في "النفح الشذي"
(1/ 211). وذهب السخاوي في "فتح المغيث" (1/ 73) أن العطف
هنا للمغايرة، فما يشبه الشيء وما يقاربه ليس به، ولذا
قيل: إنّ الذي يشبهه هو أبو الحسن، والذي يقاربه الصالح،
ولزم منه جعل (الصالح) قسمًا آخر.
قال البقاعي في "النكت الوفية" (ق 72/ أ): "الصحيح يمكن أن
يريد به الصحيح لذاته، الثاني: شبهه، ويمكن أن يريد به
الصحيح لغيره، الثالث مُقَاربه، ويحتمل أن يريد به أبو
الحسن لذاته".
(1) ذكره المصنّف في "تهذيب الأسماء واللغات" (2/ 227)
ووقع نحوه لأبي الأزهر ابن أخت أبي حاتم القاضي البصري،
فقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام يوصيه أن
يكتب "سنن أبي داود"، انظر "فهرسة ابن خير" (107 - 108)،
"برنامج التجيبي" (75)، "بذل المجهود" (75 - ط أضواء السلف
و 67 - ط مؤسسة الرسالة).
(2) بفتح الواو والذال المعجمة بين الألفين، وفي آخرها
الراء، قاله السمعاني في "الأنساب" (5/ 558).
(3) انظر "معجم البلدان" (5/ 346) و"الأنساب" (5/ 558).
(4) مصادر ترجمته كثيرة جدًّا، يصعب حصرها ويعسر
استيفاؤها، ومن أشهر المصادر التي اعتنت بذلك: =
(1/68)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= "تاريخ أبي زرعة الدمشقي" (انظر الفهرس)، و"الجرح
والتعديل" (4/ الترجمة 456) و"ثقات ابن حبان"، و"أخبار
أصبهان" (1/ 334)، و"تاريخ بغداد" (9/ 55)، و"السابق
واللاحق" (264)، "تسمية شيوخ أبي داود" (ص 13) للجياني، و
"طبقات الحنابلة" (1/ 159)، و"أنساب السمعاني" (7/ 46)،
و"المعجم المشتمل" (الترجمة 387)، و"تاريخ دمشق" و"تهذيبه"
(6/ 246) لابن بدران، و"المنتظم": (5/ 97)، و"الكامل في
التاريخ" (7/ 425)، و"اللباب" (2/ 105)، و "تهذيب الأسماء
واللغات" (2/ 224)، و "وفيات الأعيان" (2/ 404)، و"تاريخ
الإسلام" للذهبي (6/ 1550)، و"سير أعلام النبلاء" (12/
203)، و"تذكرة الحفاظ" (2/ 591)، و "العبر" (2/ 54)،
و"الكاشف" (1/ الترجمة 2090)، و"تهذيب الكمال" (11/ 355)،
و"إكمال تهذيب الكمال" (6/ 38)، و"تذهيب تهذيب الكمال"
(11/ 355) رقم (2492)، و"طبقات السبكي" (2/ 293)،
و"البداية والنهاية" (11/ 54)، و"نهاية السول" (ق 126)،
و"تهذيب ابن حجر" (4/ 298)، و "طبقات الحفاظ" للسيوطي
(261)، و"طبقات المفسرين" (195)، و"خلاصة الخزرجي"
(الترجمة 2669)، و"شذرات الذهب" (2/ 167) وغيرها. وقد جمع
غير واحد شيوخه كما سيأتي، وخصّه غير واحد بدراسات مفردة،
ولا سيما أصحاب (ختمات سنن أبي داود)، ومن أشهرهم: السخاوي
في "بذل المجهود" وهو مطبوع مرتين، وعبد الله بن سالم
البصري، (ت 1134 هـ)، ولختمه نسخة في مكتبة الحرم المكي،
رقم (3808)، ثم رأيتُه مطبوعًا، ومحمد مرتضى الزَّبيدي (ت
1205 هـ) له "تحفة الودود في ختم سنن أبي داود" كذا في
"فهرس الفهارس" (1/ 539) للكتاني.
ولمعاصرينا جهود كثيرة مشكورة في ترجمته، وأسوق على سبيل
المثال:
"أبو داود، حياته وسننه" للشيخ محمد بن لطفي الصباغ،
و"الإمام أبو داود السجستاني وكتابه السنن" لأبو عبد الله
البراك، "الإمام أبو داود وسننه" لهدى خالد بالي. ولغير
واحد دراسات منهجية حول "سننه". فقدم الباحث تركي الغميز
عن جامعة الإمام بالرياض أطروحة ماجستير بعنوان "الأحاديث
التي أشار إليها أبو داود في "سننه" إلى تعارض الوصل
والإرسال فيها: تخريجًا =
(1/69)
هذا أصحُّ الأقوال في نَسَبه (1)، سَمع
القعنبيَّ، وأبا الوليد الطيالسي، وأحمد بن حنبل، وابن
معين، والتَّبُوذكي، وابن راهويه، وأبا ثور، وسليمان بن
حرب، وابني أبي شيبة (2)،
.......................................
__________
= ودراسة"، وكذلك فعل محمد الفراج في رسالته "الأحاديث
التي بيّن أبو داود في سننه تعارض الرفع والوقف فيها دراسة
وتخريجًا"، وصدر في القاهرة "بذل المجهود فيما حكم عليه
ابن الجوزي بالوضع من سنن أبي داود" لمحمد زكي خير، وللشيخ
محمد بن هادي المدخلي "زوائد الإمام أبي داود على إلاصول
الثمانية جمعًا ودراسة حديثية فقهية"، ولإدريس خرشفي "سنن
أبي داود في الدراسات المغربية: رواية ودراية"، وللمفضل بو
زرهون "فقه أبي داود السجستاني من خلال سننه"، ولجمال شكوت
دلال "مراسيل التابعين في سنن أبي داود"، وللأخ الدكتور
علي عجين "المعلقات في سنن أبي داود دراسة ووصلاً"، وللأخ
الدكتور محمد سعيد حوى "مقولات أبي داود النقدية في كتابه
السنن".
(1) وهو الذي اعتمده الذهبي في "تاريخ الإسلام" (6/ 550)،
وهكذا سماه تلميذاه ابنُ داسة، وأبو عبيد الآجري كما في
"تهذيب الكمال" (11/ 356)، و"السير" (13/ 203)، ولم يذكرا
(ابن عمرو بن عمران) وهما من زيادات الخطيب في "تاريخ
بغداد" (9/ 55)، وذكره مثلهما، وهو الذي اعتمده الحافظ
السلفي في (مقدمته) على "معالم السنن" (8/ 143) وقال:
"فهذا القول في نسبه أمثل، والقلب إليه أميل، والله تعالى
أعلم".
ونقل المصنّف في "تهذيب الأسماء واللغات" (2/ 224 - 225)
الخلاف فيه، ونقل قول السلفي، ولم يتعقبه.
وقال السخاوي في "بذل المجهود" (76 - ط أضواء) "وهذا النسب
أصح ما وقفت عليه من الخلاف". وفي مطبوع "إكمال تهذيب
الكمال" لمغلطاي (6/ 38) نقل عن ابن داسة، وأنه قال: "بشر"
بدل "بشير" وهو خطأ، فليصوب والكتاب مليء بالأخطاء
المطبعية.
(2) سمّاهما المصنّف في "تهذيب الأسماء واللغات" (2/ 225)
فقال: "وأبو أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة".
(1/70)
وخلائق (1)، وأخذ علم الحديث عن أحمد بن
حنبل (2)، ويحيى بن معين.
__________
(1) أفرد شيوخ أبي داود بالتصنيف جمع، منهم: أبو علي
الحسين بن محمد الجياني (ت 498 هـ) له "تسمية شيوخ أبي
داود سليمان بن الأشعث السِّجستاني"، ولأبي الوليد يوسف بن
عبد العزيز الدباغ (ت 546 هـ) حاشية عليه، وهو مطبوع مع
"الحاشية"، وعلى النسخة الخطية حواشٍ بغير رمز ابن الدباغ
لم أعرف لمن هي، وهي جيّدة، وفيها فوائد، ولم ينبه على ذلك
محققوا كتاب الجياني -وهم ثلاثة كل حقَّقه على حدة-. وفي
"تهذيب الكمال" (30/ 379) "شيوخ أبي داود" لابن الدباغ،
ولعل عالمًا استل تعقبه وتعقبات غيره، ورمر لهم، وأسقطهم
على نسخته، وشهر ذلك عنه! ولابن طاهر القيسراني (ت 507 هـ)
"مشايخ أبي داود"، نسب إليه في آخر كتابه "الجمع بين
الصحيحين" (2/ 630)، ولابن خلفون (ت 636هـ): "شيوخ أبي
داود"، ذكره الرعيني في "فهرسته" (55)، والمراكشي في
"الذيل والتكملة" (6/ 130) وغيرهما.
واستوعب المزي في "تهذيب الكمال" (11/ 356 - 359) أسماء
شيوخه في "السنن" وفاته عدد لا بأس به، احتفل بهم مغلطاي
في "إكمال تهذيب الكمال" (6/ 39 - 43) واستدرك عليه جماعة
كبيرة، ولابن عساكر في "المعجم المشتمل" عناية قوية بهم،
واعتمد عليه عبد الله البراك في كتابه "الإمام أبو داود
السجستاني وكتابه السنن" (ص 17 - 25) فأثبت مسردًا
بأسمائهم مرتبًا على الحروف، وبلغوا (421) راويًا، وسمى
المصنف في "تهذيب الأسماء واللغات" (2/ 225) جماعة غير
المذكورين.
(2) قال الذهبي في "تاريخ الإسلام" (6/ 553) عن أبي داود:
"قلت: وتفقه بأحمد بن حنبل، ولازمه مدة، وكان من نجباء
أصحابه، ومن جلة فقهاء زمانه مع التقدم في الحديث والزهد".
قلت: روى أبو داود في "سننه" عنه قرابة (220) حديثًا، وله
"مسائل لأحمد" مطبوعة، وقال فيها (ص 281): "ودخلت على أبي
أبو عبد الله منزله ما لا أحصيه". وقال -كما في
"الإبانة"-: "كتبتُ رقعة فأرسلت بها إلى أبي أبو عبد الله
أحمد وهو متوافر يومئذٍ، فأخرج الي جوابًا مكتوبًا فيه". =
(1/71)
روى عنه الترمذي والنسائي (1)، وابنه أبو
أبو بكر أبو عبد الله، وأبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد
الأعرابي، وخلائق، منهم: راويا "السنن" عنه: أبو بكر محمد
بن أبو بكر بن عبد الرزاق بن داسة (2) التَّمَّار، وأبو
علي محمد بن أحمد بن عَمرو -بفتح العين- اللؤلؤي،
البصريان.
__________
= وفي "السنة" (رقم 27) للخلال: "قال أبو داود لأصحابه:
أسال الله أن يمن علينا وعليكم بلزوم السنة، والاقتداء
بالسلف الصالح، بأبي أبو عبد الله -يريد الإمام أحمد- رحمه
الله، فإنه أوضح من هذه الأمور المحدثات، ما هو كفاية لمن
اقتدى به". وينظر في هذا "مجلة البحوث الإسلامية" (عدد 25)
(ص 299 وما بعد).
(1) عبارة الذهبي في "السير" (13/ 205): "حدث عنه: أبو
عيسى في "جامعه" والنسائي فيما قيل".
قلت: رواية الترمذي في "جامعه" عن أبي داود، بالأرقام
(466، 2901، 3604، 3789) وأما رواية النسائي ففيها نظر،
ففي "تهذيب الكمال" (11/ 361 - 362): "وروى النسائي في
"السنن" عن أبي داود، عن سليمان بن حرب، وعبد الله بن محمد
النفيلي، وعبد العزيز بن يحيى الحراني، وعلي بن المديني،
وعمرو بن عون الواسطي، ومسلم بن إبراهيم، وأبي الوليد
الطيالسي. وروى في كتاب "يوم وليلة" عن أبي داود عن محمد
بن كثير العبدي. والظاهر أن أبا داود في هذا كله هو
السجستاني، فإنه معروف بالرواية عن هؤلاء، وقد شاركه أبو
داود سليمان بن سيف الحراني في بعضهم، وروى عنه في كتاب
"الكُنَى" وسَمَّاه ولم يكنه.
وذكر الحافظ أبو أبو القاسم في "المشايخ النَّبَل" (رقم
387) أن النسائى أيضًا روى عنه وذكر له عنه في "الموافقات"
حديثًا واحدًا. وقد وقع لنا عنه بعلو في جملة كتاب "السنن"
... ". وساقه المزي بسنده اليه، وهو حديث رقم (5195) في
"سنن أبي داود" برقم (10169) في "سنن النسائي الكبرى".
وذكرهما المصنف فيمن روى عنه في "تهذيب الأسماء واللغات"
(2/ 225) أيضًا.
(2) تحرف في الأصل: إلى "داسدة"!!
(1/72)
وعلَّق عنه أحمد بن حنبل حديثًا واحدًا
(1)، وهو من رواية الكبار عن الصّغار.
__________
(1) قال أبو أبو بكر الخلال: "أبو داود الإمام المقدم في
زمانه، رجلٌ لم يسبق إلى معرفته بتخريج العلوم، وبصره
بمواضعه أحدٌ في زمانه، رجلٌ ورعٌ مقدَّمٌ.
وسمع أحمد بن حنبل منه حديثًا واحدًا كان أبو داود يذكره.
وكان إبراهيم الأصبهاني وأبو أبو بكر بن صدقة يرفعون من
قدره ويذكرونه بما لا يذكرون أحدًا في زمانه مثله". كذا في
"تهذيب الكمال" (11/ 364).
قلت: والحديث الذي سمعه هو حديثه عن محمد بن عمرو الرازي
عن عبد الرحمن بن قيس، عن حماد بن سلمة، عن أبي العشراء،
عن أبيه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن
العتيرة فحسنها". وهو حديث منكر، رواه أبو داود خارج
"السنن" وساقه الذهبي في ترجمة (عبد الرحمن بن قيس) من
الميزان (2/ 583) وابن قيس هذا تركه النسائي، وقال مسلم:
ذاهب الحديث.
قلت: وفي "السير" (13/ 218) بعد أن ساق من طريق أبي بكر بن
أبي داود عن أبيه قال: حدثنا محمد بن عمرو الرازي، حدثنا
عبد الرحمن بن قيس، عن حماد بن سلمة، عن أبي العشراء
الدارمي، عن أبيه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل
عن العتيرة، فحسنها".
قيل: إن أحمد كتب عن أبي هذا، فذكرتُ له، فقال: نعم. قلت:
وكيف كان ذلك؟ فقال: ذكرنا يوما أحاديث أبي العشراء، فقال
أحمد: لا أعرف له إلاَّ ثلاثة أحاديث، ولم يرو عنه إلا
حماد حديث اللَّبة، وحديث: رأيت على أبي العشراء عمامة.
فذكرت لأحمد هذا، فقال: أمِلَّهُ علي. ثم قال: "لمحمد بن
أبي سمينة عند أبي داود حديث غريب. فسألني، فكتبه عني محمد
بن يحيى بن أبي سمينة".
وقال الذهبي -قبل- (13/ 211) عن حديث (العتيرة) الذي سمعه
أحمد من أبي داود: "هذا حديث منكر، تُكلِّم في ابن قيس من
أجله، وإنما المحفوظ عن حماد بهذا السند حديث أما تكون
الذكاة إلاَّ من اللَّبَّة". وهذا عند أبي داود في "سننه"
(2825) وغيره. وفي "التهذيب" (12/ 186): "قال: الميموني:
سألت أحمد عن حديث أبي العشراء في الذكاة، قال: هو عندي =
(1/73)
قال القاضي أبو عمر الهاشمي (1): "قرأ أبو
علي اللؤلؤي هذا الكتاب على أبي داود عشرين سنة، كان هو
القارئ لكل قومٍ يسمعونه".
قال: "والزيادات التي في رواية ابن داسة حَذَفها أبو داود
في آخر مرة؛ لشيءٍ كان يريبه في إسناده، فلهذا تفاوتا"
(2).
__________
= غلط ولا يعجبني ولا أذهب إليه إلا في موضع ضرورة. قال:
ما أعرف أنه يروى عن أبي العشراء حديث غير هذا. وقال
البخاري: في حديثه واسمه وسماعه من أبيه نظر". وانظر ترجمة
(والد أبي العشراء) في "أسد الغابة" (5/ 44، 45)، و "مسند
أبي العشراء" لتمام الرازي (ص 7).
(1) نقله ابن نقطة في "التقييد" (1/ 33) وابن عطية في
"فهرسه" (81) والتجيبي في "برنامجه" (96) والسخاوي في "بذل
المجهود" (ص 56).
(2) المراد: إن رواية أبي علي اللؤلؤي متفاوتة في العدد مع
رواية ابن داسة، فرواية الأخير تقرب من رواية اللؤلؤي إلا
في بعض التقديم والتأخير، وإلا ما عند ابن داسة من
الأحاديث الزائدة، والكلام على الأحاديث، كما تراه في
"فهرست ابن خير الإشبيلي" (14)، و "فهرس ابن عطية" (81)
و"برنامج التجيبي" (96). ولكن قال أبو عمر الهاشمي الراوي
عن اللؤلؤي: "إن الزيادات التي عنده حذفها المصنف آخرًا
لشيء رابه" كما نقله المصنف، وهكذا في "التقييد" (1/ 33)
لابن نقطة. على أنه قد فاته سماع بعضه من مصنفه، وذلك من
قوله (باب ما يقول إذا أصبح وإذا أمسى) إلى: (باب الرجل
ينتمي إلى غير مواليه)، فكان يقول: قال أبو داود، ولا
يقول: حدثنا، أفاده ابن حجر في "المعجم المفهرس" (31)،
والروداني في "صلة الخلف" (62) وغيرهما.
وأما رواية ابن الأعرابي فسقط منها عدة كتب وهي: الفتن،
والملاحم، والحروف، والخاتم، ونصف اللباس، ومن كلٍّ من:
الطهارة والصلاة، والنكاح أوراق كثيرة، خرجها من رواياته
من عوالي شيوخه بعد أن سمعها من محمد بن عبد الملك الرواس
عن أبي داود. وفي رواية ابن العبد زيادة لكثير من الكلام
على الأحاديث.
وحينئذٍ فينبغي التوقف في نسبة السكوت إليه إلا بعد الوقوف
على جميعها، =
(1/74)
قال السمعاني: "آخر من حدّث بسنن أبي داود
عن اللؤلؤي: أبو عمر أبو القاسم بن جعفر الهاشمي" (1).
واتفق العلماء على وصف أبي داود رحمه الله بالحفظ والإتقان
والورع والعفاف والعبادة، ومعرفته بعلل الحديث وعلومه،
قالوا (2): وكان من فرسان الحديث (3)،
...............................................................
__________
= كما أنه لا ينسب للترمذي القول بالتحسين أو التصحيح أو
نحو ذلك، إلا بعد مراجعة عدة أصول لاختلاف النسخ في ذلك،
ويكون هذا مستثنى من الاقتصار في العرض على أصلٍ واحد،
للمحذور الذي أبديناه، أفاده السخاوي في "بذل المجهود" ص
56 - 58 - ط الرسالة و70 - 71/ ط أضواء السلف).
انظر: "فهرست ابن خير" (105 - 106)، "برنامج التجيبي"
(105) و"المعجم المفهرس" (31)، "نكت الزركشي" (1/ 341)،
و"نكت ابن حجر" (1/ 441)، "صلة الخلف" للروداني (62).
وانظر أمثلة لما رواه ابن الأعرابي عن الرواس عن أبي داود
في "تحفة الأشراف" (8/ 221، 9/ 243)، و "سنن أبي داود" (1/
354 حاشية، ط عوامة)؛ و"عون المعبود" (4/ 203).
(1) الأنساب (3/ 225) ولقاسم بن جعفر (ت 414) ترجمتُه في
"السير" (17/ 225).
(2) قالها علان بن عبد الصمد، كما في "تاريخ دمشق" (22/
98)، و"تهذيب الكمال" (11/ 365)، و "إكمال تهذيب الكمال"
(6/ 38)، و"تهذيب الأسماء واللغات" (2/ 226)، و"السير"
(13) 212)، و"بذل المجهود" (75)، وقالها أيضًا أحمد بن
ياسين التَترَويّ في "تاريخ هراة" كما في "تاريخ بغداد"
(9/ 58)، و"تاريخ دمشق"، (22/ 196)، و"تهذيب الأسماء
واللغات" (2/ 225)، و"تهذيب الكمال" (1/ 365)، و"تاريخ
الإسلام" (6/ 553)، و "السير" (13/ 211)، و"بذل المجهود"
(75).
(3) من قوله "واتفق ... " إلى هنا: نقله السخاوي في "بذل
المجهود" =
(1/75)
قال الحاكم أبو عبد الله (1): "كان أبو
داود إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة، سمع (2) بمصر
والحجاز والشام والعِرَاقين (3) وخُراسان"، وقال أبو حاتم
بن حبّان (4): "كان أبو داود أحد أئمة الدنيا فقهًا وعلمًا
وحفظًا، ونسكًا وورعًا وإتقانًا، [ممن] (5) جمع وصنّف وذبّ
عن السنن". قال الخطيب البغدادي (6): "سكن أبو داود
البصرة، وقدم بغداد غير مرة، وروى (7) بها كتاب "السنن"،
ونقله عنه أهلها". قال (8):
__________
= (77 - ط الرسالة وص 87 - ط أضواء السلف) وقال عقبه:
"قلت: والثناء عليه كثير جدًّا"، وقال المصنف في "تهذيب
الأسماء واللغات" (2/ 225) نحوه، وعبارته تختلف عما هنا،
ونصها: "واتفق العلماء على الثناء على أبي داود ووصفه
بالحفظ التام أو العلم الوافر، والإتقان، والورع، والدين،
والفهم الثاقب في الحديث وغيره".
(1) نقله ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (22/ 193)، والمصنف في
"تهذيب الأسماء واللغات" (2/ 225)، والذهبي في "سير أعلام
النبلاء" (13/ 212) وفي "تاريخ الإسلام" (6/ 553 - ط دار
الغرب)، والسخاوي في "بذل المجهود" (79 - 80 - ط أضواء
السلف وص 70 - 71 ط الرسالة).
(2) في الأصل: "سمعه" وكذا في "تهذيب الأسماء واللغات"،
والتصويب من سائر المصادر.
(3) هما: البصرة والكوفة.
(4) "الثقات" (8/ 282)، ونقله المصنف في "تهذيب الأسماء
واللغات" (2/ 226)، والمزي في "تهذيب الكمال" (11/ 365)،
ومغلطاي في "إكماله" (6/ 43 - 44).
(5) زيادة من "الثقات".
(6) "تاريخ بغداد" (10/ 76).
(7) في "تاريخ بغداد": "وروى كتابه المصنف في السنن بها".
(8) نقله الذهبي في "تاريخ الإسلام" (6/ 552)، والسخاوي في
بذل المجهود" (75 - 76 - أضواء و 68 - الرسالة).
(1/76)
"ويقال إنه صنّفه قديمًا وعرضه على أحمد بن
حنبل، فاستجاده واستحسنه". وفي تاريخ بغداد (1): "إن أبا
داود كان له كُمٌّ واسع وكُمٌّ ضيِّق، فقيل له [في ذلك]
(2)، فقال: الواسع للكتب والآخر لا نحتاج (3) إليه".
ولد أبو داود سنة اثنتين ومئتين (4)، وتوفي بالبصرة لأربع
عشرة بقيت من شوّال سنة خمس وسبعين ومئتين (5).
ويقال لأبي داود: السّجسْتَانيّ بكسر السين الأولى وفتحها،
والكسر أشهر (6)، ولم يذكر السمعانيُّ غَيْرَه (7)، واقتصر
القاضي عياض في "المشارق" على الفتح (8). ويقال له أيضًا:
السِّجْزي. قال ابن ماكولا (9)
__________
(1) (10/ 80 - 81).
(2) بدل ما بين المعقوفتين في "تاريخ بغداد": "يرحمك الله،
ما هذا؟ ".
(3) في "تاريخ بغداد": "يُحتاجُ" بالتحتانية، وكذا في
"تاريخ الإسلام" للذهبي (6/ 554) وغيره.
(4) كذا في جل مصادر ترجمته، وما في "تهذيب الأسماء
واللغات" (2/ 227): "اثنتين ومئة" خطأ فليصوب.
(5) كذا في "تهذيب الأسماء واللغات" (2/ 227) وفي جميع
المصادر وكتب الوفيات، ونقله أيضًا تلميذه أبو عبيد
الآجري، كما في "تاريخ بغداد" (9/ 59)، و"السابق واللاحق"
(264)، و"تهذيب الكمال" (11/ 167)، و"السير" (13/ 221).
(6) وبكسر الجيم على الأشهر أيضًا، وحكي في الجيم السكون
أيضًا، انظر: "الأنساب" (3/ 20)، "الإكمال" (4/ 549)، "بذل
المجهود" (76).
(7) "الأنساب" (3/ 225).
(8) "مشارق الأنوار" (2/ 234).
(9) "الإكمال" (4/ 549 - 550).
(1/77)
والسمعاني (1) وغيرهما: هي نسبة إلى سجستان
على غير القياس، وسجستان: إقليم مشهور بين خُراسان
وكَرْمان. وقيل: إن أبا داود منسوبٌ على سجستان، أو
سجستانة: قرية بالبصرة، والصحيح المشهور هو الأول (2).
...
__________
(1) "الأنساب" (3/ 226).
(2) سجستان، الإقليم الذي منه الإمام أبو داود: هو إقليم
صغير منفرد، متاخم لإقليم السند، غربيه بلد هراة، وجنوبيّه
مفازة، بينه وبين إقليم فارس وكرمان، وشرقيه مفازة وبرية
بينه وبين مكران، التي هي قاعدة السند، وتمام هذا الحد
الشرقي بلاد المُلتان، وشماليه أول الهند.
فأرضُ سجستان كثيرةُ النخل والرمل، وهي من الإقليم الثالث
من السبعة، وقصبةُ سجستان هي: زَرَنْج، وعرضُها اثنتان
وثلاثون درجةً، وتطلق زرنج، على سجستان، ولها سور، وبها
جامع عظيم، وعليها نهرٌ كبيرٌ، وطولُها من جزائر الخالدات
تسعٌ وثمانون درجةً، والنسبة إليها أيضًا: "سجزي"، وهكذا
ينسب أبو عوانة الإسْفراييني أبا داود فيقول: السجزي،
وإليها يُنسب مسند الوقت "أبو الوقت السجزي". وقد قيل
-وليس بشيء- إن أبا داود من سجستان قرية من أعمال البصرة،
ذكره القاض شمس الدين في "وفيات الأعيان" (2/ 405)، فأبو
داود أول ما قدم من البلاد، دخل بغداد، وهو ابن ثمان عشرة
سنةً، وذلك قبل أن يرى البصرة، ثم ارتحل من بغداد إلى
البصرة، قاله الذهبي في "السير" (13/ 220 - 221)، وبنحوه
في "تاريخ الإسلام" (6/ 533 - ط دار الغرب).
قلت: و (سجستان) الآن من مدن (أفغانستان) المشهورة في
جنوبها على حدود إيران واسمها الفارسي (سكستان)، وهي
البلاد السهلية حول بحيرة (زره) في شرقها، ويدخل فيها دلتا
نهر (هيلمند) وغيره من الأنهار التي تصب في هذا البحر
الداخل، وكانت مرتفعات ستاق قندهار، وهي بامتداد أعالي
هيلمند، انظر: "معجم البلدان" (3/ 190)، "بلدان الخلافة
الشرقية" (ص 372)، "المنجد في اللغة والإعلام" (297)،
"تاريخ الشعوب الإسلامية" (216).
(1/78)
|