سبل السلام

[بَابُ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَبَيَانِهَا]
[عَنْ " أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْخَمْرِ أَيْ بَعْدَ تَحْرِيمِهَا تُتَّخَذُ خَلًّا، فَقَالَ: لَا» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ
، فَسَّرَ الِاتِّخَاذَ بِالْعِلَاجِ لَهَا، وَقَدْ صَارَتْ خَمْرًا، وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي طَلْحَةَ، فَإِنَّهَا «لَمَّا حُرِّمَتْ الْخَمْرُ سَأَلَ أَبُو طَلْحَةَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ خَمْرٍ عِنْدَهُ لِأَيْتَامٍ هَلْ يُخَلِّلُهَا؟ فَأَمَرَهُ بِإِرَاقَتِهَا» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ.
وَالْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ هُوَ رَأْيُ الْهَادَوِيَّةِ وَالشَّافِعِيِّ، لِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ، فَلَوْ خَلَّلَهَا لَمْ تَحِلَّ، وَلَمْ تَطْهُرْ، وَظَاهِرُهُ بِأَيِّ عِلَاجٍ كَانَ، وَلَوْ بِنَقْلِهَا مِنْ الظِّلِّ إلَى الشَّمْسِ أَوْ عَكْسُهُ؛ وَقِيلَ: تَطْهُرُ وَتَحِلُّ.
وَأَمَّا إذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا مِنْ دُونِ عِلَاجٍ فَإِنَّهَا طَاهِرَةٌ حَلَالٌ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ إنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِنَا يَقُولُونَ إنَّهَا لَا تَطْهُرُ وَإِنْ تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ عِلَاجٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي خَلِّ الْخَمْرِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ:
(الْأَوَّلُ) : أَنَّهَا إذَا تَخَلَّلَتْ الْخَمْرُ بِغَيْرِ قَصْدٍ حَلَّ خَلُّهَا، وَإِذَا خُلِّلَتْ بِالْقَصْدِ حَرُمَ خَلُّهَا.
(الثَّانِي) : يَحْرُمُ كُلُّ خَلٍّ تَوَلَّدَ عَنْ خَمْرٍ مُطْلَقًا.
(الثَّالِثُ) : أَنَّ الْخَلَّ حَلَالٌ مَعَ تَوَلُّدِهِ مِنْ الْخَمْرِ سَوَاءٌ قُصِدَ أَمْ لَا، إلَّا أَنَّ فَاعِلَهَا آثِمٌ إنْ تَرَكَهَا بَعْدَ أَنْ صَارَتْ خَمْرًا، عَاصٍ لِلَّهِ، مَجْرُوحُ الْعَدَالَةِ، لِعَدَمِ إرَاقَتِهِ لَهَا حَالَ خَمْرِيَّتِهَا، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ كَمَا دَلَّ لَهُ حَدِيثُ أَبِي طَلْحَةَ. لَكِنْ قَالَ فِي الشَّرْحِ: يَحِلُّ الْخَلُّ الْكَائِنُ عَنْ الْخَمْرَةِ فَإِنَّهُ خَلٌّ

(1/47)


(23) - وَعَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا طَلْحَةَ، فَنَادَى إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
لُغَةً وَشَرْعًا. وَقِيلَ: وَجُعِلَ التَّخَلُّلُ أَيْضًا مِنْ دُونِ تَخَمُّرٍ فِي صُوَرٍ.
مِنْهَا: إذَا صَبَّ فِي إنَاءٍ مُعَتَّقٍ بِالْخَلِّ عَصِيرَ عِنَبٍ، فَإِنَّهُ يَتَخَلَّلُ وَلَا يَصِيرُ خَمْرًا.
وَمِنْهَا: إذَا جُرِّدَتْ حَبَّاتُ الْعِنَبِ مِنْ عَنَاقِيدِهَا، وَخُتِمَ رَأْسُ الْإِنَاءِ بِطِينٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يَتَخَلَّلُ وَلَا يَصِيرُ خَمْرًا.
وَمِنْهَا: إذَا عُصِرَ أَصْلُ الْعِنَبِ، ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَخَلَّلَ مِثْلَاهُ خَلًّا صَادِقًا، فَإِنَّهُ يَتَخَلَّلُ، وَلَا يَصِيرُ خَمْرًا أَصْلًا.

[النَّهْي عَنْ أَكُلّ لحوم الحمر الْأَهْلِيَّة]
[وَعَنْهُ] أَيْ عَنْ " أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا طَلْحَةَ فَنَادَى: إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ» بِتَثْنِيَةِ الضَّمِيرِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْخَطِيبِ الَّذِي قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا» الْحَدِيثَ «بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ» لِجَمْعِهِ بَيْنَ ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَضَمِيرِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «وَقَالَ: قُلْ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فَالْوَاقِعُ هُنَا يُعَارِضُهُ. وَقَدْ وَقَعَ أَيْضًا فِي كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّثْنِيَةُ بِلَفْظِ «أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا» وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى الْخَطِيبَ؛ لِأَنَّ مَقَامَ الْخَطَابَةِ يَقْتَضِي الْبَسْطَ وَالْإِيضَاحَ، فَأَرْشَدَهُ إلَى أَنَّهُ يَأْتِي بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ لَا بِالضَّمِيرِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْعَتْبُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ جَمْعُهُ بَيْنَ ضَمِيرِهِ تَعَالَى وَضَمِيرِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالثَّانِي: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الضَّمِيرَيْنِ؛ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ، لِعِلْمِهِ بِجَلَالِ رَبِّهِ وَعَظَمَةِ اللَّهِ. [عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ] كَمَا يَأْتِي [فَإِنَّهَا رِجْسٌ] [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] .
وَحَدِيثُ " أَنَسٍ " فِي الْبُخَارِيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أَكَلْت الْحُمُرَ، ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أَكَلْت الْحُمُرَ، ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أَفْنَيْت الْحُمُرَ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي: إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ، فَأُكْفِئَتْ الْقُدُورُ وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِالْحُمُرِ» .
وَالنَّهْيُ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ ثَابِتٌ فِي حَدِيثِ " عَلِيٍّ " - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ أَبِي أَوْفَى وَالْبَرَاءِ، وَأَبِي ثَعْلَبَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وَالْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَكُلِّهَا ثَابِتَةٌ فِي دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ ذُكِرَ مَنْ أَخْرَجَهَا فِي الشَّرْحِ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ. وَتَحْرِيمُهَا هُوَ قَوْلُ

(1/48)


(24) - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَطَبَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِنًى، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَلُعَابُهَا يَسِيلُ عَلَى كَتِفِي» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
الْجَمَاهِيرِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى عَدَمِ تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ. وَفِي " الْبُخَارِيِّ " عَنْهُ: لَا أَدْرِي أَنَهَى عَنْهَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا كَانَتْ حَمُولَةَ النَّاسِ أَوْ حُرِّمَتْ؟
وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّهْيِ التَّحْرِيمُ، وَإِنْ جَهِلْنَا عِلَّتَهُ.
وَاسْتَدَلَّ " ابْنُ عَبَّاسٍ " بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الْآيَةَ. فَإِنَّهُ تَلَاهَا جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ تَحْرِيمِهَا، وَلِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد «إنَّهُ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَالِبُ بْنُ أَبْحَرَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصَابَتْنَا سَنَةٌ وَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي مَا أُطْعِمُ أَهْلِي إلَّا سِمَانُ حُمُرٍ، وَإِنَّك حَرَّمْت لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَقَالَ: أَطْعِمْ أَهْلَكَ مِنْ سَمِينِ حُمُرِك فَإِنَّمَا حَرَّمْتهَا مِنْ أَجْلِ جَوَّالِ الْقَرْيَةِ» يُرِيدُ الَّتِي تَأْكُلُ الْجِلَّةَ وَهِيَ الْعَذِرَةُ
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْآيَةَ خَصَّصَتْ عُمُومَهَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَبِأَنَّ حَدِيثَ " أَبِي دَاوُد " مُضْطَرِبٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَإِنْ صَحَّ حَمْلُهُ عَلَى الْأَكْلِ مِنْهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: [أَصَابَتْنَا سَنَةٌ] أَيْ شِدَّةٌ وَحَاجَةٌ.
وَذِكْرُ الْمُصَنِّفِ لِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي بَابِ النَّجَاسَاتِ وَتَعْدَادُهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ مَنْ لَازَمَهُ التَّنْجِيسُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَفِيهِ خِلَافٌ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ وَأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يُلَازِمُ النَّجَاسَةَ، فَإِنَّ الْحَشِيشَةَ مُحَرَّمَةٌ طَاهِرَةٌ، وَكَذَا الْمُخَدَّرَاتُ وَالسُّمُومُ الْقَاتِلَةُ، لَا دَلِيلَ عَلَى نَجَاسَتِهَا؛ وَأَمَّا النَّجَاسَةُ فَيُلَازِمُهَا التَّحْرِيمُ، فَكُلُّ نَجِسٍ مُحَرَّمٌ وَلَا عَكْسَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي النَّجَاسَةِ هُوَ الْمَنْعُ عَنْ مُلَابَسَتِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَالْحُكْمُ بِنَجَاسَةِ الْعَيْنِ حُكْمٌ بِتَحْرِيمِهَا بِخِلَافِ الْحُكْمِ بِالتَّحْرِيمِ، فَإِنَّهُ يُحَرَّمُ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَهُمَا طَاهِرَانِ ضَرُورَةً شَرْعِيَّةً وَإِجْمَاعًا، فَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَتَحْرِيمُ الْحُمُرِ وَالْخَمْرِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَجَاسَتُهُمَا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ عَلَيْهِ وَإِلَّا بَقِيَتَا عَلَى الْأَصْلِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ الطَّهَارَةِ، فَمَنْ ادَّعَى خِلَافَهُ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَلِذَا نَقُولُ: لَا حَاجَةَ إلَى إتْيَانِ الْمُصَنِّفِ بِحَدِيثِ " عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ " الْآتِي قَرِيبًا مُسْتَدِلًّا بِهِ عَلَى طَهَارَةِ الرَّاحِلَةِ؛ وَأَمَّا الْمَيْتَةُ فَلَوْلَا أَنَّهُ وَرَدَ «دِبَاغُ الْأَدِيمِ طُهُورُهُ» «وَأَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» لَقُلْنَا بِطَهَارَتِهَا، إذْ الْوَارِدُ فِي الْقُرْآنِ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا، لَكِنْ حَكَمْنَا بِالنَّجَاسَةِ لَمَّا قَامَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ غَيْرُ دَلِيلِ تَحْرِيمِهَا.

(1/49)


/ (25) - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْسِلُ الْمَنِيَّ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ. وَأَنَا أَنْظُرُ إلَى أَثَرِ الْغَسْلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: «لَقَدْ كُنْت أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرْكًا فَيُصَلِّي فِيهِ» . وَفِي لَفْظٍ لَهُ: «لَقَدْ كُنْت أَحُكُّهُ يَابِسًا بِظُفْرِي مِنْ ثَوْبِهِ» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
[طَهَارَة لعاب مَا يُؤْكَل لحمه]
وَعَنْ " عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ " وَهُوَ صَحَابِيٌّ أَنْصَارِيٌّ عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الشَّامِ، وَكَانَ حَلِيفًا لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَهُوَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ " عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ " أَنَّهُ سَمِعَ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِنًى وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ» بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهِيَ مِنْ الْإِبِلِ الصَّالِحَةُ لَأَنْ تَرْحَلَ [وَلُعَابُهَا بِضَمِّ اللَّامِ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَبَعْدَ الْأَلْفِ مُوَحَّدَةٌ هُوَ: مَا سَالَ مِنْ الْفَمِ [يَسِيلُ عَلَى كَتِفِي] [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ] .
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لُعَابَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ، قِيلَ: وَهُوَ إجْمَاعٌ، وَهُوَ أَيْضًا الْأَصْلُ، فَذِكْرُ الْحَدِيثِ بَيَانٌ لِلْأَصْلِ، ثُمَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ سَيَلَانَ اللُّعَابِ عَلَيْهِ، لِيَكُونَ تَقْرِيرًا.

[تَحْقِيق الْقَوْل فِي طَهَارَة المني وَنَجَاسَته]
[وَعَنْ " عَائِشَةَ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - هِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ " عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ "، أُمُّهَا " أُمُّ رُومَانَ ابْنَةُ عَامِرٍ "، خَطَبَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ، وَتَزَوَّجَهَا فِي شَوَّالٍ سَنَةَ عَشْرَ مِنْ النُّبُوَّةِ، وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وَعَرَّسَ بِهَا، أَيْ دَخَلَ بِهَا فِي الْمَدِينَةِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْكِبَرِ، وَمَاتَ عَنْهَا وَلَهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا، «وَاسْتَأْذَنَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكُنْيَةِ، فَقَالَ لَهَا: تَكَنِّي بِابْنِ أُخْتِك عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ» . وَكَانَتْ فَقِيهَةً، عَالِمَةً فَصِيحَةً، فَاضِلَةً، كَثِيرَةَ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عَارِفَةً بِأَيَّامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا، رَوَى عَنْهَا جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، نَزَلَتْ بَرَاءَتُهَا مِنْ السَّمَاءِ فِي عَشْرِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ النُّورِ، تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِهَا، وَدُفِنَ فِيهِ، وَمَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ وَصَلَّى عَلَيْهَا " أَبُو هُرَيْرَةَ " وَكَانَ خَلِيفَةَ " مَرْوَانَ " فِي الْمَدِينَةِ. قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْسِلُ الْمَنِيَّ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ وَأَنَا أَنْظُرُ إلَى أَثَرِ الْغَسْلِ فِيهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ " عَائِشَةَ "

(1/50)


/
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَنَّهَا كَانَتْ تَغْسِلُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِي بَعْضِهَا: [وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِي ثَوْبِهِ بُقَعُ الْمَاءِ] وَفِي لَفْظٍ: «فَيَخْرُجُ إلَى الصَّلَاةِ وَإِنَّ بُقَعَ الْمَاءِ فِي ثَوْبِهِ» وَفِي لَفْظٍ: [وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِيهِ بُقَعُ الْمَاءِ] وَفِي لَفْظٍ: [ثُمَّ أَرَاهُ فِيهِ بُقْعَةً أَوْ بُقَعًا] إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَالَ الْبَزَّارُ: إنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ هَذَا مَدَارُهُ عَلَى " سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ "، وَلَمْ يَسْمَعْ عَنْ " عَائِشَةَ "، وَسَبَقَهُ إلَى هَذَا الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ حِكَايَةً عَنْ غَيْرِهِ وَرَدَّ مَا قَالَهُ الْبَزَّارُ بِأَنَّ تَصْحِيحَ الْبُخَارِيِّ لَهُ، وَمُوَافَقَةَ مُسْلِمٍ لَهُ عَلَى تَصْحِيحِهِ مُفِيدٌ لِصِحَّةِ سَمَاعِ " سُلَيْمَانَ " مِنْ " عَائِشَةَ "، وَأَنَّ رَفْعَهُ صَحِيحٌ: وَبِهَذَا الْحَدِيثِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِنَجَاسَةِ الْمَنِيِّ، وَهُمْ الْهَادَوِيَّةُ، وَالْحَنَفِيَّةُ، وَمَالِكٌ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ قَالُوا: لِأَنَّ الْغَسْلَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ نَجَسٍ، وَقِيَاسًا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ فَضَلَاتِ الْبَدَنِ الْمُسْتَقْذَرَةِ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، لِانْصِبَابِ جَمِيعِهَا إلَى مَقَرٍّ، وَانْحِلَالِهَا عَنْ الْغِذَاءِ، وَلِأَنَّ الْأَحْدَاثَ الْمُوجِبَةَ لِلطَّهَارَةِ نَجِسَةٌ، وَالْمَنِيُّ مِنْهَا، وَلِأَنَّهُ يَجْرِي مِنْ مَجْرَى الْبَوْلِ فَتَعَيَّنَ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ كَغَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ، وَتَأَوَّلُوا مَا يَأْتِي مِمَّا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: [وَلِمُسْلِمٍ] أَيْ عَنْ " عَائِشَةَ "، رِوَايَةٌ انْفَرَدَ بِلَفْظِهَا عَنْ الْبُخَارِيِّ وَهِيَ قَوْلُهَا: «لَقَدْ كُنْت أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرْكًا» مَصْدَرٌ تَأْكِيدِيٌّ، يُقَرِّرُ: أَنَّهَا كَانَتْ تَفْرُكُهُ وَتَحُكُّهُ، وَالْفَرْكُ: الدَّلْكُ. يُقَالُ فَرَكَ الثَّوْبَ: إذَا دَلَّكَهُ. [فَيُصَلِّي فِيهِ] وَفِي لَفْظٍ لَهُ أَيْ لِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ: [لَقَدْ كُنْت أَحُكُّهُ] أَيْ الْمَنِيَّ حَالَ كَوْنِهِ [يَابِسًا بِظُفْرِي مِنْ ثَوْبِهِ] اخْتَصَّ مُسْلِمٌ بِإِخْرَاجِ رِوَايَةِ الْفَرْكِ وَلَمْ يُخَرِّجْهَا الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ رَوَى الْحَتَّ وَالْفَرْكَ أَيْضًا الْبَيْهَقِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَلَفْظُ الْبَيْهَقِيّ: «رُبَّمَا حَتَّتْهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي» وَهُوَ لَفْظُ ابْنِ حِبَّانَ: «لَقَدْ رَأَيْتنِي أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثُ " ابْنِ عَبَّاسٍ " عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ إخْرَاجِهِ: وَرَوَاهُ وَكِيعٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، مَوْقُوفًا عَلَى " ابْنِ عَبَّاسٍ " وَهُوَ الصَّحِيحُ [اهـ] : «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ فَقَالَ: إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْبُزَاقِ، وَقَالَ: إنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَمْسَحَهُ بِخِرْقَةٍ أَوْ إذْخِرَةٍ»
فَالْقَائِلُونَ بِنَجَاسَةِ الْمَنِيِّ تَأَوَّلُوا أَحَادِيثَ الْفَرْكِ هَذِهِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْفَرْكُ مَعَ غَسْلِهِ بِالْمَاءِ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ: الْمَنِيُّ طَاهِرٌ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى طَهَارَتِهِ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ قَالُوا: وَأَحَادِيثُ غَسْلِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى النَّدْبِ، وَلَيْسَ الْغَسْلُ دَلِيلُ النَّجَاسَةِ، فَقَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ النَّظَافَةِ وَإِزَالَةِ الدَّرَنِ وَنَحْوِهِ؛ قَالُوا: وَتَشْبِيهُهُ بِالْبُزَاقِ وَالْمُخَاطِ دَلِيلُ طَهَارَتِهِ أَيْضًا، وَالْأَمْرُ بِمَسْحِهِ بِخِرْقَةٍ أَوْ إذْخِرَةٍ، لِأَجْلِ إزَالَةِ الدَّرَنِ الْمُسْتَكْرَهِ بَقَاؤُهُ فِي ثَوْبِ الْمُصَلِّي، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا أَجْزَأَ مَسْحُهُ؛ وَأَمَّا التَّشْبِيهُ لِلْمَنِيِّ بِالْفَضَلَاتِ الْمُسْتَقْذَرَةِ مِنْ

(1/51)


(26) - وَعَنْ أَبِي السَّمْحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ، وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَ بِنَجَاسَتِهِ، فَلَا قِيَاسَ مَعَ النَّصِّ.
قَالَ الْأَوَّلُونَ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي فَرْكِهِ وَحَتِّهِ إنَّمَا هِيَ فِي مَنِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفَضَلَاتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَاهِرَةٌ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ " عَائِشَةَ " أَخْبَرَتْ عَنْ فَرْكِ الْمَنِيِّ مِنْ ثَوْبِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَنْ جِمَاعٍ وَقَدْ خَالَطَهُ مَنِيُّ الْمَرْأَةِ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّهُ مَنِيُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ، وَالِاحْتِلَامُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ وَلَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ؛ وَلِأَنَّهُ قِيلَ: إنَّهُ مَنِيُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ وَأَنَّهُ مِنْ فَيْضِ الشَّهْوَةِ بَعْدَ تَقَدُّمِ أَسْبَابِ خُرُوجِهِ مِنْ مُلَاعَبَةٍ وَنَحْوِهَا وَأَنَّهُ لَمْ يُخَالِطْهُ غَيْرُهُ، فَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَلَا دَلِيلَ مَعَ الِاحْتِمَالِ.
وَذَهَبَتْ الْحَنَفِيَّةُ إلَى نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ كَغَيْرِهِمْ، وَلَكِنْ قَالُوا: يُطَهِّرُهُ الْغُسْلُ أَوْ الْفَرْكُ أَوْ الْإِزَالَةُ بِالْإِذْخِرِ أَوْ الْخِرْقَةِ عَمَلًا بِالْحَدِيثَيْنِ؛ وَبَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ الْقَائِلِينَ بِالنَّجَاسَةِ وَالْقَائِلِينَ بِالطَّهَارَةِ مُجَادَلَاتٌ وَمُنَاظَرَاتٌ وَاسْتِدْلَالَاتٌ طَوِيلَةٌ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي حَوَاشِي (شَرْحِ الْعُمْدَةِ) .

[الرَّشّ مِنْ بَوْل الْغُلَام وَالْغُسْل مِنْ بَوْل الصَّبِيّ]
[وَعَنْ " أَبِي السَّمْحِ " بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ فَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَاسْمُهُ " إيَادٌ " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ مُخَفَّفَةٍ، بَعْدَ الْأَلِفِ دَالٌ مُهْمَلَةٌ، وَهُوَ خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ» فِي الْقَامُوسِ: أَنَّ الْجَارِيَةَ فَتِيَّةُ النِّسَاءِ «وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَأَخْرَجَ الْحَدِيثَ أَيْضًا الْبَزَّارُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، مِنْ حَدِيثِ " أَبِي السَّمْحِ " قَالَ: «كُنْت أَخْدُمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُتِيَ بِحَسَنٍ أَوْ حُسَيْنٍ فَبَالَ عَلَى صَدْرِهِ، فَجِئْت أَغْسِلُهُ فَقَالَ: يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ» الْحَدِيثَ. وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، مِنْ حَدِيثِ " لُبَابَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ " قَالَتْ: [كَانَ " الْحُسَيْنُ "] وَذَكَرَتْ الْحَدِيثَ وَفِي لَفْظٍ: «يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْأُنْثَى وَيُنْضَحُ مِنْ بَوْلِ الذَّكَرِ» . وَرَوَاهُ الْمَذْكُورُونَ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ " عَلِيٍّ " - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَوْلِ الرَّضِيعِ: يُنْضَحُ بَوْلُ الْغُلَامِ وَيُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ» قَالَ قَتَادَةُ رَاوِيهِ: «هَذَا مَا لَمْ يَطْعَمَا فَإِذَا طَعِمَا غُسِلَا» . وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ

(1/52)


(27) - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ - فِي دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
مَرْفُوعَةٌ وَمَوْقُوفَةٌ، وَهِيَ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: إذَا ضُمَّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ قَوِيَتْ.
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ بَوْلِ الْغُلَامِ وَبَوْلِ الْجَارِيَةِ فِي الْحُكْمِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَا الطَّعَامَ، كَمَا قَيَّدَهُ بِهِ الرَّاوِي، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا أَيْ بِالتَّقْيِيدِ بِالطَّعْمِ لَهُمَا، وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ وَالْمُصَنَّفِ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ: «مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ يُرَشَّ بَوْلُ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ مِنْ الصِّبْيَانِ» وَالْمُرَادُ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ الِاغْتِذَاءُ بِغَيْرِ اللَّبَنِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: لِلْهَادَوِيَّةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُمَا كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ قِيَاسًا لِبَوْلِهِمَا عَلَى سَائِرِ النَّجَاسَاتِ، وَتَأَوَّلُوا الْأَحَادِيثَ، وَهُوَ تَقْدِيمٌ لِلْقِيَاسِ عَلَى النَّصِّ. الثَّانِي وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَوْجُهِ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ يَكْفِي النَّضْحُ فِي بَوْلِ الْغُلَامِ لَا الْجَارِيَةِ فَكَغَيْرِهَا مِنْ النَّجَاسَاتِ، عَمَلًا بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ " عَلِيٍّ " - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَغَيْرِهِمْ. يَكْفِي النَّضْحُ فِيهِمَا، وَهُوَ كَلَامُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَأَمَّا: هَلْ بَوْلُ الصَّبِيِّ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ؟ فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ نَجِسٌ، وَإِنَّمَا خَفَّفَ الشَّارِعُ تَطْهِيرَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ النَّضْحَ قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: هُوَ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي أَصَابَهُ الْبَوْلُ يُغْمَرُ وَيُكَاثَرُ بِالْمَاءِ مُكَاثَرَةً لَا تَبْلُغُ جَرَيَانَ الْمَاءِ وَتَرَدُّدَهُ، وَتَقَاطُرَهُ، بِخِلَافِ الْمُكَاثَرَةِ فِي غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ يَجْرِي عَلَيْهَا بَعْضُ الْمَاءِ، وَيَتَقَاطَرُ مِنْ الْمَحَلِّ، وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ عَصْرُهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ وَهُوَ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْمُحَقِّقِينَ.

[حُكْم دَم الْحَيْض يُصِيب الثَّوْب]
[وَعَنْ " أَسْمَاءَ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ فَمِيمٍ فَهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ " بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ " وَهِيَ أُمُّ " عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ "، أَسْلَمَتْ بِمَكَّةَ قَدِيمًا، وَبَايَعَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهِيَ أَكْبَرُ مِنْ عَائِشَةَ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَمَاتَتْ بِمَكَّةَ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ ابْنُهَا بِأَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ، وَلَهَا مِنْ الْعُمْرِ مِائَةُ سَنَةٍ، وَذَلِكَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، وَلَمْ تَسْقُطْ لَهَا سِنٌّ، وَلَا تَغَيَّرَ لَهَا عَقْلٌ، وَكَانَتْ قَدْ عَمِيَتْ. «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ: تَحُتُّهُ» بِالْفَتْحِ لِلْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، وَضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ: أَيْ تَحُكُّهُ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ إزَالَةُ عَيْنِهِ [ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ] أَيْ الثَّوْبَ،

(1/53)


(28) - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَتْ خَوْلَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ الدَّمُ؟ قَالَ: يَكْفِيك الْمَاءُ وَلَا يَضُرُّك أَثَرُهُ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، وَإِسْكَانِ الْقَافِ، وَضَمِّ الرَّاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ: أَيْ تُدَلِّكُ الدَّمَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهَا، لِيَتَحَلَّلَ بِذَلِكَ وَيَخْرُجَ مَا شَرِبَهُ الثَّوْبُ مِنْهُ [ثُمَّ تَنْضَحُهُ] بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُهْمَلَةِ: أَيْ تَغْسِلُهُ بِالْمَاءِ [ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ] مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ " ابْنُ مَاجَهْ " بِلَفْظِ: [اُقْرُصِيهِ بِالْمَاءِ وَاغْسِلِيهِ] وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِلَفْظِ [اُقْرُصِيهِ بِالْمَاءِ وَاغْسِلِيهِ وَصَلِّي فِيهِ]
وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، مِنْ حَدِيثِ " أُمِّ قَيْسِ بِنْتِ مِحْصَنٍ " أَنَّهَا «سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ؟ فَقَالَ: حُكِّيهِ بِصَلَعٍ وَاغْسِلِيهِ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: إسْنَادُهُ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ، وَلَا أَعْلَمُ لَهُ عِلَّةً، وَقَوْلُهُ: [بِصَلَعٍ بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَلَامٍ سَاكِنَةٍ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ: الْحَجَرُ.
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى نَجَاسَةِ دَمِ الْحَيْضِ، وَعَلَى وُجُوبِ غَسْلِهِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي إزَالَتِهِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْحَتِّ وَالْقَرْصِ وَالنَّضْحِ لِإِذْهَابِ أَثَرِهِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْ الْعَيْنِ بَقِيَّةٌ فَلَا يَجِبُ الْإِلْحَافُ لِإِذْهَابِهَا، لِعَدَمِ ذِكْرِهِ فِي الْحَدِيثِ، أَيْ حَدِيثِ " أَسْمَاءَ " وَهُوَ مَحَلُّ الْبَيَانِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي غَيْرِهِ: [وَلَا يَضُرُّك أَثَرُهُ] .

[الْعَفْو عَنْ أثر دَم الْحَيْض فِي الثَّوْب بَعْد غسله وحته]
[وَعَنْ " أَبِي هُرَيْرَةَ " قَالَ: قَالَتْ " خَوْلَةُ " بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مَفْتُوحَةً، وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَهِيَ " بِنْتُ يَسَارٍ "، كَمَا أَفَادَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ، حَيْثُ قَالَ: " خَوْلَةُ بِنْتُ يَسَارٍ ". «يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ الدَّمُ؟ قَالَ: يَكْفِيك الْمَاءُ وَلَا يَضُرُّك أَثَرُهُ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ،؛ لِأَنَّ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ؛ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: لَمْ نَسْمَعْ بِخَوْلَةِ بِنْتِ يَسَارٍ إلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ " خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ "، بِإِسْنَادٍ أَضْعَفَ مِنْ الْأَوَّلِ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ مِنْ حَدِيثِ " عَائِشَةَ " مَوْقُوفًا عَلَيْهَا: إذَا غَسَلَتْ الْمَرْأَةُ الدَّمَ فَلَمْ يَذْهَبْ فَلْتُغَيِّرْهُ بِصُفْرَةٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْهَا مَوْقُوفًا أَيْضًا
، وَتُغَيِّرُهُ بِالصُّفْرَةِ وَالزَّعْفَرَانِ لَيْسَ لِقَلْعِ عَيْنِهِ، بَلْ لِتَغْطِيَةِ لَوْنِهِ تَنَزُّهًا عَنْهُ. وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ لِمَا

(1/54)


بَابُ الْوُضُوءِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
أَشَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُ الْحَادِّ لِقَطْعِ أَثَرِ النَّجَاسَةِ وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَإِزَالَةِ عَيْنِهَا؛ وَبِهِ أَخَذَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ؛ وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ الْحَادَّ وَهُمْ الْهَادَوِيَّةُ: بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الطَّهَارَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي عَلَى أَكْمَلِ هَيْئَةٍ، وَأَحْسَنِ زِينَةٍ؛ وَلِحَدِيثِ: «اُقْرُصِيهِ وَأَمِيطِيهِ عَنْك بِإِذْخِرَةٍ» .
قَالَ فِي الشَّرْحِ: وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ مَا ذَكَرَهُ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ، وَأَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ، هَذَا كَلَامُهُ؛ وَقَدْ يُقَالُ: قَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ لِدَمِ الْحَيْضِ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ، وَالسِّدْرُ مِنْ الْحَوَادِّ، وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِهِ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ كَمَا عَرَفْت، فَيُقَيَّدُ بِهِ مَا أُطْلِقَ فِي غَيْرِهِ، وَيَخُصُّ اسْتِعْمَالَ الْحَادِّ بِدَمِ الْحَيْضِ، وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ النَّجَاسَاتِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شُرُوطِ الْقِيَاسِ، وَيُحَمَّلُ حَدِيثَ [لَا يَضُرُّك أَثَرُهُ] وَحَدِيثَ " عَائِشَةَ " وَقَوْلَهَا [فَلَمْ يَذْهَبْ] أَيْ: بَعْدَ الْحَادِّ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ اشْتَمَلَتْ مِنْ النَّجَاسَاتِ عَلَى الْخَمْرِ، وَلُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَالْمَنِيِّ، وَبَوْلِ الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ، وَدَمِ الْحَيْضِ، وَلَوْ أَدْخَلَ الْمُصَنِّفُ بَوْلَ الْأَعْرَابِيِّ فِي الْمَسْجِدِ، وَدِبَاغَ الْأَدِيمِ، وَنَحْوَهُ فِي هَذَا الْبَابِ لَكَانَ أَوْجَهَ.