المنتقى شرح
الموطإ [كِتَابُ النُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ]
[مَا يَجِبُ مِنْ النُّذُورِ فِي الْمَشْيِ]
(ش) : قَوْلُهُ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يُرِيدُ سَأَلَهُ سُؤَالَ الْمُلْتَزِمِ لِحُكْمِهِ
الرَّاجِعِ إلَى قَوْلِهِ وَذَلِكَ يُسَمَّى مُسْتَفْتِيًا
وَقَوْلُ الْمُفْتِي لَهُ يُسَمَّى فَتْوَى وَذَلِكَ
إنَّمَا يَكُونُ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ مَعَ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لِلْعَامِّيِّ
مَعَ الْعَالِمِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِبَارِ لَهُ
وَالْمُذَاكَرَةِ أَوْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِفْتَاءِ
فَأَمَّا الْعَالِمَانِ اللَّذَانِ يَسُوغُ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِاجْتِهَادُ مَعَ وُجُودِ الْآخَرِ
فَإِنَّهُ إذَا سَأَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ لَا يَخْلُو
أَنْ يَسْأَلَهُ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِبَارِ
وَالْمُذَاكَرَةِ أَوْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِفْتَاءِ
وَالتَّقْلِيدِ فَأَمَّا سُؤَالُهُ عَلَى وَجْهِ
الْمُذَاكَرَةِ وَالْمُنَاظَرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ
بِاسْتِفْتَاءٍ بَلْ هُوَ مُذَاكَرَةٌ وَمُنَاظَرَةٌ
وَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمَا إذَا الْتَزَمَا شُرُوطَ
الْمُنَاظَرَةِ مِنْ الْإِنْصَافِ وَقَصْدِ إظْهَارِ
الْحَقِّ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْوُصُولِ إلَيْهِ
وَتَبْيِينِهِ وَسَلِمَا مِنْ الْمِرَاءِ وَقَصْدِ
الْمُغَالَبَةِ وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى وَقْتِنَا هَذَا
وَأَمَّا سُؤَالُهُ إيَّاهُ مُسْتَفْتِيًا فَإِنَّهُ لَا
يَجُوزُ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الْعِلْمِ وَيُمَكِّنُ
السَّائِلَ مِنْ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّ
فَرْضَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِاجْتِهَادَ دُونَ
السُّؤَالِ وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا شُفُوفٌ فِي
الْعِلْمِ فَهَلْ يَجُوزُ لِلَّذِي دُونَهُ أَنْ
يُقَلِّدَهُ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ النَّظَرِ
وَالِاسْتِدْلَالِ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ
الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ وَقَالَ
بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ
وَالدَّلِيلُ لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ مَا
قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ فَرْضَهُ الِاجْتِهَادُ دُونَ
السُّؤَالِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا إنْ خَافَ الْعَالِمُ فَوَاتَ الْحَادِثَةِ
فَهَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ غَيْرَهُ ذَهَبَ الْقَاضِي
أَبُو مُحَمَّدٍ إلَى جَوَازِ ذَلِكَ وَمَنَعَ سَائِرُ
أَصْحَابِنَا وَقَالُوا تَخْلِي الْقَضِيَّةُ مِنْ
قَوْلِهِ وَيَتْرُكُهَا لِغَيْرِهِ وَهَذَا يُتَصَوَّرُ
فِيمَا يُسْتَفْتَى فِيهِ وَأَمَّا مَا يَخُصُّهُ فَلَا
بُدَّ مِنْهُ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ بَسَطْت الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ
كُلِّهِ وَفِي صِفَةِ الْمُفْتِي وَصِفَةِ الْمُسْتَفْتِي
فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ مِمَّا يُغْنِي عَنْ
إعَادَتِهِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ لَمْ
تَقْضِهِ يَقْتَضِي أَنَّ النَّذْرَ مُبَاحٌ جَائِزٌ
لِأَنَّ سَعْدًا ذَكَرَ أَنَّ أُمَّهُ نَذَرَتْ وَسَمِعَ
ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَلَمْ يُنْكِرْهُ بَلْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا
وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ
أَنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا وَلَكِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ
مِنْ الْبَخِيلِ» فَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ تَنْذِرَ
لِمَعْنًى مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا مِثْلِ أَنْ يَقُولَ إنْ
شَفَى اللَّهُ مَرَضِي أَوْ قَدِمَ غَائِبِي أَوْ
نَجَّانِي مِنْ أَمْرِ كَذَا أَوْ رَزَقَنِي كَذَا
فَإِنِّي أَصُومُ يَوْمَيْنِ أَوْ أُصَلِّي صَلَاةً أَوْ
أَتَصَدَّقُ بِكَذَا فَهَذَا الْمَكْرُوهُ الْمَنْهِيُّ
عَنْهُ وَإِنَّمَا كَانَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ
فِعْلُهُ ذَلِكَ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَجَاءَ
ثَوَابِهِ وَأَنْ يَكُونَ نَذْرُهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ
دُونَ تَعَلُّقِ نَذْرِهِ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا
وَغَرَضِهَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّذْرَ يَلْزَمُ فِي
الْجُمْلَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {يُوفُونَ
بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ
مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا
رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «خَيْرُكُمْ
قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ
يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ يَنْذِرُونَ وَلَا
يُوفُونَ وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ وَيَشْهَدُونَ
وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ»
فَعَابَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
الْقَرْنَ بِأَهْلِهِ يَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ
(3/228)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
غَيْرُ جَائِزٍ وَلَا مُبَاحٍ وَلَوْ كَانَ جَائِزًا
تَرْكُ الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ لَمَا عَابَ بِهِ
الْقَرْنَ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ
يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونَ مُقَيَّدًا فَالْمُطْلَقُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ
الْمُكَلَّفُ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ وَلَا يَجْعَلُ لَهُ
مَخْرَجًا وَالْمُقَيَّدُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ
عَلَيَّ نَذْرُ صَوْمِ يَوْمٍ أَوْ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ
أَوْ صَدَقَةٌ بِدِينَارٍ أَوْ حَجٌّ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ
مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَكِلَا النَّذْرَيْنِ جَائِزٌ
فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَإِنَّ فِيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ
عِنْدَ مَالِكٍ وَعَنْ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ هَذَا النَّذْرُ
وَالثَّانِي أَنَّهُ يَنْعَقِدُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَقَلُّ
مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ
انْعِقَادِهِ قَوْله تَعَالَى {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}
[الحج: 29] وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ خَبَرُ
ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا وَفِيهِ مِنْ قَوْلِ سَعْدٍ إنَّ
أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ
مُطْلَقٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُقَيَّدًا لَاسْتَفْسَرَهُ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا
نَذَرَ لِأَنَّ مِنْ النَّذْرِ الْمُقَيَّدِ مَا يَجِبُ
الْوَفَاءُ بِهِ وَمِنْهُ مَا لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ
وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا وَمِنْهُ مَا لَا يَحِلُّ
الْوَفَاءُ بِهِ وَهُوَ أَنْ يَنْذِرَ مُحَرَّمًا فَلَمَّا
كَانَ النَّذْرُ الْمُقَيَّدُ يَتَنَوَّعُ إلَى مَا لَا
يَجُوزُ وَإِلَى مَا يَجُوزُ كَانَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ
لَوْ كَانَ مُقَيَّدًا لَسَأَلَهُ عَنْ وَجْهِ نَذْرِهَا
لِيُمَيِّزَ مِنْهُ مَا يَجُوزُ مِمَّا لَا يَجُوزُ
وَبِحَسَبِ ذَلِكَ يَكُونُ الْجَوَابُ وَلَمَّا لَمْ
يَسْأَلْ كَانَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ النَّذْرُ الْمُطْلَقُ
الَّذِي لَا يَكُونُ مِنْهُ مَا يَجُوزُ وَمَا لَا
يَلْزَمُ وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ
نَذْرٌ قُصِدَ بِهِ الْقُرْبَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ
بِهِ الْوُجُوبُ أَصْلُ ذَلِكَ إذَا كَانَ مُقَيَّدًا
بِمَا فِيهِ قُرْبَةٌ.
(فَصْلٌ) :
وَإِذَا قُلْنَا إنَّ نَذْرَ أُمِّ سَعْدٍ مِنْ جِهَةِ
اللَّفْظِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا وَيَصِحُّ أَنْ
يَكُونَ مُقَيَّدًا فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي النَّذْرِ
الْمُطْلَقِ فَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَإِنَّهُ قَدْ
يُقَيَّدُ بِمَا فِيهِ قُرْبَةٌ وَيُقَيَّدُ بِمُبَاحٍ لَا
قُرْبَةَ فِيهِ وَيُقَيَّدُ بِمُحَرَّمٍ فَإِذَا قُيِّدَ
بِمَا فِيهِ قُرْبَةٌ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ وَإِنْ لَمْ
يُعَلَّقْ بِشَرْطٍ وَلَا صِفَةٍ مِثْلُ قَوْلِهِ لِلَّهِ
عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ صَلَاةً أَوْ أَصُومَ صَوْمًا
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَا يَلْزَمُ
النَّذْرُ وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا إلَّا أَنْ يُعَلَّقَ
بِشَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ
صَوْمُ يَوْمٍ أَوْ صَلَاةٌ أَوْ صَدَقَةٌ إنْ قَدِمَ
غَائِبِي أَوْ نَزَلَ الْمَطَرُ الْيَوْمَ أَوْ فُرِّجَ
عَنْ الْمَرِيضِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْله
تَعَالَى {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا}
[الإنسان: 7] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ التَّعَلُّقِ
بِصِفَةٍ وَلَا بِغَيْرِ صِفَةٍ فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ
عَلَى عُمُومِهِ وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا
رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَنَّهُ قَالَ «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ
فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا
يَعْصِهِ» وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ
أَلْزَمَ نَفْسَهُ مِنْ جِهَةِ النَّذْرِ مَا يَلْزَمُ
الْوَفَاءُ بِجِنْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ أَصْلُ
ذَلِكَ إذَا عَلَّقَ بِصِفَةٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَيَلْزَمُ النَّذْرُ عَلَى وَجْهِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي نَذْرِهِ عَلَى
اللَّجَاجِ بَيْنَ أَنْ يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ
وَبَيْنَ أَنْ يَفِيَ بِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا
نَقُولُهُ قَوْله تَعَالَى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}
[المائدة: 1] وَالْوَفَاءُ بِهَا أَنْ يَأْتِيَ بِهَا
عَلَى حَسَبِ مَا الْتَزَمَهَا وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ
السُّنَّةِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ»
وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّ هَذِهِ حَالٌ
يَلْزَمُ فِيهَا الْوَفَاءُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ
فَلَزِمَ فِيهَا الْوَفَاءُ بِسَائِرِ الْقُرْبِ كَحَالِ
الرِّضَى.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا إذَا نَذَرَ أَمْرًا مُبَاحًا كَالْجُلُوسِ
وَالْقِيَامِ وَالِاضْطِجَاعِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِذَلِكَ
شَيْءٌ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ
وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِعْلِهِ
وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ وَدَلِيلُنَا عَلَى صِحَّةِ
مَا نَقُولُهُ أَنَّ هَذَا نَذْرُ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ
فَلَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ أَصْلُ ذَلِكَ إذَا نَذَرَ
مَعْصِيَةً.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ لَمْ
تَقْضِهِ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا لَمْ تَقْضِهِ وَلَمْ يَجِبْ
عَلَيْهَا بَعْدُ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ انْعَقَدَتْ
يَمِينُهَا بِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا لَمْ تَقْضِهِ
وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا فَأَمَّا إنْ لَمْ تَكُنْ
قَضَتْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا بِمِثْلِ أَنْ
تَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ أَوْ
إنْ شُفِيَ فُلَانٌ أَوْ إنْ جَاءَ فُلَانٌ هَذَا
الشَّهْرَ فَمَاتَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا
يَلْزَمُهَا قَضَاؤُهُ وَإِنْ فَعَلَتْ فَحَسَنٌ مِثْلُ
مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنِّي نَذَرْت اعْتِكَافَ
يَوْمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْفِ بِنَذْرِك فَأَمَرَهُ»
(3/229)
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَمَّتِهِ أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ عَنْ
جَدَّتِهِ أَنَّهَا كَانَتْ جَعَلَتْ عَلَى نَفْسِهَا
مَشْيًا إلَى مَسْجِدِ قُبَاءَ فَمَاتَتْ وَلَمْ تَقْضِهِ
فَأَفْتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ابْنَتَهَا أَنْ
تَمْشِيَ عَنْهَا قَالَ يَحْيَى وَسَمِعْت مَالِكًا
يَقُولُ لَا يَمْشِ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوَفَاءِ بِهِ
لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ وَتِلْكَ حَالٌ
لَا يَلْزَمُ مَا نَذَرَ فِيهَا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ عَلَيَّ نَذْرٌ
إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَرَادَتْ أَنْ تُكَفِّرَ
نَذْرَهَا قَبْلَ أَنْ تَحْنَثَ فِيهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ
قَوْلُ مَالِكٍ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ قَبْلَ
الْحِنْثِ فَقَالَ مَرَّةً لَا تَجُوزُ وَبِهِ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَقَالَ مَرَّةً تَجُوزُ وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ
كَفَّارَةٌ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى مُوجِبِهَا
أَصْلُ ذَلِكَ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ
الثَّانِيَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ حَلَفَ عَلَى
يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ
عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَمِنْ
جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ مَعْنًى يَحِلُّ
الْيَمِينَ فَجَازَ أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَى الْحِنْثِ
كَالِاسْتِثْنَاءِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَأَمَّا إذَا وَجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهَا مِثْلُ أَنْ
تَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ أَوْ
إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَوَجَبَ عَلَيْهَا بِقُدُومِ
فُلَانٍ أَوْ بِأَنْ كَلَّمَتْ فُلَانًا ثُمَّ مَاتَتْ
قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
لِتَعَذُّرِ الْقَضَاءِ بِسُرْعَةِ مَوْتِهَا قَبْلَ أَنْ
تَقْضِيَ نَذْرَهَا وَلَعَلَّهَا مَاتَتْ فَجْأَةً.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَيَحْتَمِلُ
أَنْ تَكُونَ أَخَّرَتْ لِجَوَازِ تَأْخِيرِهِ لِأَنَّهُ
لَا يَلْزَمُ مَنْ حَنِثَ فِي يَمِينٍ أَنْ يُكَفِّرَ
حِينَ الْحِنْثِ وَلَهُ تَأْخِيرُهَا مَا لَمْ يَغْلِبْ
عَلَى ظَنِّهِ الْفَوَاتُ لَكِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ
التَّعْجِيلُ لِيُبْرِئَ ذِمَّتَهُ مِمَّا لَزِمَهُ
فَقَوْلُ سَعْدٍ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ
بَيِّنٌ لِأَنَّ لَفْظَةَ (عَلَيَّ) إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ
فِيمَا يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ وَأَمَّا
عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ
يُقَالَ أَيْضًا عَلَيْهَا نَذْرٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا
كَانَتْ عَقَدَتْهُ وَالْتَزَمَتْهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ
بَعْدُ عَلَيْهَا أَدَاؤُهُ وَلَكِنَّهُ فِي الْوَجْهِ
الثَّانِي أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(اقْضِهِ عَنْهَا) يَقْتَضِي أَنَّهُ يَصِحُّ أَدَاءُ
ذَلِكَ عَنْهَا وَأَنَّ ذَلِكَ يُبَرِّئُهَا وَيَقْضِيَ
عَنْهَا وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظُ الْأَمْرِ فَإِنَّ
مُقْتَضَاهُ النَّدْبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فَلَا يَجُوزُ
أَنْ يَلْزَمَهُ هُوَ النَّذْرُ بِنَذْرِهَا
وَالْتِزَامِهَا وَيُوجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ
عَنْهَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ
وَلَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ نَذْرًا
مُطْلَقًا فَإِنَّ كَفَّارَتَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهُوَ
مَعْنًى مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِ وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا
فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالْمَالِ
كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ أَوْ يَكُونَ مُخْتَصًّا
بِالْبَدَنِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ أَوْ يَكُونَ لَهُ
تَعَلُّقٌ بِهِمَا كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ فَإِنْ كَانَ
مُخْتَصًّا بِالْمَالِ كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ
وَالتَّحْبِيسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ
فِي جَوَازِ النِّيَابَةِ فِيهِ وَإِنَّ لِمَنْ شَاءَ أَنْ
يَقْضِيَهُ عَنْ الْمَيِّتِ وَيَنُوبُ فِي ذَلِكَ
بِنِيَّةٍ عَنْ نِيَّةِ الْمَيِّتِ فَمَا كَانَ مِنْهَا
مُخْتَصًّا بِالْبَدَنِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ
فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقْضِيَهُ أَحَدٌ عَنْهُ
وَلَا يَنُوبُ فِيهِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مِمَّا
يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ وَالْبَدَنِ كَالْحَجِّ فَقَدْ
قَالَ مَالِكٌ إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُنَفِّذَ فِيهِ
وَصِيَّةَ الْمُوصِي بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَهَذَا
يَقْتَضِي أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مَنْ شَاءَ
مِنْ وَرَثَتِهِ بَعْدَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي
كِتَابِ الْحَجِّ فَإِذَا قُلْنَا إنَّ قَوْلَ سَعْدِ إنَّ
أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ يَقْتَضِي النَّذْرَ
الْمُطْلَقَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْمَالُ لِأَنَّ
كَفَّارَتَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلَا خِلَافَ فِي
صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي ذَلِكَ وَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ
يَحْتَمِلُ النَّذْرَ الْمُقَيَّدَ فَإِنَّ الظَّاهِرَ
أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا يَخْتَصُّ بِالْمَالِ أَوْ بِمَا
لَهُ تَعَلُّقٍ بِالْمَالِ وَالْبَدَنِ وَلِذَلِكَ
أَمَرَهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا وَلَوْ كَانَ مِمَّا
يَخْتَصُّ بِالْبَدَنِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ
النِّيَابَةَ لَا تَصِحُّ فِيهِ كَمَا لَا تَصِحُّ فِي
فُرُوضِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ نَابَ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى
مَكَّةَ فَلَمْ يَقْضِهِ هَلْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي
الْمَشْيِ بِقَدَمِهِ (ص) : (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَمَّتِهِ أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ
عَنْ جَدَّتِهِ أَنَّهَا كَانَتْ جَعَلَتْ عَلَى نَفْسِهَا
مَشْيًا إلَى مَسْجِدِ قُبَاءَ فَمَاتَتْ وَلَمْ تَقْضِهِ
فَأَفْتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ابْنَتَهَا أَنْ
تَمْشِيَ عَنْهَا قَالَ يَحْيَى وَسَمِعْت مَالِكًا
يَقُولُ لَا يَمْشِ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ) .
(ش) : قَوْلُهُ جَعَلَتْ عَلَى نَفْسِهَا مَشْيًا إلَى
قُبَاءَ يَقْتَضِي أَنَّهَا اعْتَقَدَتْ كَوْنَهُ قُرْبَةً
لِمَنْ قَرُبَ مِنْهُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْتِي قُبَاءَ رَاكِبًا وَمَاشِيًا
فَمَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ وَنَذَرَ مَشْيًا إلَى
مَسْجِدِ قُبَاءَ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ
وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ نَذَرَ مَشْيًا إلَى مَسْجِدٍ
وَهُوَ مَعَهُ بِالْبَلَدِ
(3/230)
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي حَبِيبَةَ قَالَ قُلْت لِرَجُلٍ وَأَنَا حَدِيثُ
السِّنِّ مَا عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ مَشْيٌ
إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ عَلَيَّ نَذْرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
فَإِنَّهُ يَمْشِي إلَيْهِ وَيُصَلِّي فِيهِ وَقَدْ
أَوْجَبَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ قَالَ
وَقُبَاءٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ
وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ
يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدٍ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ
فَلْيُصَلِّ بِمَوْضِعِهِ وَيُجْزِئُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ
قَرِيبًا جِدًّا فَلْيَأْتِهِ وَيُصَلِّ فِيهِ وَهَذَا
عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَفْتَى بِهِ مَنْ
نَذَرَتْهُ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَمَّا
مَنْ كَانَ بِغَيْرِ الْمَدِينَةِ مِمَّنْ يَتَكَلَّفُ
إلَيْهِ سَفَرًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ قَصْدُهُ وَمَنْ
نَذَرَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ
حَدِيثُ أَبِي بُصْرَةَ الْغِفَارِيُّ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا
تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ
مَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ
إيلِيَاءَ» فَالْمَشْيُ إلَى مَسْجِدِ قُبَاءَ مِمَّنْ
قَرُبَ مِنْهَا لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الْمَطِيِّ فَأَمَّا
مَنْ نَذَرَ مَشْيًا إلَيْهِ مِمَّنْ عَلَى بُعْدٍ مِمَّنْ
يَكُونُ مِنْ جِهَتِهِ أَعْمَالُ الْمَطِيِّ أَوْ نَذَرَ
مَشْيًا إلَى مَسْجِدِ الْكُوفَةِ أَوْ الْبَصْرَةِ أَوْ
غَيْرِهِمَا مِنْ الْبِلَادِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ فَمَنْ
هُوَ مِنْهَا عَلَى سَفَرٍ لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ
لِأَنَّهُ نَذَرَ نَذْرًا مَحْظُورًا مَمْنُوعًا مِنْهُ
وَأَمَّا مَنْ نَذَرَ إتْيَانَ مَكَّةَ فَإِنَّهُ
يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ
وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ بَعْدَ هَذَا مُسْتَوْعَبًا إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا مَنْ نَذَرَ مَشْيًا إلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مَسْجِدِ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ فَإِنَّ عِنْدَ مَالِكٍ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ
خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ لَا يَلْزَمُهُ
ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ مَا نَقُولُهُ
الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ لَا تُعْمَلُ
الْمَطِيُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ وَهَذَا
يَقْتَضِي إعْمَالَهَا إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا
وَالصَّلَاةُ فِيهَا فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ بِالنَّذْرِ
وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا مَسْجِدٌ
وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِعْمَالِ الْمَطِيِّ إلَيْهِ فَوَجَبَ
أَنْ يَلْزَمَ قَصْدَهُ بِالنَّذْرِ كَالْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ قَصْدُهَا
فَهَلْ يَلْزَمُ الْمَشْيُ لِمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ
إلَيْهِ قَالَ مَالِكٌ يَأْتِيهَا رَاكِبًا وَلَا شَيْءَ
عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ يَأْتِيهَا مَاشِيًا وَإِنْ
بَعُدَ وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ يَأْتِيهَا
رَاكِبًا وَهَلْ إنْ كَانَ قَرِيبًا مِثْلَ الْأَمْيَالِ
الْيَسِيرَةِ أَتَاهَا مَاشِيًا وَهَذَا خَفِيفٌ وَقِيلَ
لَا يَمْشِي وَإِنْ كَانَ مِيلًا وَجْهُ الْقَوْلِ
الْأَوَّلِ فِي نَفْيِ وُجُوبِ الْمَشْيِ أَنَّ هَذَيْنِ
الْمَسْجِدَيْنِ لَا تَتَعَلَّقُ الْقُرْبَةُ فِيهِمَا
بِالْمَشْيِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ الْمَشْيُ
إلَيْهِمَا لِمَنْ نَذَرَهُ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ
الثَّانِيَةِ أَنَّ هَذَا مَسْجِدٌ يَلْزَمُ إتْيَانُهُ
مَنْ نَذَرَهُ فَلَزِمَ الْمَشْيُ إلَيْهِ لِمَنْ نَذَرَهُ
كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَمَاتَتْ وَلَمْ تَقْضِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ
وَقَوْلُهُ فَأَفْتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ
ابْنَتَهَا أَنْ تَمْشِيَ عَنْهَا أَجْرَاهُ مَجْرَى مَا
تَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ مِنْ الْحَجِّ وَذَلِكَ
أَنَّهُ نَذْرٌ مُتَعَلِّقٌ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ هِيَ فِي
نَفْسِهَا قُرْبَةٌ فَجَازَ أَنْ تَدْخُلَهُ النِّيَابَةُ
كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَدْخُلُ
النِّيَابَةُ فِي قَصْدِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَصْدِ مَسْجِدِ
الْمَقْدِسِ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِي الَّتِي
نَذَرَتْ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدِ الرَّسُولِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَاتَتْ قَبْلَ ذَلِكَ لَا
يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَإِنْ شَاءُوا
تَصَدَّقُوا عَنْهَا بِقَدْرِ كِرَائِهَا وَزَادَهَا
ذَاهِبَةً وَرَاجِعَةً وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مَا
ذَكَرْنَاهُ مِنْ النِّيَابَةِ لَوْ أَوْصَتْ بِهِ لِأَنَّ
هَذَا حُكْمُ مَنْ الْتَزَمَ الْمَشْيَ إلَى مَكَّةَ لَا
يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْهُ وَإِنْ شَاءُوا تَصَدَّقُوا
بِقَدْرِ النَّفَقَةِ وَلَوْ أَوْصَى بِهِ لَنَفَذَتْ
وَصِيَّتُهُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ
قُبَاءَ غَيْرَ حُكْمِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِأَنَّ
قَطْعَ الْمَسَافَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِنَفَقَةِ
الْمَالِ إلَيْهِ لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ وَإِنَّمَا
الْقُرْبَةُ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ خَاصَّةً وَحُكْمُهُ فِي
قَطْعِ الْمَسَافَةِ إلَيْهِ حُكْمُ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ
وَهَذَا عِنْدِي أَظْهَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُ مَالِكٍ لَا يَمْشِ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ
يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ فِي حَجٍّ وَلَا غَيْرِهِ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ فِي الْمَشْيِ إلَى
قُبَاءَ خَاصَّةً وَحَمْلُهُ عَلَى عُمُومِهِ أَظْهَرُ
لِقَوْلِنَا بِالْعُمُومِ لِأَنَّ الْمَشْيَ عَمَلٌ
يَخْتَصُّ بِالْبَدَنِ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَالِ
وَإِنْ كَانَ الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ تَعَلَّقَ بِالْمَالِ
وَالْبَدَنِ.
(3/231)
مَشْيٍ فَقَالَ رَجُلٌ هَلْ لَك أَنْ
أُعْطِيَك هَذَا الْجِرْوَ لِجِرْوِ قِثَّاءٍ بِيَدِهِ
وَتَقُولُ عَلَيَّ مَشْيٌ إلَى بَيْتِ اللَّهِ قَالَ
فَقُلْت نَعَمْ فَقُلْته وَأَنَا يَوْمئِذٍ حَدِيثُ
السِّنِّ ثُمَّ مَكَثْت حَتَّى عَقَلْت فَقِيلَ لِي إنَّ
عَلَيْك مَشْيًا فَجِئْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ
فَسَأَلْته عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْك مَشْيٌ فَمَشَيْت
قَالَ مَالِكٌ وَهَذَا الْأَمْرُ عِنْدَنَا) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
(ش) : قَوْلُهُ قُلْت وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ يُرِيدُ
أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَقِهَ بَعْدُ لِصِغَرِ سِنِّهِ
وَحَدَاثَتِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ السِّنِّ
مَبْلَغًا يَتَّسِعُ لِتَفَقُّهِهِ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ
الْأُمُورِ الَّتِي تُنْدَرُ وَلَيْسَتْ بِمُعْتَادَةٍ
كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ الَّتِي تَتَكَرَّرُ وَيَلْزَمُ
التَّفَقُّهُ فِيهَا مِنْ أَوَّلِ الْعُمُرِ وَرَوَى ابْنُ
حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي حَبِيبَةَ يَوْمئِذٍ قَدْ بَلَغَ الْحُلُمَ إلَّا
أَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا بِحَدَثَانِ بُلُوغِهِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ: أَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ
مَشْيٌ إلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ نَذْرَ مَشْيٍ؟
يُرِيدُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ عَلَيَّ
مَشْيٌ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ حَجٌّ
وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّذْرُ
حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِالنَّذْرِ فَيَقُولُ عَلَيَّ نَذْرُ
مَشْيٍ إلَى بَيْتِ اللَّهِ فَاعْتَقَدَ أَنَّ لَفْظَ
الِالْتِزَامِ وَالْإِيجَابِ إذَا عَرَا مِنْ لَفْظِ
النَّذْرِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بِهِ شَيْءٌ وَهَذَا
لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَفَقَّهَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
وَلَا عَرَفَ حُكْمَهَا وَلَا مَا يَلْزَمُ مِنْهَا
وَلَعَلَّ ذَلِكَ أَمْرٌ قَامَ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ
نَظَرٍ وَلَا تَأَمُّلٍ فَاعْتَقَدَ صِحَّتَهُ وَاَلَّذِي
رَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ
ذَلِكَ سَوَاءٌ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ ذَكَرَ
النَّذْرَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ وَبِذَلِكَ أَجَابَهُ
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ حَتَّى يَذْكُرَ النَّذْرَ
وَقَدْ جَعَلَاهُ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ عَلَى أَنَّ
إسْنَادَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ضَعِيفٌ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُ الرَّجُلِ لَهُ هَلْ لَك أَنْ أُعْطِيَك هَذَا
الْجِرْوَ لِجِرْوِ قِثَّاءٍ بِيَدِهِ، وَتَقُولُ عَلَيَّ
مَشْيٌ إلَى بَيْتِ اللَّهِ عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ؛
لِقَوْلِهِ وَالْحَمْلُ لَهُ عَلَى تَعَبِ الْمَشْيِ إلَى
بَيْتِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ
وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ يَغْتَنِمُ مِنْهُ أَخْذَ جِرْوِ
الْقِثَّاءِ لِغَيْرِ سَبَبٍ وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا يَجِبُ
أَنْ لَا يَفْعَلَ فَرُبَّمَا حَمَلَ الْإِنْسَانَ لَا
سِيَّمَا مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ اللُّجَاجُ عَلَى
الْتِزَامِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا لَمْ
يُمْكِنُهُ الْوَفَاءُ بِهِ وَقَدْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ
يُعْلِمَهُ بِوَجْهِ الصَّوَابِ فِيمَا قَالَ فَإِنْ
أَنَابَ إلَيْهِ وَإِلَّا حَضَّهُ عَلَى السُّؤَالِ عَنْهُ
لَكِنَّهُ رُبَّمَا اعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ
يَلْتَزِمْ هَذَا الْقَوْلَ أَغْفَلَ السُّؤَالَ عَنْهُ
وَالْبَحْثَ عَنْ الصَّوَابِ فِيهِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَبِيبَةَ عَلَيَّ
مَشْيٌ إلَى بَيْتِ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مِنْ
بَابِ النَّذْرِ عَلَى سَبِيلِ اللَّجَاجِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِنَا أَنَّهُ يَلْزَمُ إذَا
كَانَ مِمَّا يَلْزَمُ مِثْلُهُ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ وَقَدْ
أَمَرَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ بِالْوَفَاءِ بِهِ
وَأَعْلَمَهُ أَنَّ الْمَشْيَ الَّذِي الْتَزَمَهُ لَازِمٌ
لَهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ مَكَثْتُ حَتَّى عَقَلْتُ) يُرِيدُ
أَنَّهُ عَقَلَ أَمْرَهُ وَأَقْبَلَ عَلَى أَمْرِ دِينِهِ
وَالِاهْتِبَالِ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنْهُ وَمُجَالَسَةِ
أَهْلِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَمُذَاكَرَتِهِمْ لِمَا
جَرَى لَهُ مِنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ إنَّ عَلَيْهِ
الْمَشْيَ عَلَى حَسَبِ مَا الْتَزَمَهُ وَلِأَنَّ تَرْكَ
التَّلَفُّظِ بِالنَّذْرِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَجِبَ
عَلَيْهِ مَا الْتَزَمَهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَقَوْلُهُ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ
أَخْبَرُوهُ بِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُونُوا
عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ فَلَمْ
يَرَ تَقْلِيدَهُمْ فِي ذَلِكَ حَتَّى سَأَلَ عَنْهُ ابْنَ
الْمُسَيِّبِ لِأَنَّهُ كَانَ أَعْلَمُ وَقْتِهِ بَعْدَ
الصَّحَابَةِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَنْ نَزَلَتْ بِهِ
نَازِلَةٌ مِنْ الْعَامَّةِ مَنْ يُقَلِّدُ فِي ذَلِكَ
وَيَقُولُ مَنْ يَأْخُذُ بِلَا خِلَافٍ يَجُوزُ لَهُ
الْأَخْذُ بِقَوْلِ أَفْضَلِهِمْ وَأَعْلَمْهُمْ وَهَلْ
يَجُوزُ لَهُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ غَيْرِهِ إذَا كَمُلَتْ
لَهُ آلَاتُ الِاجْتِهَادِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَعِنْدِي أَنَّهُ
يَجُوزُ لَهُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ
وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ لَيْسَ لَهُ
الْأَخْذُ إلَّا بِقَوْلِ أَفْضَلِهِمْ وَأَعْلَمْهُمْ
وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ
أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ
وَأَعْلَمَ وَقَدْ كَانَ جَمِيعُ فُقَهَائِهِمْ يُفْتِي
وَيَنْتَهِي النَّاسُ إلَى قَوْلِهِ وَيَأْخُذُونَ بِهِ
وَلَوْ وَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى قَوْلِ أَفْضَلِهِمْ
وَأَعْلَمِهِمْ لَمَا جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُفْتِي.
(3/232)
مَا جَاءَ فِيمَنْ نَذَرَ مَشْيًا إلَى
بَيْتِ اللَّهِ فَعَجَزَ
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أُذَيْنَةَ
اللَّيْثِيِّ أَنَّهُ قَالَ خَرَجْت مَعَ جَدَّةٍ لِي
عَلَيْهَا مَشْيٌ إلَى بَيْتِ اللَّهِ حَتَّى إذَا كُنَّا
بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَجَزَتْ فَأَرْسَلَتْ مَوْلًى لَهَا
يَسْأَلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَخَرَجْت مَعَهُ
فَسَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ
اللَّهِ مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ ثُمَّ لِتَمْشِ مِنْ حَيْثُ
عَجَزَتْ قَالَ مَالِكٌ وَنَرَى عَلَيْهَا مَعَ ذَلِكَ
الْهَدْيَ مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ
الْمُسَيِّبِ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
كَانَا يَقُولَانِ مِثْلَ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
فَصْلٌ) :
وَقَوْلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَلَيْك مَشْيٌ عَلَى سَبِيلِ
الْفَتْوَى وَالْجَوَابُ عَنْ مَشْيِهِ الَّذِي سَأَلَ
عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيَّ مَشْيٌ إلَى بَيْتِ اللَّهِ
وَفِي ذَلِكَ مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّ مَا سَأَلَ
عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيَّ مَشْيٌ يَلْزَمُ دُونَ أَنْ
يَقْتَرِنَ بِهِ لَفْظُ النَّذْرِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ
النَّذْرَ لَا يُفِيدُ أَكْثَرَ مِنْ الْتِزَامِ مَا
جَعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَقَوْلُهُ عَلَيَّ مَشْيٌ إلَى
بَيْتِ اللَّهِ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ وَنَصٌّ فَوَجَبَ أَنْ
يَلْزَمَهُ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَتَأَوَّلَ فِي قَوْلِهِ
عَلَيَّ مَشْيٌ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَا يَذْكُرُ حَجًّا
وَلَا عُمْرَةً فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ
أَوْ لَا نِيَّةَ لَهُ فَإِنْ كَانَتْ نِيَّةٌ فَهُوَ
عَلَى مَا نَوَى فَإِنْ نَوَى مَكَّةَ أَوْ مَسْجِدَ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ
مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى
وَإِنْ نَوَى مَسْجِدًا مِنْ الْمَسَاجِدِ غَيْرَهَا
فَلَهُ نِيَّتُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إلَى غَيْرِ
مَا نَوَى رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي
الْمُدَوَّنَةِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ وَاقِعٌ
عَلَى كُلِّ مَسْجِدٍ فَإِذَا نَوَى مَا يَتَنَاوَلُهُ
اللَّفْظُ كَانَ ذَلِكَ لَهُ لَا سِيَّمَا فِيمَا لَا
يُحْكَمُ بِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ
فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ يَلْزَمُهُ
الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا
اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا عَلَى سَائِرِ الْبُيُوتِ
وَالْمَسَاجِدِ فَإِنَّهُ أَظْهَرُ فِي الْمَسَاجِدِ
مِنْهُ فِي الْبُيُوتِ وَهُوَ فِي مَكَّةَ عَلَى طَرِيقِ
الِاخْتِصَاصِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ
كَمَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَاقِعٌ عَلَى
سَائِرِ الرُّسُلِ إلَّا أَنَّهُ فِي نَبِيِّنَا - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَصُّ وَوَجْهُ
الِاخْتِصَاصِ أَظْهَرُ فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَمَشَيْت يُرِيدُ أَنَّهُ الْتَزَمَ ذَلِكَ
وَقَلَّدَ ابْنَ الْمُسَيِّبِ فِيمَا أَفْتَاهُ بِهِ
فَمَشَى إلَى مَكَّةَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ
وَسَنُبَيِّنُ أَحْكَامَ ذَلِكَ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ
اللَّهُ وَقَوْلُ مَالِكٍ وَعَلَى هَذَا الْأَمْرِ
عِنْدَنَا يُرِيدُ مِنْ فَتْوَى ابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي
ذَلِكَ وَلَيْسَ قَوْلُ مَالِكٍ هَذَا عِنْدَ ابْنِ
الْقَاسِمِ وَلَا أَكْثَرِ رُوَاةِ الْمُوَطَّإِ.
[مَا جَاءَ فِيمَنْ نَذَرَ مَشْيًا إلَى بَيْتِ اللَّهِ
فَعَجَزَ]
(ش) : قَوْلُهُ خَرَجْت مَعَ جَدَّةٍ لِي عَلَيْهَا مَشْيٌ
إلَى بَيْتِ اللَّهِ يَقْتَضِي اعْتِقَادَ وُجُوبِ ذَلِكَ
عَلَيْهَا وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَا تَتَكَلَّفُ ذَلِكَ
وَتَبْلُغُ مِنْهُ مَا يَشُقُّ عَلَيْهَا أَنْ تَعْجِزَ
عَنْ إتْمَامِهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ تُوجِبَ ذَلِكَ عَلَى
نَفْسِهَا إنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ
تَسْأَلَ عَنْ ذَلِكَ غَيْرَهَا مِمَّنْ يُعْتَقَدُ
أَنَّهُ يَلْزَمُهَا تَقْلِيدُهُ فَأَفْتَاهَا بِذَلِكَ
وَبِوُجُوبِ الْمَشْيِ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبَّاسٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ
عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ «نَذَرَتْ أُخْتِي
أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ فَأَمَرَتْنِي أَنْ
أَسْتَفْتِيَ لَهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَاسْتَفْتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ»
وَوَجْهُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْحَجَّ
قُرْبَةٌ تَلْزَمُ مَنْ نَذَرَهَا وَالْمَشْيَ إلَيْهِ
نَوْعٌ مِنْ السَّيْرِ إلَيْهِ وَذَاكَ مَشْرُوعٌ مِمَّا
يُتَقَرَّبُ بِهِ كَالْمَشْيِ إلَى الْمَسَاجِدِ
وَالْجَنَائِزِ وَالْجُمَعِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ
فَلَزِمَهُ نَذْرُهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي
الْتَزَمَهَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَفِي ذَلِكَ سِتُّ مَسَائِلَ
إحْدَاهَا فِي تَعْلِيقِ الْمَشْيِ بِمَكَانٍ يَلْزَمُ
الْمَشْيُ إلَيْهِ وَتَبْيِينُهُ مِمَّا لَا يَلْزَمُ
وَالثَّانِيَةُ فِيمَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ مِنْ
الْمَشْيِ وَالْمَسِيرِ وَالثَّالِثُ فِي ابْتِدَاءِ
ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالرَّابِعَةُ فِي
الْعَمَلِ فِيهِ وَالْخَامِسَةُ فِي انْتِهَائِهِ
وَالسَّادِسَةُ فِي مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ لَهُ فَأَمَّا
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَإِنَّ الْمَشْيَ يَتَعَلَّقُ
بِالْأَمَاكِنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ ضَرْبٌ إذَا
عُلِّقَ الْمَشْيُ بِهِ وَجَبَ الْمَسِيرُ إلَيْهِ
وَالْمَشْيُ فِيهِ وَضَرْبٌ إذَا عُلِّقَ الْمَشْيُ بِهِ
لَمْ يَجِبْ الْمَسِيرُ إلَيْهِ وَلَا الْمَشْيُ فِيهِ
وَضَرْبٌ إذَا عُلِّقَ الْمَشْيُ بِهِ وَجَبَ الْمَسِيرُ
إلَيْهِ وَلَمْ يَجِبْ الْمَشْيُ فَأَمَّا الْأَوَّلُ
فَإِنَّ مِنْهُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ
(3/233)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
أَصْحَابُنَا وَمِنْهُ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَأَمَّا
تَعْلِيقُ الْمَشْيِ كَقَوْلِك إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ
إلَى الْكَعْبَةِ أَوْ لِشَيْءٍ مِنْهُ كَقَوْلِك إلَى
الرُّكْنِ أَوْ الْحِجْرِ أَوْ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ
الْبَيْتُ مِنْ جِهَةِ الْبُنَيَّانِ كَقَوْلِك إلَى
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ إلَى مَكَّةَ فَهَذَا لَا
خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ فِي وُجُوبِ الْمَسِيرِ
وَالْمَشْيِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ
فِي إلْحَاقِ الْحَجَرِ وَالْحَطِيمِ بِذَلِكَ وَقَالَ
أَصْبَغُ إذَا سَمَّى شَيْئًا إمَّا بِقَرْيَةِ مَكَّةَ
كَقَوْلِك الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَبِي قُبَيْسٍ
وَقُعَيْقِعَانِ وَأَجْنَادِينَ وَالْأَبْطُحِ
وَالْحَجُونِ وَشِبْهِ ذَلِكَ لَزِمَهُ وَإِذَا سَمَّى مَا
هُوَ خَارِجٌ مِنْ قَرْيَةِ مَكَّةَ لَمْ يَلْزَمْهُ
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ إذَا سَمَّى شَيْئًا مِمَّا فِي
الْحَرَمِ كَمِنًى وَالْمُزْدَلِفَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
لَزِمَهُ وَإِنْ سَمَّى شَيْئًا مِمَّا هُوَ خَارِجَ
الْحَرَمِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا عَرَفَةُ.
وَقَدْ رَوَى الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ مِثْلَ هَذَا عَنْ
أَشْهَبَ وَزَادَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْمَوْضِعَ
الْمُسَمَّى بِعَيْنِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ وَبِهَذَا قَالَ
الشَّافِعِيُّ إلَّا ذِكْرَ عَرَفَةَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُهُ فِي الْقِيَاسِ
شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَنَسْتَحْسِنُهُ إذَا قَالَ
إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ الْكَعْبَةِ وَمَكَّةَ.
فَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ عَلَّقَ
الْمَشْيَ بِغَيْرِ الْبَيْتِ مِمَّا لَا يَشْتَمِلُ
عَلَيْهِ بِالْبُنْيَانِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَصْلُ ذَلِكَ
إذَا عَلَّقَهُ بِسَائِرِ الْبِلَادِ، وَقَوْلُنَا مِمَّا
لَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ بِالْبُنْيَانِ احْتِرَازًا مِنْ
قَوْلِهِ عَلَى الْمَشْيِ إلَى الْحَرَمِ فَقَدْ قَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَلْزَمُهُ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ
لَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْبَيْتِ بِالْبُنْيَانِ وَهَذَا
فَارَقَ قَوْلَهُ عَلَى الْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ وَإِلَى
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِأَنَّ مَكَّةَ وَالْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ يَشْتَمِلَانِ عَلَى الْبَيْتِ بِالْبُنْيَانِ
وَوَجْهُ قَوْلِ أَصْبَغَ مَا احْتَجَّ بِهِ ابْنُ حَبِيبٍ
مِنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ
حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ
هَذَا الْحُكْمَ عِنْدَهُ مُخْتَصٌّ بِحَاضِرِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهِيَ الْقَرْيَةُ وَمَا كَانَ
فِيهَا وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِيمَا
يَلْزَمُ مَنْ نَذَرَ مَشْيًا أَوْ مَسِيرًا فَقَدْ
ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ نَذَرَ مَشْيًا إلَى مَكَّةَ أَنَّهُ
يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إلَيْهَا لِأَنَّهُ صَرَّحَ
بِالْمَشْيِ وَإِنْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَشْيِ فَنَذَرَ
الرُّكُوبَ إلَى مَكَّةَ أَوْ لَمْ يُصَرِّحْ فَنَذَرَ
الِانْطِلَاقَ إلَى مَكَّةَ أَوْ الْمَسِيرَ إلَيْهَا
فَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ قَوْلَانِ
أَحَدُهُمَا الرُّكُوبُ وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ وَالثَّانِي
أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ حَجًّا
أَوْ عُمْرَةً وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَكَّةَ
تَتَعَلَّقُ بِهَا عِبَادَةٌ وَهِيَ الْحَجُّ
وَالْعُمْرَةُ فَإِذَا نَذَرَ الْمُضِيَّ إلَيْهَا لَزِمَ
بِمُجَرَّدِ النَّذْرِ وَإِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِنَذْرِهِ
نِيَّةٌ كَمَنْ نَذَرَ الْمُضِيَّ إلَى مَسْجِدِ
الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَوَجْهُ
الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا
يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُضِيِّ إلَى مَكَّةَ عَلَى وَجْهِ
النَّذْرِ وَالْقَسَمِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ بِهِ
حُكْمٌ حَتَّى تَقْتَرِنَ بِهِ نِيَّةُ الْقُرْبَةُ كَمَنْ
نَذَرَ الْمُضِيَّ إلَى الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا
أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَمَعْنَى قَوْلِ ابْنِ
الْقَاسِمِ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ الرُّكُوبُ
يُرِيدُ فِيمَنْ نَذَرَ الرُّكُوبَ إلَى مَكَّةَ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ أَشْهَبَ فِي هَذَا
إنْ أَرَادَ الْمَشْيَ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ
أَرَادَ التَّخْفِيفَ عَنْ نَفْسِهِ وَأَمَّا الَّذِي
يَنْذِرُ الْمَسِيرَ أَوْ الذَّهَابَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ
بَيْنَ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ لِأَنَّ نَذْرَهُ لَمْ
يَتَعَلَّقْ بِأَحَدِهِمَا بِلَفْظٍ وَلَا نِيَّةٍ.
(فَرْعٌ) إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَمَنْ نَذَرَ مَشْيًا أَوْ
مُضِيًّا فَلَا يَخْلُو أَنْ يُقَيِّدَ ذَلِكَ بِحَجٍّ
أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ يُطْلِقَهُ فَإِنْ قَيَّدَ ذَلِكَ
بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَكَانَ تَقْيِيدُهُ ذَلِكَ
بِلَفْظٍ أَوْ نِيَّةٍ لَزِمَهُ عَلَى مَا الْتَزَمَهُ
وَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَهُ وَلَا شَيْءَ مِنْهُ
فِي غَيْرِ مَا قَيَّدَهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ
عَنْ مَالِكٍ وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ
الْمَاجِشُونِ إنْ قَيَّدَهُ بِحَجٍّ لَمْ يَجُزْ لَهُ
أَنْ يَقْضِيَ مَا فَاتَهُ مِنْ مَشْيِهِ فِي عُمْرَةٍ
وَإِنْ قَيَّدَهُ بِعُمْرَةٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ مَا
فَاتَهُ مِنْهُ فِي حَجٍّ لِأَنَّ عَمَلَ الْحَجِّ
أَكْثَرُ وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَدْ قَيَّدَ
نَذْرَهُ بِنُسُكٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ
وَلَا يَقْضِي شَيْئًا مِنْهُ فِي غَيْرِهِ أَصْلُ ذَلِكَ
إنْ قَيَّدَهُ بِالْحَجِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ
مَشْيًا وَلَا يَقْضِي شَيْئًا مِنْهُ فِي عُمْرَتِهِ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِلَفْظٍ وَلَا نِيَّةٍ
لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَشْيَهُ فِي مَسِيرِ
حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُضِيَّ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ
بِقُرْبَةٍ إلَّا إذَا كَانَ لِأَدَاءِ عِبَادَةٍ
فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ بِالنَّذْرِ إلَّا عَلَى وَجْهِ
الْقُرْبَةِ فَإِذَا قُلْنَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ
أَحَدِهِمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ فِي حَجٍّ
أَوْ عُمْرَةٍ.
1 -
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي ابْتِدَاءِ
ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ
أَيْضًا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ
(3/234)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
يُقَيِّدَهُ بِزَمَانٍ أَوْ مَكَان فَيَلْزَمُهُ عَلَى مَا
قَيَّدَهُ بِهِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ مَشْيٌ إلَى
مَكَّةَ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا أَوْ عَلَيَّ إحْرَامٌ
بِحَجٍّ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا أَوْ فِي شَهْرِ كَذَا لِمَا
يَسْتَقْبِلُ وَسَوَاءٌ قَيَّدَ ذَلِكَ بِالنُّطْقِ أَوْ
النِّيَّةِ رَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ
فَحَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ بِمَوْضِعٍ وَحَنِثَ
بِغَيْرِهِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ
يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ مَوْضِعِ يَمِينِهِ وَرَوَى
ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ يَمْشِي
مِنْ حَيْثُ شَاءَ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ وَقَالَ عَنْ
مَالِكٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَمِينُهُ بِمَكَّةَ فَإِنَّهُ
يَخْرُجُ إلَى الْحِلِّ فَيَمْشِي مِنْهُ مُحْرِمًا فَإِنْ
جَهِلَ فَأَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ خَرَجَ إلَى الْحِلِّ
مُحْرِمًا وَمَشَى مِنْهُ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ يَمِينَهُ
بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ يَقْتَضِي الْمَشْيَ مِنْ حَيْثُ
حَلَفَ لِأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى لَفْظِهِ مَعَ
الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ مَوْضِعَ حِنْثِهِ لَا يَعْلَمُهُ
حِينَ يَمِينِهِ فَلَزِمَ الْمَشْيُ مِنْ مَوْضِعِ
يَمِينِهِ فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ وَاقْتَضَى لَفْظُهُ
الْمَشْيَ إلَيْهَا لَزِمَهُ الْمَشْيُ إلَيْهَا وَذَلِكَ
مِنْ حَيْثُ شَاءَ وَأَقْرَبُ الْمَوَاضِعِ يُجْزِئُهُ
مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَدْنَى الْحِلِّ فَيَجِبُ أَنْ
يَكُونَ إحْرَامُهُ مِنْهُ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ
الْخُرُوجِ إلَيْهِ فَإِنْ جَهِلَ فَأَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ
لَزِمَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ لِمَا الْتَزَمَهُ مِنْ
الْمَشْيِ مِنْهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ
إحْرَامِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ فَيَخْرُجُ إلَيْهِ
مُحْرِمًا.
(فَرْعٌ) وَمَنْ قَالَ أَنَا مُحْرِمٌ إنْ فَعَلْت كَذَا
فَحَنِثَ فَإِنْ قَيَّدَ ذَلِكَ بِوَقْتٍ أَوْ مَكَان
وَكَانَ تَقْيِيدُهُ بِلَفْظٍ أَوْ نِيَّةٍ فَهُوَ عَلَى
مَا قَيَّدَهُ وَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِلَفْظٍ وَلَا
نِيَّةٍ قَالَ مَالِكٌ إنْ كَانَ قَيَّدَ إحْرَامَهُ
بِعُمْرَةٍ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ يَوْمَ يَحْنَثُ إنْ
وَجَدَ مَنْ يَصْحَبُهُ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صُحْبَةً
وَخَافَ أَخَّرَ حَتَّى يَجِدَهُ وَإِنْ كَانَ قَيَّدَ
إحْرَامَهُ بِحَجٍّ أَخَّرَ إحْرَامَهُ إلَى شَهْرِ
الْحَجِّ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ
أَحَدُهَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُحْرِمًا بِنَفْسِ
الْحِنْثِ وَإِنَّمَا يَكُونُ مُحْرِمًا لِدُخُولِهِ فِي
الْإِحْرَامِ بَعْدَ الْحِنْثِ وَالثَّانِي أَنَّ
كَفَّارَةَ الْيَمِينِ يُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا عَلَى
الْفَوْرِ إذَا لَمْ يَمْنَعْ تَعْجِيلُهَا كَرَاهِيَةٌ
وَلَا عُذْرٌ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ
تَأْخِيرُهَا لِلْعُذْرِ وَلَا لِمَعْنًى يُوجِبُ
كَرَاهِيَةَ تَقْدِيمِهَا فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا
بِنَفْسِ الْحِنْثِ وَلَزِمَهُ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ
عِنْدَ الْحِنْثِ وَكَانَتْ الْعُمْرَةُ لَا كَرَاهِيَةَ
فِي تَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ بِهَا يَوْمَ حَنِثَ لَزِمَهُ
الْإِحْرَامُ بِهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ إنْ وَجَدَ صَحَابَةً
يَأْمَنُ مَعَهُمْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ جَازَ لَهُ
تَأْخِيرُ ذَلِكَ لِهَذَا الْعُذْرِ إلَى أَنْ يَزُولَ
بِوُجُودِ الرُّفْقَةِ وَلَمَّا كَانَ الْإِحْرَامُ
بِالْحَجِّ مَكْرُوهًا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ
مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ تَعْجِيلِهِ وَسَاغَ تَأْخِيرُهُ
وَهَذَا مَبْنِيٌّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ
قَبْلَ الْمِيقَاتِ مَكْرُوهٌ وَقَدْ نَصَّ أَصْحَابُنَا
عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ الرَّجُلُ مِنْ
مَنْزِلِهِ مَا لَمْ يَكُنْ قُرْبَ الْمِيقَاتِ إلَّا أَنْ
يَتَعَلَّقَ فِي هَذَا فَإِنَّ كَرَاهِيَةَ تَقْدِيمِ
الْحَجِّ آكَدُ أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ
يَقُولُ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَفِي غَيْرِ أَشْهُرِ
الْحَجِّ لَمْ يَنْعَقِدْ حَجًّا وَلَمْ يَخْتَلِفْ
الْعُلَمَاءُ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ
الْمِيقَاتِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ حَجًّا.
1 -
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ فِي الْعَمَلِ فِي
الْمَشْيِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو الْمَاشِي فِي حَجٍّ أَوْ
عُمْرَةٍ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْمَشْيِ أَوْ يَعْجِزَ
عَنْهُ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ لَزِمَهُ الْمَشْيُ
فَإِنْ كَانَ لَيْسَ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي لَزِمَهُ
الْمَشْيُ مِنْهُ إلَى مَكَّةَ إلَّا طَرِيقٌ وَاحِدٌ
فَالضَّرُورَةُ تَدْعُوا إلَى الْمَشْيِ فِيهِ وَإِنْ
كَانَتْ مِنْهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ فَفِي كِتَابِ ابْنِ
الْمَوَّازِ أَنَّهُ إنْ كَانَ بَعْضُهَا أَخْصَرَ مِنْ
بَعْضٍ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّ طَرِيقٍ شَاءَ
مِنْهَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا
مُعْتَادَةً وَكَذَلِكَ فِيمَنْ كَانَ بِالْأَنْدَلُسِ
لَهُ سَعَةٌ فِي رُكُوبِ الْبَحْرِ وَمِثْلُهُ فِي
الْعُتْبِيَّةِ وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ
مِنْهُ وَهَذَا الِاعْتِلَالُ يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ أَنْ
يَرْكَبَ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ فَإِنْ اخْتَارَ أَنْ
يَرْكَبَ الْبَحْرَ إلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّة ثُمَّ
يَرْكَبَ فِي النِّيلِ إلَى مِصْرَ ثُمَّ يَرْكَبَ
الْبَحْرَ مِنْ الْقُلْزُمِ إلَى جَدَّةَ فَإِنْ كَانَ
هَذَا الْعُذْرُ الْعَجْزَ عَنْ الْمَشْيِ فَهُوَ بَيِّنٌ
لِأَنَّ الرُّكُوبَ فِي الْبَحْرِ كَالرُّكُوبِ فِي
الْبَرِّ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَشْيِ
وَكَانَ هَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الْمُعْتَادُ فَإِنَّهُ
يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَحْمِلُ الْأَلْفَاظَ عَلَى
عَادَتِهَا دُونَ مَوْضُوعِهَا أَنَّ لَهُ ذَلِكَ وَأَمَّا
إنْ كَانَ الطَّرِيقُ الْمُعْتَادُ غَيْرَهُ فَلَيْسَ لَهُ
ذَلِكَ عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فِي نِهَايَةِ
الْمَشْيِ فَإِنَّ الْمَاشِيَ فِي الْحَجِّ لِنَذْرِهِ
أَوْ حِنْثِهِ يَمْشِي حَتَّى يُتِمَّ طَوَافَ
الْإِفَاضَةِ فَإِنْ أَخَّرَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ حَتَّى
يَرْجِعَ مِنْ
(3/235)
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
أَنَّهُ قَالَ كَانَ عَلَيَّ مَشْيٌ فَأَصَابَتْنِي
خَاصِرَةٌ فَرَكِبْت حَتَّى أَتَيْت مَكَّةَ فَسَأَلْت
عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ وَغَيْرَهُ فَقَالُوا عَلَيْك
هَدْيٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
مِنًى لَمْ يَرْكَبْ فِي مِنًى لِرَمْيِ الْجِمَارِ وَإِنْ
قَدَّمَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ يَوْمَ النَّحْرِ رَجَعَ
إلَى مِنًى رَاكِبًا وَرَكِبَ فِي مِنًى لِرَمْيِ
الْجِمَارِ وَحَكَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ
أَنَّهُ يَمْشِي حَتَّى يُكْمِلَ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا
وَإِنْ عَجَّلَ الطَّوَافَ يَوْمَ النَّحْرِ فَإِنَّهُ لَا
يَرْجِعُ إلَى مِنًى إلَّا مَاشِيًا وَيَمْشِي لِمِنًى
لِرَمْيِ الْجِمَارِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ لِأَنَّ ذَلِكَ
مِنْ عَمَلِهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ فِي
شَيْءٍ مِنْ عَمَلِ الْحَجِّ.
(فَرْعٌ) وَإِنْ كَانَ مَشْيُهُ فِي عُمْرَةٍ فَلَمْ
يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّ مَشْيَهُ إلَى أَنْ
يُكْمِلَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
وَذَلِكَ أَنَّ آخِرَ السَّعْيِ تَمَامُ الْعُمْرَةِ
وَأَمَّا الْحِلَاقُ فَإِنَّهُ تَحَلُّلٌ مِنْهَا.
1 -
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ فِي مُشَارَكَةِ
غَيْرِ النَّذْرِ لَهُ بِأَنَّ مَنْ نَذَرَ مَشْيًا إلَى
مَكَّةَ لَا يَخْلُو أَنْ يُقَيِّدَ ذَلِكَ بِعُمْرَةٍ
أَوْ حَجٍّ أَوْ بِهِمَا أَوْ لَا يُقَيِّدَهُ فَإِنْ
قَيَّدَهُ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ مَشَى حَتَّى الْمِيقَاتِ
فَأَحْرَمَ لِعُمْرَتِهِ الَّتِي مَشَى لَهَا وَلِحَجٍّ
فَرْضِهِ وَهُوَ ضَرُورَةٌ فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ
عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ يُجْزِيهِ لِفَرْضِهِ دُونَ
نَذْرِهِ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ قَالَ
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ عَمَلَهُمَا وَاحِدٌ يُرِيدُ
أَنَّهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ وَهَذَا
التَّوْجِيهُ لَا يَصِحُّ فِي مَنْعِ كَوْنِ الْعُمْرَةِ
لِلنَّذْرِ لِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَمْنَعَ
جَوَازَهُ عَنْ الْحَجِّ وَكَانَ يَمْنَعُ ذَلِكَ فِيمَنْ
أَحْرَمَ بِحَجِّهِ لِنَذْرٍ وَفَرْضُهُ أَنْ يُجْزِئُهُ
لِنَذْرِهِ وَلَكِنَّهُ دَلِيلٌ نَاقِصٌ وَمَعْنَى ذَلِكَ
أَنَّهُ طَافَ طَوَافًا وَاحِدًا وَسَعْيًا وَاحِدًا فَلَا
يَنُوبُ إلَّا عَنْ وَاجِبٍ وَاحِدٍ وَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ
الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مَقْصُودٌ لَازِمٌ
عَلَى الْأَفْرَادِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنُوبَ عَنْهَا مَعَ
الْقِرَانِ فَبَطَلَ حُكْمُ الْعُمْرَةِ فَوَجَبَ أَنْ
يَصِحَّ عَنْ الْحَجِّ دُونَ الْعُمْرَةِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ كَانَ قَيَّدَ نَذْرَهُ أَوَّلًا بِحَجٍّ فَمَشَى
فَلَمَّا جَاءَ الْمِيقَاتُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ يَنْوِي
لِنَذْرِهِ وَفَرْضِهِ فَإِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ قَدْ
أَطْلَقَ الْجَوَابَ فِيمَنْ مَشَى فِي نَذْرِهِ وَلَمْ
يَذْكُرْ تَقْيِيدًا وَلَا غَيْرَهُ فَلَمَّا جَاءَ
الْمِيقَاتُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لِنَذْرِهِ وَفَرْضِهِ
أَنَّهُ يُجْزِئُهُ لِنَذْرِهِ وَيَقْضِي فَرْضَهُ وَقَالَ
ابْنُ الْمَوَّازِ إنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ إذَا لَمْ
يُقَيِّدْ نَذْرَهُ بِحَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ وَأَطْلَقَهُ
وَأَمَّا إذَا قَصَدَهُ بِحَجٍّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ
يُنْوَى لَهُمَا فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ لِفَرْضِهِ
وَلَا لِنَذْرِهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَهُمَا
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَأَصْبَغُ يُسْتَحَبُّ لَهُ
أَنْ يَقْضِيَهُمَا وَلَمْ يُفَصِّلَا.
وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَدْ أَحْرَمَ
بِالْحَجِّ وَانْعَقَدَ إحْرَامُهُ وَلَا يَصِحُّ أَنْ
يَنْعَقِدَ إحْرَامٌ عَنْ حَجَّتَيْنِ وَاجِبَتَيْنِ
فَإِذَا لَمْ يَنُبْ إحْرَامُهُ إلَّا عَنْ حَجَّةٍ
وَاحِدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ
آكَدَهُمَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُقَيِّدَ نَذْرَهُ
بِالْحَجِّ أَوْ يُطْلِقَهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا
كَانَ نَذْرُهُ مُطْلَقًا ثُمَّ أَحْرَمَ لَهُ بِالْحَجِّ
فَقَدْ تَعَيَّنَ بِالْحَجِّ وَلَزِمَهُ ذَلِكَ حَتَّى
لَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ أَوْ أَفْسَدَهُ لَلَزِمَهُ أَنْ
يَقْضِيَهُ حَجًّا فَقَدْ صَارَ هَذَا بِالتَّلَبُّسِ بِهِ
بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَيَّدَ نَذْرَهُ بِالْحَجِّ وَإِذَا
كَانَ هَذَا الْإِحْرَامُ يُجْزِئُهُ عَنْ النَّذْرِ
الْمُطْلَقِ فَكَذَلِكَ النَّذْرُ الْمُقَيَّدُ.
وَقَدْ احْتَجَّ ابْنُ الْمَوَّازِ لِلْوَجْهِ الَّذِي
ذَكَرَهُ أَنَّهُ إذَا قَيَّدَ نَذْرَهُ بِالْحَجِّ فَقَدْ
نَذَرَ حَجَّةً تَامَّةً فَلَمَّا قَرَنَ بِهَا حَجَّةَ
الْفَرْضِ كَانَتْ نَاقِصَةً فَلَمْ تُجْزِهِ عَنْ
النَّذْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ النَّذْرُ الْمُطْلَقُ
فَإِنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ بِنَذْرِهِ حَجَّةٌ كَامِلَةٌ
فَيَكُونُ قَدْ نَقَصَهَا عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ قَرَنَ بِهَا
حَجَّةَ فَرِيضَةٍ.
(فَرْعٌ) إذَا قُلْنَا بِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ
حَجَّهُ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ عَنْ إحْدَى الْحَجَّتَيْنِ
فَقَدْ قَالَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ
أَحَدَهُمَا وَهِيَ حَجَّةُ الْفَرْضِ وَقَالَ
الْمُغِيرَةُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ يُجْزِئُهُ عَنْ
فَرْضِهِ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ نَذْرِهِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ
لَمَّا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَنْعَقِدَ الْحَجُّ عَنْهُمَا
وَجَبَ أَنْ يَنْعَقِدَ عَنْ آكَدِهِمَا وَأَوْجَبِهِمَا.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُ مَالِكٍ وَنَرَى عَلَيْهَا مَعَ ذَلِكَ الْهَدْيَ
يُرِيدُ لِتَفْرِيقِ مَشْيِهَا لِأَنَّ الْمَشْيَ فِي
سَفَرٍ وَاحِدٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي
صِحَّةِ الْمَشْيِ أَوْ سُنَّةً مِنْ سُنَنِهِ
وَمُتَمِّمًا لِصِفَتِهِ فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ
النَّقْصُ بِالتَّفْرِيقِ لِلْعَجْزِ عَنْ الْإِتْيَانِ
بِهِ عَلَى وَجْهِهِ لَزِمَ الدَّمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَالْهَدْيُ فِي ذَلِكَ بَدَنَةٌ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ
فَبَقَرَةٌ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَشَاةٌ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ عَشْرَةِ أَيَّامٍ رَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ
وَابْنُ حَبِيبٍ فَإِنْ أَخْرَجَ الشَّاةَ مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَى الْبَدَنَةِ فَفِي كِتَابِ ابْنِ
الْمَوَّازِ تُجْزِئُهُ كَسَائِرِ الْهَدَايَا.
(3/236)
فَلَمَّا قَدِمْت الْمَدِينَةَ سَأَلْت
عُلَمَاءَهَا فَأَمَرُونِي أَنْ أَمْشِيَ مَرَّةً
أُخْرَى مِنْ حَيْثُ عَجَزْت فَمَشَيْت) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
(ش) : قَوْلُهُ كَانَ عَلَيَّ مَشْيٌ يُرِيدُ أَنَّهُ
كَانَ يَلْزَمُهُ بِنَذْرٍ وَأَمَّا الْيَمِينُ
بِمِثْلِ هَذَا فَمَكْرُوهٌ وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَلَى فَضْلِهِ وَعِلْمِهِ لَا
يَحْلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنْ
يَكُونَ فِي نَادِرَةِ غَضَبٍ وَحَرَجٍ وَلَعَلَّهُ
قَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي صِبَاهُ وَقَبْلَ أَنْ يَفْقَهَ
وَلِذَلِكَ احْتَاجَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ حُكْمِهِ
عَطَاءً وَغَيْرَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ.
(فَصْلٌ) :
فَأَصَابَتْنِي خَاصِرَةٌ يُرِيدُ وَجَعَ خَاصِرَةٍ
مَنَعَتْهُ الْمَشْيَ فَرَكِبَ حَتَّى أَكْمَلَ
سَفَرَهُ بِالْوُصُولِ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ سَأَلَ
عَطَاءً أَوْ مَنْ وَجَدَ بِمَكَّةَ مِنْ الْعُلَمَاءِ
فَأَفْتَوْهُ بِأَنَّ عَلَيْهِ الْهَدْيَ وَهَذَا
يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمْ يُوجِبُوا عَلَيْهِ
الْعَوْدَةَ لِجَبْرِ مَا رَكِبَهُ فِي سَفَرِهِ
وَلِذَلِكَ خَالَفَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ جَبْرَ الْمَشْيِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ أَنَّهُ سَأَلَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ
يُرِيدُ لَمَّا اعْتَقَدَ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْ
أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ لِتَطِيبَ نَفْسُهُ بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ عَلَى حُكْمِهِ فَلَمَّا وَجَدَ
الْخِلَافَ أَخَذَ بِالْأَحْوَطِ وَعَادَ لِإِتْمَامِ
الْمَشْيِ.
ص (قَالَ سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ
عِنْدَنَا فِيمَنْ يَقُولُ: عَلَيَّ مَشْيٌ إلَى
بَيْتِ اللَّهِ أَنَّهُ إذَا عَجَزَ رَكِبَ ثُمَّ
عَادَ فَمَشَى مِنْ حَيْثُ عَجَزَ فَإِنْ كَانَ لَا
يَسْتَطِيعُ الْمَشْيَ فَلْيَمْشِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ
ثُمَّ لِيَرْكَبَ وَعَلَيْهِ هَدْيُ بَدَنَةٍ أَوْ
بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ إنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا هِيَ) .
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ فِيمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ
إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى يُرِيدُ مَكَّةَ أَنَّهُ
إنْ عَجَزَ فِي بَعْضِ طَرِيقِهِ عَنْ الْمَشْيِ
أَنَّهُ يَرْكَبُ وَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ
التَّمَادِي عَلَى الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ وَالْأَدَاءِ
لِمَا الْتَزَمَهُ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِثْلَ
ذَلِكَ فِي السَّفَرِ الثَّانِي وَمَا بَعْدَهُ
وَإِنَّمَا مِنْ حُكْمِ الْمَشْيِ أَنْ يَكُونَ فِي
سَفَرٍ وَاحِدٍ فَإِنْ فَرَّقَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ
فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ
وَيَبْتَدِئُ الْمُضِيَّ وَيَجِيءُ مِنْ رِوَايَةِ
ابْنِ الْمَوَّازِ أَنَّ الْمَشْيَ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ
أَفْضَلُ وَإِنْ فَرَّقَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ فَرَّقَهُ لِلْعَجْزِ عَنْ الْمَشْيِ
بِالضَّعْفِ عَنْهُ وَلَا يَخْلُو مِنْ حَالَتَيْنِ
إحْدَاهُمَا أَنْ يَطْمَعَ بِإِكْمَالِ الْمَشْيِ فِي
سَفَرِهِ ثَانِيَةً عَلَى وَجْهِ التَّلْفِيقِ أَوْ
يَيْأَسَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ يَطْمَعُ بِهِ
فَإِنَّهُ يَمْشِي مَا اسْتَطَاعَ فَإِذَا عَجَزَ
رَكِبَ حَتَّى يَسْتَرِيحَ ثُمَّ يَنْزِلُ وَيَمْشِي
وَيَحْصِي مَوَاضِعَ الرُّكُوبِ ثُمَّ يَعُودُ مَرَّةً
أُخْرَى وَيَمْشِي مَا رَكِبَ وَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ
وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَفْرِيقِ الْمَشْيِ وَهَذَا
مَبْنِيٌّ عَلَى ثَلَاثَةِ أُصُولٍ أَحَدُهَا أَنَّ
الْمَشْيَ قَدْ لَزِمَهُ بِنَذْرِهِ أَوْ حِنْثِهِ فِي
يَمِينِهِ وَالثَّانِي إذَا عَجَزَ عَنْ الْمَشْيِ فِي
طَرِيقِهِ لَا يُمْكِنُهُ التَّوَقُّفُ وَالْإِرَاحَةُ
بِكُلِّ مَوْضِعٍ يُدْرِكُهُ فِيهِ الْعَجْزُ وَلَا
بُدَّ لَهُ مِنْ اسْتِدَامَةِ الْمَسِيرِ وَذَلِكَ لَا
يَكُونُ إلَّا بِالرُّكُوبِ إلَى أَنْ يُرِيحَ فَجَازَ
لَهُ الرُّكُوبُ لِذَلِكَ وَلَا يَنُوبُ الرُّكُوبُ
عَنْ الْمَشْيِ وَإِنَّمَا يُجْزِئُهُ الْوُصُولُ
وَيَبْقَى مَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْمَشْيِ فِي
ذِمَّتِهِ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ مِنْ الْمَكَانِ
الَّذِي الْتَزَمَهُ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ وَفِي
نُسُكٍ مِنْ جِنْسِ نُسُكِهِ الَّذِي لَزِمَهُ فِيهِ
فَلَزِمَهُ التَّلْفِيقُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
وَالثَّالِثُ أَنَّ الْقَضَاءَ أَقَلُّ فِي سَفَرٍ
وَاحِدٍ وَلَا يَكَادُ أَنْ تَلْحَقَ الْمَشَقَّةُ
فِيهِ فَلِذَلِكَ لَزِمَ التَّلْفِيقُ مَنْ رَجَا أَنْ
يُتِمَّ قَضَى مَشْيَهُ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ وَمَنْ
لَمْ يَرْجُ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُلَفِّقَ
بِالْقَضَاءِ فَفِي أَكْثَرَ مِنْ سَفَرٍ وَاحِدٍ
لِأَنَّ التَّكَرُّرَ يَشُقُّ عَلَيْهِ وَلَا
نِهَايَةَ لَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ رَجَعَ لِلتَّلْفِيقِ
فِي الْقَضَاءِ فَلَمْ يَسْتَوْفِهِ لَمْ يَجِب
عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ مَرَّةً أُخْرَى لِلْقَضَاءِ
وَذَلِكَ أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يُلَفَّقُ وَإِنَّمَا
يُلَفَّقُ بِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ بِالْإِكْمَالِ بِالْمَشْيِ
فِي سَفَرِهِ ثَانِيَةً لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ
وَلْيَمْشِ مَا اسْتَطَاعَ فِي سَفَرِهِ الْأَوَّلِ
وَيُهْدِي وَلَا يَعُودُ لِلتَّلْفِيقِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَلَا يَخْلُو عَجْزُهُ عَنْ
مَشْيِ بَعْضِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ أَحَدُهَا
أَنْ يَكُونَ قَدْ رَكِبَ مِنْهُ الْكَثِيرَ أَوْ
رَكِبَ مِنْهُ الْيَسِيرَ كَالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ
أَوْ رَكِبَ الْأَمْيَالَ فَإِنْ كَانَ رَكِبَ
الْكَثِيرَ مِثْلَ أَنْ يَرْكَبَ عَقَبَةً وَيَمْشِيَ
عَقَبَةً فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ
إنْ هَذَا رَجَعَ ابْتَدَأَ الْمَشْيَ كُلَّهُ مِنْ
أَوَّلِهِ وَفِي الْوَاضِحَةِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ
يَرْجِعُ يَمْشِي مَا رَكِبَ فِيهِ مِنْ تَفْصِيلِ
وَجْهِ رِوَايَةِ ابْنِ الْمَوَّازِ إنْ حُمِلَتْ
عَلَى ظَاهِرِهَا أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ الرُّكُوبُ
حَتَّى سَاوَى بِالْمَشْيِ أَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ
لَمْ يَكُنْ لِمَا مَشَى حُكْمٌ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ
حُكْمُهُ إذَا كَانَ الرُّكُوبُ تَبَعًا وَوَجْهُ
رِوَايَةِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ إنَّمَا دَخَلَ
عَلَيْهِ النَّقْصُ
(3/237)
(ص) : (سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الرَّجُلِ
يَقُولُ لِلرَّجُلِ أَنَا أَحْمِلُك إلَى بَيْتِ
اللَّهِ فَقَالَ مَالِكٌ إنْ نَوَى أَنْ يَحْمِلَهُ
عَلَى رَقَبَتِهِ يُرِيدُ بِذَلِكَ الْمَشَقَّةَ
وَتَعَبَ نَفْسِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ
وَلْيَمْشِ عَلَى رِجْلَيْهِ وَلْيُهْدِ وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ نَوَى شَيْئًا فَلْيَحْجُجْ وَلْيَرْكَبْ
وَلْيَحْجُجْ بِذَلِكَ الرَّجُلُ مَعَهُ وَذَلِكَ
أَنَّهُ قَالَ أَنَا أَحْمِلُك إلَى بَيْتِ اللَّهِ
فَإِنْ أَبِي أَنْ يَحُجَّ مَعَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ
شَيْءٌ وَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
بِرُكُوبِ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَجَزَ عَنْ الْمَشْيِ
فِيهِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ جَبْرُهُ بِالْمَشْيِ
فِيهِ إذَا كَانَ الْمَشْيُ مِمَّا يُجْبَرُ وَيَجِبُ
عَلَيْهِ الدَّمُ لِلتَّفْرِيقِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ رَكِبَ أَقَلَّ مِنْ الْيَوْمِ فِي رِوَايَةِ
ابْنِ حَبِيبٍ أَوْ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فِي
رِوَايَةِ ابْنِ الْمَوَّازِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ
وَيَمْشِي مَا رَكِبَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ
يُقَدِّمُ مِنْ مَشْيِهِ مَا فِيهِ قَضَاءٌ لِبَعْضِهِ
فَبَقِيَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْهُ فِي
مِثْلِ نُسُكِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ كَانَ رُكُوبُهُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ
لَيْسَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ لِجَبْرِ مَشْيِهِ
وَيُجْزِئُهُ مِنْ ذَلِكَ الْهَدْيُ وَوَجْهُ ذَلِكَ
قِلَّةُ مَا يَلْزَمُهُ جَبْرُهُ مِنْهُ مَعَ عَظِيمِ
مَا يَتَكَلَّفُ مِنْ الْمَشَقَّةِ بِاسْتِئْنَافِ
سَفَرٍ آخَرَ لِلْقَضَاءِ لَا سِيَّمَا لِمَنْ لَمْ
تَقْرُبْ دَارُهُ وَأَمَّا مَنْ قَرُبَتْ دَارُهُ مِنْ
مَكَّةَ كَالْيَوْمِ وَالثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ قَالَ
الْإِمَامُ أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- فَإِنَّ رُكُوبَ الْيَوْمِ عِنْدِي فِي حَقِّهِمْ
كَثِيرٌ وَمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي
الْقَضَاءِ لَيْسَ بِتَكْثِيرٍ وَلَمْ أَرَ فِيهِ
نَصًّا.
(فَرْعٌ) وَهَذَا إذَا كَانَ مَشْيُهُ فِي الطَّرِيقِ
فَأَمَّا مَنْ رَكِبَ فِي التَّوَجُّهِ إلَى عَرَفَةَ
وَتَصَرَّفَ فِي الْمَنَاسِكِ رَاكِبًا فَفِي
الْمُدَوَّنَةِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَحُجَّ ثَانِيَةً
رَاكِبًا حَتَّى يَقْضِيَ سَعْيَهُ ثُمَّ يُتِمَّ
حَجَّةً مَاشِيًا لِيَقْضِيَ مَشْيَ مَا فَاتَهُ
مِمَّا كَانَ رَكِبَهُ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا
الْمَشْيَ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَإِنَّهُ لَمَّا
كَانَ فِي الْمَنَاسِكِ كَانَ الرُّجُوعُ لَهُ
أَوْكَدَ لِأَنَّهَا أَرْكَانُ الْحَجِّ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَعَلَيْهِ هَدْيُ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ
أَوْ شَاةٍ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا هِيَ يَحْتَمِلُ
أَنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ إلَى الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ
الْمَشْيَ خَاصَّةً وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ
إلَيْهِ وَإِلَى الَّذِي عَجَزَ عَنْ بَعْضِ الْمَشْيِ
وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَقَوْلُهُ أَوْ شَاةٍ وَإِنْ لَمْ
يَجِدْ إلَّا هِيَ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ
إخْرَاجُهَا وَإِنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا وَفِي
بَعْضِ النُّسَخِ أَوْ شَاةٍ إنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا
هِيَ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّاةَ إنْ لَمْ يَجِدْ
بَدَنَةً وَلَا بَقَرَةً.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَنْ
قَالَ لِآخَرَ أَنَا أَحْمِلُك إلَى بَيْتِ اللَّهِ
يُرِيدُ مَكَّةَ وَنَوَى أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى
رَقَبَتِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمَشَقَّةِ عَلَى
نَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ حَمْلُهُ عَلَى
عُنُقِهِ وَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّهُ لِأَنَّهُ
لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى
عُنُقِهِ كَقَوْلِهِ أَنَا أَحْمِلُ هَذَا الْعَمُودَ
وَهَذَا الْحَجَرَ وَهَذِهِ الطُّنْفُسَةُ وَعَلَيْهِ
أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنَا
أَحْمِلُك يُرِيدُ عَلَى عُنُقِهِ يَتَضَمَّنُ
الْمَشْيَ لِأَنَّ مَنْ حَمَلَ ثِقْلًا إنَّمَا
يَحْمِلُهُ مَاشِيًا فَلَزِمَهُ الْمَشْيُ إلَى
مَكَّةَ لَمَّا كَانَ قُرْبَةً وَلَمْ يَلْزَمْ
حَمْلُهُ عَلَى عُنُقِهِ لِأَنَّهُ لَا قُرْبَةَ فِيهِ
وَالنَّذْرُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرْبِ دُونَ
غَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ الَّذِي قَالَ أَنَا
أَحْمِلُهُ إلَى مَكَّةَ شَيْءٌ خَفِيفٌ لَا مَشَقَّةَ
فِي حَمْلِهِ رَاكِبًا فَعَلَيْهِ الرُّكُوبُ إلَى
مَكَّةَ حَاجًّا رَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ قَالَ
الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِمَّا
جَرَتْ الْعَادَةُ أَنْ يَحْمِلَهُ الرَّاكِبُ مَعَهُ
لَمْ يَتَضَمَّنْ حَمْلُهُ الْمَشْيَ فَلَمْ
يَلْزَمْهُ الْمَشْيُ وَلَزِمَهُ الْوُصُولُ إلَى
مَكَّةَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ بِحَسَبِ مَا
تَضَمَّنَهُ يَمِينُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ (وَلْيُهْدِ) يُرِيدُ لَمَّا الْتَزَمَ
مِنْ صِفَةِ الْمَشْيِ الَّتِي لَا تَلْزَمُهُ
وَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ وَالنَّدْبِ.
وَقَدْ قَالَ ذَلِكَ ابْنُ حَبِيبٍ فِيمَنْ نَذَرَ
الْمَشْيَ إلَى مَكَّةَ حَافِيًا أَنَّ هَدْيَهُ عَلَى
وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ وَالنَّدْبِ لِالْتِزَامِهِ
مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَلْزَمُهُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ نَوَى شَيْئًا يُرِيدُ
أَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْ بِنِيَّةٍ مِمَّا ذَكَرْنَا
مِنْ إتْعَابِ نَفْسِهِ بِحَمْلِهِ فَلْيَحْجُجْ
لِيَحُجَّ بِالرَّجُلِ مَعَهُ لِأَنَّ لَفْظَةَ حَمْلِ
الرَّجُلِ إلَى مَكَّةَ تَقْتَضِي إيصَالَهُ إلَيْهَا
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ تَعْدِلُ بِهِ عَنْ
الْقُرْبَةِ وَجَبَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى وَجْهِ
الْقُرْبَةِ وَهُوَ تَكَلُّفُ مُؤْنَةِ الرَّجُلِ إلَى
مَكَّةَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ إلَّا أَنَّ هَذَا
مَوْقُوفٌ عَلَى إرَادَةِ الرَّجُلِ لِأَنَّ
الْحَالِفَ لَا يَمْلِكُهُ فَإِنْ أَرَادَ الرَّجُلُ
الْحَجَّ مَعَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي الْتَزَمَهُ
(3/238)
(ص) : (سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الرَّجُلِ
يَحْلِفُ بِنُذُورٍ مُسَمَّاةٍ مَشْيًا إلَى بَيْتِ
اللَّهِ أَنْ لَا يُكَلِّمَ أَخَاهُ أَوْ أَبَاهُ
بِكَذَا وَكَذَا نَذْرًا لِشَيْءٍ لَا يَقْوَى
عَلَيْهِ وَلَوْ تَكَلَّفَ ذَلِكَ كُلَّ عَامٍ
لَعُرِفَ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ عُمْرُهُ مَا جَعَلَ
عَلَى نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ هَلْ
يُجْزِيهِ مِنْ ذَلِكَ نَذْرٌ وَاحِدٌ أَوْ نُذُورٌ
مُسَمَّاةٌ فَقَالَ مَالِكٌ مَا أَعْلَمُهُ يُجْزِيهِ
مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْوَفَاءُ بِمَا جَعَلَ عَلَى
نَفْسِهِ فَلَيْسَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ
الزَّمَانِ وَلْيَتَقَرَّبْ إلَى اللَّهِ بِمَا
اسْتَطَاعَ مِنْ الْخَيْرِ) .
الْعَمَلُ فِي الْمَشْيِ إلَى الْكَعْبَةِ (ص) :
(قَالَ مَالِكٌ إنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ بِالْمَشْيِ إلَى
بَيْتِ اللَّهِ أَوْ الْمَرْأَةِ تَحْلِفُ فَيَحْنَثُ
أَوْ تَحْنَثُ أَنَّهُ إنْ مَشَى الْحَانِثُ مِنْهُمَا
فِي عُمْرَةٍ فَإِنَّهُ يَمْشِي حَتَّى يَسْعَى بَيْنَ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَإِذَا سَعَى فَقَدْ فَرَغَ
وَأَنَّهُ إنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ مَشْيًا فِي
الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَمْشِي حَتَّى يَأْتِيَ مَكَّةَ
ثُمَّ يَمْشِي حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْمَنَاسِكِ
كُلِّهَا وَلَا يَزَالُ مَاشِيًا حَتَّى يُفِيضَ قَالَ
مَالِكٌ وَلَا يَكُونُ مَشْيٌ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ
عُمْرَةٍ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ
الرَّجُلُ لَمْ يَلْزَمْهُ هُوَ شَيْءٌ فِي إحْجَاجِ
الرَّجُلِ وَيَلْزَمُهُ هُوَ الْحَجِّ أَوْ
الْعُمْرَةُ قَالَهُ مَالِكٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ
قَوْلَهُ أَنَا أَحْمِلُ فُلَانًا يَقْتَضِي
مُضِيَّهُمَا فَقَدْ لَزِمَهُ مُضِيُّهُ لِنَذْرِهِ
وَمُضِيُّ الرَّجُلِ مَوْقُوفٌ عَلَى اخْتِيَارِهِ
وَمَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّإِ فَإِنْ
أَبَى أَنْ يَحُجَّ مَعَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ
يُرِيدُ بِسَبَبِ الرَّجُلِ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ
الْحَجَّ يَسْقُطُ عَنْهُ.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ أَنَّ مَنْ الْتَزَمَ مِنْ
النُّذُورِ فِي الْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ مَا لَا
يَسْتَطِيعُ عُمْرُهُ لِأَدَائِهِ مِثْلُ أَنْ
يَنْذِرَ أَلْفَ حَجَّةٍ أَوْ يَحْلِفَ بِهَا فَحَنِثَ
فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ ذَلِكَ
وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْهُ شَيْءٌ إلَّا الْوَفَاءَ بِهِ
وَلَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَاتَّسَعَ عُمْرُهُ لَهُ
غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِجَرْيِ الْعَادَةِ أَنَّ
ذَلِكَ لَا يَكُونُ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْهُ
بِمَا اتَّسَعَ عُمْرُهُ لَهُ وَيَسْتَغْفِرَ اللَّهَ
تَعَالَى مِنْ الْتِزَامِهِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ
عَلَيْهِ وَيَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِمَا أَمْكَنَهُ مِنْ
أَعْمَالِ الْبِرِّ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِي
امْرَأَةٍ حَلَفَتْ أَنْ لَا تُكَلِّمَ أَبَاهَا
بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ سَبْعَ مَرَّاتٍ قَالَ
تُكَلِّمُهُ وَتَمْشِي سَبْعَ مَرَّاتٍ فَإِنْ لَمْ
تَطُفْ حَجَّتْ أَوْ اعْتَمَرَتْ سَبْعَ مَرَّاتٍ
وَتُهْدِي فِي كُلِّ مَرَّةٍ.
[الْعَمَلُ فِي الْمَشْيِ إلَى الْكَعْبَةِ]
(ش) : قَوْلُهُ فِي الرَّجُلِ أَوْ الْمَرْأَةِ
يَحْلِفُ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ فَيَحْنَثُ
أَوْ تَحْنَثُ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ يَقْتَضِي
أَنَّهَا يَمِينٌ تَلْزَمُ وَيَحْنَثُ فِيهَا
بِالْمُخَالَفَةِ فَيَجِبُ بِالْحِنْثِ فِيهَا مَا
الْتَزَمَهُ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ مِنْهُمَا
لَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُنَا وَمَا
يَعْزِي إلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ أَفْتَى
بِالنَّذْرِ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ لَا يَصِحُّ وَقَدْ
بَيَّنْتُهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَبِهَذَا قَالَ
جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَبِهِ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَلْزَمُ الْمَشْيُ
إلَى مَكَّةَ بِالنَّذْرِ وَعَلَيْهَا أَنْ تَمْشِيَ
إلَى مَكَّةَ وَأَمَّا مَنْ حَلَفَ بِهَا وَحَنِثَ
فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا
نَقُولُهُ أَنَّ هَذَا مَعْنًى يَلْزَمُ بِهِ
الْعِتْقُ فَلَزِمَ بِهِ الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ
أَصْلُ ذَلِكَ النَّذْرُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ بِالْمَشْيِ إلَى
بَيْتِ اللَّهِ أَوْ الْمَرْأَةِ إلَى آخِرِ
الْمَسْأَلَةِ يَقْتَضِي أَنَّ حُكْمَهُمَا فِي ذَلِكَ
وَاحِدٌ وَأَنَّ الْمَرْأَةَ يَلْزَمُهَا ذَلِكَ كَمَا
يَلْزَمُ الرَّجُلُ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الْمَشْيُ
عَنْ مَنْ يَسْقُطُ عَنْهُ مِنْهُمَا لِعَجْزِهِ
عَنْهُ فَيَسْقُطُ إلَى بَدَلٍ وَهُوَ الْهَدْيُ مَعَ
مَا يُطَاقُ مِنْ الْمَشْيِ وَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ
مَالِكٍ وَالْمَشْيُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
سَوَاءٌ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ نَذْرٌ يَصِحُّ مِنْ
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَوَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَيَا
فِيهِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ.
(فَصْلٌ) :
وَإِنْ مَشَى الْحَانِثُ مِنْهُمَا فِي عُمْرَةٍ
فَإِنَّهُ يَمْشِي حَتَّى يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ يُرِيدُ أَنَّ مَنْ لَزِمَهُ الْمَشْيُ
مِنْهُمَا سَوَاءٌ كَانَ مَشْيُهُ مُقَيَّدًا
بِعُمْرَةٍ أَوْ مُطْلَقًا فَجَعَلَهُ فِي عُمْرَةٍ
فَإِنَّ كَمَالَ مَشْيِهِ بِانْقِضَاءِ السَّعْيِ
لِأَنَّهُ آخِرُ عَمَلِ الْعُمْرَةِ وَإِنْ كَانَ
مَشْيُهُ فِي حَجٍّ إمَّا لِأَنَّهُ قَيَّدَ نَذْرَهُ
بِهِ أَوْ كَانَ مُطْلَقًا فَجَعَلَهُ فِي حَجٍّ
فَإِنْ أَخَّرَ مَشْيَهُ إلَى انْقِضَاءِ الْمَنَاسِكِ
لِأَنَّ ذَلِكَ آخِرُ عَمَلِ الْحَجِّ فَلَا يَسْقُطُ
عَنْهُ وُصُولُهُ إلَى مَكَّةَ مَاشِيًا الْمَشْيَ فِي
(3/239)
مَا لَا يَجُوزُ مِنْ النُّذُورِ فِي
مَعْصِيَةِ اللَّهِ (ص) : (مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ
قَيْسٍ وَثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ أَنَّهُمَا
أَخْبَرَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَحَدُهُمَا يَزِيدُ فِي
الْحَدِيثِ عَلَى صَاحِبِهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا
قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ مَا بَالُ هَذَا
قَالُوا نَذَرَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ وَلَا
يَسْتَظِلَّ وَلَا يَجْلِسَ وَيَصُومَ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَجْلِسْ
وَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ» قَالَ مَالِكٌ وَلَمْ أَسْمَعْ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِكَفَّارَةٍ وَقَدْ أَمَرَهُ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ طَاعَةً وَيَتْرُكَ
مَا كَانَ لِلَّهِ مَعْصِيَةً) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْمَنَاسِكِ إلَى عَرَفَةَ وَغَيْرِهَا لِأَنَّ
اللَّفْظَ وَإِنْ تَنَاوَلَ الْمَشْيَ إلَى مَكَّةَ
فَإِنَّ عُرْفَ الْمَشْيِ إلَيْهَا بِهَذِهِ
الْقُرْبَةِ يُحْمَلُ الْمَشْيُ إلَيْهَا عَلَى ذَلِكَ
وَلَوْ جَازَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَشْيِ إلَى
مَكَّةَ فِي الْمَشْيِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ
يَتَنَاوَلْ غَيْرَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُحْمَلَ
عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ حَجٌّ وَلَا عُمْرَةٌ
وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى مَكَّةَ
لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَ ذَلِكَ
وَهَذَا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ
يَمْشِي حَتَّى يَأْتِيَ مَكَّةَ ثُمَّ يَمْشِي حَتَّى
يَفْرُغَ مِنْ الْمَنَاسِكِ لِئَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ
أَنَّ وُصُولَهُ إلَى مَكَّةَ يُسْقِطُ عَنْهُ
الْمَشْيَ فِي الْمَنَاسِكِ وَأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ
يَمْشِي فِي الْمَنَاسِكِ إنَّمَا ذَلِكَ
لِلْمُرَاهِقِ الَّذِي أَعْجَلَهُ خَوْفُ الْفَوَاتِ
عَنْ إتْيَانِ مَكَّةَ فَبَدَأَ بِهَا قَبْلَ إتْيَانِ
مَكَّةَ بِقَصْدِ رَفْعِ الْأَشْكَالِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ لَا يَزَالُ مَاشِيًا حَتَّى يُفِيضَ
بَعْدَ قَوْلِهِ ثُمَّ يَمْشِي حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ
الْمَنَاسِكِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ مِنْ رِوَايَةِ
ابْنِ حَبِيبٍ وَقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ مَا يُغْنِي
عَنْ إعَادَتِهِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَلَا يَكُونُ مَشْيٌ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ
عُمْرَةٍ يَحْتَمِلُ تَأْوِيلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ نَذَرَ مَشْيًا إلَى غَيْرِ
مَكَّةَ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لَا إلَى الْمَدِينَةِ
وَلَا غَيْرِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ حَجٌّ وَلَا
عُمْرَةٌ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ النَّاذِرَ
لِلْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ
أَحْوَالٍ أَحَدُهَا أَنْ يَقْصِدَ بِنَذْرِهِ
النُّسُكَ أَوْ يُطْلِقَ النِّيَّةَ أَوْ يَنْوِي
الْمَشْيَ خَاصَّةً دُونَ النُّسُكِ فَإِنْ قَيَّدَ
نِيَّتَهُ بِالنُّسُكِ أَوْ أَطْلَقَهَا لَزِمَهُ
الْمَشْيُ وَالنُّسُكُ لِأَنَّ ظَاهِرَ نَذْرِهِ
الْقُرْبَةُ، وَالْقُرْبَةُ إنَّمَا هِيَ فِي
النُّسُكِ وَأَمَّا إنْ قَيَّدَ نَذْرَهُ بِالْمَشْيِ
خَاصَّةً فَلَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا.
[مَا لَا يَجُوزُ مِنْ النُّذُورِ فِي مَعْصِيَةِ
اللَّهِ]
(ش) : قَوْلُهُ رَأَى أَنَّ رَجُلًا قَائِمًا فِي
الشَّمْسِ يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ رَآهُ
مُلَازِمًا لِذَلِكَ دُونَ قُعُودٍ مَعَ التَّمَكُّنِ
مِنْ الِاسْتِظْلَالِ وَالْقُعُودِ وَخَارِجًا فِيهِ
عَنْ عَادَةِ النَّاسِ فَسَأَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ سَبَبِهِ
فَأُعْلِمَ أَنَّهُ نَذَرَ هَذِهِ الْمَعَانِي مِنْ
الْقِيَامِ لِلشَّمْسِ وَالصِّيَامِ وَالصَّمْتِ
وَهَذِهِ الْمَعَانِي مِنْهَا مَا يَلْزَمُ
بِالنَّذْرِ لِكَوْنِهِ طَاعَةً وَهُوَ الصَّوْمُ
وَمِنْهَا مَا لَا يَلْزَمُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ
طَاعَةٌ كَالْقِيَامِ لِلشَّمْسِ وَالصَّمْتِ فَأَمَرَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- مَنْ يُعْلِمُهُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ ذَلِكَ
لِيَفِيَ بِنَذْرِهِ فِيهِ وَيُعْلِمَهُ بِمَا لَا
يَلْزَمُهُ فَيَتْرُكُ إتْعَابَ نَفْسِهِ فِيهِ
وَإِلْزَامَهَا إيَّاهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ لِأَنَّ
فِيهِ قُرْبَةً لِأَنَّ الْمَشْيَ فِي الطَّوَافِ
وَالسَّعْيِ قُرْبَةٌ وَالْمَشْيَ إلَيْهَا لِمَنْ
يَقْدِرُ عَلَى الرُّكُوبِ قُرْبَةٌ فِي جَمِيعِ
الطَّرِيقِ وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ
إنَّ فِي حَجِّ الْمَاشِي مِنْ الْقُرْبَةِ مَا لَيْسَ
فِي حَجِّ الرَّاكِبِ وَأَمَّا الْوُقُوفُ فِي
الشَّمْسِ فَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَأَمَّا تَرْكُ
الِاسْتِظْلَالِ حَالَ الْمَشْيِ لِلْمُحْرِمِ
فَإِنَّمَا هُوَ قُرْبَةٌ حَالَ الْإِحْرَامِ كَتَرْكِ
لُبْسِ الْمَخِيطِ وَتَرْكِ التَّطَيُّبِ وَالصَّيْدِ
فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ بِالنَّذْرِ إلَّا مَا
يَخْتَصُّ مِنْهُ بِالْإِحْرَامِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُ مَالِكٍ وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَمَرَهُ بِكَفَّارَةٍ يُرِيدُ مَالِكٌ بِذَلِكَ
نَفْيَ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ فِيمَا تَرَكَهُ مِنْ
نَذْرِهِ لَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا
ذَهَبَ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ لَا
كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ فِي
الشَّمْسِ وَالصَّمْتِ لَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ
شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ فِيمَنْ نَذَرَ
الْمَشْيَ إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ
لَا يَمْشِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَكُلُّ مَنْ
الْتَزَمَ شَيْئًا لَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ بِالنَّذْرِ
لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَدَلٌ مِنْهُ
(3/240)
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ
يَقُولُ أَتَتْ امْرَأَةٌ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ فَقَالَتْ إنِّي نَذَرْت أَنْ أَنْحَرَ
ابْنِي فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا تَنْحَرِي ابْنَك
وَكَفِّرِي عَنْ يَمِينِك فَقَالَ شَيْخٌ عِنْدَ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَكَيْفَ يَكُونُ فِي هَذَا كَفَّارَةٌ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ
{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ}
[المجادلة: 2] ثُمَّ جَعَلَ فِيهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ
مَا قَدْ رَأَيْت) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَقَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ
لِلَّهِ فِيهِ طَاعَةٌ وَيَتْرُكَ مَا كَانَ لِلَّهِ
فِيهِ مَعْصِيَةٌ يُرِيدُ بِالطَّاعَةِ الصَّوْمَ
وَبِالْمَعْصِيَةِ الْقِيَامَ لِلشَّمْسِ وَالصَّمْتَ
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ تَسْمِيَتَهُ مَعْصِيَةٌ وَإِنْ
كَانَ مُبَاحًا فِي الْأَصْلِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إذَا نُذِرَ كَانَ مَعْصِيَةً
لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يَنْذِرَ مَا لَيْسَ
بِقُرْبَةٍ وَلَوْ فَعَلَ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ
النَّذْرِ وَالتَّقَرُّبِ بِهِ لَكَانَ مُبَاحًا
وَإِذَا فَعَلَ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ وَالْقُرْبَةِ
كَانَ مَعْصِيَةً وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ إذَا
بَلَغَ بِهِ حَدَّ الِاسْتِضْرَارِ وَالتَّعَبِ كَانَ
مَعْصِيَةً سَوَاءٌ فَعَلَ بِنَذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ
نَذْرٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالنَّذْرُ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَنْذِرَ مَا هُوَ لِلَّهِ طَاعَةٌ
وَالثَّانِي أَنْ يَنْذِرَ مَا هُوَ مُبَاحٌ
وَالثَّالِثُ أَنْ يَنْذِرَ مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ فِي
نَفْسِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْقِسْمُ
الْوَاحِدُ وَهُوَ أَنْ يَنْذِرَ مَا هُوَ لِلَّهِ
طَاعَةٌ مِثْلُ أَنْ يَنْذِرَ حَجًّا أَوْ صَلَاةً
أَوْ صَوْمًا أَوْ صَدَقَةً وَأَمَّا الْمُبَاحُ
فَمِثْلُ أَنْ يَنْذِرَ جُلُوسًا فِي الدَّارِ أَوْ
مَشْيًا فِي الطَّرِيقِ وَالْمَعْصِيَةُ أَنْ يَنْذِرَ
شُرْبَ خَمْرٍ أَوْ زِنًا أَوْ ظُلْمَ أَحَدٍ فَفِي
هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَقَالَ
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي نَاذِرِ الْمُبَاحِ هُوَ
مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِعْلِهِ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ
يَمِينٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ مَا
لَا قُرْبَةَ فِيهِ لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ لِأَنَّ
النَّذْرَ يُوجِبُ فِعْلَ الْمَنْذُورِ فَإِذَا كَانَ
الْمُبَاحُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَجِبَ لَمْ يَصِحَّ
تَعَلُّقُ النَّذْرِ بِهِ كَالْمَعْصِيَةِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَلْزَمُ بِهِ
عِنْدَنَا شَيْءٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَالثَّوْرِيُّ إنَّ عَلَيْهِ مَعَ تَرْكِهَا
كَفَّارَةَ يَمِينٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ
مَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ
عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ
اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ
فَلَا يَعْصِهِ» وَهَذَا مَوْضِعُ تَعْلِيمٍ
فَاقْتَضَى أَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ مُوجِبَهُ وَمِنْ
جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا نَذْرُ مَا لَا
قُرْبَةَ فِيهِ فَلَمْ يَجِبْ بِهِ شَيْءٌ أَصْلُ
ذَلِكَ إذَا نَذَرَ الْجُلُوسَ وَالْقُعُودَ.
(ش) : قَوْلُ الْمَرْأَةِ الْمُسْتَفْتِيَةِ إنِّي
نَذَرْت أَنْ أَنْحَرَ ابْنِي تُرِيدُ أَنَّهَا أَتَتْ
بِذَلِكَ وَالْتَزَمَتْهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ
وَالتَّقَرُّبِ لِلَّهِ تَعَالَى بِهِ فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ لَا تَنْحَرِي ابْنَك وَكَفِّرِي عَنْ
يَمِينِك فَمَنَعَهَا مِنْ النَّحْرِ الَّذِي
عَلَّقَتْ بِهِ النَّذْرَ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ لَا
تَحِلُّ بِنَذْرٍ وَلَا غَيْرِهِ وَقَالَ لَهَا
كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك فَسَمَّاهُ يَمِينًا
لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَمَّا كَانَتْ كَفَّارَتُهُ عِنْدَ
ابْنِ عَبَّاسٍ كَفَّارَةَ يَمِينٍ سَمَّاهُ لِذَلِكَ
يَمِينًا وَالثَّانِي أَنَّهُ لَعَلَّهُ فَهِمَ
مِنْهَا أَنَّهَا أَتَتْ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِ
الْيَمِينِ مِثْلُ أَنْ تَقُولَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ
فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَنْحَرَ ابْنِي فَعَلَى هَذَا
يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ كَفِّرِي عَنْ
يَمِينِك الْهَدْيَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا يُوجِبُ
عَلَيْهَا ذَلِكَ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ قَالَ لِابْنِهِ أَوْ
لِأَجْنَبِيٍّ فِي يَمِينٍ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ
أَنْحَرَكَ فَحَنِثَ فَإِنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَلِّقَ ذَلِكَ مَكَانَ النَّحْرِ
مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَنَحْرُك عِنْدَ مَقَامِ
إبْرَاهِيمَ أَوْ عِنْدَ الْبَيْتِ أَوْ الْمَسْجِدِ
أَوْ بِمِنًى أَوْ بِمَكَّةَ.
وَالثَّالِثُ أَنْ يَذْكُرَ مَوْضِعًا لَمْ يُشْرَعْ
فِيهِ النَّحْرُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ بِالْبَصْرَةِ
أَوْ بِالْكُوفَةِ فَأَمَّا الْأُولَى وَهُوَ أَنْ
يُعَلِّقَ نَحْرَهُ بِمَوْضِعِ النَّحْرِ فَقَدْ رَوَى
ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ عَلَيْهِ الْهَدْيُ
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ
النُّذُورِ وَعَلَّقَ ذَلِكَ بِمَوْضِعِ النَّذْرِ
عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقُرْبَةَ وَلِهَذَا
الْمَعْنَى تَعَلَّقَ بِالْقُرْبَةِ عَلَى وَجْهِ
الْبَدَلِ لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ
إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَا آلَ
إلَيْهِ حُكْمُهُ فِي نَحْرِ ابْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَزِمَهُ فِي ذَلِكَ الْهَدْيُ
لِأَنَّ نَحْرَ ابْنِهِ لَا يَحِلُّ فَلَا يَتَعَلَّقُ
بِهِ النَّذْرُ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ النَّذْرُ فِي
ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مِنْ الْهَدْيِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا إذَا لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَلَا يَخْلُو
أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ لَا نِيَّةَ لَهُ
فَإِنْ كَانَ نَوَى الْهَدْيَ لَزِمَهُ لِمَا
قَدَّمْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْهَدْيَ فَعَنْ
مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا لَا
شَيْءَ عَلَيْهِ وَالثَّانِيَةُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ
يَمِينٍ وَبِهَا قَالَ أَصْبَغُ وَجْهُ الرِّوَايَةِ
الْأُولَى أَنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ لَمْ يَقْرُنْ
(3/241)
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ
الْمَلِكِ الْأَيْلِيِّ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ الصِّدِّيقِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قَالَ «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ
فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ
فَلَا يَعْصِهِ» قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا
يَقُولُ مَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ نَذَرَ أَنْ
يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ أَنْ يَنْذِرَ
الرَّجُلُ أَنْ يَمْشِيَ إلَى الشَّامِ أَوْ إلَى
مِصْرَ أَوْ إلَى الرَّبَذَةِ أَوْ مَا أَشْبَهَ
ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ لِلَّهِ بِطَاعَةٍ إنْ كَلَّمَ
فُلَانًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ
فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ إنْ هُوَ كَلَّمَهُ
أَوْ حَنِثَ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ
لِلَّهِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ طَاعَةٌ وَإِنَّمَا
يُوَفَّى لِلَّهِ بِمَا لَهُ فِيهِ طَاعَةٌ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
بِهَا مَا يَصْرِفُهَا إلَى الْمَعْصِيَةِ فَلَمْ
يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ كَمَا لَوْ نَذَرَ قَتْلَهُ
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ هَذَا
النَّذْرَ لَهُ جِهَةٌ مِنْ الْقُرْبَةِ فَإِذَا لَمْ
يَكُنْ مُفَسَّرًا كَانَ كَالنَّذْرِ الْمُبْهَمِ
فَلَزِمَهُ بِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَقَالَ الْقَاضِي
أَبُو مُحَمَّدٍ مَنْ نَذَرَ ذَبْحَ ابْنِهِ فِي
يَمِينٍ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ فَعَلَيْهِ
الْهَدْيُ وَإِنْ نَذَرَهُ نَذْرًا مُجَرَّدًا لَا
يَقْصِدُ بِهِ الْقُرْبَةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ
قَالَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ
الْقُرْبَةَ فَإِنَّ لَهُ مَعْهُودًا فِي الشَّرْعِ
وَهُوَ قِصَّةُ إبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي ذَبْحِ ابْنِهِ وَفْدَاهُ اللَّهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَإِذَا لَمْ يَنْوِ قُرْبَةً فَقَدْ
نَذَرَ مُجَرَّدَ الْمَعْصِيَةِ وَفَرَّقَ أَيْضًا فِي
قَوْلِهِ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالنَّذْرِ فَظَاهِرُ
قَوْلِهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْهَدْيَ فِي الْيَمِينِ
عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَعَلَّهُ قَصَدَ فِي الْفَرْقِ
بَيْنَهُمَا أَنَّ الْيَمِينَ آكَدُ لِأَنَّهُ
الْتِزَامٌ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ
بِالْبَيْنِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ قَالَ شَيْخٌ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا كَفَّارَةً اسْتِفْهَامًا
لِيُبَيِّنَ لَهُ وَجْهَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي
يَمِينٍ أَوْ نَذْرٍ قَدْ قُيِّدَ بِفِعْلٍ وَذَلِكَ
يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ
أَرَادَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ
كَيْفَ تَجِبُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فِي النَّذْرِ
بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ لَيْسَ بِيَمِينٍ بِاَللَّهِ وَلَا
نَذْرٍ مُبْهَمٍ فَتَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ إنَّمَا
أَوْجَبَ فِيهِ كَفَّارَةً وَلَمْ يُعَيِّنْهَا
فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ كَيْفَ يَجِبُ فِي مِثْلِ
هَذَا كَفَّارَةٌ وَإِنَّمَا نَذَرْت مَعْصِيَةً
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ
{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ}
[المجادلة: 2] ثُمَّ جَعَلَ مِنْ الْكَفَّارَةِ مَا
رَأَيْت فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ
الْكَفَّارَةَ قَدْ يَجِبُ فِي نَذْرٍ وَيَمِينٍ
يَتَعَلَّقُ بِالْمَحْظُورِ عَلَى وَجْهٍ مَا وَذَلِكَ
أَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ
كَظَهْرِ أُمِّي مَحْظُورٌ وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ
الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ
غَفُورٌ} [المجادلة: 2] ثُمَّ قَدْ أَوْجَبَ فِي
ذَلِكَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ فَكَذَلِكَ الَّتِي
عَلَّقَتْ يَمِينَهَا بِنَحْرِ ابْنِهَا أَتَتْ
بِمَحْظُورٍ مِنْ الْقَوْلِ وَتَجِبُ عَلَيْهَا فِي
ذَلِكَ كَفَّارَةٌ وَتِلْكَ الْكَفَّارَةُ إمَّا
هَدْيٌ أَوْ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوْ مَا شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى مِمَّا نُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا
إذَا سُئِلَ عَنْهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ
أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَإِنْ
كَانَ قَوْلُهَا أَنْ أَنْحَرَ ابْنِي لَيْسَ مِنْ
بَابِ النُّذُورِ وَلَا مِنْ بَابِ الْيَمِينِ
بِاَللَّهِ تَعَالَى كَمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى
الْمُظَاهِرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا أَتَى بِهِ مِنْ
بَابِ النَّذْرِ وَلَا الْيَمِينِ بِاَللَّهِ
تَعَالَى.
(ش) : قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ
لَيْسَ فِيهِ إبَاحَةُ النَّذْرِ لِلْمَعْصِيَةِ بَلْ
ذَلِكَ مَحْظُورٌ وَإِنَّمَا بَيَّنَ حُكْمَ مَنْ
فَعَلَ ذَلِكَ وَتَوَرَّطَ فِي نَذْرِهِ فَنَهَاهُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ
الْمَعْصِيَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ نَذَرَهَا لِأَنَّ
النَّذْرَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إذْ النَّذْرُ
قُرْبَةٌ وَلَا يَتَقَرَّبُ بِالْمَعْصِيَةِ بَلْ
يُتَابُ مِنْهَا وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَنْذِرَ أَنْ
يَشْرَبَ خَمْرًا أَوْ يَأْكُلَ لَحْمَ خِنْزِيرٍ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَنْذِرَ
أَنْ يَمْشِيَ إلَى الشَّامِ أَوْ إلَى مِصْرَ أَوْ
إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا
لَيْسَ لِلَّهِ بِطَاعَةٍ فَفَسَّرَ الْمَعْصِيَةَ
بِمَعَانٍ لَيْسَتْ بِمَعَاصٍ فِي أَنْفُسِهَا
وَإِنَّمَا هِيَ مُبَاحَةٌ لَكِنْ سَمَّاهَا
مَعْصِيَةً لِأَنَّ نَذْرَهَا عِنْدَهُ مَعْصِيَةٌ
أَوْ لِأَنَّ حُكْمَهَا إذَا عُلِّقَتْ بِالنَّذْرِ
حُكْمُ الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ
يَنْذِرَ كَمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ تُنْذَرَ
الْمَعْصِيَةُ وَلِذَلِكَ بَيَّنَ ذَلِكَ بَعْدَ هَذَا
فَقَالَ مِمَّا لَيْسَ لِلَّهِ بِطَاعَةٍ وَمَا لَيْسَ
لِلَّهِ بِطَاعَةٍ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ مَحْظُورٌ
كَالْمَعْصِيَةِ وَمُبَاحٌ كَالْمَشْيِ إلَى الشَّامِ
وَغَيْرِهَا وَمِثْلُ ذَلِكَ بِالْمَشْيِ إلَى
الْمَدِينَةِ وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا
أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَدِينَةً مِنْ الْمُدُنِ
فَحُكْمُهَا حُكْمُ الشَّامِ وَالثَّانِي أَنْ يُرِيدَ
بِهِ مَدِينَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -
(3/242)
اللَّغْوُ فِي الْيَمِينِ (ص) : (مَالِكٌ
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ
تَقُولُ لَغْوُ الْيَمِينِ قَوْلُ الْإِنْسَانِ لَا
وَاَللَّهِ بَلَى وَاَللَّهِ قَالَ مَالِكٌ أَحْسَنُ
مَا سَمِعْت فِي هَذَا أَنَّ اللَّغْوَ حَلِفُ
الْإِنْسَانِ عَلَى الشَّيْءِ يَسْتَيْقِنُ أَنَّهُ
كَذَلِكَ ثُمَّ يُوجَدُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ
اللَّغْوُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
فَهَذَا إذَا عَلَّقَ مَشْيَهُ بِالْمَدِينَةِ لَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّذْرُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ
الْمَسْجِدَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ قَالَ مَالِكٌ
لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ
طَاعَةٌ وَإِنَّمَا يُوَفَّى لِلَّهِ بِمَالِهِ فِيهِ
طَاعَةٌ عَلَى حَسَبِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ
الْيَمِينَ أَوْ النَّذْرَ إذَا عَلَّقَهُمَا
بِمُبَاحٍ لَمْ يَنْعَقِدُ شَيْءٌ مِنْهُمَا.
[اللَّغْوُ فِي الْيَمِينِ]
(ش) : قَوْلُ عَائِشَةَ إنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ قَوْلُ
الْإِنْسَانِ لَا وَاَللَّهِ بَلَى وَاَللَّهِ
وَرُوِيَ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ فَإِنَّهُ
يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا أَنَّ لَغْوَ
الْيَمِينِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي هَذِهِ الْيَمِينِ
وَهِيَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا
الْيَمِينُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِثْلُ الْيَمِينِ
بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ
الْعِتْقِ فَإِنَّهُ لَا لَغْوَ فِيهِ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ ذَلِكَ فِي الْعُتْبِيَّةِ
وَغَيْرِهَا وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ إنَّ الْيَمِينَ
بِغَيْرِ اللَّهِ مَحْظُورٌ فَلَمْ يُعْفَ عَنْ
الْحَالِفِ بِهَا عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ بَلْ
شَدَّدَ عَلَيْهِ بِإِلْزَامِهِ مَا الْتَزَمَ عَلَى
أَيِّ وَجْهٍ الْتَزَمَهُ وَأَمَّا الْيَمِينُ
بِاَللَّهِ تَعَالَى فَمُبَاحَةٌ فَلِذَلِكَ دَخَلَهَا
التَّخْفِيفُ وَالْعَفْوُ عَنْ لَغْوِهَا وَكَذَلِكَ
كُلُّ يَمِينٍ كَفَّارَتُهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ
كَالنَّذْرِ الَّذِي لَا مَخْرَجَ لَهُ وَمَا جَرَى
مَجْرَى ذَلِكَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ اللَّغْوَ
قَوْلُ الرَّجُلِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ
فِيمَا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ
خِلَافَهُ عَلَى حَسَبِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ وَذَكَرَ
قَوْلَ مَالِكٍ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ أَنَّهُ
حَلِفُهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا يَعْتَقِدُ
صِحَّتَهُ وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى غَيْرِ مَا
حَلَفَ بِهِ ثُمَّ قَالَ وَقَوْلُ عَائِشَةَ هُوَ
قَوْلُ الرَّجُلِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ
هُوَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّهَا لَا تَعْنِي تَعَمُّدَ
الْكَذِبِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنْ تُرِيدَ
مَا يَجْرِي فِي تَرَاجُعِ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِمْ
لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ مِنْ غَيْرِ
اعْتِقَادِ يَمِينٍ وَلَا قَصْدٍ إلَيْهِ وَإِلَى
هَذَا ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ وَوَجْهُهُ
أَنَّهَا أَيْمَانٌ جَارِيَةٌ عَلَى اللِّسَانِ مِنْ
غَيْرِ اعْتِقَادٍ وَلَا قَصْدٍ إلَى عَقْدِ
الْيَمِينِ وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مِنْ
لَغْوِ الْيَمِينِ مَا قَالَهُ مَالِكٌ وَمَا قَالَهُ
أَبُو بَكْرٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(ص) (قَالَ مَالِكٌ وَعَقْدُ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ
الرَّجُلُ أَنْ لَا يَبِيعَ ثَوْبَهُ بِعَشْرَةِ
دَنَانِيرَ ثُمَّ يَبِيعُهُ بِذَلِكَ أَوْ يَحْلِفَ
لَيَضْرِبَنَّ غُلَامَهُ ثُمَّ لَا يَضْرِبُهُ
وَنَحْوَ هَذَا فَهَذَا الَّذِي يُكَفِّرُ صَاحِبُهُ
عَنْ يَمِينِهِ وَلَيْسَ فِي اللَّغْوِ كَفَّارَةٌ
قَالَ مَالِكٌ فَأَمَّا الَّذِي يَحْلِفُ عَلَى
الشَّيْءِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ آثِمٌ أَوْ
يَحْلِفُ عَلَى الْكَذِبِ وَهُوَ يَعْلَمُ لِيُرْضِيَ
بِهِ أَحَدًا أَوْ لِيَعْتَذِرَ بِهِ إلَى مُعْتَذَرٍ
إلَيْهِ أَوْ لِيَقْتَطِعَ بِهِ مَالًا فَهَذَا
أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ كَفَّارَةٌ) .
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ
الَّتِي تُكَفَّرُ أَنْ يَحْلِفَ لَيَفْعَلَنَّ ثُمَّ
لَا يَفْعَلُ أَوْ يَحْلِفُ لَا أَفْعَلُ ثُمَّ
يَفْعَلُ فَهَذَانِ الْيَمِينَانِ إنَّمَا
يَتَنَاوَلَانِ الْمُسْتَقْبَلَ وَذَلِكَ أَنَّ
الْأَيْمَانَ عَلَى ضَرْبَيْنِ يَمِينٌ عَلَى
مُسْتَقْبَلٍ وَيَمِينٌ عَلَى مَاضٍ فَأَمَّا
الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ مَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَلَا يَدْخُلُهَا فِي قَوْلِ
مَالِكٍ لَغْوٌ وَلَا غَمُوسٌ وَإِنَّمَا يَدْخُلُهَا
الْبِرُّ فَلَا تَجِبُ كَفَّارَةٌ أَوْ الْحِنْثُ
فَتَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ يَنْقَسِمُ
قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِثْلُ قَوْلِهِ
وَاَللَّهِ لَا لَبِسْت الثَّوْبَ وَلَا أَكَلْت هَذَا
الْخُبْزَ فَهَذَا إنْ أَطْلَقَ الْفِعْلَ وَلَمْ
يُعَلِّقْ بِوَقْتٍ وَلَا مَكَان وَلَا صِفَةٍ؛
مَنَعَتْ الْيَمِينُ ذَلِكَ الْفِعْلَ عَلَى
التَّأْبِيدِ فَمَتَى فَعَلَهُ حَنِثَ وَلَزِمَتْهُ
الْكَفَّارَةُ وَإِنْ قَيَّدَ الْفِعْلَ بِوَقْتٍ
مِثْلُ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا لَبِسْت هَذَا
الثَّوْبَ غَدًا أَوْ لَا لَبِسْته يَوْمَ الْجُمُعَةِ
أَوْ لَا لَبِسْته بِمَكَّةَ أَوْ لَا لَبِسْته
رَاكِبًا تَعَلَّقَ الْمَنْعُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ
بِذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَإِنْ
فَعَلَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَنِثَ وَإِنْ
فَعَلَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ فِي غَيْرِ
ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ
لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ يَمِينَهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ
ذَلِكَ وَلَا صِفَتَهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى إتْيَانِهِ
بِالْفِعْلِ فَهَذِهِ الْيَمِينُ قَدْ أَوْجَبَتْ
عَلَيْهِ الْإِتْيَانَ بِالْفِعْلِ
(3/243)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
أَوْ الْكَفَّارَةَ فَإِنْ عَلَّقَ يَمِينَهُ عَلَى
زَمَانٍ يَفْعَلُ فِيهِ أَوْ مَكَان أَوْ صِفَةٍ
يَفْعَلُ ذَلِكَ الْفِعْلَ عَلَيْهَا لَمْ يَبَرَّ
إلَّا بِفِعْلِهِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ أَوْ فِي
ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فَإِنْ
فَاتَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ مِمَّا يَفُوتُ
مِثْلُ أَنْ يَحْلِفَ لَيَفْعَلَنَّ ذَلِكَ فِي شَهْرٍ
مُعَيَّنٍ فَيَنْقَضِي أَوْ عَلَى بِنَاءٍ مُعَيَّنٍ
فَيَنْهَدِمُ وَيَذْهَبُ أَوْ عَلَى صِفَةٍ مِثْلُ
أَنْ يَحْلِفَ لَيَفْعَلَنَّ ذَلِكَ مَاشِيًا
فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِعُذْرٍ يَعْلَمُ
أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بَقِيَّةَ عُمْرِهِ
وَقَعَ الْحِنْثُ بِفَوَاتِ ذَلِكَ وَإِنْ أَطْلَقَ
يَمِينَهُ لَمْ يَحْنَثْ بِمَوْتِهِ لِأَنَّ الْفِعْلَ
الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَيْسَ
عَلَى الْفَوْرِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانٍ دُونَ
زَمَانٍ فَإِنْ فَعَلَهُ فِي بَقِيَّةٍ مِنْ عُمْرِهِ
لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ
فَاتَ بِمَوْتِهِ الْفِعْلُ كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ
عَلَى زَمَانٍ مُعَيَّنٍ فَفَاتَ قَبْلَ الْفِعْلِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَهَذَا الَّذِي يُكَفِّرُ صَاحِبُهُ
يَمِينَهُ وَلَيْسَ فِي اللَّغْوِ كَفَّارَةٌ يُرِيدُ
أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ أَهِيَ
الَّتِي تَدْخُلُهَا الْكَفَّارَةُ لِتَحِلَّهَا أَوْ
لِتَرْفَعَ مَأْثَمَهَا وَأَمَّا لَغْوُ الْيَمِينِ
فَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا لِأَنَّهَا عَلَى مَذْهَبِ
مَالِكٍ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَاضِي وَهُوَ مِثْلُ أَنْ
يَحْلِفَ فِي رَجُلٍ مُقْبِلٍ أَنَّهُ زَيْدٌ وَهُوَ
يَعْتَقِدُ ذَلِكَ فِيهِ لَا شَكَّ عِنْدَهُ فَإِذَا
قَرُبَ مِنْهُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ غَيْرُ ذَلِكَ
فَهَذَا عِنْدَهُ لَغْوُ الْيَمِينِ وَلَا كَفَّارَةَ
فِيهِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ
تَنْعَقِدُ لِيَفْعَلَ أَوْ لِيَتْرُكَ وَإِنَّمَا
هِيَ يَمِينُ تَصْدِيقِ قَوْلِهِ وَتَأْكِيدِ مَا
أَخْبَرَ بِهِ فَلَا يَبْقَى لَهَا بَعْدَ تَمَامِ
التَّلَفُّظِ بِهَا حُكْمٌ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ
مِنْ فِعْلِ قَبِيحِ ذَلِكَ الْكَفَّارَةِ وَلَا
يُبِيحُ فِعْلًا فَتُبِيحُ تَرْكَهُ الْكَفَّارَةُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَأَمَّا الَّذِي يَحْلِفُ عَلَى الشَّيْءِ
وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ آثِمٌ أَوْ يَحْلِفُ عَلَى
الْكَذِبِ وَهُوَ يَعْلَمُ لِيُرْضِيَ بِهِ أَحَدًا
فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ كَفَّارَةٌ
فَإِنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ أَيْضًا لَيْسَتْ مِنْ
جِنْسِ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا
يَمِينٌ عَلَى مَاضٍ وَيَمِينُ الْمَاضِي لَا تَخْلُو
مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ لَا يَجِبُ بِشَيْءٍ مِنْهَا
كَفَّارَةٌ أَحَدُهَا أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ
أَنَّهُ قَدْ كَانَ كَذَا أَوْ مَا كَانَ كَذَا وَهُوَ
يَعْتَقِدُ صِحَّةَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ
الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَهَذِهِ
لَغْوُ الْيَمِينِ عِنْدَ مَالِكٍ وَلَا كَفَّارَةَ
عَلَيْهِ وَلَا إثْمَ وَالثَّالِثُ أَنْ يَحْلِفَ
عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَعْقِدَ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى
مَا حَلَفَ عَلَيْهِ إمَّا لِأَنَّهُ يَعْلَمُ ضِدَّ
مَا حَلَفَ عَلَيْهِ أَوْ لِأَنَّهُ يَشُكُّ فِي
ذَلِكَ فَهَذِهِ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ سُمِّيَتْ
بِذَلِكَ لِأَنَّهَا غَمَسَتْ صَاحِبَهَا فِي
الْإِثْمِ وَلَا كَفَّارَةَ لَهَا لِكَوْنِهَا
مُتَعَلِّقَةً بِالْمَاضِي وَإِنَّمَا قَالَ إنَّهَا
أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِيهَا كَفَّارَةٌ
لِأَنَّهَا انْعَقَدَتْ عَلَى الْإِثْمِ وَاَلَّتِي
تُكَفَّرُ لَمْ تَنْعَقِدْ عَلَى إثْمٍ وَإِنَّمَا
انْعَقَدَتْ عَلَى الْجَوَازِ وَإِنَّمَا تَجِبُ
عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ وَالدَّلِيلُ
عَلَى صِحَّةِ مَا نَقُولُهُ أَنَّ هَذِهِ يَمِينٌ لَا
تَعَلُّقَ لِلِاسْتِثْنَاءِ بِهَا فَلَا تَعَلُّقَ
لِلْكَفَّارَةِ بِهَا، أَصْلُ ذَلِكَ يَمِينُ
اللَّغْوِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَاَلَّذِي يَحْلِفُ عَلَى الْكَذِبِ
وَهُوَ يَعْلَمُ لِيُرْضِيَ بِهِ أَحَدًا أَوْ
يَعْتَذِرَ بِهِ إلَى مُعْتَذَرٍ إلَيْهِ أَوْ
لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالًا فَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ
تَكُونَ فِيهِ كَفَّارَةٌ يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ
كُلَّهَا مِنْ الْأَيْمَانِ الْغَمُوسِ لِأَنَّهَا
انْعَقَدَتْ عَلَى إثْمٍ وَكَذِبٍ وَهَذَا إذَا
اعْتَقَدَ فِي نَفْسِهِ مِثْلَ مَا يَظْهَرُ مِنْ
حَلِفِهِ فَأَمَّا قَصْدُ الْإِلْغَازِ بِيَمِينِهِ
فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى
وَجْهِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ لِيُغْرِيَ بِهِ مِنْ
حَقٍّ عَلَيْهِ فَهُوَ فِيهِ آثِمٌ وَلَا يُكَفِّرُ
وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْعُذْرِ أَوْ
الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ أَخِيك لِمَا بَلَغَهُ عَنْك
فَلَا بَأْسَ بِهِ حَكَى ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ حَبِيبٍ
فَسَوَّى مَالِكٌ فِي هَذَا الْقَوْلِ بَيْنَ
الْعُذْرِ وَبَيْنَ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ لِقَطْعِ
حَقِّ غَيْرِهِ وَقَالَ إنَّ الْإِثْمَ فِيهِمَا
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مَا كَانَ مِنْ هَذَا فِي
مَكْرٍ أَوْ خَدِيعَةٍ فَفِيهِ الْإِثْمُ وَالنِّيَّةُ
نِيَّةُ الْحَالِفِ وَمَا كَانَ فِي حَقٍّ عَلَيْك
فَالنِّيَّةُ نِيَّةُ الَّذِي حَلَّفَك وَرَوَاهُ عَنْ
مَالِكٍ فَيَجِيءُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ
الْإِثْمَ الَّذِي فِي مَوْضِعِ الْمَكْرِ
وَالْخَدِيعَةِ لَا يُبْلِغُ الْيَمِينَ إلَى
الْغَمُوسِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَانِثٍ وَلَا حَالِفٍ
عَلَى بَاطِلٍ وَإِنَّمَا هُوَ آثِمٌ فِي الْمَكْرِ
بِأَخِيهِ وَتَطْيِيبِ نَفْسِهِ بِيَمِينِهِ
لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْمَكْرِ بِهِ وَالْخَدِيعَةِ
لَهُ وَأَنَّ الْإِثْمَ فِي قَطْعِ الْحَقِّ لَمَّا
كَانَتْ عَلَى نِيَّةِ مَنْ حَلَّفَك بَلَغَتْ
الْيَمِينُ إلَى الْحِنْثِ وَالْغَمُوسِ.
(3/244)
مَا لَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ مِنْ
الْيَمِينِ (ص) : (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مَنْ قَالَ
وَاَللَّهِ ثُمَّ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ لَمْ
يَفْعَلْ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
[مَا لَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ مِنْ الْيَمِينِ]
(ش) : قَوْلُهُ مَنْ قَالَ وَاَللَّهِ يَتَضَمَّنُ
أَنَّ الْيَمِينَ يَتَعَلَّقُ بِالْقَوْلِ فَمَنْ
نَطَقَ بِالْيَمِينِ عَلَى وَجْهٍ يَنْعَقِدُ بِهِ
الْيَمِينُ لَزِمَهُ مُتَضَمَّنُهَا وَهَلْ يَنْعَقِدُ
بِالنِّيَّةِ دُونَ الْقَوْلِ فَقَدْ قَالَ الْقَاضِي
أَبُو مُحَمَّدٍ إنَّ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا
اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَصِحُّ
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يَصِحُّ بِنَاءً عَلَى
صِحَّةِ الطَّلَاقِ بِالْقَلْبِ فَإِنْ قُلْنَا لَا
يَصِحُّ فَلَا فَرْقَ وَإِنْ قُلْنَا يَصِحُّ
فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ
الْيَمِينَ الْتِزَامٌ وَإِيجَابٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ
رَفْعٌ وَحَلٌّ لِلْوُجُوبِ وَمَا طَرِيقُهُ
الْإِلْزَامُ أَبْلَغُ مِمَّا طَرِيقُهُ الْإِبَاحَةُ
وَالتَّحْلِيلُ فَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ الْيَمِينُ
بِالْقَلْبِ وَإِنْ لَمْ يَنْعَقِدْ الِاسْتِثْنَاءُ
إلَّا بِاللَّفْظِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ لَفْظَ الْيَمِينِ
وَاَللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَتَاللَّهِ هَذَا اللَّفْظُ
أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي
جَمِيعِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَقُولُ
وَالسَّمِيعِ الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالْبَصِيرِ
أَوْ يَحْلِفُ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ
كَقَوْلِك وَقُدْرَةِ اللَّهِ وَعِزَّةِ اللَّهِ أَوْ
لَعَمْرُ اللَّهِ أَوْ أَمَانَةِ اللَّهِ أَوْ عَلَيْك
عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ وَذِمَّتُهُ
وَكَفَالَتُهُ فَهَذِهِ كُلُّهَا حُكْمُهَا حُكْمُ
الْأَيْمَانِ بِاَللَّهِ فِي إبَاحَةِ الْحَلِفِ بِهَا
غَيْرَ الْأَمَانَةِ وَفِي اللُّزُومِ
وَالِاسْتِثْنَاءِ وَالْكَفَّارَةِ هَذَا الْمَشْهُورُ
مِنْ الْمَذْهَبِ.
وَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ مَنْ حَلَفَ بِأَمَانَةِ
اللَّهِ الَّتِي هِيَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ فَهِيَ
يَمِينٌ فَإِنْ حَلَفَ بِأَمَانَةِ اللَّهِ الَّتِي
بَيْنَ الْعِبَادَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ
قَالَ فِي عِزَّةِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ
ذَاتِهِ وَأَمَّا الْعِزَّةُ الَّتِي خَلَقَهَا فَلَا
شَيْءَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ فِي
مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {سُبْحَانَ رَبِّكَ
رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180]
أَنَّهَا الْعِزَّةُ الَّتِي هِيَ غَيْرُ صِفَتِهِ
الَّتِي خَلَقَهَا فِي خَلْقِهِ وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ
عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ فِيمَنْ حَلَفَ
بِالْعِزَّةِ وَالْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ فَهُوَ
كَقَوْلِهِ وَعِزَّةِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ
وَجَلَالِهِ إنَّمَا هُوَ حَالِفٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى
لِأَنَّ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ حَلَفَ بِصِفَاتِ اللَّهِ فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَكَذَلِكَ مَنْ حَلَفَ
بِالْقُرْآنِ أَوْ بِالْمُصْحَفِ وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ
زِيَادٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ
حَلَفَ بِالْمُصْحَفِ أَنْ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَهِيَ رِوَايَةٌ
مُنْكَرَةٌ وَالْمَعْرُوفُ عَنْ مَالِكٍ غَيْرُ هَذَا
وَإِنْ صَحَّتْ فَإِنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ
أَرَادَ الْحَالِفُ بِذَلِكَ جِسْمَ الْمُصْحَفِ دُونَ
الْمَكْتُوبِ فِيهِ وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْمَوَّازِ
قَالَ يَمِينُهُ بِالْمُصْحَفِ أَوْ بِالْكِتَابِ أَوْ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَمِينٌ وَفِيهَا كَفَّارَةُ
الْيَمِينِ وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ مَنْ
حَلَفَ بِالْمُصْحَفِ وَبِالْقُرْآنِ أَوْ بِسُورَةٍ
مِنْهُ أَوَبِآيَةٍ مِنْهُ زَادَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ
مُطَرَّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ أَوْ بِالْكِتَابِ
وَإِنْ لَمْ يُضِفْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ
تَعَالَى فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ
تَعَالَى وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ فَمَتَى
عَلَّقَ الْيَمِينَ عَلَيْهَا فَهِيَ لَازِمَةٌ
كَالْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ حَلَفَ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَقَدْ
قَالَ سَحْنُونٌ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ إنْ
حَنِثَ وَمَعْنَى ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا
كُتُبٌ مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلِذَلِكَ
تَعَلَّقَ بِهَا حُكْمُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ قَالَ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ أَوْ أَحْلِفُ
بِاَللَّهِ أَوْ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ فَلَا خِلَافَ
أَنَّهَا أَيْمَانٌ فَأَمَّا إنْ قَالَ أُقْسِمُ
لَأَفْعَلَنَّ أَوْ لَا فَعَلْت أَوْ أَحْلِفُ أَوْ
أَشْهَدُ وَلَمْ يَقُلْ بِاَللَّهِ فَإِنْ أَرَادَ
بِذَلِكَ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ فَهِيَ يَمِينٌ خِلَافًا
لِبَعْضِ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ وَالدَّلِيلُ عَلَى
مَا نَقُولُهُ أَنَّهُ لَفْظٌ يُسْتَعْمَلُ فِي
الْيَمِينِ فَعُلِّقَ بِهِ حُكْمُ الْيَمِينِ
بِالنِّيَّةِ دُونَ التَّلَفُّظِ بِاسْمِ اللَّهِ
أَصْلُ ذَلِكَ إذَا قَالَ أَحْلِفُ وَيَدُلُّ عَلَى
اسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ فِيمَا قُلْنَاهُ قَوْله
تَعَالَى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] وقَوْله تَعَالَى {إِذْ
أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17]
.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهَا أُقْسِمُ بِاَللَّهِ أَوْ
أَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَوْ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ
فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي
قَوْلِهِ أَنَّهَا يَمِينٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا
نَقُولُهُ أَنَّ الْحَلِفَ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ
اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا تَعَرَّتْ الْيَمِينُ
عَنْ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ نِيَّةً
وَلَفْظًا أَيْ عُرْفًا فَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا
كَقَوْلِهِمْ أَشْهَدُ بِالسَّمَاءِ وَالنُّجُومِ
(3/245)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ أَحْسَنُ مَا سَمِعْت
فِي الثُّنْيَا أَنَّهَا لِصَاحِبِهَا مَا لَمْ
يَقْطَعْ كَلَامَهُ وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ نَسَقًا
يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا قَبْلَ أَنْ يَسْكُتَ
فَإِذَا سَكَتَ وَقَطَعَ كَلَامَهُ فَلَا ثُنْيَا
لَهُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَالْقَمَرِ وَالْكَعْبَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ قَالَ أَعْزِمُ بِاَللَّهِ عَلَيْك فَلَيْسَتْ
بِيَمِينٍ وَإِنَّمَا هِيَ رَغْبَةٌ وَتَأْكِيدُ
مَسْأَلَةٍ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا لَفْظٌ لَا
يُسْتَعْمَلُ فِي الْيَمِينِ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ
فِي التَّأْكِيدِ فَلَمْ يَكُنْ يَمِينًا كَقَوْلِهِ
أَسْأَلُك بِاَللَّهِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ ثُمَّ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ يُرِيدُ
مَنْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِاَللَّهِ فَإِنَّ
الِاسْتِثْنَاءَ يَحِلُّهَا وَيَمْنَعُ وُقُوعَ
الْحِنْثِ بِمُخَالَفَتِهَا وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ
مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «أَنَّ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ
- قَالَ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ
تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ قُلْ إنْ
شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ فَطَافَ بِهِنَّ
فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إلَّا امْرَأَةً نِصْفَ
إنْسَانٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ
لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ» .
(مَسْأَلَةٌ) :
وَخَصَّ بِذَلِكَ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى
لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهَا
سَوَاءٌ كَانَتْ الْيَمِينُ بِطَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ
أَوْ مَشْيٍ إلَى مَكَّةَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ
وَكَذَلِكَ الْتِزَامُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ
إيقَاعُهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءِ مِثْلُ
أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ
اللَّهُ أَوْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ إنْ
شَاءَ اللَّهُ أَوْ يَقُولَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى
مَكَّةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَهَذَا يَلْزَمُهُ جَمِيعُ
مَا أَوْقَعَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَنْفَعُهُ
الِاسْتِثْنَاءُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَلْزَمُهُ
شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَحِلُّ
الْيَمِينَ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى
صِحَّةِ مَا نَقُولُهُ قَوْله تَعَالَى {الطَّلاقُ
مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ
أَنْ يَسْتَثْنِيَ أَوْ لَا يَسْتَثْنِيَ فَيُحْمَلُ
عَلَى عُمُومِهِ وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى
أَنَّ لِلِاسْتِثْنَاءِ اخْتِصَاصًا بِالْيَمِينِ
بِاَللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا يَمِينٌ مَشْرُوعَةٌ
مُبَاحَةٌ فَجَعَلَ لِمَنْ حَلَفَ بِهَا مَخْرَجًا
مِنْهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ كَمَا جَعَلَ لَهُ
مَخْرَجًا بِالْكَفَّارَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}
[الطلاق: 2] وَالْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ مَمْنُوعٌ
فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا بِالِاسْتِثْنَاءِ
كَمَا لَمْ يَجْعَلْ مَخْرَجًا بِالْكَفَّارَةِ
وَتَحْرِيرُ هَذَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَعْنًى
يَحِلُّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ
مَدْخَلٌ فِي حَلِّ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ
كَالْكَفَّارَةِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَذَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ مُطْلَقًا غَيْرَ
مُعَلَّقٍ بِصِفَةٍ فَأَمَّا إذَا عَلَّقَ بِصِفَةٍ
فَقَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ
شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ إنَّ الطَّلَاقَ
يَلْزَمُهُ وَلَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ وَقَالَ
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ إنْ رَدَّ
الِاسْتِثْنَاءَ إلَى الْفِعْلِ الَّذِي حَلَفَ أَنْ
لَا يَفْعَلَهُ إثْرَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي يَمِينِهِ
وَإِنْ رَدَّهُ إلَى الطَّلَاقِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي
يَمِينِهِ وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ هَذِهِ يَمِينٌ
بِطَلَاقٍ فَلَمْ يُؤَثِّرْ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا
أَصْلُهَا إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُعَلَّقَةٍ بِصِفَةٍ
وَوَجْهُ قَوْلِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ
أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا رَجَعَ إلَى الْفِعْلِ
وَلَمْ يُرِدْ بِهِ حَلَّ الْيَمِينِ وَإِنَّمَا
يُرِيدُ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ وُقُوعَ الْفِعْلِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ ثُمَّ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ لَمْ
يَفْعَلْ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ
يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ قَالَ إنْ شَاءَ
اللَّهُ عَلَى مَعْنَى حَلِّ يَمِينِهِ وَأَمَّا إنْ
قَالَ ذَلِكَ سَهْوًا بِمَعْنَى أَنَّ مَا شَاءَ
اللَّهُ أَنْ يَكُونَ كَانَ أَوْ امْتِثَالًا
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي
فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ} [الكهف: 24] قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ
أَوْ تَبَرُّكًا أَوْ تَأْكِيدًا أَوْ سَبَقَ بِذَلِكَ
لِسَانُهُ أَوْ قَصَدَ التَّلَفُّظَ بِهِ وَلَمْ
يَقْصِدْ بِهِ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ شَيْءٌ
مِنْ ذَلِكَ يَمِينَهُ وَمَتَى حَنِثَ فِيمَا حَلَفَ
عَلَيْهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
وَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي
الْعُتْبِيَّةِ أَنَّهُ قَالَ وَكَذَلِكَ مَنْ
قَالَهَا بِهِجَاءٍ وَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ عُمَرَ مَنْ
قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ اسْتَثْنَى فَقَالَ
إنَّمَا ذَلِكَ إذَا نَوَى بِهِ الِاسْتِثْنَاءَ
يُرِيدُ حَلَّ الْيَمِينِ.
(ش) : قَوْلُهُ إنَّ أَحْسَنَ مَا سَمِعَ فِي
الثُّنْيَا أَنَّهَا لِصَاحِبِهَا مَا لَمْ يَقْطَعْ
كَلَامَهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ سَمِعَ غَيْرَ
ذَلِكَ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَطَاوُسٍ
أَنَّ لِلْحَالِفِ الِاسْتِثْنَاءَ مَا لَمْ يَقُمْ
مِنْ مَجْلِسِهِ وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُ كَانَ يَرَى لَهُ الِاسْتِثْنَاءَ مَتَى مَا
ذُكِرَ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]
وَهَذَا قَدْ قَالَ شُيُوخُنَا إنَّهُ لَا يَثْبُتُ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
(3/246)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ وَلَا
يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ لُغَةِ
الْعَرَبِ أَنْ يَذْكُرَ الْإِنْسَانُ لَفْظًا ثُمَّ
يَظْهَرُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ بَعْدَ عَامٍ وقَوْله
تَعَالَى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:
24] لَيْسَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ
وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ
لَا يَقُولَ فِي شَيْءٍ إنَّهُ يَفْعَلُهُ غَدًا
حَتَّى يَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَإِنْ كَانَ
قَوْلُهُ عَارِيًّا عَنْ الْيَمِينِ ثُمَّ أَمَرَهُ
بِمَا يَفْعَلُهُ إذَا نَسِيَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ
فَقَالَ تَعَالَى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}
[الكهف: 24] وَهَذَا اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ أَنْ
يُرِيدَ بِهِ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى
بِالِاسْتِغْفَارِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ
الْأَذْكَارِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنْ
يَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَتَى مَا ذَكَرَ
بِمَعْنَى أَنَّ مَا يَشَاءُ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ
كَانَ لَا عَلَى مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّ
الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا مُتَّصِلًا
بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَوْ
صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
لَكَانَ مَعْنَاهَا أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ مَتَى مَا
ذَكَرَ بِأَنَّ مَا شَاءَ كَانَ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ
مِنْ الْإِذْعَانِ عَلَى مَعْنَى الذِّكْرِ
وَالِاسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَ مِنْهُ لَا عَلَى مَعْنَى
حَالِ الْيَمِينِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ مَا لَمْ يَقْطَعْ كَلَامَهُ يُرِيدُ أَنَّ
قَطْعَ الْكَلَامِ يَمْنَعُ الِاسْتِثْنَاءَ
وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ إذَا كَانَ
مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ وَلَا يَقْطَعُ ذَلِكَ
انْقِطَاعُ النَّفَسِ قَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ أَوْ سُعَالٌ أَوْ
تَثَاؤُبٌ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لِأَنَّ قَطْعَ
النَّفَسِ لِلْكَلَامِ لَيْسَ مِمَّا يَقْتَضِي
تَمَامُ الْكَلَامِ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي تَمَامُهُ
تَرْكَهُ مِنْ غَيْرِ مَعْنًى غَالِبًا فَيَكُونُ
الرُّجُوعُ إلَيْهِ بَعْدَ الرِّضَا بِانْعِقَادِ مَا
تَقَدَّمَ مِنْهُ وَتَمَامِهِ فَأَمَّا إذَا وَصَلَهُ
بِكَلَامِهِ فَلَمْ يَرْضَ بِانْعِقَادِ مَا تَقَدَّمَ
مِنْهُ إلَّا بِمَا وَصَلَهُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ،
وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ
إفْرَادُهُ بِالنُّطْقِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا
لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَرَاخَى عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ
كَالشُّرُوطِ وَخَبَرِ الِابْتِدَاءِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا نُطْقًا فَإِنْ
نَوَاهُ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ لَمْ يَنْعَقِدْ رَوَاهُ
ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ الْقَاضِي أَبُو
مُحَمَّدٍ كَالْكَفَّارَةِ وَلَوْ نَوَى أَنَّ
عَبْدَهُ حُرٌّ عَنْ الْكَفَّارَةِ لَمْ يُجْزِهِ
إلَّا أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهِ وَكَذَلِكَ
الِاسْتِثْنَاءُ.
(فَصْلٌ) :
وَهَذَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِاَللَّهِ تَعَالَى
بِمَعْنَى حَلِّ الْيَمِينِ لَا نَعْلَمُ فِيهِ
خِلَافًا بَيْنَ أَصْحَابِنَا فَأَمَّا
الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَقَدْ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَسَائِلَ مِنْهُ وَذَلِكَ
الِاسْتِثْنَاءُ لِإِخْرَاجِ بَعْضِ الْجُمْلَةِ قَالَ
ابْنُ الْمَوَّازِ أَلْفَاظُ الِاسْتِثْنَاءِ ثَلَاثٌ
لَفْظَةُ (إنْ) كَحَلِفِهِ لَيَضْرِبَنَّ فُلَانًا إنْ
شَاءَ فُلَانٌ وَلَفْظَةُ (إلَّا أَنْ) كَحَلِفِهِ
لَيُسَافِرَنَّ إلَّا أَنْ يَشَاءَ فُلَانٌ فَهَذَانِ
اللَّفْظَانِ لَا تُجْزِئُ النِّيَّةُ فِيهِمَا دُونَ
اللَّفْظِ وَأَمَّا لَفْظَةُ (إلَّا) وَهِيَ مِثْلُ
أَنْ يَحْلِفَ لَا يُكَلِّمُ قُرَشِيًّا إلَّا
فُلَانًا وَمَا آكُلُ الْيَوْمَ طَعَامًا إلَّا
لَحْمًا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ يُجْزِئُهُ
فِيهِ النِّيَّةُ كَمَا يُجْزِئُ الْحَالِفَ
بِالْحَلَالِ عَلَيْهِ حَرَامٌ مُحَاشَاةُ امْرَأَتِهِ
بِنِيَّتِهِ دُونَ نُطْقٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَ
الْأَوَّلَيْنِ (إنْ، وَإِلَّا أَنْ) أَنَّ الْيَمِينَ
مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ بِأَنْ أَوْ بِإِلَّا أَنْ
مُسْتَغْرِقَةٌ لِأَعْيَانِ مَا يَتَنَاوَلُهُ
اللَّفْظُ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي
بَعْضِ الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالِ وَالْيَمِينُ مَعَ
الِاسْتِثْنَاءِ بِالْأَلَمِ يُبْنَ عَلَى
اسْتِغْرَاقِ مَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْيَمِينِ
بَلْ قَدْ يُثْبَتُ عَلَى إخْرَاجِ بَعْضِ مَا
تَنَاوَلَتْهُ فَجَرَى ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ قَالَ
بِذَلِكَ مَجْرَى التَّخْصِيصِ إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ
بِذَلِكَ حَقٌّ يُطَالَبُ بِهِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ
يَمِينُهُ بِطَلَاقٍ فَفِي الْمَجْمُوعَةِ عَنْ ابْنِ
الْقَاسِمِ أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي الْفَتْوَى دُونَ
الْقَضَاءِ يُرِيدُ إنْ قَامَتْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ
حُكِمَ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ وَلَمْ يُصَدَّقْ فِيمَا
يَدَّعِيهِ.
فَوَجْهُ الْقَوْلِ بِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تَنْفَعُهُ
فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِإِلَّا أَنْ أَنَّ هَذَا
اسْتِثْنَاءٌ يَحِلُّ الْيَمِينَ الْمُنْعَقِدَةَ
فَلَمْ تَجُزْ فِيهِ النِّيَّةُ دُونَ النُّطْقِ
بِالِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ
وَمَا قَاسَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُحَاشَاةِ فِي
الْحَلَالِ عَلَيْهِ حَرَامٌ وَذَلِكَ أَنَّ
الْمَشْهُورَ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ قَوْلَهُ فِي
ذَلِكَ مَقْبُولٌ.
وَقَدْ رَوَى أَصْبَغُ عَنْ أَشْهَبَ أَنَّ الْيَمِينَ
تَلْزَمُهُ وَلَا يَنْفَعُهُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ
الْمُحَاشَاةِ فَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَصْلِ
كَمَا وَقَعَ فِي الْفَرْعِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ
الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي الْحُكْمِ ثَابِتٌ لِأَنَّ مَنْ
جَوَّزَ لَهُ الْمُحَاشَاةَ فِي الْحَلَالِ عَلَيْهِ
حَرَامٌ قَبِلَ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ وَإِنْ قَامَتْ
عَلَيْهِ بِنِيَّةٍ وَلَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُ فِي
الِاسْتِثْنَاءِ بِإِلَّا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا
أَنَّ مَا يَحْلِفُ بِهِ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ
فَإِنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ وَالْمُبَاحِ مِنْهَا
الْيَمِينُ
(3/247)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ
يَقُولُ كَفَرَ بِاَللَّهِ أَوْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ
ثُمَّ يَحْنَثُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ
وَلَيْسَ بِكَافِرٍ وَلَا مُشْرِكٍ حَتَّى يَكُونَ
قَلْبُهُ مُضْمِرًا عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ
وَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلَا يَعُدْ إلَى شَيْءٍ
مِنْ ذَلِكَ وَبِئْسَ مَا صَنَعَ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
بِاَللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى
التَّخْصِيصِ وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ الْحَالِفُ:
الطَّلَاقَ عَلَيَّ إنْ فَعَلْت كَذَا لَجَازَ أَنْ
يَقُولَ أَرَدْت بِهِ وَاحِدَةً وَذَلِكَ خِلَافُ
الِاسْتِيعَابِ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَقْتَضِي
الِاسْتِيعَابَ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ لَا كَلَّمْت
رَجُلًا حُمِلَ عَلَى اسْتِيعَابِهِ وَعُمُومِهِ هَذَا
قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَقَدْ سَوَّى بَيْنَهُمَا
فَحَمَلَ الْمَحْلُوفَ بِهِ وَالْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ
عَلَى الِاسْتِيعَابِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي
الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ.
(فَرْعٌ) وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا
يُخْبِرَ بِخَبَرٍ إلَّا فُلَانًا وَيَنْوِي فِي
نَفْسِهِ وَفُلَانًا قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ
تَنْفَعُهُ نِيَّتُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى
يَمِينِهِ بِالطَّلَاقِ بِنِيَّتِهِ وَوَجْهُ ذَلِكَ
أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالنُّطْقِ لَمَّا دَخَلَ
الْيَمِينَ وَعَدَلَ بِاللَّفْظِ الْعَامِ عَنْ
ظَاهِرِهِ جَازَ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ اسْتِثْنَاءٌ
آخَرُ بِالنِّيَّةِ فِيمَا الْحُكْمُ فِيهِ مَصْرُوفٌ
إلَيْهِ وَمَا حُكِمَ عَلَيْهِ بِهِ يُقْبَلُ مِنْهُ
أَنَّهُ نَوَى لِأَنَّ لَفْظَ يَمِينِهِ ظَاهِرٌ
ثَابِتٌ بِالنِّيَّةِ وَمَا يَدَّعِيهِ مِنْ
الِاسْتِثْنَاءِ بِالنِّيَّةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ.
(فَرْعٌ) وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْلِفَ لَا كَلَّمْت
فُلَانًا وَنَوَى شَهْرًا رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ
أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ فِي الْفُتْيَا دُونَ
الْقَضَاءِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَجْهُ ذَلِكَ
أَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِهِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ
وَنِيَّةَ التَّخْصِيصِ فَحُمِلَ عَلَيْهَا فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ أَنَّهُ
نَوَى لِأَنَّ يَمِينَهُ قَدْ ثَبَتَتْ وَنِيَّتُهُ
غَيْرُ ثَابِتَةٍ.
(فَصْلٌ) :
فَإِذَا قُلْنَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِاَللَّهِ
تَعَالَى أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَا تُجْزِئُهُ
النِّيَّةُ دُونَ اللَّفْظِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ
حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ وَغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ
الْحَالِفُ غَيْرَ مُسْتَحْلِفٍ أَجْزَأَهُ أَنْ
يُحَرِّكَ شَفَتَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَجْهَرْ بِهِ
وَإِنْ كَانَ مُسْتَحْلِفًا لَمْ يُجْزِهِ إلَّا أَنْ
يَجْهَرَ بِهِ وَقَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ فِيمَا
كَانَ مِنْ الْأَيْمَانِ بِوَثِيقَةِ حَقٍّ أَوْ
شَرَطَ فِي نِكَاحٍ أَوْ عَقْدِ بَيْعٍ أَوْ مَا
يَسْتَحْلِفُهُ أَحَدٌ عَلَيْهِ لَا تُجْزِئُهُ
حَرَكَةُ اللِّسَانِ حَتَّى يُظْهِرَهُ وَيَسْمَعَ
مِنْهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ الْقَوْلِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ
لَا يَكُونُ إلَّا نُطْقًا وَلَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ
بِهِ حَلَّ الْيَمِينِ فَيَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَ
مَوْضِعَ الْقَصْدِ إلَى ذَلِكَ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ
جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّهُ
إذَا كَانَ نُطْقُهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ مُتَّصِلًا
بِيَمِينِهِ وَيَنْوِي ذَلِكَ مَعَ أَوَّلِ
اسْتِثْنَائِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ
الِاسْتِثْنَاءَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْيَمِينِ
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ
قَبْلَ أَنْ يَنْطِقَ بِآخِرِ حَرْفٍ مِنْ يَمِينِهِ
بَطَلَ اسْتِثْنَاؤُهُ وَهُوَ فِي قَوْلِهِ:
وَاَللَّهِ لَا دَخَلْت الدَّارَ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ
الِاسْتِثْنَاءَ قَبْلَ النُّطْقِ بِالرَّاءِ مِنْ
الدَّارِ لَمْ يُجْزِهِ وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ
لَفْظَ الِاسْتِثْنَاءِ لَمَّا لَمْ يُشْتَرَطْ
تَقْدِيمُهُ عَلَى آخِرِ حَرْفٍ مِنْ الْيَمِينِ لَمْ
يُشْتَرَطْ ذَلِكَ فِي النِّيَّةِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ
النِّيَّةِ لَا يُؤَثِّرُ وَلَوْ أَثَّرَ مُجَرَّدُ
النِّيَّةِ دَاخِلَ الْيَمِينِ لَاسْتَغْنَى عَنْ
لَفْظِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ وَوَجْهُ
الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْيَمِينَ قَدْ
انْعَقَدَتْ بِكَمَالِ النُّطْقِ بِهَا فَلَمْ
يُؤَثِّرْ فِيهَا الِاسْتِثْنَاءُ كَمَا لَوْ فَصَلَ
بَيْنَهُمَا السُّكُوتُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو
مُحَمَّدٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ مَالِكٌ إنَّ مَنْ قَالَ
مِثْلَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ كَفَرَ بِاَللَّهِ
إنْ قَالَ كَذَا أَوْ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ
نَصْرَانِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ أَوْ عَلَيْهِ غَضَبُ
اللَّهِ أَوْ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ ثُمَّ
خَالَفَ مَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ
بِذَلِكَ شِرْكٌ وَلَا خُرُوجٌ عَنْ دِينِ
الْإِسْلَامِ هَلْ هُوَ عَلَى إسْلَامِهِ وَإِنَّمَا
يَكُونُ كَافِرًا مَنْ اعْتَقَدَ الْكُفْرَ وَأَمَّا
مَنْ كَرِهَهُ أَوْ أَبْغَضَهُ أَوْ اعْتَقَدَ
خِلَافَهُ فَلَا يَكُونُ كَافِرًا وَلَكِنَّهُ آثِمٌ
فِي يَمِينِهِ تِلْكَ فَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلَا
يَعُدْ إلَى الْحَلِفِ بِهَا وَلَا يَلْزَمُهُ
بِيَمِينِهِ تِلْكَ شَيْءٌ خَالَفَهَا أَوْ وَافَقَهَا
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ مَنْ قَالَ
هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَفَرْت
بِاَللَّهِ أَوْ أَشْرَكْت بِاَللَّهِ أَوْ بَرِئْت
مِنْ الْإِسْلَامِ فَهِيَ يَمِينٌ وَعَلَيْهِ
الْكَفَّارَةُ إنْ حَنِثَ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا
نَقُولُهُ مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- «مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَمَنْ قَالَ تَعَالَ أُقَامِرْك
فَلْيَتَصَدَّقْ» .
فَوَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْجَبَ عَلَيْهِ تَكْفِيرَ
حَلِفِهِ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَهُوَ مِنْ جِهَةِ
الْقِيَاسِ أَنَّ هَذِهِ يَمِينٌ مُفَسَّرَةٌ عَرِيَتْ
(3/248)
مَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ مِنْ
الْأَيْمَانِ (ص) : (مَالِكٌ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي
صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ حَلَفَ
بِيَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا
فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلْ الَّذِي
هُوَ خَيْرٌ» ) .
(ص) : (قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ مَنْ
قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا إنَّ
عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ قَالَ مَالِكٌ فَأَمَّا
التَّوْكِيدُ فَهُوَ حَلِفُ الْإِنْسَانِ فِي
الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مِرَارًا يُرَدِّدُ فِيهِ
الْأَيْمَانَ يَمِينًا بَعْدَ يَمِينٍ كَقَوْلِهِ
وَاَللَّهِ لَا أَنْقُصُهُ مِنْ كَذَا وَكَذَا
يَحْلِفُ بِذَلِكَ مِرَارًا ثَلَاثًا أَوْ أَكْثَرَ
مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَكَفَّارَةُ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ
وَاحِدَةٌ مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
عَنْ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ نُطْقًا
وَنِيَّةً وَعُرْفًا فَلَمْ يَجِبْ بِهَا كَفَّارَةُ
يَمِينٍ أَصْلُهُ إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا
فَعَلَيْهِ الْقِيَامُ أَوْ الْقُعُودُ أَوْ
النَّوْمُ.
وَأَمَّا مَا رَوَى ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ عَنْ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ
الْإِسْلَامِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ» فَإِنَّهُ
لَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْمُخَالِفِ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ
أَرَادَ بِهِ كَمَا قَالَ مِنْ الْكُفْرِ فَإِنَّ
الْمُخَالِفَ لَا يَقُولُ بِهِ وَإِنْ كَانَ أَرَادَ
بِهِ كَمَا قَالَ مِنْ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا حَلَفَ
عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ لِلْمُخَالِفِ
حُجَّةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ كَفَّارَةِ
يَمِينٍ وَمَنْ عَهِدَ عُهُودًا أَوْ وَعَدَ عِدَةً
يَلْزَمُهُ أَنْ يَفِيَ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ
يَلْزَمْهُ يَمِينٌ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ فِي
الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا هُوَ
الْحَلِفُ عَلَى الْمَاضِي لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي
يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَذِبِ وَأَمَّا مَنْ
حَلَفَ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ فَلَا يُوصَفُ بِالْكَذِبِ
وَمَعْنَى الْحَدِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مَنْ
حَلَفَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ فِي الْمَاضِي
فِعْلًا أَوْ لَمْ يَقُلْ قَوْلًا وَهُوَ كَاذِبٌ فِي
ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ فَعَلَ مَا حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ
يَفْعَلْهُ وَقَالَ مَا حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ.
[مَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ مِنْ الْأَيْمَانِ]
(ش) : قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مَنْ حَلَفَ بِيَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا
مِنْهَا يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَنْ حَلَفَ أَنْ
لَا يَفْعَلَ شَيْئًا ثُمَّ رَأَى أَنَّ فِعْلَهُ
أَفْضَلُ فِي الدِّينِ أَوْ أَنْفَعُ فِي الدِّينِ
فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ
وَيَفْعَلَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَذَلِكَ إنْ
اخْتَارَ فِعْلَ ذَلِكَ وَمَالَتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ
مِنْ غَيْرِ إثْمٍ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ
وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ
تَحِلُّ الْيَمِينَ كَمَا يَحِلُّهَا الِاسْتِثْنَاءُ
فَيَصِيرُ مَنْ كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ بِمَنْزِلَةِ
مَنْ لَمْ يَحْلِفْ وَقَدَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
الْكَفَّارَةَ عَلَى الْحِنْثِ بِفِعْلِ مَا حَلَفَ
أَنْ لَا يَفْعَلَهُ وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الْحَدِيثُ
أَيْضًا بِتَقْدِيمِ الْحِنْثِ وَهُوَ قَوْلُهُ
فَلْيَفْعَلْ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ
يَمِينِهِ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيمَ فِي هَذَا
وَالتَّأْخِيرَ لَا يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْحِنْثِ
وَلَا تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا
تَقْتَضِي رُتْبَةً وَلَا خِلَافَ أَنَّ تَأْخِيرَ
الْكَفَّارَةِ جَائِزٌ وَقَدْ اسْتَحَبَّ مَالِكٌ أَنْ
تَكُونَ الْكَفَّارَةُ بَعْدَ الْحِنْثِ فَإِنْ
قَدَّمَهَا قَبْلَ الْحِنْثِ فَهَلْ يُجْزِئُهُ أَمْ
لَا عَنْهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا أَنَّهُ تَجُوزُ
الْكَفَّارَةُ قَبْلَ الْحِنْثِ فَيَصِحُّ عِنْدِي
أَنْ يُكَفِّرَ بِكُلِّ مَا يُكَفِّرُ بِهِ مِنْ
صَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا
يَصِحُّ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ قَبْلَ الْحِنْثِ
وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ أَوْ
الْإِطْعَامِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَقْتٍ
صَحَّ أَنْ يُكَفِّرَ فِيهِ بِالْعِتْقِ فَإِنَّهُ
يَصِحُّ أَنْ يُكَفِّرَ فِيهِ بِالصَّوْمِ أَصْلُ
ذَلِكَ مَا بَعْدَ الْحِنْثِ.
(ش) : قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي النَّذْرِ
الْمُطْلَقِ وَأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْيَمِينِ
بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي الْكَفَّارَةِ وَكَذَلِكَ
سَائِرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي
الِاسْتِثْنَاءِ وَغَيْرِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي تَأْكِيدِ الْيَمِينِ مِثْلُ
أَنْ يَحْلِفَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مِرَارًا
فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَيْهِ فِيهِ إلَّا
كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي
مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ ثُمَّ وَاَللَّهِ ثُمَّ
وَاَللَّهِ لَا فَعَلْت كَذَا ثُمَّ فَعَلَهُ فَلَيْسَ
عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ إلَّا أَنْ
يَنْوِيَ لِكُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةً كَالنَّذْرِ
وَرَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا
مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّأْكِيدِ حَتَّى يَنْوِيَ
لِكُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةً كَمَنْ قَالَ عَلَيَّ
ثَلَاثُ نُذُورٍ فَيَلْزَمُهُ حِينَئِذٍ ثَلَاثُ
كَفَّارَاتٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا فَعَلْت كَذَا ثُمَّ
قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ إنْ فَعَلْت كَذَا لَزِمَهُ
كَفَّارَتَانِ إنْ فَعَلَ قَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ
لِأَنَّ حُكْمَ الْتِزَامِ النَّذْرِ غَيْرُ حُكْمِ
الْحَلِفِ فَوَجَبَ
(3/249)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبُهُ وَلِذَلِكَ لَوْ
قَالَ عَلَيَّ عَشَرَةُ نُذُورٍ إنْ فَعَلْت كَذَا
لَزِمَهُ عَشَرُ كَفَّارَاتٍ بِخِلَافِ تَكْرَارِ
الْيَمِينِ وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ إنْ فَعَلْت
كَذَا ثُمَّ قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ إنْ فَعَلْت كَذَا
فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ
بِالثَّانِي الْأَوَّلَ لِأَنَّ كُلَّ قَوْلٍ مِنْ
ذَلِكَ الْتِزَامٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ.
(فَرْعٌ) وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالنَّذْرِ
أَنَّ الْيَمِينَ مَعْنَاهَا الْمَنْعُ مِنْ فِعْلٍ
أَوْ الْتِزَامِهِ فَمَا تَكَرَّرَ مِنْهَا فَإِنَّمَا
يَتَعَلَّقُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ مَا قَبْلَهُ عَلَى
وَجْهِ التَّأْكِيدِ لَهُ فَوَجَبَ بِهِ مَا وَجَبَ
بِمَا قَبْلَهُ وَأَمَّا النَّذْرُ فَالْتِزَامٌ
تَامٌّ لَوْ انْفَرَدَ عَنْ الْحَلِفِ لَكَانَ
الْتِزَامًا تَامًّا فَكَانَ لِكُلِّ نَذْرٍ مِنْ
ذَلِكَ حُكْمُهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْيَمِينَ لَا
تَتَضَمَّنُ الْكَفَّارَةَ وَإِنَّمَا شُرِعَتْ
حِلَالُهَا كَالِاسْتِثْنَاءِ فَوَجَبَ أَنْ تَحِلَّ
الْكَفَّارَةُ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَهَا مِنْ
الْأَيْمَانِ كَالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَعَقِّبِ
لِأَيْمَانٍ مُتَّصِلَةٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ النَّذْرُ
فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مُلْتَزَمًا فَلَزِمَ
بِالْأَوَّلِ مَا لَزِمَ بِالثَّانِي لَمَّا كَانَ
مُقْتَضَاهُمَا وَاحِدًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ
لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ وَوَاللَّهِ وَوَاللَّهِ لَا
فَعَلْت لَلَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قَالَ
عَلَيَّ نَذْرٌ وَعَلَيَّ نَذْرٌ وَعَلَيَّ نَذْرٌ إنْ
فَعَلْت كَذَا ثُمَّ فَعَلَهُ لَزِمَهُ ثَلَاثُ
كَفَّارَاتٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ قَالَ عَلَيَّ أَرْبَعَةُ أَيْمَانٍ فَفِي
الْعُتْبِيَّةِ عَلَيْهِ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ قَالَ
الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَأَعْرِفُ أَنَّ ابْنَ
الْمَوَّازِ قَالَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ
إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ وَجْهُ الْقَوْلِ
الْأَوَّلِ أَنَّ هَذَا الْتِزَامٌ وَذَلِكَ يُوجِبُ
عَلَيْهِ أَرْبَعَ كَفَّارَاتٍ كَمَا لَوْ قَالَ
عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ نُذُورٍ وَوَجْهُ الْقَوْلِ
الثَّانِي أَنَّ الْأَيْمَانَ طَرِيقُهَا الْحَلِفُ
وَتَكْرَارُهَا يَقْتَضِي التَّأْكِيدَ حَتَّى
يَنْوِيَ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ قَالَ فِي يَمِينِهِ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ
الْعَزِيزُ الْعَالِمُ عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ ثُمَّ حَنِثَ
لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ
وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ
لَزِمَهُ كَفَّارَتَانِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ حَلَفَ
بِمَحْلُوفٍ وَاحِدٍ وَوَصَفَهُ بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ
وَالثَّانِي كَانَ يَمِينُهُ بِالْعَهْدِ ثُمَّ
أَضَافَ إلَيْهِ الْمِيثَاقَ فَلَزِمَهُ
كَفَّارَتَانِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ قَالَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَأَشَدُّ مَا
اتَّخَذَهُ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ لَزِمَهُ فِي
الْعَهْدِ كَفَّارَةٌ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي
قَوْلِهِ وَأَشَدُّ مَا اتَّخَذَهُ رَجُلٌ عَلَى
رَجُلٍ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ فِيهِ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ إنْ لَمْ
تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ
لِنِسَائِهِ وَالْعِتْقُ لِرَقِيقِهِ وَالصَّدَقَةُ
بِثُلُثِ مَالِهِ وَيَمْشِي إلَى الْكَعْبَةِ
وَرَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ قَالَ عِيسَى وَإِنْ
حَاشَا الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ
ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
الصَّدَقَةَ وَالْمَشْيَ وَكَفَّارَةَ الْأَيْمَانِ
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ أَشَدَّ مَا
اتَّخَذَهُ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ إنَّمَا يَقْتَضِي
يَمِينًا وَاحِدَةً وَلَا يَمِينَ أَعْظَمُ مِنْ
الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَلَا إثْمَ أَعْظَمُ مِنْ
إثْمِ مَنْ اجْتَرَأَ عَلَى الْحِنْثِ بِهَا فَكَانَتْ
يَمِينُهُ بِأَشَدِّ مَا اتَّخَذَهُ رَجُلٌ عَلَى
رَجُلٍ مُقْتَضِيَةٌ لِلْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى
فَلِذَلِكَ لَزِمَتْ بِهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ
بِاَللَّهِ وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ
الْحَالِفَ بِذَلِكَ إنَّمَا يَقْتَضِي حَلِفُهُ بِهِ
التَّشْدِيدَ عَلَيْهِ فِي الْمُخَالَفَةِ لِيَمِينِهِ
وَتَعْظِيمِ السُّنَّةِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إنَّمَا
يَكُونُ بِكَثْرَةِ مَا يَلْزَمُهُ بِالْحِنْثِ فِيهَا
وَأَمَّا مَقَادِيرُ الْمَآثِمِ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بِهَا وَلَوْ أَرَادَ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ
لَاجْتَزَأَ بِمَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنْ يَمِينِهِ
فَلِذَلِكَ حُمِلَ عَلَى اجْتِمَاعِ الْأَيْمَانِ
وَلُزُومِ جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا مَنْ قَالَ الْحَلَالُ عَلَيْهِ حَرَامٌ
فَلَا يَخْلُو أَنْ يَحْلِفَ بِذَلِكَ ابْتِدَاءً أَوْ
يَحْلِفَ لِمَنْ يَسْتَحْلِفُهُ فَإِنْ حَلَفَ
بِذَلِكَ ابْتِدَاءً فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَلْزَمُهُ
إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ كَانَتْ لَهُ
نِيَّةُ الْعُمُومِ فِي قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ
وَأَشْهَبَ وَإِنْ نَوَى مُحَاشَاةَ الطَّلَاقِ
وَالْعِتْقِ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ
بَيِّنَةٌ أَوْ لَا تَكُونَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَإِنْ
كَانَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو
بَكْرٍ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ وَقِيلَ لَا يَمِينَ
عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَهُ نِيَّتُهُ
وَقَالَ أَشْهَبُ وَلَوْ قَالَ الْحَلَالُ كُلُّهُ
عَلَيَّ حَرَامٌ لَمْ يَمْنَعْهُ مُحَاشَاةَ
امْرَأَتِهِ بِنِيَّتِهِ حَتَّى يُسَمِّيَهَا
بِالْكَلَامِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ الْحَلَالُ
عَلَيَّ حَرَامٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ الْحَلَالُ كُلُّهُ
حَرَامٌ إلَّا التَّأْكِيدُ لِلْعُمُومِ لِأَنَّ مَنْ
يَقُولُ إنَّ قَوْلَهُ الْحَلَالُ عَلَيَّ حَرَامٌ
لِلْعُمُومِ يَقُولُ إنَّ لَفْظَةُ كُلُّ لِلْعُمُومِ
وَمَنْ يَقُولُ لَيْسَتْ لِلْعُمُومِ وَلَا
لِلْعُمُومِ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ فَإِنَّهُ يَنْفِي أَنْ
يَكُونَ لَفْظَةُ كُلٍّ تَقْتَضِي الْعُمُومَ فَإِمَّا
أَنْ يَكُونَ أَشْهَبُ يَنْفِي
(3/250)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْعُمُومَ فِي الْأَلِفِ وَاللَّامِ الَّتِي
لِلْجِنْسِ وَيُثْبِتُهَا فِي كُلِّ وَأَمَّا أَنْ
يُثْبِتَ الْعُمُومَ فِيهِمَا وَيَجْعَلَ
لِلتَّأْكِيدِ مَزِيَّةً تَمْنَعُ الِاسْتِثْنَاءَ
بِالنِّيَّةِ دُونَ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا يَصِحُّ
أَنْ يَجْرِي قَوْلُهُ فِي الْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ
إذَا ثَبَتَ فِيهَا لَفْظُ كُلٍّ أَوْ عَرِيَتْ
عَنْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا أَنْ يَسْتَحْلِفَ فَقَدْ قَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ سَوَاءٌ
اسْتَحْلَفَهُ الطَّالِبُ أَوْ ضَيَّقَ عَلَيْهِ
حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ خَافَ أَنْ لَا يَتَخَلَّصَ
مِنْهُ إلَّا بِالْيَمِينِ فَإِنَّهُ لَا تَنْفَعُهُ
نِيَّتُهُ وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ
مَالِكٍ وَتَنْفَعُهُ نِيَّتُهُ فِي مُحَاشَاةِ
الزَّوْجَةِ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي هَذَا
الْيَمِينِ وَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا
تَنْفَعُهُ الْمُحَاشَاةُ وَلَا النِّيَّةُ
وَالْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ وَقَالَهُ
ابْنُ الْمَاجِشُونِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ قَالَ عَلَيْهِ أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ فَلَمَّا
حَلَفَ قَالَ لَمْ أُرِدْ الطَّلَاقَ فَفِي كِتَابِ
ابْنِ الْمَوَّازِ ذَلِكَ إلَى نِيَّتِهِ وَهَذَا
يَقْتَضِي أَنَّهُ إنْ قَالَ لَمْ أَنْوِ شَيْئًا
لَزِمَهُ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ مَا لَزِمَهُ
فِي قَوْلِهِ أَشَدُّ مَا اتَّخَذَهُ رَجُلٌ عَلَى
رَجُلٍ هَذَا عِنْدِي مِثْلُ الْيَمِينِ الَّتِي
يَجْرِي فِي بَلَدِنَا مِنْ قَوْلِ الْحَالِفِ
الْأَيْمَانُ لَازِمَةٌ وَقَدْ رَأَيْته فِي بَيْعَةِ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
وَفِيمَا بَعْدَهَا مِنْ عُهُودِ الْخُلَفَاءِ
وَلَفْظِ الْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ لَمْ أَرَ فِيهِ
لِلْمُتَقَدِّمِينَ أُصُولًا مُخْلِصَةً وَقَدْ
اخْتَلَفَ فِيهَا مَنْ عَاصَرَنَا مِنْ الْفُقَهَاءِ
فَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا
أَيْمَانٌ لَازِمَةٌ يَجِبُ بِهَا الطَّلَاقُ
وَالْعِتْقُ وَالْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ وَالصَّدَقَةُ
بِثُلُثِ الْمَالِ وَصِيَامُ شَهْرَيْنِ وَاخْتَلَفُوا
فِي الطَّلَاقِ الْوَاجِبِ بِذَلِكَ فَكَانَ الشَّيْخُ
أَبُو عِمْرَانَ بْنُ أَبِي حَاجٍّ - رَحِمَهُ اللَّهُ
- وَأَكْثَرُ مَنْ بَلَغَنَا قَوْلُهُ مِنْ أَهْلِ
إفْرِيقِيَةَ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ طَلْقَةً وَاحِدَةً
وَكَانَ مُعْظَمُ أَهْلِ بَلَدِنَا يَجْعَلُونَهَا
ثَلَاثًا وَحَكَاهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْحَقِّ عَنْ
أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ
الْأَظْهَرُ عِنْدِي عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ وَاحْتَجَّ
فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بِأَنَّ الْحَرَامَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَدْخُولِ
بِهَا ثَلَاثًا وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَيْمَانِ
فَلَزِمَنَا أَنْ يَلْزَمَهُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ
أَنْوَاعِ الْأَيْمَانِ أَوْعَبُهَا لِإِيجَابِنَا
عَلَيْهِ يَمِينًا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ
الْأَيْمَانِ وَلَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ أَوْعَبُهَا
لَأَخْلَلْنَا بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْأَيْمَانِ
وَإِذَا أَلْزَمْنَاهُ أَوْعَبَ أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ
لَزِمَنَا أَنْ نُلْزِمَهُ أَلْبَتَّةَ أَوْ
الْحَرَامَ مِنْ نَوْعِ الطَّلَاقِ وَهُوَ مِمَّا
يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي قَوْلِهِمْ الْحَلَالُ
عَلَيَّ حَرَامٌ فَيَجْتَمِعُ فِيهِ أَنَّهُ أَوْعَبُ
مَا فِي الْبَابِ مَعَ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ
وَلِذَلِكَ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ
مَاشِيًا إلَى مَكَّةَ دُونَ الْعُمْرَةِ وَدُونَ
الْحَجِّ رَاكِبًا لَمَّا كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي
الْيَمِينِ وَأَوْعَبَ لِمَا يَحْلِفُ بِهِ مِنْ هَذَا
النَّوْعِ.
وَوَجْهُ مَا قَالَهُ الْقَرَوِيُّونَ فِي هَذَا
التَّعَلُّقِ بِعُرْفِ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ
الْأَلْفَاظِ فَأَكْثَرُ مَا يَسْتَعْمِلُ أَنْتِ
طَالِقٌ إنْ فَعَلْت كَذَا فَإِنْ قُلْت كَذَا فَكَانَ
عُرْفُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْوَحْدَةِ
أَكْثَرَ فَحَمَلُوهُ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي
الْحَجِّ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا
يُسْتَعْمَلُ بِهَذَا اللَّفْظِ عَلَيْهِ الْمَشْيُ
إلَى مَكَّةَ إنْ فَعَلَ كَذَا وَإِنْ قَالَ كَذَا
وَلَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ
قَالُوا وَيَحْلِفُ الرَّجُلُ بِصَدَقَةِ مَالِهِ
فَيَلْزَمُهُ ثُلُثُهُ فَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ
يَلْزَمُهُ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثُ لَمَّا جَمَعَ
الْأَيْمَانَ لَلَزِمَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَصَدَّقَ
بِجَمِيعِ مَالِهِ وَفِي هَذَا الْقَوْلِ نَظَرٌ
نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا الْحَلَالِ عَلَيَّ
حَرَامٌ فَإِنَّهُ لَفْظٌ مُسْتَعْمَلٌ كَذَا وَقَعَ
فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَوْعَبُ مَا فِي الْبَابِ فَيَجِبُ
أَنْ يُحْمَلَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِ.
(فَرْعٌ) إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَتَقْرِيرُ مَا
تَحَقَّقَ عِنْدَ الْأَبِيِّ هَذِهِ الْيَمِينَ مِنْ
أَقْوَالِ الشُّيُوخِ يَعْنِي عَنْ ابْنِ لُبَابَةَ
وَمُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ كَانَ يَقُولُ يَنْوِي
فَإِنْ قَالَ لَمْ أَنْوِ الطَّلَاقَ وَلَمْ أَنْوِ
إلَّا طَلْقَةً وَاحِدَةً صَدَقَ وَرَأَيْت لِلشَّيْخِ
أَبِي عِمْرَانَ فِي نُسْخَةٍ جَوَابًا عَنْ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ فِي الَّذِي يَقُولُ يَلْزَمُنِي
جَمِيعُ الْأَيْمَانِ يَنْوِي الْحَالِفُ فَإِنْ
زَعَمَ أَنَّهُ قَصَدَ بَعْضَ الْأَيْمَانِ دُونَ
بَعْضٍ حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا
وَلَكِنَّهُ عَمَّ لَزِمَهُ غَايَةُ التَّشْدِيدِ
وَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْحَالِفِينَ وَإِنْ لَمْ
يَنْوِ عُمُومًا وَلَا خُصُوصًا فَهُوَ مَوْضِعُ
إشْكَالٍ يُؤْمَرُ صَاحِبُهُ بِالِاحْتِيَاطِ
وَالْتِزَامِ جَمِيعِ مَا يَخَافُ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ
تَحْتَ لَفْظِهِ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَا
يَقْضِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ
قَالَ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْأَيْمَانِ مِنْ
الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ
يَلْزَمُهُ مِنْ الطَّلَاقِ فَقَالَ فِي ذَلِكَ
تَنَازُعٌ وَأَرَى أَنَّ الْوَاحِدَةَ عَلَيْهِ بِلَا
شَكٍّ وَيُسْتَحَبُّ
(3/251)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فَإِنْ حَلَفَ رَجُلٌ
مَثَلًا فَقَالَ لَا وَاَللَّهِ لَا آكُلُ هَذَا
الطَّعَامَ وَلَا أَلْبِسُ هَذَا الثَّوْبَ وَلَا
أَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ فَكَانَ هَذَا فِي يَمِينٍ
وَاحِدَةٍ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ
وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
لَهُ أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ
فَقِيلَ لَهُ مِنْ الْأَيْمَانِ فَقَالَ هَذَا مَا لَا
غَايَةَ لَهُ وَكَذَلِكَ مِنْ الْأَيْمَانِ كُلَّمَا
تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَيَجِبُ أَنْ
يَلْزَمَهُ ذَلِكَ فَظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي عِمْرَانَ
فِي الْجَوَابِ الْأَوَّلِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْقَوْلِ
بِالْعُمُومِ وَأَنَّهُ إذَا نَوَى الْعُمُومَ
لَزِمَهُ أَشَدُّ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ
رَاجِعٌ إلَى مَا نَقُولُهُ لِقَوْلِنَا بِالْعُمُومِ
وَمَا أَلْزَمَهُ مِنْ قَوْلِنَا كُلَّمَا
تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ غَيْرُ لَازِمٍ
لِأَنَّهُ إنَّمَا تَلْزَمُهُ الْأَيْمَانُ
الْمُطْلَقَةُ دُونَ الْأَيْمَانِ الْمُعَلَّقَةِ
بِصِفَةٍ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْوَلِيدِ -
رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَتَفَرَّعَ الْقَوْلُ
فِي هَذِهِ الْيَمِينِ عَلَى حَسَبِ مَا قَدَّمْنَاهُ
مِنْ أَقْوَالِ الْمَالِكِيِّينَ فِي الْحَالِفِ
بِالْحَلَالِ عَلَيْهِ حَرَامٌ وَيُرَتَّبُ عَلَى
ذَلِكَ التَّرْتِيبِ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ قَبْلَ هَذَا
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ وَقَدْ رَأَيْت لِبَعْضِ
أَهْلِ اللُّغَةِ قَوْلًا أَرَاهُ أَرَادَ بِهِ
تَسْهِيلَ هَذِهِ الْيَمِينِ لِأَنَّهُمْ يَرْوُونَ
عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا
قَالَتْ كُلُّ يَمِينٍ وَإِنْ عَظُمَتْ فَإِنَّ
كَفَّارَتَهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ يُرِيدُونَ أَنَّهُ
لَا يَجِبُ عَلَى الْحَالِفِ بِالْأَيْمَانِ
اللَّازِمَةِ إلَّا كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهَذِهِ
الرِّوَايَةُ لَا تَصِحُّ عَنْ عَائِشَةَ فِيمَا
عَلِمْت وَلَوْ صَحَّتْ لَجَازَ أَنْ يَلْحَقَهَا
التَّخْصِيصُ أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ رَأْيًا رَأَتْهُ
لَمْ تُوَافِقْ عَلَيْهِ فَرَأَيْت لِلْجُرْجَانِيِّ
أَنَّهُ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ اسْمٌ
لِجَمِيعِ الْأَيْمَانِ قَالَ وَأَرَادَ لَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ وَمَا اتَّصَلَ بِهَا مِنْ جَمِيعِ
أَسْبَابِهَا وَآلَاتِهَا وَهُوَ الَّذِي ادَّعَاهُ
مِنْ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ اسْمٌ لِجَمِيعِ
الْأَيْمَانِ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ
جِهَةِ لُغَةٍ وَلَا شَرْعٍ وَلَا أَوْرَدَ فِي ذَلِكَ
شَيْئًا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَلَوْ صَحَّ مَا ادَّعَاهُ
مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَعَلُّقٌ بَلْ هُوَ
عَكْسُ مَا نَقُولُهُ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ
الْأَيْمَانَ اللَّازِمَةَ اسْمٌ لِلْحَلِفِ
بِاَللَّهِ فَلَا يَلْزَمُ بِهَا إلَّا مَا يَلْزَمُ
الْحَالِفُ بِاَللَّهِ وَأَمَّا إذَا كَانَتْ
الْيَمِينُ بِاَللَّهِ اسْمًا لِجَمِيعِ الْأَيْمَانِ
فَيَجِبُ أَنْ يَلْزَمَ الْحَالِفُ بِهَا جَمِيعَ
الْأَيْمَانِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ) إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَمَنْ حَلَفَ
بِالْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ فِي
جَمِيعِ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ النِّسَاءِ لِأَنَّ
يَمِينَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِجَمِيعِهِنَّ فَإِنْ لَمْ
تَكُنْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُ فِيمَنْ
يَتَزَوَّجُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ الْحَلِفَ
بِذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الطَّلَاقِ وَلَا يَلْزَمُ
مِنْهُ إلَّا أَعَمُّهُ أَوْ الْمُعْتَادُ مِنْهُ
وَلَيْسَ هَذَا بِأَعَمِّهِ وَلَا الْمُعْتَادِ مِنْهُ
وَلَا هُوَ قُرْبَةٌ فَيَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا الصِّيَامُ فَاَلَّذِي يَلْزَمُ مِنْهُ
قَوْلُنَا صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَهُوَ
أَعَمُّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مِنْ هَذَا
النَّوْعِ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا الْعِتْقُ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ رَقِيقٌ
عَتَقَ عَلَيْهِ جَمِيعُهُمْ لِأَنَّ حُكْمَ
الْيَمِينِ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِهِمْ كَالطَّلَاقِ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ رَقِيقٌ فَعَلَيْهِ
عِتْقُ رَقَبَةٍ وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ
ذَلِكَ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إنَّمَا
يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ
بِهَذِهِ الْيَمِينِ وَلَا غَيْرِهَا.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَقَدْ نَصَّ أَصْحَابُنَا عَلَى
أَنَّ الَّذِي يَجِبُ فِي أَشَدِّ مَا اتَّخَذَ رَجُلٌ
عَلَى رَجُلٍ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثُلُثِ مَالِهِ
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى التَّعَلُّقِ بِالْعُرْفِ
لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ يَحْلِفُ إنَّمَا يَحْلِفُ
بِصَدَقَةِ مَالِهِ وَيَجِبُ بِذَلِكَ عِنْدَ
الْمَالِكِيِّينَ الثُّلُثُ لِأَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ
مُتَعَلِّقٌ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْمَقَادِيرِ
وَلَوْ تَعَلَّقَ بِهِ ذَلِكَ بِأَكْثَرَ مِمَّا
يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عُرْفٍ لَوَجَبَ
عَلَيْهِ أَكْثَرُ مَالِهِ أَوْ جَمِيعُهُ عَلَى
حَسَبِ مَا لَزِمَ بِالصَّدَقَةِ أَوْ بِالْجُزْءِ
الشَّائِعِ لَكِنَّهُ لَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ
أَصْحَابِنَا إلَّا التَّعَلُّقُ بِالْأَكْثَرِ مَعَ
الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ بَلَدِنَا
وَالتَّعَلُّقُ بِالْعُرْفِ خَاصَّةً عِنْدَ
الْقَرَوِيِّينَ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ يَلْزَمُهُ
الطَّلَاقُ بِالْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ لِتَنَاوُلِ
اللَّفْظِ لَهُ فَقَالَ إنِّي حَاشَيْت الطَّلَاقَ
أَوْ الْعِتْقَ أَوْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِنِيَّتِي
فَأَمَّا مَا لَا يُطَالَبُ بِهِ مِنْ الصَّوْمِ
وَالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ وَالْعِتْقِ غَيْرِ
الْمُعَيَّنِ فَلَا خِلَافَ فِي تَصْدِيقِهِ فِيهِ
وَأَمَّا مَا لِلْإِمَامِ الْمُطَالَبَةُ فِيهِ
كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ الْمُعَيَّنِ فَيَجْرِي
الْقَوْلُ فِيهِ عَلَى اخْتِلَافِ شُيُوخِنَا فِيمَنْ
حَلَفَ بِالْحَلَالِ عَلَيْهِ حَرَامٌ أَوْ
بِالْحَلَالِ كُلِّهِ عَلَيْهِ حَرَامٌ ثُمَّ ادَّعَى
أَنَّهُ حَاشَا الزَّوْجَ بِنِيَّتِهِ وَقَدْ
تَقَدَّمَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَا يَقِفُ
عَلَيْهِ النَّاظِرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
(3/252)
لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ
كَسَوْتُك هَذَا الثَّوْبَ وَأَذِنْت لَك إلَى
الْمَسْجِدِ يَكُونُ ذَلِكَ نَسَقًا مُتَتَابِعًا فِي
كَلَامٍ وَاحِدٍ فَإِنْ حَنِثَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ
مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ
وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيمَا فَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ حِنْثٌ
إنَّمَا الْحِنْثُ فِي ذَلِكَ حِنْثٌ وَاحِدٌ) .
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي نَذْرِ
الْمَرْأَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِ
زَوْجِهَا يَجِبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ وَيَثْبُتُ إذَا
كَانَ ذَلِكَ فِي جَسَدِهَا وَكَانَ ذَلِكَ لَا
يَضُرُّ بِزَوْجِهَا وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِزَوْجِهَا
كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهَا حَتَّى تَقْضِيَهُ) .
الْعَمَلُ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّ مَنْ حَلَفَ يَمِينًا
وَاحِدَةً تَضَمَّنَتْ أَشْيَاءَ أَنْ لَا يَأْكُلَ
طَعَامًا مُعَيَّنًا وَلَا يَلْبَسَ ثَوْبًا وَلَا
يَدْخُلَ بَيْتًا وَلَا يُكَلِّمَ رَجُلًا فَإِنَّهَا
يَمِينٌ وَاحِدَةٌ يُجْزِئُ فِي حِلِّهَا
بِالِاسْتِثْنَاءِ اسْتِثْنَاءٌ وَاحِدٌ وَفِي
حِلِّهَا بِالْكَفَّارَةِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ
وَيَحْنَثُ بِفِعْلِ الِامْتِنَاعِ مِنْ إبْعَاضِ
ذَلِكَ الْفِعْلِ كَمَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ
هَذَا الرَّغِيفَ فَأَكَلَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ
بِهِ فِي الظَّاهِرِ مِنْ الْمَذْهَبِ وَكَذَلِكَ مَنْ
حَلَفَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَأَكَلَ الطَّعَامَ
أَوْ لَبِسَ الثَّوْبَ أَوْ دَخَلَ الْبَيْتَ أَوْ
كَلَّمَ الرَّجُلَ فَإِنَّهُ قَدْ فَعَلَ شَيْئًا
مِمَّا حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ
الْحِنْثُ بِذَلِكَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَذَا إذَا حَلَفَ عَلَى النَّفْيِ وَهُوَ إذَا
حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ فَلَوْ حَلَفَ عَلَى
الْإِيجَابِ وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ لَيَفْعَلَنَّ
مِثْلَ أَنْ يَحْلِفَ لَيَأْكُلَنَّ الْخُبْزَ
وَلَيَلْبَسَنَّ الثَّوْبَ وَلَيَدْخُلَنَّ الْبَيْتَ
وَلَيُكَلِّمَنَّ زَيْدًا فَإِنَّهُ لَا يَبَرُّ إلَّا
بِفِعْلِ ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّهُ قَدْ حَلَفَ عَلَى
الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ حَلَفَ لِامْرَأَتَيْهِ فَقَالَ إنْ
دَخَلْتُمَا الدَّارَ فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ
فَدَخَلَتْ وَاحِدَةٌ فَقَدْ رَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ
الْقَاسِمِ يَحْنَثُ فِيهِمَا وَيُطَلَّقَانِ وَهُوَ
قَوْلُ مَالِكٍ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ تَطْلُقُ الدَّاخِلَةُ
وَحْدَهَا وَقَالَهُ أَشْهَبُ وَفِي الْمُدَوَّنَةِ
لَا شَيْءَ عَلَيْهِ حَتَّى تَدْخُلَ الْمَرْأَتَانِ
الدَّارَ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْحَلِفَ
عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْهُ
يُوجِبُ الْحِنْثَ بِفِعْلِ بَعْضِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ
يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ
أَصْلُ ذَلِكَ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ
الرَّغِيفَ فَأَكَلَ بَعْضَهُ وَلِأَنَّ هَذَا
الْحَالِفَ قَصَدَ مَنْعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ
الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ دُخُولِ الدَّارِ وَفَعَلَ
مَخْرَجَ يَمِينِهِ وَحِنْثِهِ فِيهِمَا
بِطَلَاقِهِمَا فَمَنْ حَنِثَ فِي شَيْءٍ مِنْ
يَمِينِهِ فَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِطَلَاقِهِمَا
جَمِيعًا.
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْفِعْلَ
الَّذِي اقْتَضَتْ يَمِينُهُ الْمَنْعَ مِنْهُ إنَّمَا
هُوَ دُخُولُ الدَّارِ وَقَدْ وُجِدَ جَمِيعُهُ وَلَمْ
تَقْتَضِ الْيَمِينُ اسْتِيعَابَ طَلَاقِهِمَا
بِدُخُولِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ مَا يَجِبُ
بِهِ الْعُمُومُ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ
وَالِاسْتِغْرَاقَ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي أَقَلَّ مَا
يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ أَوْ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ
قَصَدَهُ بِالْيَمِينِ وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذَا
أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ مَنْعَ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ
دُخُولِ الدَّارِ وَأَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ
بِطَلَاقِهِمَا وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْمُدَوَّنَةِ
أَنَّ يَمِينَهُ إنَّمَا اقْتَضَتْ أَنْ لَا تَدْخُلَ
زَوْجَتَاهُ الدَّارَ وَمِنْ ذَلِكَ مَنَعَتْهُ
يَمِينُهُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بِدُخُولِ
إحْدَاهُمَا فَلَمْ يَحْنَثْ فِي شَيْءٍ مِنْ
يَمِينِهِ.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّ نَذْرَ ذَاتِ
الزَّوْجِ لَازِمٌ لَهَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ
إذْنِ زَوْجِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ
ضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ وَضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ
بِالْجَسَدِ فَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِالْمَالِ فَلَا
يَخْلُو أَنْ تَقْتَصِرَ بِهِ عَلَى الثُّلُثِ فَمَا
دُونَهُ أَوْ تَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ اقْتَصَرَتْ
عَلَى الثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ فَلَا اعْتِرَاضَ فِيهِ
لِلزَّوْجِ لِأَنَّ كُلَّ حُرٍّ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي
الصَّدَقَةِ بِمَالِهِ دُونَ الْمُعَارَضَةِ فِيهِ
لِحَقِّ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي
ثُلُثِهِ وَلَا تَجُوزُ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى
ذَلِكَ كَالْمُوصِي وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ
لَهَا أَنْ تَتَصَدَّقَ بِالْيَسِيرِ وَإِذَا
احْتَجْنَا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْيَسِيرِ
وَالْكَثِيرِ فَالْحَدُّ فِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ بِهِ
الشَّرْعُ مِنْ الثُّلُثِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ
فَالْمَرْأَةُ مَمْنُوعَةٌ مِنْهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ
الزَّوْجِ بِمَالِهَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ
عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أَنَّهُ قَالَ «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا
وَجَمَالِهَا وَدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ
تَرِبَتْ يَمِينُك» فَإِذَا كَانَتْ إنَّمَا تُنْكَحُ
لِمَالِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا بَعْدَ أَنْ زِيدَ فِي
صَدَاقِهَا مِنْ أَجْلِهِ أَنْ تُتْلِفَ جَمِيعَهُ
وَتَهَبَهُ غَيْرَهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ زَادَتْ فِي ذَلِكَ عَلَى الثُّلُثِ كَانَ
لِلزَّوْجِ الرَّدُّ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ لِمَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّهَا إذَا
زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ فَهِيَ مُتَعَدِّيَةٌ فِي
ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ فَيَجِبُ أَنْ يَرُدَّ
تَعَدِّيَهَا وَمَا كَانَ مِنْ الثُّلُثِ فَأَقَلَّ
فَلَيْسَتْ بِمُتَعَدِّيَةٍ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ
فَلِذَلِكَ لَمْ يُرَدَّ.
(فَرْعٌ) إذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ الرَّدَّ فَهَلْ لَهُ
رَدُّ
(3/253)
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مَنْ
حَلَفَ بِيَمِينٍ فَأَكَّدَهَا ثُمَّ حَنِثَ
فَعَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ أَوْ كِسْوَةُ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ وَمَنْ حَلَفَ بِيَمِينٍ فَلَمْ
يُؤَكِّدْهَا ثُمَّ حَنِثَ فَعَلَيْهِ إطْعَامُ
عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ
حِنْطَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
ذَلِكَ كُلِّهِ أَمْ رَدُّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ
مِنْهُ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَهُوَ
قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ لَهُ رَدَّ جَمِيعِهِ
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ إنَّمَا يَرُدُّ مَا
زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا فِي الْعِتْقِ فَإِنَّهُ
يَرُدُّ جَمِيعَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ عِتْقِ الْبَعْضِ
مِنْ غَيْرِ تَقْوِيمٍ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ
الزَّوْجَةُ إذَا زَادَتْ فِي هِبَتِهَا كَانَتْ
مُتَعَدِّيَةً وَلَمْ يَخْتَصَّ التَّعَدِّي بِمَا
زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بَلْ اخْتَصَّ بِالْجَمِيعِ
فَوَجَبَ أَنْ يَرُدَّ جَمِيعَهُ لِأَنَّهَا
مَمْنُوعَةٌ مِنْهُ لِحَقِّ الْغَيْرِ مَعَ بَقَاءِ
الْمَالِ عَلَى مِلْكِهَا كَالْمُفْلِسِ وَبِهَذَا
فَارَقَ الْوَصِيَّةَ فَإِنَّ الْمُوصِي يُمْنَعُ مِنْ
الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ مَعَ خُرُوجِ الْمَالِ
عَنْ مِلْكِهِ فَلِذَلِكَ رَدَّ إلَى الثُّلُثِ
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ
التَّصَرُّفُ فِي ثُلُثِهِ فَإِنَّهُ يَرُدُّ مَا
زَادَ عَلَيْهِ كَالْمُوصِي وَهُوَ أَقْيَسُ وَأَجْرَى
عَلَى الْأُصُولِ.
(فَرْعٌ) وَإِذَا قُلْنَا إنَّ لِلزَّوْجِ الرَّدَّ
أَوْ الْإِجَازَةَ فَهَلْ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى
الْإِجَازَةِ أَوْ الرَّدِّ قَالَ أَصْبَغُ هُوَ عَلَى
الْإِجَازَةِ حَتَّى يَرُدَّهُ وَقَالَ مُطَرِّفٌ
وَابْنُ الْمَاجِشُونِ هُوَ مَرْدُودٌ حَتَّى
يُجِيزَهُ الزَّوْجُ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ
أَنَّ ذَلِكَ مَالٌ لِلزَّوْجَةِ وَهِيَ جَائِزَةُ
الْأَمْرِ فَمَا أَوْجَبَتْهُ فِي مَالِهَا فَهُوَ
جَائِزٌ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ
مَمْنُوعٌ لِحَقِّ الزَّوْجِ فَلَمْ يَجُزْ مِنْهُ
شَيْءٌ إلَّا بِإِجَازَتِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِذَا شَهِدَ الزَّوْجُ قَبْلَ يَمِينِهَا أَنَّهَا
مَتَى حَلَفَتْ فِي كَذَا وَحَنِثَتْ فَقَدْ أَجْزَتْ
مَا حَلَفَتْ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ وَلَوْ
أَشْهَدَ بِذَلِكَ بَعْدَ يَمِينِهَا وَقَبْلَ
الْحِنْثِ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
الرُّجُوعُ فِيهِ قَالَهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ
الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ
إذَا أَشْهَدَ بِذَلِكَ قَبْلَ يَمِينِهَا فَقَدْ
أَشْهَدَ قَبْلَ سَبَبِ الْوُجُوبِ عَلَيْهَا
وَعَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْإِعْرَاضِ فِي شَيْءٍ
قَبْلَ وُجُوبِهِ أَوْ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ لَمْ
يَلْزَمْهُ ذَلِكَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِذَا حَلَفَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهَا وَلَا
زَوْجَ لَهَا فَتَزَوَّجَتْ ثُمَّ حَنِثَتْ
فَلِلزَّوْجِ رَدُّ ذَلِكَ قَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ
وَرَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ
وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الِاعْتِبَارَ
بِحَالِ الْحِنْثِ دُونَ حَالِ الْيَمِينِ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِجَسَدِهَا كَالصَّلَاةِ
وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ فَإِنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَضُرَّ بِالزَّوْجِ كَكَثِيرِ
الصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالثَّانِي لَا يَضُرُّ بِهِ
كَصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ وَصِيَامِ يَوْمٍ فَإِنْ كَانَ
ذَلِكَ يَضُرُّ بِزَوْجِهَا مَنَعَهَا مِنْهُ لِأَنَّ
حَقَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِالِاسْتِمْتَاعِ بِهَا
فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَأْتِيَ بِمَا يَمْنَعُ مِنْهُ
وَلَكِنَّ ذَلِكَ يَبْقَى بِذِمَّتِهَا حَتَّى تَجِدَ
إلَى أَدَائِهِ السَّبِيلَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا
لَا يَضُرُّ بِالزَّوْجِ كَانَ لَهَا تَعْجِيلُ
فِعْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْهُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
[الْعَمَلُ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ]
(ش) : قَوْلُهُ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ
فَأَكَّدَهَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِتَأْكِيدِهَا
تَكْرَارَ وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِصِفَاتِهِ مِثْلُ
أَنْ يَقُولَ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ
الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ
بِهِ تَأْكِيدَهَا بِتَكْرَارِهَا مِرَارًا
وَلَعَلَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا
فَكَانَ يَرَى فِي تَأْكِيدِهَا أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ
بِأَرْفَعِ الْكَفَّارَاتِ وَهُوَ الْعِتْقُ أَوْ
يَرْفَعَ عَنْ أَدْنَى الْكَفَّارَاتِ الَّذِي هُوَ
الْإِطْعَامُ إلَى مَا هُوَ أَرْفَعُ وَهُوَ
الْكِسْوَةُ وَالْإِطْعَامُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي التَّأْكِيدِ عَلَى
وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا
كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فَإِنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ
بَيْنَ الرَّقَبَةِ وَالْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ صَامَ
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لا
يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ
فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ
أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ
كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ
أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] .
1 -
(3/254)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
(مَسْأَلَةٌ) :
وَصِفَةُ الرَّقَبَةِ أَنْ تَكُونَ مُسْلِمَةً
كَامِلَةَ الرِّقِّ وَتَأَخَّرَتْ مَسَائِلُ مِنْ
هَذَا الْبَابِ إلَى الظِّهَارِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا سَلَامَةُ الْخِلْقَةِ فَإِنَّ النَّقْصَ
عَلَى ضَرْبَيْنِ نَقْصٌ مِنْ ظَاهِرِ جِسْمِهِ
وَنَقْصٌ مِنْ مَنَافِعِهِ قَالَ شُيُوخُنَا
الْعِرَاقِيُّونَ إنَّهُ إذَا كَانَ عَلَى صِفَةٍ
يُمْكِنُهُ مَعَهَا التَّصَرُّفُ الْكَامِلُ
وَالتَّكَسُّبُ غَالِبًا فَإِنَّهُ يُجْزِئُ مِثْلُ
أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعَ الْأُنْمُلَةِ قَالَ ابْنُ
حَبِيبٍ يَجُوزُ الْجَدْعُ الْخَفِيفُ أَوْ الصَّمَمُ
الْخَفِيفُ أَوْ الْعَرَجُ الْخَفِيفُ وَذَهَابُ
الضِّرْسِ وَإِنْ اسْوَدَّتْ وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا
قَدَّمْنَاهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَأَمَّا أَقْطَعُ الْيَدِ أَوْ أَقْطَعُ الرِّجْلِ
أَوْ الْأَشَلُّ أَوْ الْأَعْمَى أَوْ الْمُقْعَدُ
أَوْ الْأَخْرَسُ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي
الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
فَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِالْخَرَسِ الْبَكَمَ فَذَهَبَ
ابْنُ الْقَاسِمِ إلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ
وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ بَعْدَ هَذَا وَإِنْ كَانَ
أَرَادَ بِالْخَرَسِ تَغْيِيرَ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَدِيدًا يَعْسُرُ فَهْمُهُ
غَالِبًا فَإِنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي تَصَرُّفِهِ
فَلِذَلِكَ مُنِعَ الْإِجْزَاءَ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَا يُجْزِئُ مِنْ الْأَمْرَاضِ مَنْ بِهِ جُنُونٌ
مُطْبِقٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ فَالِجٌ أَوْ سُلٌّ أَوْ
رَمَدٌ أَوْ بَرَصٌ فَاحِشٌ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ
فِي الْمَبْسُوطِ لَا يُجْزِئُ إلَّا بَرَصٌ وَقَالَ
ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي الْوَاضِحَةِ إلَّا الْبَرَصُ
الْخَفِيفُ قَالَ أَشْهَبُ أَوْ الْمَرِيضُ الَّذِي
يُنَازِعُ أَوْ الْمَقْطُوعُ الْإِبْهَامَيْنِ قَالَ
الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ مِنْ الْيَدَيْنِ
وَالرِّجْلَيْنِ فَهَذَا كُلُّهُ لَا يُجْزِئُ لِأَنَّ
هَذِهِ مَعَانٍ تَمْنَعُ التَّصَرُّفَ وَالتَّكَسُّبَ
وَهِيَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي لَا يُرْجَى
بُرْؤُهَا وَأَمَّا الْمَرِيضُ الَّذِي بِهِ الْحُمَّى
أَوْ الرَّمَدُ أَوْ الظُّفْرُ فَإِنَّهُ يُجْزِئُ
لِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِي وَإِنْ كَانَتْ الْآنَ
تَمْنَعُ التَّصَرُّفَ وَالتَّكَسُّبَ فَإِنَّهَا
مَعَانٍ يُرْجَى زَوَالُهَا قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ
فِي الْوَاضِحَةِ يَجُوزُ عِتْقُ الْمَرِيضِ إلَّا
الَّذِي يُنَازِعُ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي
الْأَعْرَجِ فَقَالَ مَرَّةً يُجْزِئُ وَقَالَ مَرَّةً
لَا يُجْزِئُ ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ
عَرَجًا خَفِيفًا أَجْزَأَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
يُجْزِئُ أَقْطَعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالدَّلِيلُ
عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ} [النساء: 92] وَإِطْلَاقُ الِاسْمِ
يَقْتَضِي السَّلَامَةَ وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ
الْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا نَقْصٌ يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ
التَّامَّ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ الْإِجْزَاءَ كَمَا
لَوْ كَانَ مَقْطُوعَ الرِّجْلَيْنِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَاخْتُلِفَ فِي الْخَصِيِّ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ
لَا يُجْزِئُ وَقَالَ أَشْهَبُ يُجْزِئُ وَجْهُ
الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ نَاقِصُ الْخِلْقَةِ
كَالْأَعْوَرِ وَالْأَشَلِّ وَوَجْهُ الْقَوْلِ
الثَّانِي أَنَّ هَذَا نَقْصٌ لَا يُؤَثِّرُ فِي
عَمَلِهِ وَتَصَرُّفِهِ كَالْفُحْجِ وَأَيْضًا
فَإِنَّهُ أَغْلَى ثَمَنًا مِنْ غَيْرِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
اُخْتُلِفَ فِي أَقْطَعِ الْإِبْهَامِ الْوَاحِدَةِ
فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَا
يُجْزِئُ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمَقْطُوعِ
الْأُصْبُعِ وَالْأُصْبُعَيْنِ وَقَالَ غَيْرُهُ
يُجْزِئُ مَقْطُوعُ الْأُصْبُعِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ
ابْنِ الْقَاسِمِ فِي ذَلِكَ فِي الْمَبْسُوطِ فَقَالَ
مَرَّةً يُجْزِئُ مَقْطُوعُ الْأُصْبُعِ وَقَالَ
مَرَّةً لَا يُجْزِئُ مَقْطُوعُ الْأُصْبُعِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَاخْتُلِفَ فِي الْأَعْوَرِ فَقَالَ مَالِكٌ
وَالْمِصْرِيُّونَ يُجْزِئُ وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ
لَا يُجْزِئُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمَبْسُوطِ
وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ
تَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنَيْنِ أَوْ قُرْبَ ذَلِكَ
فَكَانَ كَمَنْ بِعَيْنَيْهِ ضَعْفٌ وَوَجْهُ قَوْلِ
مَالِكٍ أَنَّ نَقْصَهُ مَا يَجِبُ بِهِ نِصْفُ
الدِّيَةِ كَأَقْطَعِ الْيَدِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَاخْتُلِفَ فِي الْأَصَمِّ فَقَالَ مَالِكٌ لَا
يُجْزِئُ وَقَالَ أَشْهَبُ يُجْزِئُهُ وَجْهُ قَوْلِ
مَالِكٍ مَا احْتَجَّ بِهِ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ
مِنْ أَنَّهُ نَوْعُ مَنْفَعَةٍ كَامِلَةٍ يَضُرُّ
بِالْعَمَلِ وَيَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ
كَالْعَمَى وَوَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ مَا قَالَهُ
الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ أَيْضًا مِنْ أَنَّ ذَهَابَ
السَّمْعِ لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ وَلَا
بِالتَّصَرُّفِ كَبِيرَ إضْرَارٍ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا
فِيهِ صُعُوبَةُ فَهْمِهِ لِلْكَلَامِ وَذَلِكَ
يُوصِلُ إلَيْهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ
الْإِشَارَةِ وَمَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فَهْمُ
الْكَلَامِ لِعُجْمَتِهِ أَوْ لِبُعْدِ فَهْمِهِ
يُجْزِئُ فَفِي مَسْأَلَتِنَا مِثْلُهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا الْمَقْطُوعُ الْأُذُنَيْنِ فَقَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَا يُجْزِئُ قَالَ
الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ
فِيهِمَا مَنْفَعَةً وَهِيَ حَوْشُ الصَّوْتِ إلَى
السَّمْعِ وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُ مَعَ مَا فِي
ذَهَابِهِمَا مِنْ التَّشْوِيهِ بِالْخَلْقِ وَفِي
الْمَبْسُوطِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْجَدْعَ
(3/255)
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ
أَدْرَكْت النَّاسَ وَهُمْ إذَا أَعْطَوْا فِي
كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَعْطَوْا مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ
بِالْمُدِّ الْأَصْغَرِ وَرَأَوْا ذَلِكَ مُجْزِيًا
عَنْهُمْ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
فِي الْأُذُنِ يُجْزِئُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَالْبَكَمُ يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ قَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ فِي الْمَبْسُوطِ لَا يُجْزِئُ الْأَخْرَسُ
فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَذَلِكَ خِلَافٌ
لِلشَّافِعِيِّ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ
وَإِنْ كَانَ مَعَهُ صَمَمٌ فَهُوَ أَبْيَنُ لِأَنَّ
فَقْدَ الْكَلَامِ يَجْرِي مَجْرَى فَقْدِ الْبَصَرِ
وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِعَمَلِهِ
وَيُنْقِصُ تَصَرُّفَهُ وَيُضْعِفُ فَهْمَهُ
وَإِفْهَامَهُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَا يَجُوزُ الَّذِي ذَهَبَ جُلُّ أَسْنَانِهِ
فَإِنْ ذَهَبَ أَقَلُّهَا فَإِنَّهُ يُجْزِئُ قَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْوَاضِحَةِ وَتَأَخَّرَتْ
مَسَائِلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ إلَى الظِّهَارِ
وَإِلَى الْعِتْقِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ ابْتَاعَ أَمَةً فَأَعْتَقَهَا عَنْ وَاجِبٍ
ثُمَّ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ فَلَا تُجْزِئُ قَالَهُ فِي
الْعُتْبِيَّةِ وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ
الْعَيْبِ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ
وَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْعَبْدِ الْآبِقِ إلَّا أَنْ
يُوجَدَ بَعْدَ الْعِتْقِ سَلِيمًا وَيُعْلَمَ أَنَّهُ
كَانَ يَوْمَ عِتْقِهِ صَحِيحًا فَأَمَّا إنْ كَانَ
يَوْمئِذٍ عَلِيلًا ثُمَّ صَحَّ أَوْ صَحِيحًا ثُمَّ
اعْتَلَّ لَمْ يُجْزِهِ حَتَّى يَكُونَ صَحِيحًا فِي
الْحَالَيْنِ قَالَ أَصَبْغُ وَرُوِيَ أَكْثَرُهُ عَنْ
ابْنِ الْقَاسِمِ وَمَعْنَى ذَلِكَ كَانَ يَكُونُ
الْمَرَضُ مِمَّا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ وَأَمَّا إنْ
كَانَ مَرِيضًا لَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ فَإِنَّهُ
يُجْزِئُ وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا
يُجْزِئُ عِتْقُ الْمَرِيضِ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ
أَيَّامٍ} [البقرة: 196] يُرِيدُ مَنْ لَمْ يَجِدْ
شَيْئًا مِمَّا ذَكَرَ فَوْقَ هَذَا فَإِنَّهُ
يَنْتَقِلُ إلَى الصِّيَامِ وَلَا يُجْزِئُهُ
الصَّوْمُ مَعَ وُجُودِ رَقَبَةٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَوْ
إطْعَامٍ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ لَا
يَصُومُ الْحَانِثُ حَتَّى لَا يَجِدَ إلَّا قُوَّتَهُ
وَيَكُونُ فِي بَلَدٍ لَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ فِيهِ
وَرَوَى ابْنُ مُزَيْنٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ إنْ
كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ أَطْعَمَ إلَّا
أَنْ يَخَافَ الْجُوعَ وَهُوَ فِي بَلَدٍ لَا يُعْطَفُ
فِيهِ عَلَيْهِ وَيَعْتَبِرُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَجِدَ
فَضْلًا عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ الَّذِي ذَكَرَ مَا
يُعْتِقُ فِيهِ رَقَبَةً كَامِلَةً أَوْ يَكْسُو
الْكِسْوَةَ الَّتِي تُجْزِئُهُ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ
مِنْ إطْعَامِهِمْ فَإِنْ قَصَرَ مَا عِنْدَهُ عَنْ
ذَلِكَ فَلَيْسَ بِوَاجِدٍ وَيُجْزِئُهُ الصِّيَامُ
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ وُجُودَ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ
بِوُجُودِ الْعَيْنِ الَّتِي يُخْرِجُهَا وَذَلِكَ لَا
يَصِحُّ عَدَمُهُ وَالثَّانِي أَنْ يَجِدَ فِي
مِلْكِهِ قِيمَتَهَا مِمَّا يَلْزَمُهُ إخْرَاجُهُ
فِيهَا وَكُلُّ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ عَيْنٍ أَوْ
عَرَضٍ يَتَصَرَّفُ فِي ذَلِكَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَالِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ بِحَالِ التَّكْفِيرِ
دُونَ حَالِ الْيَمِينِ وَحَالِ الْحِنْثِ وَإِنْ
كَانَ حِينَ الْيَمِينِ مُعْسِرًا ثُمَّ أَيْسَرَ
قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي التَّكْفِيرِ لَمْ يُجْزِهِ
الصِّيَامُ لِأَنَّهُ الْآنَ وَاجِدٌ لِلْعِتْقِ أَوْ
الْإِطْعَامِ فَإِنْ تَلَبَّسَ بِالصَّوْمِ ثُمَّ
أَيْسَرَ أَجْزَأَهُ أَنْ يَتَمَادَى عَلَى صَوْمِهِ
لِأَنَّهُ قَدْ تَلَبَّسَ بِالصَّوْمِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا يَوْمَ الْحِنْثِ فَتَرَكَ
التَّكْفِيرَ حَتَّى أَعْسَرَ فَصَامَ ثُمَّ أَيْسَرَ
فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ
أَنَّهُ يُعْتِقُ قَالَ وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ
مَالِكٍ وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ
يُجْزِئُهُ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عِنْدِي
الِاسْتِحْبَابُ وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ
وَأَصْحَابِهِ الِاعْتِبَارُ بِحَالَةِ التَّكْفِيرِ
كَمَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ
الْوَقْتِ فَلَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى مَرِضَ فَلَمْ
يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ
يُصَلِّيَ جَالِسًا وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَإِنْ
أَطَاقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِيَامَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ أَنْ يُكَفِّرَ
بِالْإِطْعَامِ فَصَامَ فَهَلْ يُجْزِئُهُ قَالَ ابْنُ
حَبِيبٍ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ بِالْإِذْنِ خَرَجَ
عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ وَفِي
الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ وَضَعَّفَ إذْنَ
السَّيِّدِ فِي ذَلِكَ.
(ش) : قَوْلُهُ أَدْرَكْت النَّاسَ يُحْتَمَلُ أَنْ
يُرِيدَ بِالْمَدِينَةِ لِأَنَّهَا دَارُهُ وَبِهَا
كَانَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمْ
وَأَشَارَ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ أَدْرَكْت النَّاسَ
يُعْطُونَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِالْمُدِّ
الْأَصْغَرِ يُرِيدُ مُدَّ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ أَصْغَرُ مِنْ
مُدِّ هِشَامٍ وَإِنَّمَا عِنْدَهُمْ بِالْحِجَازِ
مُدَّانِ مُدُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَصْغَرُهُمَا وَمُدُّ هِشَامٍ
وَهُوَ أَكْبَرُهُمَا وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا
فِي مِقْدَارِهِ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُدَّانِ
وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي الظِّهَارِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى وَالْإِطْعَامُ فِي كَفَّارَةِ
الْيَمِينِ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا فِي الْمَدِينَةِ
لِضِيقِ أَقْوَاتِ أَهْلِهَا وَاخْتَارَ أَشْهَبُ
بِمِصْرَ مُدًّا وَثُلُثًا وَاخْتَارَ
(3/256)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ أَحْسَنُ مَا سَمِعْت
فِي الَّذِي يُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ بِالْكِسْوَةِ
أَنَّهُ إنْ كَسَا الرِّجَالَ كَسَاهُمْ ثَوْبًا
ثَوْبًا وَإِنْ كَسَا النِّسَاءَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
ابْنُ وَهْبٍ مُدًّا وَنِصْفًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ
لَسَعَةِ الْأَقْوَاتِ بِهَا قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ
وَلَوْ أَخْرَجَ بِهَا مُدًّا أَجْزَأَهُ وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُطْعِمَهُمْ
أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مِنْ
الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ صَاعٌ وَإِنْ
غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ أَجْزَأَهُ وَالدَّلِيلُ
عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ
إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] وَمُحَالٌ
أَنْ يَكُونَ بِالْمَدِينَةِ مُدَّانِ وَسَطَ شِبَعِ
الْأَهْلِ لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
إنَّ الْمُدَّ رِطْلَانِ وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ
الْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ وَسَطِ طَعَامِ
الْعِيَالِ فَلَمْ يَلْزَمْ فِي الْكَفَّارَةِ أَصْلُ
ذَلِكَ مَا زَادَ عَلَى الْمُدَّيْنِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ وَإِنْ غَدَّى الْمَسَاكِينَ
وَعَشَّاهُمْ الْخُبْزَ وَالْإِدَامَ أَجْزَأَهُ قَالَ
ابْنُ حَبِيبٍ حَتَّى يَشْبَعُوا وَلَا يُغَدِّيهِمْ
الْخُبْزَ وَلَكِنْ بِإِدَامٍ مِنْ زَيْتٍ أَوْ لَبَنٍ
أَوْ قُطْنِيَّةٍ أَوْ لَحْمٍ أَوْ بَقْلٍ قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ أَعْلَاهُ اللَّحْمُ وَأَوْسَطُهُ اللَّبَنُ
وَأَدْنَاهُ الزَّيْتُ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَلَا
يُجْزِئُهُ أَنْ يُغَدِّيَ الصِّغَارَ وَيُعَشِّيَهُمْ
وَلَكِنْ إنْ أَعْطَاهُمْ فَلْيُعْطِهِمْ مَا يُعْطِي
الْكِبَارَ وَيُجْزِئُهُ أَنْ يُعْطِيَ الصَّغِيرَ
مِنْ الطَّعَامِ الْمَصْنُوعِ مِثْلَ مَا يَأْكُلُ
الْكَبِيرُ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ إذَا كَانَ
فَطِيمًا وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ
يَرْضِعُ لَمْ يَتَغَذَّ الطَّعَامَ الْمَصْنُوعَ
وَلَا يَتَأَتَّى بَيْعُهُ فِي الْأَغْلَبِ فَكَانَ
حُكْمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ حِنْطَةً يَتَأَتَّى
لَهُ بَيْعُهَا وَانْتِفَاعُهُ بِهَا فِي غَيْرِ
الْقُوتِ أَوْ ادِّخَارُهَا إلَى أَنْ تُضَافَ إلَى
مِثْلِهَا.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ أَعْطَوْا مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ نَصَّ
مِنْهُ عَلَى تَجْوِيزِ إخْرَاجِ الْحِنْطَةِ فِي
ذَلِكَ وَلَا خِلَافَ فِيهِ وَاَلَّذِي يُخْرِجُ فِي
ذَلِكَ مِنْ الطَّعَامِ مَا يَقْتَاتُهُ النَّاسُ
غَالِبًا وَلَا يَسْتَعْمِلُ غَالِبًا إلَّا عَلَى
وَجْهِ الْقُوتِ كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ وَالسَّلْتِ
وَالدَّخَنِ وَالْأُرْزِ وَالذُّرَةِ فَأَمَّا
الْقَمْحُ فَمَنْ أَخْرَجَهُ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ
أَفْضَلُ مَا يُتَقَوَّتُ وَأَمَّا الشَّعِيرُ فَإِنْ
كَانَ يَأْكُلُ الشَّعِيرَ وَقُوتُ النَّاسِ الْقَمْحُ
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِفَقْرٍ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ
قُوتُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ
لِبُخْلٍ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْحِنْطَةِ لَمْ
يُجْزِهِ إلَّا الْحِنْطَةُ حَكَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ
عَنْ أَصْبَغَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ بُخْلَهُ لَا
يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ
التَّقَوُّتِ بِالْحِنْطَةِ بِعَادَةِ الْبَلَدِ
وَحَالِهِ الَّتِي تَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ
الْمَوَّازِ يُخْرِجُ مِمَّا يَأْكُلُ وَمِمَّا
يُفْرَضُ عَلَى مِثْلِهِ وَإِذَا كَانَ يَأْكُلُ
الشَّعِيرَ فَلْيُطْعِمْ مِنْهُ وَلَا يُجْزِئُهُ
الذُّرَةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ أَكَلَهُ وَقَالَ
ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي الْفِطْرِ يُخْرِجُ مِنْ
جُلِّ عَيْشِ الْبَلَدِ فَإِنْ كَانُوا يُرِيدُونَ
بِذَلِكَ إذَا وَافَقَ قُوتُ الْمُخْرِجِ قُوتَ
الْبَلَدِ فَهُوَ وِفَاقٌ وَإِنْ أَرَادُوا وَإِنْ
خَالَفَ قُوتُ الْمُخْرِجِ قُوتَ الْبَلَدِ فَهُوَ
خِلَافٌ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا يُخْرِجُ شَعِيرًا فَقَدْ
قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ يُطْعِمُ مِنْهُ فِي
الْكَفَّارَةِ قَدْرَ مَبْلَغِ شِبَعِ الْقَمْحِ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ تَقَوَّتْ الْحِنْطَةَ وَأَهْلُ
الْبَلَدِ يَقْتَاتُونَ الشَّعِيرَ لَمْ يُجْزِهِ أَنْ
يُخْرِجَ الشَّعِيرَ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ
أَصْبَغَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَا يُخْرِجُ السَّوِيقَ فِي الْكَفَّارَةِ قَالَهُ
ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصَبْغَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ
قَدْ عَدَلَ بِهِ عَنْ وَجْهِ مَا يَتَقَوَّتُ
عَلَيْهِ غَالِبًا كَمَا لَوْ اتَّخَذَ مِنْهُ
الْعَصِيدَ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا الدَّقِيقُ فَإِنَّهُ يُجْزِي إذَا أَعْطَى
مِنْهُ قَدْرَ رِيعِهِ وَكَذَلِكَ الْخُبْزُ فِي
الْكَفَّارَاتِ الَّتِي يُطْعِمُ فِيهَا قَالَهُ ابْنُ
حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ
يُخْرِجْهُ عَنْ وَجْهِ الِاقْتِيَاتِ الْمُعْتَادِ
وَلَوْ أَطْعَمَ هَذَا الْمِقْدَارَ لَأَجْزَأَهُ
غَيْرَ أَنَّ ابْنَ حَبِيبٍ رَوَى عَنْ أَصْبَغَ لَا
يُجْزِئُهُ أَنْ يُطْعِمَهُمْ الْخُبْزَ قِفَارًا
وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ لَا يَسْتَوْعِبَ مِقْدَارَ
الْمُدِّ مِنْ الْخُبْزِ وَأَمَّا إذَا أَطْعَمَهُمْ
بِإِدَامٍ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُشْبِعَهُمْ
لِلْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ فَإِنْ اسْتَوْعَبُوا ذَلِكَ
وَإِلَّا فَقَدْ أَجْزَأَهُ مَا أَكَلُوا وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَا يُخْرِجُ التِّينَ وَلَا الْقُطْنِيَّةَ وَإِنْ
كَانَ عَيْشَ قَوْمٍ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ
لَيْسَ بِقُوتٍ عِنْدَهُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ
بِقُوتٍ مُعْتَادٍ وَلَا شَائِعٍ فِي الْبِلَادِ
وَقَدْ اسْتَوْعَبْت الْكَلَامَ فِي هَذَا فِي زَكَاةِ
الْفِطْرِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ وَلَمْ أَرَ
أَصْحَابَنَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا بَلْ ظَاهِرُ
مَسَائِلِهِمْ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
(3/257)
كَسَاهُنَّ ثَوْبَيْنِ ثَوْبَيْنِ دِرْعًا
وَخِمَارًا وَذَلِكَ أَدْنَى مَا يُجْزِئُ كُلًّا فِي
صَلَاتِهِ) .
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ
بِإِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ
مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ وَكَانَ يَعْتِقُ الْمِرَارَ إذَا
وَكَّدَ الْيَمِينَ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّ الْمُكَفِّرَ عَنْ
يَمِينِهِ إنْ اخْتَارَ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْكِسْوَةِ
فَإِنَّهُ إنَّمَا يُكَفِّرُ بِمَا يُصَلِّي فِيهِ
فَقَالَ فِي الرِّجَالِ ثَوْبًا ثَوْبًا وَذَلِكَ
يَكُونُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْقَمِيصُ الَّذِي يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ
وَالْجَسَدَ وَهَذَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَرْضِ لِبَاسِ
الصَّلَاةِ وَفَضْلِهِ وَإِنْ أَعْطَاهُ إزَارًا
فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ يُعْطِيهِ إنْ شَاءَ
قَمِيصًا وَإِنْ شَاءَ إزَارًا يُبَلِّغُهُ أَنْ
يَلْتَحِفَ بِهِ مُشْتَمِلًا وَهَذَا عَلَى مَعْنَى
الْقُمُصِ أَيْضًا وَأَمَّا الْإِزَارُ الَّذِي
يُمْكِنُ الِاشْتِمَالُ بِهِ وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ
يَتَّزِرَ بِهِ فَلَمْ أَرَ فِيهِ لِأَصْحَابِنَا
نَصًّا وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يُجْزِي
لِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ كِسْوَةٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَنَصُّ أَصْحَابِنَا عَلَى
أَنَّهُ يَكْسُوهَا قَمِيصًا وَخِمَارًا لِأَنَّهُ لَا
تُجْزِئُهَا الصَّلَاةُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ.
1 -
(فَرْعٌ) وَمِنْ النِّسَاءِ الطَّوِيلَةِ
وَالْقَصِيرَةِ فَيُجْزِي بَعْضَهُنَّ مِنْ الْقُمُصِ
فِي الصَّلَاةِ لِقِصَرِهَا مَا لَا يُجْزِي
بَعْضَهُنَّ لِطُولِهَا وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ
إنَّمَا يُعْطَى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَا
يَسْتُرُ عَوْرَتَهَا فِي صَلَاتِهَا.
1 -
(فَرْعٌ) وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ صَغِيرَةً
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ إنْ
كَسَا صِغَارَ الْإِنَاثِ فَلْيُعْطِهِنَّ دِرْعًا
وَخِمَارًا وَالْكَفَّارَةُ وَاحِدَةٌ لَا يُنْقَصُ
مِنْهَا لِصَغِيرٍ وَلَا يُزَادُ لِكَبِيرٍ رَوَى
ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ أَشْهَبَ أَنَّهُ تُعْطَى
الصَّبِيَّةُ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ الصَّلَاةَ
الدِّرْعَ دُونَ خِمَارٍ فَإِذَا بَلَغَتْ الصَّلَاةَ
أُعْطِيت الدِّرْعَ وَالْخِمَارَ وَقَالَ ابْنُ
حَبِيبٍ يُعْطَى صِغَارُ الْإِنَاثِ مَا يُعْطَى
الرِّجَالُ قَمِيصًا كَبِيرًا وَجْهُ الْقَوْلِ
الْأَوَّلِ أَنَّ هَذَا مَالٌ يَخْرُجُ فِي
الْكَفَّارَةِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَدْرُ فَوَجَبَ
أَنْ يَكُونَ مِقْدَارًا حَقُّ الصَّغِيرِ فِيهِ
كَحَقِّ الْكَبِيرِ أَصْلُ ذَلِكَ الْإِطْعَامُ
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْكِسْوَةَ
مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ مَنْ تُدْفَعُ إلَيْهِ
وَلِذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ
وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا فِي الْإِطْعَامِ وَقَدْ
يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَسَاكِينِ فِي الْإِطْعَامِ إذَا
غُدُّوا وَعُشُّوا فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
يَأْكُلُ شِبَعَهُ سَوَاءٌ زَادَ عَلَى الْمُدِّ أَوْ
نَقَصَ مِنْهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ كَسَا صَبِيًّا صَغِيرًا فَقَدْ قَالَ ابْنُ
حَبِيبٍ يُعْطَى كُلُّ صَغِيرٍ مِثْلُ كِسْوَةِ
الْكَبِيرِ وَقَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ
أَنَّهُ لَمْ يُعْجِبْهُ كِسْوَةُ الْأَصَاغِرِ
بِحَالٍ وَكَانَ يَقُولُ مَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ
بِالصَّلَاةِ فَلَهُ أَنْ يَكْسُوَهُ قَمِيصًا مِمَّا
يُجْزِيهِ فَعَلَى هَذَا يُعْطَى الصَّغِيرُ الَّذِي
بَلَغَ حَدَّ الْأَمْرِ الَّذِي بَلَغَ فِي الصَّلَاةِ
قَمِيصًا يُجْزِئُهُ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ دُونَ
قَمِيصِ الرَّجُلِ فَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ
ذَلِكَ حَدَّ أَقَلِّ مَا يُعْطَى مَنْ صَغَرَ مِمَّنْ
يُكْسَى عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ مِمَّنْ أُمِرَ
بِالصَّلَاةِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِذَا كَفَّرَ بِالْكِسْوَةِ أَوْ الْإِطْعَامِ
فَالْمُخْتَارُ أَنْ تَكُونَ الْكَفَّارَةُ كُلُّهَا
كِسْوَةً أَوْ إطْعَامًا فَإِنْ كَسَا خَمْسَةً
وَأَطْعَمَ خَمْسَةً فَاخْتَلَفَ قَوْلُ ابْنِ
الْقَاسِمِ فِيهِ فَقَالَ يُجْزِيهِ وَأَظُنُّهُ
قَوْلَ مَالِكٍ وَقَالَ لَا يُجْزِيهِ قَالَ أَشْهَبُ
وَيُضِيفُ إلَى مَا شَاءَ مِنْهَا تَمَامَ الْعَشَرَةِ
وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ جَمِيعَ مَا
أَخْرَجَهُ مَصْرُوفٌ إلَى الْمَسَاكِينِ فَإِذَا
كَانَ مِمَّا يُجْزِي الْكَفَّارَةُ مِنْهُ
بِانْفِرَادِهِ جَازَ أَنْ يَجْمَعَ إلَى مَا يُجْزِي
مِنْهُ أَصْلُهُ إذَا كَانَتْ طَعَامًا كُلَّهَا أَوْ
كِسْوَةً كُلَّهَا وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ
الْكَفَّارَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ جِنْسَيْنِ
كَالْكِسْوَةِ وَالْعِتْقِ.
(ش) : قَوْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ
كَانَ يُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ بِإِطْعَامِ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ وَهَذَا يَقْتَضِي اعْتِبَارَ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَكَانَ يَعْتِقُ الْمِرَارَ إذَا وَكَّدَ
الْيَمِينَ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَتَكَرَّرُ
وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ
وَالتَّكْفِيرِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «وَإِنِّي
وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى
يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا
كَفَّرْت عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْت الَّذِي هُوَ
خَيْرٌ» وَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ
«لَأَنْ يَلِجَ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ
آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ
(3/258)
جَامِعُ الْأَيْمَانِ (ص) : (مَالِكٌ عَنْ
نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - وَهُوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ وَهُوَ يَحْلِفُ
بِأَبِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ
تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ مَنْ كَانَ حَالِفًا
فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ
اللَّهُ عَلَيْهِ» .
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ تَكَرَّرَتْ الْأَيْمَانُ وَتَكَرَّرَ
الْحِنْثُ فِيمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتِقَ فِي
بَعْضِهَا وَيُطْعِمَ فِي بَعْضِهَا وَيَكْسُوَ فِي
بَعْضِهَا إلَّا أَنَّهُ يَكُونُ الْعِتْقُ عَنْ
كَفَّارَةٍ مُفْرَدَةٍ وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِنْ أَطْعَمَ فِي يَوْمٍ
وَاحِدٍ عَنْ كَفَّارَتَيْنِ فَأَطْعَمَ عِشْرِينَ
مِسْكِينًا عَنْ كَفَّارَتَيْنِ أَجْزَأَهُ مَا لَمْ
يَنْوِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مِسْكِينٍ أَعْطَاهُ عَنْ
كَفَّارَتَيْنِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ وَأَطْعَمَ
وَكَسَا وَعَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ أَجْزَأَهُ
مَا لَمْ يَنْوِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ عَنْ جَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ لِأَنَّهُ إذَا
لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ لَمْ تَنْصَرِفْ كَفَّارَةُ كُلِّ
وَاحِدَةٍ إلَّا إلَى يَمِينٍ وَلَا يَلْزَمُهُ
التَّعْيِينُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ كَفَّارَةٍ لِيَمِينٍ
مُعَيَّنَةٍ بَلْ يُجْزِئُهُ أَنْ يُكَفِّرَ وَاحِدَةً
مِنْ أَيْمَانِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ أَيْمَانٌ
حَنِثَ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهَا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ مُدًّا مُدًّا
عَنْ كَفَّارَةٍ ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ عَنْ
كَفَّارَةٍ أُخْرَى فَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ
فَقَالَ لَا يَفْعَلُ إلَّا بَعْدَ أَيَّامٍ وَقَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ إنْ أَطْعَمَهُمْ بَعْدَ أَيَّامٍ
أَجْزَأَهُ وَكَذَلِكَ إنْ كَسَاهُمْ بَعْدَ أَنْ
عَرَوَا مِنْ الْكِسْوَةِ الْأُولَى انْتَهَى.
[جَامِعُ الْأَيْمَانِ]
(ش) : قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا
بِآبَائِكُمْ» تَخْصِيصَانِ لِلنَّهْيِ بِالْحَلِفِ
بِالْآبَاءِ أَحَدُهُمَا لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ
الْعَرَبِ لَهُ فَقَصَدَ إلَى النَّهْيِ عَنْهُ
وَالثَّانِي أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَمِعَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عُمَرَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ مِمَّا لَا يَجُوزُ
فَقَصَدَهُ بِالنَّهْيِ ثُمَّ عَمَّ بَعْدَ ذَلِكَ
النَّهْيَ عَنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَقَصَرَ
الْحَلِفَ عَلَيْهِ تَعَالَى فَقَالَ «مَنْ كَانَ
حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ»
فَخَيَّرَ بَيْنَ الْحَلِفِ وَالصَّمْتِ وَذَلِكَ
يَتَضَمَّنُ الْمَنْعَ مِنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِ
اللَّهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُبَاحِ
الَّذِي هُوَ خَيَّرَ فِيهِ بَلْ مَا تَقَدَّمَهُ عَنْ
أَنْ يَحْلِفَ حَالِفٌ بِأَبِيهِ دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّهُ لَمْ يُبِحْ غَيْرَ مَا خَيَّرَ فِيهِ مِنْ
الْحَلِفِ بِاَللَّهِ خَاصَّةً فَمَنْ تَعَدَّاهُ
فَلَا يَتَعَدَّاهُ إلَّا إلَى الصَّمْتِ وَعَلَى
هَذَا جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْلِفَ بِالشَّمْسِ
وَلَا بِالْقَمَرِ وَلَا بِالنُّجُومِ وَلَا
بِالسَّمَاءِ وَلَا بِالْأَرْضِ وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ
الْمَخْلُوقَاتِ وَمَنْ حَلَفَ بِذَلِكَ فَقَدْ أَثِمَ
وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُ قَالَ لَأَنْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ فَآثَمُ
أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُظَاهِرَ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ
قَالَ لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ
إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا فَإِنْ
اعْتَرَضَ مُعْتَرِضٌ بِمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ فِي
الْقُرْآنِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْبُرُوجِ} [البروج: 1] {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}
[الطارق: 1] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1]
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] وَبِغَيْرِ
ذَلِكَ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ تَقْدِيرَ
ذَلِكَ وَرَبِّ الشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَرَبِّ
السَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَالثَّانِي أَنَّهُ تَعَالَى
يُخْتَصُّ بِذَلِكَ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا
شَاءَ لِأَنَّهُ مَعْبُودٌ.
وَقَدْ أَعْلَمَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ ذَلِكَ مَحْظُورٌ
عَلَيْنَا فَلَا يَجُوزُ لَنَا الْقَسَمُ بِشَيْءٍ
مِنْ ذَلِكَ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ حَلَفَ بِاَللَّاتِي وَالْعُزَّى أَوْ
بِالطَّوَاغِيتِ فَقَدْ أَثِمَ وَلَا كَفَّارَةَ
عَلَيْهِ إنْ حَنِثَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَالثَّوْرِيُّ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ
وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَا رَوَى حُمَيْدٍ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي
يَمِينِهِ بِاَللَّاتِي وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ
تَعَالَى أُقَامِرُك فَلْيَتَصَدَّقْ» وَمَا رَوَى
أَبُو قِلَابَةَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قَالَ «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلَّةٍ غَيْرِ
الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَمَا قَالَ» مَعْنَاهُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مُعْتَقِدًا لِذَلِكَ وَلِذَلِكَ
أَمَرَ مَنْ حَلَفَ بِاَللَّاتِي وَالْعُزَّى
وَأَظْهَرَ حَلِفًا ظَاهِرُهُ الْكُفْرُ أَنْ
يُعَاوِدَ بِالتَّهْلِيلِ وَلَفْظِ
(3/259)
(ص) : (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ «أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- كَانَ يَقُولُ لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ» ) .
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَفْصِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ خَلْدَةَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ
بَلَغَهُ «أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ
الْمُنْذِرِ حِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَهْجُرُ دَارَ قَوْمِي الَّتِي
أَصَبْت فِيهَا الذَّنْبَ وَأُجَاوِرُك وَأَنْخَلِعُ
مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يُجْزِئُكَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ» )
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
التَّوْحِيدِ الَّذِي يَنْفِي الْكُفْرَ وَالظَّاهِرُ
مِنْ هَذَا مُوجِبُ قَوْلِهِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ
لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لَقَرَنَ
الْأَمْرَ بِهَا بِالْأَمْرِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ.
(ش) : قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَلَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ عَلَى سَبِيلِ الْقَسَمِ
وَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ الْقَسَمَ
بِهِ وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى مَا
يَنْفَرِدُ بِهِ تَعَالَى مِنْ تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ
مِنْ الرِّضَا بِالشَّيْءِ إلَى الْكَرَاهِيَةِ وَمِنْ
الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ إلَى الْعَزْمِ عَلَى
التَّرْكِ وَفِي ذَلِكَ مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ
يَجُوزُ الْحَلِفُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ
وَأَوْصَافِهِ بِغَيْرِ اللَّهِ فَيَجُوزُ أَنْ
يَحْلِفَ الْحَالِفُ فَيَقُولُ لَا وَخَالِقِ
الْخَلْقِ وَبَاسِطِ الرِّزْقِ وَمُدَبِّرِ الْأُمُورِ
وَفَالِقِ الْإِصْبَاحِ وَجَاعِلِ اللَّيْلِ سَكَنًا
وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ.
(ش) : قَوْلُهُ «إنَّ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ
الْمُنْذِرِ قَالَ حِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ:
أَهْجُرُ دَارَ قَوْمِي الَّتِي أَصَبْت فِيهَا
الذَّنْبَ» عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي
الْإِقْلَاعِ عَنْ الذَّنْبِ وَتَرْكِ كُلِّ مَا كَانَ
سَبَبًا إلَيْهِ فَقَدْ يَكُونُ مَقَامُهُ بِبَلَدِهِ
أَوْ مَالُهُ بِهَا مِنْ مَالِ الْمَسَاكِينِ
وَالْمَالُ سَبَبُ ذَلِكَ الذَّنْبِ.
وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ بُعْدَهُ عَنْ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ لَمْ
يُجَاوِرْهُ فَيَعِظُهُ وَيَنْهَاهُ وَيُعَلِّمُهُ
وَلِذَلِكَ قَالَ وَأُجَاوِرُك.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ (وَأَنْخَلِعُ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ) يُرِيدُ التَّقَرُّبَ بِذَلِكَ
إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالشُّكْرَ لَهُ تَعَالَى
عَلَى تَوْبَتِهِ بَعْدَ تَوَرُّطِهِ فِي الذَّنْبِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ يُجْزِيك مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ ظَاهِرُهُ
أَنَّهُ قَدْ كَانَ الْتَزَمَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ
مَالِهِ وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ يُجْزِيك مِنْ ذَلِكَ
الثُّلُثُ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا
يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ فِيهِ
حُكْمٌ فَيُقَالُ لَهُ يُجْزِيك مِنْ ذَلِكَ كَذَا
وَلَوْ كَانَ أَمْرًا لَمْ يَلْزَمْهُ بَعْدُ لَقَالَ
تَصَدَّقَ بِثُلُثِ مَالِكِ وَأَمْسِكْ عَلَى نَفْسِك
الْبَاقِي لِيَكْفِيَك عَنْ الْحَاجَةِ إلَى النَّاسِ
كَمَا «قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قُلْت يَا
رَسُولَ اللَّهِ: أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ لَا
قُلْت بِالشَّطْرِ؟ قَالَ لَا قُلْت بِالثُّلُثِ؟
فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ» .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ حَلَفَ
بِصَدَقَةِ مَالِهِ فَحَنِثَ فَقَالَ مَالِكٌ
يُجْزِئُهُ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ يُخْرِجُ جَمِيعَهُ مِنْ الْعَيْنِ
وَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ دُونَ سَائِرِ أَمْوَالِهِ
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يُخْرِجُ جَمِيعَ
مَالِهِ وَإِنْ ثَبَتَ حَدِيثُ أَبِي لُبَابَةَ
فَإِنَّهُ يُتَأَوَّلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ
أَوْجَبَهُ بَعْدُ وَأَنَّ مَعْنَى يُجْزِئُكَ مِنْ
ذَلِكَ الثُّلُثُ أَنَّهُ يُجْزِئُكَ مِنْ غَايَةِ
النِّهَايَةِ فِيمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ إخْرَاجَ الْإِنْسَانِ جَمِيعَ
مَالِهِ ابْتِدَاءً وَيَبْقَى عَالَةً مَمْنُوعٌ
مِنْهُ، وَالْأَفْضَلُ لَهُ اسْتِبْقَاءُ أَكْثَرِهِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ
الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:
29] وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا
لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ
ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] وَهَذَا فِيمَا
يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ ابْتِدَاءً فَأَمَّا مَا قَدْ
الْتَزَمَهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ كَالطَّلَاقِ وَهُوَ
مَمْنُوعٌ مِنْ إيقَاعِ الثَّلَاثِ وَإِنَّمَا
أُبِيحَتْ لَهُ وَاحِدَةٌ فَإِنْ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ
لَزِمَتْهُ.
وَجْهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ حَدِيثُ أَبِي
لُبَابَةَ «يُجْزِئُكَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ»
وَظَاهِرُهُ مَا قُلْنَا وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى
أَنَّ اسْتِيعَابَ الْمَالِ بِالصَّدَقَةِ مَمْنُوعٌ
فَوَجَبَ أَنْ يُؤَثِّرَ هَذَا الْمَنْعُ فِي
الْعُدُولِ عَنْهُ وَأَنْ لَا يَبْطُلَ فِي
الْجُمْلَةِ لِأَنَّ النَّقْصَ لَا يَتَنَاوَلُ
الْبَعْضَ فَوَجَبَ رَدُّهُ إلَى الثُّلُثِ
كَالْوَصِيَّةِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إخْرَاجُ
جَمِيعِهِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ
سَوَاءٌ كَانَ مَالُهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَبِهِ
قَالَ الزُّهْرِيُّ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ إنْ كَانَ
غَنِيًّا لَزِمَهُ أَنْ يُخْرِجَ ثُلُثَ مَالِهِ
وَإِنْ كَانَ قَلِيلَ الْمَالِ يُجْحِفُ بِهِ إخْرَاجُ
ثُلُثِ مَالِهِ أَجْزَأَهُ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ
مَالِهِ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَكَفَّارَةُ يَمِينٍ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ
كَفَّارَةُ
(3/260)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
يَمِينٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا نَقُولُهُ
أَنَّ هَذَا الْتِزَامٌ لَا ذِكْرَ فِيهِ لِلْيَمِينِ
وَلَا يُصْرَفُ عَنْ ظَاهِرِهِ لِلْقُرْبَةِ فَلَمْ
تَجِبْ بِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا لَوْ نَذَرَ
صَوْمًا أَوْ صَلَاةً.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَذَا إذَا عَلَّقَ الصَّدَقَةَ عَلَى جَمِيعِ
مَالِهِ فَإِنْ عَلَّقَهَا عَلَى جُزْءٍ مِنْ جَمِيعِ
مَالِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ غُرْمَ جَمِيعِ ذَلِكَ
الْجُزْءِ مِنْ مَالِهِ كَقَوْلِهِ الرُّبُعُ أَوْ
النِّصْفُ أَوْ التِّسْعَةُ أَعْشَارٍ لَزِمَهُ
إخْرَاجُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ مِنْهُ
عَلَى الثُّلُثِ وَفِي النَّوَادِرِ رُوِيَ عَنْ ابْنِ
وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ يَقْتَصِرُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى
الثُّلُثِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ حَلِفَهُ
بِصَدَقَةِ مَالِهِ قَدْ تَنَاوَلَ لَفْظَ الْمَالِ
عَلَى وَجْهٍ عَامٍّ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ وَلَيْسَ
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الِاسْتِيعَابِ غَيْرَ مَا
يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ وَإِذَا عَلَّقَهُ بِجُزْءٍ
مِنْهُ فَقَدْ عَلَّقَهُ عَلَى جُزْءٍ مَخْصُوصٍ مِنْ
الْجُمْلَةِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ
الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ بِمَنْزِلَةِ التَّعَيُّنِ
وَالتَّعَيُّنُ أَقْوَى فِي تَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ
بِهِ مِنْ الْمُطْلَقِ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ
الثَّانِيَةِ أَنَّهُ إخْرَاجُ مَالٍ عَلَى وَجْهٍ
يُمْنَعُ مِنْ اسْتِيعَابِهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ
إبْعَاضِهِ فَوَجَبَ رَدُّهُ إلَى الثُّلُثِ
كَالْوَصِيَّةِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ جَمِيعُ
مَالِهِ فَالْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ
يَلْزَمُهُ إخْرَاجُ جَمِيعِهِ وَفِي النَّوَادِرِ
عَنْ ابْنِ نَافِعٍ يُجْزِئُهُ الثُّلُثُ وَجْهُ
الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ تَعْلِيقَ الْأَحْكَامِ
بِمُعَيَّنٍ يَقْتَضِي مِنْ اخْتِصَاصِهَا بِهِ مَا
لَا يَقْتَضِيهِ تَعْلِيقُهَا بِلَفْظٍ عَامٍّ أَلَا
تَرَى أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ لَقَدْ رَأَى بَنِي زَيْدٍ
كَانَ صَادِقًا إذَا رَأَى بَعْضَهُمْ وَلَوْ أَرَادَ
بِقَوْلِهِ ذَلِكَ التَّخْصِيصَ وَإِذَا قَالَ لَمْ
أَرَهُمْ وَأَرَادَ بِذَلِكَ جَمِيعَهُمْ كَانَ
صَادِقًا فَإِذَا رَأَى بَعْضَهُمْ وَأَرَادَ
الْجَمِيعَ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِجَمِيعِهِمْ فِي
تَعْلِيقِ الرُّؤْيَةِ بِجَمِيعِهِمْ وَنَفْيِهَا
عَنْهُمْ وَإِذَا عَيَّنَ زَيْدًا اخْتَصَّ هَذَا
الْحُكْمُ بِهِ اخْتِصَاصًا لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ
وَلَا يَحْتَمِلُ مِنْ التَّخْصِيصِ مَا احْتَمَلَهُ
عَدَمُ التَّغْيِيرِ فَلِذَلِكَ إذَا حَلَفَ
بِصَدَقَةِ مَالِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إخْرَاجُ جَمِيعِ
مَالِهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الْجَمِيعَ
وَيَحْتَمِلُ الْبَعْضَ وَإِنْ كَانَ فِي الْجَمِيعِ
أَظْهَرُ، وَإِذَا عَيَّنَ عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا
لَزِمَهُ إخْرَاجُ جَمِيعِهِ لِأَنَّ مَا عَلَّقَ
عَلَيْهِ الْحَلِفَ مُعَيَّنٌ لَا يَحْتَمِلُ
التَّخْصِيصَ فَلَزِمَهُ لِذَلِكَ إخْرَاجُ جَمِيعِهِ
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْحَلِفَ
بِصَدَقَةِ جَمِيعِ الْمَالِ يَقْتَضِي الرَّدَّ إلَى
الثُّلُثِ كَمَا لَوْ حَلَفَ بِجَمِيعِ مَالِهِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ عَدَدٍ مِنْ مَالِهِ مِثْلُ
أَنْ يَحْلِفَ بِصَدَقَةِ مِائَةِ دِينَارٍ مِنْ
مَالِهِ، لَزِمَهُ إخْرَاجُ جَمِيعِهَا وَإِنْ لَمْ
يَفِ بِهَا مَالُهُ بَقِيَ بَاقِي ذَلِكَ فِي
ذِمَّتِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ
عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ
هَذَا نَوْعٌ مِنْ التَّعْيِينِ وَيَجِبُ
اسْتِيعَابُهُ وَيَجِبُ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ
وَقَوْلُ ابْنِ نَافِعٍ أَنْ يُرَدَّ فِي ذَلِكَ
كُلِّهِ إلَى ثُلُثِ الْمَالِ مَا لَا يَلْزَمُهُ
سِوَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَالِهِ مَرَّةً بَعْدَ
مَرَّةٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا ثُلُثٌ وَاحِدٌ
رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ
وَهُوَ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ وَاخْتَلَفَ فِي
ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فَقَالَ يُخْرِجُ عَنْ
الْيَمِينِ الْأُولَى ثُلُثَ مَالِهِ ثُمَّ يُخْرِجُ
ثُلُثَ مَا بَقِيَ عَنْ الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ
وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ
أَنَّ الْيَمِينَ بِصَدَقَةِ الْمَالِ مَبْنِيَّةٌ
عَلَى الرَّدِّ إلَى الثُّلُثِ فَمَتَى تَكَرَّرَتْ
لَمْ يَقْضِ إلَّا ثُلُثًا وَاحِدًا، أَصْلُ ذَلِكَ
الْوَصِيَّةُ لِوَصِيٍّ بِثُلُثِ مَالِهِ أَوْ جَمِيعِ
مَالِهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ
غَيْرُ ثُلُثٍ وَاحِدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَوَجْهُ
الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ
مِنْهَا يَمِينُ صَدَقَةٍ بِمَالٍ فَكَانَ لَهَا
حُكْمُهَا كَمَا لَوْ حَلَفَ فِي شَيْءٍ
لَيَتَصَدَّقَنَّ عَلَى فُلَانٍ بِدِينَارٍ ثُمَّ
حَلَفَ فِي شَيْءٍ آخَرَ لَيَتَصَدَّقَنَّ عَلَى
فُلَانٍ بِدِرْهَمٍ لَثَبَتَ حُكْمُ الْيَمِينِ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا
ثُلُثٌ وَاحِدٌ فَقَدْ رَوَى يَحْيَى بْنُ يَحْيَى
عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ سَوَاءٌ كَانَتْ
أَيْمَانُهُ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَيْمَانٍ
مُخْتَلِفَةٍ فَحَنِثَ فِيهَا كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا
فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ حَنِثَ بَعْدَ حِنْثٍ
فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا ثُلُثٌ وَاحِدٌ إلَّا أَنْ
يُخْرِجَهُ ثُمَّ يَحْلِفَ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَنِثَ
فَإِنَّهُ يُخْرِجُ ثُلُثَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً
فَإِمَّا أَنْ يَحْنَثَ وَلَا يُخْرِجُ الثُّلُثَ
حَتَّى يَحْنَثَ مَرَّةً أُخْرَى فَلَيْسَ عَلَيْهِ
إلَّا ثُلُثٌ وَاحِدٌ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَالِهِ وَمَالُهُ عَلَى
مِقْدَارِهَا ثُمَّ حَنِثَ وَقَدْ زَادَ مَالُهُ أَوْ
نَقَصَ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الثُّلُثُ مِمَّا كَانَ
بِيَدِهِ يَوْمَ الْيَمِينِ دُونَ النَّمَاءِ قَالَهُ
مَالِكٌ سَوَاءٌ زَادَ مَالُهُ بِتِجَارَةٍ أَوْ
فَائِدَةٍ وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ إلَّا أَنْ يَزِيدَ
بِوِلَادَةٍ فَيُخْرِجُ ثُلُثَ الْأَوْلَادِ مَعَ
ثُلُثِ الْأُمَّهَاتِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ
أَنَّهُ إنَّمَا تَلْزَمُهُ الْيَمِينُ فِيمَا كَانَ
(3/261)
(ص) : مَالِكٌ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى
عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَجَبِيِّ
عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
- أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ رَجُلٍ
قَالَ مَالِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ فَقَالَتْ
عَائِشَةُ (يُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
يَمْلِكُهُ يَوْمَ الْيَمِينِ فَأَمَّا مَا مَلَكَهُ
بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ تَتَنَاوَلْهُ يَمِينُهُ،
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ هَذَا
مِلْكٌ يَتَعَلَّقُ بِالْأُمَّهَاتِ قَبْلَ
الْوِلَادَةِ إلَى حِينِ الْوِلَادَةِ فَيُعَلَّقُ
بِمَا تَلِدُهُ أَصْلُ ذَلِكَ تَمَلُّكُ الْحَالِفِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ نَقَصَ مَالُهُ بَعْدَ الْيَمِينِ لَمْ
يَلْزَمْهُ إلَّا ثُلُثُ مَا بَقِيَ بِيَدِهِ يَوْمَ
الْحِنْثِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا
فِي هَذَا وَهَذَا إذَا ذَهَبَ مَا ذَهَبَ مِنْهُ
بِأَمْرٍ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ قَالَ
ابْنُ الْمَوَّازِ يَلْزَمُهُ مَا تَلِفَ بِسَبَبِهِ
وَلَا يَلْزَمُهُ مَا تَلِفَ بِغَيْرِ سَبَبِهِ
وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ مَا
أَنْفَقَ مِنْهُ فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ وَإِنْ ذَهَبَ
بِغَيْرِ سَبَبِهِ لَمْ يَضْمَنْ وَلَا يَضُرُّ
التَّفْرِيطُ بَعْدَ الْحِنْثِ وَقَالَ سَحْنُونٌ
يَضْمَنُ بِالتَّفْرِيطِ بَعْدَ الْحِنْثِ وَجْهُ
قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ
التَّفْرِيطُ إذْ إخْرَاجُ الْكَفَّارَةِ لَيْسَ عَلَى
الْفَوْرِ فَتَأْخِيرُ إخْرَاجِهَا لَا يُوجِبُ
عَلَيْهِ الضَّمَانَ وَوَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ
يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهَا عَلَى الْفَوْرِ
وَلِأَنَّهُ جُزْءُ مَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ إخْرَاجَهَا
فَلَزِمَهُ بِالتَّفْرِيطِ كَالزَّكَاةِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا إذَا أَنْفَقَهُ بَعْدَ الْحِنْثِ فَقَدْ
قَالَ مَالِكٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا يَتْبَعُ
بِهِ دُنْيَا وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَضْمَنُ
كَزَكَاةٍ فَرَّطَ فِيهَا حَتَّى ذَهَبَ الْمَالُ
رَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْهَا وَجْهُ قَوْلِ
أَشْهَبَ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهَا وَإِنْ
أَنْفَقَهَا لِضَرُورَةٍ وَحَاجَةٍ إلَيْهَا لَمْ
يَأْثَمْ بِذَلِكَ كَمَا لَمْ يَأْثَمْ الَّذِي وَقَعَ
عَلَى أَهْلِهِ فِي رَمَضَانَ إذْ عَلِمَ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَاجَتِهِ
إلَيْهَا فَأَمَرَهُ أَنْ يُطْعِمَهَا أَهْلَهُ
وَنَحْنُ نَتَأَوَّلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ
بَاقِيَةٌ فِي ذِمَّتِهِ وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ
الْقَاسِمِ أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى يَجِبُ
عَلَيْهِ إخْرَاجُهُ فَإِنْ أَنْفَقَهُ وَجَبَ
عَلَيْهِ إخْرَاجُهُ أَصْلُ ذَلِكَ الزَّكَاةُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَذَا إذَا حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَا تَقَدَّمَ
مِلْكُهُ عَلَيْهِ وَأَمَّا إذَا حَلَفَ بِصَدَقَةِ
جَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَقَدْ
قَالَ مَالِكٌ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَإِنْ حَلَفَ
بِصَدَقَةِ مَا يَسْتَفِيدُهُ فِي مِصْرَ أَوْ
غَيْرِهَا لَزِمَهُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ.
(فَرْعٌ) وَمَنْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَالٍ فَحَنِثَ
وَلَهُ عَيْنٌ وَرَقِيقٌ وَحُبُوبٌ فَلْيُخْرِجْ
ثُلُثَ ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْعَيْنَ
خَاصَّةً قَالَ أَشْهَبُ وَيُخْرِجُ ثُلُثَ خِدْمَةِ
الْمُدَبَّرِ وَالْمُعْتَقِ إلَى أَجَلٍ وَقَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي مُدَبَّرِهِ وَلَا
مُعْتَقِهِ إلَى أَجَلٍ إلَّا أَنْ يُؤَاجِرَهُمْ
فَيُخْرِجُ ثُلُثَ الْأُجْرَةِ وَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ
أَنَّ خِدْمَتَهُمْ مَالٌ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا
أَجَّرَهُمْ أَخْرَجَ ثُلُثَ الْأُجْرَةِ فَلَزِمَهُ
ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُؤَاجِرْهُمْ وَوَجْهُ قَوْلِ
ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ
وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَالًا بِالْإِجَارَةِ فَهُوَ
شَيْءٌ يُسْتَفَادُ بَعْدَ الْيَمِينِ.
(فَرْعٌ) وَأَمَّا كِتَابَةُ مُكَاتَبِهِ فَقَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ يُخْرِجُ ثُلُثَ قِيمَةِ
الْكِتَابَةِ وَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُونَ نَظَرَ
إلَى قِيمَةِ رِقَابِهِمْ فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ
مِنْ قِيمَةِ الْكِتَابَةِ أَخْرَجَ الْفَضْلَ وَقَالَ
أَشْهَبُ يُخْرِجُ ثُلُثَ مَا يَأْخُذُ مِنْ
الْمُكَاتَبِينَ وَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ أَخْرَجَ
ثُلُثَهُ وَمَا يَرْجِعُ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ
لَمْ يَلْزَمْ وَرَثَتَهُ فِيهِ شَيْءٌ رَوَاهُ ابْنُ
الْمَوَّازِ كُلَّهُ عَنْهُمَا.
(ش) : قَوْلُهُ مَالِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ
الرِّتَاجُ الْبَابُ قَالَهُ مَالِكٌ وَالْحَطِيمُ مَا
بَيْنَ الْبَابِ إلَى الْمَقَامِ رَوَاهُ ابْنُ
الْقَاسِمِ عَنْ بَعْضِ الْحَجَبَةِ وَقَالَ ابْنُ
حَبِيبٍ الْحَطِيمُ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ
إلَى الْبَابِ إلَى الْمَقَامِ وَعَلَيْهِ يُحَطَّمُ
النَّاسُ فَمَنْ قَالَ مَالِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ
فَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ فِيهِ كَفَّارَةُ
يَمِينٍ فَأَخَذَ بِهِ مَالِكٌ ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنْ
لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ ابْنُ
حَبِيبٍ وَأَرَى أَنْ يُسْأَلَ فَإِنْ نَوَى أَنْ
يَكُونَ مَالُهُ لِلْكَعْبَةِ فَلْيَدْفَعْ ثُلُثَهُ
إلَى خَزَنَتِهَا يَصْرِفُ فِي مَصَالِحِهَا فَإِنْ
اسْتَغْنَى عَنْهُ بِمَا أَقَامَ السُّلْطَانُ لَهَا
مِنْ ذَلِكَ تَصَدَّقَ بِهِ وَإِنْ قَالَ لَمْ أَنْوِ
شَيْئًا بِذَلِكَ وَلَا أَعْرِفُ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ
تَأْوِيلًا فَكَفَّارَةُ يَمِينٍ أَحَبُّ إلَيَّ
وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي نَذْرٍ أَوْ يَمِينٍ
وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ
يَمِينُهُ خَارِجَةً عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَكَانَتْ
مُتَعَلِّقَةً بِمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ كَانَتْ
بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ الْمُبْهَمِ كَفَّارَتُهُ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ
الثَّانِيَةِ وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ فِي
الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّ هَذِهِ يَمِينٌ
مُفَسِّرَةٌ عَرِيَتْ عَنْ اسْمِ
(3/262)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَقُولُ
مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ يَحْنَثُ قَالَ
يَجْعَلُ ثُلُثَ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَذَلِكَ
الَّذِي جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَمْرِ أَبِي لُبَابَةَ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
اللَّهِ وَصِفَاتِهِ نُطْقًا وَنِيَّةً وَعُرْفًا
فَلَمْ يَجِبْ بِهَا كَفَّارَةٌ أَصْلُ ذَلِكَ إذَا
نَذَرَ الْقِيَامَ أَوْ الْقُعُودَ أَوْ الْإِنْفَاقَ
لِغَيْرِ وَجْهٍ وَاحْتَجَّ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ
بِأَنَّ الْكَعْبَةَ لَا تُنْقَضُ وَلَا يُنْقَضُ
الْبَابُ فَيُجْعَلُ مَالُ هَذَا فِيهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَكَذَا مَنْ قَالَ مَالِي فِي الْكَعْبَةِ أَوْ فِي
حَطِيمِ الْكَعْبَةِ وَأَمَّا إذَا قَالَ أَنَا
أَضْرِبُ بِمَالِي رِتَاجَ الْكَعْبَةِ أَوْ
الْكَعْبَةَ أَوْ الْحَطِيمَ أَوْ الرُّكْنَ
الْأَسْوَدَ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُرِدْ
حِمْلَانِ ذَلِكَ عَلَى عُنُقِهِ وَلَوْ أَرَادَ
حِمْلَانَهُ عَلَى عُنُقِهِ وَهُوَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ
الْعَادَةُ أَنْ لَا يَحْمِلَهُ إلَّا رَاجِلٌ
فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ
عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ.
(ش) : قَوْلُهُ فِي الَّذِي يَقُولُ مَالِي فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَيَحْنَثُ يَجْعَلُ ثُلُثَ مَالِهِ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الَّذِي
يَلْزَمُ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ مَا يُغْنِي عَنْ
الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ إخْرَاجِ
ذَلِكَ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ
يُجْبَرُ عَلَى إخْرَاجِهِ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ سَوَاءٌ جَعَلَ ذَلِكَ
لِمُعَيَّنٍ أَوْ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ وَقَالَ أَشْهَبُ
إنَّمَا يُجْبَرُ إذَا جَعَلَ ذَلِكَ لِرَجُلٍ
مُعَيَّنٍ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِلْمَسَاكِينِ لَمْ
يُجْبَرْ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ
حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى تَبَرَّعَ بِالْتِزَامِهِ
فَأُجْبِرَ عَلَى إخْرَاجِهِ كَمَا لَوْ كَانَ
لِمُعَيَّنٍ وَوَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ مَا احْتَجَّ
بِهِ بِأَنَّهُ حَقٌّ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَلَا
يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ الْمُطَالَبَةَ بِهِ وَتَلْزَمُهُ
عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَإِنَّهَا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ
وَيُجْبَرُ عَلَى إخْرَاجِهَا.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ هَذِهِ
اللَّفْظَةَ تَتَنَاوَلُ كُلَّ سَبِيلِ بِرٍّ فَإِنَّ
جَمِيعَ سُبُلِ الْبِرِّ سَبِيلُ اللَّهِ تَعَالَى
وَلَكِنْ جَرَى عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ لَهَا فِي
الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ وَالرِّبَاطِ فَإِذَا
أُطْلِقَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ حُمِلَتْ عَلَى ذَلِكَ
وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ قَالَ لِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ
هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ سُبُلُ اللَّهِ
كَثِيرَةٌ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْجِهَادِ
فَلْيُعْطِ فِي السَّوَاحِلِ وَالثُّغُورِ قِيلَ لَهُ
فَيُعْطِي فِي جُدَّةَ فَقَالَ لَا وَلَمْ يُرَ
جُدَّةَ مِثْلُ سَوَاحِلِ الرُّومِ وَالشَّامِ
وَمِصْرَ ذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي وَقْتِهِ
ثُغُورَ الْإِسْلَامِ قِيلَ لَهُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ
فِي جُدَّةَ خَوْفٌ فَقَالَ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ
مَرَّةً وَلَمْ يَكُنْ يَرَى جُدَّةَ مِنْ
السَّوَاحِلِ الَّتِي يُرَابِطُ فِيهَا يَعْنِي
أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَكَانٍ يُخَافُ لِمُسَالَمَةِ
مَنْ يُجَاوِرُهُمْ مِنْ الْعَدُوِّ وَإِمْسَاكِهِمْ
عَنْ غَزْوِهِمْ وَأَذَاهُمْ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ لِلَّهِ عَلِيَّ أَنْ
أَجْعَلَك فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلْيَجْعَلْهُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَبِيعَهُ وَيَدْفَعَ
ثَمَنَهُ إلَى مَنْ يَغْزُو مِنْ مَوْضِعِهِ إنْ
وَجَدَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَعَثَ بِثَمَنِهِ إلَى
الثُّغُورِ وَمَوَاضِعِ الْغَزْوِ وَوَجْهُ ذَلِكَ
أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِمَّا يُصْرَفُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَلِذَلِكَ بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ وَلَوْ
كَانَ عَبْدًا يُمْكِنُ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ فِي
هَذَا الْوَجْهِ لَكَانَ الْوَجْهُ أَنْ يَنْفُذَ بِهِ
وَلَا يَبِيعَهُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ كَانَ مَا نَذَرَهُ أَوْ حَلَفَ بِهِ فَرَسًا
أَوْ سِلَاحًا أَنْفَذَهُ بِعَيْنِهِ إنْ وَجَدَ مَنْ
يَقْبَلُهُ مِنْهُ وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ وَإِنْ
تَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِبُعْدِ الْمَكَانِ
وَعِظَمِ الْمُؤْنَةِ فِي نَقْلِهِ بَاعَهُ وَأَنْفَذَ
ثَمَنَهُ يَصْرِفُ فِي مِثْلِهِ مِنْ الْأَدَاةِ
وَالْكُرَاعِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ
مَا نَذَرَ يَصْلُحُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْوَجْهِ
الَّذِي نَذَرَهُ فِيهِ تَعَلَّقَ النَّذْرُ
بِعَيْنِهِ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فَإِنْ تَعَذَّرَ
الْمَوْضِعُ وَتَعَذَّرَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ لَزِمَ
بَيْعُهُ بِثَمَنٍ يُمْكِنُ إيصَالُهُ وَيَسْهُلُ
حَمْلُهُ فَإِذَا وَصَلَ حَمْلُهُ نُقِلَ إلَى صِفَةِ
الْأَصْلِ لَمَّا كَانَتْ صِفَةً يُمْكِنُ
اسْتِعْمَالُهَا فِي هَذَا الْوَجْهِ إنْ أَمْكَنَ
ذَلِكَ وَبَلَغَ الثَّمَنُ فَإِنْ قَصَرَ الثَّمَنُ
فَفِيمَا كَانَتْ مَنْفَعَتُهَا أَوْ مِنْ جِنْسِهَا
أَوْ مَا يَقْرَبُ مِنْهَا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ
سَيْفًا فَيَقْصُرُ ثَمَنُهُ عَنْ سَيْفٍ يُشْتَرَى
بِهِ هُنَاكَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ
رُمْحًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ فِي
الْحَرْبِ وَيَبْلُغُهُ ثَمَنُ مَا بِيَع بِهِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(3/263)
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ
حِبَّانَ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى
خِطْبَةِ أَخِيهِ» مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَخْطُبُ
أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» قَالَ مَالِكٌ
وَتَفْسِيرُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا نَرَى وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ لَا يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ
أَخِيهِ أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ
فَتَرْكَنُ إلَيْهِ وَيَتَّفِقَانِ عَلَى صَدَاقٍ
وَاحِدٍ مَعْلُومٍ وَقَدْ تَرَاضَيَا فَهِيَ
تَشْتَرِطُ عَلَيْهِ لِنَفْسِهَا فَتِلْكَ الَّتِي
نَهَى أَنْ يَخْطُبَهَا الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ
أَخِيهِ وَلَمْ يَعْنِ بِذَلِكَ إذَا خَطَبَ الرَّجُلُ
الْمَرْأَةَ وَلَمْ يُوَافِقْهَا أَمْرُهُ وَلَمْ
تَرْكَنْ إلَيْهِ أَنْ لَا يَخْطُبَهَا أَحَدٌ فَهَذَا
بَابُ فَسَادٍ يَدْخُلُ عَلَى النَّاسِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
|