شرح القسطلاني
إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري بسم الله الرحمن الرحيم
15 - أبواب الاستسقاء.
(بسم الله الرحمن الرحيم أبواب الاستسقاء) أي: الدعاء لطلب
السقيا، بضم السين، وهي المطر من الله تعالى عند حصول
الجدب على وجه مخصوص.
1 - باب الاِسْتِسْقَاءِ، وَخُرُوجِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الاِسْتِسْقَاءِ
(باب الاستسقاء، وخروج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- في الاستسقاء) إلى الصحراء.
كذا في رواية أبي ذر عن المستملي. بلفظ: أبواب، بالجمع ثم
الإفراد من غير بسملة، وسقط ما قبل باب من رواية الحموي
والكشميهني، ولأبي الوقت، والأصيلي: كتاب الاستسقاء. وثبتت
البسملة في رواية أبي عليّ بن شبويه.
والاستسقاء ثلاثة أنواع.
أحدها: أن يكون بالدعاء مطلقًا، فرادى ومجتمعين.
وثانيها: أن يكون بالدعاء خلف الصلاة ولو نافلة كما في
البيان وغيره عن الأصحاب، خلافًا لما وقع للنووي في شرح
مسلم من تقييده بالفرائض، وفي خطبة الجمعة.
وثالثها: وهو الأفضل، أن يكون بالصلاة والخطبتين، وبه قال
مالك، وأبو يوسف، ومحمد.
وعن أحمد: لا خطبة، وإنما يدعو ويكثر الاستغفار. والجمهور
على سنية الصلاة خلافًا لأبي حنيفة. وسيأتي البحث في ذلك
إن شاء الله تعالى.
1005 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ
عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: "خَرَجَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَسْتَسْقِي وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ". [الحديث 1005 - أطرافه
في: 1011، 1012، 1023، 1024، 1025، 1026، 1027، 1028،
6343].
وبالسند قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين (قال:
حدّثنا سفيان) الثوري (عن عبد الله بن أبي بكر) أي: ابن
محمد بن عمرو بن حزم، قاضي المدينة (عن عباد بن تميم) أي:
ابن زيد بن عاصم الأنصاري المازني (عن عمه) عبد اللَّه بن
زيد بن عاصم بن كعب، رضي الله عنه (قال):
(خرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في شهر
رمضان سنة ست من الهجرة إلى المصلّى حال كونه (يستسقي) أي:
يريد الاستسقاء (وحوّل رداءه) عند استقباله القبلة في
أثناء الاستسقاء، فجعل يمينه يساره، وعكسه.
ورواة هذا الحديث مدنيون إلا شيخ المؤلّف، وشيخ شيخه
فكوفيان، وفيه تابعي عن تابعي.
والتحديث، والعنعنة، والقول، وأخرجه المؤلّف أيضًا في:
الاستسقاء والدعوات، ومسلم في: الصلاة وكذا أبو داود
والترمذي والنسائي وابن ماجة.
2 - باب دُعَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي
يُوسُفَ)
باب دعاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(أجعلها سنين كسني) بسكون الياء المخففة (يوسف) الصديق
السبع المجدبة وأضيفت إليه لأنه الذي قام بأمور الناس
فيها.
وفي فرع اليونينية ضرب بالحمرة على: اجعلها، مع التنبيه
عليه في الحاشية، ولغير أبوي ذر، والوقت، والأصيلي، وابن
عساكر زيادة: "اجعلها عليهم سنين كسني يوسف". ولأبي الوقت:
اجعلها كسني يوسف. فاسقط: سنين.
1006 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قال حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ
الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا رَفَعَ
رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ
أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ
سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ
الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ. اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى
مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ.
وَأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ
سَالَمَهَا اللَّهُ".
قال ابنُ أبي الزنادِ عن أبيهِ هذا كلُّه في الصبحِ.
وبالسند قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد (قال: حدّثنا مغيرة
بن عبد الرحمن) الحزامي بكسر الحاء المهملة وتخفيف الزاي،
المدني (عن أبي الزناد) بالزاى والنون، عبد الله بن ذكوان
(عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة) رضي الله
عنه (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كان
إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة يقول):
(اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة) بكسر الجيم بعد همزة القطع،
وهي للتعدية. يقال: نجا فلان وأنجيته. (اللهم أنج سلمة بن
هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد) وهؤلاء قوم من أهل مكة
أسلموا
ففتنتهم قريش وعذبوهم، ثم نجوا منهم، ببركته عليه الصلاة
والسلام، ثم هاجروا إليه. (اللهم أنج المستضعفين من
المؤمنين) عام بعد خاص (اللهم اشدد وطأتك) بهمزة وصل في:
اشدد، وفتح الواو وسكون الطاء في قوله: وطأتك، أي: اشدد
عقوبتك (على) كفار قريش أولاد (مضر، اللهم اجعلها) أي:
الوطأة والسنين أو الأيام (سنين كسني يوسف) عليه الصلاة
والسلام في بلوغ غاية الشدة.
وسنين جمع سنة، وفيه شذوذان: تغيير مفرده من الفتح إلى
الكسر،
(2/235)
وكونه جميعًا لغير عاقل، وحكمه أيضًا مخالف
لجموع السلامة في جواز إعرابه: كمسلمين، وبالحركات على
النون، وكونه منوّنًا وغير منوّن، منصرفًا وغير منصرف.
(وأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قال في
الفتح: هذا حديث آخر، وهو عند المؤلّف بالإسناد المذكور،
وكأنه سمعه هكذا فأورده كما سمعه، (قال):
(غفار) بكسر الغين المعجمة وتخفيف الفاء، أبو قبيلة من
كنانة (غفر الله لها وأسلم) بالهمزة واللام المفتوحتين،
قبيلة من خزاعة (سالمها الله) تعالى، من: المسالمة. وهي
ترك الحرب، أو بمعنى: سلمها.
وهل هو إنشاء دعاء أو خبر؟ رأيان. وعلى كل وجه، ففيه جناس
الاشتقاق. وإنما خص القبيلتين بالدعاء لأن غفار أسلموا
قديمًا، وأسلم سالموه عليه الصلاة والسلام.
(قال ابن أبي الزناد) عبد الرحمن (عن أبيه) أبي الزناد:
(هذا) الدعاء (كله) كان (في) صلاة (الصبح). والحديث سبق في
باب: يهوي بالتكبير حين يسجد.
1007 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ:
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى
عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ
فَقَالَ: "إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لَمَّا رَأَى مِنَ النَّاسِ إِدْبَارًا قَالَ:
اللَّهُمَّ سَبْعٌ كَسَبْعِ يُوسُفَ. فَأَخَذَتْهُمْ
سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَىْءٍ، حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ
وَالْمَيْتَةَ وَالْجِيَفَ، وَيَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إِلَى
السَّمَاءِ فَيَرَى الدُّخَانَ مِنَ الْجُوعِ، فَأَتَاهُ
أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ تَأْمُرُ
بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّ قَوْمَكَ
قَدْ هَلَكُوا، فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ. قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ
بِدُخَانٍ مُبِينٍ -إِلَى قَوْلِهِ- عَائِدُونَ * يَوْمَ
نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} فَالْبَطْشَةُ يَوْمَ
بَدْرٍ، وَقَدْ مَضَتِ الدُّخَانُ وَالْبَطْشَةُ
وَاللِّزَامُ وَآيَةُ الرُّومِ". [الحديث 1007 - أطرافه
في: 1020، 4693، 4767، 4774، 4809، 4820، 4821، 4822،
4823، 4824، 4825].
وبه قال: (حدّثنا عثمان بن أبي شيبة) العبسي الكوفي، أخو
أبي بكر بن أبي شيبة (قال: حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد
(عن منصور) هو: ابن المعتمر الكوفي (عن أبي الضحى) مسلم بن
صبيح العطار الهمداني الكوفي (عن مسروق) هو: ابن الأجدع
الهمداني (قال: كنا عند عبد الله) ابن
مسعود، رضي الله عنه (فقال: وإن النبي، -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لما رأى من الناس) أي: قريش
(إدبارًا) عن الإسلام (قال):
(اللهم) ابعث، أو سلط عليهم (سبعًا) من السنين. ولغير أبوي
ذر، والوقت، والأصيلي: سبع، بالرفع. خبر مبتدأ محذوف، أي:
مطلوبي منك فيهم سبع (كسبع يوسف) التي أصابهم فيها القحط.
(فأخذتهم) أي: قريشًا (سنة) أي قحط وجدب (حصت) بالحاء
والصاد المشددة الممهملتين، أي: استأصلت وأذهبت (كل شيء)
من النبات (حتى أكلوا)، ولأبي ذر، والأصيلي عن الكشميهني:
حتى أكلنا (الجلود والميتة والجيف) بكسر الجيم وفتح
المثناة التحتية، جثة الميت إذا أراح، فهو أخص من مطلق
الميتة لأنها ما لم تذك (وينظر أحدهم) بالهاء ونصب الفعل
بحتى، أو برفعه على الاستئناف. والأول أظهر، والثاني في
نسخة أبي ذر، وأبي الوقت، كما نبه عليه في اليونينية.
ولأبي ذر، عن الحموي والمستملي: وينظر يحدكم (إلى السماء
فيرى الدخان من الجوع) لأن الجائع يرى بينه وبين السماء
كهيئة الدخان من ضعف بصره.
(فأتاه) عليه الصلاة والسلام (أبو سفيان) صخر بن حرب
(فقال: يا محمد، إنك تأمر بطاعة الله، وبصلة الرحم، وإن
قومك) ذوي رحمك (قد هلكوا) أي: من الجدب والجوع بدعائك
(فادع الله لهم). لم يقع في هذا السياق التصريح بأنه دعا
لهم.
نعم، وقع ذلك في سورة الدخان، ولفظه: فاستسقى لهم فسقوا
(قال الله تعالى {فارتقب}) أي: انتظر يا محمد عذابهم ({يوم
تأتي السماء بدخان مبين -إلى قوله- عائدون}) [الدخان: 10 -
15] أي إلى الكفر. ولأبي ذر، والأصيلي: إنكم عائدون ({يوم
نبطش البطشة الكبرى}) زاد الأصيلي: {إنّا منتقمون}
[الدخان: 16].
(فالبطشة) بالفاء، ولأبي ذر، والأصيلي: والبطشة (يوم بدر)
لأنهم ما التجؤوا إليه عليه الصلاة والسلام، وقالوا: ادع
الله أن يكشف عنّا فنؤمن لك، فدعا وكشف، ولم يؤمنوا انتقم
الله منهم يوم بدر. وعن الحسن: البطشة الكبرى يوم القيامة.
قال ابن مسعود: (وقد) ولأبوي ذر، والوقت، وابن عساكر: فقد
(مضت الدخان) وهو الجوع (والبطشة، واللزام) بكسر اللام
وبالزاي القتل (وآية) أول سورة (الروم).
قإن قلت: ما وجه إدخال هذه الترجمة في الاستسقاء؟.
أجيب: بأنه للتنبيه على أنه كما شرع الدعاء بالاستسقاء
للمؤمنين، كذلك شرع الدعاء بالقحط على الكافرين، لأن فيه
إضعافهم، وهو نفع للمسلمين. فقد ظهر من ثمرة ذلك التجاؤهم
إلى النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ليدعو
لهم برفعه القحط.
ورواه هذا الحديث كلهم كوفيون إلا جريرًا فرازي، وفيه:
التحديث والعنعنة والقول، وأخرجه المؤلّف في الاستسقاء
أيضًا، وفي التفسير، ومسلم في: التوبة، والترمذي والنسائي
في: التفسير.
3 - باب سُؤَالِ النَّاسِ الإِمَامَ الاِسْتِسْقَاءَ إِذَا
قَحَطُوا
(باب سؤال الناس) المسلمين وغيرهم (الإمام الاستسقاء إذا
قحطوا) بفتح القاف والحاء مبنيًا للفاعل.
يقال قحط المطر قحوطًا إذا احتبس
(2/236)
المسلمين فيكون من باب القلب لأن المحتبس
المطر لا الناس، أو يقال: إذا كان محتبسًا عنهم، فهم
محبوسون عنه.
وحكى الفراء قحط بالكسر، وللأصيلي، وأبي ذر: قحطوا، بضم
القاف وكسر الحاء مبنيًّا للمفعول. وقد سمع قحط القوم.
وسؤال مصدر مضاف لفاعله، والإمام مفعوله، وتاليه نصب على
نزع الخافض، أي: عن الاستسقاء. يقال: سألته الشيء، وعن
الشيء.
1008 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا
أَبُو قُتَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ أَبِي
طَالِبٍ:
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ
الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ
[الحديث 1008 - طرفه في: 1009].
وبالسند قال: (حدّثنا عمرو بن علي) بإسكان الميم، ابن بحر
الباهلي البصري الصيرفي (قال: حدّثنا أبو قتيبة) بضم القاف
وفتح التاء الفوقية، سلم، بفتح السين وسكون اللام،
الخراساني البصري (قال: حدّثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن
دينار، عن أبيه) عبد الله (قال:)
(سمعت ابن عمر) بن الخطاب، رضي الله عنهما (يتمثل بشعر أبي
طالب) أي: ينشده. زاد ابن عساكر فقال.
(وأبيض) أعربه ابن هشام في مغنيه مجرورًا بالفتحة، برب:
مضمرة.
وتعقبه البدر الدماميني في حاشيته عليه، ومصابيحه، فقال في
آخرهما: وليس كذلك، وفي أوّلهما: والظاهر أنه منصوب عطفًا
على: سيدًا المنصوب في البيت قبله، وهو قوله:
وما ترك قوم لا أبا لك سيدًا ... يحوط الذمارِ غير ذرب
مواكل
قال: وهو من عطف الصفات التي موصوفها واحد، ويجوز الرفع،
وهو في اليونينية أيضًا: خبر مبتدأ محذوف. هو أبيض (يستسقى
الغمام) بضم المثناة التحتية وفتح القاف، مبنيًا للمفعول:
أي يستسقي الناس الغمام (بوجهه) الكريم (ثمال اليتامى) أي:
بإفضاله، أو يطعمهم عند الشدة، أو عمادهم، أو ملجؤهم، أو
مغيثهم. وهو بكسر المثلثة والنصب أو الرفع، صفة لأبيض،
كقوله (عصمة) أي: مانع (للأرامل) يمنعهم مما يضرهم.
وفي غير اليونينية: ثمال وعصمة، بالجر فيهما مع الوجهين
الآخرين، صفة لأبيض على تقدير جره برب، وفيه ما مر.
والأرامل: جمع أرملة، وهي الفقيرة التي لا زوج لها،
والأرمل: الرجل الذي لا زوج له. قال:
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل
الذكر؟
نعم، استعماله في الرجل مجاز لأنه لو أوصى للأرامل خص
النساء دون الرجال.
واستشكل إدخال هذا الحديث في هذه الترجمة، إذ ليس فيه أن
أحدًا سأله أن يستسقي بهم.
وأجاب ابن رشيد: باحتمال أن يكون أراد بالترجمة الاستدلال
بطريق الأولى، لأنهم إذا كانوا يسألون الله به فيسقيهم،
فأحرى أن يقدموه للسؤال. اهـ.
قال في الفتح وهو حسن.
1009 - وَقَالَ عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ: حَدَّثَنَا سَالِمٌ
عَنْ أَبِيهِ: "رُبَّمَا ذَكَرْتُ قَوْلَ الشَّاعِرِ
وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَسْقِي، فَمَا يَنْزِلُ حَتَّى
يَجِيشَ كُلُّ مِيزَابٍ".
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالَ
الْيَتَامَى عِصْمَةً لِلأَرَامِلِ
وَهْوَ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ.
(وقال عمر بن حمزة) بضم العين وفتح الميم في الأول،
وبالحاء المهملة والزاي في الثاني، ابن عبد الله بن عمر بن
الخطاب، مما وصله أحمد وابن ماجة قال: (حدّثنا) عمي (سالم،
عن أبيه) عبد الله بن عمر، قال:
(ربما ذكرت قول الشاعر -وأنا أنظر-) جملة حالية (إلى وجه
النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)، حال كونه
(يستسقي) زاد ابن ماجة: على المنبر (فما ينزل) عنه (حتى
يجيش كل ميزاب) بفتح المثناة التحتية وكسر الجيم، من يجيش،
وآخره شين معجمة من: جاش يجيش إذا هاج، وهو كناية عن كثرة
المطر.
والميزاب ما يسيل منه الماء من موضع عال، ولأبي ذر،
والأصيلي عن الحموي، والكشميهني: لك ميزاب، بتقديم اللام
على الكاف. قال الحافظ ابن حجر: وهو تصحيف.
(وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وهو قول أبي طالب).
ومطابقة هذا التعليق للترجمة من قوله: يستسقي، ولم يكن
استسقاؤه عليه الصلاة والسلام إلا عن سؤال.
والظاهر أن طريق ابن عمر الأولى مختصرة من هذه المعلقة
المصرحة بمباشرته عليه الصلاة والسلام للاستسقاء بنفسه
الشريفة.
وأصرح من ذلك رواية البيهقي في دلائله، عن أنس، قال، جاء
أعرابي إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
فقال: يا رسول الله، أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا صبي
يغط. فقام عليه الصلاة والسلام يجر رداءه.
حتى صعد المنبر، فقال: "اللهم أسقنا .. الحديث" وفيه، ثم
قال، عليه الصلاة والسلام: "لو كان أبو طالب حيًا لقرّت
عيناه". من ينشدنا قوله؟ فقام عليّ فقال: يا رسول الله!
كأنك أردت قوله:
(2/237)
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال
اليتامى عصمة للأرامل
واقتصر ابن عساكر في روايته على قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه.
وأسقط باقيه اكتفاء بالسابق. وقدّم قوله: وهو قول أبي
طالب، على قوله: وأبيض، بعد قوله: كل ميزاب. وسقط قوله:
وهو عند أبوي ذر والوقت.
وهذا البيت من قصيدة جليلة بليغة من بحر الطويل، وعدّة
أبياتها مائة بيت وعشرة أبيات، قالها لما تمالأ قريش على
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ونفروا عنه من
يريد الإسلام.
فإن قلت: كيف قال أبو طالب: يستسقى الغمام بوجهه؟ ولم يره
قط استسقى وإنما كان بعد الهجرة؟.
فالجواب: أنه أشار إلى ما أخرجه ابن عساكر، عن جلهمة بن
عرفطة، قال: قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش: يا أبا
طالب! أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهلم فاستسق. فخرج أبو
طالب معه غلام يعني: النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، كأنه شمس دجن تجلت عن سحابة قتماء، وحوله
أغيلمة، فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام،
وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من ههنا وههنا، وأغدق
واغدودق، وانفجر له الوادي وأخصب النادي والبادي، وفي ذلك
يقول أبو طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه.
فإن قلت: قد تكلم في عمر بن حمزة، وفي عبد الرحمن بن عبد
الله بن دينار السابق في الطريق الموصولة، فكيف احتج
المؤلّف بهما؟
أجيب: بأن إحدى الطريقين عضدت الأخرى، وهذا أحد قسمي
الصحيح كما تقرر في علوم الحديث.
1010 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ
قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى
عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ
أَنَسٍ "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-
كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا
نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا
نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا.
قَالَ: فَيُسْقَوْنَ". [الحديث 1010 - طرفه في: 371].
وبه قال: (حدّثنا الحسن بن محمد) هو: ابن الصباح الزعفراني
البغدادي، صاحب الشافعي (قال: حدّثنا محمد بن عبد الله) بن
المثنى (الأنصاري) ولأبي ذر: حدّثنا الأنصاري (قال:
حدّثني) بالإفراد (أبي، عبد الله) برفع عبد الله عطف بيان
على: أبي المرفوع على الفاعلية (ابن المثنى) بن عبد الله
بن أنس بن مالك (عن) عمه (ثمامة بن عبد الله بن أنس) بن
مالك الأنصاري البصري، قاضيها. وثمامة، بضم المثلثة وتخفيف
الميم (عن) جدّه (أنس) رضي الله عنه، ولأبي ذر والأصيلي:
عن أنس بن مالك.
(أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان إذا قحطوا) بفتح
القاف والحاء، في الفرع مصححًا عليه، وضبطه الحافظ ابن
حجر: قحطوا، بضم القاف وكسر الحاء، أي: أصابهم القحط
(استسقى) متوسلاً (بالعباس بن عبد المطلب) رضي الله عنه
للرحم التي بينه وبين النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-.
فأراد عمر أن يصلها بمراعاة حقه إلى من أمر بصلة الأرحام،
ليكون ذلك وسيلة إلى رحمة الله تعالى (فقال:)
(اللهم إنّا كلنا نتوسل إليك بنبينا) صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حال حياته (فتسقينا، وإنا) بعده
(نتوسل إليه بعم نبينا) العباس، (فاسقنا).
(قال فيسقون).
وقد حكي عن كعب الأحبار: أن بني إسرائيل كانوا إذا قحطوا
استسقوا بأهل بيت نبيهم.
وقد ذكر الزبير بن بكار في الأنساب: أن عمر استسقى بالعباس
عام الرمادة، أي: بفتح الراء وتخفيف الميم، وسمي به العام
لما حصل من شدة الجدب، فاغبرت الأرض جدًّا. وذكر ابن سعد
وغيره: أنه كان سنة ثماني عشرة، وكان ابتداؤه مصدر الحاج
منها، ودام تسعة أشهر، وكان من دعاء العباس ذلك اليوم،
فيما ذكره في الأنساب: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب،
ولم يكشف إلا بتوبة، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا
إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث. فأرخت السماء مثل الجبال حتى
أخصبت الأرض، وعاش الناس.
وفي هذا الحديث: التحديث والعنعنة والقول.
4 - باب تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ فِي الاِسْتِسْقَاءِ
(باب تحويل الرداء في الاستسقاء) وللجرجاني، فيما حكاه في
المصابيح: تحريك الرداء بالراء والكاف. قيل: وهو وهم.
1011 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبٌ
قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي
بَكْرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ زَيْدٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- اسْتَسْقَى، فَقَلَبَ رِدَاءَهُ".
وبالسند قال: (حدّثنا إسحاق) بن إبراهيم الحنظلي (قال:
حدّثنا وهب) وللأصيلي: وأبي ذر: وهب بن جرير، بالجيم، هو:
ابن حازم الأزدي البصري (قال: أخبرنا) ولابن عساكر: حدّثنا
(شعبة) بن الحجاج (عن محمد بن أبي بكر) هو: ابن محمد بن
عمر بن حزم، أخو عبد الله بن أبي بكر الآتي (عن عباد بن
تميم) المازني الأنصاري (عن) عمه (عبد الله بن زيد) هو ابن
عاصم المازني.
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استسقى،
فقلب رداءه) عند استقباله القبلة في أثناه الاستسقاء فجعل
اليمين على
الشمال، والشمال
(2/238)
على اليمين تفاؤلاً بتحويل الحال عما هي
عليه، إلى الخصب والسعة.
أخرجه الدارقطني بسند رجاله ثقات مرسلاً، عن جعفر بن محمد،
عن أبيه بلفظ: حوّل رداءه ليتحوّل القحط.
وزاد أحمد: وحوّل الناس معه، وهو حجة على من خصه بالإمام.
ولأبي داود، والحاكم: أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، استسقى وعليه خميصة سوداء، فأراد أن يأخذ
بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه.
فهمه بذلك يدل على استحبابه، وتركه للسبب المذكور.
والجمهور على استحباب التحويل فقط، ولا ريب أن الذي اختاره
الشافعي أحوط.
ولم يقم في حديث عبد الله بن زيد سبب خروجه عليه الصلاة
والسلام، ولا صفته حال ذهابه إلى المصلّى، ولا وقت ذهابه.
نعم، في حديث عائشة المروي عند أبي داود وابن حبان: شكا
الناس إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قحط المطر، فأمر بمنبر وضع له في المصلّى، ووعد الناس
يومًا يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس، فقعد على
المنبر ... الحديث.
وبهذا أخذ الحنفية، والمالكية، والحنابلة، فقالوا: إن وقت
صلاتها وقت العيد، والراجح عند الشافعية: أنه لا وقت لها
معين، وإن كان أكثر أحكامها كالعيد، بل جميع الليل والنهار
وقت لها، لأنها ذات سبب. فدارت مع سببها كصلاة الكسوف.
لكن وقتها المختار وقت صلاة العيد كما صرح به الماوردي
وابن الصلاح لهذا الحديث.
وعند أحمد وأصحاب السنن من حديث ابن عباس: خرج -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- متبذلاً متواضعًا متضرعًا حتى
أتى المصلّى، فرقي المنبر، أي لابسًا ثياب بذلة، بكسر
الموحدة وسكون المعجمة، المهنة، لأنه اللائق بالحال، وفارق
العيد بأنه يوم عيد، وهذا يوم مسألة واستكانة.
وفي الرواية السابقة، أول الاستسقاء: وحول رداءه، بدل قوله
هنا فقلب رداءه. وهما بمعنى واحد.
وأعاد الحديث هنا لأنه ذكره أولاً لمشروعية الاستسقاء
والخروج إلى الصحراء، وهنا لمشروعية تحويل الرداء خلافًا
لمن نفاه.
1012 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
بَكْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ يُحَدِّثُ
أَبَاهُ عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ "أَنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ
إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى، فَاسْتَقْبَلَ
الْقِبْلَةَ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ
يَقُولُ: هُوَ صَاحِبُ الأَذَانِ، وَلَكِنَّهُ وَهْمٌ
لأَنَّ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ
الْمَازِنِيُّ، مَازِنُ الأَنْصَارِ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني (قال: حدّثنا
سفيان) بن عيينة (قال: حدّثنا عبد الله بن أبي بكر)، أخو
محمد بن أبي بكر السابق، ولأبي ذر، وعزاه العيني كابن حجر
للحموي والمستملي: عن عبد الله بن أبي بكر، وقد صرح ابن
خزيمة في روايته بتحديث عبد الله به لا بن عيينة (أنّه سمع
عباد بن تميم) المازني (يحدث أباه) أي أبا عبد الله بن أبي
بكر، ولا يعود الضمير على عباد (عن عمه عبد الله بن زيد)
أي ابن عاصم.
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، خرج إلى
المصلّى) بالصحراء، لأنه أبلغ في التواضع وأوسع للناس.
(فاستسقى، فاستقبل) بالفاء، ولابن عساكر. واستقبل (القبلة،
وقلب) ولأبي ذر: وحول (رداءه، وصلّى) بالناس (ركعتين) أي:
كما يصلّي في العيدين.
رواه ابن حبان وغيره.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقياسه: أن يكبر في أول الأولى: سبعًا، وفي الثانية:
خمسًا، ويرفع يديه ويقف بين كل
تكبيرتين مسبحًا حامدًا مهللاً، ويقرأ جهرًا في الأولى {ق}
وفي الثانية {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] أو {سبح}
و {الغاشية}.
واستدلّ الشيخ أبو إسحاق، في المهذّب له، بما رواه
الدارقطني: أن مروان أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سنة
الاستسقاء؟ فقال: سنة الاستسقاء الصلاة كالصلاة في
العيدين، ألا أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
قلب رداءه. فجعل يمينه يساره، ويساره يمينه، وصلّى ركعتين
كبر في الأول سبع تكبيرات، وقرأ
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وقرأ في
الثانية: (هَلْ أَتَاكَ} [الغاشية: 1] وكبر خمس تكبيرات.
لكن قال في المجموع: إنه حديث ضعيف.
نعم، حديث ابن عباس عند الترمذي، ثم صلّى ركعتين كما يصلّي
في العيدين، كما مر ... أخذ بظاهره الشافعي، فقال: يكبر
فيهما كما سبق.
وذهب الجمهور إلى أنه: يكبر فيهما تكبيرة واحدة للإحرام
كسائر الصلوات. وبه قال: مالك، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد،
لحديث الطبراني في الأوسط، عن أنس: أنه، -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، استسقى، فخطب قبل الصلاة واستقبل
القبلة، وحول رداءه، ثم نزل فصلّى ركعتين لم يكبر فيهما
إلا تكبيرة.
وأجابوا عن قوله، في حديث الترمذي: كما يصلّي في العيدين،
يعني: في العدد والجهر بالقراءة، وكون الركعتين قبل
الخطبة.
ومذهب الشافعية والمالكية: أنه يخطب بعد الصلاة، لحديث ابن
ماجة وغيره: أنه، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
(2/239)
وَسَلَّمَ- خرج إلى الاستسقاء فصلّى
ركعتين، ثم خطب ولو خطب قبل الصلاة جاز لما سبق.
(قال أبو عبد الله) أي: البخاري: (كان ابن عيينة) سفيان
(يقول: هو) أي: راوي حديث الاستسقاء، عبد الله بن زيد بن
عبد ربه بن ثعلبة (صاحب) رؤيا (الأذان) في النوم.
(ولكنه وهم) بسكون الهاء، ولأبي ذر، وهم. بكسرها وفتح
الميم، وللأصيلي: ولكنه هو وهم (لأن هذا) أي: راوي حديث
الاستسقاء (عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، مازن
الأنصار) لا مازن بني تميم، وغيره.
5 - باب انْتِقَامِ الرَّبِّ جَلَّ وَعَزَّ مِنْ خَلْقِهِ
بِالْقَحْطِ إِذَا انْتُهِكَت مَحَارِمُ اللَّهِ
6 - باب الاِسْتِسْقَاءِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ
(باب) جواز (الاستسقاء في المسجد الجامع) أي: فلا يشترط
الخروج إلى الصحراء.
ولأبي ذر عن الحموي: باب انتقام الرب، عز وجل، من خلقه
بالقحط إذا انتهكت محارمه.
1013 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو
ضَمْرَةَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ
أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَذْكُرُ "أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ وُجَاهَ الْمِنْبَرِ
وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِمًا فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَانْقَطَعَتِ
السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا. قَالَ: فَرَفَعَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ
اسْقِنَا اللَّهُمَّ اسْقِنَا، قَالَ أَنَسٌ: وَلاَ
وَاللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلاَ
قَزَعَةً وَلاَ شَيْئًا،
وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلاَ دَارٍ.
قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ
التُّرْسِ. فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ،
ثُمَّ أَمْطَرَتْ- قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا
الشَّمْسَ سِتًّا. ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ
الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ -وَرَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِمٌ
يَخْطُبُ- فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، هَلَكَتِ الأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ،
فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا. قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَيْهِ
ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا،
اللَّهُمَّ عَلَى الإكَامِ وَالْجِبَالِ وَالظِّرَابِ
وَالأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ». قَالَ:
فَانْقَطَعَتْ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ. قَالَ
شَرِيكٌ: فَسَأَلْتُ أَنَسًا: أَهُوَ الرَّجُلُ الأَوَّلُ؟
قَالَ: لاَ أَدْرِي.
وبالسند قال: (حدّثنا محمد) هو: ابن سلام البيكندي (قال:
أخبرنا) وللأصيلي: حدّثنا (أبو ضمرة) بفتح الضاد المعجمة.
وسكون الميم (أنس بن عياض) بكسر العين المهملة، الليثي
المدني المتوفى سنة مائتين (قال: حدّثنا شريك بن عبد الله
بن أبي نمر) بفتح النون وكسر الميم، المدني (أنه سمع أنس
بن مالك) رضي الله عنه (يذكر: أن رجلاً) قيل: هو كعب بن
مرة وقيل: أبو سفيان بن حرب، وضعف الثاني بما سيأتي (دخل
يوم الجمعة من باب) من المسجد النبوي بالمدينة (كان وجاه
المنبر) بكسر الواو، وللأصيلي، وأبي الوقت: وجاه، بضمها
أي: مواجهه، ومقابله. (ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قائم) حال كونه (يخطب) والجملة
السابقة حالية أيضًا (فاستقبل) الرجل (رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (قائمًا فقال):
(يا رسول الله) فيه دلالة على أن السائل كان مسلمًا،
فامتنع أن يكون أبا سفيان لأنه حين سؤاله لذلك لم يكن
أسلم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في حديث ابن مسعود
قريبًا (هلكت المواشي) من عدم ما تعيش به من الأقوات
المفقودة بحبس المطر.
كذا في رواية أبي ذر، وكريمة عن الكشميهني: المواشي.
ولغيرهما: هلكت الأموال، وهي في الفرع لأبي ذر أيضًا عنه،
والمراد بالأموال المواشي أيضًا لا الصامت. والمال عند
العرب هي: الإبل، كما أن المال عند أهل التجارة: الذهب
والفضة، ولابن عساكر: قال أبو عبد الله هلكت: يعني
الأموال، وأبو عبد الله هو البخاري.
(وانقطعت السبل) بضم السين والموحدة، أي: الطرق، فلم
تسلكها الإبل لهلاكها، أو ضعفها بسبب قلة الكلأ، أو بإمساك
الأقوات فلم تجلب، أو بعدمها يحمل عليها، وللأصيلي: وتقطعت
بالمثناة الفوقية وتشديد الطاء، من باب التفعل، والأولى من
باب الانفعال.
(فادع الله) فهو (يغيثنا) أو الرفع على أن الأصل: فادع
الله أن يغيثنا. فحذفت أن، فارتفع الفعل. وهل ذلك مقيس فيه
خلاف.
ولأبي ذر: أن يغيثنا، وضبطها البرماوي وغيره بالجزم جوابًا
للطلب وهو الأوجه، لكن الذي رويناه هنا هو الرفع والنصب
كما مر.
نعم، وقع في رواية الكشميهني، الآتية إن شاء الله تعالى في
الباب التالي، بالجزم، وأما أول الفعل هنا فمضموم في جميع
الفروع والأصول التي وقفت عليها، من باب: أغاث يغيث إغاثة،
من مزيد الثلاثي المجرد: من الغوث، وهو: الإجابة، أو هو من
طلب الغيث، أي: المطر. لكن المشهور عند اللغويين فتحها، من
الثلاثي المجرد في المطر يقال: غاث الله الناس والأرض
يغيثهم، بالفتح.
قال ابن القطاع: غاث الله عباده غيثًا وغياثًا: سقاهم
المطر، وأغاثهم: أجاب دعاءهم.
ويقال غاث وأغاث بمعنى، والرباعي أعلى.
وقال بعضهم، فيما نقله أبو عبد الله الأبي: على تقدير أنه
من الإغاثة لا من طلب الغيث، إنه من ذلك بالتعدية يعني:
اللهم هب لنا غيثًا، كما يقال: سقاه الله وأسقاه، أي: حصل
له سقياه، على من فرق بين اللفظين.
وضبطها البرماوي والوجهين مقدمًا للفتح، وكذا جوزهما في
الفتح، لكن يبقى النظر في الرواية نعم، ثبت الوجهان في
الرواية اللاحقة في فرع اليونينية.
(قال) أنس: (فرفع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يديه) أي: حذاء وجهه، ودعا (فقال) في دعائه:
(اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا) ثلاث مرات لأنه
كان إذا دعا دعا ثلاثًا. وهمزة اسقنا، فيها وصل كما في
الفرع، وجوز الزركشي قطعها معللاً بأنه ورد في القرآن
ثلاثيًا ورباعيًا.
قال في المصابيح إن ثبتت الرواية بهما، أي بالوصل والقطع
(2/240)
فلا كلام، وإلا اقتصرنا من الجائزين على ما
وردت الرواية به. اهـ.
(قال أنس: ولا) بالواو ولأبي ذر وابن عساكر: فلا (والله)
أي: فلا نرى والله (ما نرى في السماء من سحاب) أي: مجتمع،
وحذف نرى بعد فلا لدلالة قوله: ما نرى عليه، وكرر النفي
للتأكيد (ولا قزعة) بفتح القاف والزاي والعين المهملة، ثم
هاء تأنيث مفتوحًا على التبعية، لقوله: من سحاب محلاً.
ولأبوي ذر والوقت: ولا قزعة، مكسورًا كسر إعراب على
التعبثة له لفظًا، وهي: قطعة من سحاب رقيقة كأنها ظل، إذا
مرت من تحت السحاب الكثير، وخصه أبو عبيد بما يكون في
الخريف.
(ولا) نرى (شيئًا) من ريح وغيره مما يدل على المطر (وما)
ولأبي ذر: ولا (بيننا وبين سلع) بفتح السين وسكون اللام:
كفلس، جبل بالمدينة (من بيت ولا دار) يحجبنا عن رؤيته.
(قال: فطلعت) أي ظهرت (من ورائه) من وراء سلع (سحابة مثل
الترس) في الاستدارة لا في
القدر، زاد في رواية حفص بن عبيد الله، عند أبي عوانة:
فنشأت سحابة مثل رجل الطائر، وأنا أنظر إليها، وهو يدل على
صغرها، (فلما توسطت) السحابة (السماء انتشرت) بعد
استمرارها مستديرة (ثم أمطرت).
(قال) أي أنس، ولابن عساكر: فقال، بزيادة الفاء (والله)
بالواو ولأبوي ذر، والوقت، والأصيلي: فوالله (ما رأينا
الشمس ستًا) بكسر السين وتشديد المثناة الفوقية، أي: ستة
أيام، كذا في رواية الحموي، والمستملي.
ورواه سعيد بن منصور، عن الدراوردي ولأبوي ذر، والوقت،
والأصيلي، وابن عساكر: عن الكشميهني: سبتًا. بفتح السين
وسكون الموحدة أي أسبوعًا، وعبر به لأنه أوّله من باب
تسمية الشيء باسم بعضه، ولا تنافي بين الروايتين، لأن من
قال: سبعًا بالموحدة أضاف إلى الستة يومًا ملفقًا من
الجمعتين، ويأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى قريبًا.
(ثم دخل رجل) غير الأول، لأن النكرة إذا تكررت دلت على
التعدد، أو هذه القاعدة محمولة على الغالب، لما سيأتي إن
شاء الله تعالى عند قول أنس، آخر الحديث: لا أدري. وفي
رواية إسحاق عن أنس: فقام ذلك الرجل أو غيره، بالشك، ولأبي
عوانة، من طريق حفص، عن أنس: فما زلنا نمطر حتى جاء ذلك
الأعرابيّ (من ذلك الباب) الذي دخل منه السائل أولاً (في
الجمعة المقبلة ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قائم) حال كونه (يخطب) ولأبي ذر: قائمًا،
بالنصب على الحال، من فاعل يخطب، وهو الضمير المستكن فيه
(فاستقبله قائمًا) نصب على الحال من الضمير المرفوع في:
استقبله لا من المنصوب (فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال)
أي: المواشي بسبب كثرة المياه، لأنه انقطع المرعى، فهلكت
المواشي من عدم الرعي (وانقطعت السبل) لتعذر سلوكها من
كثرة المطر (فادع الله) بالفاء، ولأبي ذر، والأصيلي: ادع
الله (يمسكها) بالجزم، جوابًا للطلب. ولأبي ذر، وابن
عساكر، عن الكشميهني: أن يمسكها، بزيادة: أن. ويجوز الرفع،
أي: هو يمسكها. والضمير للأمطار أو السحابة.
(قال) أنس: (فرفع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يديه، ثم قال):
(اللهم حوالينا) بفتح اللام، أي: أنزل المطر حوالينا (ولا)
تنزله (علينا). والمراد صرفه عن الأبنية.
وفي الواو، من قوله: ولا علينا بحث يأتي قريبًا إن شاء
الله تعالى.
ثم بين المراد بقوله حوالينا فقال: (اللهم على الاكام)
بكسر الهمزة على وزن الجبال، وبهمزة مفتوحة ممدودة جمع
أكمة بفتحات: التراب المجتمع، أو: أكبر من الكدية، أو:
الهضبة الضخمة، أو: الجبل الصغير، وما ارتفع من الأرض
(والجبال) زاد في غير رواية أبوي ذر، والوقت،
والأصيلي، وابن عساكر: والآجام، بالمد والجيم (والظراب)
بكسر الظاء المعجمة آخره موحدة، جمع ظرب، ككتف بكسر الراء،
جبل منبسط على الأرض، أو: الروابي الصغار دون الجبل. أي:
أنزل المطر حيث لا نستضر به.
قال البرماوي والزركشي: وخصت بالذكر لأنها أوفق للزراعة من
رؤوس الجبال. اهـ.
وتعقبه في المصابيح بأن الجبال مذكورة في لفظ الحديث هنا،
فما هذه الخصوصية بالذكر؟ ولعله يريد الحديث الذي في
الترجمة الآتية، فإنه لم يذكر فيه الجبال.
(والأودية، ومنابت
(2/241)
الشجر) أي: المرعى، لا في الطرق المسلوكة.
فلم يدع عليه الصلاة والسلام برفعه، لأنه رحمة، بل دعا
بكشف ما يضرهم، وتصييره إلى حيث يبقى نفعه وخصبه، ولا
يستضر به ساكن ولا ابن سبيل. وهذا من أدبه الكريم، وخلقه
العظيم، فينبغي التأدب بمثل أدبه.
واستنبط من هذا أن من أنعم الله عليه بنعمة لا ينبغي له أن
يتسخطها لعارض يعرض فيها بل يسأل الله تعالى رفع ذلك
العارض، وإبقاء النعمة.
(قال) أنس: (فانقطعت) أي: الأمطار عن المدينة (وخرجنا نمشي
في الشمس).
(قال شريك) الراوي (فسألت) وللأصيلي: فسألنا (أنسًا: أهو)
أي: السائل الثاني (الرجل الأول؟ قال: لا أدري).
عبر أنس أولا بقوله: إن رجلاً دخل المسجد، وعبر ثانيًا
بقوله ثم دخل رجل. فأتى برجل نكرة في الموضعين، مع تجويزه
أن يكون الثاني هو الأول ففيه أن النكرة إذا أعيدت نكرة لا
يجزم بأن مدلولها ثانيًا غير مدلولها أولاً، بل الأمر
محتمل والمسألة مقررة في محلها، قاله في المصابيح.
فإن قلت: لِمَ لَمْ يباشر سؤاله، عليه الصلاة والسلام،
الاستسقاء بعض أكابر أصحابه؟.
أجيب: بأنهم كانوا يسلكون الأدب بالتسليم، وترك الابتداء
بالسؤال. ومنه قول أنس: كان يعجبنا أن يجيء الرجل من
البادية فيسأل.
واستنبط منه أبو عبد الله الأبي: أن الصبر على المشاق،
وعدم التسبب في كشفها أرجح، لأنهم إنما يفعلون الأفضل.
وفي هذا الحديث: التحديث، والإخبار، والسماع، والقول، وشيخ
المؤلّف من أفراده، وهو من الرباعيات، وأخرجه أيضًا في
الاستسقاء. وكذا مسلم وأبو داود والنسائي.
7 - باب الاِسْتِسْقَاءِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ غَيْرَ
مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ
(باب الاستسقاء في خطبة الجمعة) حال كون الخطيب (غير
مستقبل القبلة).
1014 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ:
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ "أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ
يَوْمَ جُمُعَةٍ مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ الْقَضَاءِ
-وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَائِمٌ يَخْطُبُ- فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِمًا ثُمَّ قَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتِ الأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ
السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا. فَرَفَعَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَيْهِ
ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا
اللَّهُمَّ أَغِثْنَا. قَالَ أَنَسٌ: وَلاَ وَاللَّهِ مَا
نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلاَ قَزَعَةً، وَمَا
بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلاَ دَارٍ. قَالَ
فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ.
فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ، ثُمَّ
أَمْطَرَتْ، فَلاَ وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ
سِتًّا. ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي
الْجُمُعَةِ -وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَائِمٌ يَخْطُبُ- فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتِ الأَمْوَالُ،
وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا
عَنَّا. قَالَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ
حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ
وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ
الشَّجَرِ". قَالَ: فَأَقْلَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي
الشَّمْسِ. قَالَ شَرِيكٌ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ:
أَهُوَ الرَّجُلُ الأَوَّلُ؟ فَقَالَ: مَا أَدْرِي.
وبالسند قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) بكسر العين (قال:
حدّثنا إسماعيل بن جعفر) الأنصاري المدني (عن شريك) هو:
ابن عبد الله بن أبي نمر (عن أنس بن مالك) رضي الله عنه.
(أن رجلاً دخل المسجد) النبوي بالمدينة (يوم جمعة)
بالتنكير لكريمة، كما في الفتح، ولأبوي ذر، والوقت،
والأصيلي: يوم الجمعة (من باب كان نحو دار القضاء) التي
بيعت في قضاء دين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي كان
أنفقه من بيت المال، وكتبه على نفسه، وكان ستة وثمانين
ألفًا، وأوصى ابنه عبد الله أن يباع فيه ماله، فباع ابنه
هذه الدار من معاوية، وكان يقال لها: دار قضاء دين عمر. ثم
طال ذلك فقيل لها دار القضاء.
(رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قائم) حال
كونه (يخطب فاستقبل) الرجل (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (قائمًا، ثم قال: يا رسول
الله! هلكت الأموال) أي: المواشي (وانقطعت السبل) الطرف
(فادع الله يغيثنا) بضم أوله، من: أغاث، أي: أجاب. وفتحه،
من: غاث للمطر.
كذا ثبت الوجهان هنا في فرع اليونينية، وبرفع المثلثة
بتقدير: هو، أو: أن أصله: أن يغيثنا، بالجزم على الجواب،
كما مر.
(فرفع رسول الله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
يديه) زاد ابن خزيمة من رواية حميد، عن أنس: حتى رأيت بياض
إبطيه. وللنسائي: ورفع الناس أيديهم مع رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدعون (ثم قال) عليه الصلاة
والسلام:
(اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا) ثلاث مرات كما في
السابقة.
لكنه قال فيها: اسقنا. قال الزركشي: كذا الرواية أغثنا
بالهمز رباعيًا، أي: هب لنا غيثًا.
والهمزة فيه للتعدية، وقيل: صوابه غثنا من غاث. قالوا:
وأما أغثنا، فإنه من الإغاثة وليس من طلب الغيث.
قال في المصابيح: وعلى تقدير تسليمه لا يضر اعتبار الإغاثة
من الغوث في هذا المقام، ولا ثم ما ينافيه. والرواية ثابتة
به، ولها وجه، فلا سبيل إلى دفعها. بمجرد ما قيل. اهـ.
وأشار بقوله: ولها وجه إلى ما مر في الباب السابق أنه
يقال: غاث، وأغاث، بمعنى. وقال ابن دريد: الأصل: غاثه الله
يغوثه غوثًا، فأميت. واستعمل: أغاثه. ويحتمل أن يكون معنى
أغثنا أعطنا غوثًا وغيثًا.
(قال أنس): (ولا) بالواو، وللأصيلي: فلا (والله ما نرى)
كرّر النفي قبل القسم وبعده للتأكيد، وإلا فلو قال: فوالله
ما نرى لكان الكلام مستقيمًا. وكذا لو قال: فلا نرى والله
(في السماء من سحاب) مجتمع (ولا قزعة) بالقاف والزاي
والمهملة المفتوحات والنصب على التبعية، لسحاب
(2/242)
من جهة المحل. ولأبوي ذر والوقت. والأصيلي:
قزعة، بالجر على التبعية له من جهة اللفظ. وهي: القطعة
الرقيقة من السحاب. كما مر. (وما بيننا وبين سلع) الجبل
المعروف (من بيت ولا دار) يحجب عن الرؤية.
(قال: فطلعت من ورائه) أي الجبل (سحابة مثل الترس) في
الاستدارة والكثافة، (فلما توسطت) السحابة (السماء،
انتشرت) وسقط عند الأربعة لفظ: السماء (ثم أمطرف، فلا
والله ما رأينا الشمس ستًا) بكسر السين، أي: ستة أيام،
ولأبوي ذر، والوقت، وابن عساكر: سبتًا، بفتح السين وسكون
الموحدة أي: من سبت إلى سبت، بدليل الرواية الأخرى: من
جمعة إلى جمعة، أو: السبت قطعة من الزمان.
وقد استدلّ الأبي لتصحيح رواية: ستًا بالكسر، برواية: من
جمعة إلى جمعة قال: لأنه إذا أزيلت الجمعتان اللتان دعا
فيهما صح ذلك. اهـ.
وقد مر: أنه لا تنافي بين الروايتين، وحينئذٍ فرواية: ستًا
بكسر السين لا تصحيف فيها، كما زعم بعضهم، وكيف يقال ذلك
مع رواية الثقات الأثبات لها والتوجيه الصحيح، فتأمل.
وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: سبعًا، بالعين بعد الموحدة
أي: سبعة أيام.
(ثم دخل رجل) آخر أو: وهو الأول (من ذلك الباب في الجمعة)
زاد في رواية أبي ذر والأصيلي: يعني الثانية (ورسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قائم) حال كونه
(يخطب، فاستقبله) حال كونه (قائمًا فقال: يا رسول الله!
هلكت الأموال) بسبب غير السبب الأول، وهو: كثرة الماء
المانع للماشية من الرعي،
أو: لعدم ما يكنها (وانقطعت السبل) لتعذر سلوكها من كثرة،
المطر، (فادع الله يمسكها عنا) بالجزم على الطلب، ولأبي
ذر، والأصيلي: أن يمسكها. وفي رواية قتادة: فادع ربك
يحبسها عنا. فضحك، وفي رواية ثابت: فتبسم، وزاد في رواية
حميد: لسرعة ملال ابن آدم.
(قال: فرفع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يديه)، ثم (قال: اللهم حوالينا ولا علينا) فيه حذف، أي:
أمطر في الأماكن التي حوالينا، ولا تمطر علينا.
وفي إدخال الواو في قوله: ولا علينا معنى دقيق، وذلك أنه:
لو أسقطها لكان مستسقيًا للاكام والظراب، ونحوها، مما لا
يستسقى له لقلة الحاجة إلى الماء هنالك. وحيث أدخل الواو:
آذن بأن طلب المطر على هذه الجهات ليس مقصودًا لعينه، ولكن
ليكون وقاية من أذى المطر على نفس المدينة، فليست الواو
ومتمحضة للعطف ولكنها كواو التعليل وهو كقولهم: تجوع الحرة
ولا تأكل بثدييها. فإن الجوع ليس مقصودًا لعينه ولكن لكونه
مانعًا من الرضاعة بأجرة إذ كانوا يكرهون ذلك. اهـ.
قال ابن الدماميني، بعد أن نقل ذلك عن ابن المنير: فليست
الواو مخلصة للعطف، ولكنها كواو التعليل وفائه. فالمراد
أنه إن سبق في قضائك أن لا بد من المطر، فاجعله حول
المدينة.
ويدل على أن الواو ليست لمحض العطف اقترانها بحرف النفي،
ولم يتقدم مثله. ولو قلت: اضرب زيدًا ولا عمرًا ما استقام
على العطف.
قلت: لم يستقم لي إجراء هذا الكلام على القواعد، وليس لنا
في كلام العرب واو وضعت للتعليل، وليست لا هنا للنفي،
وإنما هي الدعائية مثل: {رَبَّنَا لاَ تُؤاخِذْنَا}
[البقرة: 286] فالمراد: أنزل المطر حوالينا حيث لا نستضر
به، ولا تنزله علينا حيث نستضر به. فلم يطلب منع الغيث
بالكلية، وهو من حسن الأدب في الدعاء، لأن الغيث رحمة الله
ونعمته المطلوبة، فكيف يطلب منه رفع نعمته؟ وكشف رحمته؟
وإنما يُسأل سبحانه كشف البلاء، والمزيد من النعماء، وكذا
فعل عليه الصلاة والسلام. فإنما سأل جلب النفع، ودفع
الضرر، فهو استسقاء بالنسبة إلى محلين. والواو: لمحض
العطف، ولا: جازمة لا نافية ولا إشكال البتة.
ولو حذفت الواو، وجعلت لا نافية، وهي مع ذلك للعطف لاستقام
الكلام. لكن أوثر الأوّل، والله أعلم، لاشتماله على جملتين
طلبيتين، والمقام يناسبه.
(اللهم) أنزله (على الآكام) بكسر الهمزة وبفتحها مع المدّ،
وهي: ما دون الجبل وأعلى من الرابية (و) على (الظراب) بكسر
المعجمة: الروابي الصغار: وقيل فيهما غير ذلك، كما مر
(وبطون الأودية ومنابت الشجر قال فأقلعت) بفتح الهمزة من
الإقلاع أي: كفت وأمسكت السحابة الماطرة عن المدينة.
وفي رواية سعيد، عن شريك: فما هو إلا أن تكلم -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك، تمزق السحاب حتى
(2/243)
ما نرى
منه شيئًا أي: في المدينة. (وخرجنا نمشي في الشمس).
(قال شريك سألت أنس بن مالك) وللأربعة: فسألت، بالفاء،
ولأبي ذر: فسألت أنسًا: (أهو الرجل الأول؟ فقال: ما أدري).
8 - باب الاِسْتِسْقَاءِ عَلَى الْمِنْبَرِ
(باب الاستسقاء على المنبر).
1015 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "بَيْنَمَا
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ قَحَطَ الْمَطَرُ، فَادْعُ اللَّهَ
أَنْ يَسْقِيَنَا. فَدَعَا، فَمُطِرْنَا، فَمَا كِدْنَا
أَنْ نَصِلَ إِلَى مَنَازِلِنَا، فَمَا زِلْنَا نُمْطَرُ
إِلَى الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ. قَالَ فَقَامَ ذَلِكَ
الرَّجُلُ -أَوْ غَيْرُهُ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنَّا. فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اللَّهُمَّ
حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا. قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ
السَّحَابَ يَتَقَطَّعُ يَمِينًا وَشِمَالاً، يُمْطَرُونَ
وَلاَ يُمْطَرُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ".
وبالسند قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدّثنا أبو
عوانة) بفتح العين، الوضاح بن عبد الله اليشكري (عن قتادة)
بن دعامة (عن أنس) بن مالك، رضي الله عنه، (قال):
(بينما رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
يخطب يوم الجمعة) على المنبر، وهذا موضع الترجمة، لأن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بعد اتخاذ
المنبر لم يخطب يوم الجمعة إلا عليه، قاله الإسماعيلي،
والجمعة بالتعريف، ولأبي ذر في نسخة، والأصيلي وابن عساكر،
وأبي الوقت يوم جمعة (إذ جاءه رجل) أعرابي (فقال: يا رسول
الله! قحط المطر) بفتح القاف والحاء، أي: احتبس، ولأبي
الوقت، في نسخة قحط، بضم القاف وكسر الحاء (فادع الله أن
يسقينا. فدعا) عليه الصلاة والسلام (فمطرنا) بضم الميم
وكسر الطاء.
استعمله ثلاثيًّا، وهي لغة فيه بمعنى الرباعي، وفرق بعضهم
فقال: أمطر في العذاب، ومطر في الرحمة. والأحاديث واردة
بخلافه.
(فما كدنا أن نصل إلى منازلنا) أي: كاد أن يتعذر وصولنا
إلى منازلنا من كثرة المطر.
و: أن نصل، خبر كاد مع أن لأن بينها وبين عسى مقارضة في
دخول أن وعدمها.
ولأبي ذر: فما كدنا نصل إلى منازلنا، بإسقاط أن، وللمصنف
في الجمعة من وجه آخر: فخرجنا نخوض في الماء حتى أتينا
منازلنا (فما زلنا نمطر) بضم النون وسكون الميم وفتح
الطاء، من الجمعة (إلى الجمعة المقبلة. قال) أنس: (فقام
ذلك الرجل -أو غيره-) شك فيه (فقال: يا رسول الله! ادع
الله أن يصرفه) أي: المطر أو السحاب (عنا فقال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(اللهم حوالينا) بفتح اللام، ويقال فيه: حولنا وحولينا
(ولا علينا).
(قال فلقد رأيت السحاب يتقطع) حال كونه (يمينًا وشمالاً)
ويتقطع بفتح المثناة التحتية والفوقية والقاف وتشديد
الطاء، من باب: التفعل (يمطرون) أهل اليمين وأهل الشمال
(ولا يمطر أهل المدينة).
9 - باب مَنِ اكْتَفَى بِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ فِي
الاِسْتِسْقَاءِ
(باب من اكتفى بصلاة الجمعة في الاستسقاء) من غير أن ينويه
مع الجمعة كغيرها من المكتوبات والنوافل، وهي إحدى صوره
الثلاثة كما مر، خلافًا لأبي حنيفة حيث قال: لا يسن فيه
صلاة أصلاً، وتجويزها من غير تحويل فيه ولا استقبال.
1016 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ
مَالِكٍ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ
قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: هَلَكَتِ الْمَوَاشِي،
وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ، فَدَعَا، فَمُطِرْنَا مِنَ
الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ. ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ:
تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ، وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ،
وَهَلَكَتِ الْمَوَاشِي، فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا.
فَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلَى الإكَامِ وَالظِّرَابِ
وَالأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ. فَانْجَابَتْ عَنِ
الْمَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ".
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن
مالك) الإمام (عن شريك بن عبد الله) بن أبي نمر (عن أنس)
رضي الله عنه، وللأصيلي عن: أنس بن مالك (قال: جاء رجل إلى
النبي) وللأربعة إلى: رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، فقال: (هلكت المواشي) من قلة الأقوات بسبب عدم
المطر والنبات، (وتقطعت السبل) فلم تسلكها الإبل لضعفها
بسبب قلة الكلأ أو عدمه، وتقطعت بالمثناة الفوقية وتشديد
الطاء.
(فدعا) عليه الصلاة والسلام ربه (فمطرنا) وللأصيلي: فادع
الله، بدل قوله: فدعا. وكل من اللفظين مقدر فيما لم يذكر
فيه، أي: قال الرجل: ادع الله، فدعا، فمطرنا (من الجمعة
إلى الجمعة، ثم جاء) فاعله ضمير يعود على قوله: جاء رجل،
فيلزم اتحاد الرجل الجائي وكأنه تذكره بعد أن نسيه، أو
نسيه بعد أن كان تذكره (فقال) يا رسول الله: (تهدمت البيوت
وتقطعت السبل) بالمثناة وتشديد الدال والطاء فيهما (وهلكت
المواشي) من كثرة المطر (فادع الله يمسكها. فقال) عليه
الصلاة والسلام: (اللهم) أنزله (على الاكام) بكسر الهمزة
أو بفتحها مع المد، ولأبوي ذر، والوقت والأصيلي: فقام فقال
اللهم. ولغير ابن عساكر، وأبي ذر، والأصيلي: وهلكت
المواشي، فادع الله يمسكها بالجزم على الطلب، فقام -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: اللهم على الاكام
(والظراب و) على بطون (الأودية ومنابت الشجر).
(فانجابت) بالجيم والموحدة (عن المدينة) الشريفة (انجباب
الثوب) أي: خرجت كما يخرج الثوب عن لابسه، أو تقطعت كما
يتقطع الثوب قطعًا متفرقة.
10 - باب الدُّعَاءِ إِذَا تَقَطَّعَتِ السُّبُلُ مِنْ
كَثْرَةِ الْمَطَرِ
(باب) جواز (الدعاء) بالاستصحاء (إذا تقطعت السبل)
بالمثناة الفوقية وتشديد الطاء ولأبوي
(2/244)
ذر والوقت، والأصيلي، وابن عساكر: إذا
انقطعت السبل (من كثرة المطر).
1017 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ
عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَانْقَطَعَتِ
السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمُطِرُوا مِنْ
جُمُعَةٍ إِلَى جُمُعَةٍ. فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ، وَتَقَطَّعَتِ
السُّبُلُ، وَهَلَكَتِ الْمَوَاشِي. فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اللَّهُمَّ
عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ وَالإكَامِ. وَبُطُونِ
الأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ. فَانْجَابَتْ عَنِ
الْمَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ".
وبالسند قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس (قال: حدّثني)
بالإفراد (مالك) الإمام، خال إسماعيل المذكور (عن شريك بن
عبد الله بن أبي نمر، عن أنس بن مالك) رضي الله عنه (قال):
(جاء رجل إلى رسول الله) ولأبي ذر والأصيلي: إلى النبي
(-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال: يا رسول
الله! هلكت
المواشي) بسبب قحوط المطر، (وانقطعت السبل) بالنون بعد ألف
الوصل، ولأبي ذر: انقطعت السبل، وهلكت المواشي، ولابن
عساكر: وتقطعت السبل، بالمثناة وتشديد الطاء (فادع الله)
لنا يغيثنا.
(فدعا رسول الله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
فمطروا من جمعة إلى جمعة؛ فجاء رجل إلى رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال: يا رسول الله! تهدمت
البيوت، وتقطعت السبل) بالمثناة وتشديد الطاء، وفي رواية
حميد عن ابن خزيمة: واحتبس الركبان (وهلكت المواشي) من
كثرة المطر، فادع الله أن يصرفه عنا (فقال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(اللهم) أنزله (على رؤوس الجبال و) على (الآكام، وبطون
الأودية، ومنابت الشجر).
(فانجابت) أي: السحب الممطرة (عن المدينة) المقدسة (انجياب
الثوب). وأصل الجوبة، من: جاب: إذا قطع، ومنه قوله تعالى:
{وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ}
[الفجر: 9].
وموضع الترجمة قوله: يا رسول الله تهدمت البيوت ... الخ،
أي: من كثرة المطر.
11 - باب مَا قِيلَ إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يُحَوِّلْ رِدَاءَهُ فِي
الاِسْتِسْقَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
(باب ما قيل وإن النبي،-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، لم يحوّل رداءه في الاستسقاء يوم الجمعة) قيده
بالجمعة ليبين أن
تحويل الرداء في الباب السابق أوّل كتاب الاستسقاء خاص
بالمصلي.
1018 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ:
حَدَّثَنَا مُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ
عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: "أَنَّ رَجُلاً
شَكَا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- هَلاَكَ الْمَالِ وَجَهْدَ الْعِيَالِ، فَدَعَا
اللَّهَ يَسْتَسْقِي. وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ حَوَّلَ
رِدَاءَهُ، وَلاَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ".
وبالسند قال: (حدّثنا الحسن بن بشر) بكسر الموحدة وسكون
المعجمة، البجلي الكوفي (قال: حدّثنا معافى) بضم الميم
وفتح العين المهملة والفاء (ابن عمران) الموصلي، ياقوتة
العلماء (عن الأوزاعي) عبد الرحمن (عن إسحاق بن عبد الله)
ولأبي ذر زيادة، ابن أبي طلحة (عن) عمه (أنس بن مالك) رضي
الله عنه:
(أن رجلاً شكا إلى النبي،-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، هلاك المال)، الماشية لا الصامت من فقد الكلأ
بسبب قحوط المطر، (وجهد العيال) بفتح الجيم، أي مشقتهم
بسبب ذلك.
(فدعا الله) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- حال كونه (يستسقي) لهم، (ولم يذكر) أي: أنس أو
غيره، ممن دونه، ولهذا التردد عبر المصنف في الترجمة
بقوله: باب ما قيل: (أنه) عليه الصلاة والسلام (حول رداءه،
ولا استقبل القبلة) أي: في استسقائه يوم الجمعة.
وتعقب الإسماعيلي المؤلّف، فقال: لا أعلم أحدًا ذكر في
حديث أنس تحويل الرداء. وإذا قال المحدث: لم يذكر أنه حول،
لم يجز أن يقال: إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لم يحوّل، لأن عدم ذكر الشيء لا يوجب عدم ذلك
الشيء، فكيف يقول البخاري لم يحول؟ اهـ.
وتمسك بهذا الحديث أبو حنيفة فقال: لا صلاة ولا تحويل في
الاستسقاء، ولعله لم تبلغه الأحاديث المصرحة بذلك.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في: الاستسقاء
والاستئذان، ومسلم في: الصلاة، وكذا النسائي، والله أعلم.
12 - باب إِذَا اسْتَشْفَعُوا إِلَى الإِمَامِ
لِيَسْتَسْقِيَ لَهُمْ لَمْ يَرُدُّهُمْ
هذا (باب) بالتنوين (إذا استشفعوا) أي: الناس (إلى الإمام)
عند الحاجة إلى المطر (ليستسقي لهم) أي: لأجلهم (لم
يردهم)، بل عليه أن يجيب سؤالهم فيستسقي لهم، وإن كان ممن
يرى تفويض الأمر إلى الله تعالى.
1019 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ:
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ
قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ،
فَادْعُ اللَّهَ. فَدَعَا اللَّهَ فَمُطِرْنَا مِنَ
الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ. فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ،
وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ، وَهَلَكَتِ الْمَوَاشِي. فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
اللَّهُمَّ عَلَى ظُهُورِ الْجِبَالِ وَالإكَامِ وَبُطُونِ
الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ. فَانْجَابَتْ عَنِ
الْمَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف): التنيسي (قال: أخبرنا
مالك) الإمام الأعظم، (عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر)
بفتح النون وكسر الميم (عن أنس بن مالك) رضي الله عنه (أنه
قال:).
(جاء رجل) هو: كعب بن مرة وقيل غيره (إلى رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال: يا رسول الله،
هلكت المواشي وتقطعت السبل) بالمثناة الفوقية وتشديد
الطاء، من: تقطعت.
والسبل، بضمتين جمع سبيل، وهو الطريق يذكر ويؤنث. قال
تعالى: {وأن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً} وقال {قُلْ
هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: 108] وانقطاعها، إما بعدم المياه
التي يعتاد المسافرون ورودها، وإما باشتغال الناس وشدة
القحط عن الضرب في الأرض.
(فادع الله) لنا (فدعا الله، فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة)
الأخرى (فجاء رجل)
(2/245)
هو الأول (إلى النبي، -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال: يا رسول الله! تهدمت البيوت)
من كثرة المطر (وتقطعت السبل) بالمثناة الفوقية وتشديد
الطاء أي: تعذر سلوكها (وهلكت المواشى) فادع الله يمسكها
(فقال رسول الله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(اللهم) أي: يا الله انزل المطر (على ظهور الجبال والاكام)
بكسر الهمزة جمع: أكمة، بفتحها: ما غلظ من الأرض ولم يبلغ
أن يكون جبلاً وكان أكبر ارتفاعًا مما حوله. ويروى: الآكام
بفتح الهمزة ومدها، والاكم بضم الهمزة والكاف. جمع: إكام
ككتاب وكتب (وبطون الأودية، ومنابت الشجر) جمع منبت بكسر
الموحدة، أي: ما حولها مما يصلح أن ينبت فيه، لأن نفس
النبت لا يقع عليه المطر.
(فانجابت) أي: السحب الممطرة (عن المدينة انجياب الثوب).
فإن قلت: تقدم باب: سؤال الناس الإمام إذا قحطوا، فما
الفرق بينه وبين هذا الباب؟.
أجاب الزين بن المنير: بأن الأولى لبيان ما على الناس أن
يفعلوه إذا احتاجوا للاستسقاء. والثانية: لبيان ما على
الإمام من إجابة سؤالهم.
وأجاب ابن المنير أيضًا عن السر في كونه عليه الصلاة
والسلام لم يبدأ بالاستسقاء حتى سألوه، مع أنه عليه الصلاة
والسلام، أشفق عليهم منهم، وأولى بهم من أنفسهم، بأن مقامه
عليه الصلاة والسلام التوكل والصبر على البأساء والضراء،
ولذلك كان أصحابه الخواص يقتدون به، وهذا المقام لا يصل
إليه العامة وأهل البوادي، ولهذا، والله أعلم، كان السائل
في الاستسقاء بدويًّا، فلما سألوه أجاب رعاية لهم وإقامة
لسنة هذه العبادة فيمن بعده من أهل الأزمنة التي يغلب على
أهلها الجزع، وقلة الصبر على اللأواء، فيؤخذ منه أن الأفضل
للأئمة الاستسقاء، ولن ينفرد بنفسه، بصحراء أو سفينة،
الصبر والتسليم للقضاء، لأنه عليه الصلاة والسلام قبل
السؤال فوّض ولم يستسق.
13 - باب إِذَا اسْتَشْفَعَ الْمُشْرِكُونَ
بِالْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْقَحْطِ
هذا (باب) بالتنوين (إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند
القحط).
1020 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ
قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ وَالأَعْمَشُ عَنْ أَبِي
الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ
فَقَالَ: "إِنَّ قُرَيْشًا أَبْطَئُوا عَنِ الإِسْلاَمِ،
فَدَعَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى هَلَكُوا فِيهَا،
وَأَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْعِظَامَ. فَجَاءَهُ أَبُو
سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، جِئْتَ تَأْمُرُ
بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّ قَوْمَكَ هَلَكُوا، فَادْعُ
اللَّهَ تَعَالَى. فَقَرَأَ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي
السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ثُمَّ عَادُوا إِلَى
كُفْرِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ نَبْطِشُ
الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} يَوْمَ بَدْرٍ -قَالَ وَزَادَ
أَسْبَاطٌ عَنْ مَنْصُورٍ-: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسُقُوا الْغَيْثَ،
فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ سَبْعًا. وَشَكَا النَّاسُ
كَثْرَةَ الْمَطَرِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا
وَلاَ عَلَيْنَا. فَانْحَدَرَتِ السَّحَابَةُ عَنْ
رَأْسِهِ، فَسُقُوا النَّاسُ حَوْلَهُمْ".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن كثير) العبدي البصري (عن سفيان)
الثوري (قال: حدّثنا منصور والأعمش) سليمان بن مهران،
كلاهما (عن أبي الضحى) مسلم بن صبيح بالتصغير (عن مسروق)
هو: ابن الأجدع (قال: أتيت ابن مسعود) عبد الله رضي الله
عنه.
وفي سورة الروم من التفسير عن مسروق قال: بينما رجل يحدث
في كندة فقال: يجيء دخان يوم القيامة، فيأخذ بأسماع
المنافقين وأبصارهم، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، ففزعنا،
فأتيت ابن مسعود (فقال:).
(إن قريشًا أبطأوا) أي: تأخروا (عن الإسلام) ولم يبادروا
إليه (فدعا عليهم النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) فقال
(اللهم أعني عليهم بسع كسبع يوسف) (فأخذتهم سنة) بفتح
السين، أي: جدب وقحط (حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة
والعظام) ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان من
ضعف بصره بسبب الجوع.
(فجاءه أبو سفيان) صخر بن حرب (فقال: يا محمد، جئت تأمر
بصلة الرحم، وإن قومك) ذوي رحمك (هلكوا) وللكشميهني: قد
هلكوا، أي: بدعائك عليهم من الجدب والجوع (فادع الله
تعالى) لهم، فإن كشف عنا نؤمن بك (فقرأ) عليه الصلاة
والسلام ({فارتقب}) أي: انتظر لهم ({يَوْمَ تَأْتِي
السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}) [الدخان: 10] زاد أبو ذر:
الآية.
(ثم عادوا) لما كشف الله عنهم (إلى كفرهم) فابتلاهم الله
تعالى بيوم البطشة (فذلك قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ
الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان: 16] يوم بدر) أو: يوم
القيامة، زاد الأصيلي {إنا منتقمون}.
والعامل في: يوم، فعل: دل عليه: إنّا منتقمون، لأن إن مانع
من عمله فيما قبله، أو: بدل
من يوم تأتي، وهذا يدل على أن مجيء أبي سفيان إليه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان قبل الهجرة، لأنه لم ينقل
أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر.
(قال) أي: البخاري (وزاد) ولابن عساكر: قال أبو عبد الله
وسقط ذلك كله لأبي ذر، واقتصر على قوله: وزاد (أسباط) بفتح
الهمزة وسكون المهملة وبالموحدة آخره طاء مهملة، ابن نصر،
لا: أسباط بن محمد (عن منصور) عن أبي الضحى، يعني بإسناده
السابق.
(فدعا رسول الله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
فسقوا الغيث) بضم السين والقاف، مبنيًّا للمفعول،
(2/246)
ونصب الغيث،
مفعوله الثاني (فأطبقت) أي: دامت وتواترت (عليهم سبعًا)
أي: سبعة أيام، وسقطت التاء لعدم ذكر المميز. فإنه يجوز
فيه الأمران حينئذ.
وفي تفسير سورة الدخان، من رواية أبي معاوية، عن الأعمش،
عن أبي الضحى، في هذا الحديث: فقيل: يا رسول الله! استسق
الله لمضر فإنها قد هلكت. قال: لمضر: إنك لجريء، فاستسقى
فسقوا. اهـ.
والقائل: يا رسول الله، الظاهر أنه أبو سفيان، لما ثبت في
كثير من طرق هذا الحديث في الصحيحين: فجاء أبو سفيان،
وإنما قال: لمضر، لأن غالبهم كان بالقرب من مياه الحجاز.
وكان الدعاء بالقحط على قريش، وهم سكان مكة، فسرى القحط
إلى من حولهم، ولعل السائل عدل عن التعبير بقريش، لئلا
يذكره بجرمهم. فقال: لمضر، ليندرجوا فيهم، ويشير أيضًا إلى
أن غير المدعوّ عليهم قد هلكوا بجريرتهم.
وقوله لمضر: إنك لجريء: أي: أتطلب أن أستسقي لهم مع ما هم
عليه من معصية الله والإشراك به.
وفي دلائل البيهقي عن كعب بن مرة، أو مرة بن كعب، قال: دعا
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على مضر،
فأتاه أبو سفيان بمكة، فقال: ادع الله لقومك، فإنهم قد
هلكوا.
ورواه أحمد، وابن ماجة، عن كعب بن مرة قال: جاءه رجل فقال:
استسق الله لمضر. فقال: إنك لجريء ألمضر؟ قال: يا رسول
الله، استنصرت الله فنصرك، ودعوت الله فأجابك. فرفع يديه
فقال "اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا، مريعًا طبقًا، عاجلاً غير
رائث، نافعًا غير ضار ... " الحديث. فظهر بذلك أن هذا
الرجل المبهم المقول له: إنك لجريء، هو أبو سفيان.
وأخرج أحمد أيضًا، والحاكم، عن كعب بن مرة أيضًا، قال: دعا
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على مضر،
فأتيته، فقلت: يا رسول الله! إن الله قد نصرك، وأعطاك،
واستجاب لك. وإن قومك قد هلكوا ... الحديث. فظهر أن فاعل
قال: يا رسول الله في الحديث الذي قبل هذا، هو: كعب بن
مرة. راويه، وعلى هذا فكأن أبا سفيان وكعبًا حضرًا جميعًا.
فكلمه أبو سفيان بشيء، فدلّ على اتحاد قصتهما.
وقد ثبت في هذه ما ثبت في تلك، من قوله: إنك لجريء. وغير
ذلك. وسياق كعب بن مرة مشعر بأن ذلك وقع بالمدينة، لقوله:
استنصرت الله فنصرك، ولا يلزم من هذا اتحاد هذه القصة مع
قصة أنس السابقة، فهي واقعة أخرى، لأن في رواية أنس: فلم
ينزل عن المنبر حتى مطروا. وفي هذه: فما كان إلا جمعة أو
نحوها حتى مطروا.
والسائل في هذه القصة، غير السائل في تلك. فهما قصتان، وقع
في كل منهما طلب الدعاء بالاستسقاء، ثم طلب الدعاء
بالاستصحاء. كذا قرره الحافظ ابن حجر، رادًّا به على من
غلط أسباط بن نصر في هذه الزيادة، ونسبه إلى أنه أدخل
حديثًا في آخر. فقال:
وإن قوله: فسقوا الغيث، إنما كان في قصة المدينة التي
رواها أنس، لا في قصة قريش.
وأجاب البرماوي بأن المعنى: أن سفيان يروي عن منصور واقعة
مكة، وسؤال أهل مكة وهو بها قبل الهجرة، وزاد عليه أسباط،
عن منصور، ذكر الواقعتين، لا أن الثانية مسببة عن الأولى،
ولا أن السؤال فيهما معًا كان بالمدينة. اهـ.
(وشكا الناس) إليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(كثرة المطر، قال) وللأربعة، فقال:
(اللهم) أنزل المطر (حوالينا ولا) تنزله (علينا فانحدرت
السحابة عن رأسه فسقوا الناس حولهم) برفع الناس على البدل
من الضمير، أو فاعل على لغة: أكلوني البراغيث. ويجوز النصب
على الاختصاص، أي: أعني الناس الذين في المدينة وحولها.
14 - باب الدُّعَاءِ إِذَا كَثُرَ الْمَطَرُ "حَوَالَيْنَا
وَلاَ عَلَيْنَا"
(باب الدعاء إذا كثر المطر "حوالينا ولا علينا") بإضافة
باب لتاليه.
1021 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا
مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ
أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فَقَامَ النَّاسُ
فَصَاحُوا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَحَطَ
الْمَطَرُ، وَاحْمَرَّتِ الشَّجَرُ، وَهَلَكَتِ
الْبَهَائِمُ، فَادْعُ اللَّهَ يَسْقِينَا. فَقَالَ:
اللَّهُمَّ اسْقِنَا (مَرَّتَيْنِ). وَايْمُ اللَّهِ مَا
نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً مِنْ سَحَابٍ، فَنَشَأَتْ
سَحَابَةٌ وَأَمْطَرَتْ، وَنَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ
فَصَلَّى. فَلَمَّا انْصَرَفَ لَمْ تَزَلْ تُمْطِرُ إِلَى
الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا. فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ صَاحُوا
إِلَيْهِ: تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ وَانْقَطَعَتِ
السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يَحْبِسُهَا عَنَّا.
فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ
عَلَيْنَا. فَكُشِطَتِ الْمَدِينَةُ، فَجَعَلَتْ تُمْطِرُ
حَوْلَهَا، وَلاَ تَمْطُرُ بِالْمَدِينَةِ قَطْرَةً،
فَنَظَرْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَإِنَّهَا لَفِي مِثْلِ
الإِكْلِيلِ".
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر، وأبي الوقت، بالتوحيد (محمد
بن أبي بكر) المقدمي الثقفي البصري (قال: حدّثنا معتمر)
هو: ابن سليمان التيمي (عن عبيد الله) بضم العين، ابن عمر
بن حفص بن عاصم العمري (عن ثابت) البناني (عن أنس) ولأبي
ذر: أنس بن مالك، رضي الله عنه، أنه (قال):
(كان النبي) ولأبي ذر: رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يخطب يوم جمعة) بالتنكير، ولأبي ذر،
في نسخة،
وابن عساكر: يوم الجمعة (فقام) إليه (الناس، فصاحوا
فقالوا: يا رسول الله! قحط المطر) بفتح القاف والحاء
والطاء، أي: احتبس (واحمرت الشجر) أي: تغير لونها من
الخضرة إلى الحمرة من اليبس، وأنث الفعل باعتبار
(2/247)
جنس الشجر (وهلكت البهائم) بفتح اللام،
ومضارعه يهلك بكسرها، وفيه لغة قليلة بالعكس، ويروى: هلكت
المواشي: أي الأنعام والدواب (فادع الله يسقينا) ولأبوي ذر
والوقت، وابن عساكر: أن يسقينا (فقال) عليه الصلاة
والسلام:
(اللهم اسقنا مرتين) طرف للقول لا للسقي أي: قال ذلك مرتين
(وايم الله) بهمزة الوصل (ما نرى في السماء قزعة) بفتح
القاف والزاي والعين المهملة، قطعة (من سحاب). قال أبو
عبيد: وأكثر ما يكون القزع في الخريف (فنشأت سحابة وأمطرت)
بالواو، ولأبي ذر في نسخة: فأمطرت.
(ونزل) عليه الصلاة والسلام (عن المنبر فصلّى) الجمعة
(فلما انصرف، لم تزل تمطر) بضم المثناة الفوقية وسكون
الميم وكسر الطاء، ولأبي ذر: لم يزل المطر (إلى الجمعة
التي تليها، فلما قام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، يخطب، صاحوا إليه: تهدمت البيوت، وانقطعت
السبل) بالنون قبل القاف، (فادع الله يحبسها عنا) بالجزم
على الطلب، وبالرفع على الاستئناف.
(فتبسم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم
قال) ولأبي ذر، وابن عساكر: فقال، ولأبوي ذر، والوقت:
وقال:
(اللهم) أمطر في الأماكن التي (حوالينا ولا) تمطر (علينا).
قال الشافعي في الأم: وإذا كثرت الأمطار وتضرر الناس،
فالسنة أن يدعى برفعها: "اللهم حوالينا ولا علينا". ولا
يسرع لذلك صلاة، لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لم يصل لذلك.
(فكشطت المدينة) بفتح الفاء والكاف والشين المعجمة والطاء
المهملة، وفي الفتح: فكشطت، مبنيًّا للمفعول، ولأبوي ذر،
والوقت، وابن عساكر: وتكشطت، بالواو والمثناة الفوقية
والكاف والمعجمة المشددة المفتوحات، أي: تكشفت (فجعلت
تمطر) بفتح أوله وضم ثالثه، ويجوز: تمطر، بضم ثم كسر، وهي
رواية أبي ذر (حولها ولا) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي،
وابن عساكر: وما (تمطر) بفتح المثناة الفوقية وضم الطاء
(بالمدينة قطرة، فنظرت إلى المدينة وإنها لفي مثل الإكليل)
بكسر الهمزة وهو: ما أحاط بالشيء وروضة مكللة محفوفة
بالنور، وعصابة تزين بالجوهر ويسمى التاج: إكليلاً.
15 - باب الدُّعَاءِ فِي الاِسْتِسْقَاءِ قَائِمًا
(باب الدعاء في الاستسقاء) حال كونه (قائمًا) في الخطبة،
وغيرها، ليراه الناس فيقتدوا به.
1022 - وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ زُهَيْرٍ عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ "خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ
الأَنْصَارِيُّ وَخَرَجَ مَعَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ
وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ رضي الله عنهم فَاسْتَسْقَى،
فَقَامَ بِهِمْ عَلَى رِجْلَيْهِ عَلَى غَيْرِ مِنْبَرٍ،
فَاسْتَغْفَرَ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَجْهَرُ
بِالْقِرَاءَةِ، وَلَمْ يُؤَذِّنْ وَلَمْ يُقِمْ. قَالَ
أَبُو إِسْحَاقَ: وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبالسند إلى المؤلّف قال: (وقال لنا أبو نعيم) الفضل بن
دكين (عن زهير) بضم الزاي وفتح الهاء، ابن معاوية الكوفي
(عن أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي، قال:
(خرج عبد الله بن يزيد) من الزيادة (الأنصاري) الأوسي
الخطمي إلى الصحراء ليستسقي في سنة أربع وستين، حين كان
أميرًا على الكوفة من جهة عبد الله بن الزبير، (وخرج معه
البراء بن عازب، وزيد بن أرقم رضي الله عنهم، فاستسقى،
فقام) أي: عبد الله بن يزيد (بهم) ولأبوي ذر، والوقت، وابن
عساكر: لهم (على رجليه على غير منبر، فاستغفر) كذا لأبي
الوقت، وابن عساكر، وأبي ذر، وللكشميهني والحموي،
والمستملي: فاستقى (ثم صلّى ركعتين) حال كونه (يجهر
بالقراءة) فيهما وظاهره أنه أخر الصلاة عن الخطبة، وصرّح
بذلك الثوري في روايته، والذي عليه الجمهور تقديمها (ولم
يؤذن ولم يقم).
(قال أبو إسحاق) السبيعي (ورأى) بالهمز، من: الرؤية (عبد
الله بن يزيد الأنصاري النبي) وثبت الأنصاري لابن عساكر،
وللحموي وحده وروي، بالواو من الرواية، عبد الله بن يزيد،
عن النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وكذا هو
في نسخة الصغاني روي، من: الرواية.
وعلى هذا، فإن أريد به رواية ما صدر عنه من الصلاة وغيرها،
كان مرفوعًا، وإن أريد أنه روي عنه في الجملة، فيكون
موقوفًا. وهو يثبت له الصحبة.
وقد ذكره ابن طاهر في الصحابة الذين خرج لهم في الصحيحين،
أما سماع هذا الحديث بخصوصه فلا يثبت، وهذا الحديث أخرجه
مسلم في: المغازي.
1023 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبَّادُ
بْنُ تَمِيمٍ أَنَّ عَمَّهُ -وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَهُ
"أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
خَرَجَ بِالنَّاسِ يَسْتَسْقِي لَهُمْ، فَقَامَ فَدَعَا
اللَّهَ قَائِمًا، ثُمَّ تَوَجَّهَ قِبَلَ الْقِبْلَةِ
وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ فَأُسْقُوا".
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع (قال: حدّثنا
شعيب) هو ابن حمزة الحمصي (عن)
ابن شهاب (الزهري، قال: حدّثني) بالإفراد (عباد بن تميم)
المازني (أن عمه) عبد الله بن زيد المازني (وكان من أصحاب
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أخبره):
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج بالناس
(2/248)
يستسقي لهم فقام) على رجليه لا على منبر
(فدعا الله) حال كونه (قائمًا، ثم توجه قبل القبلة) بكسر
القاف وفتح الموحدة، أي: جهتها (وحول رداءه، فأسقوا) بهمزة
وقاف مضمومتين بينهما مهملة ساكنة، ولابن عساكر: فسقوا،
بفاء فسين فقاف مضمومتين، وكلاهما مبني للمفعول.
16 - باب الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الاِسْتِسْقَاءِ
(باب الجهر بالقراءة في) صلاة (الاستسقاء).
1024 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي
ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ
عَمِّهِ قَالَ: "خَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَسْقِي، فَتَوَجَّهَ إِلَى
الْقِبْلَةِ يَدْعُو، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى
رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ".
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين (قال: حدّثنا
ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن (عن) ابن شهاب (الزهري،
عن عباد بن تميم عن عمه) عبد الله بن زيد المازني، رضي
الله عنه (قال):
(خرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بالناس
إلى المصلّى (يستسقي) لهم، (فتوجه إلى القبلة) في أثناء
الخطبة الثانية (يدعو، وحول رداءه) فجعل عطافه الأيمن على
عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن.
رواه أبو داود بإسناد حسن.
ثم صلّى) بالناس (ركعتين) حال كونه (جهر) بلفظ الماضي،
ولأبوي ذر، والوقت: يجهر (فيهما بالقراءة) كصلاة العيد،
ونقل ابن بطال الإجماع عليه.
17 - باب كَيْفَ حَوَّلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ظَهْرَهُ إِلَى النَّاسِ
هذا (باب) بالتنوين (كيف حوّل النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ظهره إلى الناس).
1025 - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي
ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ
عَمِّهِ قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمَّا خَرَجَ يَسْتَسْقِي، قَالَ:
فَحَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ وَاسْتَقْبَلَ
الْقِبْلَةَ يَدْعُو، ثُمَّ حَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ
صَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا
بِالْقِرَاءَةِ".
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس (قال: حدّثنا ابن أبي
ذئب) محمد بن عبد الرحمن (عن) ابن شهاب (الزهري، عن عباد
بن تميم، عن عمه) عبد الله بن زيد، رضي الله عنه (قال):
(رأيت النبي،-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يوم
خرج) بالناس إلى المصلّى (يستسقي) لهم (قال: فحول إلى
الناس ظهره) عند إرادة الدعاء بعد فراغه من الموعظة،
فالتفت بجانبه الأيمن لأنه كان يعجبه التيامن في شأنه كله.
استشكل (1) قوله: فحوّل إلى الناس ظهره، لأن الترجمة
لكيفية التحويل. والحديث دل على وقوع التحويل فقط. وأجاب
الكرماني: بأن معناه حوله حال كونه داعيًا، وحمل الزين ابن
المنير قوله: كيف؟ على الاستفهام، فقال لما كان التحويل
المذكور لم يتبين كونه في ناحية اليمين أو اليسار، احتاج
إلى الاستفهام. اهـ. منه.
(واستقبل القبلة) حال كونه (يدعو، ثم حول رداءه) ظاهره: أن
الاستقبال وقع سابقًا لتحويل الرداء، وهو ظاهر كلام
الشافعي. ووقع في كلام كثير من الشافعية أنه يحول حال
الاستقبال.
والفرق بين تحويل الظهر، والاستقبال، أنه ابتداء التحويل
وأوسطه يكون منحرفًا حتى يبلغ الانحراف غايته، فيصير
مستقبلاً. قاله في الفتح.
(ثم صلّى لنا ركعتين) حال كونه (جهر فيهما بالقراءة).
واستدلّ ابن بطال من التعبير: بثم، في قوله: ثم حول رداءه،
أن الخطبة قبل الصلاة، لأن ثم للترتيب.
وأجيب: بأنه معارض بقوله في حديث الباب التالي استسقى
فصلّى ركعتين وقلب رداءه، لأنه اتفق على أن قلب الرداء
إنما يكون في الخطبة.
وتعقب: بأنه لا دلالة فيه على تقديم الصلاة لاحتمال أن
تكون الواو في: وقلب، للحال أو: للعطف، ولا ترتيب فيه.
نعم، في سنن أبي داود، بإسناد صحيح: أنه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطب ثم صلّى، ويدل له ما وقع في حديث
الباب، فلو قدم الخطبة جاز كما نقله في الروضة عن صاحب
التتمة، لكنه في حقنا أفضل، لأن رواية تأخير الخطبة أكثر
رواة، ومعتضدة بالقياس على خطبة العيد والكسوف.
وعن الشيخ أبي حامد مما نقله في المجموع عن أصحابنا تقديم
الخطبة للحديث، يعني: حديث الباب السابق، وغيره (
.......... ) (2). الجواز في بعض المواضع.
18 - باب صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَيْنِ
(باب صلاة الاستسقاء ركعتين) أراد به بيان كميتها، وأشار
إليها بقوله: ركعتين، على طريق عطف البيان على سابقه
المجرور بالإضافة.
1026 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ:
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
بَكْرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ: "أَنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
اسْتَسْقَى فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ".
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) الثقفي البلخي (قال:
حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن عبد الله بن أبي بكر) أي: ابن
محمد بن عمرو بن حزم (عن عباد بن تميم)، ولأبي ذر في نسخة،
ولأبي الوقت: سمع عباد بن تميم (عن عمه) عبد الله بن زيد،
رضي الله عنه (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- استسقى فصلّى ركعتين) كصلاة العيد فيما لها،
كالتكبير في أول الأولى سبعًا، وفي أول الثانية خمسًا.
ورفع يديه، وغير ذلك، إلا في تسعة أشياء.
في المناداة قبلها، بأن يأمر الإمام من ينادي بالاجتماع
لها في وقت معين.
وفي صوم يومها، لأن له أثرًا في رياضة النفس.
وفي إجابة الدعاء؛ وصوم ثلاثة قبله.
وترك الزينة فيها بأن يلبس عند خروجه لها ثياب بذلة، وهي
التي
_________
(1) قوله "استشكل قوله. . . " الخ، هذه الجملة إلى قوله
"انتهى منه" موجودة في نسخ الطبع جميعها، وليست في نسخ
الخط التي بأيدينا ا. هـ. مصححه
(2) كذا بياض في الأصل.
(2/249)
تلبس حال الشغل للاتباع رواه الترمذي،
وصححه، وينزعها بعد فراغه من الخطبة.
وإكثار الاستغفار في الخطبة بدل إكثار التكبير الذي في
خطبة العيد.
وقراءة آية الاستغفار: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ
إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10]. الآية في الخطبة،
ويسر ببعض الدعاء فيها.
ويستقبل القبلة بالدعاء، ويرفع ظهر يديه إلى السماء.
ويحوّل رداءه، كما أشار إليه بقوله: (وقلب رداءه) عطف على
قوله: فصلّى ركعتين بالواو.
وهي لا تدل على الترتيب بل لمطلق الجمع.
19 - باب الاِسْتِسْقَاءِ فِي الْمُصَلَّى
(باب) صلاة (الاستسقاء في المصلّى) التي في الصحراء، لا في
المسجد، حيث لا عذر كمرض للاتباع كما سيأتي، ولأنه يحضرها
غالب الناس، والصبيان، والحيض والبهائم، وغيرهم. فالصحراء
أوسع لهم وأليق.
واستثنى صاحب الخصال المسجد الحرام وبيت المقدس. قال
الأذرعي: وهو حسن وعليه عمل السلف والخلف لفضل البقعة
واتساعها، كما مر في العيد. اهـ.
لكن الذي عليه أصحابنا استحبابها في الصحراء مطلقًا
للاتباع والتعليل السابق.
1027 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ:
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
بَكْرٍ سَمِعَ عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ:
"خَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
إِلَى الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِي، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ
فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ -قَالَ
سُفْيَانُ: فَأَخْبَرَنِي الْمَسْعُودِيُّ عَنْ أَبِي
بَكْرٍ قَالَ- جَعَلَ الْيَمِينَ عَلَى الشِّمَالِ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي (قال: حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن عبد الله بن أبي بكر) أي: ابن محمد بن
عمرو بن حزم أنه (سمع عباد بن تميم عن عمه) عبد الله بن
زيد، رضي الله عنه، (قال):
(خرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى
المصلّى) بالصحراء، حال كونه (يستسقي) للناس (واستقبل
القبلة، فصلّى
ركعتين، وقلب رداءه قال سفيان) بن عيينة (فأخبرني
المسعودي) عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن
مسعود (عن أبي بكر) والد عبد الله المذكور (قال) مفسرًا
قلب رداءه (جعل اليمين) من ردائه (على) عاتقه (الشمال)
والشمال منه على عاتقه اليمين.
وليس قوله: قال سفيان تعليقًا كما زعمه المزي، حيث علم على
المسعودي في التهذيب علامة التعليق، بل هو موصول عند
المؤلّف، معطوف على حديث عبد الله بن محمد المسندي عن
سفيان، قاله الحافظ ابن حجر في المقدمة.
20 - باب اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الاِسْتِسْقَاءِ
(باب استقبال القبلة) في الدعاء (في الاستسقاء) في أثناء
الخطبة الثانية، وهو نحو ثلثها، كما قاله النووي في
دقائقه، لأن الدعاء مستقبلها أفضل. فإن استقبل له في
الأولى لم يعده في الثانية.
قال النووي: ويلحق باستحباب استقبال القبلة للدعاء
بالوضوء، والغسل، والأذكار، والقراءة، وسائر الطاعات إلا
ما خرج بدليل، كالخطبة.
1028 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الْوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ
قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّ
عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ زَيْدٍ الأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ "أَنَّ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ إِلَى
الْمُصَلَّى يُصَلِّي، وَأَنَّهُ لَمَّا دَعَا -أَوْ
أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ- اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَحَوَّلَ
رِدَاءَهُ" قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: ابْنُ زَيْدٍ
هَذَا مَازِنِيٌّ، وَالأَوَّلُ كُوفِيٌّ هُوَ ابْنُ
يَزِيدَ.
وبه قال: (حدّثنا محمد) غير منسوب، ولأبي ذر في نسخة: محمد
بن سلام (قال: أخبرنا)
ولأبي ذر، وابن عساكر: حدّثنا، ولأبي ذر في نسخة، وأبي
الوقت: حدّثني (عبد الوهاب) بن عبد المجيد الثقفي (قال:
حدّثنا يحيى بن سعيد) الأنصاري (قال: أخبرني) بالتوحيد
(أبو بكر بن محمد) أي: ابن عمرو بن حزم (أن عباد بن تميم
أخبره أن) عمه (عبد الله بن زيد الأنصاري) رضي الله عنه
(أخبره):
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، خرج) بهم
(إلى المصلّى) بالصحراء، حال كونه (يصلّي) بالمثناة
التحتية أوله وكسر اللام، ولابن عساكر: فصلّى، بالفاء وفتح
اللام، وللمستملي: يدعو (وأنه لما دعا -أو أراد أن يدعو-)
شك الراوي (استقبل القبلة) واستدبر الناس (وحول رداءه)
فجعل ما على كل جانب من الأيمن والأيسر على الآخر.
(قال أبو عبد الله) البخاري: (ابن زيد هذا) راوي حديث
الباب: (مازني) أنصاري، ولأبي ذر: عبد الله بن زيد ...
الخ. (والأول) السابق في باب الدعاء في الاستسقاء قائمًا.
(كوفي، هو ابن يزيد) عبد الله بالمثناة التحتية في أوله،
من الزيادة.
قال في فتح الباري؛ كذا في رواية الكشميهني وحده هنا. اهـ.
وفي الفرع وأصله ساقط لأبي ذر، وابن عساكر. قال: وثبت عند
أبي الهيثم لأبوي ذر والوقت، واستشكل إثباته هنا، لأنه لا
ذكر لعبد الله بن يزيد هنا.
وأجيب: باحتمال أن يكون مراده بالأول: المذكور فيما مضى في
باب الدعاء في الاستسقاء قائمًا، كما مر وبالجملة، فلو
ذكره في باب: الدعاء في الاستسقاء قائمًا، حيث ذكر فيه عن
عبد الله بن يزيد حديثًا، وعن عبد الله بن زيد حديثًا،
لكان أليق، ليظهر تغايرهما حيث ذكرهما جميعًا، ولعل هذا من
تصرف الكشميهني، كأنه رأى ورقة مفردة فكتبها هنا احتياطًا.
21 - باب رَفْعِ النَّاسِ أَيْدِيَهُمْ مَعَ الإِمَامِ فِي
الاِسْتِسْقَاءِ
(باب رفع الناس أيديهم مع) رفع (الإمام) يديه في الدعاء
(في الاستسقاء) وسقط لابن عساكر: مع الإمام.
1029 - قَالَ أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي أَبُو
بَكْرِ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ
قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ
قَالَ: "أَتَى رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ هَلَكَتِ الْمَاشِيَةُ، هَلَكَ الْعِيَالُ، هَلَكَ
النَّاسُ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَيْهِ يَدْعُو، وَرَفَعَ النَّاسُ
أَيْدِيَهُمْ مَعَهُ يَدْعُونَ. قَالَ: فَمَا خَرَجْنَا
مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى مُطِرْنَا، فَمَا زِلْنَا
نُمْطَرُ حَتَّى كَانَتِ الْجُمُعَةُ الأُخْرَى، فَأَتَى
الرَّجُلُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَشِقَ
الْمُسَافِرُ، وَمُنِعَ الطَّرِيقُ".
(قال) ولأبي ذر: وقال (أيوب بن سليمان) بن بلال، شيخ
(2/250)
المؤلّف مما وصله أبو نعيم (حدّثني)
بالإفراد (أبو بكر بن أبي أويس) الأصبحي المدني، أخو
إسماعيل بن أبي أويس (عن سليمان بن بلال) التيمي، مولاهم
(قال يحيى بن سعيد) الأنصاري، ولأبي ذر: عن يحيى بن سعيد
قال: (سمعت أنس بن مالك) رضي الله عنه (قال):
(أتى رجل أعرابي)، ولابن عساكر: أتى أعرابي (من أهل البدو)
فيه تضعيف قول من قال: إنه العباس (إلى رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم الجمعة) وهو قائم يخطب،
فاستقبله قائمًا (فقال) وللأصيلي قال: (يا رسول الله! هلكت
الماشية).
وسبق في باب الدعاء إذا كثر المطر، قال: كان النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب يوم جمعة، فقام الناس
فصاحوا، فقالوا: يا رسول الله! قحط المطر ... والجمع بين
الروايتين أن الرجل قام أولاً فتبعه الناس، وكذا في الجمعة
الأخرى، أو أنهم صاحوا، فقام الرجل فتكلم عنهم، أو المراد
بالناس: الرجل لأنه لما كان قائمًا عنهم عبر عنه بهم،
وكأنهم هم الذين صاحوا. قاله ابن التين.
وإذا قلنا بتخصيص الرجل الأعرابي بالكلام، فترك خواص
الصحابة لذلك، لأن مقامهم العليّ يقتضي الرضا والتسليم،
بخلاف مقام السائل، فإنه مقام فقر وتمسكن.
(هلك العيال) ولابن عساكر: هلكت العيال، بتأنيث الضمير،
(هلك الناس. فرفع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يديه) حال كونه (يدعو، ورفع الناس أيديهم معه)
ولأبوي ذر، والوقت، وابن عساكر: مع رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يدعون).
استدلّ به على استحباب رفع اليدين في الدعاء للاستسقاء،
ولذا لم يرو عن الإمام مالك، رحمه الله، أنه رفع يديه إلاّ
في دعاء الاستسقاء خاصة.
وهل ترفع في غيره من الأدعية أم لا؟ الصحيح الاستحباب في
سائر الأدعية. رواه الشيخان وغيرهما.
أما حديث أنس، المروي في الصحيحين وغيرهما، الآتي في الباب
التالي إن شاء الله تعالى: أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلاّ في
الاستسقاء، فإنه: كان يرفع يديه حتى يُرى بياضُ إبطيه.
فمؤوّل على أنه لا يرفعهما رفعًا بليغًا، ولذا قال في
المستثنى: حتى يُرى بياضُ إبطيه.
نعم، ورد رفع يديه عليه الصلاة والسلام في مواضع.
كرفع يديه حتى ريء عفرة إبطيه، حين استعمل ابن اللتبية على
الصدقة، كما في الصحيحين.
ورفعهما أيضًا في قصة خالد بن الوليد، قائلاً: اللهم إني
أبرأ إليك مما صنع خالد، رواه البخاري والنسائي.
ورفعهما على الصفا، رواه مسلم وأبو داود.
ورفعهما ثلاثًا بالبقيع مستغفرًا لأهله، رواه البخاري في
رفع اليدين، ومسلم حين تلا قوله تعالى: ({إِنَّهُنَّ
أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36] الآية
قائلاً: "اللهم أمتي أمتي" رواه مسلم.
ولما بعث جيشًا فيهم عليّ قائلاً: "اللهم لا تمتني حتى
تريني عليًّا". رواه الترمذي.
ولما جمع أهل بيته، وألقى عليهم الكساء، قائلاً "اللهم
هؤلاء أهل بيتي". رواه الحاكم.
وقد جمع النووي في شرح المهذّب نحوًا من ثلاثين حديثًا في
ذلك من الصحيحين وغيرهما، وللمنذري فيه جزء.
قال الروياني: ويكره رفع اليد النجسة في الدعاء، قال:
ويحتمل أن يقال: لا يكره بحائل.
وفي مسلم وأبي داود، عن أنس، أنه-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، كان يستسقي هكذا، ومدّ يديه، وجعل بطونهما مما
يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه.
فقال أصحابنا الشافعية وغيرهم: السنة في دعاء القحط، ونحوه
من رفع بلاء، أن يجعل ظهر كفيه إلى السماء، وهي صفة
الرهبة، وإن سأل شيئًا يجعل بطونهما إلى السماء. والحكمة
أن القصد رفع البلاء بخلاف القاصد حصول شيء، أو تفاؤلاً
ليقلب الحال ظهرًا لبطن، وذلك نحو صنيعه في تحويل الرداء،
أو إشارة إلى ما يسأله، وهو أن يجعل بطن السحاب إلى الأرض
لينصب ما فيه من المطر.
(قال) أنس: (فما خرجنا من المسجد حتى مطرنا) بدون همزة،
مبنيًّا للمفعول. (فما زلنا نمطر) بضم النون وفتح الطاء
(حتى كانت الجمعة الأخرى. فأتى رجل) أي الأول، لأن الألف
واللام للعهد الذكري. وقد مر ما فيه، لكن رواية ابن عساكر:
فأتى رجل، صارفة لتعيينه، مثبتة للتردد. (إلى نبي الله)
ولأبوي ذر، والوقت، وابن عساكر: رسول الله (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله! بشق)
بالموحدة المفتوحة والمعجمة المكسورة، وبالقاف، كذا قيده
كراع في المنضد، ولأبوي ذر، والوقت: بشق، بفتح المعجمة،
وقيد به الأصيلي، أي: مل،
(2/251)
أو: تأخر، أو: اشتد عليه الضرر، أو: حبس
(المسافر، ومنع الطريق).
1030 - وَقَالَ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
جَعْفَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَشَرِيكٍ سَمِعَا
أَنَسًا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- "أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ
بَيَاضَ إِبْطَيْهِ".
(وقال الأويسي) عبد العزيز بن عبد الله، مما وصله أبو نعيم
في مستخرجه، (حدّثني) بالإفراد (محمد بن جعفر) هو ابن أبي
كثير المدني (عن يحيى بن سعيد) الأنصاري (وشريك) هو: ابن
عبد الله بن أبي نمر (سمعا أنسًا عن النبي، -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رفع) ولابن عساكر: أنه رفع
(يديه حتى رأيت بباض إبطيه).
استدلّ به غير واحد على خصوصيته عليه الصلاة والسلام ببياض
إبطيه.
وعورض بقول عبد الله بن أقرم الخزاعي، كنت أنظر إلى عفرة
إبطيه إذا سجد. رواه الترمذي، وحسنه غيره. والعفرة بياض
ليس بناصع.
نعم، الذي يعتقد فيه عليه الصلاة والسلام، أنه لم يكن
لإبطه رائحة كريهة، بل كان عطر الرائحة، كما ثبت في
الصحيحين.
وفي رواية ابن عساكر: حتى يُرى بياضُ إبطيه، وقول الأويسي
هذا ثابت للمستملي، وابن عساكر، وأبي الوقت.
قال في الفتح: وثبت لأبي الوقت، وكريمة في آخر الباب بعده،
وسقط للباقين رأسًا لأنه مذكور عند الجميع في: كتاب
الدعوات.
22 - باب رَفْعِ الإِمَامِ يَدَهُ فِي الاِسْتِسْقَاءِ
(باب رفع الإمام يده في الاستسقاء) كذا للحموي والمستملي.
ولا تكرار في هاتين الترجمين، هذه وسابقتها، لأن الأولى
لبيان اتباع المأمومين الإمام في رفع اليدين، وهذه لإثبات
رفعهما له في الاستسقاء، قاله ابن المنير.
10311031 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا
يَحْيَى وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ
قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "كَانَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاَ
يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَىْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلاَّ فِي
الاِسْتِسْقَاءِ، وَإِنَّهُ يَرْفَعُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ
إِبْطَيْهِ". [الحديث 1031 - طرفاه في: 3565، 6341].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: أخبرنا (محمد بن بشار) بموحدة
مفتوحة ومعجمة مشددة، ابن عثمان العبدي البصري يقال له:
بندار. (قال: حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (وابن أبي عدي)
محمد بن إبراهيم (عن سعيد) هو: ابن أبي عروبة (عن قتادة)
بن دعامة (عن أنس بن مالك) وفي رواية يزيد بن زريع عند
المؤلّف، في صفته عليه الصلاة والسلام: عن سعيد عن قتادة
أن أنسًا حدثهم.
وسقط عند ابن عساكر: ابن مالك (قال):
(كان النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لا يرفع
يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، وإنه يرفع) يديه
(حتى يرى بياض إبطيه) بسكون الموحدة.
وظاهره نفي الرفع في دعاء غير الاستسقاء، وهو معارض بما
ذكرته من الأحاديث السابقة في الباب السابق، فليحمل النفي
في هذا الحديث على صفة مخصوصة:
إما الرفع البليغ كما يدل عليه قوله: حتى يرى بياض إبطيه
كما مر.
وإما على: صفة اليدين في ذلك، كما في مسلم: استسقى عليه
الصلاة والسلام، فأشار بظهر كفيه إلى السماء. كما مر.
أو على: نفي رؤية أنس لذلك. وهو لا يستلزم نفي رؤية غيره،
ورواية المثبت مقدمة على النافي.
والحاصل: استحباب الرفع في كل دعاء إلا ما جاء من الأدعية
مقيدًا بما يقتضي عدمه، كدعاء الركوع والسجود ونحوهما.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في: صفة النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومسلم والنسائي وابن ماجة
في: الاستسقاء.
23 - باب مَا يُقَالُ إِذَا أَمْطَرَتْ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {كَصَيِّبٍ}: الْمَطَرُ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: صَابَ وَأَصَابَ يَصُوبُ.
(باب ما يقال إذا أمطرت) أي السماء. وما، بمعنى: الذي، أو
موصوفة أي: شيء يقال، فيكون: ما، الذي بمعنى شيء قد اتصف
بقوله: يقال. أو: استفهامية، أي: أي شيء يقال.
وأمطرت بالهمزة المفتوحة من الرباعي، ولأبي ذر: مطرت،
بفتحات من غير همزة من الثلاثي المجرد، وهما بمعنى، أو
الأول للشر، والثاني للخير.
(وقال ابن عباس) رضي الله عنهما، مما وصله الطبري من طريق
علي بن طلحة في تفسير قوله تعالى: أو ({كصيب}) [البقرة:
19]. هو: (المطر) وهو قول الجمهور.
(وقال غيره) غير ابن عباس: (صاب وأصاب يصوب) راجع إلى: صاب
أي، مضارعه: يصوب، فهو أجوف واوي، وأما: أصاب بالهمزة
فيقال فيه يصيب. والظاهر أن النساخ قدموا لفظة أصاب على
يصوب، وإنما كان: صاب يصوب وأصاب. وأشار به إلى الثلاثي
المجرد والمزيد فيه. اهـ.
1032 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ - هُوَ ابْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو
الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ - قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ
اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ
عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كَانَ إِذَا رَأَى الْمَطَرَ قَالَ: صَيِّبًا نَافِعًا".
تَابَعَهُ الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ.
وَرَوَاهُ الأَوْزَاعِيُّ وَعُقَيْلٌ عَنْ نَافِعٍ.
وبه قال: (حدّثنا محمد هو ابن مقاتل، أبو الحسن المروزي)
بفتح الواو، المجاور بمكة، وسقطت الكنية والنسبة عند: أبوي
ذر، والوقت، وابن عساكر. (قال: أخبرنا عبد الله) بن
المبارك
(قال: أخبرنا عبيد الله) بضم العين. ابن عمر العمري (عن
نافع) مولى ابن عمر (عن القاسم بن محمد) هو: ابن أبي بكر
الصديق (عن عائشة) رضي الله عنها، (أن رسول الله، -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كان إذا رأى المطر، قال):
(اللهم) اسقنا أو: اجعله (صيّبًا) بفتح الصاد
(2/252)
المهملة وتشديد المثناة التحتية، وهو المطر
الذي يصوب، أي ينزل ويقع. وفيه مبالغات من جهة التركيب
والبناء والتكثير، فدلّ على أنه نوع من المطر شديد هائل،
ولذا تممه بقوله: (نافعًا) صيانة عن الأضرار والفساد.
ونحوه قول الشاعر:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي
لكن نافعًا في الحديث أوقع وأحسن، وأنفع من قوله: غير
مفسدها.
قال في المصابيح: وهذا، أي قوله: "صيّبًا نافعًا" كالخبر
الموطئ في قولك: زيد رجل فاضل، إذ الصفة هي المقصودة
بالإخبار بها، ولولا هي لم تحصل الفائدة. هذا إن بنينا على
قول ابن عباس: إن الصيب هو: المطر. وإن بنينا على أنه:
المطر الكثير، كما نقله الواحدي، فكل من: صيبًا ونافعًا
مقصود، والاقتصار عليه محصل للفائدة اهـ.
وللمستملي: اللهم صبّا بالموحدة المشددة من غير مثناة من
الصب، أي: يا ألله اصببه صبّا نافعًا.
(تابعه القاسم بن يحيى) بن عطاء المقدمي الهلالي الواسطي،
المتوفى سنة سبع وتسعين ومائة (عن عبيد الله) العمري
المذكور، يعني: بإسناده قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف على
هذه الرواية موصولة.
(ورواه) أي الحديث المذكور (الأوزاعي)، عبد الرحمن بن
عمرو، وفيما أخرجه النسائي في: عمل يوم وليلة، وأحمد: لكن
بلفظ: هنيئًا بدل نافعًا. (و) رواه (عقيل) بضم العين وفتح
القاف، ابن خالد، فيما ذكره الدارقطني، (عن نافع) مولى ابن
عمر كذلك، وغاير بين قوله: تابعه، ورواه، لإفادة العموم في
الثاني لأن الرواية أعم من أن تكون على سبيل المتابعة أم
لا، أو: للتفنن في العبارة.
والحديث فيه رازيان، والثلاثة مدنيون. وفه رواية تابعي عن
تابعي عن صحابية، والتحديث والإخبار والعنعنة والقول،
وأخرجه النسائي في: عمل يوم وليلة، وابن ماجة: في الدعاء.
24 - باب مَنْ تَمَطَّرَ فِي الْمَطَرِ حَتَّى يَتَحَادَرَ
عَلَى لِحْيَتِهِ
(باب من تمطّر في المطر) بتشديد الطاء كتفعل، أي: تعرض
للمطر، وتطلب نزوله عليه (حتى يتحادر) المطر (على لحيته)
لأنه حديث عهد بربه كما في مسلم أي: قريب العهد بتكوين
ربه، ولم
تمسه الأيدي الخاطئة ولم تكدره ملاقاة أرض عبد عليها غير
الله تعالى. ولله در القائل:
تضوع أرواح نجد من ثيابهم ... عند القدوم لقرب العهد
بالدار
1033 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا
الأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيُّ قَالَ:
حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: "أَصَابَتِ
النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ عَلَى
الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَامَ أَعْرَابِيٌّ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْمَالُ، وَجَاعَ
الْعِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا أَنْ يَسْقِيَنَا.
قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَدَيْهِ وَمَا فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ.
قَالَ: فَثَارَ سَحَابٌ أَمْثَالُ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ
يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ
يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ. قَالَ: فَمُطِرْنَا
يَوْمَنَا ذَلِكَ وَفِي الْغَدِ وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ
وَالَّذِي يَلِيهِ إِلَى الْجُمُعَةِ الأُخْرَى. فَقَامَ
ذَلِكَ الأَعْرَابِيُّ أَوْ رَجُلٌ غَيْرُهُ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ وَغَرِقَ الْمَالُ،
فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ
حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا. قَالَ: فَمَا جَعَلَ
يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّمَاءِ إِلاَّ
تَفَرَّجَتْ، حَتَّى صَارَتِ الْمَدِينَةُ فِي مِثْلِ
الْجَوْبَةِ، حَتَّى سَالَ الْوَادِي -وَادِي قَنَاةَ-
شَهْرًا، قَالَ: فَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ
إِلاَّ حَدَّثَ بِالْجَوْدِ".
وبالسند قال: (حدّثنا محمد) ولأبوي ذر؟ والوقت، وابن
عساكر: محمد بن مقاتل (قال: أخبرنا عبد الله) ولأبي ذر:
عبد الله بن المبارك (قال: أخبرنا الأوزاعي) أبو عمرو، عبد
الرحمن (قال: حدّثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة
الأنصاري) المدني (قال: حدّثني) بالإفراد (أنس بن مالك)
رضي الله عنه (قال):
(أصابت الناس سنة) بفتح السين أي: شدة وجهد من الجدب، فاعل
مؤخر، (على عهد رسول الله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، فبينا) بغير ميم بعد النون (رسول الله) ولأبي
ذر: النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يخطب على
المنبر يوم الجمعة، قام أعرابي) من أهل البدو، لا يعرف
اسمه (فقال: يا رسول الله! هلك المال) ألفه منقلبة عن واو
بدليل ظهورها في الجمع.
وإنما جمع وإن كان اسم جنس، لاختلاف أنواعه، وهو: كل ما
يتملك وينتفع به. والمراد به هنا: مال خاص، وهو ما يتضرر
بعدم المطر من الحيوان والنبات، لكن لا مانع من حمله على
عمومه على معنى: أن شدة الغلاء تذهب أموال الناس في شراء
ما يقتاتون به، فقد هلكت الأموال. وإن اختلف السبب.
(وجاع العيال) لقلة الأقوات أو عدمها بحبس المطر (فادع
الله لنا أن يسقينا).
(قال) أنس: (فرفع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يديه) أي: حتى رئي بياض إبطيه (وما في السماء
قزعة) بفتحات، قطعة من سحاب (قال) أنس: (فثار السحاب)
بالمثلثة، وفى نسخة اليونينية: سحاب،
أي: هاج (أمثال الجبال) لكثرته (ثم لم ينزل) عليه الصلاة
والسلام (عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته)
المقدسة، وهذا موضع الترجمة، لأن تفعّل، في قوله: تمطر،
كما قال في الفتح: الأليق به هنا أن يكون بمعنى مواصلة
العمل في مهلة، نحو: تفكّر.
وكأن المؤلّف أراد أن يبين أن تحادر المطر على لحيته عليه
(2/253)
الصلاة والسلام، لم يكن اتفاقًا إذ كان
يمكنه التوقي منه بثوب ونحوه، كما قاله في المصابيح، أو
بنزوله عن المنبر أول ما وكف السقف، لكنه تمادى في خطبته
حتى كثر نزوله بحيث تحادر على لحيته، كما قاله في الفتح،
فترك فعل ذلك قصدًا للتمطر.
وتعقبه العيني: بأن، يأتي لمعان: للتكلف، كتشجع لأن معناه
كلف نفسه الشجاعة، وللاتخاذ: نحو: توسدت التراب، أي اتخذته
وسادة. وللتجنب: نحو، تأثم أي جانب الإثم. وللعمل: يعني
فيدل على أن أصل الفعل حصل مرة بعد مرة نحو: تجرعته، أي
شربته جرعة بعد جرعة.
قال ولا دليل في قوله: حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته،
على التمطر الذي هو من التفعل الدال على التكلف، ودعوى أنه
قصد التمطر لا برهان عليها، وليس في الحديث ما يدل لها.
واستدلاله بقوله: لأنه لو لم يكن باختياره لنزل عن المنبر
لا يساعده لأن لقائل أن يقول: عدم نزوله عن المنبر، إنما
كان لئلا يقطع الخطبة. كذا قال فليتأمل.
(قال) أنس (فمطرنا يومنا) ظرف، أي: في يومنا (ذلك، وفي
الغد) ولأبوي ذر: والوقت، والأصيلي، وابن عساكر: ومن الغد
(ومن بعد الغد والذي يليه إلى الجمعة الأخرى، فقام ذلك
الأعرابي أو) قال أنس: قام (رجل غيره) ولا منافاة بين تردد
أنس هنا وبين قوله في الرواية الأخرى: فأتى الرجل بالألف
واللام المفيدة للعهد الذكري إذ ربما نسي، ثم تذكر، أو كان
ذاكرًا ثم نسي.
(فقال: يا رسول الله! تهدم البناء وغرق المال) من كثرة
المطر (فادع الله لنا) يمسكها عنا. (فرفع رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يديه، وقال) بالواو،
ولأبي ذر وابن عساكر. وأبي الوقت: فقال:
(اللهم) أي: يا الله أنزل المطر (حوالينا ولا) تنزله
(علينا) وفي بعض الروايات: حولنا من غير ألف، وهما بمعنى.
وهو في موضع نصب إما على الظرف، وإما على المفعول به.
والمراد بحوالى المدينة: مواضع النبات أو الزرع، لا في نفس
المدينة وبيوتها، ولا فيما حوالى المدينة من الطرق، إلا لم
تزل بذلك شكواهم جميعًا.
ولم يطلب عليه الصلاة والسلام رفع المطر من أصله، بل سأل
رفع ضرره، وكشفه عن البيوت والمرافق والطرق، بحيث لا يتضرر
به ساكن ولا ابن سبيل، بل سأل إبقاءه في مواضع الحاجة، لأن
الجبال والصحارى، ما دام المطر فيها، كثرت الفائدة فيها في
المستقبل من كثرة المرعى والمياه وغير ذلك من المصالح، وفي
هذا دليل على قوّة إدراكه عليه الصلاة والسلام للخير على
سرعة البديهة.
(قال) أنس: (فما جعل) عليه الصلاة والسلام (يشير بيده)
ولأبي ذر: فما جعل يشير رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيده (إلى ناحية من السماء إلا تفرجت)
بفتح المثناة الفوقية والفاء وتشديد الراء بالجيم، أي:
تقطع السحاب، وزال عنها امتثالاً لأمره -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
وفيه دلالة على عظم معجزته عليه الصلاة والسلام، وهو: أن
سخرت له السحب كلما أشار إليها امتثلت بالإشارة دون كلام
(حتى صارت المدينة في مثل الجوبة) بفتح الجيم وسكون الواو
وبالموحدة، أي: تقطع السحاب عن المدينة وصار مستديرًا
حواليها، وهي خالية منه (حتى سال الوادي- وادي قناة) بفتح
القاف والنون الخفيفة، واد من أودية المدينة عليه حرث
ومزارع، وأضافه هنا إلى نفسه، أي: جرى فيه الماء من المطر
(شهرًا).
وهو من أبعد أمد المطر الذي يصلح الأرض التي هي متوعرة
جبلية، لأنه يتمكن في تلك الأيام بطولها الري فيها، لأنها
بارتفاع أقطارها لا يثبت الماء عليها فتبقى فيها حرارة،
فإذا دام سكب المطر عليها قلت تلك الحرارة وخصبت الأرض.
(قال) أنس: (فلم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود) بفتح
الجيم وسكون الواو، أي: بالمطر الكثير.
25 - باب إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ
هذا (باب) بالتنوين (إذا هبت الريح) ماذا يفعل أو يقول.
1034 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي
حُمَيْدٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ: "كَانَتِ
الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ إِذَا هَبَّتْ عُرِفَ ذَلِكَ فِي
وَجْهِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن أبي مريم) هو: سعيد بن محمد بن
الحكم بن أبي مريم (قال: أخبرنا محمد بن جعفر) المدني
(قال: أخبرني) بالإفراد (حميد) الطويل (أنه سمع أنسًا) رضي
الله عنه، زاد أبو ذر والوقت، ابن مالك، حال كونه (يقول):
(كانت الريح الشديدة إذا هبت، عُرِف ذلك في وجه النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي: ظهر فيه أثر
الخوف، مخافة أن يكون في ذلك الريح ضرر. وحذر أن يصيب أمته
العقوبة بذنوب
(2/254)
العاصين منهم رأفة ورحمة منه عليه الصلاة
والسلام.
ولمسلم من حديث عائشة: كان النبي، -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسألك
خيرها.
وخير ما فيها وخير ما أرسلت به. وأعوذ بك من شرها، وشر ما
فيها، وشر ما أرسلت به. قالت:
وإذا تخيلت السماء تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر،
فإذا أمطرت سرّي عنه، فعرفت ذلك
عائشة فسألته، فقال: "لعله يا عائشة كما قال قوم عاد
{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ
قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24].
وعصف الريح: اشتداد هبوبها، وريح عاصف: شديدة الهبوب.
وتخيل السماء هنا بمعنى: السحاب، وتخيلت إذا ظهر في السحاب
أثر المطر. وسرّي عنه، أي: كشف عنه الخوف وأزيل، والتشديد
فيه للمبالغة. وعارض: سحاب عرض ليمطر وقوله في حديث الباب:
الريح الشديدة، مخرج للخفيفة.
وروى الشافعي: ما هبت الريح إلا جثا النبي، -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، على ركبتيه، قال: "اللهم
اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابًا، اللهم اجعلها رياحًا ولا
تجعلها ريحًا".
26 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- «نُصِرْتُ بِالصَّبَا»
(باب قول النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
نصرت بالصبا) بفتح الصاد والموحدة والقصر.
1035 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ».
[الحديث 1035 - أطرافه في: 3205، 3343، 4105].
وبه قال: (حدّثنا مسلم) هو: ابن إبراهيم (قال: حدّثنا
شعبة) بن الحجاج (عن الحكم) بفتحتين، هو: ابن عتيبة (عن
مجاهد) هو: ابن جبر المفسر (عن ابن عباس) رضي الله عنهما
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال:).
(نصرت بالصبا) الريح التي تجيء من قبل ظهرك إذا استقبلت
القبلة وأنت بمصر، ويقال لها: القبول، بفتح القاف، لأنها
تقابل باب الكعبة إذ مهبها من مشرق الشمس.
وقال ابن الأعرابي: مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش.
وفي التفسير: أنها التي حملت ريح يوسف إلى يعقوب قبل
البشير إليه. فإليها يستريح كل محزون.
ونُصْرَته عليه الصلاة والسلام بالصبا كانت يوم الأحزاب،
وكانوا زهاء اثني عشر ألفًا حين حاصروا المدينة، فأرسل
الله عليهم ريح الصبا باردة، في ليلة شاتية، فسفت التراب
في وجوههم، وأطفأت نيرانهم، وقلعت خيامهم، فانهزموا من غير
قتال. ومع ذلك فلم يهلك منهم أحد، ولم يستأصلهم، لما علم
الله من رأفة نبيه عليه الصلاة والسلام بقومه رجاء أن
يسلموا.
(وأهلكت) بضم الهمزة وكسر اللام (عاد) قوم هود (بالدبور)
بفتح الدال، التي تجيء من قبل وجهك إذا استقبلت القبلة
أيضًا، فهي تأتي من دبرها.
وقال ابن الأعرابي: الدبور من مسقط النسر الطائر إلى سهيل،
وهي الريح العقيم، وسميت عقيمًا لأنها أهلكتهم، وقطعت
دابرهم.
وروى شهر بن حوشب، مما ذكره السمرقندي، عن ابن عباس، قال:
ما أنزل الله قطرة من ماء إلا بمثقال، ولا أنزل سفوة من
ريح إلا بمكيال، إلا قوم نوح وقوم عاد، فأما قوم نوح طغى
على خزانه الماء، فلم يكن لهم عليه سبيل، وعتت الريح يوم
عاد على خزانها، فلم يكن لهم عليها سبيل.
وقال غيره: كانت تقلع الشجر، وتهدم البيوت، وترفع الظعينة
بين السماء والأرض، حتى ترى كأنها جرادة، وترميهم بالحجارة
فتدق أعناقهم.
وعن ابن عباس: دخلوا البيوت وأغلقوها، فجاءت الريح ففتحت
الأبواب وسفت عليهم الرمل، فبقوا تحته سبع ليال وثمانية
أيام، فكان يسمع أنينهم تحت الرمل.
وبقية مباحث الحديث تأتي، إن شاء الله تعالى، في بدء
الخلق.
واستنبط منه ابن بطال تفضيل المخلوقات بعضها على بعض من
جهة إضافة النصر للصبا، والإهلاك للدبور. وتعقب بأن كل
واحدة منهما أهلكت أعداء الله، ونصرت أنبياءه وأولياءه.
اهـ.
وأما الريح التي مهبها من جهة يمين القبلة: فالجنوب، والتي
من جهة شمالها: الشمال.
ولكل من الأربعة طبع: فالصبا: حارة يابسة؟ والدبور: باردة
رطبة، والجنوب: حارة رطبة والشمال: باردة يابسة، وهي ريح
الجنة التي تهب عليهم، رواه مسلم.
27 - باب مَا قِيلَ فِي الزَّلاَزِلِ وَالآيَاتِ
(باب ما قيل في الزلازل والآيات).
1036 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
"لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ،
وَتَكْثُرَ الزَّلاَزِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ،
وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ -وَهْوَ
الْقَتْلُ الْقَتْلُ- حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ
فَيَفِيضُ".
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع (قال: أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (قال: أخبرنا) ولأبوي ذر والوقت،
وابن عساكر: حدّثنا (أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن
عبد الرحمن) بن هرمز (الأعرج عن أبي هريرة) رضي الله عنه
(قال: قال النبي):
(لا تقوم الساعة) أي: القيامة
(2/255)
(حتى يقبض العلم) بموت العلماء وكثرة
الجهلاء (وتكثر الزلازل) جمع، زلزلة، وهي حركة الأرض
واضطرابها، حتى ربما يسقط البناء القائم عليها (ويتقارب
الزمان).
فتكون كما في الترمذي، من حديث أنس مرفوعًا: السنة كالشهر،
والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة
كالضرمة بالنار. أي: كزمان اتقاد الضرمة. وهي ما توقد به
النار أولاً: كالقضب والكبريت، أو يحمل ذلك: على قلة بركة
الزمان، وذهاب فائدته، أو: على أن الناس، لكثرة اهتمامهم
بما دهمهم من النوازل والشدائد، وشغل قلوبهم بالفتن
العظام، لا يدرون كيف تنقضي أيامهم ولياليهم.
فإن قلت: العرب تستعمل قصر الأيام والليالي في المسرات،
وطولها في المكاره.
أجيب: بأن المعنى الذي يذهبون إليه في القصر والطول، مفارق
للمعنى الذي ذهب إليه هنا، فإن ذلك راجع إلى تمني الإطالة
للرخاء، أو إلى تمني القصر للشدة. والذي ذهب إليه ثم راجع
إلى زوال الإحساس بما يمر عليهم من الزمان، لشدة ما هم
فيه، وذلك أيضًا صحيح.
نعم، حمله الخطابي على زمان المهدي، لوقوع الأمن في الأرض،
فيُستَلذّ العيش عند ذلك، لانبساط عدله، فتستقصر مدته،
لأنهم يستقصرون مدة أيام الرخاء، وإن طالت. ويستطيلون أيام
الشدة، وإن قصرت.
وتعقبه الكرماني: بأنه لا يناسب أخواته من ظهور الفتن،
وكثرة الهرج، وغيرهما، قال في الفتح: وإنما احتاج الخطابي
إلى تأويله بما ذكر لأنه لم يقع نقص في زمانه، وإلا فالذي
تضمنه الحديث قد وجد في زماننا هذا، فإنا نجد من سرعة مر
الأيام ما لم نكن نجده في العصر الذي قبل عصرنا هذا، وإن
لم يكن هناك عيش مستلذ.
والحق أن المراد نزع البركة من كل شيء حتى من الزمان، وذلك
من علامة قرب الساعة.
وحمله بعضهم على تقارب الليل والنهار في عدم ازدياد
الساعات، وانتقاصها. بأن يتساويا: طولاً وقصرًا.
قال أهل الهيئة: تنطبق دائرة منطقة البروج على دائرة معدل
النهار، فحينئذٍ يلزم تساويهما ضرورة.
(وتظهر الفتن) أي: تكثر وتُشْتَهَر (ويكثر الهرج) بفتح
الهاء وإسكان الراء وبالجيم (-وهو القتل القتل-) مرتين،
وهو صريح في أن تفسير الهرج مرفوع، ولا يعارض ذلك بمجيئه
في رواية أخرى موقوفًا.
وقد سبق الحديث في: كتاب العلم، من طريق سالم بن عبد الله
بن عمر، سمعت أبا هريرة
في آخرة قيل يا رسول الله! وما الهرج؟ فقال: هكذا، بيده،
فحرفها كأنه يريد القتل، فيجمع بأنه جمع بين الإشارة
والنطق، فحفص بعض الرواة ما لم يحفظ بعض.
(حتى يكثر فيكم المال) لقلة الرجال، وقلة الرغبات، وقصر
الآمال للعلم بقرب الساعة (فيفيض) بفتح حرف المضارعة
وبالفاء والضاد المعجمة والرفع، خبر مبتدأ محذوف، أي: هو
يفيض، ولأبي ذر: فيفيض، بالنصب عطفًا على: يكثر، وهو غاية،
لكثرة الهرج، أو: معطوف على: ويكثر، بإسقاط العاطف.
كالتحيات المباركات، أي: والمباركات. ويفيض استعارة من:
فيض الماء لكثرته، كقوله:
شكوت وما الشكوى لمثلي عادة ... ولكن تفيض الكأس عند
امتلائها
يقال: فاض الماء يفيض إذا كثر حتى سال على ضفة الوادي، أي:
جانبه، وأفاض الرجل إناءه، أي: ملأه حتى فاض. والمعنى:
يفيض المال حتى يكثر، فيفضل منه بأيدي مالكيه ما لا حاجة
لهم به. وقيل: بل ينتشر في الناس ويعمهم.
1037 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ:
حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
"اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِي يَمَنِنَا.
قَالَ: قَالُوا: وَفِي نَجْدِنَا. قَالَ: قَال: هُنَاكَ
الزَّلاَزِلُ وَالْفِتَنُ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ
الشَّيْطَانِ". [الحديث 1037 - طرفه في: 7094].
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع، ولأبي ذر في نسخة: حدّثني (محمد
بن المثنى) العنزي الزمن البصري (قال: حدّثنا حسين بن
الحسن) بتصغير الأول مع التنكير، ابن يسار، ضد اليمين،
البصري (قال: حدّثنا ابن عون) عبد الله بن أرطبان، بفتح
الهمزة، البصري (عن نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر) بن
الخطاب أنه (قال اللهم) ولأبي ذر، قال: قال: اللهم أي: يا
الله (بارك لنا في شامنا وفي يمننا) كذا بصورة الموقوف على
ابن عمر، من قوله: لم يرفعه إلى النبي عليه الصلاة
والسلام، ولابد من ذكره كما نبه عليه القابسي، لأن مثله لا
يقال بالرأي.
وقد جاء مصرحًا برفعه في رواية أزهر السمان، ووافقه عليه
بعضهم، كما سيأتي، إن شاء الله تعالى في الفتن.
والمراد: بشامنا
(2/256)
ويمننا: الإقليمان المعروفان، أو: البلاد
التي عن: يميننا وشمالنا أعم منهما.
(قال: قالوا) بعض الصحابة. (وفي نجدنا) وهو خلاف الغور،
وهو: تهامة، وكل ما ارتفع من بلاد تهامة إلى أرض العراق،
(قال: قال) ولأبي ذر: فقال: قال:
اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا قال: قالوا: وفي نجدنا؟
قال: (هناك الزلازل) ولأبوي ذر. والوقت، وابن عساكر:
هنالك، بلام قبل الكاف (و) هناك (الفتن وبها) أي: بنجد
(يطلع قرن الشيطان) أي أمته وحزبه.
وإنما ترك الدعاء لأهل المشرق، لأنه علم العاقبة، وأن
القدر سبق بوقوع الفتن فيها، والزلازل، ونحوها من
العقوبات. والأدب أن لا يدعى بخلاف القدر مع كشف العاقبة،
بل يحرم حينئذٍ. والله أعلم.
"تكميل".
ويستحب لكل أحد أن يتضرع بالدعاء عند الزلازل ونحوها،
كالصواعق، والريح الشديدة، والخسف وأن يصلّي منفردًا لئلا
يكون غافلاً. لأن عمر، رضي الله عنه، حث على الصلاة في
زلزلة. ولا يستحب فيها الجماعة.
وما روي عن علي: أنه صلّى في زلزلة جماعة، قال النووي: لم
يصح. ولو صح قال أصحابنا: محمول على الصلاة منفردًا. قال
في الروضة: قال الحليمي: وصفتها عند ابن عباس وعائشة كصلاة
الكسوف. ويحتمل أن لا تغير عن المعهود إلا بتوقيف.
قال الزركشي: وبهذا الاحتمال جزم ابن أبي الدم، فقال: تكون
كهيئة الصلوات، ولا تصلّى على هيئة الخسوف قولاً واحدًا،
ويسن الخروج إلى الصحراء وقت الزلزلة. قاله العبادي. ويقاس
بها نحوها، وتقدم ما كان عليه الصلاة والسلام يقوله: إذا
عصفت الريح قريبًا ... والله أعلم.
28 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ({وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}) [الواقعة: 82].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شُكْرَكُمْ.
(باب قول الله تعالى {وتجعلون رزقكم}) الرزق بمعنى الشكر
في لغة، أو أراد: شكر رزقكم الذي هو المطر، ففيه إضمار
({أنكم تكذبون}) بمعطيه، وتقولون: مطرنا بنوء كذا، أو
تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن تكذيبكم به.
(قال ابن عباس) رضي الله عنهما: (شكركم) روى منصور بن سعيد
بإسناد صحيح، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ:
وتجعلون شكركم، أنكم تكذبون. ولا يقرأ به لمخالفته السواد.
نعم، روي نحو أثر ابن عباس مرفوعًا من حديث علي عند عبد بن
حميد، لكنه يدل على التفسير لا على القراءة، ولفظه
{وتجعلون رزقكم} قال: تجعلون شكركم، تقولون: مطرنا بنوء
كذا.
1038 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ
صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ
خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: "صَلَّى لَنَا
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ
عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا
انْصَرَفَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا
قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،
قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ،
فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ
وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ
بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ
كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ
بِالْكَوْكَبِ».
وبالسند قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس (قال: حدّثني)
بالإفراد (مالك) هو: ابن أنس، إمام دار الهجرة (عن صالح بن
كيسان، عن عبيد الله بن عبد الله) بضم العين في الأول (ابن
عتبة بن مسعود، عن زيد بن خالد الجهني، أنه قال):
(صلّى لنا) أي: لأجلنا وهو من باب المجاز وإلا فالصلاة لله
لا لغيره، أو: اللام بمعنى الباء، أي: صلّى بنا (رسول
الله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، صلاة الصبح
بالحديبية) مخففة الياء كما في الفرع وأصله، وعليه
المحققون، مشددة عند الأكثر من المحدثين. سميت بشجرة حدباء
كانت بيعة الرضوان تحتها، حال كون صلاته (على إثر سماء)
بكسر الهمزة وسكون المثلثة، على المشهور، أي: عقب مطر،
وأطلق عليه سماء لكونه ينزل من جهتها، وكل جهة علو تسمى
سماء (كانت) أي: السماء (من الليلة) بالإفراد، وللأصيلي،
والكشميهني: من الليل (فلما انصرف النبي، -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من صلاته أو مكانه (أقبل على الناس)
بوجهه الكريم (فقال) لهم:
(هل تدرون ماذا قال ربكم)؟ لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه
التنبيه. وللنسائي: من رواية سفيان، عن صالح: ألم تسمعوا
ما قال ربكم الليلة؟.
(قالوا الله ورسوله أعلم) قال:
(قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر) كفر إشراك لمقابلته
للإيمان، أو: كفر نعمة بدلالة ما في مسلم: قال الله: ما
أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين
والإضافة في عبادي للملك لا للتشريف (فأما من قال: مطرنا
بفضل الله، ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب) وللحموي،
وابن عساكر، وأبي الوقت: مؤمن بي وكافر بالكوكب، (وأما من
قال: مطرنا بنوء كذا وكذا) بفتح النون، وسكون الواو
والهمزة، بكوكب كذا، معتقدًا ما كان
(2/257)
عليه بعض أهل الشرك، من إضافة المطر إلى
النوء، وأن المطر كان من أجل أن الكوكب ناء أي: سقط وغاب،
أو نهض وطلع، وأنه الذي هاجه (فذلك كافر بي) لأن النوء
وقت، والوقت مخلوق ولا يملك لنفسه ولا لغيره مشيئًا (مؤمن
بالكوكب).
ومن قال: مطرنا في وقت كذا فلا يكون كفرًا، قال الإمام
الشافعي وغيره: من الكلام أحب إليّ، يعني: حسمًا للمادة،
فمن زعم أن المطر يحصل عند سقوط الثريا مثلاً، فإنما هو
إعلام للوقت والفصول، فلا محذور فيه، وليس من وقت، ولا زمن
إلا وهو معروف بنوع من مرافق العباد يكون فيه دون غيره.
وحكي عن أبي هريرة: أنه كان يقول: مطرنا بنوء الله تعالى.
وفي رواية: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو {مَا يَفْتَحِ
اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا}
[فاطر: 2].
وقال ابن العربي: أدخل الإمام مالك هذا الحديث في أبواب
الاستسقاء، لوجهين: أحدهما: أن العرب كانت تنتظر السقيا في
الأنواء، فقطع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
هذه العلاقة بين القلوب والكواكب.
الوجه الثاني: أن الناس أصابهم القحط في زمن عمر بن
الخطاب، رضي الله عنه، فقال للعباس، رضي الله عنه: كم بقي
من أنواء الثريا؟ فقال له العباس: زعموا، يا أمير
المؤمنين، أنها تعترض في الأفق سبعًا، فما مرّت حتى نزل
المطر. فانظروا إلى عمر، والعباس، وقد ذكر الثريا ونوأها،
وتوكفا ذلك في وقتها.
ثم قال: إن من انتظر المطر من الأنواء على أنها فاعلة له
من دون الله فهو كافر، ومن اعتقد أنها فاعلة بما جعل الله
فيها فهو كافر، لأنه لا يصح الخلق، والأمر إلا لله، كما
قال الله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}
[الأعراف: 54].
ومن انتظرها وتوكف المطر منها على أنها عادة أجراها الله
تعالى، فلا شيء عليه، لأن الله تعالى قد أجرى العوائد في
السحاب والرياح والأمطار، لمعان ترتبت في الخلقة، وجاءت
على نسق في العادة. اهـ.
وقوله: كذا وكذا ... هنا، كلمة مركبة من: كاف التشبيه وذا
للإشارة، مكنيًا بها عن العدد، وتكون كذلك مكنيًا بها عن
غير عدد، كما في الحديث: "إنه يقال للعبد يوم القيامة
أتذكر يوم كذا وكذا، فعلت كذا وكذا ... ".
وتكون أيضًا كلمتين باقيتين على أصلهما من: كاف التشبيه
وذا للإشارة، كقوله: رأيت زيدًا فاضلاً، ورأيت عمرًا كذا.
وتدخل عليها: هاء التنبيه كقوله تعالى: {أَهَكَذَا
عَرْشُكِ} [النمل: 42] فهذه الثلاثة الأوجه المعروفة في
ذلك.
ووجه المطابقة بين الترجمة والحديث من جهة أنهم كانوا
ينسبون الأفعال إلى غير الله تعالى، فيظنون أن النجم
يمطرهم ويرزقهم، فنهاهم الله تعالى عن نسبة الغيوث التي
جعلها الله تعالى حياة لعباده وبلاده إلى الأنواء، وأمرهم
أن يضيفوا ذلك إليه لأنه من نعمته عليهم، وأن يفردوه
بالشكر على ذلك.
ولما كان هذا الباب متضمنًا أن المطر إنما ينزل بقضاء الله
وأنه لا تأثير للكوكب في نزوله، وقضية ذلك أنه لا يعلم أحد
متى يجيء المطر إلا هو، عقب المصنف رحمه الله هذا الباب
بقوله.
29 - باب لاَ يَدْرِي مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ إِلاَّ
اللَّهُ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ
اللَّهُ».
(باب) بالتنوين (لا يدري) أحد (متى يجيء المطر إلا الله)
تعالى.
(وقال أبو هريرة) رضي الله عنه: (عن النبي، -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في سؤال جبريل عليه السلام
إياه عن الإيمان والإسلام: (خمس لا يعلمهن إلا الله). رواه
المؤلّف في الإيمان، وتفسير لقمان، لكن بلفظ: في خمس.
1039 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ:
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مِفْتَاحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ
لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللَّهُ: لاَ يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا
يَكُونُ فِي غَدٍ، وَلاَ يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي
الأَرْحَامِ، وَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ
غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ،
وَمَا يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ». [الحديث
1039 - أطرافه في: 4627، 4697، 4778، 7379].
وبالسند قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي (قال: حدّثنا
سفيان) الثوري (عن عبد الله بن دينار عن) عبد الله (بن
عمر) بن الخطاب، رضي الله عنهما (قال: قال رسول الله)
ولأبي الوقت في نسخة، وأبي ذر، وابن عساكر: النبي (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مفتاح الغيب خمس لا يعلمها
إلا الله) قال الزجاج: فمن ادعى علم شيء منها فقد كفر
بالقرآن العظيم.
والمفتاح، بكسر الميم وسكون الفاء، وللكشميهني: مفاتح بوزن
مساجد. أي: خزائن الغيب، جمع مفتح الميم. وهو المخزن.
ويؤيده تفسير السدي فيما رواه الطبري قال: مفاتح الغيب:
خزائن الغيب؛ أو المراد: ما يتوصل به إلى المغيبات مستعار
من المفاتح الذي هو جمع مفتح، بالكسر، وهو المفتاح. ويؤيده
قراءة ابن السميقع {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}
[الأنعام: 59] والمعنى: إنه الموصل إلى المغيبات، المحيط
علمه بها، لا يعلمها إلا هو، فيعلم أوقاتها وما في تعجيلها
وتأخيرها من الحكم، فيظهرها على ما اقتضته حكمته، وتعلقت
به مشيئته.
والحاصل أن المفتاح يطلق على ما كان
(2/258)
محسوسًا مما يحل غلقًا: كالقفل، وعلى ما كان معنويًّا.
وذكر خمسًا وإن كان الغيب لا يتناهى، لأن العدد لا ينفي
زائدًا عليه، أو لأن هذه الخمس هي التي كانوا يدعون علمها:
(لا يعلم أحد) غيره تعالى (ما يكون في غد)، شامل لعلم وقت
قيام الساعة وغيره، وفي رواية سالم عن أبيه، في سورة
الأنعام، قال: مفاتيح الغيب خمس {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] ... إلى آخر سورة لقمان.
(ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام) أذكر أم أنثى، شقي أم
سعيد إلا حين أمره الملك بذاك.
(ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدًا) من خير أو شر، وربما تعزم
على شيء وتفعل خلافه.
(وما تدري نفس بأي أرض تموت) كما لا تدري في أي وقت تموت.
روي أن مالك الموت مرّ على سليمان بن داود، عليهما الصلاة
والسلام، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه، فقال الرجل: من
هذا؟ فقال: ملك الموت. فقال: كأنه يريدني، فأمر الريح أن
تحملني وتلقيني بالهند، ففعل. ثم أتى ملك الموت سليمان،
فسأله عن نظره ذلك، قال: كنت متعجبًا منه إذ أمرت أن أقبض
روحه بالهند في آخر النهار، وهو عندك.
(وما يدري أحد متى يجيء المطر) زاد الإسماعيلي: إلا الله،
أي: إلا عند أمر الله به، فإنه يعلم حينئذ، وهو يرد على
القائل: إن لنزول المطر وقتًا معينًا لا يتخلف عنه.
وعبر بالنفس في قوله: "وما تدري نفس بأي أرض تموت". وفي
قوله: "ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدًا" وفي الثلاثة الأخرى
بلفظ: أحد، لأن النفس هي الكاسبة، وهي التي تموت. قال الله
تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:
38] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]
فلو عبر: بأحد، لاحتمل أن يفهم منه: لا يعلم أحد ماذا تكسب
نفسه، أو: بأيض أر تموت نفسه، فتفوت المبالغة المقصودة
بنفي علم النفس أحوالها، فكيف غيرها؟ وعدل عن لفظ القرآن،
وهو: تدري إلى لفظ: تعلم، في ماذا تكسب غدًا لإرادة زيادة
المبالغة، إذ نفي العام مستلزم نفي الخاص من غير عكس،
فكأنه قال: لا تعلم أصلاً سواء احتالت أم لا.
وبقية مباحث الحديث تأتي إن شاء الله تعالى في سورة
الأنعام، والرعد، ولقمان. |