جامع العلوم
والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، ت: الأرنؤوط [الْحَدِيثُ السَّابِعُ الدِّينُ
النَّصِيحَةُ]
(1/214)
الْحَدِيثُ السَّابِعُ عَنْ تَمِيمٍ
الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدِّينُ
النَّصِيحَةُ ثَلَاثًا قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ
وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» رَوَاهُ
مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ
سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ
اللَّيْثِيِّ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَقَدْ رُوِيَ
عَنْ سُهَيْلٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ، فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ صَحَّحَهُ مِنَ
الطَّرِيقَيْنِ جَمِيعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ
الصَّحِيحَ حَدِيثُ تَمِيمٍ، وَالْإِسْنَادُ الْآخَرُ
وَهْمٌ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ
عُمَرَ، وَثَوْبَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِمْ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ عَنْ أَبِي
دَاوُدَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ
الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا الْفِقْهُ.
(1/215)
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ: هَذَا
الْحَدِيثُ لَهُ شَأْنٌ، ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ
الطُّوسِيُّ أَنَّهُ أَحَدُ أَرْبَاعِ الدِّينِ.
وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ
الْيَمَانِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ لَا يَهْتَمُّ بِأَمْرِ
الْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُمْسِ
وَيُصْبِحُ نَاصِحًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ
وَلِإِمَامِهِ، وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ
مِنْهُمْ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَحَبُّ
مَا تَعَبَّدَنِي بِهِ عَبْدِي النُّصْحُ لِي» . وَقَدْ
وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ النُّصْحُ
لِلْمُسْلِمِينَ عُمُومًا، وَفِي بَعْضِهَا النُّصْحُ
لِوُلَاةِ أُمُورِهِمْ، وَفِي بَعْضِهَا: نُصْحُ وُلَاةِ
الْأُمُورِ لِرَعَايَاهُمْ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ - وَهُوَ
النُّصْحُ لِلْمُسْلِمِينَ - عُمُومًا، فَفِي "
الصَّحِيحَيْنِ " «عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ
الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» . وَفِي "
صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«حَقُّ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ سِتٌّ فَذَكَرَ
مِنْهَا: وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ» .
وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي "
الْمُسْنَدِ " عَنْ حَكِيمِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِذَا
(1/216)
اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ،
فَلْيَنْصَحْ لَهُ» . وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ
النُّصْحُ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ، وَنُصْحُهُمْ
لِرَعَايَاهُمْ، فَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا:
يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا
وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ
اللَّهُ أَمْرَكُمْ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَغَيْرِهِ
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فِي خُطْبَتِهِ
بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى «ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ
قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ،
وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ
الْمُسْلِمِينَ» وَقَدْ رَوَى هَذِهِ الْخُطْبَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ
مِنْهُمْ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظٍ آخَرَ خَرَجَّهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ فِي " الْأَفْرَادِ " بِإِسْنَادٍ
جَيِّدٍ، وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ
عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ:
(1/217)
النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ
وَلِكِتَابِهِ وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ» . وَفِي "
الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا
مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً ثُمَّ لَمَّ
يَحُطُّهَا بِنَصِيحَةٍ إِلَّا لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ»
. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَنِ
الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنَّهُمْ نَصَحُوا
لِأُمَمِهِمْ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ عَنْ نُوحٍ،
وَعَنْ صَالِحٍ وَقَالَ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا
عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا
يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}
[التوبة: 91] (التَّوْبَةِ: 91) يَعْنِي: أَنَّ مَنْ
تَخَلَّفَ عَنِ الْجِهَادِ لِعُذْرٍ، فَلَا حَرَجَ
عَلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ نَاصِحًا لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ فِي تَخَلُّفِهِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ
كَانُوا يُظْهِرُونَ الْأَعْذَارَ كَاذِبِينَ،
وَيَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ نُصْحٍ
لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ،
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّصِيحَةَ تَشْمَلُ
خِصَالَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ
الَّتِي ذُكِرَتْ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ، وَسَمَّى ذَلِكَ
كُلَّهُ دِينًا، فَإِنَّ النُّصْحَ لِلَّهِ يَقْتَضِي
الْقِيَامَ بِأَدَاءِ وَاجِبَاتِهِ عَلَى أَكْمَلِ
وُجُوهِهَا، وَهُوَ مَقَامُ الْإِحْسَانِ، فَلَا يَكْمُلُ
النُّصْحُ لِلَّهِ بِدُونِ ذَلِكَ، وَلَا يَتَأَتَّى
ذَلِكَ بِدُونِ كَمَالِ الْمَحَبَّةِ الْوَاجِبَةِ
وَالْمُسْتَحَبَّةِ، وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ
فِي التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِنَوَافِلِ الطَّاعَاتِ عَلَى
هَذَا الْوَجْهِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ
وَالْمَكْرُوهَاتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا. وَفِي
مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ
لِأَحَدِكُمْ عَبْدَانِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُطِيعُهُ
إِذَا أَمَرَهُ، وَيُؤَدِّي إِلَيْهِ إِذَا ائْتَمَنَهُ،
وَيَنْصَحُ لَهُ إِذَا غَابَ عَنْهُ، وَكَانَ الْآخَرُ
يَعْصِيهِ إِذَا أَمَرَهُ، وَيَخُونُهُ إِذَا ائْتَمَنَهُ،
وَيَغُشُّهُ إِذَا غَابَ عَنْهُ كَانَا سَوَاءً؟ قَالُوا:
لَا، قَالَ: فَكَذَاكُمْ أَنْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ» خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا.
(1/218)
وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مَعْنَاهُ
مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ
الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: الْحُبُّ أَفْضَلُ مِنَ
الْخَوْفِ، أَلَا تَرَى إِذَا كَانَ لَكَ عَبْدَانِ
أَحَدُهُمَا يُحِبُّكَ، وَالْآخَرُ يَخَافُكَ، فَالَّذِي
يُحِبُّكَ مِنْهُمَا يَنْصَحُكَ شَاهِدًا كُنْتَ أَوْ
غَائِبًا لِحُبِّهِ إِيَّاكَ، وَالَّذِي يَخَافُكَ عَسَى
أَنْ يَنْصَحَكَ إِذَا شَهِدْتَ لِمَا يَخَافُ وَيَغُشُّكَ
إِذَا غِبْتَ وَلَا يَنْصَحُكَ. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ
بْنُ رُفَيْعٍ: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ: مَا الْخَالِصُ مِنَ الْعَمَلِ؟ قَالَ: مَا
لَا تُحِبُّ أَنْ يَحْمَدَكَ النَّاسُ عَلَيْهِ، قَالُوا:
فَمَا النُّصْحُ لِلَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَبْدَأَ بِحَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ حَقِّ النَّاسِ، وَإِنْ عَرَضَ
لَكَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا لِلَّهِ، وَالْآخَرُ
لِلدُّنْيَا، بَدَأْتَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ
الْخَطَّابِيُّ: النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ يُعَبَّرُ بِهَا
عَنْ جُمْلَةٍ هِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ
لَهُ، قَالَ: وَأَصْلُ النُّصْحِ فِي اللُّغَةِ
الْخُلُوصُ، يُقَالُ: نَصَحْتُ الْعَسَلَ: إِذَا
خَلَّصْتُهُ مِنَ الشَّمْعِ. فَمَعْنَى النَّصِيحَةِ
لِلَّهِ سُبْحَانَهُ: صِحَّةُ الِاعْتِقَادِ فِي
وَحْدَانِيَّتِهِ، وَإِخْلَاصُ النِّيَّةِ
(1/219)
فِي عِبَادَتِهِ، وَالنَّصِيحَةُ
لِكِتَابِهِ: الْإِيمَانُ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَا فِيهِ،
وَالنَّصِيحَةُ لِرَسُولِهِ: التَّصْدِيقُ بِنُبُوَّتِهِ،
وَبَذْلُ الطَّاعَةِ لَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ، وَنَهَى
عَنْهُ، وَالنَّصِيحَةُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ:
إِرْشَادُهُمْ إِلَى مَصَالِحِهِمْ. انْتَهِي. وَقَدْ
حَكَى الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِهِ " تَعْظِيمِ قَدْرِ
الصَّلَاةِ " عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ
فَسَّرَ هَذَا الْحَدِيثَ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَى
حُسْنِهِ، وَنَحْنُ نَحْكِيهِ هَاهُنَا بِلَفْظِهِ. قَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ:
جِمَاعُ تَفْسِيرِ النَّصِيحَةِ هُوَ عِنَايَةُ الْقَلْبِ
لِلْمَنْصُوحِ لَهُ مَنْ كَانَ، وَهِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا فَرْضٌ، وَالْآخَرُ نَافِلَةٌ، فَالنَّصِيحَةُ
الْمُفْتَرِضَةُ لِلَّهِ: هِيَ شِدَّةُ الْعِنَايَةِ مِنَ
النَّاصِحِ بِاتِّبَاعِ مَحَبَّةِ اللَّهِ فِي أَدَاءِ مَا
افْتَرَضَ، وَمُجَانَبَةِ مَا حَرَّمَ. وَأَمَّا
النَّصِيحَةُ الَّتِي هِيَ نَافِلَةٌ، فَهِيَ إِيثَارُ
مَحَبَّتِهِ عَلَى مَحَبَّةِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ أَنْ
يَعْرِضَ أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ، وَالْآخَرُ
لِرَبِّهِ، فَيَبْدَأُ بِمَا كَانَ لِرَبِّهِ، وَيُؤَخِّرُ
مَا كَانَ لِنَفْسِهِ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ تَفْسِيرِ
النَّصِيحَةِ لِلَّهِ، الْفَرْضُ مِنْهُ وَالنَّافِلَةُ،
وَلِذَلِكَ تَفْسِيرٌ، وَسَنَذْكُرُ بَعْضَهُ لِيَفْهَمَ
بِالتَّفْسِيرِ مَنْ لَا يَفْهَمُ بِالْجُمْلَةِ.
فَالْفَرْضُ مِنْهَا مُجَانَبَةُ نَهْيِهِ، وَإِقَامَةُ
فَرْضِهِ بِجَمِيعِ جَوَارِحِهِ مَا كَانَ مُطِيقًا لَهُ،
فَإِنْ عَجَرَ عَنِ الْإِقَامَةِ بِفَرْضِهِ لِآفَةٍ
حَلَّتْ بِهِ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ حَبْسٍ، أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ، عَزَمَ عَلَى أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ
مَتَى زَالَتْ عَنْهُ الْعِلَّةُ الْمَانِعَةُ لَهُ، قَالَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا
عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا
يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]
(التَّوْبَةِ: 91) ، فَسَمَّاهُمْ مُحْسِنِينَ
لِنَصِيحَتِهِمْ لِلَّهِ بِقُلُوبِهِمْ لِمَا مَنَعُوا
مِنَ الْجِهَادِ بِأَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ تُرْفَعُ
الْأَعْمَالُ كُلُّهَا عَنِ الْعَبْدِ فِي بَعْضِ
الْحَالَاتِ، وَلَا يُرْفَعُ عَنْهُ النُّصْحُ لِلَّهِ،
فَلَوْ كَانَ مِنَ الْمَرَضِ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُهُ
عَمَلٌ بِشَيْءٍ مِنْ جَوَارِحِهِ بِلِسَانٍ وَلَا
(1/220)
غَيْرِهِ، غَيْرَ أَنَّ عَقْلَهُ ثَابِتٌ،
لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ النُّصْحُ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ وَهُوَ
أَنْ يَنْدَمَ عَلَى ذُنُوبِهِ، وَيَنْوِيَ إِنْ صَحَّ
أَنْ يَقُومَ بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ،
وَيَجْتَنِبَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ، وَإِلَّا كَانَ غَيْرَ
نَاصِحٍ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ. وَكَذَلِكَ النُّصْحُ لِلَّهِ
وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا
أَوْجَبَهُ عَلَى النَّاسِ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، وَمِنَ
النُّصْحِ الْوَاجِبِ لِلَّهِ أَنْ لَا يَرْضَى
بِمَعْصِيَةِ الْعَاصِي، وَيُحِبَّ طَاعَةَ مَنْ أَطَاعَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَأَمَّا النَّصِيحَةُ الَّتِي هِيَ
نَافِلَةٌ لَا فَرْضٌ، فَبَذْلُ الْمَجْهُودِ بِإِيثَارِ
اللَّهِ عَلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ بِالْقَلْبِ وَسَائِرِ
الْجَوَارِحِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي النَّاصِحِ فَضْلٌ
عَنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ النَّاصِحَ إِذَا اجْتَهَدَ، لَمْ
يُؤْثِرْ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، وَقَامَ بِكُلِّ مَا كَانَ
فِي الْقِيَامِ بِهِ سُرُورُهُ وَمَحَبَّتُهُ، فَكَذَلِكَ
النَّاصِحُ لِرَبِّهِ، وَمَنْ تَنَفَّلَ لِلَّهِ بِدُونِ
الِاجْتِهَادِ، فَهُوَ نَاصِحٌ عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِ،
غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلنُّصْحِ بِكَمَالِهِ.
وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَشِدَّةُ
حُبِّهِ وَتَعْظِيمُ قَدْرِهِ، إِذْ هُوَ كَلَامُ
الْخَالِقِ، وَشِدَّةُ الرَّغْبَةِ فِي فَهْمِهِ،
وَشِدَّةُ الْعِنَايَةِ لِتَدَبُّرِهِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ
تِلَاوَتِهِ لِطَلَبِ مَعَانِي مَا أَحَبَّ مَوْلَاهُ أَنْ
يُفْهِمَهُ عَنْهُ، أَوْ يَقُومَ بِهِ لَهُ بَعْدَ مَا
يُفْهِمُهُ، وَكَذَلِكَ النَّاصِحُ مِنَ الْعِبَادِ
يَفْهَمُ وَصِيَّةَ مَنْ يَنْصَحُهُ، وَإِنْ وَرَدَ
عَلَيْهِ كِتَابٌ مِنْهُ، عُنِيَ بِفَهْمِهِ لِيَقُومَ
عَلَيْهِ بِمَا كَتَبَ بِهِ فِيهِ إِلَيْهِ، فَكَذَلِكَ
النَّاصِحُ لِكِتَابِ رَبِّهِ، يُعْنَى بِفَهْمِهِ
لِيَقُومَ لِلَّهِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ كَمَا يُحِبُّ
وَيَرْضَى، ثُمَّ يَنْشُرُ مَا فَهِمَ فِي الْعِبَادِ
وَيُدِيمُ دِرَاسَتَهُ بِالْمَحَبَّةِ لَهُ،
وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِ، وَالتَّأَدُّبِ بِآدَابِهِ.
وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ، فَبَذْلُ الْمَجْهُودِ
فِي طَاعَتِهِ وَنُصْرَتِهِ وَمُعَاوَنَتِهِ، وَبَذْلُ
الْمَالِ إِذَا أَرَادَهُ وَالْمُسَارَعَةُ إِلَى
مَحَبَّتِهِ، وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ: فَالْعِنَايَةُ
بِطَلَبِ سُنَّتِهِ، وَالْبَحْثُ عَنْ أَخْلَاقِهِ
وَآدَابِهِ، وَتَعْظِيمُ أَمْرِهِ، وَلُزُومُ الْقِيَامِ
بِهِ، وَشِدَّةُ الْغَضَبِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّنْ
تَدَيَّنَ بِخِلَافِ سُنَّتِهِ، وَالْغَضَبُ عَلَى مَنْ
ضَيَّعَهَا لِأَثَرَةِ
(1/221)
دُنْيَا، وَإِنْ كَانَ مُتَدَيِّنًا بِهَا،
وَحُبُّ مَنْ كَانَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ مِنْ قَرَابَةٍ، أَوْ
صِهْرٍ، أَوْ هِجْرَةٍ أَوْ نُصْرَةٍ، أَوْ صُحْبَةِ
سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ عَلَى الْإِسْلَامِ
وَالتَّشَبُّهِ بِهِ فِي زِيِّهِ وَلِبَاسِهِ. وَأَمَّا
النَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَحُبُّ
صَلَاحِهِمْ وَرُشْدِهِمْ وَعَدْلِهِمْ، وَحُبُّ
اجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِمْ، وَكَرَاهَةُ افْتِرَاقِ
الْأُمَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّدَيُّنُ بِطَاعَتِهِمْ فِي
طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْبُغْضُ لِمَنْ رَأَى
الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ، وَحُبُّ إِعْزَازِهِمْ فِي طَاعَةِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا النَّصِيحَةُ
لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ
لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهَ لَهُمْ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ،
وَيُشْفِقَ عَلَيْهِمْ، وَيَرْحَمَ صَغِيرَهُمْ،
وَيُوَقِّرَ كَبِيرَهُمْ، وَيَحْزَنَ لِحُزْنِهِمْ،
وَيَفْرَحَ لِفَرَحِهِمْ، وَإِنْ ضَرَّهُ ذَلِكَ فِي
دُنْيَاهُ كَرُخْصِ أَسْعَارِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي
ذَلِكَ فَوَاتُ رِبْحِ مَا يَبِيعُ مِنْ تِجَارَتِهِ،
وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا يَضُرُّهُمْ عَامَّةً، وَيُحِبُّ
صَلَاحَهُمْ وَإِلْفَتَهُمْ وَدَوَامَ النِّعَمِ
عَلَيْهِمْ، وَنَصْرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَدَفْعَ
كُلِّ أَذًى وَمَكْرُوهٍ عَنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو
بْنُ الصَّلَاحِ: النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ
تَتَضَمَّنُ قِيَامَ النَّاصِحِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ
بِوُجُوهِ الْخَيْرِ إِرَادَةً وَفِعْلًا. فَالنَّصِيحَةُ
لِلَّهِ تَعَالَى: تَوْحِيدُهُ وَوَصْفُهُ بِصِفَاتِ
الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَتَنْزِيهُهُ عَمَّا
يُضَادُّهَا وَيُخَالِفُهَا، وَتَجَنُّبُ مَعَاصِيهِ،
وَالْقِيَامُ بِطَاعَتِهِ وَمَحَابِّهِ بِوَصْفِ
الْإِخْلَاصِ، وَالْحُبُّ فِيهِ وَالْبُغْضُ فِيهِ،
وَجِهَادُ مَنْ كَفَرَ بِهِ تَعَالَى وَمَا ضَاهَى ذَلِكَ،
وَالدُّعَاءُ إِلَى ذَلِكَ، وَالْحَثُّ عَلَيْهِ.
وَالنَّصِيحَةُ لِكِتَابِهِ: الْإِيمَانُ بِهِ
وَتَعْظِيمُهُ وَتَنْزِيهُهُ، وَتِلَاوَتُهُ حَقَّ
تِلَاوَتِهِ،
(1/222)
وَالْوُقُوفُ مَعَ أَوَامِرِهِ
وَنَوَاهِيهِ، وَتَفَهُّمُ عُلُومِهِ وَأَمْثَالِهِ،
وَتَدَبُّرُ آيَاتِهِ، وَالدُّعَاءُ إِلَيْهِ، وَذَبِّ
تَحْرِيفِ الْغَالِينَ وَطَعْنِ الْمُلْحِدِينَ عَنْهُ.
وَالنَّصِيحَةُ لِرَسُولِهِ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ:
الْإِيمَانُ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَتَوْقِيرُهُ
وَتَبْجِيلُهُ، وَالتَّمَسُّكُ بِطَاعَتِهِ، وَإِحْيَاءُ
سُنَّتِهِ وَاسْتِثَارَةُ عُلُومِهَا وَنَشْرُهَا
وَمُعَادَاةُ مَنْ عَادَاهُ وَعَادَاهَا، وَمُوَالَاةُ
مَنْ وَالَاهُ وَوَالَاهَا، وَالتَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِهِ،
وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِهِ، وَمَحَبَّةُ آلِهِ
وَصَحَابَتِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالنَّصِيحَةُ
لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ: مُعَاوَنَتُهُمْ عَلَى
الْحَقِّ، وَطَاعَتُهُمْ فِيهِ، وَتَذْكِيرُهُمْ بِهِ،
وَتَنْبِيهُهُمْ فِي رِفْقٍ وَلُطْفٍ، وَمُجَانَبَةُ
الْوُثُوبِ عَلَيْهِمْ، وَالدُّعَاءُ لَهُمْ
بِالتَّوْفِيقِ وَحَثُّ الْأَغْيَارِ عَلَى ذَلِكَ.
وَالنَّصِيحَةُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ: إِرْشَادُهُمْ
إِلَى مَصَالِحِهِمْ، وَتَعْلِيمُهُمْ أُمُورَ دِينِهِمْ
وَدُنْيَاهُمْ، وَسِتْرُ عَوْرَاتِهِمْ، وَسَدُّ
خَلَّاتِهِمْ، وَنُصْرَتُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ،
وَالذَّبُّ عَنْهُمْ، وَمُجَانَبَةُ الْغِشِّ، وَالْحَسَدُ
لَهُمْ، وَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ،
وَيَكْرَهَ لَهُمْ مَا يَكْرَهُهُ لِنَفْسِهِ، وَمَا
شَابَهَ ذَلِكَ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ. وَمِنْ أَنْوَاعِ
نُصْحِهِمْ بِدَفْعِ الْأَذَى وَالْمَكْرُوهِ عَنْهُمْ
إِيثَارُ فَقِيرِهِمْ وَتَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ، وَرَدُّ
مَنْ زَاغَ مِنْهُمْ عَنِ الْحَقِّ فِي قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ
بِالتَّلَطُّفِ فِي رَدِّهِمْ إِلَى الْحَقِّ، وَالرِّفْقُ
بِهِمْ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ
الْمُنْكَرِ مَحَبَّةً لِإِزَالَةِ فَسَادِهِمْ وَلَوْ
بِحُصُولِ ضَرَرٍ لَهُ فِي دُنْيَاهُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ
السَّلَفِ: وَدِدْتُ أَنَّ هَذَا الْخَلْقَ أَطَاعُوا
اللَّهَ وَإِنَّ لَحْمِي قُرِضَ بِالْمَقَارِيضِ، وَكَانَ
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي
عَمِلْتُ فِيكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَعَمِلْتُمْ بِهِ،
فَكُلَّمَا عَمِلْتُ فِيكُمْ بِسُنَّةٍ، وَقَعَ مِنِّي
عُضْوٌ حَتَّى يَكُونَ آخَرَ شَيْءٍ مِنْهَا خُرُوجُ
نَفْسِي. وَمِنْ أَنْوَاعِ النُّصْحِ لِلَّهِ تَعَالَى
وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ - وَهُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ
الْعُلَمَاءُ - رَدُّ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ
بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبَيَانُ دَلَالَتِهِمَا
عَلَى مَا يُخَالِفُ الْأَهْوَاءَ كُلَّهَا
(1/223)
وَكَذَلِكَ رَدُّ الْأَقْوَالِ
الضَّعِيفَةِ مِنْ زَلَّاتِ الْعُلَمَاءِ، وَبَيَانُ
دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى رَدِّهَا، وَمِنْ
ذَلِكَ بَيَانُ مَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ
بِتَبْيِينِ حَالِ رُوَاتِهِ وَمَنْ تُقْبَلُ رِوَايَاتُهُ
مِنْهُمْ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ، وَبَيَانُ غَلَطِ مَنْ
غَلَطَ مِنْ ثِقَاتِهِمُ الَّذِينَ تُقْبَلُ
رِوَايَتُهُمْ. وَمِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ النُّصْحِ أَنْ
يَنْصَحَ لِمَنِ اسْتَشَارَهُ فِي أَمْرِهِ، كَمَا قَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اسْتَنْصَحَ
أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيَنْصَحْ لَهُ» وَفِي بَعْضِ
الْأَحَادِيثِ: «إِنَّ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى
الْمُسْلِمِ أَنْ يَنْصَحَ لَهُ إِذَا غَابَ» وَمَعْنَى
ذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ فِي غَيْبِهِ بِالسُّوءِ
أَنْ يَنْصُرَهُ، وَيَرُدَّ عَنْهُ، وَإِذَا رَأَى مَنْ
يُرِيدُ أَذَاهُ فِي غَيْبِهِ، كَفَّهُ عَنْ ذَلِكَ،
فَإِنَّ النُّصْحَ فِي الْغَيْبِ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ
النُّصْحِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ النُّصْحُ فِي
حُضُورِهِ تَمَلُّقًا، وَيَغُشُّهُ فِي غَيْبِهِ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: إِنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ حَقَّ نَصِيحَتِكَ
لِأَخِيكَ حَتَّى تَأْمُرَهُ بِمَا تَعْجِزُ عَنْهُ. قَالَ
الْحَسَنُ: وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
إِنْ شِئْتُمْ لَأُقْسِمَنَّ لَكُمْ بِاللَّهِ إِنَّ
أَحَبَّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ الَّذِينَ
يُحَبِّبُونَ اللَّهَ إِلَى عِبَادِهِ وَيُحَبِّبُونَ
عِبَادَ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ
بِالنَّصِيحَةِ. وَقَالَ فَرْقَدٌ السَّبْخِيُّ، قَرَأْتُ
فِي بَعْضِ الْكُتُبِ: الْمُحِبُّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
أَمِيرٌ مُؤَمَّرٌ عَلَى الْأُمَرَاءِ، زُمْرَتُهُ أَوَّلُ
الزُّمَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَجْلِسُهُ أَقْرَبُ
الْمَجَالِسِ فِيمَا هُنَاكَ وَالْمَحَبَّةُ فِيمَا
هُنَاكَ وَالْمَحَبَّةُ مُنْتَهَى الْقُرْبَةِ
وَالِاجْتِهَادِ، وَلَنْ يَسْأَمَ الْمُحِبُّونَ مِنْ
طُولِ اجْتِهَادِهِمْ
(1/224)
لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يُحِبُّونَهُ
وَيُحِبُّونَ ذِكْرَهُ، وَيُحَبِّبُونَ إِلَى خَلْقِهِ،
يَمْشُونَ بَيْنَ عِبَادِهِ بِالنَّصَائِحِ، وَيَخَافُونَ
عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ يَوْمَ تَبْدُو
الْفَضَائِحُ، أُولَئِكَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ
وَأَحِبَّاؤُهُ وَأَهْلُ صَفْوَتِهِ، أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَا رَاحَةَ لَهُمْ دُونَ لِقَائِهِ. وَقَالَ ابْنُ
عُلَيَّةَ فِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الْمُزَنِيِّ: مَا
فَاقَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَصْحَابَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِصَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ، وَلَكِنْ بِشَيْءٍ كَانَ فِي
قَلْبِهِ، قَالَ: الَّذِي كَانَ فِي قَلْبِهِ الْحُبُّ
لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالنَّصِيحَةُ فِي خَلْقِهِ.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: مَا أَدْرَكَ عِنْدَنَا
مَنْ أَدْرَكَ بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ،
وَإِنَّمَا أَدْرَكَ عِنْدَنَا بِسَخَاءِ الْأَنْفُسِ،
وَسَلَامَةِ الصُّدُورِ، وَالنُّصْحِ لِلْأُمَّةِ.
وَسُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: أَيُّ الْأَعْمَالِ
أَفْضَلُ؟ قَالَ: النُّصْحُ لِلَّهِ. وَقَالَ مَعْمَرٌ:
كَانَ يُقَالُ: أَنْصَحُ النَّاسِ لَكَ مَنْ خَافَ اللَّهَ
فِيكَ. وَكَانَ السَّلَفُ إِذَا أَرَادُوا نَصِيحَةَ
أَحَدٍ، وَعَظُوهُ سِرًّا حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ
وَعَظَ أَخَاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَهِيَ
نَصِيحَةٌ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ
فَإِنَّمَا وَبَّخَهُ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ: الْمُؤْمِنُ
يَسْتُرُ وَيَنْصَحُ، وَالْفَاجِرُ يَهْتِكُ وَيُعَيِّرُ.
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ: كَانَ
مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ إِذَا رَأَى الرَّجُلُ مِنْ أَخِيهِ
شَيْئًا يَأْمُرُهُ فِي رِفْقٍ، فَيُؤْجَرُ فِي أَمْرِهِ
وَنَهْيِهِ، وَإِنَّ أَحَدَ هَؤُلَاءِ يَخْرِقُ
بِصَاحِبِهِ فَيَسْتَغْضِبُ أَخَاهُ وَيَهْتِكُ سِتْرَهُ.
وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ
أَمْرِ السُّلْطَانِ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيِهِ عَنِ
الْمُنْكَرِ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ فَاعِلًا وَلَابُدَّ،
فَفِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ
نُصْحُ الذِّمِّيِّ، وَعَلَيْهِ نُصْحُ الْمُسْلِمِ،
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«وَالنُّصْحُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَأَنْ يَنْصَحَ
لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» .
(1/225)
|