سبل السلام [بَابُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ]
[البركة فِي الْعُمْر بصلة الرحم]
بَابُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ الْبِرُّ بِكَسْرِ
الْمُوَحَّدَةِ هُوَ التَّوَسُّعُ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ.
وَالْبَرُّ بِفَتْحِهَا الْمُتَوَسِّعُ فِي الْخَيْرَاتِ
وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالصِّلَةُ
بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ مَصْدَرُ وَصَلَهُ
كَوَعَدَهُ عِدَةً. فِي النِّهَايَةِ تَكَرَّرَ فِي
الْحَدِيثِ ذِكْرُ صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَهِيَ كِنَايَةٌ
عَنْ الْإِحْسَانِ إلَى الْأَقْرَبِينَ مِنْ ذَوِي
النَّسَبِ
(2/626)
(1367) - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ
يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي
أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
وَالْأَصْهَارِ وَالتَّعَطُّفِ عَلَيْهِمْ وَالرِّفْقِ
بِهِمْ وَالرِّعَايَةِ لِأَحْوَالِهِمْ وَكَذَلِكَ إنْ
تَعَدَّوْا وَأَسَاءُوا وَضِدُّ ذَلِكَ قَطِيعَةُ
الرَّحِمِ. اهـ
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ) مُغَيَّرٌ
صِيغَتَهُ أَيْ يَبْسُطُ اللَّهُ (لَهُ فِي رِزْقِهِ) أَيْ
يُوَسِّعُ لَهُ فِيهِ (وَأَنْ يُنْسَأَ) مِثْلُهُ فِي
ضَبْطِهِ. بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ مُخَفَّفَةً أَيْ
يُؤَخَّرَ لَهُ (فِي أَثَرِهِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ
وَالْمُثَلَّثَةِ فَرَاءٍ أَيْ أَجَلِهِ (فَلْيَصِلْ
رَحِمَهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ) وَأَخْرَجَ
التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ صِلَةَ
الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ
مَنْسَأَةٌ فِي الْأَجَلِ» وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَرْفُوعًا «صِلَةُ
الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يُعَمِّرَانِ الدِّيَارَ
وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ» .
وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا
«إنَّ الصَّدَقَةَ وَصِلَةَ الرَّحِمِ يَزِيدُ اللَّهُ
بِهِمَا فِي الْعُمُرِ وَيَدْفَعُ بِهِمَا مِيتَةُ
السُّوءِ» وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ: قَالَ ابْنُ التِّينِ:
ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَيْ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ مُعَارَضٌ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا
يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل:
61] قَالَ: وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزِّيَادَةَ كِنَايَةٌ عَنْ
الْبَرَكَةِ فِي الْعُمُرِ بِسَبَبِ التَّوْفِيقِ إلَى
الطَّاعَةِ وَعِمَارَةِ وَقْتِهِ بِمَا يَنْفَعُهُ فِي
الْآخِرَةِ وَصِيَانَتِهِ عَنْ تَضْيِيعِهِ فِي غَيْرِ
ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا مَا جَاءَ: أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَقَاصَرَ أَعْمَارُ
أُمَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَعْمَارِ مَنْ مَضَى مِنْ
الْأُمَمِ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَكُونُ سَبَبًا
لِلتَّوْفِيقِ لِلطَّاعَةِ وَالصِّيَانَةِ عَنْ
الْمَعْصِيَةِ فَيَبْقَى بَعْدَهُ الذِّكْرُ الْجَمِيلُ
فَكَأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ.
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّوْفِيقِ
الْعِلْمُ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ
بِتَأْلِيفٍ وَنَحْوِهِ وَالصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ
عَلَيْهِ، وَالْخَلَفُ الصَّالِحُ. وَثَانِيهِمَا أَنَّ
الزِّيَادَةَ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ
إلَى عِلْمِ الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِالْعُمْرِ،
وَاَلَّذِي فِي الْآيَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِ
اللَّهِ كَأَنْ يُقَالَ لِلْمَلَكِ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ
يَصِلُ أَوْ يَقْطَعُ فَاَلَّذِي فِي عِلْمِ اللَّهِ لَا
يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ وَاَلَّذِي يُقَالُ مَثَلًا
إنَّ عُمْرَ فُلَانٍ مِائَةٌ إنْ وَصَلَ رَحِمَهُ، وَإِنْ
قَطَعَهَا فَسِتُّونَ وَقَدْ سَبَقَ مَثَلًا فِي عِلْمِ
الْمَلَكِ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ الزِّيَادَةُ
وَالنَّقْصُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى
{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ
أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] وَالْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ
بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فِي عِلْمِ الْمَلَكِ وَمَا فِي
أُمِّ
(2/627)
(1368) - وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ قَاطِعٌ» يَعْنِي قَاطِعَ رَحِمٍ، مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
الْكِتَابِ؛ وَأَمَّا الَّذِي فِي عِلْمِ اللَّهِ فَلَا
مَحْوَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ.
وَيُقَالُ لَهُ الْقَضَاءُ الْمُبْرَمُ وَيُقَالُ
لِلْأَوَّلِ الْقَضَاءُ الْمُعَلَّقُ. وَالْوَجْهُ
الْأَوَّلُ أَلْيَقُ فَإِنَّ الْأَثَرَ مَا يَتْبَعُ
الشَّيْءَ فَإِذَا أُخِّرَ حَسُنَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى
الذِّكْرِ الْحَسَنِ بَعْدَ فَقْدِ الْمَذْكُورِ
وَرَجَّحَهُ الطِّيبِيُّ. وَأَشَارَ إلَيْهِ فِي
الْفَائِقِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ
فِي الصَّغِيرِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ
قَالَ «ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ أُنْسِئَ لَهُ
فِي أَجَلِهِ؟ فَقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ زِيَادَةً فِي
عُمْرِهِ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا
يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:
34] وَلَكِنَّ الرَّجُلَ تَكُونُ لَهُ الذُّرِّيَّةُ
الصَّالِحَةُ يَدْعُونَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ» وَأَخْرَجَهُ
فِي الْكَبِيرِ مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى.
وَجَزَمَ ابْنُ فُورَكٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِزِيَادَةِ
الْعُمْرِ نَفْيُ الْآفَاتِ عَنْ صَاحِبِ الْبِرِّ فِي
فَهْمِهِ وَعَقْلِهِ. قَالَ غَيْرُهُ: فِي أَعَمِّ مِنْ
ذَلِكَ وَفِي عِلْمِهِ وَرِزْقِهِ. وَلِابْنِ الْقَيِّمِ
فِي كِتَابِ الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ كَلَامٌ يَقْضِي
بِأَنَّ مُدَّةَ حَيَاةِ الْعَبْدِ وَعُمْرِهِ هِيَ
مَهْمَا كَانَ قَلْبُهُ مُقْبِلًا عَلَى اللَّهِ ذَاكِرًا
لَهُ مُطِيعًا غَيْرَ عَاصٍ فَهَذِهِ هِيَ عُمْرُهُ
وَمَتَى أَعْرَضَ الْقَلْبُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى
وَاشْتَغَلَ بِالْمَعَاصِي ضَاعَتْ عَلَيْهِ أَيَّامُ
حَيَاةِ عُمْرِهِ فَعَلَى هَذَا مَعْنَى أَنَّهُ يُنْسَأُ
لَهُ فِي أَجَلِهِ أَيْ يُعَمِّرُ اللَّهُ قَلْبَهُ
بِذِكْرِهِ وَأَوْقَاتَهُ بِطَاعَتِهِ وَيَأْتِي تَحْقِيقُ
صِلَةِ الرَّحِمِ.
[الرَّحِمِ الَّتِي تَجِبُ صِلَتُهَا وَبِمَاذَا تُوصَل]
فِي شَرْحِ قَوْلِهِ (وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ» - يَعْنِي
قَاطِعَ رَحِمٍ - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَأَخْرَجَ أَبُو
دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ يَرْفَعُهُ «مَا مِنْ
ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ
الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا أَخَّرَ اللَّهُ
لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ» وَأَخْرَجَ
الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ «إنَّ أَعْمَالَ أُمَّتِي
تُعْرَضُ عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَلَا
يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ» وَأَخْرَجَ فِيهِ مِنْ
حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى «إنَّ الرَّحْمَةَ لَا
تَنْزِلُ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ قَاطِعُ رَحِمٍ» وَأَخْرُج
الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «إنَّ
أَبْوَابَ السَّمَاءِ مُغْلَقَةٌ دُونَ قَاطِعِ الرَّحِمِ»
وَاعْلَمْ أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِّ
الرَّحِمِ الَّتِي تَجِبُ صِلَتُهَا فَقِيلَ: هِيَ
الرَّحِمُ الَّتِي يَحْرُمُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا
بِحَيْثُ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا حَرُمَ عَلَى
الْآخَرِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ
الْأَعْمَامِ وَلَا أَوْلَادُ الْأَخْوَالِ. وَاحْتَجَّ
هَذَا الْقَائِلُ بِتَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ
الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا فِي النِّكَاحِ
لِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ مِنْ التَّقَاطُعِ. وَقِيلَ هُوَ
مَنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِمِيرَاثٍ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " ثُمَّ
أَدْنَاك أَدْنَاك " وَقِيلَ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْآخَرِ قَرَابَةٌ سَوَاءٌ كَانَ يَرِثُهُ أَوْ لَا.
ثُمَّ صِلَةُ الرَّحِمِ كَمَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ:
دَرَجَاتٌ بَعْضُهَا أَرْفَعُ مِنْ بَعْضٍ وَأَدْنَاهَا
تَرْكُ الْمُهَاجَرَةِ وَصِلَتُهَا بِالْكَلَامِ
(2/628)
(1369) - وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ
شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ
عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ. وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنْعًا
وَهَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ
السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
وَلَوْ بِالسَّلَامِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ
الْقُدْرَةِ وَالْحَاجَةِ فَمِنْهَا وَاجِبٌ وَمِنْهَا
مُسْتَحَبٌّ فَلَوْ وَصَلَ بَعْضَ الصِّلَةِ وَلَمْ يَصِلْ
غَايَتَهَا لَمْ يُسَمَّ قَاطِعًا وَلَوْ قَصَّرَ عَمَّا
يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَنْبَغِي لَهُ: لَمْ يُسَمَّ
وَاصِلًا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الرَّحِمُ الَّتِي
تُوصَلُ الرَّحِمُ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ فَالْعَامَّةُ
رَحِمُ الدِّينِ، وَتَجِبُ صِلَتُهَا بِالتَّوَادُدِ
وَالتَّنَاصُحِ وَالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَالْقِيَامِ
بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ.
وَالرَّحِمُ الْخَاصَّةُ تَزِيدُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى
الْقَرِيبِ وَتَفَقُّدِ حَالِهِ وَالتَّغَافُلِ عَنْ
زَلَّتِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: الْمَعْنَى
الْجَامِعُ إيصَالُ مَا أَمْكَنَ مِنْ الْخَيْرِ وَدَفْنُ
مَا أَمْكَنَ مِنْ الشَّرِّ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ، وَهَذَا
فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا الْكُفَّارُ
وَالْفُسَّاقُ فَتَجِبُ الْمُقَاطَعَةُ لَهُمْ إذَا لَمْ
تَنْفَعْ الْمَوْعِظَةُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا
بِأَيِّ شَيْءٍ تَحْصُلُ الْقَطِيعَةُ لِلرَّحِمِ فَقَالَ
الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ: تَكُونُ بِالْإِسَاءَةِ إلَى
الرَّحِمِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: تَكُونُ بِتَرْكِ
الْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ آمِرَةٌ بِالصِّلَةِ
نَاهِيَةٌ عَنْ الْقَطِيعَةِ فَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا،
وَالصِّلَةُ نَوْعٌ مِنْ الْإِحْسَانِ كَمَا فَسَّرَهَا
بِذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَالْقَطِيعَةُ ضِدُّهَا وَهِيَ
تَرْكُ الْإِحْسَانِ. وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ
التِّرْمِذِيُّ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنَّ
الْوَاصِلَ الَّذِي إذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا»
فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الصِّلَةَ إنَّمَا هِيَ مَا
كَانَ لِلْقَاطِعِ صِلَةُ رَحِمِهِ وَهَذَا عَلَى
رِوَايَةِ قَطَعَتْ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَهِيَ
رِوَايَةٌ فَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِهِ:
الْمُرَادُ الْكَامِلَةُ فِي الصِّلَةِ وَقَالَ
الطِّيبِيُّ: مَعْنَاهُ لَيْسَ حَقِيقَةَ الْوَاصِلِ
وَمَنْ يُعْتَدُّ بِصِلَتِهِ مَنْ يُكَافِئُ صَاحِبَهُ
بِمِثْلِ فِعْلِهِ وَلَكِنَّهُ مَنْ يَتَفَضَّلُ عَلَى
صَاحِبِهِ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: لَا يَلُومُ مِنْ نَفْيِ
الْوَصْلِ ثُبُوتُ الْقَطْعِ فَهُمْ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ
وَاصِلٌ وَمُكَافِئٌ وَقَاطِعٌ، فَالْوَاصِلُ هُوَ الَّذِي
يَتَفَضَّلُ وَلَا يُتَفَضَّلُ عَلَيْهِ، وَالْمُكَافِئُ
هُوَ الَّذِي لَا يَزِيدُ فِي الْإِعْطَاءِ عَلَى مَا
يَأْخُذُهُ، وَالْقَاطِعُ الَّذِي لَا يُتَفَضَّلُ
عَلَيْهِ وَلَا يَتَفَضَّلُ قَالَ الشَّارِحُ:
وَبِالْأَوْلَى مَنْ يُتَفَضَّلُ عَلَيْهِ وَلَا
يَتَفَضَّلُ أَنَّهُ قَاطِعٌ قَالَ الْمُصَنِّفُ وَكَمَا
تَقَعُ الْمُكَافَأَةُ بِالصِّلَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ
كَذَلِكَ تَقَعُ بِالْمُقَاطَعَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ
فَمَنْ بَدَأَ فَهُوَ الْقَاطِعُ فَإِنْ جُوزِيَ سُمِّيَ
مَنْ جَازَاهُ مُكَافِئًا.
[النَّهْي عَنْ عقوق الْوَالِدَيْنِ]
(وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ
عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنْعًا
وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ
السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)
الْأُمَّهَاتُ جَمْعُ أُمَّهَةٍ لُغَةٌ فِي الْأُمِّ وَلَا
تُطْلَقُ إلَّا عَلَى مَنْ يَعْقِلُ بِخِلَافِ
(2/629)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
أُمٍّ فَإِنَّهَا تَعُمُّ، وَإِنَّمَا خُصَّتْ الْأُمُّ
هُنَا إظْهَارًا لِعِظَمِ حَقِّهَا وَإِلَّا فَالْأَبُ
مُحَرَّمٌ عُقُوقُهُ، وَضَابِطُ الْعُقُوقِ الْمُحَرَّمِ
كَمَا نُقِلَ خُلَاصَتُهُ عَنْ الْبُلْقِينِيِّ وَهُوَ
أَنْ يَحْصُلُ مِنْ الْوَلَدِ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ
أَحَدِهِمَا إيذَاءٌ لَيْسَ بِالْهَيِّنِ عُرْفًا
فَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا مَا إذَا حَصَلَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ
أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ فَخَالَفَهُمَا بِمَا لَا يُعَدُّ فِي
الْعُرْفِ مُخَالَفَتُهُ عُقُوقًا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ
عُقُوقًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَثَلًا عَلَى
الْأَبَوَيْنِ دَيْنٌ لِلْوَلَدِ أَوْ حَقٌّ شَرْعِيٌّ
فَرَافَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ
عُقُوقًا كَمَا «وَقَعَ مِنْ بَعْضِ أَوْلَادِ
الصَّحَابَةِ شِكَايَةُ الْأَبِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي احْتِيَاجِهِ لِمَالِهِ
فَلَمْ يَعُدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - شِكَايَتَهُ عُقُوقًا» (قُلْت) فِي هَذَا
تَأَمُّلٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» دَلِيلٌ عَلَى
نَهْيِهِ عَنْ مَنْعِ أَبِيهِ عَنْ مَالِهِ وَعَنْ
شِكَايَتِهِ ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الضَّابِطِ: فَعَلَى
هَذَا، الْعُقُوقُ أَنْ يُؤْذِيَ الْوَلَدُ أَحَدَ
أَبَوَيْهِ بِمَا لَوْ فَعَلَهُ مَعَ غَيْرِ أَبَوَيْهِ
كَانَ مُحَرَّمًا مِنْ جُمْلَةِ الصَّغَائِرِ فَيَكُونُ
فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ كَبِيرَةً، أَوْ مُخَالَفَةُ
الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ فِيمَا يَدْخُلُ فِيهِ الْخَوْفُ
عَلَى الْوَلَدِ مِنْ فَوَاتِ نَفْسِهِ أَوْ عُضْوٍ مِنْ
أَعْضَائِهِ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ،
أَوْ مُخَالَفَتُهُمَا فِي سَفَرٍ يَشُقُّ عَلَيْهِمَا
وَلَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى الْوَلَدِ أَوْ فِي غَيْبَةٍ
طَوِيلَةٍ فِيمَا لَيْسَ لِطَلَبِ عِلْمٍ نَافِعٍ أَوْ
كَسْبٍ، أَوْ تَرْكِ تَعْظِيمٍ الْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّهُ
لَوْ قَدِمَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَقُمْ إلَيْهِ
أَوْ قَطَّبَ فِي وَجْهِهِ فَإِنَّ هَذَا وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ فِي حَقِّ الْغَيْرِ مَعْصِيَةً فَهُوَ عُقُوقٌ فِي
حَقِّ الْأَبَوَيْنِ.
1 -
قَوْلُهُ " وَوَأْدَ الْبَنَاتِ " بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ
وَهُوَ دَفْنُ الْبِنْتِ حَيَّةً وَهُوَ مُحَرَّمٌ وَخَصَّ
الْبَنَاتَ؛ لِأَنَّهُ الْوَاقِعُ مِنْ الْعَرَبِ
فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ كَرَاهِيَةً لَهُنَّ. يُقَالُ أَوَّلُ
مَنْ فَعَلَهُ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ التَّيْمِيُّ وَكَانَ
مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَقْتُلُ أَوْلَادَهُ مُطْلَقًا
خَشْيَةَ الْفَاقَةِ وَالنَّفَقَةِ.
1 -
وَقَوْلُهُ " مَنْعًا وَهَاتِ " الْمَنْعُ مَصْدَرٌ مِنْ
مَنَعَ يَمْنَعُ وَالْمُرَادُ مَنْعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ
أَنْ لَا يُمْنَعَ وَهَاتِ فِعْلُ أَمْرٍ مَجْزُومٌ
وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ طَلَبِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ
طَلَبَهُ. وَقَوْلُهُ «وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ»
يُرْوَى بِغَيْرِ تَنْوِينٍ حِكَايَةً لِلَفْظِ الْفِعْلِ.
وَرُوِيَ مُنَوَّنًا وَهِيَ رِوَايَةٌ فِي الْبُخَارِيِّ،
قِيلًا وَقَالًا، عَلَى النَّقْلِ مِنْ الْفِعْلِيَّةِ
إلَى الِاسْمِيَّةِ وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ. وَالْمُرَادُ
بِهِ نَقْلُ الْكَلَامِ الَّذِي يَسْمَعُهُ إلَى غَيْرِهِ
فَيَقُولُ قِيلَ كَذَا وَكَذَا بِغَيْرِ تَعْيِينِ
الْقَائِلِ وَقَالَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا وَإِنَّمَا
نَهَى عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِمَا لَا
يَعْنِي الْمُتَكَلِّمَ وَلِكَوْنِهِ قَدْ يَتَضَمَّنُ
الْغِيبَةَ وَالنَّمِيمَةَ وَالْكَذِبَ وَلَا سِيَّمَا
مَعَ الْإِكْثَارِ مِنْ ذَلِكَ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْهُ،
وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: فِيهِ ثَلَاثَةٌ
أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ لِلْقَوْلِ
نَقُولُ قُلْت قَوْلًا وَقِيلَا. وَفِي الْحَدِيثِ
الْإِشَارَةُ إلَى كَرَاهَةِ كَثْرَةِ الْكَلَامِ،
ثَانِيهَا إرَادَةُ حِكَايَةِ أَقَاوِيلِ النَّاسِ
وَالْبَحْثِ عَنْهَا لِتُخْبِرَ عَنْهَا فَتَقُولَ: قَالَ
فُلَانٌ: كَذَا وَقِيلَ لَهُ كَذَا. وَالنَّهْيُ عَنْهُ
إمَّا لِلزَّجْرِ عَنْ الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ، وَإِمَّا
لِمَا يَكْرَهُهُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُ. ثَالِثُهَا أَنَّ
ذَلِكَ فِي حِكَايَةِ الِاخْتِلَافِ فِي أُمُورِ الدِّينِ
كَقَوْلِهِ قَالَ فُلَانٌ كَذَا وَقَالَ فُلَانٌ كَذَا
وَمَحَلُّ كَرَاهَةِ ذَلِكَ فِي أَنْ يُكْثِرَ مِنْهُ
بِحَيْثُ لَا يَأْمَنُ مِنْ الزَّلَلِ، وَهُوَ فِي حَقِّ
(2/630)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
مَنْ يَنْقُلُ بِغَيْرِ تَثَبُّتٍ فِي نَقْلِهِ لِمَا
يَسْمَعُهُ وَلَا يَحْتَاطُ لَهُ؛ وَيُؤَيِّدُ هَذَا
الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ «كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ
يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
قُلْت: وَيَحْتَمِلُ إرَادَةَ كُلٍّ مِنْ الثَّلَاثَةِ.
وَقَوْلُهُ " وَكَثْرَةُ السُّؤَالِ " هُوَ السُّؤَالُ
لِلْمَالِ أَوْ عَنْ الْمُشْكِلَاتِ مِنْ الْمَسَائِلِ
أَوْ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ أَوْلَى وَتَقَدَّمَ
فِي الزَّكَاةِ مَسْأَلَةُ الْمَالِ وَقَدْ نَهَى عَنْ
الْأُغْلُوطَاتِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَهِيَ
الْمَسَائِلُ الَّتِي يُغَلَّطُ بِهَا الْعُلَمَاءُ
لِيَزِلُّوا فَيَنْتِجُ بِذَلِكَ شَرٌّ وَفِتْنَةٌ.
وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهَا لِكَوْنِهَا غَيْرَ نَافِعَةٍ
فِي الدِّينِ وَلَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ إلَّا فِيمَا لَا
يَنْفَعُ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ جَمْعٍ مِنْ السَّلَفِ
كَرَاهَةُ تَكَلُّفِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ
وُقُوعُهَا عَادَةً أَوْ يَنْدُرُ وُقُوعُهَا جِدًّا لِمَا
فِي ذَلِكَ مِنْ التَّنَطُّعِ وَالْقَوْلِ بِالظَّنِّ
الَّذِي لَا يَخْلُو صَاحِبُهُ عَنْ الْخَطَأِ. وَقِيلَ
كَثْرَةُ السُّؤَالِ عَنْ أَخْبَارِ النَّاسِ وَأَحْدَاثِ
الزَّمَانِ، وَكَثْرَةُ سُؤَالِ إنْسَانٍ مُعَيَّنٍ عَنْ
تَفَاصِيلِ حَالِهِ وَكَانَ مِمَّا يَكْرَهُهُ
الْمَسْئُولُ.
[التشديد فِي إضاعة الْمَال] 1
وَقَوْلُهُ " وَإِضَاعَةَ الْمَالِ " الْمُتَبَادَرُ مِنْ
الْإِضَاعَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لِغَرَضٍ دِينِيٍّ وَلَا
دُنْيَوِيٍّ وَقِيلَ هُوَ الْإِسْرَافُ فِي الْإِنْفَاقِ.
وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِالْإِنْفَاقِ فِي الْحَرَامِ
وَرَجَّحَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ مَا أُنْفِقَ فِي غَيْرِ
وُجُوهِهِ الْمَأْذُونِ فِيهَا شَرْعًا سَوَاءٌ كَانَتْ
دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
جَعَلَ الْمَالَ قِيَامًا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَفِي
التَّبْذِيرِ تَفْوِيتُ تِلْكَ الْمَصَالِحِ إمَّا فِي
حَقِّ صَاحِبِ الْمَالِ أَوْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ قَالَ:
وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي كَثْرَةِ الْإِنْفَاقِ ثَلَاثَةُ
وُجُوهٍ الْأَوَّلُ الْإِنْفَاقُ فِي الْوُجُوهِ
الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا وَلَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ.
الثَّانِي الْإِنْفَاقُ فِي الْوُجُوهِ الْمَحْمُودَةِ
شَرْعًا وَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ مَطْلُوبًا مَا لَمْ
يُفَوِّتُ حَقًّا آخَرَ أَهَمَّ مِنْ ذَلِكَ الْمُنْفَقِ
فِيهِ.
وَالثَّالِثُ الْإِنْفَاقُ فِي الْمُبَاحَاتِ وَهُوَ
مُنْقَسِمٌ إلَى قِسْمَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ
عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِحَالِ الْمُنْفِقِ وَبِقَدْرِ
مَالِهِ فَهَذَا لَيْسَ بِإِضَاعَةٍ وَلَا إسْرَافٍ،
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ فِيمَا لَا يَلِيقُ بِهِ عُرْفًا
فَإِنْ كَانَ لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ إمَّا حَاضِرَةً أَوْ
مُتَوَقَّعَةً فَذَلِكَ لَيْسَ بِإِسْرَافٍ، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ كَذَلِكَ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إسْرَافٌ،
قَالَ: ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: ظَاهِرُ الْقُرْآنِ
أَنَّهُ إسْرَافٌ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ
فَقَالَ فِي قِسْمِ الصَّدَقَاتِ: هُوَ حَرَامٌ وَتَبِعَهُ
الْغَزَالِيُّ وَجَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي الْكَلَامِ
عَلَى الْغَارِمِ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ مِنْ
الْمَالِكِيَّةِ: إنَّهُ يَحْرُمُ اسْتِيعَابُ جَمِيعِ
الْمَالِ بِالصَّدَقَةِ قَالَ: وَيُكْرَهُ كَثْرَةُ
إنْفَاقِهِ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَلَا بَأْسَ بِهِ
إذَا وَقَعَ نَادِرًا لِحَادِثٍ كَضَيْفٍ أَوْ عِيدٍ أَوْ
وَلِيمَةٍ. وَالِاتِّفَاقُ عَلَى كَرَاهَةِ الْإِنْفَاقِ
فِي الْبِنَاءِ الزَّائِدِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَلَا
سِيَّمَا إنْ انْضَافَ إلَى ذَلِكَ الْمُبَالَغَةُ فِي
الزَّخْرَفَةِ وَكَذَلِكَ احْتِمَالُ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ
فِي الْمُبَايَعَاتِ بِلَا سَبَبٍ. وَقَالَ السُّبْكِيُّ
فِي الْحَلَبِيَّاتِ. وَأَمَّا إنْفَاقُ الْمَالِ فِي
الْمَلَاذِّ الْمُبَاحَةِ فَهُوَ مَوْضِعُ اخْتِلَافٍ
وَظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا
لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ
قَوَامًا} [الفرقان: 67] أَنَّ الزَّائِدَ الَّذِي لَا
يَلِيقُ بِحَالِ الْمُنْفِقِ إسْرَافٌ. وَمَنْ بَذَلَ
مَالًا كَثِيرًا فِي عَرَضٍ يَسِيرٍ فَإِنَّهُ يَعُدُّهُ
الْعُقَلَاءُ مُضَيِّعًا انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ
الْكَلَامُ فِي الزَّكَاةِ
(2/631)
(1370) - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
«رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ
اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ» أَخْرَجَهُ
التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
عَلَى التَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ الْمَالِ بِمَا فِيهِ
الْكِفَايَةُ.
[بِرّ الْوَالِدَيْنِ يَقْدَم عَلَى فروض الكفايات]
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «رِضَا اللَّهِ فِي
رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ
الْوَالِدَيْنِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ
ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ) الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى
وُجُوبِ إرْضَاءِ الْوَلَدِ لِوَالِدَيْهِ وَتَحْرِيمِ
إسْخَاطِهِمَا فَإِنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ مَرْضَاةُ اللَّهِ
وَالثَّانِيَ فِيهِ سَخَطُهُ فَيُقَدِّمُ رِضَاهُمَا عَلَى
فِعْلِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ
كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ جَاءَ رَجُلٌ
يَسْتَأْذِنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي
الْجِهَادِ فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاك؟ قَالَ: نَعَمْ
قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد
مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ إلَى
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مِنْ الْيَمَنِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي قَدْ
هَاجَرْت قَالَ: هَلْ لَك أَهْلٌ بِالْيَمَنِ؟ فَقَالَ:
أَبَوَايَ قَالَ أَذِنَا لَك؟ قَالَ لَا قَالَ فَارْجِعْ
فَاسْتَأْذِنْهُمَا فَإِنْ أَذِنَا لَك فَجَاهِدْ وَإِلَّا
فَبِرَّهُمَا» وَفِي إسْنَادِهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ
وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْجِهَادِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ
كَالْأَمِيرِ حُسَيْنٍ ذَكَرَهُ فِي الشِّفَاءِ
وَالشَّافِعِيُّ فَقَالُوا: يَتَعَيَّنُ تَرْكُ الْجِهَادِ
إذَا لَمْ يَرْضَ الْأَبَوَانِ إلَّا فَرْضَ الْعَيْنِ.
كَالصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تُقَدَّمُ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ
بِهَا الْأَبَوَانِ بِالْإِجْمَاعِ. وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ
إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ
وَالْمَنْدُوبِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الْأَبَوَانِ مَا لَمْ
يَتَضَرَّرَا بِسَبَبِ فَقَدْ الْوَلَدِ، وَحَمَلُوا
الْأَحَادِيثَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي حَقِّ
الْوَالِدَيْنِ، وَأَنَّهُ يَتْبَعُ رِضَاهُمَا مَا لَمْ
يَكُنْ فِي ذَلِكَ سَخَطُ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي
الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] قُلْت الْآيَةُ
إنَّمَا هِيَ فِيمَا إذَا حَمَلَاهُ عَلَى الشِّرْكِ
وَمِثْلُهُ غَيْرُهُ مِنْ الْكَبَائِرِ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ
عَلَى أَنَّهُ يُطِيعُهُمَا فِي تَرْكِ فَرْضِ
الْكِفَايَةِ وَالْعَيْنِ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ خَصَّصَ
فَرْضَ الْعَيْنِ وَأَمَّا إذَا تَعَارَضَ حَقُّ الْأَبِ
وَحَقُّ الْأُمِّ فَحَقُّ الْأُمِّ مُقَدَّمٌ لِحَدِيثِ
الْبُخَارِيِّ «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ
أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صُحْبَتِي قَالَ أُمُّك ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ أَبُوك» فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى
تَقْدِيمِ رِضَا الْأُمِّ عَلَى رِضَا الْأَبِ، قَالَ
ابْنُ بَطَّالٍ: مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ لِلْأُمِّ
ثَلَاثَةُ أَمْثَالِ مَا لِلْأَبِ، قَالَ: وَكَأَنَّ
ذَلِكَ لِصُعُوبَةِ الْحَمْلِ ثُمَّ الْوَضْعِ ثُمَّ
الرَّضَاعِ. قُلْت وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ
إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ
كُرْهًا} [الأحقاف: 15] وَمِثْلُهَا {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14] قَالَ الْقَاضِي
عِيَاضٌ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الْأُمَّ
تَفْضُلُ عَلَى الْأَبِ فِي الْبِرِّ وَنَقَلَ الْحَارِثُ
الْمُحَاسِبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا. وَاخْتَلَفُوا
(2/632)
(1371) - وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ:
«وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى
يُحِبَّ لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
فِي الْأَخِ وَالْجَدِّ مَنْ أَحَقُّ بِبِرِّهِ مِنْهُمَا؟
فَقَالَ الْقَاضِي: الْأَكْثَرُ الْجَدُّ وَجَزَمَ بِهِ
الشَّافِعِيَّةُ وَيُقَدِّمُ مَنْ أَدْلَى بِسَبَبَيْنِ
عَلَى مَنْ أَدْلَى بِسَبَبٍ ثُمَّ الْقَرَابَةَ مِنْ
ذَوِي الرَّحِمِ وَيُقَدِّمُ مِنْهُمْ الْمَحَارِمَ عَلَى
مَنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ ثُمَّ الْعَصَبَاتِ ثُمَّ
الْمُصَاهَرَةَ ثُمَّ الْوَلَاءَ ثُمَّ الْجَارَ.
وَأَشَارَ ابْنُ بَطَّالٍ إلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ حَيْثُ
لَا يُمْكِنُ الْبِرُّ دَفْعَةً وَاحِدَةً. وَوَرَدَ فِي
تَقْدِيمِ الزَّوْجِ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ
وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ
عَائِشَةَ «سَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى
الْمَرْأَةِ قَالَ: زَوْجُهَا قُلْت: فَعَلَى الرَّجُلِ:
قَالَ أُمُّهُ» وَلَعَلَّ مِثْلَ هَذَا مَخْصُوصٌ بِمَا
إذَا حَصَلَ التَّضَرُّرُ لِلْوَالِدَيْنِ فَإِنَّهُ
يُقَدَّمُ حَقُّهُمَا عَلَى حَقِّ الزَّوْجِ جَمْعًا
بَيْنَ الْأَحَادِيثِ.
[حَقّ الجار أَنْ يحب لأخيه مَا يحب لنفسه]
(وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَاَلَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ
لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)
الْحَدِيثُ وَقَعَ فِي لَفْظِ مُسْلِمٍ بِالشَّكِّ فِي
قَوْلِهِ لِأَخِيهِ أَوْ لِجَارِهِ. وَوَقَعَ فِي
الْبُخَارِيِّ لِأَخِيهِ بِغَيْرِ شَكٍّ. الْحَدِيثُ
دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ حَقِّ الْجَارِ وَالْأَخِ وَفِيهِ
نَفْيُ الْإِيمَانِ عَمَّنْ لَا يُحِبُّ لَهُمَا مَا
يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. وَتَأَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ
الْمُرَادَ مِنْهُ نَفْيُ كَمَالِ الْإِيمَانِ، إذْ قَدْ
عُلِمَ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ مَنْ لَمْ
يَتَّصِفْ بِذَلِكَ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْإِيمَانِ،
وَأُطْلِقَ الْمَحْبُوبُ وَلَمْ يُعَيَّنْ. وَقَدْ
عَيَّنَهُ مَا فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ بِلَفْظِ «حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ
الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» قَالَ الْعُلَمَاءُ:
وَالْمُرَادُ: مِنْ الطَّاعَاتِ وَالْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا قَدْ يُعَدُّ مِنْ
الصَّعْبِ الْمُمْتَنِعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ مَعْنَاهُ
لَا يَكْمُلُ إيمَانُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ
فِي الْإِسْلَامِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنْ الْخَيْرِ.
وَالْقِيَامُ بِذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَنْ يُحِبَّ لَهُ
مِثْلَ حُصُولِ ذَلِكَ مِنْ جِهَةٍ لَا يُزَاحِمُهُ فِيهَا
بِحَيْثُ لَا تُنْقِصُ النِّعْمَةُ عَلَى أَخِيهِ شَيْئًا
مِنْ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ سَهْلٌ عَلَى
الْقَلْبِ السَّلِيمِ وَإِنَّمَا يَعْسُرُ عَلَى الْقَلْبِ
الدَّغِلِ. عَافَانَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا أَجْمَعِينَ.
ا. هـ.
هَذَا عَلَى رِوَايَةِ الْأَخِ. وَرِوَايَةُ الْجَارِ
عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ
وَالصِّدِّيقِ وَالْعَدُوِّ وَالْقَرِيبِ وَالْأَجْنَبِيِّ
وَالْأَقْرَبِ جِوَارًا وَالْأَبْعَدِ فَمَنْ اجْتَمَعَتْ
فِيهِ الصِّفَاتُ الْمُوجِبَةُ لِمَحَبَّةِ الْخَيْرِ لَهُ
فَهُوَ فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ، وَمَنْ كَانَ فِيهِ
أَكْثَرُهَا فَهُوَ لَاحِقٌ بِهِ وَهَلُمَّ جَرًّا إلَى
الْخَصْلَةِ الْوَاحِدَةِ فَيُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ
بِحَسَبِ حَالِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ
حَدِيثِ جَابِرٍ «الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ
وَهُوَ الْمُشْرِكُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَجَارٌ لَهُ
حَقَّانِ وَهُوَ الْمُسْلِمُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ
وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ
جَارٌ مُسْلِمٌ لَهُ رَحِمٌ لَهُ
(2/633)
(1372) - وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الذَّنْبِ
أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ
خَلَقَك قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك
خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَك قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ:
أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
حَقُّ الْإِسْلَامِ وَالرَّحِمِ وَالْجِوَارِ» وَأَخْرَجَ
الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ أَنَّ عَبْدَ
اللَّهَ بْنَ عُمَرَ ذَبَحَ شَاةً فَأَهْدَى مِنْهَا
لِجَارِهِ الْيَهُودِيِّ. فَإِنْ كَانَ الْجَارُ أَخًا
أَحَبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ
كَافِرًا أَحَبَّ لَهُ الدُّخُولَ فِي الْإِيمَانِ مَعَ
مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنْ الْمَنَافِعِ بِشَرْطِ
الْإِيمَانِ قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي
جَمْرَةَ: حِفْظُ حَقِّ الْجَارِ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ
وَالْإِضْرَارُ بِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ لِقَوْلِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ
بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ»
قَالَ: وَيَفْتَرِقُ الْحَالُ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ
إلَى الْجَارِ الصَّالِحِ وَغَيْرِهِ.
وَاَلَّذِي يَشْمَلُ الْجَمِيعَ إرَادَةُ الْخَيْرِ
وَمَوْعِظَتُهُ بِالْحُسْنَى وَالدُّعَاءُ لَهُ
بِالْهِدَايَةِ وَتَرْكُ الْإِضْرَارِ لَهُ إلَّا فِي
الْمَوْضِعِ الَّذِي يَحِلُّ لَهُ الْإِضْرَارُ
بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَاَلَّذِي يَخُصُّ الصَّالِحَ
هُوَ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ وَغَيْرَ الصَّالِحِ كَفُّهُ
عَنْ الْأَذَى وَأَمْرُهُ بِالْحُسْنَى عَلَى حَسَبِ
مَرَاتِبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ
الْمُنْكَرِ. وَالْكَافِرُ يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِ
وَالتَّرْغِيبُ فِيهِ بِرِفْقٍ. وَالْفَاسِقُ يَعِظُهُ
بِمَا يُنَاسِبُهُ بِالرِّفْقِ وَيَسْتُرُ عَلَيْهِ
زَلَلَهُ وَيَنْهَاهُ بِالرِّفْقِ فَإِنْ نَفَعَ وَإِلَّا
هَجَرَهُ قَاصِدًا تَأْدِيبَهُ بِذَلِكَ مَعَ إعْلَامِهِ
بِالسَّبَبِ لِيَكُفَّ. وَيُقَدِّمُ عِنْدَ التَّعَارُضِ
مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ بَابًا كَمَا فِي حَدِيثِ
عَائِشَةَ «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي جَارَيْنِ
فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي قَالَ: إلَى أَقْرَبِهِمَا
بَابًا» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالْحِكْمَةُ فِيهِ
أَنَّ الْأَقْرَبَ بَابًا يَرَى مَا يَدْخُلُ بَيْتَ
جَارِهِ مِنْ هَدِيَّةٍ وَغَيْرِهَا فَيَتَشَوَّفُ لَهُ
بِخِلَافِ الْأَبْعَدِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ حَدَّ الْجَارِ
أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَجَاءَ عَنْ
عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " مَنْ سَمِعَ
النِّدَاءَ فَهُوَ جَارٌ " وَقِيلَ: مَنْ صَلَّى مَعَك
صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ جَارٌ.
[أَعْظَمُ الذَّنْبِ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا]
(وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ:
«سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ
تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا هُوَ الشَّبَهُ وَيُقَالُ لَهُ:
نِدٌّ وَنَدِيدٌ وَهُوَ خَلَقَك قُلْت ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ:
أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَك.
قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ
بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الزَّوْجَةُ جَارِك»
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ تَعَالَى: {فَلا تَجْعَلُوا
لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا
تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام: 151]
وَالْآيَةُ الْأُخْرَى {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31]
وَقَوْلُهُ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك أَيْ
بِزَوْجَتِهِ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ وَعَبَّرَ بِتُزَانِيَ؛
لِأَنَّ مَعْنَاهُ تَزْنِي بِهَا بِرِضَاهَا. وَفِيهِ
فَاحِشَةُ الزِّنَى وَإِفْسَادُ الْمَرْأَةِ عَلَى
زَوْجِهَا وَاسْتِمَالَةُ قَلْبِهَا إلَى غَيْرِهِ وَكُلُّ
ذَلِكَ فَاحِشَةٌ عَظِيمَةٌ
(2/634)
(1373) - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ: «مِنْ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ
قِيلَ: وَهَلْ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ:
نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ الرَّجُلُ
أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ» مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ.
(1374) - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ
أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ: يَلْتَقِيَانِ،
فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا
الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
وَكَوْنُهَا حَلِيلَةَ الْجَارِ أَعْظَمُ؛ لِأَنَّ
الْجَارَ يَتَوَقَّعُ مِنْ جَارِهِ الذَّبَّ عَنْهُ وَعَنْ
حَرِيمِهِ وَيَأْمَنُ بَوَائِقَهُ وَيَرْكَنُ إلَيْهِ
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِرِعَايَةِ حَقِّهِ
وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِ فَإِذَا قَابَلَ هَذَا بِالزِّنَى
بِامْرَأَتِهِ وَإِفْسَادِهَا عَلَيْهِ مَعَ تَمَكُّنِهِ
مِنْهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ غَيْرُهُ
كَانَ غَايَةً فِي الْقُبْحِ. وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّ أَعْظَمَ الْمَعَاصِي الشِّرْكُ ثُمَّ الْقَتْلُ
بِغَيْرِ حَقٍّ وَعَلَيْهِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ
تَخْتَلِفُ الْكَبَائِرُ بِاخْتِلَافِ مَفَاسِدِهَا
النَّاشِئَةِ عَنْهَا.
[مِنْ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ]
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ: «مِنْ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ
قِيلَ: وَهَلْ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ:
نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ الرَّجُلُ
أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ» مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ) قَوْلُهُ: شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ أَيْ
يَتَسَبَّبُ إلَى شَتْمِهِمَا فَهُوَ مِنْ الْمَجَازِ
الْمُرْسَلِ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ الْمُسَبَّبَ فِي
السَّبَبِ وَقَدْ بَيَّنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بِجَوَابِهِ عَمَّنْ سَأَلَهُ بِقَوْلِهِ
(نَعَمْ) وَفِيهِ تَحْرِيمُ التَّسَبُّبِ إلَى أَذِيَّةِ
الْوَالِدَيْنِ وَشَتْمِهِمَا وَيَأْثَمُ الْغَيْرُ
بِسَبِّهِ لَهُمَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا الْحَدِيثُ
أَصْلٌ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ
إنْ آلَ أَمْرُهُ إلَى مُحَرَّمٍ حَرُمَ عَلَيْهِ
الْفِعْلُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْمُحَرَّمَ، وَعَلَيْهِ
دَلَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا
بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ
الْمَاوَرْدِيُّ تَحْرِيمَ بَيْعِ الثَّوْبِ الْحَرِيرِ
إلَى مَنْ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ لُبْسُهُ وَالْغُلَامِ
الْأَمْرَدِ إلَى مَنْ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ فِعْلُ
الْفَاحِشَةِ وَالْعَصِيرِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا.
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُعْمَلُ
بِالْغَالِبِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ
قَدْ لَا يُجَازِيهِ بِالسَّبِّ لَكِنَّ الْغَالِبَ هُوَ
الْمُجَازَاةُ.
[تَحْرِيمُ هِجْرَان الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ]
(وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ
(2/635)
(1375) - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ»
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا
وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ
بِالسَّلَامِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) نَفْيُ الْحِلِّ دَالٌّ
عَلَى التَّحْرِيمِ فَيَحْرُمُ هِجْرَانُ الْمُسْلِمِ
فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَدَلَّ مَفْهُومُهُ عَلَى
جَوَازِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَحِكْمَةُ جَوَازِ ذَلِكَ
هَذِهِ الْمُدَّةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى
الْغَضَبِ وَسُوءِ الْخُلُقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعُفِيَ
لَهُ هَجْرُ أَخِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِيَذْهَبَ ذَلِكَ
الْعَارِضُ تَخْفِيفًا عَلَى الْإِنْسَانِ وَدَفْعًا
لِلْإِضْرَارِ بِهِ فَفِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ يَسْكُنُ
غَضَبُهُ وَفِي الثَّانِي يُرَاجِعُ نَفْسَهُ وَفِي
الثَّالِثِ يَعْتَذِرُ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ
قَطْعًا لِحُقُوقِ الْأُخُوَّةِ وَقَدْ فَسَّرَ مَعْنَى
الْهَجْرِ بِقَوْلِهِ (يَلْتَقِيَانِ - إلَى آخِرِهِ)
وَهُوَ الْغَالِبُ مِنْ حَالِ الْمُتَهَاجِرَيْنِ عِنْدَ
اللِّقَاءِ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى زَوَالِ الْهَجْرِ
لَهُ بِرَدِّ السَّلَامِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ
وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِمَا
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ
عَمِّ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ مَوْقُوفٍ:
وَفِيهِ " وَرُجُوعُهُ أَنْ يَأْتِيَ فَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ
" قَالَ أَحْمَدُ وَابْنُ الْقَاسِمِ إنْ كَانَ يُؤْذِيهِ
تَرْكُ الْكَلَامِ، فَلَا يَكْفِيهِ رَدُّ السَّلَامِ بَلْ
لَا بُدَّ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى الْحَالِ الَّذِي كَانَ
بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ يَنْظُرُ إلَى حَالِ الْمَهْجُورِ
فَإِنْ كَانَ خِطَابُهُ بِمَا زَادَ عَلَى السَّلَامِ
عِنْدَ اللِّقَاءِ بِمَا تَطِيبُ بِهِ نَفْسُهُ وَيُزِيلُ
عِلَّةَ الْهَجْرِ كَانَ مِنْ تَمَامِ الْوَصْلِ وَتَرْكِ
الْهَجْرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ كَفَى
السَّلَامُ، وَأَمَّا فَوْقَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَقَالَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ
الْهَجْرُ فَوْقَ ثَلَاثٍ لِمَنْ كَانَتْ مُكَالَمَتُهُ
تَجْلِبُ نَقْصًا عَلَى الْمُخَاطَبِ لَهُ فِي دِينِهِ
أَوْ مَضَرَّةً تَحْصُلُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ
دُنْيَاهُ فَرُبَّ هَجْرٍ جَمِيلٍ خَيْرٌ مِنْ مُخَالَطَةٍ
مُؤْذِيَةٍ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَجْرِ مَنْ
يَأْتِي مَا يُلَامُ عَلَيْهِ شَرْعًا وَقَدْ وَقَعَ مِنْ
السَّلَفِ التَّهَاجُرُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ. وَقَدْ
عَدَّ الشَّارِحُ جَمَاعَةً مِنْ أُولَئِكَ يُسْتَنْكَرُ
صُدُورُهُ مِنْ أَمْثَالِهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ وَلَهُمْ
أَعْذَارٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَالْحَمْلُ عَلَى
السَّلَامَةِ مُتَعَيِّنٌ، وَالْعِبَادُ مَظِنَّةُ
الْمُخَالَفَةِ وَأَمَّا قَوْلُ الذَّهَبِيِّ إنَّهُ لَا
يُقْبَلُ جَرْحُ الْأَقْرَانِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
سِيَّمَا السَّلَفُ قَالَ: وَحَدُّهُمْ رَأْسُ
ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ الْهِجْرَةِ فَقَدْ بَيَّنَّا
اخْتِلَالَ مَا قَالَ فِي ثَمَرَاتِ النَّظَرِ فِي عِلْمِ
الْأَثَرِ وَقَدْ نَقَلَ فِي الشَّرْحِ قَضَايَا كَثِيرَةً
لَا يَحْسُنُ ذِكْرُهَا إذْ طَيُّ مَا لَا يَحْسُنُ
ذِكْرُهُ لَا يَحْسُنُ نَشْرُهُ. .
[الصَّدَقَة لَا تنحصر فِي الْمَال وَلَا فِي أَهْل
الْيَسَار]
(وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ)
الْمَعْرُوفُ ضِدُّ الْمُنْكَرِ قَالَ ابْنُ أَبِي
جَمْرَةَ يُطْلَقُ اسْمُ الْمَعْرُوفِ عَنْ مَا عُرِفَ
بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ
سَوَاءٌ جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ أَمْ لَا فَإِنْ
قَارَنَتْهُ النِّيَّةُ أُجِرَ صَاحِبُهُ جَزْمًا وَإِلَّا
فَفِيهِ احْتِمَالٌ وَالصَّدَقَةُ هِيَ مَا يُعْطِيهِ
الْمُتَصَدِّقُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَشْمَلُ الْوَاجِبَةَ
وَالْمَنْدُوبَةَ
(2/636)
(1376) - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ
الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاك
بِوَجْهٍ طَلْقٍ» .
(1377) - وَعَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«إذَا طَبَخْت مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ
جِيرَانَك» أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ.
(1378) - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ
كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ
كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى
مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ
الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَدَقَةٌ مِنْ بَابِ
التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، وَهُوَ إخْبَارٌ بِأَنَّ لَهُ
حُكْمُ الصَّدَقَةِ فِي الثَّوَابِ، وَأَنَّهُ لَا
يَحْتَقِرُ الْفَاعِلُ شَيْئًا مِنْ الْمَعْرُوفِ وَلَا
يَبْخَلُ بِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ «إنَّ كُلَّ تَسْبِيحَةٍ
صَدَقَةٌ وَكُلَّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ وَالْأَمْرُ
بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ
صَدَقَةٌ» وَقَالَ «فِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ،
وَالْإِمْسَاكُ عَنْ الشَّرِّ صَدَقَةٌ» وَغَيْرُ ذَلِكَ
مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَفْظُ كُلِّ مَعْرُوفٍ
عَامٌّ. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ
مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ «تَبَسُّمُك فِي
وَجْهِ أَخِيك صَدَقَةٌ لَك، وَأَمْرُك بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهْيُك عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ لَك، وَإِرْشَادُك
الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالَةِ صَدَقَةٌ لَك،
وَإِمَاطَتُك الْحَجَرَ وَالشَّوْكَ وَالْعَظْمَ عَنْ
الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ لَك، وَإِفْرَاغُك مِنْ دَلْوِك إلَى
دَلْوِ أَخِيك صَدَقَةٌ» وَأَخْرَجَهُ ابْن حِبَّانَ فِي
صَحِيحِهِ. وَفِي الْأَحَادِيثِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ
الصَّدَقَةَ لَا تَنْحَصِرُ فِيمَا هُوَ أَصْلُهَا، وَهُوَ
مَا أَخْرَجَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ مُتَطَوِّعًا
فَلَا تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْيَسَارِ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ
قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهَا فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ
مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ
الْإِنْسَانُ أَوْ يَقُولُهُ مِنْ الْخَيْرِ يُكْتَبُ لَهُ
بِهِ صَدَقَةٌ.
[التَّرْغِيب فِي التَّفْرِيج عَنْ الْمُسْلِم]
(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا
وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاك بِوَجْهٍ طَلْقٍ» بِإِسْكَانِ
اللَّامِ وَيُقَالُ طَلِيقٌ وَالْمُرَادُ سَهْلٌ
مُنْبَسِطٌ.
(وَعَنْهُ) أَيْ أَبِي ذَرٍّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا
طَبَخْت مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ
جِيرَانَك» . أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ) فِيهِمَا الْحَثُّ
عَلَى فِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَلَوْ بِطَلَاقَةِ الْوَجْهِ
وَالْبِشْرِ وَالِابْتِسَامِ فِي وَجْهِ مَنْ يُلَاقِيهِ
مِنْ إخْوَانِهِ. وَفِيهِ الْوَصِيَّةُ بِحَقِّ الْجَارِ
وَتَعَاهُدُهُ وَلَوْ بِمَرَقَةٍ تُهْدِيهَا إلَيْهِ.
(2/637)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
[اللَّه فِي عون الْعَبْد مَا كَانَ الْعَبْد فِي عون
أخيه]
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: مَنْ نَفَّسَ) لَفْظُ مُسْلِمٍ «مَنْ فَرَّجَ
عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ
اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» هَذَا لَيْسَ فِي مُسْلِمٍ
كَمَا قَالَ الشَّارِحُ وَقَدْ أَخْرَجَهُ غَيْرُهُ
«وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ
الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ) .
الْحَدِيثُ فِيهِ مَسَائِلُ (الْأُولَى) فَضِيلَةُ مَنْ
فَرَّجَ عَنْ الْمُسْلِمِ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا
وَتَفْرِيجُهَا إمَّا بِإِعْطَائِهِ مِنْ مَالِهِ إنْ
كَانَتْ كُرْبَتُهُ مِنْ حَاجَةٍ أَوْ بَذْلِ جَاهِهِ فِي
طَلَبِهِ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ قَرْضِهِ، وَإِنْ
كَانَتْ كُرْبَتُهُ مِنْ ظُلْمِ ظَالِمٍ لَهُ فَرَّجَهَا
بِالسَّعْيِ فِي رَفْعِهَا عَنْهُ أَوْ تَخْفِيفِهَا
وَإِنْ كَانَتْ كُرْبَةَ مَرَضٍ أَصَابَهُ أَعَانَهُ عَلَى
الدَّوَاءِ إنْ كَانَ لَدَيْهِ أَوْ طَبِيبٍ يَنْفَعُهُ،
وَبِالْجُمْلَةِ تَفْرِيجُ الْكُرَبِ بَابٌ وَاسِعٌ
فَإِنَّهُ يَشْمَلُ إزَالَةَ كُلِّ مَا يَنْزِلُ
بِالْعَبْدِ أَوْ تَخْفِيفَهُ.
(الثَّانِيَةُ) التَّيْسِيرُ عَلَى الْمُعْسِرِ هُوَ
أَيْضًا مِنْ تَفْرِيجِ الْكُرَبِ وَإِنَّمَا خَصَّهُ؛
لِأَنَّهُ أَبْلَغُ وَهُوَ إنْظَارُهُ لِغَرِيمِهِ فِي
الدَّيْنِ أَوْ إبْرَاؤُهُ لَهُ مِنْهُ أَوْ غَيْرُ
ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُيَسِّرُ لَهُ عَلَيْهِ
أُمُورَهُ وَيُسَهِّلُهَا لَهُ لِتَسْهِيلِهِ لِأَخِيهِ
فِيمَا عِنْدَهُ لَهُ. وَالتَّيْسِيرُ لِأُمُورِ
الْآخِرَةِ بِأَنْ يُهَوِّنَ عَلَيْهِ الْمَشَاقَّ فِيهَا
وَيُرَجِّحَ وَزْنَ الْحَسَنَاتِ وَيُلْقِيَ فِي قُلُوبِ
مَنْ لَهُمْ عِنْدَهُ حَقٌّ يَجِبُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ
فِي الْآخِرَةِ الْمُسَامَحَةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُؤْخَذُ
مِنْهُ أَنَّ مَنْ عَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ عُسِّرَ
عَلَيْهِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَى مَنْ
عَسَّرَ عَلَى مُوسِرٍ؛ لِأَنَّ مَطْلَهُ ظُلْمٌ يُحِلُّ
عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ.
(وَالثَّالِثَةُ) مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا اطَّلَعَ مِنْهُ
عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي إظْهَارُهُ مِنْ الزَّلَّاتِ
وَالْعَثَرَاتِ فَإِنَّهُ مَأْجُورٌ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ
سَتْرِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَيَسْتُرُهُ فِي
الدُّنْيَا بِأَنْ لَا يَأْتِيَ زَلَّةً يَكْرَهُ
اطِّلَاعَ غَيْرِهِ عَلَيْهَا، وَإِنْ أَتَاهَا لَمْ
يُطْلِعْ اللَّهُ عَلَيْهَا أَحَدًا، وَسَتَرَهُ فِي
الْآخِرَةِ بِالْمَغْفِرَةِ لِذُنُوبِهِ وَعَدَمِ إظْهَارِ
قَبَائِحِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ «حَثَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَلَى السَّتْرِ
لِلْمُسْلِمِ فَقَالَ: فِي حَقِّ مَاعِزٍ هَلَّا سَتَرْت
عَلَيْهِ بِرِدَائِك يَا هُزَالُ» وَقَالَ الْعُلَمَاءُ:
وَهَذَا السَّتْرُ مَنْدُوبٌ لَا وَاجِبٌ فَلَوْ رَفَعَهُ
إلَى السُّلْطَانِ كَانَ جَائِزًا لَهُ وَلَا يَأْثَمُ
بِهِ. قُلْت: وَدَلِيلُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَلُمْ هُزَالًا وَلَا أَبَانَ
لَهُ أَنَّهُ آثِمٌ بَلْ حَرَّضَهُ عَلَى أَنَّهُ
يَنْبَغِي لَهُ سَتْرُهُ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَابَ
وَأَقْلَعَ حَرُمَ عَلَيْهِ ذِكْرُ مَا وَقَعَ مِنْهُ
وَوَجَبَ عَلَيْهِ سَتْرُهُ وَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ لَا
يُعْرَفُ بِالْفَسَادِ وَالتَّمَادِي فِي الطُّغْيَانِ،
وَأَمَّا مَنْ عُرِفَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ
السَّتْرُ عَلَيْهِ بَلْ يُرْفَعُ أَمْرُهُ إلَى مَنْ لَهُ
الْوِلَايَةُ إذَا لَمْ يَخَفْ مِنْ ذَلِكَ مَفْسَدَةً،
وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّتْرَ عَلَيْهِ يُغْرِيهِ عَلَى
الْفَسَادِ وَيُجَرِّئُهُ عَلَى أَذِيَّةِ الْعِبَادِ
وَيُجَرِّئُ غَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّرِّ وَالْعِنَادِ
وَهَذَا بَعْدَ انْقِضَاءِ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ فَأَمَّا
إذَا رَآهُ، وَهُوَ فِيهَا فَالْوَاجِبُ الْمُبَادَرَةُ
لِإِنْكَارِهَا وَالْمَنْعُ مِنْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ
عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَحِلُّ تَأْخِيرُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ
بَابِ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ لَا يَحِلُّ تَرْكُهُ مَعَ
الْإِمْكَانِ وَأَمَّا إذَا رَآهُ يَسْرِقُ مَالَ زَيْدٍ
فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إخْبَارُ زَيْدٍ بِذَلِكَ أَوْ
سَتْرُ السَّارِقِ؟ الظَّاهِرُ
(2/638)
(1379) - وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ
فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
(1380) - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ: «مَنْ اسْتَعَاذَكُمْ بِاَللَّهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إخْبَارُ زَيْدٍ وَإِلَّا كَانَ
مُعِينًا لِلسَّارِقِ بِالْكَتْمِ مِنْهُ عَلَى الْإِثْمِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى
الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وَأَمَّا جَرْحُ
الشُّهُودِ وَالرُّوَاةِ وَالْأُمَنَاءِ عَلَى
الْأَوْقَافِ وَالصَّدَقَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ
مِنْ بَابِ نَصِيحَةِ الْمُسْلِمِينَ الْوَاجِبَةِ عَلَى
كُلِّ مَنْ اطَّلَعَ عَلَيْهَا وَلَيْسَ مِنْ الْغِيبَةِ
الْمُحَرَّمَةِ بَلْ مِنْ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ
وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ (الرَّابِعَةُ) الْإِخْبَارُ
بِأَنَّ «اللَّهَ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ
الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى
أَنَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى إعَانَةَ مَنْ أَعَانَ
أَخَاهُ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَتَوَلَّى عَوْنَهُ
فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ الَّتِي يَسْعَى فِيهَا، وَفِي
حَوَائِجِ نَفْسِهِ فَيَنَالُ مِنْ عَوْنِ اللَّهِ مَا
لَمْ يَكُنْ يَنَالُهُ بِغَيْرِ إعَانَتِهِ، وَإِنْ كَانَ
تَعَالَى هُوَ الْمُعِينُ لِعَبْدِهِ فِي كُلِّ أُمُورِهِ
لَكِنْ إذَا كَانَ فِي عَوْنِ أَخِيهِ زَادَتْ إعَانَةُ
اللَّهِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ
أَنْ يَشْتَغِلَ بِقَضَاءِ حَوَائِجِ أَخِيهِ
فَيُقَدِّمُهَا عَلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ لِيَنَالَ مِنْ
اللَّهِ كَمَالَ الْإِعَانَةِ فِي حَاجَاتِهِ وَهَذِهِ
الْجُمَلُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ دَلَّتْ عَلَى
أَنَّهُ تَعَالَى يُجَازِي الْعَبْدَ مِنْ جِنْسِ فِعْلِهِ
فَمَنْ سَتَرَ سُتِرَ عَلَيْهِ وَمَنْ يَسَّرَ يُسِّرَ
عَلَيْهِ وَمَنْ أَعَانَ أُعِينَ. ثُمَّ إنَّهُ تَعَالَى
بِفَضْلِهِ وَكَرْمِهِ جَعَلَ الْجَزَاءَ فِي الدَّارَيْنِ
فِي حَقِّ الْمُيَسِّرِ عَلَى الْمُعْسِرِ وَالسَّاتِرِ
لِلْمُسْلِمِ وَجَعَلَ تَفْرِيجَ الْكُرْبَةِ يُجَازَى
بِهِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ لِعَظَائِمِ
يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَخَّرَ عَزَّ وَجَلَّ جَزَاءَ
تَفْرِيجِ الْكُرْبَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرِّجَ
عَنْهُ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا لَكِنَّهُ طُوِيَ فِي
الْحَدِيثِ وَذُكِرَ مَا هُوَ أَهَمُّ.
(وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ
أَجْرِ فَاعِلِهِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ) دَلَّ الْحَدِيثُ
عَلَى أَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى الْخَيْرِ يُؤْجَرُ بِهَا
الدَّالُّ عَلَيْهِ كَأَجْرِ فَاعِلِ الْخَيْرِ، وَهُوَ
مِثْلُ حَدِيثِ «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فِي
الْإِسْلَامِ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ
بِهَا» وَالدَّلَالَةُ تَكُونُ بِالْإِشَارَةِ عَلَى
الْغَيْرِ بِفِعْلِ الْخَيْرِ، وَعَلَى إرْشَادِ
مُلْتَمِسِ الْخَيْرِ عَلَى أَنَّهُ يَطْلُبُهُ مِنْ
فُلَانٍ وَالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ وَتَأْلِيفِ
الْعُلُومِ النَّافِعَةِ. وَلَفْظُ خَيْرٍ يَشْمَلُ
الدَّلَالَةَ عَلَى خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
فَلِلَّهِ دَرُّ الْكَلَامِ النَّبَوِيِّ مَا أَشْمَلَ
مَعَانِيَهُ وَأَوْضَحَ مَبَانِيَهُ وَدَلَالَتَهُ عَلَى
خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
(2/639)
فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاَللَّهِ فَأَعْطُوهُ،
وَمَنْ أَتَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ
لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ» أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
[المكافأة عَلَى الْمَعْرُوف]
(وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
«مَنْ اسْتَعَاذَكُمْ بِاَللَّهِ فَأَعِيذُوهُ وَمَنْ
سَأَلَكُمْ بِاَللَّهِ فَأَعْطُوهُ وَمَنْ أَتَى إلَيْكُمْ
مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا
لَهُ» أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ) وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو
دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ
وَفِيهِ زِيَادَةُ «وَمَنْ اسْتَجَارَ بِاَللَّهِ
فَأَجِيرُوهُ وَمَنْ أَتَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا
فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ حَتَّى
تَعْلَمُوا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ وَفِي رِوَايَةٍ
فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ مُكَافَأَتِهِ فَادْعُوا لَهُ
حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ شَكَرْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ» وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ
وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ «مَنْ أَعْطَى عَطِيَّةً فَوَجَدَ
فَلْيَجْزِ بِهَا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُثْنِ فَإِنَّ
مَنْ أَثْنَى فَقَدْ شَكَرَ، وَمَنْ كَتَمَ فَقَدْ كَفَرَ،
وَمَنْ تَحَلَّى بِبَاطِلٍ فَهُوَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ
زُورٍ» وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَنْ
اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ عَنْ أَيِّ أَمْرٍ طُلِبَ مِنْهُ
غَيْرِ وَاجِبٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُعَاذُ وَيَتْرُكُ مَا
طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يَفْعَلَ، وَأَنَّهُ يَجِبُ إعْطَاءُ
مَنْ سَأَلَ بِاَللَّهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ أَنَّهُ
لَا يُسْأَلُ بِاَللَّهِ إلَّا الْجَنَّةُ فَمَنْ سَأَلَ
مِنْ الْمَخْلُوقِينَ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَجَبَ
إعْطَاؤُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْ إعْطَائِهِ
وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ
رِجَالُ الصَّحِيحِ إلَّا شَيْخَهُ - وَهُوَ ثِقَةٌ عَلَى
كَلَامٍ فِيهِ - مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ
أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَلْعُونٌ مَنْ سَأَلَ بِوَجْهِ
اللَّهِ. وَمَلْعُونٌ مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ اللَّهِ ثُمَّ
مَنَعَ سَائِلَهُ مَا لَمْ يُسْأَلْ هُجْرًا» بِضَمِّ
الْهَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ أَيْ أَمْرًا قَبِيحًا لَا
يَلِيقُ وَيَحْتَمِلُ مَا لَمْ يَسْأَلْ سُؤَالًا قَبِيحًا
أَيْ بِكَلَامٍ يَقْبُحُ وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ حَمَلُوا
هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ
يُرَادُ بِهِ الْمُضْطَرُّ، وَيَكُونُ ذِكْرُهُ هُنَا
أَنَّ مَنْعَهُ مَعَ سُؤَالِهِ بِاَللَّهِ أَقْبَحُ
وَأَفْظَعُ وَيُحْمَلُ لَعْنُ السَّائِلِ عَلَى مَا إذَا
أَلَحَّ فِي الْمَسْأَلَةِ حَتَّى أَضْجَرَ الْمَسْئُولَ
وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى وُجُوبِ الْمُكَافَأَةِ
لِلْمُحْسِنِ إلَّا إذَا لَمْ يَجِدْ فَإِنَّهُ
يُكَافِئُهُ بِالدُّعَاءِ وَأَجْزَأَهُ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ
قَدْ طَابَتْ نَفْسُهُ أَوْ لَمْ تَطِبْ بِهِ، وَهُوَ
ظَاهِرُ الْحَدِيثِ. |