المتواري على
أبواب البخاري (3 -] كتاب الْعلم [)
(10 - (1) بَاب الِاغْتِبَاط فِي الْعلم وَالْحكمَة.)
وَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ -:
(1/57)
" تفقهوا قبل أَن تسودوا.] وَقَالَ أَبُو
عبد الله البُخَارِيّ: وَبعد أَن تسودوا [.
فِيهِ ابْن مَسْعُود: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] : لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَيْنِ، رجل آتَاهُ الله
مَالا، فسلّطه على هَلَكته فِي الْحق، وَرجل آتَاهُ الله
الْحِكْمَة، فَهُوَ يقْضِي بهَا ويعلّمها.
قَالَ الْفَقِيه - رَضِي الله عَنهُ -: وَجه مُطَابقَة
قَول عمر - رَضِي الله عَنهُ - للتَّرْجَمَة أَنه جعل
السِّيَادَة من ثَمَرَات الْعلم، وَأوصى الطَّالِب باغتنام
الزِّيَادَة قبل بُلُوغ دَرَجَة السِّيَادَة. وَذَلِكَ
يُحَقّق اسْتِحْقَاق الْعلم، لِأَنَّهُ يغتبط بِهِ صَاحبه،
لِأَنَّهُ سَبَب سيادته.
(11 - (2) بَاب مَا ذكر فِي ذهَاب مُوسَى فِي الْبَحْر
إِلَى الْخضر)
وَقَوله: {هَل أبتعك على أَن تعلمن مِمَّا علمت رشدا}
[الْكَهْف: 66] .
(1/58)
فِيهِ ابْن عَبَّاس: إِنَّه تمارى هُوَ
والحرّ بن قيس فِي صَاحب مُوسَى [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ خضر. فمرّ بهما أبيّ بن كَعْب،
فَدَعَاهُ ابْن عَبَّاس، فَقَالَ: إِنِّي تماريت أَنا
صَاحِبي هَذَا فِي صَاحب مُوسَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى -
عَلَيْهِ السَّلَام - السَّبِيل إِلَى لقِيه، قَالَ:
سَمِعت النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- يَقُول: "
بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلأ من بني إِسْرَائِيل، جَاءَهُ
رجلّ فَقَالَ لَهُ: هَل تعلم أحدا أعلم منكّ؟ فَقَالَ
مُوسَى: لَا، فَأوحى الله إِلَى مُوسَى، بلَى! عَبدنَا
خضر، فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيل إِلَيْهِ، فَجعل الله لَهُ
الْحُوت آيَة. وَقيل لَهُ: إِذا فقدت الْحُوت فَارْجِع
فَإنَّك ستلقاه ". وَذكر الحَدِيث.
قَالَ الْفَقِيه - وَفقه الله -: موقع قَوْله: " فِي
الْبَحْر " من التَّرْجَمَة، التَّنْبِيه على شرف
التَّعْلِيم، حَتَّى جَازَ فِي طلبه المخاطرة بركوب
الْبَحْر، وَركبهُ الْأَنْبِيَاء فِي طلبه، بِخِلَاف طلب
الدُّنْيَا فِي الْبَحْر فقد كرهه بَعضهم، واستثقله الْكل،
وَوجه مطابقته للقصة: إِن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ
للخضر:
: هَل أتبعك على أَن تعلمن " فَاتبعهُ ليتعلم مِنْهُ فِي
الْبَحْر حَال ركوبهما السَّفِينَة، وَفِي الْبر حَال
سيرهما فِي الْبر، بعد النُّزُول.
(12 - (3) بَاب فضل من عَلِمَ وعَلَّمَ)
فِيهِ أَبُو مُوسَى: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] : مثل مَا بَعَثَنِي الله بِهِ من الْهدى وَالْعلم
كَمثل الْغَيْث الْكثير أصَاب أَرضًا، فَكَانَ مِنْهَا
نقيةٌ قبلت المَاء، فأنبتت
(1/59)
الْكلأ والعشب الْكثير، وَكَانَت مِنْهَا
أجادبُ أَمْسَكت المَاء فنفع الله بهَا النَّاس،
فَشَرِبُوا وَسقوا وزرعوا، وَأصَاب مِنْهَا طَائِفَة
أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قيعان لَا تمسك مَاء، وَلَا تنْبت
كلأ. فَذَلِك مثل من فقه فِي دين الله، ونفعني مَا
بَعَثَنِي الله بِهِ، فَعلم وَعلم، وَمثل من لم يرفع بذلك
رَأْسا، وَلم يقبل هدى الله الَّذِي أرْسلت بِهِ.
وَقَالَ اسحاق قيلت المَاء مَكَان " قبلت ".
قلت: رَضِي الله عَنْك! إِن قَالَ قَائِل: مَا موقع فضل
الْعلم والتعلم من الحَدِيث؟ وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيل
للحالين.
قيل لَهُ: قد شبة صَاحب الْعلم فِي نَفعه لِلْخلقِ بالغيث،
وَشبه متحمل الْعلم فِي ذكائه بِالْأَرْضِ الطّيبَة
المنبتة. وناهيك بهما فضلا.
(13 - (4) بَاب رفع الْعلم، وَظُهُور الْجَهْل)
وَقَالَ ربيعَة: لَا يَنْبَغِي لأحد عِنْده شَيْء من
الْعلم أَن يضيع نَفسه
(1/60)
فِيهِ أنس: قَالَ لأحدثكم حَدِيثا لَا
يُحَدثكُمْ أحد بعدِي، سَمِعت رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: إِن من أَشْرَاط السَّاعَة أَن
يقل الْعلم، وَيظْهر الْجَهْل، وَيظْهر الزِّنَا، وتكثر
النِّسَاء، ويقل الرِّجَال حَتَّى يكون لخمسين امْرَأَة
الْقيم الْوَاحِد.
قَالَ الْفَقِيه - رَضِي الله عَنهُ - إِن قلت مَا وَجه
مُطَابقَة قَول ربيعَة لرفع الْعلم؟ .
قلت: وَجههَا أَن صَاحب الْفَهم إِذا ضيع نَفسه فَلم
يتَعَلَّم، أفْضى إِلَى رفع الْعلم، لِأَن البليد لَا يقبل
الْعلم، فَهُوَ عَنهُ مُرْتَفع. فَلَو لم يتَعَلَّم
الْفَهم لارتفع الْعلم عَنهُ أَيْضا، فيرتفع عُمُوما،
وَذَلِكَ من الأشراط الَّتِي لَا تقارن فِي الْوُجُود
إلاَّ شرار الْخلق. فعلى النَّاس أَن يتوقوها مَا أمكن.
(14 - (5) بَاب فضل الْعلم.)
فِيهِ ابْن عمر - رَضِي الله عَنهُ -: قَالَ النَّبِي [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] بَينا أَنا نَائِم، أُوتيت بقدح لبن،
فَشَرِبت حَتَّى إنيّ لَا أرى الرىَّ يخرج من أظفاري. ثمَّ
أعطيتُ فضلي عمر ابْن الْخطاب. قَالُوا: فَمَا أوّلته يَا
رَسُول الله! قَالَ: الْعلم.
قَالَ الْفَقِيه - رَضِي الله عَنهُ -: إِن قلت: مَا وَجه
الْفَضِيلَة فِي الحَدِيث؟
قلت: لِأَنَّهُ عبر عَن الْعلم بِأَنَّهُ فضلَة النَّبِي
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَنصِيب مِمَّا آتَاهُ الله.
(1/61)
وناهيك لَهُ فضلا، إِنَّه جُزْء من
النبوّة.
(15 - (6) بَاب السمر فِي الْعلم.)
فِيهِ ابْن عمر - رَضِي الله عَنهُ -: صلى بِنَا النَّبِي
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الْعشَاء فِي آخر حَيَاته،
فَلَمَّا سلم قَامَ فَقَالَ: " أَرَأَيْتكُم هَذِه، فَإِن
رَأس مائَة سنة مِنْهَا لَا يبْقى مِمَّن هُوَ على ظهر
الأَرْض أحد ".
وَفِيه ابْن عَبَّاس: بتُّ فِي بَيت خَالَتِي مَيْمُونَة
بنت الْحَارِث - زوج النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
وَكَانَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عِنْدهَا فِي
لَيْلَتهَا، فصلى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
الْعشَاء، ثمَّ جَاءَ إِلَى منزله فصلى أَربع رَكْعَات،
ثمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ نَام، ثمَّ قَامَ، ثمَّ
قَالَ: نَام الغليم - أَو كلمة تشبهها - ثمَّ قَامَ،
فَقُمْت عَن يسَاره، فجعلني عَن يَمِينه، فصلى خمس
رَكْعَات، ثمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ نَام حَتَّى سَمِعت
غَطِيطه أَو خطيطه.
قَالَ إِن قيل: أَيْن السمر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس؟ وَلم
ينْقل عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَلَا عَن
نَفسه، أَنه تكلم تِلْكَ اللَّيْلَة، إِلَّا قَوْله [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] نَام الغليم أَو نَحوه، وَهَذَا
لَيْسَ بسمر.
قيل: يحْتَمل أَنه يُرِيد هَذِه الْكَلِمَة فَيثبت بهَا
أصل السمر. وَيحْتَمل أَن يُرِيد
(1/62)
ارتقاب ابْن عَبَّاس لأحواله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] ، ويتبعه. وَلَا فرق بَين التَّعَلُّم من
الحَدِيث والتعلم من الْفِعْل. فقد سهر ابْن عَبَّاس ليلته
فِي طلب الْعلم، وتلقيه من الْفِعْل والتعلم مَعَ السهر،
هُوَ معنى السمر. والغاية الَّتِي كره لَهَا السمر
إِنَّمَا هِيَ السهر خوف التَّفْرِيط فِي صَلَاة الصُّبْح،
فَإِذا كَانَ سمر الْعلم، فَهُوَ فِي طَاعَة الله فَلَا
بَأْس. وَالله أعلم.
(16 - (7) مَا يسْتَحبّ للْعَالم إِذا سُئِلَ أَي النَّاس
أعلم أَن يكل الْعلم إِلَى الله عز وَجل.)
فِيهِ ابْن عَبَّاس: عَن أبيّ بن كَعْب قَالَ: قَامَ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام خَطِيبًا فِي بني إِسْرَائِيل
فَسئلَ: أَي النَّاس أعلم؟ فَقَالَ: أَنا أعلم. فعتب الله
عَلَيْهِ إِذْ لم يردَّ الْعلم إِلَيْهِ، فَأوحى الله
إِلَيْهِ أَن عبدا من عبَادي بمجمع الْبَحْرين، هُوَ أعلم
مِنْك.
(1/63)
قَالَ: ياربّ وَكَيف بِهِ؟ فَقيل لَهُ:
احْمِلْ حوتاً فِي مكتل فَإِذا فقدته فَهُوَ ثمَّ.
فَانْطَلق مَعَه فتاه يُوشَع بن النُّون، وحملا حوتاً فِي
مكتل حَتَّى كَانَا عِنْد الصَّخْرَة، وضعا رؤسهما
فَنَامَا. فانسل الْحُوت من المكتل فَاتخذ سَبيله فِي
الْبَحْر سربا ". وَذكر الحَدِيث.
قَالَ الْفَقِيه - وَفقه الله -: ظنّ الشَّارِح أَن
الْمَقْصُود من الحَدِيث التَّنْبِيه على أَن الصَّوَاب من
مُوسَى كَانَ ترك الْجَواب، وَأَن يَقُول: لَا أعلم.
وَلَيْسَ كَذَلِك، بل ردّ الْعلم إِلَى الله مُتَعَيّن
أجَاب أَو لم يجب. فَإِن أجَاب، قَالَ: الْأَمر كَذَا،
وَالله أعلم. وَإِن لم يجب قَالَ: الله أعلم. وَمن هُنَا
تأدّب الْمفْتُون فِي أجوبتهم بقوله: " وَالله أعلم ".
فَلَعَلَّ مُوسَى لَو قَالَ: أَنا، وَالله أعلم، لَكَانَ
صَوَابا. وَإِنَّمَا وَقعت الْمُؤَاخَذَة باقتصاره على
قَوْله: أَنا أعلم. فَتَأَمّله.
(17 - (8) بَاب من سَأَلَ وَهُوَ قَائِم عَالما جَالِسا)
فِيهِ أَبُو مُوسَى: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ: يَا رَسُول الله! مَا الْقِتَال
فِي سَبِيل الله؟ فَإِن أَحَدنَا يُقَاتل غَضبا، و]
يُقَاتل [حمية. فَرفع إِلَيْهِ رَأسه - قَالَ: وَمَا رَفعه
إِلَيْهِ إِلَّا أَنه كَانَ قَائِما - فَقَالَ: من قَاتل
أَن تكون كلمة الله هِيَ الْعليا، فَهُوَ فِي سَبِيل الله.
قَالَ الْفَقِيه - رَضِي الله عَنهُ -: إِن قيل: مَا موقع
التَّرْجَمَة من الْفِقْه؟ .
قلت: موقعها التَّنْبِيه على أَن مثل هَذَا مُسْتَثْنى من
قَوْله: " من أحبّ أَن
(1/64)
يتَمَثَّل لَهُ النَّاس قيَاما،
فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار ". فنبه بِهَذَا
الحَدِيث على أَن مثل هَذِه الْهَيْئَة مَعَ سَلامَة
النَّفس مَشْرُوعَة. وَالله أعلم.
(18 - (9) بَاب من أجَاب السَّائِل أَكثر مِمَّا سَأَلَهُ)
فِيهِ ابْن عمر: إِن رجلا سَأَلَ النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] مَا يلبس الْمحرم؟ فَقَالَ: لَا يلبس
الْقَمِيص، وَلَا الْعِمَامَة، وَلَا السَّرَاوِيل، وَلَا
الْبُرْنُس، وَلَا ثوبا مَسّه الزَّعْفَرَان، وَلَا الورس.
فَإِن لم يجد النَّعْلَيْنِ فليلبس الْخُفَّيْنِ وليقطعهما
حَتَّى يَكُونَا تَحت الْكَعْبَيْنِ.
قَالَ الْفَقِيه - وَفقه الله تَعَالَى -: رَحْمَة الله
على البُخَارِيّ] أنّه [معن فِي استنباط جَوَاهِر الحَدِيث
الَّتِي خفيت على الْكثير. وموقع هَذِه التَّرْجَمَة من
الْفَوَائِد، التَّنْبِيه على أَن مُطَابقَة الْجَواب
للسؤال حَتَّى لَا يكون الْجَواب عَاما، وَالسُّؤَال
خَاصّا، غير لَازم، فَيُوجب ذَلِك حمل اللَّفْظ الْعَام
الْوَارِد على سَبَب خَاص على عُمُومه، لَا على خُصُوص
السَّبَب، لِأَنَّهُ جَوَاب وَزِيَادَة فَائِدَة. وَهُوَ
الْمَذْهَب الصَّحِيح فِي الْقَاعِدَة. وَيُؤْخَذ مِنْهُ
أَيْضا: أَن الْمُفْتى إِذا سُئِلَ عَن وَاقعَة، وَاحْتمل
عِنْده أَن يكون السَّائِل يتذرع بجوابه إِلَى أَن يعديه
إِلَى غير مَحل السُّؤَال، وَجب عَلَيْهِ أَن يفصّل
جَوَابه، وَأَن يزِيدهُ بَيَانا، وَأَن يذكر مَعَ
الْوَقْعَة مَا يتَوَقَّع التباسه بهَا. وَلَا يعّد
(1/65)
ذَلِك تَعَديا بل تحرياً. وَكثير من القاصرين يدْفع بِمَا
لَا ينفع، وَيَأْتِي بِالْجَوَابِ أَبتر تسرعاً، لَا
تورعاً. وَالزِّيَادَة فِي الحَدِيث بقوله: ((فَإِن لم يجد
النَّعْلَيْنِ)) إِلَى آخِره. وَالله أعلم. |