شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك

 [كِتَاب الْاعْتِكَافِ] [بَاب ذِكْرِ الْاعْتِكَافِ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَاب الْاعْتِكَافِ بَاب ذِكْرِ الْاعْتِكَافِ
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إِلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
19 - كِتَابُ الِاعْتِكَافِ
هُوَ لُغَةً: لُزُومُ الشَّيْءِ وَحَبْسُ النَّفْسِ عَلَيْهِ خَيْرًا أَوْ شَرًّا: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] (سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 187) ، {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] (سُورَةُ الْأَعْرَافِ: الْآيَةُ 138) ، وَشَرْعًا: لُزُومُ الْمَسْجِدِ لِلْعِبَادَةِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ إِجْمَاعًا، أَوْ قَطْعُهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ عِنْدَ قَوْمٍ.
1 - بَابُ ذِكْرِ الِاعْتِكَافِ
693 - 688 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ) كَذَا لِلْجُمْهُورِ، وَلِابْنِ مَهْدِيٍّ وَجَمَاعَةٍ: مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ لَمْ يَذْكُرُوا عَمْرَةَ كَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَرَوَاهُ أَبُو مُصْعَبٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ وَعَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ كِلَاهُمَا عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ الْحَافِظُ: جَمَعَ بَيْنَهُمَا اللَّيْثُ، وَرَوَاهُ يُونُسُ وَالْأَوْزَاعِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ وَحْدَهُ، وَمَالِكٌ عَنْهُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَمْرَةَ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ: لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ تَابَعَهُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ أَبَا أُوَيْسٍ تَابَعَهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَأَنَّ الْبَاقِينَ اخْتَصَرُوا ذِكْرَ عَمْرَةَ، وَأَنَّ ذِكْرَهَا فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ، وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْهُ فَوَافَقَ اللَّيْثَ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَلَهُ أَصْلٌ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ

(2/303)


(زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي) يُقَرِّبُ (إِلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ) أُمَشِّطُ شَعْرَهُ وَأُنَظِّفُهُ وَأُحَسِّنُهُ، فَهُوَ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ لِأَنَّ التَّرْجِيلَ لِلشَّعْرِ لَا لِلرَّأْسِ، أَوْ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: التَّرْجِيلُ أَنْ يُبَلَّ الشَّعْرُ ثُمَّ يُمَشَّطُ، وَفِيهِ أَنَّ إِخْرَاجَ الْبَعْضِ لَا يَجْرِي مَجْرَى الْكُلِّ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ: " وَأَنَا حَائِضٌ "، وَفِيهِ: أَنَّ الْحَائِضَ طَاهِرَةٌ، وَأَنَّ يَدَيِ الْمَرْأَةِ لَيْسَتَا بِعَوْرَةٍ إِذْ لَوْ كَانَا عَوْرَةً مَا بَاشَرَتْهُ بِهِمَا فِي اعْتِكَافِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] (سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 187) انْتَهَى.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: فِيهِ إِبَاحَةُ تَنَاوُلِ الْمَرْأَةِ رَأْسَ زَوْجِهَا وَتَرْجِيلِهِ وَلَمْسِ جِلْدِهِ بِغَيْرِ لَذَّةٍ وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مُبَاشَرَتُهَا بِلَذَّةٍ.
(وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ) أَيِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ كَمَا فَسَّرَهَا الزُّهْرِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَى اسْتِثْنَائِهِمَا.
قَالَ الْبَاجِيُّ: وَيَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَغُسْلُ الْجَنَابَةِ وَالْجُمُعَةِ مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ وَلَا يُفْعَلُ فِي الْمَسْجِدِ، أَمَّا الْأَكْلُ فَيُبَاحُ فِيهِ فَإِنْ خَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ بِهِ كَرِوَايَةِ الْجُمْهُورِ.

(2/304)


وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ إِذَا اعْتَكَفَتْ لَا تَسْأَلُ عَنْ الْمَرِيضِ إِلَّا وَهِيَ تَمْشِي لَا تَقِفُ قَالَ مَالِكٌ لَا يَأْتِي الْمُعْتَكِفُ حَاجَتَهُ وَلَا يَخْرُجُ لَهَا وَلَا يُعِينُ أَحَدًا إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَلَوْ كَانَ خَارِجًا لِحَاجَةِ أَحَدٍ لَكَانَ أَحَقَّ مَا يُخْرَجُ إِلَيْهِ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجَنَائِزِ وَاتِّبَاعُهَا قَالَ مَالِكٌ لَا يَكُونُ الْمُعْتَكِفُ مُعْتَكِفًا حَتَّى يَجْتَنِبَ مَا يَجْتَنِبُ الْمُعْتَكِفُ مِنْ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَدُخُولِ الْبَيْتِ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ قَالَ مَالِكٌ لَا يَأْتِي الْمُعْتَكِفُ حَاجَتَهُ وَلَا يَخْرُجُ لَهَا وَلَا يُعِينُ أَحَدًا إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَلَوْ كَانَ خَارِجًا لِحَاجَةِ أَحَدٍ لَكَانَ أَحَقَّ مَا يُخْرَجُ إِلَيْهِ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجَنَائِزِ وَاتِّبَاعُهَا قَالَ مَالِكٌ لَا يَكُونُ الْمُعْتَكِفُ مُعْتَكِفًا حَتَّى يَجْتَنِبَ مَا يَجْتَنِبُ الْمُعْتَكِفُ مِنْ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَدُخُولِ الْبَيْتِ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
694 - 689 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْأَنْصَارِيَّةِ (أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ إِذَا اعْتَكَفَتْ لَا تَسْأَلُ عَنِ الْمَرِيضِ إِلَّا وَهِيَ تَمْشِي لَا تَقِفُ) لِأَنَّ الْوُقُوفَ مِنْ مَعْنَى الْعِيَادَةِ وَلَا تَجُوزُ كَحُضُورِ جِنَازَةٍ وَطَلَبِ دَيْنٍ وَاسْتِيفَاءِ حَدٍّ وَجَبَ لَهُ فَإِنْ فَعَلَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ أَوِ الدَّيْنُ عَلَيْهِ فَأُخْرِجَ لِذَلِكَ كُرْهًا بَطُلَ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ لِأَنَّ سَبَبَهُ مِنْ جِهَتِهِ، وَلِابْنِ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ لَا يَبْطُلُ قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
(قَالَ مَالِكٌ: لَا يَأْتِي الْمُعْتَكِفُ حَاجَتَهُ وَلَا يَخْرُجُ لَهَا) مِنَ الْمَسْجِدِ، (وَلَا يُعَيِّنُ أَحَدًا أَنْ يَخْرُجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ) وَنَحْوَهَا كَغُسْلٍ وَجَبَ أَوْ لِجُمْعَةٍ أَوْ عِيدٍ أَوْ حَرٍّ أَصَابَهُ، فَيَجُوزُ لَهُ قَصُّ ظُفُرِهِ أَوْ شَارِبِهِ أَوْ هُمَا وَنَتْفُ إِبِطٍ وَإِزَالَةُ عَانَةٍ تَبَعًا لِخُرُوجِهِ لِلْحَاجَةِ وَنَحْوَهَا وَلَا يَخْرُجُ لِذَلِكَ اسْتِقْلَالًا.
(وَلَوْ كَانَ خَارِجًا لِحَاجَةِ أَحَدٍ لَكَانَ أَحَقَّ) بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ (مَا يُخْرَجُ إِلَيْهِ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ) بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ (وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجَنَائِزِ وَاتِّبَاعُهَا) مَعَ

(2/304)


أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ لِذَلِكَ لِقَوْلِ عَائِشَةَ: " السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جَنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: غَيْرُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَا يَقُولُ فِيهِ السُّنَّةُ، وَجَزَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ: بِأَنَّ الَّذِي مِنْ قَوْلِهَا لَا يَخْرُجُ إِلَّا لِحَاجَةٍ وَمَا عَدَاهُ مِمَّنْ دُونَهَا.
وَجَاءَ عَنْ عَلِيٍّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: إِنْ شَهِدَ الْمُعْتَكِفُ جَنَازَةً أَوْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ خَرَجَ لِلْجُمْعَةِ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَبِهِ (قَالَ مَالِكٌ: لَا يَكُونُ الْمُعْتَكِفُ مُعْتَكِفًا حَتَّى يَجْتَنِبَ الْمُعْتَكِفُ مِنْ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ) وَلَوْ أَبَوَيْهِ إِذَا مَاتَا مَعًا، (وَدُخُولِ الْبُيُوتِ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ) ثُمَّ تَارَةً تَجِبُ الْعِيَادَةُ وَالْخُرُوجُ لِلْجِنَازَةِ وَذَلِكَ إِذَا مَرِضَ أَوْ مَاتَ أَبَوَيْهِ وَالْآخَرُ حَيٌّ وَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ، وَتَارَةً يَحْرُمُ الْخُرُوجُ إِذَا مَاتَا مَعًا.

(2/305)


وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ الرَّجُلِ يَعْتَكِفُ هَلْ يَدْخُلُ لِحَاجَتِهِ تَحْتَ سَقْفٍ فَقَالَ نَعَمْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ يُجَمَّعُ فِيهِ وَلَا أُرَاهُ كُرِهَ الْاعْتِكَافُ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي لَا يُجَمَّعُ فِيهَا إِلَّا كَرَاهِيَةَ أَنْ يَخْرُجَ الْمُعْتَكِفُ مِنْ مَسْجِدِهِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ إِلَى الْجُمُعَةِ أَوْ يَدَعَهَا فَإِنْ كَانَ مَسْجِدًا لَا يُجَمَّعُ فِيهِ الْجُمُعَةُ وَلَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ إِتْيَانُ الْجُمُعَةِ فِي مَسْجِدٍ سِوَاهُ فَإِنِّي لَا أَرَى بَأْسًا بِالْاعْتِكَافِ فِيهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] فَعَمَّ اللَّهُ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا وَلَمْ يَخُصَّ شَيْئًا مِنْهَا قَالَ مَالِكٌ فَمِنْ هُنَالِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي لَا يُجَمَّعُ فِيهَا الْجُمُعَةُ إِذَا كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ الَّذِي تُجَمَّعُ فِيهِ الْجُمُعَةُ قَالَ مَالِكٌ وَلَا يَبِيتُ الْمُعْتَكِفُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خِبَاؤُهُ فِي رَحَبَةٍ مِنْ رِحَابِ الْمَسْجِدِ وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يَضْرِبُ بِنَاءً يَبِيتُ فِيهِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي رَحَبَةٍ مِنْ رِحَابِ الْمَسْجِدِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبِيتُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ قَوْلُ عَائِشَةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اعْتَكَفَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَعْتَكِفُ فَوْقَ ظَهْرِ الْمَسْجِدِ وَلَا فِي الْمَنَارِ يَعْنِي الصَّوْمَعَةَ وَقَالَ مَالِكٌ يَدْخُلُ الْمُعْتَكِفُ الْمَكَانَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهَا حَتَّى يَسْتَقْبِلَ بِاعْتِكَافِهِ أَوَّلَ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهَا وَالْمُعْتَكِفُ مُشْتَغِلٌ بِاعْتِكَافِهِ لَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِ مِمَّا يَشْتَغِلُ بِهِ مِنْ التِّجَارَاتِ أَوْ غَيْرِهَا وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْمُرَ الْمُعْتَكِفُ بِضَيْعَتِهِ وَمَصْلَحَةِ أَهْلِهِ وَأَنْ يَأْمُرَ بِبَيْعِ مَالِهِ أَوْ بِشَيْءٍ لَا يَشْغَلُهُ فِي نَفْسِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ خَفِيفًا أَنْ يَأْمُرَ بِذَلِكَ مَنْ يَكْفِيهِ إِيَّاهُ قَالَ مَالِكٌ لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُ فِي الْاعْتِكَافِ شَرْطًا وَإِنَّمَا الْاعْتِكَافُ عَمَلٌ مِنْ الْأَعْمَالِ مِثْلُ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فَرِيضَةً أَوْ نَافِلَةً فَمَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَعْمَلُ بِمَا مَضَى مِنْ السُّنَّةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَا مَضَى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ لَا مِنْ شَرْطٍ يَشْتَرِطُهُ وَلَا يَبْتَدِعُهُ وَقَدْ اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَفَ الْمُسْلِمُونَ سُنَّةَ الْاعْتِكَافِ قَالَ مَالِكٌ وَالْاعْتِكَافُ وَالْجِوَارُ سَوَاءٌ وَالْاعْتِكَافُ لِلْقَرَوِيِّ وَالْبَدَوِيِّ سَوَاءٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
695 - 690 - (مَالِكٌ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنِ الرَّجُلِ يَعْتَكِفُ هَلْ يَدْخُلُ لِحَاجَتِهِ تَحْتَ سَقْفٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، لَا بَأْسَ بِذَلِكَ) ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنْ دَخَلَ تَحْتَهُ بَطَلَ
(مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ يُجَمَّعُ فِيهِ) بِالتَّشْدِيدِ يُصَلَّى فِيهِ الْجُمُعَةُ، (وَلَا أُرَاهُ كَرِهَ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي لَا يُجَمَّعُ فِيهَا إِلَّا كَرَاهِيَةَ أَنْ يَخْرُجَ الْمُعْتَكِفُ مِنْ مَسْجِدِهِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ إِلَى الْجُمُعَةِ) وُجُوبًا، وَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، (أَوْ يَدَعَهَا) فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَفِي بُطْلَانُ اعْتِكَافِهِ قَوْلَانِ: (فَإِنْ كَانَ) الْمَسْجِدُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ (مَسْجِدًا لَا يُجَمَّعُ فِيهِ الْجُمُعَةُ) وَهُوَ مُبَاحٌ لِعُمُومِ النَّاسِ (وَلَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ إِتْيَانُ الْجُمُعَةِ فِي مَسْجِدٍ سِوَاهُ) لِانْقِضَاءِ مُدَّةِ اعْتِكَافِهِ قَبْلَ مَجِيءِ الْجُمُعَةِ

(2/305)


(فَإِنِّي لَا أَرَى بَأْسًا بِالِاعْتِكَافِ فِيهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ) وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ، فَعَمَّ اللَّهُ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا وَلَمْ يَخُصَّ شَيْئًا مِنْهَا) ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنَ الْإِمَامِ بِالْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَالتَّعَلُّقِ بِهِ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الِاعْتِكَافِ الْمَسْجِدُ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَخْتَصَّ تَحْرِيمُ الْمُبَاشَرَةِ بِهِ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مُنَافٍ لِلِاعْتِكَافِ إِجْمَاعًا، فَعُلِمَ مِنْ ذِكْرِ الْمَسَاجِدِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِيهَا، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُبَاشِرَةِ الْجِمَاعُ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ قَتَادَةَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: كَانُوا إِذَا اعْتَكَفُوا فَخَرَجَ رَجُلٌ لِحَاجَتِهِ فَلَقِيَ امْرَأَتَهُ جَامَعَهَا إِنْ شَاءَ (قَالَ مَالِكٌ: فَمِنْ هُنَالِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي لَا يُجَمَّعُ فِيهَا الْجُمُعَةُ إِذَا كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ الَّذِي يُجَمَّعُ فِيهِ الْجُمْعَةُ) لِانْقِضَاءِ مَا نَوَاهُ مِنَ الِاعْتِكَافِ قَبْلَ مَجِيئِهَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَشْرُوطِيَّةِ الْمَسْجِدِ لِلِاعْتِكَافِ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ لُبَابَةَ فَأَجَازَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ لِلْمَرْأَةِ الِاعْتِكَافَ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِلصَّلَاةِ فِيهِ.
وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ إِلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْمَسَاجِدِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الصَّلَوَاتُ وَخَصَّهُ أَبُو يُوسُفَ بِالْوَاجِبِ، وَأَمَّا النَّفْلُ فَفِي كُلِّ مَسْجِدٍ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ بِعُمُومِهِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ إِلَّا لِمَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ فَاسْتَحَبَّهُ لَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَامِعِ، وَشَرَطَهُ مَالِكٌ لِانْقِطَاعِ الِاعْتِكَافِ عِنْدَهُمَا بِالْجُمُعَةِ، وَخَصَّهُ طَائِفَةٌ كَالزُّهْرِيِّ بِالْجَامِعِ مُطْلَقًا، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِيِّ بِالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، وَعَطَاءٌ بِمَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ بِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَلَا يُبَيِّتُ الْمُعْتَكِفُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خِبَاؤُهُ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَمُوَحَّدَةٍ خَيْمَتُهُ (فِي رَحَبَةٍ مِنْ رِحَابِ الْمَسْجِدِ) وَهِيَ صَحْنُهُ، وَأَمَّا خَارِجُهُ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ فِيهِ قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
(وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يَضْرِبُ بِنَاءً يَبِيتُ فِيهِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي رَحَبَةٍ مِنْ رِحَابِ الْمَسْجِدِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبِيتُ إِلَّا

(2/306)


فِي الْمَسْجِدِ قَوْلُ عَائِشَةَ) الَّذِي رَوَاهُ أَوَّلًا: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اعْتَكَفَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ) فَحَصْرُهَا فِي الْحَاجَةِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ بَيَاتَهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، (وَلَا يَعْتَكِفُ فَوْقَ ظَهْرِ الْمَسْجِدِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، وَلِذَا لَا تُصَلَّى فِيهِ الْجُمُعَةُ فَلَا يُعْتَكَفُ فِيهِ، (وَلَا فِي الْمَنَارِ) الْعَلَمُ الَّذِي يُهْتَدَى بِهِ أَطْلَقَهُ عَلَى الْمَنَارَةِ الَّتِي يُؤَذَّنُ عَلَيْهَا بِجَامِعِ الِاهْتِدَاءِ فَلِذَا قَالَ (يَعْنِي الصَّوْمَعَةَ) لِأَنَّهَا مَوْضِعٌ مُتَّخَذٌ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ كَبَيْتِ الْحُصْرِ وَالْقَنَادِيلِ وَلَهَا اسْمٌ تَخْتَصُّ بِهِ عَنِ الْمَسْجِدِ.
(وَقَالَ مَالِكٌ: يَدْخُلُ الْمُعْتَكِفُ الْمَكَانَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهَا حَتَّى) أَيْ لِأَجْلِ أَنْ (يَسْتَقْبِلَ بِاعْتِكَافِهِ أَوَّلَ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهَا) اسْتِحْبَابًا، فَإِنْ دَخَلَ قَبْلَ الْفَجْرِ فِي وَقْتٍ يَجُوزُ لَهُ نِيَّةُ الصَّوْمِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ اللَّيْلَةَ تَبَعٌ، إِذِ الِاعْتِكَافُ إِنَّمَا يَكُونُ بِصَوْمٍ وَلَيْسَ اللَّيْلُ بِزَمَانِهِ، وَبِهَذَا قَالَ بَاقِي الْأَئِمَّةِ وَطَائِفَةٌ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ: يَدْخُلُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ لِظَاهِرِ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ: " «كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُهُ» "، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ دَخَلَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَلَكِنْ إِنَّمَا تَخَلَّى بِنَفَسِهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَعَدَّهُ لِاعْتِكَافِهِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ.
(وَالْمُعْتَكِفُ مُشْتَغِلٌ بِاعْتِكَافِهِ لَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِ مِمَّا يَشْتَغِلُ بِهِ مِنَ التِّجَارَاتِ) وَيَجُوزُ مَا خَفَّ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ (أَوْ غَيْرِهَا) كَقِيَامِهِ لِرَجُلٍ يُهَنِّيهِ أَوْ يُعَزِّيهِ أَوْ شُهُودِ عَقْدِ نِكَاحٍ يَقُومُ لَهُ مِنْ مَكَانِهِ وَاشْتِغَالٌ بِعِلْمٍ وَكِتَابَةٍ.
(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْمُرَ الْمُعْتَكِفُ بِضَيْعَتِهِ وَمَصْلَحَةِ أَهْلِهِ وَأَنْ يَأْمُرَ بِبَيْعِ مَالِهِ أَوْ) يَأْمُرَ (بِشَيْءٍ لَا يَشْغَلُهُ فِي نَفْسِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ خَفِيفًا أَنْ يَأْمُرَ بِذَلِكَ مَنْ يَكْفِيهِ إِيَّاهُ) إِذِ الْمَدَارُ عَلَى عَدَمِ اشْتِغَالِهِ عَمَّا هُوَ فِيهِ وَالْأَمْرُ بِمَا خَفَّ لَا يَشْغَلُهُ.
(قَالَ مَالِكٌ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُ فِي الِاعْتِكَافِ شَرْطًا) يُخْرِجُهُ عَنْ سُنَّتِهِ كَمَنْ شَرَطَ أَنَّهُ مَتَى أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْهُ كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا

(2/307)


يَنْفَعُهُ.
(وَإِنَّمَا الِاعْتِكَافُ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ) الْمُتَّصِلَةِ (مِثْلَ: الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ) وَهِيَ الْعُمْرَةُ وَالطَّوَافُ وَالِائْتِمَامُ، (مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فَرِيضَةً أَوْ نَافِلَةً) أَيْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
(فَمَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَعْمَلُ بِمَا مَضَى مِنَ السُّنَّةِ) فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ وَلَا يَنْفَعُهُ شَرْطُ الْخُرُوجِ.
(وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَا مَضَى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ لَا مِنْ شَرْطٍ يَشْتَرِطُهُ) أَيْ لِسَبَبِهِ أَوْ لِأَجْلِهِ قَبْلَ دُخُولِهِ (وَلَا يَبْتَدِعُهُ) يُحْدِثُهُ بَعْدَ الدُّخُولِ، (وَقَدِ اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَفَ الْمُسْلِمُونَ سُنَّةَ الِاعْتِكَافِ) عَنْهُ فَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ الشَّرْطَ فِي الِاعْتِكَافِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الصِّيَامَ وَالصَّلَاةَ لَا شَرْطَ فِيهِمَا، وَفِي الْحَجِّ خِلَافٌ وَكَذَا الِاعْتِكَافِ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ: لَا يَجُوزُ وَلَا يَنْفَعُهُ شَرْطُهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ: إِنْ شَرَطَ فِي ابْتِدَاءِ اعْتِكَافِهِ، إِنْ عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ خَرَجَ جَازَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَعَنْ إِسْحَاقَ أَيْضًا يَجُوزُ فِي التَّطَوُّعِ لَا الْوَاجِبِ، وَفِي الْمُنْتَقَى: مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا، وَشَرَطَ الْخُرُوجَ مِنْهُ مَتَى أَرَادَ، لَمْ يَلْزَمْهُ لِأَنَّهُ نَذَرَ اعْتِكَافًا غَيْرَ شَرْعِيٍّ؛ فَإِنْ دَخَلَ لَزِمَهُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخُرُوجِ لِعِيَادَةٍ وَشُهُودِ جَنَازَةٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَوَائِجِهِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقُرْبَةَ إِذَا دَخَلَ فِيهَا لَزِمَتْ بِالدُّخُولِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اعْتِكَافٌ أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ لِأَنَّ شَرْطَهُ الصَّوْمُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ، وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يَصِحُّ اعْتِكَافُ سَاعَةٍ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَالِاعْتِكَافُ وَالْجِوَارُ) بِكَسْرِ الْجِيمِ (سَوَاءٌ) لِمَا فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ: " «كَانَ يُصْغِي إِلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ» "، قَالَ الْبَاجِيُّ: يُرِيدُ مَالِكٌ الْجِوَارَ الَّذِي بِمَعْنَى الِاعْتِكَافِ فِي التَّتَابُعِ، وَأَمَّا الْجِوَارُ الَّذِي يَفْعَلُهُ أَهْلُ مَكَّةَ فَإِنَّمَا هُوَ لُزُومُ الْمَسْجِدِ بِالنَّهَارِ وَالِانْقِلَابُ بِاللَّيْلِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ شَيْئًا، وَلَهُ الْخُرُوجُ فِي حَوَائِجِهِ وَوَطْءُ أَهْلِهِ مَتَى شَاءَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
(وَالِاعْتِكَافُ لِلْقَرَوِيِّ وَالْبَدَوِيِّ سَوَاءٌ) فِي الْأَحْكَامِ.

(2/308)


[بَاب مَا لَا يَجُوزُ الْاعْتِكَافُ إِلَّا بِهِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَنَافِعًا مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَا لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصِيَامٍ بِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] فَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ الْاعْتِكَافَ مَعَ الصِّيَامِ قَالَ مَالِكٌ وَعَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصِيَامٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2 - بَابُ مَا لَا يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ إِلَّا بِهِ
691 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ) بْنِ أَبِي بَكْرٍ (وَنَافِعًا مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) شَيْخَ مَالِكٍ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ فَأَوْرَدَهُ بَلَاغًا (قَالَا: لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصِيَامٍ، يَقُولُ) أَيْ بِسَبَبِ قَوْلِ (اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} [البقرة: 187] بَيَاضُ الصُّبْحِ {مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] سَوَادُ اللَّيْلِ {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] بَيَانٌ لِلْخَيْطِ الْأَبْيَضِ، {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ - وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] لَا تُجَامِعُوهُنَّ لِقَوْلِهِ قَبْلَ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] (سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 187) ، ثُمَّ قَالَ {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] (سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 187) ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تُلَامِسُوهُنَّ بِشَهْوَةٍ (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ) مُعْتَكِفُونَ (فِي الْمَسَاجِدِ، فَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ الِاعْتِكَافَ مَعَ الصِّيَامِ) فَيُفِيدُ أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِهِ، نَعَمْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ لِلِاعْتِكَافِ بَلْ يَصِحُّ بِصِيَامِ رَمَضَانَ وَبِنَذْرٍ وَغَيْرِهِ، وَتُعُقِّبَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَلَازُمِهِمَا، وَإِلَّا لَكَانَ لَا صَوْمَ إِلَّا بِاعْتِكَافٍ وَلَا قَائِلَ بِهِ، وَيُرَدُّ بِأَنَّ الْقَاسِمَ وَنَافِعًا لَمْ يَدَّعِيَا التَّلَازُمَ حَتَّى يُقَالَ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ إِذْ مُفَادُ كَلَامِهِمَا إِنَّمَا هُوَ مَلْزُومِيَّةُ الِاعْتِكَافِ لِلصَّائِمِ، وَاللَّازِمُ إِذَا كَانَ أَعَمَّ كَالصَّوْمِ هُنَا يَنْفَرِدُ عَنِ الْمَلْزُومِ أَيْ يُوجَدُ بِدُونِهِ فَسَقَطَ قَوْلُهُ: لَا صَوْمَ إِلَّا بِاعْتِكَافٍ بِخِلَافِ الْمَلْزُومِ الَّذِي هُوَ الِاعْتِكَافُ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِلَازِمِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ فَصَحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصِيَامٍ) وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، رَوَاهُ عَنْهُمَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَعَائِشَةُ وَعُرْوَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَإِسْحَاقُ بْنُ عُلَيَّةَ وَدَاوُدُ: يَصِحُّ بِغَيْرِ الصَّوْمِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ الْقَوْلَانِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " «أَنَّ عُمَرَ

(2/309)


سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ» " وَاللَّيْلُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ، فَلَوْ كَانَ شَرْطًا لَأَمَرَهُ بِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ " يَوْمًا " بَدَلَ " لَيْلَةٍ "، وَجَمَعَ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَمَنْ أَطْلَقَ لَيْلَةً أَرَادَ بِيَوْمِهَا، وَمَنْ أَطْلَقَ يَوْمًا أَرَادَ بِلَيْلَتِهِ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالصَّوْمِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَلَفْظُهُ: " قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْتَكِفْ وَصُمْ "، وَإِنْ كَانَ فِي إِسْنَادِهِمَا رَاوٍ ضَعِيفٌ فَقَدِ انْجَبَرَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَدَعْوَى أَنَّ رِوَايَةَ يَوْمًا شَاذَّةٌ لَا تُسْمَعُ مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ.

(2/310)


[بَاب خُرُوجِ الْمُعْتَكِفِ لِلْعِيدِ]
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ زِيَاد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِك عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ اعْتَكَفَ فَكَانَ يَذْهَبُ لِحَاجَتِهِ تَحْتَ سَقِيفَةٍ فِي حُجْرَةٍ مُغْلَقَةٍ فِي دَارِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ثُمَّ لَا يَرْجِعُ حَتَّى يَشْهَدَ الْعِيدَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ زِيَاد عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ رَأَى بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ إِذَا اعْتَكَفُوا الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى أَهَالِيهِمْ حَتَّى يَشْهَدُوا الْفِطْرَ مَعَ النَّاسِ قَالَ زِيَاد قَالَ مَالِكٌ وَبَلَغَنِي ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ الْفَضْلِ الَّذِينَ مَضَوْا وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
3 - بَابُ خُرُوجِ الْمُعْتَكِفِ إِلَى الْعِيدِ
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مِنْ هُنَا إِلَى آخِرِ كِتَابِ الِاعْتِكَافِ لَمْ يَسْمَعْهُ يَحْيَى الْأَنْدَلُسِيُّ مِنْ مَالِكٍ أَوْ شَكَّ فِي سَمَاعِهِ فَرَوَاهُ.
697 - 692 - (عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْأَنْدَلُسِيِّ الْقُرْطُبِيِّ الْمَعْرُوفِ بِشَبْطُونَ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ فَطَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَكَانَ ثِقَةً وَاحِدَ زَمَانِهِ زُهْدًا وَوَرَعًا، سَمِعَ الْمُوَطَّأَ مِنْ مَالِكٍ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَدْخَلَهُ الْأَنْدَلُسَ مُثَقَّفًا بِالسَّمَاعِ مِنْهُ وَلَهُ رِحْلَتَانِ إِلَى مَالِكٍ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَقِيلَ: أَرْبَعٍ، وَقِيلَ: تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَأَنْجَبَ وَلَدَهُ بِقُرْطُبَةَ، وَكَانَ فِيهِمْ عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْجَلَالَةِ وَالْفَضْلِ وَالْقَضَاءِ وَالْعِلْمِ وَالْخَيْرِ، وَكَأَنَّ يَحْيَى سَمِعَ مِنْهُ الْمُوَطَّأَ بِالْأَنْدَلُسِ فِي حَيَاةِ مَالِكٍ ثُمَّ رَحَلَ فَسَمِعَهُ مِنْ مَالِكٍ سِوَى هَذِهِ الْوَرَقَةِ أَوْ شَكَّ فِيهَا فَرَوَاهَا عَنْ زِيَادٍ (قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ) بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْمِيمِ (مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْقُرَشِيَّ، أَحَدُ الْفُقَهَاءِ (اعْتَكَفَ فَكَانَ يَذْهَبُ لِحَاجَتِهِ تَحْتَ سَقِيفَةٍ فِي حُجْرَةٍ مُغْلَقَةٍ) بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ أَيْ مُقْفَلَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَشَدِّ اللَّامِ أَيْ عَالِيَةٍ، (فِي دَارِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ) بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، سَيْفُ اللَّهِ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، أَسْلَمَ بَيْنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْفَتْحِ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَغَيْرِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى أَوِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ.
(ثُمَّ لَا يَرْجِعُ) أَبُو بَكْرٍ مِنْ مُعْتَكَفِهِ (حَتَّى يَشْهَدَ الْعِيدَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ) عَمَلًا

(2/310)


بِالْمُسْتَحَبِّ، وَمَرَّ الْخِلَافُ فِي جَوَازِ دُخُولِ الْمُعْتَكِفِ تَحْتَ سَقْفٍ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ، وَلَمْ يَمْنَعِ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا اتَّفَقَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ يَعْنِي فَالْأَرْجَحُ جَوَازُهُ.
(حَدَّثَنَا زِيَادٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ رَأَى بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ إِذَا اعْتَكَفُوا الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى أَهَالِيهِمْ حَتَّى يَشْهَدُوا الْفِطْرَ مَعَ النَّاسِ) تَحْصِيلًا لِلْمُسْتَحَبِّ لِيَصِلَ اعْتِكَافَهُ بِصَلَاةِ الْعِيدِ فَيَكُونُونَ قَدْ وَصَلُوا نُسُكًا بِنُسُكٍ.
(قَالَ زِيَادٌ: قَالَ مَالِكٌ: وَبَلَغَنِي) ذَلِكَ (عَنْ أَهْلِ الْفَضْلِ الَّذِينَ مَضَوْا) ، قَالَ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ ذَلِكَ، (وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُمِعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ، وَقَوْلُ سَحْنُونٍ: إِنَّهُ سُنَّةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا الْخِلَافُ مَوْجُودٌ فَلَمْ يُجْمَعْ عَلَيْهَا، وَقَدْ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَخْرُجُ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ أَيَّامِهِ.
وَقَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ: إِنْ خَرَجَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَتَيْنِ جَرَى عُرْفُ الشَّرْعِ بِاتِّصَالِهِمَا، فَإِنَّ اتِّصَالَهُمَا عَلَى الْوُجُوبِ كَالطَّوَافِ وَرَكْعَتَيْهِ. لَمْ يَقُلْ بِهَذَا أَحَدٌ فِيمَا عَلِمْتُهُ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.

(2/311)


[بَاب قَضَاءِ الْاعْتِكَافِ]
حَدَّثَنِي زِيَاد عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ وَجَدَ أَخْبِيَةً خِبَاءَ عَائِشَةَ وَخِبَاءَ حَفْصَةَ وَخِبَاءَ زَيْنَبَ فَلَمَّا رَآهَا سَأَلَ عَنْهَا فَقِيلَ لَهُ هَذَا خِبَاءُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آلْبِرَّ تَقُولُونَ بِهِنَّ ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ» وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ الْمَسْجِدَ لِعُكُوفٍ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَأَقَامَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ مَرِضَ فَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَشْرِ إِذَا صَحَّ أَمْ لَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَفِي أَيِّ شَهْرٍ يَعْتَكِفُ إِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ مَالِكٌ يَقْضِي مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ عُكُوفٍ إِذَا صَحَّ فِي رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ الْعُكُوفَ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ رَمَضَانُ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ وَالْمُتَطَوِّعُ فِي الْاعْتِكَافِ فِي رَمَضَانَ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْاعْتِكَافُ أَمْرُهُمَا وَاحِدٌ فِيمَا يَحِلُّ لَهُمَا وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اعْتِكَافُهُ إِلَّا تَطَوُّعًا قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَرْأَةِ إِنَّهَا إِذَا اعْتَكَفَتْ ثُمَّ حَاضَتْ فِي اعْتِكَافِهَا إِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهَا فَإِذَا طَهُرَتْ رَجَعَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ أَيَّةَ سَاعَةٍ طَهُرَتْ ثُمَّ تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنَ اعْتِكَافِهَا وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ يَجِبُ عَلَيْهَا صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَتَحِيضُ ثُمَّ تَطْهُرُ فَتَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِيَامِهَا وَلَا تُؤَخِّرُ ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4 - بَابُ قَضَاءِ الِاعْتِكَافِ
699 - 693 - (حَدَّثَنَا زِيَادٌ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا غَلَطٌ وَخَطَأٌ مُفْرِطٌ لَا أَدْرِي هَلْ هُوَ مِنْ يَحْيَى أَمْ مِنْ زِيَادٍ؟ وَلَمْ يُتَابِعْهُ أَحَدٌ عَلَيْهِ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الْحَدِيثُ لِابْنِ شِهَابٍ لَا مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ لِجَمِيعِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ إِلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَصِلُهُ (عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ) ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسِلُهُ فَلَا يَذْكُرُ عَائِشَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْطَعُهُ فَلَا يَذْكُرُ عَمْرَةَ انْتَهَى.

(2/311)


وَبِهِ يُتَعَقَّبُ قَوْلُ فَتْحِ الْبَارِي: إِنَّهُ مُرْسَلٌ عَنْ عَمْرَةَ فِي الْمُوطَآتِ كُلِّهَا، (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ) فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، وَلَهُمَا عَنْ عَائِشَةَ: " فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً "، (فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ) وَهُوَ الْخِبَاءُ، (وَجَدَ أَخْبِيَةً) ثَلَاثَةً، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " «فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنَ الْغَدَاةِ أَبْصَرَ أَرْبَعَ قِبَابٍ» " يَعْنِي قُبَّةً لَهُ وَثَلَاثَةً لِلثَّلَاثَةِ، (خِبَاءَ عَائِشَةَ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مَمْدُودٍ، أَيْ خَيْمَةً مِنْ وَبَرٍ أَوْ صُوفٍ عَلَى عَمُودَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، (وَخِبَاءَ حَفْصَةَ) ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ فَأَذِنَ لَهَا فَسَأَلَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَسْتَأْذِنَ لَهَا فَفَعَلَتْ "، وَلَهُ فِي أُخْرَى: " فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ أَنْ تَعْتَكِفَ فَأَذِنَ لَهَا فَضَرَبَتْ قُبَّةً فَسَمِعَتْ بِهَا حَفْصَةُ فَضَرَبَتْ قُبَّةً لِتَعْتَكِفَ مَعَهُ "، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهَا ضَرَبَتْهَا بِلَا إِذْنٍ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ.
فَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: ثُمَّ اسْتَأْذَنَتْهُ حَفْصَةُ فَأَذِنَ لَهَا، وَظَهَرَ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ اسْتِئْذَانَهَا كَانَ عَلَى لِسَانِ عَائِشَةَ.
(وَخِبَاءَ زَيْنَبَ) بِنْتِ جَحْشٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَبُ ضَرَبَتْ لَهَا خِبَاءً آخَرَ "، وَلَهُ فِي أُخْرَى: " وَسَمِعَتْ بِهَا زَيْنَبُ فَضَرَبَتْ قُبَّةً أُخْرَى "، وَعِنْدَ أَبِي عِوَانَةَ: " فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَبُ ضَرَبَتْ مَعَهُنَّ، وَكَانَتِ امْرَأَةً غَيُورًا "، قَالَ الْحَافِظُ: وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَلَى أَنَّ زَيْنَبَ اسْتَأْذَنَتْ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ أَحَدُ مَا بَعَثَ عَلَى الْإِنْكَارِ الْآتِي، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ: " فَأَمَرَتْ زَيْنَبُ بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ، وَأَمَرَ غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ "، وَهَذَا يَقْتَضِي تَعْمِيمَ الْأَزْوَاجِ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ لِتَفْسِيرِهَا فِي الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى بِالثَّلَاثَةِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: " أَرْبَعَ قِبَابٍ "، وَلِلنَّسَائِيِّ إِذَا هُوَ بِأَرْبَعَةِ أَبْنِيَةٍ.
(فَلَمَّا رَآهَا سَأَلَ عَنْهَا فَقِيلَ لَهُ: هَذَا خِبَاءُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آلْبِرَّ) بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ مَمْدُودَةٍ وَبِغَيْرِ مَدٍّ وَالنَّصْبِ، مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ لِقَوْلِهِ: (تَقُولُونَ) أَيْ تَظُنُّونَ، وَالْقَوْلُ يُطْلَقُ عَلَى الظَّنِّ، قَالَ الْأَعْشَى:
أَمَّا الرَّحِيلُ فَدُونَ بَعْدَ غَدٍ ... فَمَتَى تَقُولُ الدَّارُ تَجْمَعُنَا
(بِهِنَّ) أَيْ مُلْتَبِسًا بِهِنَّ، وَهُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِيَقُولُونَ، وَالْخِطَابُ لِلْحَاضِرِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ: آلْبِرَّ يَرَوْنَ (ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ) ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الْوَاوِ ثَقِيلَةٍ فَضَادٍ مُعْجَمَةٍ أَيْ نُقِضَ.
قَالَ عِيَاضٌ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْكَلَامَ إِنْكَارًا لِفِعْلِهِنَّ، وَقَدْ كَانَ أَذِنَ لِبَعْضِهِنَّ فِي ذَلِكَ، وَسَبَبُ إِنْكَارِهِ أَنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُنَّ غَيْرَ مُخْلِصَاتٍ فِي الِاعْتِكَافِ، بَلْ أَرَدْنَ الْقُرْبَ مِنْهُ لِغَيْرَتِهِنَّ عَلَيْهِ أَوْ لِغَيْرَتِهِ عَلَيْهِنَّ فَكَرِهَ

(2/312)


مُلَازَمَتَهُنَّ الْمَسْجِدَ مَعَ أَنَّهُ يَجْمَعُ النَّاسَ وَتَحْضُرُهُ الْأَعْرَابُ وَالْمُنَافِقُونَ وَهُنَّ مُحْتَاجَاتٌ إِلَى الْخُرُوجِ وَالدُّخُولِ لِمَا يَعْرِضُ لَهُنَّ فَيَبْتَذِلْنَ بِذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّهُ رَآهُنَّ عِنْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ فِي مُعْتَكَفِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ فِي مَنْزِلِهِ لِحُضُورِهِ مَعَ أَزْوَاجِهِ، وَذَهَبَ الْمُهِمُّ مِنْ مَقْصُودِ الِاعْتِكَافِ وَهُوَ التَّخَلِّي عَنِ الْأَزْوَاجِ وَمُتَعَلِّقَاتِ الدُّنْيَا وَشِبْهِ ذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّهُنَّ ضَيَّقْنَ الْمَسْجِدَ بِأَبْنِيَتِهِنَّ، زَادَ الْحَافِظُ: أَوْ لَمَّا أَذِنَ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ أَوَّلًا خَشِيَ تَوَارُدَ بَقِيَّةِ النِّسْوَةِ عَلَى ذَلِكَ فَيَضِيقُ الْمَسْجِدُ عَلَى الْمُصَلِّينَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ ذَلِكَ الشَّهْرَ.
(حَتَّى اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " «فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِي رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي آخِرِ الْعَشْرِ مِنْ شَوَّالٍ» "، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: " «حَتَّى اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَوَّالٍ» "، وَجَمَعَ الْحَافِظُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ آخِرُ الْعَشْرِ مِنْ شَوَّالٍ انْتِهَاءُ اعْتِكَافِهِ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِكَافِ بِغَيْرِ صَوْمٍ لِأَنَّ أَوَّلَ شَوَّالٍ هُوَ يَوْمُ الْعِيدِ وَصَوْمُهُ حَرَامٌ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَعْنَى كَانَ ابْتِدَاؤُهُ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ وَهُوَ صَادِقٌ بِمَا إِذَا ابْتَدَأَ بِالْيَوْمُ الثَّانِي فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِمَا قَالَهُ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى وُجُوبِ قَضَاءِ النَّفْلِ لِمَنْ شَرَعَ فِيهِ ثُمَّ أَبْطَلَهُ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: يُقْضَى نَدْبًا.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَدْخَلَ مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ فِي قَضَاءِ الِاعْتِكَافِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى اعْتِكَافِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَلَمَّا رَأَى تَنَافُسَ زَوْجَاتِهِ فِي ذَلِكَ، وَخَشِيَ أَنْ يَدْخُلَ نِيَّاتِهِنَّ دَاخِلَةٌ انْصَرَفَ ثُمَّ وَفَى لِلَّهِ بِمَا نَوَاهُ، وَفِيهِ صِحَّةُ اعْتِكَافِ النِّسَاءِ لِإِذْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُنَّ، وَإِنَّمَا مَنْعُهُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ لِعَارِضٍ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَطَعْتُ بِأَنَّ اعْتِكَافَهُنَّ فِي الْمَسَاجِدِ لَا يَجُوزُ، وَفِيهِ أَنَّ الْمَسْجِدَ شَرْطٌ لِلِاعْتِكَافِ لِأَنَّ النِّسَاءَ شُرِعَ لَهُنَّ الْحِجَابُ فِي الْبُيُوتِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَسْجِدُ شَرْطًا مَا وَقَعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْإِذْنِ وَالْمَنْعِ وَلَاكْتُفِيَ لَهُنَّ بِالِاعْتِكَافِ فِي مَسَاجِدَ بُيُوتِهِنَّ.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ الْحَافِظُ: وَسَقَطَ عَنْ عَائِشَةَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ وَالْكُشْمِيهَنِيِّ وَكَذَا هُوَ فِي الْمُوطَآتِ كُلِّهَا.
وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ مُرْسَلًا، وَجَزَمَ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ عَنْهُ مَوْصُولًا.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ يَحْيَى مُرْسَلًا.
وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: تَابَعَ مَالِكًا عَلَى إِرْسَالِهِ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَلَى خِلَافٍ عَنْهُ، زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ قَالَ: وَرَوَاهُ النَّاسُ عَنْ يَحْيَى مَوْصُولًا، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ مَوْصُولًا انْتَهَى.
وَمَرَّ التَّعَقُّبَ عَلَى قَوْلِهِ مُرْسَلٌ فِي الْمُوطَآتِ كُلِّهَا، وَكَأَنَّهُ اكْتَفَى بِهَؤُلَاءِ فَلَمْ يُرَاجِعْ أَبَا عُمَرَ.
(وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ الْمَسْجِدَ لِعُكُوفٍ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَأَقَامَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ مَرِضَ) مَرَضًا يَشُقُّ عَلَيْهِ فِيهِ الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ، (فَخَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ أَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ

(2/313)


مَا بَقِيَ مِنَ الْعَشْرِ إِذَا صَحَّ أَمْ لَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ؟ وَفِي أَيِّ شَهْرٍ يَعْتَكِفُ إِنْ وَجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَقَالَ مَالِكٌ: يَقْضِي مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ عُكُوفٍ) بِنَذْرِهِ أَوِ الدُّخُولِ فِيهِ، (إِذَا صَحَّ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ) ، لَكِنْ إِنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ فَبِأَيِّ وَجْهٍ أَفْطَرَ لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ لِأَنَّهُ صَارَ مَعَ رَمَضَانَ كَالْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ، وَكَذَا إِنْ وَجَبَ صَوْمُ الِاعْتِكَافِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَإِنْ كَانَ صَوْمُ الِاعْتِكَافِ تَطَوُّعًا فَأَفْطَرَ نَاسِيًا قَضَى عِنْدَ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَا قَضَاءَ.
وَأَمَّا الْمَنْذُورُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ قَضَائِهِ وَبِمُعَيَّنٍ فَحُكْمُ رَمَضَانَ فِيهِ عَلَى مَا مَرَّ، وَفِي غَيْرِهِ وَاسْتَغْرَقَهُ الْمَانِعُ فَلَا قَضَاءَ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْهُ وَكَانَ فِي آخِرِ الِاعْتِكَافِ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِهِ فَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَقَالَ سَحْنُونُ: لَا قَضَاءَ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ بِقَوْلِهِ: (وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ الْعُكُوفَ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ رَمَضَانُ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ) ، هُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي أَسْنَدَهُ أَوَّلًا صَحِيحًا، فَمِنْ هُنَا وَنَحْوَهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ يُطْلَقُ الْبَلَاغُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلِذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ: بَلَاغَاتُ مَالِكٍ صَحِيحَةٌ.
(وَالْمُتَطَوِّعُ فِي الِاعْتِكَافِ وَالَّذِي عَلَيْهِ الِاعْتِكَافُ أَمْرُهُمَا وَاحِدٌ فِيمَا يَحِلُّ لَهُمَا وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمَا، وَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اعْتِكَافُهُ إِلَّا تَطَوُّعًا) ، وَقَدْ قَضَاهُ لَمَّا قَطَعَهُ لِلْعُذْرِ فَيُفِيدُ وُجُوبَ قَضَاءِ الِاعْتِكَافِ التَّطَوُّعِ لِمَنْ قَطَعَهُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ إِنَّمَا قَضَاهُ اسْتِحْبَابًا لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ نِسَاءَهُ اعْتَكَفْنَ مَعَهُ فِي شَوَّالٍ مَدْفُوعٌ، فَعَدَمُ النَّقْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْفِعْلِ وَقَدْ يَتَأَخَّرْنَ عَنْ شَوَّالٍ لِعُذْرٍ كَحَيْضٍ.
(قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَرْأَةِ إِنَّهَا إِذَا اعْتَكَفَتْ ثُمَّ حَاضَتْ فِي اعْتِكَافِهَا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهَا) وُجُوبًا لِحُرْمَةِ مُكْثِهَا فِي الْمَسْجِدِ بِالْحَيْضِ، (فَإِذَا طَهُرَتْ رَجَعَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ أَيَّةَ سَاعَةٍ طَهُرَتْ ثُمَّ تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنَ اعْتِكَافِهَا) قَبْلَ الْحَيْضِ حَتَّى تُتِمَّ مَا نَوَتْ أَوْ نَذَرَتْ، (وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ يَجِبُ عَلَيْهَا صِيَامُ

(2/314)


شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) لِكَفَّارَةِ قَتْلٍ أَوْ فِطْرٍ فِي رَمَضَانَ، (فَتَحِيضُ ثُمَّ تَطْهُرُ فَتَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِيَامِهَا وَلَا تُؤَخِّرُ ذَلِكَ) فَإِنْ أَخَّرَتْهُ اسْتَأْنَفَتْ.

(2/315)


وَحَدَّثَنِي زِيَاد عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَذْهَبُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ فِي الْبُيُوتِ» قَالَ مَالِكٌ لَا يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ مَعَ جَنَازَةِ أَبَوَيْهِ وَلَا مَعَ غَيْرِهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
700 - 694 - (مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَذْهَبُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ فِي الْبُيُوتِ) ، أَرْسَلَهُ هُنَا وَقَدَّمَهُ مَوْصُولًا أَوَّلَ الْكِتَابِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ.
(قَالَ مَالِكٌ: لَا يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ مَعَ جَنَازَةِ أَبَوَيْهِ) إِذَا مَاتَا مَعًا، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ حَيٌّ خَرَجَ وُجُوبًا وَبَطَلَ اعْتِكَافُهُ، (وَلَا مَعَ غَيْرِهَا) فَإِنْ خَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ.

(2/315)


[بَاب النِّكَاحِ فِي الْاعْتِكَافِ]
قَالَ مَالِكٌ لَا بَأْسَ بِنِكَاحِ الْمُعْتَكِفِ نِكَاحَ الْمِلْكِ مَا لَمْ يَكُنْ الْمَسِيسُ وَالْمَرْأَةُ الْمُعْتَكِفَةُ أَيْضًا تُنْكَحُ نِكَاحَ الْخِطْبَةِ مَا لَمْ يَكُنْ الْمَسِيسُ وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ مِنْ أَهْلِهِ بِاللَّيْلِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْهُنَّ بِالنَّهَارِ قَالَ يَحْيَى قَالَ زِيَاد قَالَ مَالِكٌ وَلَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَتَهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ وَلَا يَتَلَذَّذُ مِنْهَا بِقُبْلَةٍ وَلَا غَيْرِهَا وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ وَلَا لِلْمُعْتَكِفَةِ أَنْ يَنْكِحَا فِي اعْتِكَافِهِمَا مَا لَمْ يَكُنْ الْمَسِيسُ فَيُكْرَهُ وَلَا يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَنْكِحَ فِي صِيَامِهِ وَفَرْقٌ بَيْنَ نِكَاحِ الْمُعْتَكِفِ وَنِكَاحِ الْمُحْرِمِ أَنَّ الْمُحْرِمَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ وَلَا يَتَطَيَّبُ وَالْمُعْتَكِفُ وَالْمُعْتَكِفَةُ يَدَّهِنَانِ وَيَتَطَيَّبَانِ وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ شَعَرِهِ وَلَا يَشْهَدَانِ الْجَنَائِزَ وَلَا يُصَلِّيَانِ عَلَيْهَا وَلَا يَعُودَانِ الْمَرِيضَ فَأَمْرُهُمَا فِي النِّكَاحِ مُخْتَلِفٌ وَذَلِكَ الْمَاضِي مِنْ السُّنَّةِ فِي نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَالْمُعْتَكِفِ وَالصَّائِمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5 - بَابُ النِّكَاحِ فِي الِاعْتِكَافِ
(قَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِنِكَاحِ الْمُعْتَكِفِ نِكَاحَ الْمِلْكِ) أَيِ الْعَقْدِ، (مَا لَمْ يَكُنِ الْمَسِيسُ) أَيِ الْجِمَاعُ، فَلَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} [البقرة: 187] (سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ 187) ، (وَالْمَرْأَةُ الْمُعْتَكِفَةُ أَيْضًا تُنْكَحُ) تُخْطَبُ وَيُعْقَدُ عَلَيْهَا كَمَا أَفَادَ بِقَوْلِهِ: (نِكَاحَ الْخِطْبَةِ) بِكَسْرِ الْخَاءِ، (مَا لَمْ يَكُنِ الْمَسِيسُ) فَيُمْنَعُ، (وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكَفِ مِنْ أَهْلِهِ) حَلِيلَتُهُ مِنْ زَوْجَةٍ وَأَمَةٍ (بِاللَّيْلِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْهُنَّ بِالنَّهَارِ) مِنَ الْجِمَاعِ وَغَيْرِهِ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّائِمِ بِلَا عُكُوفٍ.
(وَلَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَتَهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ) مَسَّ الْتِذَاذٍ لَا كَتَفْلِيَةٍ أَوْ تَرْجِيلٍ أَوْ غَسْلِ

(2/315)


رَأْسٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ بِلَا لَذَّةٍ فَلَا مَنْعَ لِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تُرَجِّلُ وَتَغْسِلُ رَأْسَ الْمُصْطَفَى وَمَرَّ حَدِيثُ التَّرْجِيلِ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنْهَا: " «كَانَ يَأْتِينِي وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ فَيَتَّكِي عَلَى بَابِ حُجْرَتِي فَأَغْسِلُ رَأْسَهُ وَسَائِرَهُ فِي الْمَسْجِدِ» "، ( «وَلَا يَتَلَذَّذُ مِنْهَا بِشَيْءٍ بِقُبْلَةٍ وَلَا غَيْرِهَا» ) كَجِسَّةٍ فَإِنْ فَعَلَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُبْطِلُهُ إِلَّا الْإِيلَاجُ.
وَعَنْهُ أَيْضًا كَمَالِكٍ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَفْسُدُ بِالتَّلَذُّذِ إِلَّا إِنْ أَنْزَلَ.
(وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ) الذَّكَرِ (لَا لِلْمُعْتَكِفَةِ) الْأُنْثَى (أَنْ يَنْكِحَهَا فِي اعْتِكَافِهِمَا) أَيْ يَعْقِدَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (مَا لَمْ يَكُنِ الْمَسِيسُ فَيُكْرَهُ) بِمَعْنَى يَحْرُمُ لِإِبْطَالِ الِاعْتِكَافِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] (سُورَةُ مُحَمَّدٍ: الْآيَةُ 33) ، (وَلَا يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَنْكِحَ فِي صِيَامِهِ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَكِفًا.
(وَفَرْقٌ بَيْنَ نِكَاحِ الْمُعْتَكِفِ وَبَيْنَ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ) بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ لِافْتِرَاقِ أَحْكَامِهِمَا فَلَا جَامِعَ بَيْنَهُمَا كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: (إِنَّ الْمُحْرِمَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ وَيَشْهَدُ) يَحْضُرُ (الْجَنَائِزَ وَلَا يَتَطَيَّبُ) لِحُرْمَتِهِ عَلَيْهِ، (وَالْمُعْتَكِفُ وَالْمُعْتَكِفَةُ يَدَّهِنَانِ وَيَتَطَيَّبَانِ وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ شَعْرِهِ) حَلْقًا وَغَيْرِهِ، وَيَتَنَظَّفَانِ وَيَتَزَيَّنَانِ إِلْحَاقًا لِكُلِّ ذَلِكَ بِالتَّرْجِيلِ وَغَسْلِ الرَّأْسِ الْوَارِدَيْنِ فِي الْحَدِيثِ.
(وَلَا يَشْهَدَانِ الْجَنَائِزَ وَلَا يُصَلِّيَانِ عَلَيْهَا، وَلَا يَعُودَانِ الْمَرْضَى) وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (فَأَمْرُهُمَا فِي النِّكَاحِ مُخْتَلِفٌ) ، فَيَجُوزُ نِكَاحُ الْمُعْتَكِفِ دُونَ الْمُحْرِمِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ» "، وَلِذَا قَالَ: (وَذَلِكَ الْمَاضِي مِنَ السُّنَّةِ فِي نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَالْمُعْتَكِفِ وَالصَّائِمِ) بِلَا اعْتِكَافٍ فَيَجُوزُ لَهُمَا دُونَ الْمُحْرِمِ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ الْإِحْرَامِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْجَوَازُ فِيهِمَا خَرَجَ الْمُحْرِمُ بِالْحَدِيثِ وَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى أَصْلِ الْجَوَازِ، وَلِأَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَهُ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مِنَ النِّسَاءِ وَهُوَ لُزُومُهُ لِلْمَسْجِدِ، وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مُنْعَزِلٍ عَنِ النِّسَاءِ لِأَنَّهُ يَنْزِلُ مَعَهُنَّ فِي الْمَنَاهِلِ وَيُخَالِطُهُنَّ فَيُخَافُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(2/316)


[بَاب مَا جَاءَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ]
حَدَّثَنِي زِيَاد عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْوُسُطَ مِنْ رَمَضَانَ فَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ فِيهَا مِنْ صُبْحِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ قَالَ مَنْ اعْتَكَفَ مَعِيَ فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ وَقَدْ رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ مِنْ صُبْحِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَأُمْطِرَتْ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
6 - بَابُ مَا جَاءَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِعِظَمِ قَدْرِهَا، أَيْ ذَاتُ الْقَدْرِ الْعَظِيمِ لِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهَا وَلِوَصْفِهَا بِأَنَّهَا {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] ، (سُورَةُ الْقَدْرِ: الْآيَةُ 3) ، أَوْ لِتَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ فِيهَا أَوْ لِنُزُولِ الْبَرَكَةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ فِيهَا، أَوْ لِمَا يَحْصُلُ لِمَنْ أَحْيَاهَا بِالْعِبَادَةِ مِنَ الْقَدْرِ الْجَسِيمِ، وَقِيلَ: الْقَدْرُ هُنَا التَّضْيِيقُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] (سُورَةُ الطَّلَاقِ: الْآيَةُ 7) ، وَمَعْنَى التَّضْيِيقِ إِخْفَاؤُهَا عَنِ الْعِلْمِ بِتَعْيِينِهَا أَوْ لِضِيقِ الْأَرْضِ فِيهَا عَنِ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: الْقَدْرُ هُنَا بِمَعْنَى الْقَدَرِ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُوَاخِي لِلْقَضَاءِ، أَيْ يُقَدَّرُ فِيهَا أَحْكَامُ السَّنَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] (سُورَةُ الدُّخَانِ: الْآيَةُ 4) ، وَبِهِ صَدَّرَ النَّوَوِيُّ وَنَسَبَهُ لِلْعُلَمَاءِ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ التُّورِبِشَتِيُّ: إِنَّمَا جَاءَ الْقَدْرُ بِسُكُونِ الدَّالِ وَإِنْ كَانَ الشَّائِعُ فِي الْقَدَرِ مُوَاخِي الْقَضَاءِ فَتْحَهَا لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ تَفْصِيلُ مَا جَرَى بِهِ الْقَضَاءُ وَإِظْهَارُهُ وَتَحْدِيدُهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِيَحْصُلَ مَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ فِيهَا مِقْدَارٌ بِمِقْدَارٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْقَدْرُ بِسُكُونِ الدَّالِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا مَصْدَرُ قَدَّرَ اللَّهُ الشَّيْءَ قَدْرًا وَقَدَرًا كَالنَّهْرِ وَالنَّهَرِ.
701 - 695 - (مَالِكٌ عَنْ يَزِيدَ) بِتَحْتِيَّةٍ قَبْلَ الزَّايِ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ) بِلَا يَاءٍ بَعْدَ الدَّالِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ الْمَدَنِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ) تَيْمِ قُرَيْشٍ الْمَدَنِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ، (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ عَوْفٍ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ (أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْوُسُطَ» ) بِضَمِّ الْوَاوِ وَالسِّينِ جَمْعُ " وُسْطَى "، وَيُرْوَى بِفَتْحِ السِّينِ مِثْلُ: كَبَرَ وَكَبُرَ، وَرَوَاهُ الْبَاجِيُّ بِإِسْكَانِهَا جَمْعُ " وَاسِطٍ " كَبَازِلٍ وَبُزْلٍ، قَالَهُ الْحَافِظُ.
وَتَعَقَّبَهُ السُّيُوطِيُّ بِأَنَّ الَّذِي فِي مُنْتَقَى الْبَاجِيِّ وَقَعَ فِي كِتَابِي مُقَيَّدًا بِضَمِّ الْوَاوِ وَالسِّينِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَمْعُ " وَاسِطٍ "، قَالَ فِي الْعَيْنِ: وَاسِطُ الرَّحْلِ مَا بَيْنَ قَادِمَتِهِ وَآخِرَتِهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَسَطَ الْبُيُوتَ بَسَطَهَا إِذَا نَزَلَ وَسَطَهَا، وَاسْمُ الْفَاعِلِ وَاسِطٌ، وَيُقَالُ فِي جَمْعِهِ وُسْطٌ كَبَازِلٍ وَبُزْلٌ.
وَأَمَّا الْوَسَطُ بِفَتْحِ

(2/317)


الْوَاوِ وَالسِّينِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَمْعُ أَوْسَطَ وَهُوَ جَمْعُ وَسِيطٍ، كَمَا يُقَالُ: كَبِيرًا وَأَكْبَرًا وَأَكْبَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اسْمٌ لِجَمْعِ الْوَقْتِ عَلَى التَّوْحِيدِ كَوَسَطِ الدَّارِ وَوَسَطِ الْوَقْتِ وَالشَّهْرِ، فَإِنْ كَانَ قُرِئَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالسِّينِ فَهَذَا عِنْدِي مَعْنَاهُ (مِنْ رَمَضَانَ) فِيهِ مُدَاوَمَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، فَالِاعْتِكَافُ فِيهِ سُنَّةٌ لِمُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَعَلَّ مُرَادَهُ رَمَضَانُ لَا بِقَيْدِ وَسَطِهِ إِذْ هُوَ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ.
(فَاعْتَكَفَ عَامًا) مَصْدَرُ عَامَ إِذَا سَبَحَ فَالْإِنْسَانُ يَعُومُ فِي دُنْيَاهُ عَلَى الْأَرْضِ طُولَ حَيَاتِهِ فَإِذَا مَاتَ غَرِقَ فِيهَا أَيِ اعْتَكَفَ فِي رَمَضَانَ فِي عَامٍ، (حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةً) بِالنَّصْبِ وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِالرَّفْعِ فَاعِلُ " كَانَ " التَّامَّةِ بِمَعْنَى ثَبَتَ نَحْوَهُ، (إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ فِيهَا) ، وَقَوْلُهُ: (مِنْ صُبْحِهَا) رِوَايَةُ يَحْيَى وَابْنِ بُكَيْرٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَرَوَاهُ الْقَعْنَبِيُّ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ وَجَمَاعَةٌ يَخْرُجُ فِيهَا (مِنِ اعْتِكَافِهِ) لَمْ يَقُولُوا مِنْ صُبْحِهَا، وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ: مَنِ اعْتَكَفَ أَوَّلَ الشَّهْرِ أَوْ وَسَطَهُ خَرَجَ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ آخِرَ يَوْمٍ مِنَ اعْتِكَافِهِ، وَمَنِ اعْتَكَفَ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ فَلَا يَنْصَرِفُ إِلَى بَيْتِهِ حَتَّى يَشْهَدَ الْعِيدَ. قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِأَنَّ ظَاهِرَهَا أَنَّهُ خَطَبَ أَوَّلَ الْيَوْمِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ فَأَوَّلُ لَيَالِي اعْتِكَافِهِ الْآخِرِ لَيْلَةُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ فَيُخَالِفُ قَوْلَهُ آخِرَ الْحَدِيثِ: " «فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ» "، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْخُطْبَةَ كَانَتْ فِي صُبْحِ الْيَوْمِ الْعِشْرِينَ، وَوُقُوعُ الْمَطَرِ فِي لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِبَقِيَّةِ الطُّرُقِ، فَكَانَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَجُوُّزًا أَيْ مِنَ الصُّبْحِ الَّذِي قَبْلَهَا فَنِسْبَةُ الصُّبْحِ إِلَيْهَا مَجَازٌ.
وَحَكَى الْمُطَرِّزُ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَجْعَلُ لَيْلَةَ الْيَوْمِ الْآتِيَةِ بَعْدَهُ وَمِنْهُ: {عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46] (سُورَةُ النَّازِعَاتِ: الْآيَةُ 46) فَأَضَافَهُ إِلَى الْعَشِيَّةِ وَهُوَ قَبْلَهَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ: فَإِذَا كَانَ حِينَ يُمْسِي مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةٍ تَمْضِي وَيَسْتَقْبِلُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ رَجَعَ إِلَى مَسْكَنِهِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْإِيضَاحِ.
وَقَالَ السِّرَاجُ الْبُلْقِينِيُّ: الْمَعْنَى حَتَّى إِذَا كَانَ الْمُسْتَقْبَلُ مِنَ اللَّيَالِي لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَقَوْلُهُ: وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ (قَالَ مَنِ اعْتَكَفَ مَعِي) الْعَشْرَ الْوَسَطَ (فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ) لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِإِدْخَالِهِ اللَّيْلَةَ الْأُولَى.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ: " «فَخَطَبَنَا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ» "، وَفِي أُخْرَى لَهُمَا: " «فَخَطَبَ النَّاسَ فَأَمَرَهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ أُجَاوِرُ هَذِهِ الْعَشْرَ ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أُجَاوِرَ هَذِهِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَثْبُتْ فِي مُعْتَكَفِهِ» ".
وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: " «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ فَأَخَذَهُ فَنَحَّاهُ فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ ثُمَّ كَلَّمَ النَّاسَ فَقَالَ: إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأُوَلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ ثُمَّ

(2/318)


أُوتِيتُ فَقِيلَ لِي إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ» "، وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ: " «أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ فِي الْمَرَّتَيْنِ» فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ أَيْ قُدَّامَكَ "، (وَقَدْ رَأَيْتُ) وَفِي رِوَايَةٍ أُرِيِتُ بِهَمْزَةِ أَوَّلِهِ مَضْمُومَةٍ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ أَيْ أُعْلِمْتُ، (هَذِهِ اللَّيْلَةَ) نَصِبَ مَفْعُولٌ بِهِ لَا ظَرْفٌ أَيْ أُرِيتَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ.
وَجَوَّزَ الْبَاجِيُّ أَنَّ الرُّؤْيَةَ بِمَعْنَى الْبَصَرِ أَيْ رَأَى عَلَامَتَهَا الَّتِي أُعْلِمَتْ لَهُ بِهَا وَهِيَ السُّجُودُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، (ثُمَّ أُنْسِيتُهَا) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، قَالَ الْقَفَّالُ: لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ رَأَى الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْوَارَ عِيَانًا ثُمَّ نَسِيَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ رَأَى ذَلِكَ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا قَلَّ أَنْ يُنْسَى، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ كَذَا وَكَذَا فَنَسِيَ كَيْفَ قِيلَ لَهُ.
(وَقَدْ رَأَيْتُنِي) بِضَمِّ التَّاءِ، وَفِيهِ عَمَلُ الْفِعْلِ فِي ضَمِيرَيِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ، وَذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ أَيْ رَأَيْتُ نَفْسِي، (أَسْجُدُ مِنْ صُبْحَتِهَا) بِمَعْنَى فِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] (سُورَةُ الْجُمُعَةِ: الْآيَةُ 9) ، أَوْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ الزَّمَانِيَّةِ، (فِي مَاءٍ وَطِينٍ) عَلَامَةٌ جُعِلَتْ لَهُ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَيْهَا، ثُمَّ الْمُرَادُ أَنَّهُ نَسِيَ عِلْمَ تَعْيِينِهَا تِلْكَ السَّنَةِ لَا رَفْعَ وَجُودِهَا لِأَمْرِهِ بِطَلَبِهَا بِقَوْلِهِ: ( «فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ» ) مِنْ رَمَضَانَ، ( «وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ» ) مِنْهُ أَيْ أَوْتَارِ لَيَالِيهِ، وَأَوَّلُهَا لَيْلَةَ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ إِلَى آخَرِ لَيْلَةِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلُهُ الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَدِّثْ بِمَا هُنَا جَازِمًا بِهِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ الْأَغْلَبُ فِي كُلِّ عَامٍ، وَيَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّهُ رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُهَا فَنُسِّيتُهَا وَهِيَ لَيْلَةُ مَطَرٍ وَرِيحٍ، أَوْ قَالَ قَطْرٍ وَرِيحٍ» .
(قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَمْطَرَتِ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ) ، يُقَالُ فِي اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ اللَّيْلَةُ إِلَى الزَّوَالِ فَيُقَالُ الْبَارِحَةَ.
وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " «وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ» " (وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ) أَيْ عَلَى مِثْلِ الْعَرِيشِ، وَإِلَّا فَالْعَرِيشُ هُوَ السَّقْفُ، أَيْ أَنَّهُ كَانَ مُظَلَّلًا بِالْخُوصِ وَالْجَرِيدِ وَلَمْ يَكُنْ مُحْكَمَ الْبِنَاءِ بِحَيْثُ يَكِنُّ مِنَ الْمَطَرِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: " «وَكَانَ السَّقْفُ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ» "، (فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ) أَيْ سَالَ مَاءُ الْمَطَرِ مِنْ سَقْفِهِ فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِ.
(قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ) تَوْكِيدٌ كَقَوْلِكَ: أَخَذْتُ بِيَدِي، وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي أَمْرٍ يَعِزُّ الْوُصُولُ إِلَيْهِ إِظْهَارًا لِلتَّعَجُّبِ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ الْغَرِيبَةِ.
(رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ وَعَلَى جَبْهَتِهِ) ، وَفِي رِوَايَةٍ: جَبِينِهِ (وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ) صَلَاةِ (صُبْحِ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ انْصَرَفَ، وَفِي

(2/319)


رِوَايَةٍ: " «فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَقَدِ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَوَجْهُهُ وَأَنْفُهُ فِيهِمَا الْمَاءُ وَالطِّينُ» " تَصْدِيقُ رُؤْيَاهُ، وَفِيهِ السُّجُودُ عَلَى الطِّينِ، وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الْخَفِيفِ وَالسُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ جَمِيعًا، فَإِنْ سَجَدَ عَلَى أَنْفِهِ وَحْدَهُ لَمْ يُجْزِهِ، وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَحْدَهَا أَسَاءَ وَأَجْزَأَهُ قَالَهُ مَالِكٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِئُهُ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ أَوْ ذَقَنِهِ أَوْ أَنْفِهِ أَجْزَأَ لِخَبَرِ: " «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ آرَابٍ» " وَذَكَرَ مِنْهَا الْوَجْهَ، فَأَيُّ شَيْءٍ وُضِعَ مِنَ الْوَجْهِ أَجْزَأَهُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ذَكَرَ فِيهِ جَمْعٌ مِنَ الْحُفَّاظِ الْجَبْهَةَ وَالْأَنْفَ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَطُرُقُهُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا أَصَحُّ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ.

(2/320)


وَحَدَّثَنِي زِيَاد عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
702 - 696 - (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ) مُرْسَلًا وَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ وَعَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نُمَيْرٍ وَوَكِيعٍ، الْأَرْبَعَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تَحَرَّوْا) اطْلُبُوا، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدَةَ وَوَكِيعٍ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ وَالْقَطَّانِ: " الْتَمِسُوا "، وَهُمَا بِمَعْنَى الطَّلَبِ لَكِنْ مَعْنَى التَّحَرِّي أَبْلَغُ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الطَّلَبَ بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ، وَزَادَ عَبْدَةُ فِي أَوَّلِهِ قَالَتْ: " «كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاوِرُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَيَقُولُ: تَحَرَّوْا " (لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ) » وَلَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ هِشَامٍ هَذَا التَّقْيِيدُ بِالْوِتْرِ وَلَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: " «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي وِتْرِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» " فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ.

(2/320)


وَحَدَّثَنِي زِيَاد عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
703 - 697 - (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ) مَوْلَاهُ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تَحَرَّوْا) بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ مِنَ التَّحَرِّي، أَيِ اطْلُبُوا بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ، ( «لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ» ) مِنْ رَمَضَانَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ، وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنِ ابْنِ دِينَارٍ بِلَفْظِ لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، قَالَ: وَالْمُرَادُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ فَلَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ فِيمَا قَبْلَهُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَيَكُونُ قَالَهُ وَقَدْ مَضَى مِنَ الشَّهْرِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ،

(2/320)


أَوْ أَعْلَمَ أَوَّلًا أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ ثُمَّ أَعْلَمَ أَنَّهَا فِي السَّبْعِ، أَوْ حَضَّ عَلَى الْعَشْرِ مَنْ بِهِ بَعْضُ الْقُوَّةِ، وَعَلَى السَّبْعِ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَشْرِ انْتَهَى.
وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.

(2/321)


وَحَدَّثَنِي زِيَاد عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ شَاسِعُ الدَّارِ فَمُرْنِي لَيْلَةً أَنْزِلُ لَهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
704 - 698 - (مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضِرِ) سَالِمِ بْنِ أُمَيَّةَ (مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) الْقُرَشِيِّ التَّيْمِيِّ (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيَّ) أَبَا يَحْيَى الْمَدَنِيِّ حَلِيفَ الْأَنْصَارِ شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَأُحُدًا وَمَاتَ بِالشَّامِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَوَهَمَ مَنْ قَالَ سَنَةَ ثَمَانِينَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا مُنْقَطِعٌ فَإِنَّ أَبَا النَّضِرِ لَمْ يَلْقَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ وَلَا رَآهُ انْتَهَى.
وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي النَّضِرِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ بِلَفْظِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَوَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ بِنَحْوِ حَدِيثِهِ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ (قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ شَاسِعُ الدَّارِ) أَيْ بِعِيدُهَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: إِنِّي أَكُونُ فِي بَادِيَتِي وَأَنَا بِحَمْدِ اللَّهِ أُصَلِّي بِهَا، (فَمُرْنِي لَيْلَةً أَنْزِلُ لَهَا) ، وَلِأَبِي دَاوُدَ: «فَمُرْنِي بِلَيْلَةٍ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ أَنْزِلُهَا بِهَذَا الْمَسْجِدِ أُصَلِّيهَا فِيهِ» ، (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ» ) ، زَادَ أَبُو دَاوُدَ: فَصَلِّهَا فِيهِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: يُقَالُ إِنَّ لَيْلَةَ الْجُهَنِيِّ مَعْرُوفَةٌ بِالْمَدِينَةِ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَحَدِيثُهُ هَذَا مَشْهُورٌ عِنْدَ عَامَّتِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ.
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ هَذَا الْخَبَرَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَكَانَ الْجُهَنِيُّ يُمْسِي تِلْكَ اللَّيْلَةَ يَعْنِي لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَلَا يَشْهَدُ شَيْئًا مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا وَلَا يَوْمَ الْفِطْرِ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَنْضَحُ الْمَاءَ عَلَى أَهْلِهِ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: اسْتَقَامَ مَلَأُ الْقَوْمِ عَلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ يَعْنِي فِي ذَلِكَ الْعَامِ.

(2/321)


وَحَدَّثَنِي زِيَاد عَنْ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ إِنِّي أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فِي رَمَضَانَ حَتَّى تَلَاحَى رَجُلَانِ فَرُفِعَتْ فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
705 - 699 - (مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ) الْخُزَاعِيِّ الْبَصْرِيِّ، قِيلَ: كَانَ قَصِيرًا طَوِيلَ الْيَدَيْنِ، وَكَانَ يَقِفُ عَلَى الْمَيِّتِ فَيَصِلُ إِحْدَى يَدَيْهِ إِلَى رَأْسِهِ وَالْأُخْرَى إِلَى رِجْلَيْهِ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: رَأَيْتُهُ وَلَمْ يَكُنْ بِذَاكَ الطُّولِ، وَكَانَ لَهُ جَارٌ يُقَالُ لَهُ حُمَيْدٌ الْقَصِيرُ فَقِيلَ لِهَذَا الطَّوِيلُ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا.

(2/321)


(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مِنْ حُجْرَتِهِ (فِي رَمَضَانَ) ، زَادَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: «لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ» أَيْ بِتَعْيِينِهَا، (فَقَالَ: إِنِّي أُرِيتُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، (هَذِهِ اللَّيْلَةَ) ، قَالَ الْحَافِظُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ رَأَى الْعِلْمِيَّةِ أَوِ الْبَصَرِيَّةِ (فِي رَمَضَانَ) ، وَلِلْبُخَارِيِّ فَقَالَ: خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ (حَتَّى تَلَاحَى) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ تَنَازَعَ وَتَخَاصَمَ وَتَشَاتَمَ (رَجُلَانِ) مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ، وَلِمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ أَنَّهُمَا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَزَعَمَ ابْنُ دِحْيَةَ أَنَّهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَلَمْ يَذْكُرْ لِذَلِكَ مُسْتَنَدًا قَالَهُ الْحَافِظُ، (فَرُفِعَتْ) أَيْ رُفِعَ بَيَانُهَا أَوْ عِلْمُ تَعْيِينِهَا مِنْ قَلْبِي فَنَسِيتُهُ لِلِاشْتِغَالِ بِالْمُتَخَاصِمَيْنِ، وَفِي مُسْلِمٍ: فَنَسِيتُهَا، وَقِيلَ: رُفِعَتْ بَرَكَتُهَا تِلْكَ السَّنَةَ، وَقِيلَ: التَّاءُ فِي " رُفِعَتْ " لِلْمَلَائِكَةِ لَا لِلَّيْلَةِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: قَدْ يُذْنِبُ الْبَعْضُ فَتَتَعَدَّى عُقُوبَتُهُ إِلَى غَيْرِهِ فَيُجْزَى بِهِ مَنْ لَا سَبَبَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، أَمَّا الْآخِرَةُ فَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: «فَجَاءَ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ» .
وَعِنْدَ ابْنِ رَاهَوَيْهِ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَهُمَا عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ فَحَجَزَ بَيْنَهُمَا» .
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أَيْقَظَنِي بَعْضُ أَهْلِي فَنَسِيتُهَا» "، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ سَبَبَ النِّسْيَانِ الْإِيقَاظُ لَا الْمُلَاحَاةُ، وَجُمِعَ عَلَى اتِّحَادِ الْقِصَّةِ بِاحْتِمَالِ وُقُوعِ النِّسْيَانِ عَلَى سَبَبَيْنِ، وَالْمَعْنَى: أَيْقَظَنِي بَعْضُ أَهْلِي فَسَمِعْتُ تَلَاحِيَ الرَّجُلَيْنِ فَقُمْتُ لِأَحْجِزَ بَيْنَهُمَا فَنَسِيتُهَا لِلِاشْتِغَالِ بِهِمَا، وَعَلَى تَعَدُّدِهَا بِاحْتِمَالِ أَنَّ الرُّؤْيَا فِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنَامَيَّةٌ فَيَكُونُ سَبَبُ النِّسْيَانِ الْإِيقَاظَ، وَالْأُخْرَى يَقَظَةٌ فَسَبَبُ النِّسْيَانِ الْمُلَاحَاةُ، وَيُقَوِّيهِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا: " «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ؟ قَالُوا: بَلَى، فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ قُلْتُ لَكُمْ وَأَنَا أَعْلَمُهَا ثُمَّ أُنْسِيتُهَا» "، فَلَمْ يَذْكُرْ سَبَبَ النِّسْيَانِ، وَهَلْ أُعْلِمَ بِهَا بَعْدَ هَذَا النِّسْيَانِ؟ قَالَ الْحَافِظُ: فِيهِ احْتِمَالٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ رُفِعَ عِلْمُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَنْهُ فَأُنْسِيَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ عَلِمَهَا بِسَبَبِ التَّلَاحِي، وَقَدْ قِيلَ: الْمِرَاءُ وَالْمُلَاحَاةُ شُؤْمٌ وَمِنْ شُؤْمِهَا حُرِمُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَلَمْ يُحْرَمُوهَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ لِقَوْلِهِ: ( «فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ» ) ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قِيلَ الْمُرَادُ بِالتَّاسِعَةِ تَاسِعَةٌ تَبْقَى فَتَكُونُ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَالسَّابِعَةِ سَابِعَةٌ تَبْقَى فَتَكُونُ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَالْخَامِسَةِ خَامِسَةٌ تَبْقَى فَتَكُونُ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ عَلَى الْأَغْلَبِ فِي أَنَّ الشَّهْرَ ثَلَاثُونَ لِقَوْلِهِ: " «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ» " يَعْنِي وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ تَاسِعَةٌ وَسَابِعَةٌ وَخَامِسَةٌ تَبْقَى بَعْدَ اللَّيْلَةِ تُلْتَمَسُ فِيهَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، قَالَ: وَقِيلَ تَاسِعَةٌ تَمْضِي فَتَكُونُ لَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَجَزَمَ الْبَاجِيُّ بِالْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ لِمَا فِي أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ: «تَاسِعَةٌ تَبْقَى سَابِعَةٌ تَبْقَى خَامِسَةٌ تَبْقَى»

(2/322)


وَرَجَّحَ الْحَافِظُ الثَّانِي لِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بِلَفْظِ: «الْتَمِسُوهَا فِي التِّسْعِ وَالسَّبْعِ وَالْخَمْسِ» أَيْ فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسٍ وَعِشْرِينَ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى كَذَا قَالَ. وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ مُحْتَمَلَةٌ، وَرِوَايَةُ أَحْمَدَ نَصٌّ فِيمَا قَالَ مَالِكٌ، وَقَدْ قَالَ أَبُو عُمَرَ: كِلَاهُمَا مُحْتَمَلٌ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَاسِعَةٍ تَبْقَى وَسَابِعَةٍ تَبْقَى وَخَامِسَةٍ تَبْقَى» " يَقْتَضِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: إِنَّكُمْ أَعْلَمُ بِالْعَدَدِ مِنَّا، قَالَ: أَجَلْ، قُلْتُ: مَا التَّاسِعَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ؟ قَالَ: إِذَا مَضَتْ إِحْدَى وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا التَّاسِعَةُ، فَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ، فَإِذَا مَضَتْ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ انْتَهَى.
وَزَعَمَ الرَّوَافِضُ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ أَنَّ الْمَعْنَى رُفِعَتْ أَصْلًا، أَيْ وُجُودُهَا وَهُوَ غَلَطٌ، فَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْتِمَاسِهَا.
وَلِلْبُخَارِيِّ: «فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا» لَكُمْ أَيْ لِأَنَّ إِخْفَاءَهَا مِمَّا يَسْتَدْعِي قِيَامَ كُلَّ شَهْرٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ بَقِيَ مَعْرِفَتُهَا بِعَيْنِهَا، وَأَخَذَ مِنْهُ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ اسْتِحْبَابَ كَتْمِهَا لِمَنْ رَآهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ لِنَبِيِّهِ أَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بِهَا وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِيمَا قَدَّرَهُ لَهُ وَيُسْتَحَبُّ اتِّبَاعُهُ فِي ذَلِكَ، قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهَا كَرَامَةٌ، وَالْكَرَامَةُ يَنْبَغِي كَتْمُهَا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الطَّرِيقِ لِرُؤْيَةِ النَّفْسِ فَلَا يَأْمَنُ السَّلْبَ وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ الرِّيَاءَ، وَلِلْأَدَبِ فَلَا يَتَشَاغَلُ عَنْ شُكْرِ اللَّهِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا وَذِكْرِهَا لِلنَّاسِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ الْحَسَدَ فَيُوقِعَ غَيْرَهُ فِي الْمَحْذُورِ وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِقَوْلِ يَعْقُوبَ: {يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف: 5] (سُورَةُ يُوسُفَ: الْآيَةُ 5) الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا خِلَافَ عَنْ مَالِكٍ فِي سَنَدِهِ وَمَتْنِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِأَنَسٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ: خَالَفَ مَالِكًا أَكْثَرُ أَصْحَابِ حُمَيْدٍ فَرَوَوْهُ عَنْهُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ عُبَادَةَ، وَصَوَّبَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِثْبَاتَ عُبَادَةَ وَأَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ مُسْنَدِهِ.

(2/323)


وَحَدَّثَنِي زِيَاد عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
706 - 700 - (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ) هَكَذَا رَوَاهُ الْقَعْنَبِيُّ وَابْنُ بُكَيْرٍ وَالْأَكْثَرُونَ، وَرَوَاهُ يَحْيَى وَقَوْمٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ (أَنَّ رِجَالًا) لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ (مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرُوا) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ (لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ) الْوَاقِعِ أَوِ الْكَائِنِ (فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ) بِكَسْرِ الْخَاءِ جَمْعٌ فَلَيْسَ ظَرْفًا لِلْإِرَاءَةِ بَلْ صِفَةً لِقَوْلِهِ " فِي الْمَنَامِ " كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ مُتَعَقِّبًا قَوْلَ الْحَافِظِ أَيْ قِيلَ لَهُمْ فِي الْمَنَامِ أَنَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ بِاقْتِضَائِهِ أَنَّ نَاسًا قَالُوا ذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ رُؤْيَتَهُمْ، بَلْ تَفْسِيرُهُ أَنَّ نَاسًا أَرُوهُمْ إِيَّاهَا فَرَأَوْهَا.
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ رُؤْيَاهُمْ كَانَتْ قَبْلَ دُخُولِ السَّبْعِ

(2/323)


لِقَوْلِهِ: فَلْيَتَحَرَّهَا إِلَى آخِرِهِ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ آخِرَ الشَّهْرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ السَّبْعُ الَّتِي أَوَّلُهَا لَيْلَةُ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ وَآخِرُهَا لَيْلَةُ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا تَدْخُلُ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَلَا ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَعَلَى الثَّانِي تَدْخُلُ الثَّانِيَةُ فَقَطْ وَلَا يَدْخُلُ لَيْلَةَ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي» " انْتَهَى.
وَقَالَ غَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا وَعَظَمَتَهَا وَأَنْوَارَهَا وَنُزُولَ الْمَلَائِكَةِ فِيهَا وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي لَيْلَةٍ مِنَ السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ قَائِلًا قَالَ لَهُمْ هِيَ فِي كَذَا وَعَيَّنَ لَيْلَةً مِنَ السَّبْعِ وَنُسِيَتْ، أَوْ قَالَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أَرَى) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ أَعْلَمُ، وَالْمُرَادُ أُبْصِرُ مَجَازًا، (رُؤْيَاكُمْ) بِالْإِفْرَادِ وَالْمُرَادُ الْجِنْسُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ رُؤْيَا وَاحِدَةً فَهُوَ مِمَّا عَاقَبَ الْإِفْرَادُ فِيهِ الْجَمْعَ لِأمْنِ اللَّبْسِ.
وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمُحَدِّثُونَ يَرْوُونَهُ بِالتَّوْحِيدِ وَهُوَ جَائِزٌ، وَأَفْصَحُ مِنْهُ رُؤْيَاكُمْ جَمْعُ رُؤْيَا لِيَكُونَ جَمْعًا فِي مُقَابَلَةِ جَمْعٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ بِإِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ يُعْلَمُ مِنْهُ التَّعَدُّدُ ضَرُورَةً، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِأَرَى لِيُجَانِسَ رُؤْيَاكُمْ وَهِيَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِأَرَى وَالثَّانِي قَوْلُهُ: (قَدْ تَوَاطَأَتْ) بِالْهَمْزِ أَيْ تَوَافَقَتْ، وَيُوجَدُ فِي نُسَخٍ بِطَاءٍ ثُمَّ يَاءٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ بِالْأَلِفِ وَلَا بُدَّ مِنْ قِرَاءَتِهِ مَهْمُوزًا، قَالَ تَعَالَى: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37] (سُورَةُ التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 37) ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: رُوِيَ بِلَا هَمْزٍ وَالصَّوَابُ الْهَمْزُ، وَفِي الْمَصَابِيحَ: يَجُوزُ تَرْكُ الْهَمْزِ، (فِي) رُؤْيَتِهَا فِي لَيَالِي (السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرَّيَهَا) أَيْ طَالَبَهَا وَقَاصِدَهَا ( «فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ» ) مِنْ رَمَضَانَ، وَلِلْبُخَارِيِّ فِي التَّعْبِيرِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ: " «أَنَّ أُنَاسًا أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، وَأَنَّ نَاسًا أُرُوا أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ» ".
قَالَ الْحَافِظُ: وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنَ الرُّؤْيَتَيْنِ فَأَمَرَ بِهِ.
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: " «إِنْ غُلِبْتُمْ فَلَا تُغْلَبُوا فِي السَّبْعِ الْبَوَاقِي» "، وَلِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي» " انْتَهَى.
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ: إِنَّ طَلَبَهَا فِي السَّبْعِ مُسْتَنَدُهُ الرُّؤْيَا وَهُوَ مُشْكِلٌ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ قِيلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ هِيَ فِي السَّبْعِ فَشَرْطُ التَّحَمُّلِ التَّمْيِيزُ وَهُمْ كَانُوا نِيَامًا، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ رَأَى الْحَوَادِثَ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا فِي مَنَامِهِ فِي السَّبْعِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ فِي السَّبْعِ، كَمَا لَوْ رَأَيْتَ حَوَادِثَ الْقِيَامَةِ فِي الْمَنَامِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ تِلْكَ اللَّيْلَةُ مَحَلًّا لِقِيَامِهَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِسْنَادَ إِلَى الرُّؤْيَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى أَمْرٍ وُجُودِيٍّ غَيْرِ مُخَالِفٍ لِقَاعِدَةِ الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّهُ اسْتَنَدَ إِلَيْهَا فِي أَمْرٍ ثَبَتَ اسْتِحْبَابُهُ مُطْلَقًا وَهُوَ طَلَبُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ لَا أَنَّهَا أُثْبِتَ بِهَا حُكْمٌ، وَإِنَّمَا تُرَجَّحُ السَّبْعُ الْأَوَاخِرُ لِسَبَبِ الْمَرَائِي الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهَا

(2/324)


فِيهَا وَهُوَ اسْتِدْلَالُ عَلَى أَمْرٍ وُجُودِيٍّ لَزِمَهُ اسْتِحْبَابٌ شَرْعِيٍّ مَخْصُوصٌ بِالتَّأْكِيدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ اللَّيَالِي، أَوْ أَنَّ الْإِسْنَادَ إِلَى الرُّؤْيَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ إِقْرَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا كَأَحَدِ مَا قِيلَ فِي رُؤْيَا الْأَذَانِ ذَكَرَهُ الْأَبِيُّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ بِهِ.

(2/325)


وَحَدَّثَنِي زِيَاد عَنْ مَالِك أَنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَنْ لَا يَبْلُغُوا مِنْ الْعَمَلِ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمْرِ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
706 - 701 - (مَالِكٌ أَنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ أَرَاهُ اللَّهُ (أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَنْ لَا يَبْلُغُوا مِنَ الْعَمَلِ) الصَّالِحِ (مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمُرِ) لِقِصَرِ أَعْمَارِهِمْ إِذْ هِيَ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ وَقَلِيلٌ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا وَرَدَ.
(فَأَعْطَاهُ اللَّهُ) أَنْزَلَ عَلَيْهِ {لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ الْمُوَطَّأِ لَا مُسْنَدًا وَلَا مُرْسَلًا.
وَالثَّانِي: «إِنِّي لَا أَنْسَى أَوْ أُنَسَّى لِأَسُنَّ» .
وَالثَّالِثُ: «إِذَا نَشَأَتْ بَحْرِيَّةً» ، وَتَقَدَّمَا.
وَالرَّابِعُ: «قَوْلُهُ لِمُعَاذٍ: " حَسِّنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ» "، قَالَ: وَلَيْسَ مِنْهَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَلَا مَا يَدْفَعُهُ أَصْلٌ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَلِهَذَا شَوَاهِدُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُرْسَلَةٌ، فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: " «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا أَرْبَعَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَبَدُوا اللَّهَ ثَمَانِينَ عَامًا لَمْ يَعْصُوهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ: أَيُّوبُ وَزَكَرِيَّا وَحِزْقِيلُ وَيُوشَعُ بْنُ نُونٍ، فَعَجِبَ الصَّحَابَةُ مِنْ ذَلِكَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: عَجِبَتْ أُمَّتُكَ مِنْ عِبَادَةِ أَرْبَعَةٍ ثَمَانِينَ سَنَةً لَمْ يَعْصُوهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] (سُورَةُ الْقَدْرِ: الْآيَةُ 3) هَذَا أَفْضَلُ مِمَّا عَجِبَتْ أُمَّتُكَ، فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ مَعَهُ» "، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: " «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى يُصْبِحَ ثُمَّ يُجَاهِدُ الْعَدُوَّ حَتَّى يُمْسِيَ، فَعَلَ ذَلِكَ أَلْفَ شَهْرٍ فَعَجِبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] قِيَامُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ أَلْفَ شَهْرٍ» "، وَفِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَاصَّةٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَمْ تَكُنْ لِمَنْ قَبْلَهُمْ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ حَبِيبٍ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَنَّهُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ

(2/325)


بِهِ أَصْحَابُنَا كُلُّهُمْ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَعَمْدَتُهُمْ أَثَرُ الْمُوَطَّأِ هَذَا، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ فَلَا يَدْفَعُ الصَّرِيحَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: " قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَكُونُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِذَا مَاتُوا رُفِعَتْ أَمْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: بَلْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» "، وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ السُّيُوطِيُّ بِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ وَهُوَ أَنَّ مُرَادَهُ السُّؤَالُ هَلْ تَخْتَصُّ بِزَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ تُرْفَعُ بَعْدَهُ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَمْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ فَلَا يَكُونُ فِيهِ مُعَارَضَةٌ لِأَثَرِ الْمُوَطَّأِ، وَقَدْ وَرَدَ مَا يُعَضِّدُهُ، فَفِي فَوَائِدِ أَبِي طَالِبٍ الْمُزَكَّى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «أَنَّ اللَّهَ وَهَبَ لِأُمَّتِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَلَمْ يُعْطِهَا مَنْ كَانَ قَبْلَهُمُ» انْتَهَى.

(2/326)


وَحَدَّثَنِي زِيَاد عَنْ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَانَ يَقُولُ مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
706 - 702 - (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَانَ يَقُولُ: مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ) حَضَرَهَا وَصَلَّاهَا فِي جَمَاعَةٍ (مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْهَا) نَصِيبِهِ مِنْ ثَوَابِهَا الْمُنَوِّهِ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي نَحْوِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَزَادَ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى: " وَمَا تَأَخَّرَ ".
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَوْلُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ لَا يَكُونُ رَأْيًا وَلَا يُؤْخَذُ إِلَّا تَوْقِيفًا وَمَرَاسِيلُهُ أَصَحُّ الْمَرَاسِيلَ.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: هُوَ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: " «مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ لَيْلَةٍ» "، وَخَصَّهَا لِأَنَّهَا مِنَ اللَّيْلِ دُونَ الصُّبْحِ فَلَيْسَ مِنْهُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالطَّبَرَانَيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» "، وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: " «مَنْ صَلَّى لَيْلَةَ الْقَدْرِ الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ فَقَدْ أَخَذَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِالنَّصِيبِ الْوَافِرِ» ".
وَفِي مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا: " «مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَيُوَافِقُهَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» "، وَلِأَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ عُبَادَةَ مَرْفُوعًا: " «فَمَنْ قَامَهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ثُمَّ وُفِّقَتْ لَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» ".
قَالَ فِي شَرْحِ التَّقْرِيبِ: مَعْنَى تَوْفِيقِهَا لَهُ أَوْ مُوَافَقَتِهِ لَهَا أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعُ أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الَّتِي قَامَ فِيهَا بِقَصْدِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ مَعْنَى الْمُوَافَقَةِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَرْدُودٌ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِيهِ وَلَا الْمَعْنَى يُسَاعِدُهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ: الَّذِي يَتَرَجَّحُ فِي نَظَرِي مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ، وَلَا أُنْكِرُ حُصُولَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ لِمَنْ قَامَ لِابْتِغَائِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا وَلَمْ تُوَفَّقْ لَهُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ عَلَى حُصُولِ الثَّوَابِ الْمُعَيَّنِ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ عَلَى وُجُودِهَا وَبَقَائِهَا إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ لِتَظَاهُرِ الْأَحَادِيثِ وَكَثْرَةِ رُؤْيَةِ الصَّالِحِينَ لَهَا، وَشَذَّ الرَّوَافِضُ وَالشِّيعَةُ وَالْحَجَّاجُ الظَّالِمُ الثَّقَفِيُّ فَقَالُوا: رُفِعَتْ رَأْسًا، وَكَذَا مَنْ قَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ سَنَةً وَاحِدَةً

(2/326)


فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ هَذَانِ قَوْلَانِ أَوْ قَوْلٌ، ثُمَّ اخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى أَرْبَعِينَ قَوْلًا فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمْ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ مَشْهُورٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَزَيَّفَهُ الْمُهَلَّبُ وَقَالَ: لَعَلَّهُ بُنِيَ عَلَى دَوَرَانِ الزَّمَانِ لِنُقْصَانِ الْأَهِلَّةِ وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي غَيْرِهِ حَتَّى تَنْتَقِلَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ عَنْ رَمَضَانَ، وَرُدَّ بِأَنَّ مَأْخَذَ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَتَّكِلَ النَّاسُ.
وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا فِي أَبِي دَاوُدَ وَمَوْقُوفًا عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِرَمَضَانَ مُمْكِنَةٌ فِي غَيْرِهِ، وَبِهِ جَزَمَ شَارِحُ الْهِدَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ الْحَاجِبِ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ وَرَجَّحَهُ السُّبْكِيُّ وَعَنْ أَنَسٍ وَأَبِي رَزِينٍ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَحَكَى ابْنُ الْمُلَقِّنِ لَيْلَةَ نِصْفِهِ، وَالَّذِي فِي الْمُفْهِمِ وَغَيْرِهِ لَيْلَةَ نِصْفِ شَعْبَانَ فَإِنْ ثَبَتَا فَهُمَا قَوْلَانِ.
وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ مِنْ رَمَضَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُبْهَمَةٌ عَلَيْنَا.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَابْنِ مَسْعُودٍ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ.
وَلِلطَّحَاوِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلِيٍّ تِسْعَ عَشْرَةَ.
وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ ثَمَانِ عَشْرَةَ، أَوْ مُبْهَمَةً فِي الْعَشْرِ الْوَسَطِ أَوْ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنَ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ وَمَالَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، أَوْ إِنْ كَانَ الشَّهْرُ تَامًّا فَلَيْلَةُ عِشْرِينَ وَنَاقِصًا فَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، أَوْ لَيْلَةُ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ لَيْلَةُ الثَّلَاثِينَ.
قَالَ عِيَاضٌ: مَا مِنْ لَيْلَةٍ مِنَ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ إِلَّا وَقِيلَ إِنَّهَا فِيهِ أَوْ فِي أَوْتَارِ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا فِي هَذَا الْبَابِ، قَالَ الْحَافِظُ وَهُوَ أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ: أَوْ فِي أَوْتَارِهِ بِزِيَادَةِ اللَّيْلَةِ الْأَخِيرَةِ.
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ، أَوْ تَنْتَقِلُ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ كُلِّهِ نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَزَعَمَ الْمَاوَرْدِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِهَا مِنْهُ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الصَّحِيحِ «أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ» .
ثُمَّ اخْتَلَفَ قَائِلُوهُ هَلْ هِيَ مُحْتَمَلَةٌ فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ أَوْ بَعْضُ لَيَالِيهِ أَرْجَى؟ فَفِي أَنَّهَا إِحْدَى أَوْ ثَلَاثٌ أَوْ سَبْعٌ أَقْوَالٌ، أَوْ تَنْتَقِلُ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، أَوْ تَنْتَقِلُ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ أَوْ لَيْلَةُ سِتَّ عَشْرَةَ أَوْ سَبْعَ عَشْرَةَ، أَوْ لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ تِسْعَ عَشْرَةَ أَوْ إِحْدَى عَشْرَةَ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَنَسٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.
أَوْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ أَوْ تَاسِعُ لَيْلَةٍ أَوْ سَابِعَ عَشْرَةَ أَوْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ آخِرُ لَيْلَةٍ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
أَوْ لَيْلَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى عَشْرَةَ أَوْ ثَلَاثٌ وَعِشْرِينَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مَقَالٌ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلِيٍّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عَائِشَةَ بِسَنَدَيْنِ مُنْقَطِعَيْنِ، أَوْ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَبْعٌ يَبْقَيْنَ أَوْ سَبْعٌ يَمْضِينَ.
وَلِأَحْمَدَ

(2/327)


عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ «سَابِعَةٌ تَمْضِي أَوْ سَابِعَةٌ تَبْقَى» ، قَالَ النُّعْمَانُ: فَنَحْنُ نَقُولُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ أَوْ لَيْلَةَ إِحْدَى أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ مُنْحَصِرَةٌ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ، أَوْ لَيْلَةُ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، «أَوْ فِي أَشْفَاعِ الْعَشْرِ الْوَسَطِ وَالْعَشْرِ الْأَخِيرِ أَوْ لَيْلَةُ الثَّالِثَةِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ أَوِ الْخَامِسَةِ مِنْهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ مُعَاذٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الثَّالِثَةَ تَحْتَمِلُ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَتَحْتَمِلُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَيَنْحَلُّ إِلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ أَوْ خَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَبِهَذَا غَايَرَ مَا مَضَى، أَوْ فِي سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ مِنْ أَوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي.
رَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ: " «أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَالَ: تَحَرَّهَا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ» " ثُمَّ عَادَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: " إِلَى ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ "، «فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحْيِي لَيْلَةَ سِتَّ عَشْرَةَ إِلَى ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ ثُمَّ يُقَصِّرُ، أَوْ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ أَوِ الْوَتْرِ مِنَ اللَّيَالِي» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ مُرْسَلًا
أَوْ «لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» نَقَلَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى إِمْكَانِ حُصُولِهَا وَالْحَثِّ عَلَى الْتِمَاسِهَا.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُعْلَمُ وَهَذَا يَصْلُحُ عَدُّهُ قَوْلًا.
وَأَنْكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ: قَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ بِإِمْكَانِ الْعِلْمِ بِهَا وَأَخْبَرَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهِ.
قَالَ الْحَافِظُ: هَذَا مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَبَعْضُهَا يُمْكِنُ رَدُّهُ إِلَى بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا التَّغَايُرَ وَأَرْجَحُهَا كُلُّهَا أَنَّهَا فِي وَتْرٍ مِنَ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ كَمَا يُفْهَمُ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَأَرْجَى أَوْتَارِهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَأَرْجَاهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَبِهِ جَزَمَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَحَلَفَ عَلَيْهِ كَمَا فِي مُسْلِمٍ، وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «تَذَاكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّكُمْ يَذْكُرُ حِينَ طَلَعَ الْقَمَرُ كَأَنَّهُ شِقُّ جَفْنَةٍ» "، قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْفَارِسِيُّ: أَيْ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَإِنَّ الْقَمَرَ يَطْلُعُ فِيهَا بِتِلْكَ الصِّفَةِ.
وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " «سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَذْكُرُ لَيْلَةَ الصَّهْبَاوَاتِ؟ قُلْتُ: أَنَا وَذَلِكَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» ".
وَفِي مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " «رَأَى رَجُلٌ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» "، وَلِأَحْمَدَ عَنْهُ مَرْفُوعًا: " «لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» "، وَلِابْنِ الْمُنْذِرِ: " «مَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» "، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَمُعَاوِيَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَنَحْوِهِ، وَحُكِيَ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " دَعَا عُمَرُ الصَّحَابَةَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَقُلْتُ لِعُمْرَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَوْ أَظُنُّ أَيَّ لَيْلَةٍ هِيَ، قَالَ عُمَرُ: أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ؟ فَقُلْتُ: سَابِعَةٌ تَمْضِي أَوْ سَابِعَةٌ تَبْقَى مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَسَبْعَ أَرَضِينَ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ وَالدَّهْرُ يَدُورُ فِي سَبْعٍ، وَالْإِنْسَانُ خُلِقَ مِنْ سَبْعٍ وَيَسْجُدُ عَلَى سَبْعٍ،

(2/328)


وَالطَّوَافُ سَبْعٌ، وَالْجِمَارُ سَبْعٌ، وَإِنَّا نَأْكُلُ مِنْ سَبْعٍ، قَالَ تَعَالَى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا - وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس: 27 - 28] (سُورَةُ عَبَسَ: الْآيَةُ 27، 28) الْآيَةَ، قَالَ: فَالْأَبُّ لِلْأَنْعَامِ وَالسَّبْعَةُ لِلْإِنْسِ، فَقَالَ عُمَرُ: تَلُومُونِي فِي تَقْرِيبِ هَذَا الْغُلَامِ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَوْ أَدْرَكَ أَسْنَانَنَا مَا عَاشَرَهُ مِنَّا رَجُلٌ وَنِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ "، وَرَوَى ابْنُ رَاهْوَيْهِ وَالْحَكَمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ عُمَرَ كَانَ إِذَا دَعَا الْأَشْيَاخَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَتَكَلَّمْ حَتَّى يَتَكَلَّمُوا، فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وِتْرًا» أَيِ الْوِتْرَ، فَقَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ تَاسِعَةً سَابِعَةً خَامِسَةً ثَالِثَةً، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ؟ قُلْتُ: أَتَكَلَّمُ بِرَأْيِي؟ قَالَ: عَنْ رَأْيِكَ أَسْأَلُكَ، فَقُلْتُ: فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَفِي آخِرِهِ فَقَالَ عُمَرُ: أَعَجَزْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَ هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي مَا اسْتَوَتْ شُئُونُ رَأْسِهُ، وَقَالَ: إِنِّي لَأَرَى الْقَوْلَ كَمَا قُلْتَ "، وَزَادَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ النَّسَبَ فِي سَبْعٍ ثُمَّ تَلَا: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] (سُورَةَ النِّسَاءِ: الْآيَةُ 23) الْآيَةَ، وَقِيلَ اسْتَنْبَطَ ذَلِكَ مِنْ عَدَدِ كَلِمَاتِ السُّورَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ هِيَ سَابِعُ كَلِمَةٍ بَعْدَ عِشْرِينَ نَقَلَهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَبَالَغَ فِي رَدِّهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّهُ مِنْ مُلَحِ التَّفْسِيرِ لَا مِنْ مَتِينِ الْعِلْمِ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: حِكْمَةُ إِخْفَائِهَا لِيُجْتَهَدَ فِي الْتِمَاسِهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ عُيِّنَتْ لَهَا لَيْلَةٌ لَاقْتُصِرَ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ تَطَّرِدُ عِنْدَ الْقَائِلِ أَنَّهَا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ أَوْ جَمِيعِ رَمَضَانَ أَوِ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ أَوْ أَوْتَارِهِ خَاصَّةً، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ ثُمَّ الثَّانِي أَلْيَقَ بِهِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ لَهَا عَلَامَةٌ تَظْهَرُ لِمَنْ وُفِّقَتْ لَهُ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: يَرَى كُلَّ شَيْءٍ سَاجِدًا، وَقِيلَ: يَرَى الْأَنْوَارَ فِي كُلِّ مَكَانٍ سَاطِعَةً حَتَّى الْأَمَاكِنِ الْمُظْلِمَةِ، وَقِيلَ: يَسْمَعُ سَلَامًا أَوْ خِطَابًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: عَلَامَتُهَا اسْتِجَابَةُ دُعَاءِ مَنْ وُفِّقَتْ لَهُ.
وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ، وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِحُصُولِهَا رُؤْيَةُ شَيْءٍ وَلَا سَمَاعُهُ، وَاخْتُلِفَ أَيْضًا هَلْ يَحْصُلُ الثَّوَابُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهَا لِمَنْ قَامَهَا وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ؟ وَذَهَبَ إِلَيْهِ الطَّبَرِيُّ وَالْمُهَلَّبُ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَجَمَاعَةٌ، أَوْ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَشْفِهَا لَهُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَيُوَافِقُهَا» ، قَالَ النَّوَوِيُّ: أَيْ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَهُوَ أَرْجَحُ فِي نَظَرِي.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ ذَلِكَ، وَفَرَّعُوا عَلَى اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِهَا شَخْصٌ دُونَ آخَرَ وَإِنْ كَانَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: فِي إِخْفَائِهَا دَلِيلٌ عَلَى كَذِبِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَظْهَرُ لِلْعُيُونِ لَيْلَتَهَا مَا لَا يَظْهَرُ فِي سَائِرِ السَّنَةِ، إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لَمْ يَخْفَ عَنْ مَنْ قَامَ لَيَالِيَ السَّنَةِ فَضْلًا عَنْ لَيَالِي رَمَضَانَ، تَعَقَّبَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي إِطْلَاقُ التَّكْذِيبِ لِذَلِكَ، فَيَجُوزُ أَنَّهَا كَرَامَةٌ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ فَيُخْتَصُّ بِهَا قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْصُرِ الْعَلَامَةَ وَلَمْ يَنْفِ الْكَرَامَةَ، وَكَانَتْ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَكَاهَا أَبُو سَعِيدٍ نُزُولَ الْمَطَرِ، وَنَحْنُ نَرَى كَثِيرًا مِنَ السِّنِينَ يَنْقَضِي رَمَضَانُ دُونَ مَطَرٍ مَعَ اعْتِقَادِنَا أَنَّهُ لَا يَخْلُو رَمَضَانُ مَنْ

(2/329)


لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَلَا يُعْتَقَدُ أَنَّهُ لَا يَرَاهَا إِلَّا مَنْ رَأَى الْخَوَارِقَ، بَلْ فَضْلُ اللَّهِ وَاسِعٌ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهَا إِلَّا عَلَى الْعِبَادَةِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةِ خَارِقٍ، وَآخَرُ رَأَى الْخَوَارِقَ بِلَا عِبَادَةٍ، وَالَّذِي حَصَلَ لَهُ الْعِبَادَةُ أَفْضَلُ، وَالْعِبْرَةُ إِنَّمَا هِيَ بِالِاسْتِقَامَةِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ تَكُونَ إِلَّا كَرَامَةً بِخِلَافِ الْخَارِقِ فَقَدْ يَقَعُ كَرَامَةً وَقَدْ يَقَعُ فِتْنَةً انْتَهَى.
وَقَدْ وَرَدَ لَهَا عَلَامَاتٌ أَكْثَرُهَا لَا تَقَعُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَمْضِيَ، مِنْهَا مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: " أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ فِي صَبِيحَتِهَا لَا شُعَاعَ لَهَا "، وَلِأَحْمَدَ عَنْهُ: مِثْلَ الطَّسْتِ.
وَلَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مِثْلَ الطَّسْتِ صَافِيَةً.
وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " لَيْلَةُ الْقَدْرِ طَلْقَةٌ لَا حَارَةٌ وَلَا بَارِدَةٌ، تُصْبِحُ الشَّمْسُ يَوْمَهَا حَمْرَاءَ ضَعِيفَةً "، وَلِأَحْمَدَ عَنْ عُبَادَةَ مَرْفُوعًا: " أَنَّهَا صَافِيَةٌ بَلْجَةٌ كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا صَاحِيَةٌ لَا حَرَّ فِيهَا وَلَا بَرْدَ، وَلَا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ يُرْمَى بِهِ فِيهَا، وَإِنَّ أَمَارَاتِهَا أَنَّ الشَّمْسَ فِي صَبِيحَتِهَا تَخْرُجُ مُسْتَوِيَةً لَيْسَ فِيهَا شُعَاعٌ مِثْلَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَلَا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ "، وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ كُلَّ يَوْمٍ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ إِلَّا صَبِيحَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ "، وَلَهُ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: " لَيْلَةُ الْقَدْرِ طَلْقَةٌ بَلْجَةٌ لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ، تُضِيءُ كَوَاكِبُهَا، وَلَا يَخْرُجُ شَيْطَانُهَا حَتَّى يُضِيءَ فَجْرُهَا "، وَلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ أَكْثَرُ فِي الْأَرْضِ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى "، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: " لَا يُرْسَلُ فِيهَا شَيْطَانٌ وَلَا يَحْدُثُ فِيهَا دَاءٌ "، وَعَنِ الضَّحَّاكِ: " يَقْبَلُ اللَّهُ التَّوْبَةَ فِيهَا مِنْ كُلِّ تَائِبٍ، وَهِيَ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِهَا "، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ الْأَشْجَارَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ تَسْقُطُ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ تَعُودُ إِلَى مَنَابِتِهَا، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَسْجُدُ فِيهَا.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي لُبَابَةَ أَنَّ الْمِيَاهَ الْمَالِحَةَ تَعْذُبُ لَيْلَتَهَا.
وَلِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ نَحْوَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَسْأَلُهُ الْعَوْنَ عَلَى التَّمَامِ خَالِصًا لِوَجْهِهِ، مُقَرِّبًا إِلَى دَارِ السَّلَامِ، مُتَوَسِّلًا بِحَبِيبِهِ خَيْرِ الْأَنَامِ.

(2/330)