سبل السلام [بَابُ الْخِيَارِ]
ِ الْخِيَارُ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ اسْمٌ مِنْ
الِاخْتِيَارِ أَوْ التَّخْيِيرِ وَهُوَ طَلَبُ خَيْرِ
الْأَمْرَيْنِ مِنْ إمْضَاءِ الْبَيْعِ أَوْ فَسْخِهِ
وَهُوَ أَنْوَاعٌ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ
خِيَارَ الشَّرْطِ وَخِيَارَ الْمَجْلِسِ (عَنْ ابْنِ
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا
تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ» أَيْ أَوْقَعَا الْعَقْدَ
بَيْنَهُمَا لَا تَسَاوُمًا مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ «فَكُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا»
وَفِي لَفْظٍ يَفْتَرِقَا وَالْمُرَادُ بِالْأَبْدَانِ
(وَكَانَا جَمِيعًا أَوْ يُخَيِّرُ) مِنْ التَّخْيِيرِ
(أَحَدُهُمَا الْآخَرَ) فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا
الْآخَرَ أَيْ إذَا اشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا الْخِيَارَ
مُدَّةً مَعْلُومَةً فَإِنَّ الْخِيَارَ لَا يَنْقَضِي
بِالتَّفَرُّقِ بَلْ يَبْقَى حَتَّى تَمْضِي مُدَّةُ
الْخِيَارِ الَّتِي شَرَطَهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ إذَا
اخْتَارَ إمْضَاءَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ لَزِمَهُ
الْبَيْعُ حِينَئِذٍ وَبَطَلَ اعْتِبَارُ التَّفَرُّقِ
وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ «فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا
الْآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ
الْبَيْعُ» أَيْ نَفَذَ وَتَمَّ (وَإِنْ تَفَرَّقَا)
بِالْأَبْدَانِ (بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا) أَيْ عَقَدَا
عَقْدَ الْبَيْعِ «وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا
الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ) الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ
خِيَارِ الْمَجْلِسِ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ وَأَنَّهُ
يَمْتَدُّ إلَى أَنْ يَحْصُلَ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ
وَقَدْ اخْتَلَفَ
(2/45)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
الْعُلَمَاءُ فِي ثُبُوتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ
ثُبُوتُهُ وَهُوَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ
عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ
عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ
التَّابِعِينَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ
وَالْإِمَامُ يَحْيَى قَالُوا: وَالتَّفَرُّقُ الَّذِي
يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ مَا يُسَمَّى عَادَةً تَفَرُّقًا
فَفِي الْمَنْزِلِ الصَّغِيرِ بِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا وَفِي
الْكَبِيرِ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ مَجْلِسِهِ إلَى آخَرَ
بِخُطْوَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا
تَفَرُّقٌ فِعْلُ ابْنِ عُمَرَ الْمَعْرُوفُ، فَإِنْ
قَامَا مَعًا أَوْ ذَهَبَا مَعًا فَالْخِيَارُ بَاقٍ
وَهَذَا الْمَذْهَبُ دَلِيلُهُ هَذَا الْحَدِيثُ
الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ.
(الْقَوْلُ الثَّانِي) لِلْهَادَوِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ
وَمَالِكٍ وَالْإِمَامِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ خَيْرُ
الْمَجْلِسِ بَلْ مَتَى تَفَرَّقَ الْمُتَبَايِعَانِ
بِالْقَوْلِ فَلَا خِيَارَ إلَّا مَا شُرِطَ
مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {تِجَارَةً عَنْ
تَرَاضٍ} [النساء: 29] وَبِقَوْلِهِ {وَأَشْهِدُوا إِذَا
تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] قَالُوا: وَالْإِشْهَادُ إنْ
وَقَعَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ لَمْ يُطَابِقْ الْأَمْرَ،
وَإِنْ وَقَعَ قَبْلَهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ،
وَحَدِيثُ «إذَا اخْتَلَفَ الْبَيْعَانِ فَالْقَوْلُ
قَوْلُ الْبَائِعِ» وَلَمْ يُفَصِّلْ وَأُجِيبَ بِأَنَّ
الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ قُيِّدَتْ بِالْحَدِيثِ، وَكَخِيَارِ
الْمَجْلِسِ كَمَا لَا يُنَافِيهِ سَائِرُ الْخِيَارَاتِ
قَالُوا: وَالْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ
«الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» وَالْخِيَارُ بَعْدَ
لُزُومِ الْعَقْدِ يُفِيدُ الشَّرْطَ، وَرُدَّ بِأَنَّ
الْأَصْلَ عَدَمُ النُّسَخِ وَلَا يَثْبُتُ
بِالِاحْتِمَالِ قَالُوا وَلِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ
مَالِكٍ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ
مُخَالِفَةَ الرَّاوِي لَا تُوجِبُ عَدَمَ الْعَمَلِ
بِرِوَايَتِهِ لِأَنَّ عَمَلَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى
اجْتِهَادِهِ وَقَدْ يَظْهَرُ لَهُ مَا هُوَ أَرْجَحُ
عِنْدَهُ مِمَّا رَوَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَرْجَحُ فِي
نَفْسِ الْأَمْرِ قَالُوا: وَحَدِيثُ الْبَابِ يُحْمَلُ
عَلَى الْمُتَسَاوِمَيْنِ فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ الْبَائِعِ
فِي الْمُسَاوِمِ شَائِعٌ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ
إطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ وَعُورِضَ
بِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَيْضًا حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِيِّ،
عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ
الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ
هُوَ بَعْدَ تَمَامِ الصِّيغَةِ وَقَدْ مَضَى فَهُوَ
مَجَازٌ فِي الْمَاضِي، وَرُدَّتْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ
بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَجَازٌ فِي الْمَاضِي
بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ
الْجُمْهُورُ بِخِلَافِ الْمُسْتَقْبِلِ فَمَجَازٌ
اتِّفَاقًا قَالُوا: الْمُرَادُ التَّفَرُّقُ
بِالْأَقْوَالِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّفَرُّقِ فِيهَا هُوَ
مَا بَيْنَ قَوْلِ الْبَائِعِ بِعْتُكَ بِكَذَا أَوْ
قَوْلِ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت قَالُوا: فَالْمُشْتَرِي
بِالْخِيَارِ فِي قَوْلِهِ اشْتَرَيْت أَوْ تَرْكِهِ،
وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إلَى أَنْ يُوجِبَ
(2/46)
(779) - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
«الْبَائِعُ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ حَتَّى
يَتَفَرَّقَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلَا
يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ
يَسْتَقِيلَهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
الْمُشْتَرِي، وَلَا يَخْفَى رَكَاكَةُ هَذَا الْقَوْلِ
وَبُطْلَانُهُ فَإِنَّهُ إلْغَاءٌ لِلْحَدِيثِ عَنْ
الْفَائِدَةِ إذْ مِنْ الْمَعْلُومِ يَقِينًا أَنَّ كُلًّا
مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ
عَلَى الْخِيَارِ إذْ لَا عَقْدَ بَيْنَهُمَا،
فَالْإِخْبَارُ بِهِ لَاغٍ عَنْ الْإِفَادَةِ، وَيَرُدُّهُ
لَفْظُ الْحَدِيثِ كَمَا لَا يَخْفَى فَالْحَقُّ هُوَ
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَأَمَّا مُعَارَضَةُ حَدِيثِ
الْبَابِ بِالْحَدِيثِ الْآتِي:
(779) - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْبَائِعُ
وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إلَّا
أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ
يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ» رَوَاهُ
الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ، وَرَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ الْجَارُودِ
وَفِي رِوَايَةٍ «حَتَّى يَتَفَرَّقَا عَنْ مَكَانِهِمَا»
وَهُوَ قَوْلُهُ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْبَائِعُ وَالْمُبْتَاعُ
بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا إلَّا أَنْ تَكُونَ
صَفْقَةَ خِيَارٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ
خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا
ابْنَ مَاجَهْ وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ
الْجَارُودِ وَفِي الرِّوَايَةِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا عَنْ
مَكَانِهِمَا وَبِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَمْرٍو
وَبِلَفْظِ «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ
يَتَفَرَّقَا إلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ وَلَا
يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ
يَسْتَقِيلَهُ» قَالُوا: فَقَوْلُهُ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ
دَالٌّ عَلَى نُفُوذِ الْبَيْعِ فَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ
بِأَنَّ الْحَدِيثَ دَلِيلُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَيْضًا
لِقَوْلِهِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَأَمَّا
قَوْلُهُ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْفَسْخُ
لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ الِاسْتِقَالَةُ حَقِيقَةً لَمْ
يَكُنْ لِلْمُفَارِقَةِ مَعْنًى فَتَعَيَّنَ حَمْلُهَا
عَلَى الْفَسْخِ، وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَهُ التِّرْمِذِيُّ
وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَقَالُوا: مَعْنَاهُ لَا
يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ خَشْيَةَ
أَنْ يَخْتَارَ فَسْخَ الْمَبِيعِ، فَالْمُرَادُ
بِالِاسْتِقَالَةِ فَسْخُ النَّادِمِ وَحَمَلُوا نَفْيَ
الْحِلِّ عَلَى الْكَرَاهَةِ لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ
بِالْمُرُوءَةِ وَحُسْنِ مُعَاشَرَةِ الْمُسْلِمِ لَا
أَنَّ اخْتِيَارَ الْفُسَخِ حَرَامٌ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ
عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا بَايَعَ رَجُلًا
فَأَرَادَ أَنْ يُتِمَّ بَيْعَتَهُ قَامَ يَمْشِي
هُنَيْهَةً فَرَجَعَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى
أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ. وَقَالَ
ابْنُ حَزْمٍ حَمْلُ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو هَذَا عَلَى
التَّفَرُّقِ بِالْأَقْوَالِ تَذْهَبُ مَعَهُ فَائِدَةُ
الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مَعَهُ حِلُّ التَّفَرُّقِ
سَوَاءٌ خَشِيَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ أَوْ لَا لِأَنَّ
الْإِقَالَةَ تَصِحُّ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَبَعْدَهُ
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَدْ أَكْثَرَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ مِنْ الْكَلَامِ بِرَدِّ
الْحَدِيثِ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ وَأَكْثَرُهُ
(2/47)
(780) - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «ذَكَرَ رَجُلٌ لِرَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ
يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَقَالَ: إذَا بَايَعْتَ فَقُلْ
لَا خِلَابَةَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
لَا يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِذَا ثَبَتَ لَفْظُ
مَكَانِهِمْ لَمْ يَبْقَ لِلتَّأْوِيلِ مَجَالٌ، وَبَطَلَ
بُطْلَانًا ظَاهِرًا حَمْلُهُ عَلَى تَفَرُّقِ
الْأَقْوَالِ.
[خِيَارِ الْغَبْنِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ]
(وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ
ذَكَرَ رَجُلٌ) هُوَ حِبَّانُ بِفَتْحِ الْحَاءِ
الْمُهْمَلَةِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ ابْنُ مُنْقِذٍ
(لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَنَّهُ يَخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَقَالَ «إذَا بَايَعْتَ
فَقُلْ لَا خِلَابَةَ» بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ
وَتَخْفِيفِ اللَّامِ بِمُوَحَّدَةٍ: أَيْ لَا خَدِيعَةَ
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ
يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ وَعَبْدِ الْأَعْلَى عَنْهُ «ثُمَّ
أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ ابْتَعْتهَا
ثَلَاثَ لَيَالٍ فَإِنْ رَضِيتَ فَأَمْسِكْ وَإِنْ
سَخِطْتَ فَارْدُدْ فَبَقِيَ ذَلِكَ الرَّجُلُ حَتَّى
أَدْرَكَ زَمَانَ عُثْمَانَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ
وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَكَثُرَ النَّاسُ فِي زَمَانِ
عُثْمَانَ، فَكَانَ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَقِيلَ لَهُ:
إنَّكَ غُبِنْت فِيهِ رَجَعَ فَيَشْهَدُ لَهُ رَجُلٌ مِنْ
الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَدْ جَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ ثَلَاثًا،
فَيَرُدُّ لَهُ دَرَاهِمَهُ» ، وَالْحَدِيثُ.
دَلِيلٌ عَلَى خِيَارِ الْغَبْنِ فِي الْبَيْعِ
وَالشِّرَاءِ إذَا حَصَلَ الْغَبْنُ. وَاخْتَلَفَ فِيهِ
الْعُلَمَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ ثُبُوتُ
الْخِيَارِ بِالْغَبْنِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ
وَلَكِنْ إذَا كَانَ الْغَبْنُ فَاحِشًا لِمَنْ لَا
يَعْرِفُ ثَمَنَ السِّلْعَةِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُ
الْمَالِكِيَّةِ بِأَنْ يَبْلُغَ الْغَبْنُ ثُلُثَ
الْقِيمَةِ، وَلَعَلَّهُمْ أَخَذُوا التَّقْيِيدَ مَا
عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ مُطْلَقِ
الْغَبْنِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، وَلِأَنَّ الْقَلِيلَ
يُتَسَامَحُ بِهِ فِي الْعَادَةِ وَأَنَّهُ مَنْ رَضِيَ
بِالْغَبْنِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا
يُسَمَّى غَبْنًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ بَابِ
التَّسَاهُلِ فِي الْبَيْعِ الَّذِي أَثْنَى - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى فَاعِلِهِ وَأَخْبَرَ
أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرَّجُلَ سَهْلَ الْبَيْعِ سَهْلَ
الشِّرَاءِ.
وَذَهَبَتْ الْجَمَاهِيرُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى عَدَمِ
ثُبُوتِ الْخِيَارِ بِالْغَبْنِ لِعُمُومِ أَدِلَّةِ
الْبَيْعِ وَنُفُوذِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ
الْغَبْنِ أَوَّلًا قَالُوا: وَحَدِيثُ الْبَابِ إنَّمَا
كَانَ الْخِيَارُ فِيهِ لِضَعْفِ عَقْلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ
إلَّا أَنَّهُ ضَعْفٌ لَمْ يَخْرُجْ بِهِ عَنْ حَدِّ
التَّمْيِيزِ فَتَصَرُّفُهُ كَتَصَرُّفِ الصَّبِيِّ
الْمَأْذُونِ لَهُ، وَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ مَعَ
الْغَبْنِ قُلْتُ: وَيَدُلُّ لِضَعْفِ عَقْلِهِ مَا
أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ
أَنَسٍ بِلَفْظِ " أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُبَايِعُ وَكَانَ
فِي عَقْلِهِ " أَيْ أَدْرَكَهُ " ضَعْفٌ " وَلِأَنَّهُ
لَقَّنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بِقَوْلِهِ لَا خِلَابَةَ اشْتِرَاطَ عَدَمِ الْخِدَاعِ
فَكَانَ شِرَاؤُهُ وَبَيْعُهُ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ
الْخِدَاعِ لِيَكُونَ مِنْ بَابِ خِيَارِ الشَّرْطِ. قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إنَّ الْخَدِيعَةَ فِي هَذِهِ
الْقِصَّةِ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ فِي الْغَيْبِ أَوْ
فِي الْمِلْكِ أَوْ فِي الثَّمَنِ أَوْ فِي الْغَبْنِ
فَلَا يُحْتَجُّ بِهَا فِي الْغَبْنِ بِخُصُوصِهِ، وَهِيَ
قِصَّةٌ
(2/48)
(781) - عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ:
«لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ،
وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ -
وَلِلْبُخَارِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ
(عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «لَعَنَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ
وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَلِلْبُخَارِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
خَاصَّةٌ لَا عُمُومَ فِيهَا.
قُلْت فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ إنَّهُ شَكَا إلَى
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا
يَلْقَى مِنْ الْغَبْنِ وَهِيَ تَرُدُّ مَا قَالَهُ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ إذَا قَالَ
الرَّجُلُ الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي لَا خِلَابَةَ
ثَبَتَ الْخِيَارُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَبْنٌ
وَرُدَّ بِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا فِي الرِّوَايَةِ
أَنَّهُ كَانَ يُغْبَنُ وَأَثْبَتَ الْهَادَوِيَّةُ
الْخِيَارَ بِالْغَبْنِ فِي صُورَتَيْنِ الْأُولَى مَنْ
تَصَرَّفَ عَنْ الْغَيْرِ، وَالثَّانِيَةُ فِي الصَّبِيِّ
الْمُمَيِّزِ مُحْتَجِّينَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ
دَلِيلٌ لَهُمْ عَلَى الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ إذَا ثَبَتَ
أَنَّهُ كَانَ فِي عَقْلِهِ ضَعْفٌ دُونَ الْأُولَى. |