شرح القسطلاني إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

بسم الله الرحمن الرحيم

63 - كتاب مناقب الأنصار
1 - باب مَنَاقِبُ الأَنْصَارِ
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر: 9].
(بسم الله الرحمن الرحيم).
(باب مناقب الأنصار) جمع ناصر كالأصحاب جمع صاحب، ويقال جمع نصير كشريف وأشراف، والنسبة أنصاري وليس نسبة الأب ولا أم، بل سموا بذلك لما فازوا به دون

(6/144)


غيرهم من نصرته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإيوائه وإيواء من معه ومؤاساتهم بأنفسهم وأموالهم، وكان القياس أن يقال: ناصري فقالوا: أنصاري كأنهم جعلوا الأنصار اسم المعنى.
فإن قلت: الأنصار جمع قلة فلا يكون لما فوق العشرة وهم ألوف. أجيب: بأن جمعي القلة والكثرة إنما يعتبران في نكرات المجموع، أما في المعارف فلا فرق بينهما، والأنصار هم ولد الأوس والخزرج وحلفاؤهم أبناء حارثة بن ثعلبة وهو اسم إسلامي، واسم أمهم قيلة بالقاف المفتوحة والتحتية الساكنة وسقط باب لأبوي ذر والوقت فمناقب بالرفع على ما لا يخفى.
(وقول الله عز وجل) {والذين آووا ونصروا} [الأنفال: 72] ({والذين تبوأوا الدار والإيمان}) أي لزموهما وتمكنوا فيهما أو تبوأوا دار الهجرة ودار الإيمان فحذف المضاف من الثاني والمضاف إليه من الأول، وعوض عنه اللام أو تبوأوا دار الهجرة وأخلصوا الإيمان كقوله:
علفتها تبنًا وماءً باردًا
أو سمى المدينة بالإيمان لأنها مظهره ({من قبلهم}) من قبل هجرة المهاجرين وهم الأنصار ({يحبون من هاجر إليهم}) ولا يثقل عليهم ({ولا يجدون في صدورهم}) من أنفسهم ({حاجة
مما أوتوا}) [الحشر: 9] مما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره وبقية الأوصاف ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
قال في فتوح الغيب: وحاصل الوجوه الأربعة يعود إلى أن عطف الإيمان على الدار إما من باب التقدير أو من باب الانسحاب، والإيمان إما مجرى على حقيقته أو استعارة، ففي الوجه الأول الإيمان حقيقة والعطف من باب التقدير لكن يقدر بحسب ما يناسبه، وكذلك في الوجه الثالث العطف فيه للتقدير لكن بحسب السابق، وفي الثاني والرابع العطف على الانسحاب والإيمان على الوجه الثاني استعارة مكنية، وعلى الثالث مجاز أضيف بأدنى ملابسة، وعلى الرابع استعارة مصرحة تحقيقية فشبه في الوجه الأول الإيمان من حيث إن المؤمنين من الأنصار تمكنوا فيه تمكن المالك المتسلط في مكانه ومستقره بمدينة من المدائن الحصينة بنوابعها ومرافقها، ثم قيل إن الإيمان مدينة بعينها تخييلاً محضًا فأطلق على المتخيل باسم الإيمان المشبه وجعلت القرينة نسبة التبوّء اللازم للمشبه به على سبيل الاستعارة التخييلية لتكون مانعة لإرادة الحقيقة، وعلى الرابع شبهت طيبة لكونها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان بالتصديق الصادر من المخلص المحلى بالعمل الصالح، ثم أطلق الإيمان على مدينته عليه الصلاة والسلام بوساطة نسبة التبوّء إليه وهي استعارة مصرحة تحقيقية لأن المشبه المتروك وهو المدينة حسي والجامع النجاة من مخاوف الدارين، ففي الأول المبالغة والمدح يعود إلى سكان المدينة أصالة، وفي الثاني بالعكس. والأول أدعى لاقتضاء المقام لأن الكلام وارد في مدح الأنصار الذين بذلوا مهجهم وأموالهم في نصرة الله ونصرة رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهم الذين آووه ونصروه وسقط لأبي ذر قوله: (يحبون) الخ وقال بعد قوله: ({من قبلهم} [الحشر: 9] الآية.
3776 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا غَيْلاَنُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ: "قُلْتُ لأَنَسٍ: أَرَأَيْتَ اسْمَ الأَنْصَارِ كُنْتُمْ تُسَمَّوْنَ بِهِ، أَمْ سَمَّاكُمُ اللَّهُ؟ قَالَ: بَلْ سَمَّانَا اللَّهُ. كُنَّا نَدْخُلُ عَلَى أَنَسٍ فَيُحَدِّثُنَا بمَنَاقِبَ الأَنْصَارِ وَمَشَاهِدَهُمْ، وَيُقْبِلُ عَلَيَّ أَوْ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَزْدِ فَيَقُولُ: فَعَلَ قَوْمُكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا". [الحديث 3776 - طرفه في: 3844].
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا مهدي بن ميمون) المعولي بكسر الميم وسكون العين المهملة وفتح الواو البصري وسقط ابن ميمون لأبي ذر قال: (حدّثنا غيلان بن جرير) بفتح الغين المعجمة في الأول والجيم في الثاني المعولي البصري (قال: قلت لأنس) هو ابن مالك -رضي الله عنه- (أرأيت) أي أخبرني، ولأبي الوقت: أرأيتم أي أخبروني (اسم الأنصار كنتم) ولأبي الوقت: أكنتم (تسمون به) بفتح السين المهملة والميم المشددة قبل القرآن (أم سماكم الله؟) عز وجل به (قال) أنس -رضي الله عنه-: (بل سمانا الله) زاد أبو ذر عز وجل أي به كما في قوله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار} [التوبة: 100] قال غيلان: (كنا ندخل على أنس) -رضي الله عنه- بالبصرة (فيحدّثنا مناقب الأنصار) ولأبي ذر. بمناقب الأنصار بزيادة الموحدة قبل الميم (ومشاهدهم) بالنصب أو بالخفض (ويقبل علي) بتشديد الياء (أو على رجل
من الأزد) بفتح الهمزة وسكون الزاي غيري أو المراد بالأزدي غيلان والشك من الراوي هل قال عليّ أو أبهم

(6/145)


نفسه (فيقول) مخاطبًا لي أو للرجل: (فعل قومك) يريد الأنصار (يوم كذا وكذا كذا وكذا) يحكي ما كان من مآثرهم في المغازي ونصر الإسلام. واستشكل بأنه ليس قومه من الأنصار. وأجيب بأنه باعتبار النسبة الأعمية إلى الأزد لأن الأزد يجمعهم.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في آخر أيام الجاهلية والنسائي في التفسير.
3777 - حَدَّثَنا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "كَانَ يَوْمُ بُعَاثَ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدِ افْتَرَقَ مَلَأُهُمْ، وَقُتِلَتْ سَرَوَاتُهُمْ وَجُرِّحُوا. فَقَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دُخُولِهِمْ فِي الإِسْلاَمِ". [الحديث 3777 - طرفاه في: 3846، 3930].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (عبيد بن إسماعيل) الهباري (قال: حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة، وثبت "قال" في الفرع وسقطت في اليونينية (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: كان يوم بعاث) بضم الموحدة وتخفيف العين المهملة وبعد الألف مثلثة أو بالغين المعجمة أو هو تصحيف أو بالوجهين عن الأصيلي كما حكاه عياض أو بالمعجمة فقط لأبي ذر غير مصروف للتأنيث والعلمية لأنه اسم بقعة. قال ابن قرقول: على ميلين من المدينة وقع فيها حرب بين الأوس والخزرج، وكان سبب ذلك أن من قاعدتهم أن الأصيل لا يقتل بالحليف فقتل رجل من الأوس حليفًا للخزرج فأرادوا أن يقيدوه فامتنعوا فوقعت الحرب بينهم، لذلك قيل بقيت الحرب بينهم مائة وعشرين سنة حتى جاء الإسلام، وكان رئيس الأوس فيه حضيرًا والد أسيد وكان أيضًا فارسهم. وقال أبو أحمد العسكري، قال بعضهم: كان يوم بعاث قبل قدومه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة بخمس سنين وقتل حضير وكثير من رؤسائهم وأشرافهم وكان ذلك اليوم (يومًا قدمه الله لرسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) إذ لو كانوا أحياء لاستكبروا عن متابعته عليه الصلاة والسلام ولمنع حب رئاستهم عن حب دخول رئيس عليهم وسقطت التصلية لأبي ذر (فقدم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) المدينة (و) الحال أنه (قد افترق ملأهم) أي جماعتهم (وقتلت) بضم القاف مبنيًّا للمفعول (سرواتهم) بفتح السين المهملة والراء والواو خيارهم وإشرافهم (وجرّحوا) بضم الجيم وتشديد الراء المكسورة بعدها حاء مهملة من الجرح، ولأبي ذر عن المستملي: وخرجوا بخاء معجمة فراء مفتوحتين فجيم من الخروج أي خرجوا من أوطانهم (فقدمه الله) بتشديد الدال أي ذلك اليوم (لرسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) سقطت التصلية لأبي ذر (في) أي لأجل (دخولهم) أي الذين تأخروا (في الإسلام) فكان في قتل من قتل من أشرافهم ممن كان يأنف أن يدخل في الإسلام مقدمات الخير، وقد كان بقي منهم من هذا النحو عبد الله بن أبي ابن سلول، وقصته في أنفته وتكبره مشهورة لا تخفى، وفي هنا تعليلية كهي في قوله تعالى: {فذلكن الذي لمتنني فيه} [يوسف: 32] {ولمسكم فيما أفضتم فيه} [النور: 14] أي لأجله
وفي الحديث دخلت امرأة النار في هرة حبستها أي لأجلها.
3778 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا -رضي الله عنه- يَقُولُ: «قَالَتِ الأَنْصَارُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ -وَأَعْطَى قُرَيْشًا-: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْعَجَبُ، إِنَّ سُيُوفَنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَاءِ قُرَيْشٍ، وَغَنَائِمُنَا تُرَدُّ عَلَيْهِمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَدَعَا الأَنْصَارَ، قَالَ فَقَالَ: مَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ -وَكَانُوا لاَ يَكْذِبُونَ- فَقَالُوا: هُوَ الَّذِي بَلَغَكَ. قَالَ: أَوَلاَ تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالْغَنَائِمِ إِلَى بُيُوتِهِمْ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى بُيُوتِكُمْ؟ لَوْ سَلَكَتِ الأَنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ أَوْ شِعْبَهُمْ».
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي التياح) بالفوقية ثم التحتية المشددة وبعد الألف حاء مهملة يزيد بن حميد الضبعي البصري أنه (قال: سمعت أنسًا -رضي الله عنه- يقول: قالت الأنصار يوم فتح مكة): يعني عام فتحها بعد قسم غنائم حنين وكان بعد فتح مكة بشهرين (و) الحال أنه (أعطى قريشًا) ممن لم يتمكن الإيمان من قلبه لما بقي فيه من الطبع البشري في محبة المال غنائم حنين يتألفهم بذلك لتطمئن قلوبهم وتجتمع على محبته، لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، ولذا لم يقسم أموال مكة عند فتحها ومقول قول الأنصار: (والله إن هذا) الإعطاء (لهو العجب إن سيوفنا لتقطر من دماء قريش) حال مقررة لجهة الإشكال أي ودماؤهم تقطر من سيوفنا فهو من باب القلب نحو: عرضت الناقة على الحوض قال:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
والمعنى أن سيوفنا من كثرة ما أصابها من دمائهم تقطر (وغنائمنا) أي التي غنمناها (تردّ عليهم) أي لم يعطنا منها شيئًا (فبلغ ذلك) الذي قالوه (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ذكر ابن إسحاق عن أبي سعيد

(6/146)


الخدري -رضي الله عنه- أن الذي أخبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمقالتهم سعد بن عبادة (فدعا الأنصار) وفي غزوة الطائف من وجه آخر أنس فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع معهم غيرهم فلما اجتمعوا (قال) أنس: (فقال) لهم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(ما الذي بلغني عنكم وكانوا) يعني الأنصار (لا يكذبون. فقالوا: هو الذي بلغك) أي قلنا الذي بلغك وفي المغازي فقال: ما حديث بلغني عنكم فقال فقهاء الأنصار: أما رؤساؤنا يا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلم يقولوا شيئًا، وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا: يغفر الله لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم (قال) عليه الصلاة والسلام (أو لا) بفتح الواو (ترضون أن يرجع الناس بالغنائم) من الشاة والبعير (إلى بيوتهم وترجعون) بإثبات النون على الاستئناف ولأبي ذر عن الكشميهني وترجعوا بحذفها عطفًا على أن يرجع (برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى بيوتكم) زاد في المغازي: فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به قالوا: يا رسول الله قد رضينا. فقال عليه الصلاة والسلام:
(لو سلكت الأنصار واديًا) مكانًا منخفضًا أو الذي فيه ماء (أو شعبًا) بكسر الشين المعجمة ما انفرج بين جبلين أو الطريق في الجبل (لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم) ولأبي ذر: وشعبهم بإسقاط الألف وأراد عليه الصلاة والسلام بذلك حسن موافقته إياهم وترجيحهم في ذلك على غيرهم لما شاهد منهم من حسن الجوار والوفاء بالعهد لا متابعته لهم لأنه عليه الصلاة والسلام هو المتبوع المطاع لا التابع المطيع.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في المغازي ومسلم في الزكاة والنسائي في المناقب.

2 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امرأً مِنَ الأَنْصَارِ» قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (لولا الهجرة) أمر ديني وعبادة مأمور بها (لكنت من الأنصار) ولأبي ذر: لكنت امرأً من الأنصار أي لانتسبت إلى داركم المدينة أو لتسميت باسمكم وانتسبت إليكم كما كانوا يتناسبون بالحلف لكن خصوصية الهجرة سبقت فمنعت من ذلك وهي أعلى وأشرف فلا تتبدل بغيرها وقيل غير ذلك، ومراده بذلك تألفهم واستطابة نفوسهم والثناء عليهم في دينهم حتى رضي أن يكون واحدًا منهم لولا ما يمنعه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها (قاله عبد الله بن زيد) أي ابن عاصم بن كعب الأنصاري (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فيما وصله المؤلّف في غزوة الطائف من المغازي بطوله.
3779 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَوْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَوْ أَنَّ الأَنْصَارَ سَلَكُوا وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ فِي وَادِي الأَنْصَارِ، وَلَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا ظَلَمَ -بِأَبِي وَأُمِّي- آوَوْهُ وَنَصَرُوهُ. أَوْ كَلِمَةً أُخْرَى». [الحديث 3779 - طرفه في: 7344].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن بشار) بالموحدة والمعجمة المشددة بندار العبدى قال: (حدّثنا غندر) بضم الغين المعجمة وسكون النون وفتح الدال المهملة محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن محمد بن زياد) القرشي الجمحي مولاهم (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو قال أبو القاسم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بالشك من الراوي:
(لو أن الأنصار سلكوا واديًا أو شعبًا) ولأبي ذر: وشعبًا بغير ألف والشين مكسورة فيهما أي طريقًا في الجبل (لسلكت في وادي الأنصار) والمراد بلدهم (ولولا الهجرة) التي لا يجوز تبديلها (لكنت امرأً من الأنصار). ليس المراد الانتقال عن نسب آبائه لأنه ممتنع قطعًا لا سيما ونسبه عليه الصلاة والسلام أشرف الأنساب، وكذا ليس المراد النسب الاعتقادي فإنه لا معنى للانتقال إليه، فالمراد النسبة البلادية وكانت المدينة دار الأنصار والهجرة إليها أمرًا واجبًا أي لولا أن النسبة
الهجرية لا يسعني هجرها لانتسبت إلى داركم، ويحتمل أنه لما كانوا أخواله لكون أم عبد المطلب منهم أراد أن ينتسب إليهم لهذه الولادة لولا مانع الهجرة قاله محيي السنة، وتلخيصه: لولا فضلي على الأنصار لكنت واحدًا منهم، وهذا تواضع منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحث للناس على إكرامهم واحترامهم، وسبق قريبًا مزيد لذلك.
(فقال أبو هريرة: ما ظلم) بفتح الظاء المعجمة واللام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا القول: أفديه (بأبي وأمي) أن الأنصار (آووه) بمد الهمزة من الإيواء (ونصروه أو) قال أبو هريرة (كلمة أخرى) مع هاتين الكلمتين أي واسوه وأصحابه بمالهم.
وهذا الحديث أخرجه النسائي في

(6/147)


المناقب.

3 - باب إِخَاءُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ
(باب إخاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بكسر الهمزة (بين المهاجرين والأنصار) وعند ابن سعد أنه آخى بين
مائة: خمسين من المهاجرين وخمسين من الأنصار، وكان ذلك قبل بدر بخمسة أشهر في دار أنس
يأتي ذكر من سمي منهم إن شاء الله تعالى في باب: كيف آخى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين أصحابه قبيل
المغازي بعون الله تعالى، وسقط لفظ باب لأبي ذر فما بعده رفع.
3780 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ. قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنِّي أَكْثَرُ الأَنْصَارِ مَالاً، فَأَقْسِمُ مَالِي نِصْفَيْنِ. وَلِي امْرَأَتَانِ، فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَسَمِّهَا لِي أُطَلِّقْهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجْهَا. قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، أَيْنَ سُوقُكُمْ؟ فَدَلُّوهُ عَلَى سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَمَا انْقَلَبَ إِلاَّ وَمَعَهُ فَضْلٌ مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ. ثُمَّ تَابَعَ الْغُدُوَّ. ثُمَّ جَاءَ يَوْمًا وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَهْيَمْ؟ قَالَ: تَزَوَّجْتُ. قَالَ: كَمْ سُقْتَ إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ -أَوْ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ- شَكَّ إِبْرَاهِيمُ».
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل بن عبد الله) الأويسي (قال: حدّثني) بالإفراد (إبراهيم بن سعد) بسكون العين (عن أبيه) سعد (عن جده) إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنه (قال: لما قدموا المدينة) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه، وهذا صورته صورة الإرسال لأن إبراهيم بن عبد الرحمن لم يشهد ذلك لكن المؤلّف ساق الحديث في أول البيع من طريق ظاهرها الاتصال وهي طريق عبد العزيز بن عبد الله حدّثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال: قال عبد الرحمن بن عوف: لما قدّمنا المدينة (آخى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين عبد الرحمن بن عوف) أحد العشرة المبشرة بالجنة (و) بين (سعد بن الربيع) بفتح الراء ابن عمرو بن أبي زهير الأنصارى الخزرجي النقيب (قال) ولأبي ذر فقال: أي سعد (لعبد الرحمن إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم مالي نصفين) وفي البيع
فأقسم لك نصف مالي (ولي امرأتان) اسم إحداهما عمرة بنت حزم والأخرى لم تسم (فانظر) في نفسك (أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها) بالجزم جواب الأمر (فإذا انقضت عدتها فتزوجها) بالجزم على الأمر (قال) له عبد الرحمن (بارك الله لك في أهلك ومالك) وفي البيع لا حاجة لي في ذلك (أين سوقكم) بالجمع، ولأبي ذر: سوقك (فدلوه على سوق بني قينقاع) بقاف مفتوحة فتحتية ساكنة فنون مضمومة وبعد القاف ألف فعين مهملة غير مصروف على إرادة القبيلة وبالصرف على إرادة الحي بطن من اليهود أضيف إليهم السوق (فما انقلب) عبد الرحمن منه (إلا معه فضل من أقط) بفتح الهمزة وكسر القاف وقد تسكن. قال عياض: هو جبن اللبن المستخرج زبده، وخصه ابن الأعرابي بالضأن، وقيل لبن مجفف مستحجر يطبخ به (وسمن ثم تابع الغدو) أي الذهاب في صبيحة كل يوم إلى السوق للتجارة (ثم جاء يومًا وبه أثر صفرة) من الطيب الذي استعمله عند الزفاف (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) له:
(مهيم) بفتح الميم وسكون الهاء وفتح التحتية وسكون الميم كلمة يمانية أي: ما هذا؟ وقال بعض المتأخرين: أصلها ما هذا الأمر فاقتصر من كل كلمة على حرف لأمن اللبس (قال) عبد الرحمن (تزوّجت) زاد في الرواية اللاحقة كالتي في البيع امرأة من الأنصار ولم تسم نعم هي بنت أنس بن رافع الأنصاري الأوسي، وفي الأوسط للطبراني عن أبي هريرة -رضي الله عنه- بسند فيه ضعف أتى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد خضب بالصفرة فقال: ما هذا الخضاب أعرّست؟ قال: نعم (قال) عليه الصلاة والسلام: (كم سقت إليها؟) مهرًا (قال): سقت إليها (نواة من ذهب أو) قال: (وزن نواة) أي خمسة دراهم (من ذهب) وسقط من ذهب وهذه لأبي ذر (شك إبراهيم) بن سعد الراوي.
ومرّ هذا الحديث في أول البيوع، ويأتي إن شاء الله تعالى زوائد فوائد قريبًا في الحديث التالي.
3781 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَآخَى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ -وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ- فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ عَلِمَتِ الأَنْصَارُ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالاً، سَأَقْسِمُ مَالِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَطْرَيْنِ، وَلِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَأُطَلِّقُهَا حَتَّى إِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ. فَلَمْ يَرْجِعْ يَوْمَئِذٍ حَتَّى أَفْضَلَ شَيْئًا مِنْ سَمْنٍ وَأَقِطٍ، فَلَمْ؛ يَلْبَثْ إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَهْيَمْ؟ قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: مَا سُقْتَ فِيهَا؟ قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ -أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ- فَقَالَ: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد أبو رجاء البلخي قال: (حدّثنا إسماعيل بن جعفر)
الأنصاري (عن حميد) الطويل (عن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: قدم علينا عبد الرحمن بن عوف) المدينة (وآخى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر: النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بينه وبين سعد بن الربيع) الخزرجي وعند عبد بن حميد من طريق ثابت عن أنس أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين عثمان بن عفان فقال: عثمان لعبد الرحمن أن لي حائطين الحديث قال في الفتح وهو وهم من رواية زاذان (وكان) سعد (كثير المال فقال سعد) لعبد الرحمن: (قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالاً سأقسم مالي بيني وبينك شطرين ولي امرأتان) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسم

(6/148)


امرأتي سعد إلا أن ابن سعد ذكر كان له من الولد أم سعد واسمها جميلة وأمها عمرة بنت حزم، وتزوج زيد بن ثابت أم سعد فولدت له ابنه خارجة فيؤخذ من هذا تسمية إحدى امرأتي سعد، وقال شيخنا الحافظ أبو الخير السخاوي: أنه وجد تسمية الزوجة الثانية في تفسير مقاتل عند قوله: {الرجال قوّامون على النساء} [النساء: 34] وأنها حبيبة بنت زيد بن أنس زهير (فانظر أعجبهما إليك فأطلقها) بالرفع لأجلك (حتى إذا حلّت) بأن انقضت عدتها (تزوجتها) بفوقية بعد الجيم الساكنة (فقال) له (عبد االرحمن: بارك الله لك في أهلك) زاد في السابقة ومالك (فلم يرجع) فيه حذف اختصره الراوي، وهو قوله في الرواية السابقة أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع. وزاد في أخرى في الوليمة فخرج إلى السوق فباع واشترى وفي رواية حماد فاشترى وباع فربح فلم يرجع (يومئذٍ حتى أفضل) أي ربح (شيئًا من سمن وإقط) وفي رواية زهير بن معاوية أول البيوع فأتي به أهل منزله (فلم يلبث إلا يسيرًا حتى جاء رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعليه وضر) بفتح الواو والمعجمة آخره راء أي لطخ (من صفرة) أي صفرة خلوق والخلوق طيب يصنع من زعفران وغيره (فقال له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(مهيم) كلمة استفهام مبنية على السكون وهل هي بسيطة أم مركبة؟ قولان لأهل اللغة.
وقال ابن مالك: هي اسم فعل بمعنى أخبر، وفي الأوسط للطبراني فقال له: مهيم وكانت كلمته إذا أراد أن يسأل عن الشيء، وعند المصنف في رواية حماد بن زيد قال: ما هذا؟ (قال: تزوّجت امرأة من الأنصار) قال البيضاوي: يحتمل أن يكون مهيم استفهامًا إنكاريًّا لما تقدم من النهي عن التضمخ بالخلوق، فأجابه بقوله تزوجت أي فتعلق بي منها ولم أقصده، ويأتي مزيد لهذا إن شاء الله تعالى في موضعه، وقد جزم الزبير بن بكار في كتاب النسب أن التي تزوجها بنت أبي الحيسر بفتح المهملتين بينهما تحتية ساكنة آخره راء واسمه أنس بن رافع الأوسي كما مرّ قريبًا (فقال) عليه الصلاة والسلام له: (ما سقت فيها؟) ولأبي ذر عن الكشميهني: إليها بدل فيها، وفي رواية حماد بن سلمة في الوليمة كم أصدقتها (قال) عبد الرحمن: سقت إليها (وزن نواة من ذهب أو نواة من ذهب) بالشك من الراوي كما مرّ.
واستنكر الداودي رواية وزن نواة ورجح الثانية وردّ عليه بأن في رواية شعبة عن عبد العزيز بن صهيب على وزن نواة وكذا لغيره بالجزم وهم أئمة حفاظ فلا وهم في الرواية لأنها وإن كانت نواة تمر أو غيره لها قدر معلوم يصلح أن يقال: وزن نواة، ولعل المراد نوى التمر كما
يوزن بنوى الخروب، وقيل كان القيمة عنها يومئذٍ خمسة دراهم، وقيل ربع دينار كذا قرره بعضهم. وعورض بأن نوى التمر يختلف في الوزن فكيف يجعل معيارًا لما يوزن به.
وبقية مبحث ذلك تأتي إن شاء الله تعالى في موضعه بعون الله وقوّته.
(فقال) عليه الصلاة والسلام له: (أولم ولو بشاة) استدلّ به على تأكيد أمر الوليمة إذ إنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر باستدراكها بعد انقضاء الدخول وباقي إن شاء الله تعالى اختلاف الأئمة هل وقتها عند العقد أو عقبه أو عند الدخول أو عقبه وموسع من ابتداء العقد إلى انتهاء الدخول.
3782 - حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو هَمَّامٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: «قَالَتِ الأَنْصَارُ: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ النَّخْلَ، قَالَ: لاَ. قَالَ: يَكْفُوننَا الْمَئُونَةَ وَيُشْرِكُونَنا فِي الثَّمْرِ، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا».
وبه قال: (حدّثنا الصلت بن محمد) بفتح المهملة وسكون اللام آخره فوقية (أبو همام) بفتح الهاء وتشديد الميم الأولى الخاركي بالخاء المعجمة وخارك من ساحل البصرة (قال: سمعت المغيرة بن عبد الرحمن) الحزامي المدني قال: (حدّثنا أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال: قالت الأنصار): لما قدموا المدينة وزاد في باب إذا قال: اكفني مؤنة النخل من المزارعة للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (اقسم بيننا وبينهم النخل) بسكون المعجمة وفي المزارعة بيننا وإخواننا ومرادهم المهاجرون (قال) عليه الصلاة والسلام:
(لا) أقسم (قال) الأنصار لهم: أيها المهاجرون (تكفونا) ولأبي ذر: يكفوننا بالتحتية وبالنونين (المؤونة) في النخل بتعهده بالسقي والتربية (وتشركونا) بفتح الفوقية

(6/149)


والراء ونون واحدة وبضم الفوقية وكسر الراء ولأبي ذر ويشركوننا بالتحتية المضمومة وكسر الراء (في التمر) بالمثناة الفوقية وسكون الميم أي يكون التمر بيننا وبينهم شركة، ولأبي ذر عن الكشميهني في الأمر بدل التمر أي الأمر الحاصل من ذلك وهو من قولهم أمر ماله بكسر الميم أي كثر (قالوا): أي المهاجرون للأنصار (سمعنا وأطعنا) وإنما أبى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يقسم بينهم النخل لأنه علم أن الفتوح ستفتح عليهم فكره أن يخرج عنهم شيئًا من رقبة نخيلهم التي بها قوامهم شفقة عليهم، ولما فهم الأنصار ذلك جمعوا بين المصلحتين امتثالاً لأمره عليه الصلاة والسلام ومواساة للمهاجرين.

4 - باب حُبُّ الأَنْصَارِ من الإيمان
(باب حب الأنصار من الإيمان) سقط لفظ الباب لأبي ذر فتاليه رفع.
3783 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حدَّثني عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الأَنْصَارُ لاَ يُحِبُّهُمْ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يُبْغِضُهُمْ إِلاَّ مُنَافِقٌ. فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ».
وبه قال: (حدّثنا حجاج بن منهال) بكسر الميم الأنماطي البصري قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج أبو بسطام العتكي أمير المؤمنين في الحديث (قال: أخبرني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثني بالإفراد أيضًا (عدي بن ثابت) الأنصاري ثقة لكنه قاضي الشيعة وإمام مسجدهم بالكوفة (قال: سمعت البراء) بن عازب (-رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو قال قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(الأنصار) الأوس والخزرج (لا يحبهم) كلهم (إلا مؤمن) كامل الإيمان (ولا يبغضهم) كلهم من جهة نصرتهم للرسول عليه الصلاة والسلام (إلا منافق) وفي مستخرج أبي نعيم من حديث البراء: "من أحب الأنصار فبحبي أحبهم ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم" وهو يؤيد ما مرّ من تقدير من جهة نصرتهم الخ. والتقييد بكلهم مخرج لمن أبغض بعضهم لمعنى يسوغ البغض له (فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله) وإنما خصوا بذلك لما فازوا به دون غيرهم من القبائل من إيوائه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومواساته بأنفسهم وأموالهم، فكان صنيعهم لذلك موجبًا لمعاداتهم جميع الفرق الموجودين إذ ذاك من عرب وعجم والعداوة تجر البغض، ثم إن ما اختصوا به موجب للحسد والحسد يجر إلى البغض أيضًا، فمن ثم حذر -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من بغضهم ورغب في حبهم حتى جعله من الإيمان والنفاق تنويهًا بفضلهم، وهذا جار باطراد في أعيان الصحابة لتحقق الاشتراك في الإكرام لما لهم من حسن الغناء في الدين، وإن من بعضهم لبعض بغض بسبب الحروب الواقعة بينهم فذاك من غير هذه الجهة لما طرأ من المخالفة، ومن ثم لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق وإنما حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الإيمان، والترمذي والنسائي في المناقب، وابن ماجه في السُّنّة.
3784 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ».
وبه قال: (حدّثنا مسلم بن إبراهيم) الفراهيدي قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن عبد الرحمن) كذا في الفرع وأصله لكنه ضبب عليه وقال: في الهامش عن عبد الله بدل عبد الرحمن وهو الصواب (ابن عبد الله بن جبر) بفتح الجيم وسكون الموحدة وقيل جابر بن عتيك الأنصاري (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(آية الإيمان) أي علامته (حب الأنصار وآية النفاق بُغض الأنصار) وقد وقع في إعراب الحديث لأبي البقاء العكبري أنه الإيمان بهمزة مكسورة ونون مشدّدة وهاء، والإيمان مرفوع وأعربه فقال: إن للتأكيد والهاء ضمير الشأن والإيمان مبتدأ وما بعده خبر، ويكون التقدير إن الشأن الإيمان حب الأنصار وهذا تصحيف وفيه نظر من جهة المعنى لأنه يقتضي حصر الإيمان
في حب الأنصار وليس كذلك.
فإن قلت: واللفظ المشهور أيضًا يقتضي الحصر. أجيب: بأن العلامة كالخاصة تطرد ولا تنعكس وإن أخذ من طريق المفهوم فهو مفهوم لقب لا عبرة به. سلمنا الحصر لكنه ليس حقيقيًا بل ادّعائيًّا للمبالغة أو هو حقيقة، لكنه خاص بمن أبغضهم من حيث النصرة كما مرّ أو يقال: إن اللفظ خرج على معنى التحذير فلا يراد ظاهره، ولذا لم يقابل الإيمان بالكفر الذي هو ضده بل قابله بالنفاق إشارة إلى الترغيب والترهيب، والترهيب إنما

(6/150)


خوطب به من يظهر الإيمان أما من يظهر الكفر فلا لأنه مرتكب ما هو أشد من ذلك.
وهذا الحديث قد مرّ في كتاب الإيمان.

5 - باب قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلأَنْصَارِ: أَنْتُمْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ
(باب قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للأنصار) (أنتم) أي مجموعكم (أحب الناس إليّ) أي من مجموعهم فلا ينافيه أحبية أحد إليه غير الأنصار لأن الحكم للكل بشيء لا ينافي الحكم به لفرد من أفراده، فلا تعارض بينه وبين قوله أبو بكر في جواب من قال: من أحب الناس إليك: قال: "أبو بكر" وسقط لفظ باب لأبي ذر.
3785 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: «رَأَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ مُقْبِلِينَ -قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ مِنْ عُرُسٍ- فَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُمْثِلاً فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ. قَالَهَا ثَلاَثَ مِرَارٍ». [الحديث 3785 - طرفه في: 5180].
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) عبد الله بن عمرو المنقري المقعد البصري قال: (حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان التميمي مولاهم التنوري الحافظ قال: (حدّثنا عبد العزيز) بن صهيب البناني الأعمى (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال: رأى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النساء والصبيان مقبلين قال حسبت أنه قال: من عرس) بضم العين والراء والشك من الراوي، وفي باب ذهاب النساء والصبيان إلى العرس من النكاح مقبلين من عرس بالجزم من غير شك (فقام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ممثلاً) بضم الميم الأولى وإسكان الثانية وكسر المثلثة وفتحها في الفرع وأصله أي منتصبًا قائمًا قال السفاقسي:
كذا وقع رباعيًا والذي ذكره أهل اللغة مثل الرجل بفتح الميم وضم المثلثة مثولاً إذا انتصب قائمًا ثلاثيًّا اهـ.
قال العيني: كان غرضه الإنكار على الذي وقع هنا وليس بموجه لأن ممُثلاً معناه مكلفًا نفسه ذلك وطالبًا ذلك فلذلك عدي فعله، وأما مثل الثلاثي فهو لازم غير متعد وفي حاشية الفرع وأصله ممثلاً بضم الميم الأولى وفتح الثانية وتشديد المثلثة مفتوحة أي مكلفًا نفسه ذلك وطالبًا ذلك
منها، وفي النكاح فقام ممتنًّا بمثناة فوقية بعد الميم الثانية الساكنة ثم نون مشددة أي قام قيامًا طويلاً أو هو من الامتنان لأن من قام له عليه الصلاة والسلام فقد امتن عليه بشيء لا أعظم منه فكأنه قال: يمتن عليهم بمحبته، ويؤيده قوله بعد (قال):
(اللهم أنتم من أحب الناس إليّ قالها ثلاث مرات) وتقديم لفظ اللهم للتبرك أو للاستشهاد بالله في صدقه.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في النكاح.
3786 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا، فَكَلَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّكُمْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ. مَرَّتينِ». [الحديث 3786 - طرفاه في: 5234، 6645].
وبه قال: (حدّثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير) الدورقي البغدادي الحافظ قال: (حدّثنا بهز بن أسد) بموحدة مفتوحة فهاء ساكنة فمعجمة الإمام الحجة قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (قال: أخبرني) بالإفراد (هشام بن زيد) أي ابن أنس بن مالك الأنصاري -رضي الله عنه- (قال: سمعت) جدي (أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومعها صبي لها) لم يسم هو ولا أمه (فكلمها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ابتدأها بالكلام تأنيسًا لها أو أجابها عما سألته عنه (فقال) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(والذي نفسي بيده إنكم) أيها الأنصار (أحب الناس إليّ) أي من فحرف التبعيض مقدركما دل عليه الحديث السابق (مرتين) أي قال: ذلك القول مرتين.
وهذا الحديث أخرجه في النكاح والنذور، ومسلم في الفضائل، والنسائي في المناقب.

6 - باب أَتْبَاعُ الأَنْصَارِ
(باب أتباع الأنصار) بفتح الهمزة وسكون الفوقية وهم حلفاؤهم ومواليهم وسقط لفظ باب لأبي ذر.
3787 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعْتُ أَبَا حَمْزَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ "قَالَتِ الأَنْصَارُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِكُلِّ نَبِيٍّ أَتْبَاعٌ، وَإِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاكَ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ أَتْبَاعَنَا مِنَّا. فَدَعَا بِهِ. فَنَمَيْتُ ذَلِكَ إِلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى، فَقَالَ: قَدْ زَعَمَ ذَلِكَ زَيْدٌ". [الحديث 3787 - طرفه في: 3788].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن بشار) العبدي مولاهم بندار الحافظ قال: (حدّثنا غندر) محمد بن
جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن عمرو) بفتح العين ابن مرة الجملي أحد الأعلام الثقات رمي بالإرجاء أنه قال: (سمعت أبا حمزة) بالحاء المهملة والزاي طلحة بن يزيد من الزيادة مولى قرظة بن كعب بالقاف المفتوحة والراء والظاء المعجمة (عن زيد بن أرقم) أنه قال: (قالت الأنصار: يا رسول الله لكل نبي أتباع) بفتح الهمزة وسكون الفوقية وسقط لغير أبي ذر لفظ يا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وإنا قد اتبعناك) بوصل الهمزة وتشديد الفوقية (فادع الله أن يجعل أتباعنا منا) بقطع الهمزة وسكون الفوقية فيقال: لهم الأنصار ليدخلوا في الوصية لنا بالإحسان وغيره (فدعا) عليه الصلاة والسلام (به) بالذي سألوا فقال كما في الرواية اللاحقة: "اللهم اجعل أتباعهم منهم" قال عمرو بن مرة: (فنميت) بتخفيف النون

(6/151)


أي نقلت (ذلك إلى ابن أبي ليلى) عبد الرحمن الأنصاري عالم الكوفة (قال): ولأبي ذر فقال: (قد زعم ذلك زيد) هو ابن أرقم.
3788 - حَدَّثَنَا آدَمُ. حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَمْزَةَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ: «قَالَتِ الأَنْصَارُ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ أَتْبَاعًا، وَإِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاكَ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ أَتْبَاعَنَا مِنَّا. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَتْبَاعَهُمْ مِنْهُمْ. قَالَ عَمْرٌو: فَذَكَرْتُهُ لاِبْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: قَدْ زَعَمَ ذَاكَ زَيْدٌ. قَالَ شُعْبَةُ: أَظُنُّهُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ».
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (حدّثنا عمرو بن مرة) بضم الميم وتشديد الراء الجملي قال: (سمعت أبا حمزة) بالحاء المهملة والزاي (رجلاً من الأنصار) بنصب رجلاً عطف بيان أو بدلاً من حمزة واسم أبي حمزة فيما قاله الغساني طلحة بن يزيد، وكذا قال الحافظ أبو الفضل بن طاهر والحافظ عبد الغني المقدسي قال: (قالت الأنصار): يا رسول الله (إن لكل قوم أتباعًا وإنا قد اتبعناك فادع الله أن يجعل أتباعنا) قال الطيبي: الفاء تستدعي محذوفًا أي لكل نبي أتباع ونحن أتباعك فادع الله أن يكون أتباعنا أي حلفاؤنا وموالينا (منا) أي متصلين بنا مقتفين آثارنا بإحسان ليكون لهم ما جعل لنا من العز والشرف (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(اللهم اجعل أتباعهم منهم) (قال عمرو): أي ابن مرة الراوي (فذكرته لابن أبي ليلى) عبد الرحمن (قال: قد زعم) أي قال: (ذاك) بغير لام (زيد. قال شعبة) بن الحجاج: (أظنه زيد بن أرقم) وكأنه احتمل عنده أن يكون ابن أبي ليلى أراد بقوله قد زعم ذاك زيد أي زيد آخر كزيد بن ثابت وظنه صحيح، فقد رواه أبو نعيم في المستخرج من طريق علي بن الجعد جازمًا به.
وفيه التنبيه على شرف صحبة الأخيار صح المرء مع من أحب وتأمل تأثير الصحبة في كل شيء حتى في البواشق بالصحبة رفعت على أيدي الملوك، وحتى في الحطب بصحبة النجار يعتق من النار فعليك بصحبة الأخيار.

7 - باب فَضْلُ دُورِ الأَنْصَارِ
(باب فضل دور الأنصار) أي منازلهم وكانت كل قبيلة منهم تسكن محلة فسميت تلك المحلة دارًا وسقط باب لأبي ذر فما بعده مرفوع.
3789 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «خَيْرُ دُورِ الأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ بَنُو عَبْدِ الأَشْهَلِ، ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الخَزْرَجٍ، ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ، وَفِي كُلِّ دُورِ الأَنْصَارِ خَيْرٌ. فَقَالَ سَعْدٌ: مَا أَرَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلاَّ قَدْ فَضَّلَ عَلَيْنَا، فَقِيلَ: قَدْ فَضَّلَكُمْ عَلَى كَثِيرٍ. وَقَالَ عَبْدُ الصَّمَدِ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ أَبُو أُسَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَذَا وَقَالَ: سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ» [الحديث 3789 - أطرافه في: 3790، 3807، 6053].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: بالجمع (محمد بن بشار) بندار قال: (حدّثنا غندر) محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (قال: سمعت قتادة) بن دعامة (عن أنس بن مالك عن أبي أسيد) بضم الهمزة وفتح السين المهملة مالك بن ربيعة الساعدي (-رضي الله عنه-) أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(خير دور الأنصار) أي قبائلهم من باب إطلاق المحل وإرادة الحال أو خيريتها بسبب خيرية أهلها (بنو النجار) بفتح النون والجيم المشددة وهو تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج (ثم بنو عبد الأشهل) بفتح الهمزة والهاء بينهما معجمة ساكنة آخره لام بن جشم بن الحرث بن الخزرج الأصغر ابن عمرو بن مالك بن الأوس بن حارثة (ثم بنو الحرث بن خزرج) ولأبي ذر الخزرج أي ابن عمرو بن مالك بن الأوس بن حارثة (ثم بنو ساعدة) بن كعب بن الخزرج الأكبر وهو أخو الأوس وهما ابنا حارثة بن ثعلبة العنقاء لطول عنقه ابن عمرو بن مزيقيا بن عامر بن ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازن وهو جماع غسان بن الأزد، واسمه دراء على وزن فعال ابن الغوث بن يشجب بن يعرب بن يقطن وهو قحطان وإلى قحطان جماع اليمن وهو أبو اليمن كلها، ومنهم من ينسبه إلى إسماعيل فيقول: قحطان بن الهميسع بن ثيمن بن نبت بن إسماعيل، وهذا قول الكلبي. ومنهم من ينسبه إلى غيره فيقول قحطان بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، فعلى الأول العرب كلها من ولد إسماعيل وعلى الثاني. وسمي تيم الله النجار لأنه اختتن بقدوم، وقيل بل نجر وجه رجل بالقدوم.
(وفي كل دور الأنصار خير) وإن تفاوتت مراتبه فخير الأولى في قوله: خير دور الأنصار بمعنى أفعل التفضيل وهذه اسم (فقال سعد): هو ابن عبادة (ما أرى) بفتح الهمزة مصححًا عليها في الفرع وأصله ويجوز الضم بمعنى الظن (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا) بالتشديد (قد فضل علينا) أي
بعض القبائل، وإنما قال ذلك لأنه من بني ساعدة ولم يذكرها عليه الصلاة والسلام إلا بكلمة ثم بعد ذكره القبائل الثلاث (فقيل) له (قد فضلكم) عليه الصلاة والسلام (على كثير) من قبائل الأنصار غير المذكورين، وفي هذا تفضيل القبائل والأشخاص من غير هوى ولا مجازفة ولا يكون هذا غيبة.

(6/152)


وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في مناقب سعد بن عبادة ومسلم في الفضائل والترمذي والنسائي في المناقب.
(وقال عبد الصمد) بن عبد الوارث التنوري فيما وصله في مناقب سعد (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (حدّثنا قتادة) بن دعامة قال: (سمعت أنسًا قال أبو أسيد): بضم الهمزة الساعدي (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بهذا) الحديث (وقال) فيه (سعد بن عبادة): بضم العين وتخفيف الموحدة فصرح بما أبهمه في الأولى.
3790 - حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى قَالَ أَبُو سَلَمَةَ أَخْبَرَنِي أَبُو أُسَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «خَيْرُ الأَنْصَارِ -أَوْ قَالَ: خَيْرُ دُورِ الأَنْصَارِ- بَنُو النَّجَّارِ، وَبَنُو عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَبَنُو الْحَارِثِ، وَبَنُو سَاعِدَةَ».
وبه قال: (حدّثنا سعد بن حفص) بسكون العين (الطلحي) بالطاء المفتوحة والحاء المكسورة المهملتين بينهما لام ساكنة الكوفي وثبت الطلحي لأبي ذر قال: (حدّثنا شيبان) بن عبد الرحمن النحوي (عن يحيى) بن أبي كثير صالح اليماني الطائي أنه قال: (قال أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف (أخبرني) بالإفراد (أبو أسيد) بضم الهمزة وفتح المهملة الساعدي -رضي الله عنه- (أنه سمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(خير الأنصار أو قال: خير دور الأنصار بنو النجار) من الخزرج والشك من الراوي (وبنو عبد الأشهل) من الأوس (وبنو الحرث) من الخزرج (وبنو ساعدة) من الخزرج أيضًا. ووقع التعبير هنا بالواو، وفي رواية أن السابقة بثم كرواية حميد اللاحقة وفيه إشعار بأن الواو قد تفيد الترتيب. قال ابن هشام في مغنيه وقول السيرافي إن النحويين أجمعوا على أنها لا تفيد الترتيب مردود، بل قال بإفادتها إياه قطرب والربعي والفراء وثعلب وأبو عمرو والزاهد وهشام والشافعي اهـ.
وتعقبه الشيخ بهاء الدين السبكي بأن الشافعي -رضي الله عنه- لم ينص على إفادتها للترتيب وإنما أخذوه من قوله بالترتيب في الوضوء وليس بأخذ صحيح قال: ونقل جماعة الترتيب عن أبي حنيفة أيضًا وإنما أخذوه من قوله إذا قال لغير المدخول بها أنت طالق وطالق وطالق تقع واحدة وليس بمأخذ صحيح لأن الواحدة إنما وقعت فقط لأنها بانت قبل نطقه بالمعطوف فلم يبق محلاً للطلاق، ونقل ابن عبد البر في التمهيد: أن بعض أصحاب الشافعي -رحمه الله- حكى في كتاب
الأصول أن الكسائي والفراء يقولان بأنها للترتيب، وقال القرافي: المشهور عنه أنها للترتيب حيث يستحيل الجمع وظاهر هذا النقل أنها عنده للمعية إلا لمانع فتكون للترتيب اهـ. ويحتمل أن يفهم الترتيب هنا من التقديم لا من مجرد الواو.
3791 - حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ خَيْرَ دُورِ الأَنْصَارِ دَارُ بَنِي النَّجَّارِ، ثُمَّ عَبْدِ الأَشْهَلِ، ثُمَّ دَارُ بَنِي الْحَارِثِ، ثُمَّ بَنِي سَاعِدَةَ، وَفِي كُلِّ دُورِ الأَنْصَارِ خَيْرٌ،. فَلَحِقْنَا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، فَقَالَ أَبَا أُسَيْدٍ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيَّرَ الأَنْصَارَ فَجَعَلَنَا أَخِيرًا؟ فَأَدْرَكَ سَعْدٌ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ خُيِّرَ دُورُ الأَنْصَارِ فَجُعِلْنَا آخِرًا، فَقَالَ: أَوَلَيْسَ بِحَسْبِكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الْخِيَارِ»؟.
وبه قال: (حدّثنا خالد بن مخلد) بفتح الميم البجلي قال: (حدّثنا سليمان) بن بلال (قال: حدّثني) بالإفراد (عمرو بن يحيى) بن عمارة المازني المدني (عن عباس بن سهل) أي ابن سعد الساعدي (عن أبي حميد) الساعدي (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إن خير دور الأنصار دار بني النجار ثم بني) ولأبي ذر وبني (عبد الأشهل ثم دار بني الحرث ثم) دار (بني ساعدة وفي كل دور الأنصار خير) قال أبو حميد: (فلحقنا) بسكون القاف (سعد بن عبادة) بنصب سعد على المفعولية (فقال أبو أسيد) بضم الهمزة وأبو بالرفع على الفاعلية، ولأبي ذر فلحقنا بفتح القاف بصيغة الماضي، ونا مفعول سعد بن عبادة بالرفع فاعله فقال أبا أسيد منادى حذفت منه الأداة (ألم تر أن نبي الله) ولأبي ذر عن الكشميهني أن رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي أن الله (خيّر الأنصار) فضل بعضهم على بعض (فجعلنا أخيرًا) في الذكر (فأدرك سعد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله خير) بضم الخاء المعجمة مبنيًّا للمفعول (دور الأنصار) برفع دور نائبًا عن الفاعل أي فضل بعض قبائلهم على بعض (فجعلنا) بضم الجيم مبنيًّا للمفعول مع سكون اللام (آخرًا) في الذكر (فقال): عليه الصلاة والسلام (أوليس) بفتح الواو (بحسبكم) بموحدة قبل الحاء وسكون السين أي أوليس بكافيكم (أن تكونوا من الخيار) جمع خير الذي بمعنى أفعل التفضيل وهو تفضيلهم على سائر القبائل.
وهذا الحديث قد مرّ في باب خرص التمر من كتاب الزكاة.

8 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلأَنْصَارِ: «اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ» قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مخاطبًا

(6/153)


(للأنصار اصبروا حتى تلقوني على الحوض) (قاله عبد الله بن زيد) أي ابن عاصم المازني (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فيما وصله المؤلّف تامًّا في غزوة حنين.
3792 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ -رضي الله عنهم-: «أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلاَنًا؟ قَالَ: "سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ"». [الحديث 3792 - طرفه في: 7057].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن بشار) بندار العبدي قال: (حدّثنا غندر) محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (قال: سمعت قتادة) بن دعامة (عن أنس بن مالك عن أسيد بن ْحضير) بضم الهمزة وفتح السين المهملة في الأول وضم الحاء المهملة وفتح الضاد المعجمة في الثاني مصغرين (-رضي الله عنه- أن رجلاً من الأنصار) قبل هو أسيد الراوي (قال: يا رسول الله ألا تستعملني) أي ألا تجعلني عاملاً على الصدقة أو على بلد (كما استعملت فلانًا؟) قيل هو عمرو بن العاص كذا ذكره في المقدمة في السائل والمستعمل وقال في الشرح: لا أدري الآن من أين نقلته (قال) عليه الصلاة والسلام:
(ستلقون بعدي أثرة) بضم الهمزة وسكون المثلثة، ولأبي ذر عن الكشميهني: أثرة بفتحهما أي من يستأثر عليكم بأمور الدنيا ويفضل عليكم غيركم (فاصبروا) على ذلك (حتى تلقوني على الحوض).
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا والترمذي في الفتن ومسلم في المغازي والنسائي في القضاء والمناقب.
3793 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- يَقُولُ: «قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلأَنْصَارِ: إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي، وَمَوْعِدُكُمُ الْحَوْضُ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر: حدّثنا (محمد بن بشار) بالموحدة والمعجمة المشددة بندار قال: (حدّثنا غندر) محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن هشام) هو ابن زيد (قال: سمعت) جدي (أنس بن مالك) ولأبي ذر سمعت أنسًا (-رضي الله عنه- يقول: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مخاطبًا (للأنصار):
(إنكم ستلقون بعدي أثرة) بفتح الهمزة والمثلثة ولأبي ذر بضم فسكون (فاصبروا) على ذلك (حتى تلقوني) يوم القيامة (وموعدكم الحوض) أي الذي ترد عليه أمته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آنيته عدد النجوم كما في مسلم.
3794 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- حِينَ خَرَجَ مَعَهُ إِلَى الْوَلِيدِ قَالَ: «دَعَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الأَنْصَارَ إِلَى أَنْ يُقْطِعَ لَهُمُ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالُوا: لاَ، إِلاَّ أَنْ تُقْطِعَ لإِخْوَانِنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِثْلَهَا. قَالَ: إِمَّا لاَ فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي، فَإِنَّهُ سَيُصِيبُكُمْ بَعْدِي أَثْرَةٌ».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن يحيي بن سعيد) الأنصاري أنه (سمع أنس بن مالك -رضي الله عنه- حين خرج) أي سافر يحيى (معه) أي مع أنس -رضي الله عنه- (إلى الوليد) بن عبد الملك بن مروان وكان أنس -رضي الله عنه- قد توجّه من البصرة حين آذاه الحجاج إلى دمشق يشكوه إلى الوليد بن عبد الملك فأنصفه منه (قال): أي أنس (دعا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الأنصار إلى أن يقطع) بضم أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه أي يعطي (لهم البحرين) البدل المشهور بالعراق على جهة الإقطاع، وكان عليه الصلاة والسلام صالح أهله وضرب عليهم الجزية (فقالوا): أي الأنصار (لا) تقطع لنا (إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها قال) عليه الصلاة والسلام:
(إما) بكسر الهمزة وتشديد الميم (لا) والأصل أن ما لا تريدوا ولا تقبلوا فأدغمت النون في الميم وحذف فعل الشرط فصار أمالاً (فاصبروا حتى تلقوني) أي يوم القيامة على الحوض (فإنه) أي أن إقطاع المال (سيصيبكم) بالتحتية بعد السين ولأبي ذر ستصيبكم بالفوقية حال كونكم (بعدي أثرة) بضم الهمزة وسكون المثلثة وبفتحهما، ولأبي ذر: أثرة بعدي بالتقديم والتأخير أي استئثارًا لغيركم عليكم.
وهذا الحديث قد مرّ في باب ما أقطع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الجزية.

9 - باب دُعَاءُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "أَصْلِحِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ"
(باب دعاء النبي) بقوله (أصلح الأنصار والمهاجرة) بكسر الجيم جماعة المهاجرين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وسقط لفظ باب لأبي ذر.
3795 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو إِيَاسٍ مُعاويةُ بن قُرَّة عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الآخِرَةِ، فَأَصْلِحِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ».
وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِثْلَهُ ... وَقَالَ «فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ».
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (حدّثنا أبو إياس) بكسر الهمزة وتخفيف التحتية (معاوية بن قرة) بضم القاف وتشديد الراء ابن إياس المدني البصري وسقط معاوية بن قرة لغير أبي ذر (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-) أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر: قال النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لما رأى المهاجرين والأنصار يحفرون الخندق ورأى ما بهم من النصب والجوع متمثلاً يقول ابن رواحة.
(لا عيش) مستمر (إلاّ عيش الآخرة فأصلح) بقطع الهمزة (الأنصار والمهاجرة) بضم الميم وكسر الجيم.
وهذا أخرجه أيضًا

(6/154)


في الرقاق، ومسلم في المغازي، والنسائي في المناقب والرقاق.
(وعن قتادة) بن دعامة بالعطف على الإسناد السابق وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي (عن أنس عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثله) أي مثل الحديث الأول (و) لكنه (قال): (فاغفر للأنصار) بدل قوله في الأول "فاصلح وللأنصار"، باللام الجارة، ولأبي ذر: فاغفر الأنصار بالنصب.
3796 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَتِ الأَنْصَارُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ تَقُولُ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبَدَا
فَأَجَابَهُمُ: "اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الآخِرَة، فَأَكْرِمِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَة".
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن حميد الطويل) أنه قال: (سمعت أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كانت الأنصار يوم الخندق تقول): وهم يحفرون الخندق حول المدينة وينقلون التراب (نحن الذين بايعوا محمدًا). بموحدة وبعد الألف تحتية (على الجهاد ما حيينًا أبدًا) وفي الجهاد من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس: ما بقينا أبدًا (فأجابهم) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(اللهم لا عيش) مستمر أو معتبر (إلاّ عيش الآخرة فأكرم الأنصار والمهاجرة) وهذا من قول ابن رواحة قال الداودي، وإنما قال: لا هم بلا ألف ولا لام ليتزن. وأجاب في المصابيح بأنه اللهم على جهة الخزم بالخاء والزاي المعجمتين وهو الزيادة على أول البيت حرفًا فصاعدًا إلى أربعة.
3797 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ قَالَ: «جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَحْنُ نَحْفِرُ الْخَنْدَقَ وَنَنْقُلُ التُّرَابَ عَلَى أَكْتَادِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الآخِرَة، فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن عبيد الله) مصغرًا ابن محمد أبو ثابت مولى عثمان بن عفان القرشي المدني قال: (حدّثنا ابن أبي حازم) عبد العزيز (عن أبيه) أبي حازم واسمه سلمة بن دينار (عن سهل) بفتح المهملة وسكون الهاء ابن سعد بن مالك الأنصاري -رضي الله عنه- أنه (قال: جاءنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونحن نحفر الخندق) بكسر الفاء حول المدينة (وننقل التراب) المتحصل منه (على أكتادنا) بالمثناة الفوقية جمع كتد وهو ما بين الكاهل إلى الظهر. قال في المصابيح: جمع كتد بفتح الكاف والتاء معًا وهو مغرز العنق في الصلب، وقيل من أصل العنق إلى أسفل الكتفين. قال في الفتح وللكشميهني وكذا هو في اليونينية معزوًّا لأبي ذر عن الكشميهني على أكبادنا بالموحدة جمع كبد ووجهه: أنا نحمل التراب على جنوبنا مما يلي الكبد (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(اللهم لا عيش إلاّ عيش الآخرة فاغفر للمهاجرين والأنصار).
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في المغازي وكذا مسلم، وأخرجه النسائي في المناقب والرقاق.

10 - باب قَوْل الله عَزَّ وَجَلّ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]
هذا (باب) بالتنوين وسقط لفظ باب لأبي ذر ({ويؤثرون}) أي الأنصار، وفي نسخة وعزاها في الفرع وأصله لأبي ذر باب قول الله: ويؤثرون ({على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}) [الحشر: 9] أي فاقة، والمعنى يقدّمون المحاويج على حاجة أنفسهم ويبدؤون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك.
3798 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ عَنْ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: «أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ، فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلاَّ الْمَاءُ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ يَضُمُّ -أَوْ يُضِيفُ- هَذَا؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا. فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلاَّ قُوتُ صِبْيَانِي. فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً. فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلاَ يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلاَنِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ -أَوْ عَجِبَ- مِنْ فَعَالِكُمَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] [الحديث 3798 - طرفه في: 4889].
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا عبد الله بن داود) بن عامر الهمداني الكوفي (عن فضيل بن غزوان) بالغين والزاي المعجمتين وفضيل بالتصغير أبو الفضل الكوفي (عن أبي حازم) بالحاء المهملة والزاي سلمان الأشجعي لا سلمة بن دينار (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً) هو أبو هريرة (أتى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد في التفسير فقال: يا رسول الله أصابني الجهد (فبعث إلى نسائه) أمهات المؤمنين يطلب منهن ما يضيفه به (فقلن: ما معنا) أي ما عندنا (إلا الماء. فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر فقال النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(من يضم) إليه في طعامه (أو يضيف) بكسر الضاد المعجمة وسكون التحتية (وهذا) الرجل بالشك من الراوي (فقال رجل من الأنصار): يا رسول الله (أنا) أضيفه (فانطلق به إلى امرأته فقال) لها: (أكرمي ضيف رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فقالت له: (ما عندنا إلا قوت صبياني) بالياء بعد النون ولأبي ذر صبيان بتنوين النون بغير ياء. وفي مسلم فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة، وعلى هذا فالمرأة أم سليم والأولاد أنس وإخوته، لكن استبعد الخطيب أن يكون أبو طلحة هذا هو زيد بن سهل عم أنس بن مالك زوج أمه فقال: هو رجل من الأنصار لا يعرف اسمه، ووجهه أن هذا الرجل المضيف ظهر من حاله أنه كان قليل ذات اليد فإنه لم يجد ما يضيف

(6/155)


به إلا قوت أولاده، وأبو طلحة زيد بن سهل كان أكثر أنصاري بالمدينة مالاً. ونقل ابن بشكوال عن أبي المتوكل الناجي أنه ثابت بن قيس، وقيل عبد الله بن رواحة (فقال) لها: (هيئي طعامك وأصبحي سراجك) بهمزة قطع وموحدة بعد الصاد المهملة في اليونينية وغيرها أي أوقديه وفي الفرع واصلحي باللام بدل الموحدة ولم أرها كذلك في غيره (ونوّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء) قال في المصابيح: ففيه نفوذ فعل الأب على الابن وإن كان منطويًا على ضرر إذا كان ذلك من طريق النظر، وأن القول فيه قول الأب والفعل فعله لأنهم نوّموا الصبيان جياعًا إيثارًا لقضاء حق رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في إجابة دعوته والقيام بحق ضيفه (فهيأت) زوجة الأنصاري (طعامها وأصبحت) بالموحدة أوقدت (سراجها ونوّمت صبيانها) بغير عشاء (ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته فجعلا) الأنصاري وزوجته (يريانه) بضم أوله (أنهما) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: كأنهما (يأكلان فباتا طاويين) أي بغير عشاء وأكل الضيف (فلما أصبح غدا إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) جواب لما قوله غدا ضمن فيه معنى الإقبال أي لما دخل الصباح أقبل على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال) له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(ضحك الله الليلة أو) قال: (عجب من فعالكما) الحسنة وفاء فعالكما مفتوحة، ونسبة الضحك والتعجب إلى الباري جل وعلا مجازية والمراد بهما الرضا بصنيعهما (فأنزل الله) عز وجل ({ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}) [الحشر: 9] قال في النهاية: الخصاصة الجوع والضعف وأصلها الفقر والحاجة إلى الشيء والجملة في موضع الحال، ولو بمعنى الفرض أي: ويؤثرون على أنفسهم مفروضة خصاصتهم ({ومن يوق شح نفسه}) [الحشر: 9] أضافه إلى النفس لأنه غريزة فيها، ولا شح اللؤم وهو غريزة. والبخل المنع نفسه فهو أعم لأنه قد يوجد البخل ولا شح ثمة ولا ينعكس، والمعنى ومن غلب ما أمرته به نفسه وخالف هواها بمعونة الله عز وجل وتوفيقه ({فأولئك هم المفلحون}) [الحشر: 9] الظافرون بما أرادوا وسقط لأبي ذر قوله: ومن يوق الخ.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا والترمذي والنسائي في التفسير ومسلم في الأطعمة.

11 - باب قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ»
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في الأنصار: (أقبلوا من محسنهم وتجاوزوا) بفتح الواو (عن مسيئهم) وسقط لأبي ذر لفظ باب فما بعده مرفوع.
3799 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى أَبُو عَلِيٍّ حَدَّثَنَا شَاذَانُ أَخُو عَبْدَانَ حَدَّثَنَا أَبِي أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: "مَرَّ أَبُو بَكْرٍ وَالْعَبَّاسُ -رضي الله عنهما- بِمَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَارِ وَهُمْ يَبْكُونَ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكُمْ؟ قَالُوا: ذَكَرْنَا مَجْلِسَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَّا. فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، قَالَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ عَصَبَ
عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ، قَالَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، وَلَمْ يَصْعَدْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أُوصِيكُمْ بِالأَنْصَارِ، فَإِنَّهُمْ كَرِشِي وَعَيْبَتِي، وَقَدْ قَضَوُا الَّذِي عَلَيْهِمْ وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ، فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ». [الحديث 3799 - طرفه في: 3801].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن يحيى أبو علي) المروزي الصائغ بالغين المعجمة قال: (حدّثنا شاذان) بالمعجمتين عبد العزيز (أخو عبدان) عبد الله العابد وعبدان لقبه (قال): أي شاذان (حدّثنا أبي) عثمان بن جبلة قال: (أخبرنا شعبة بن الحجاج) بفتح الحاء المهملة وتشديد الجيم الأولى الحافظ أبو بسطام العتكي أمير المؤمنين في الحديث (عن هشام بن زيد) أنه (قال: سمعت) جدي (أنس بن مالك يقول: مرّ أبو بكر) الصديق (والعباس) بن عبد المطلب (-رضي الله عنهما- بمجلس) بالتنوين (من مجالس الأنصار) والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مرض موته (وهم) أي والحال أنهم (يبكون فقال) العباس أو الصديق لهم: (ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منا) أي الذي كنا نجلسه معه ونخاف أن يموت ونفقد مجلسه فبكينا لذلك (فدخل) العباس أو أبو بكر (على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبره بذلك) الذي وقع من الأنصار (قال) أنس: (فخرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- و) الحال أنه (قد عصب) بتخفيف الصاد المهملة (على رأسه حاشية برد) بضم الموحدة وسكون الراء نوع من الثياب معروف ولأبي ذر عن المستملي بردة وحاشية نصب مفعول عصب (قال) أنس -رضي الله عنه-: (فصعد) عليه الصلاة والسلام (المنبر) بكسر العين (ولم يصعده بعد ذلك اليوم) بفتح العين من بصعده (فحمد الله وأثنى عليه ثم قال):
(أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي) بفتح الكاف وكسر الراء والشين المعجمة (وعيبتي) بعين مهملة مفتوحة وتحتية ساكنة وموحدة مفتوحة وتاء تأنيث. قال القزاز: ضرب المثل

(6/156)


بالكرش لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون فيه نماؤه، والعيبة ما يحرز فيها الرجل نفيس ما عنده يعني أنهم موضع سره وأمانته. وقال ابن دريد: هذا من كلامه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الموجز الذي لم يسبق إليه (وقد قضوا الذي عليهم) من الإيواء والنصرة له عليه الصلاة والسلام كما بايعوه ليلة العقبة (وبقي الذي لهم) وهو دخول الجنة كما وعدهم به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن آووه ونصروه (فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم) في غير الحدود.
وهذا الحديث أخرجه النسائي.
3800 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْغَسِيلِ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- يَقُولُ «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُتَعَطِّفًا بِهَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وَعَلَيْهِ عِصَابَةٌ دَسْمَاءُ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ وَتَقِلُّ الأَنْصَارُ حَتَّى يَكُونُوا كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ، فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ أَمْرًا يَضُرُّ فِيهِ أَحَدًا أَوْ يَنْفَعُهُ فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ».
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن يعقوب) أبو يعقوب المسعودي الكوفي قال: (حدّثنا ابن الغسيل) هو عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال: (سمعت عكرمة) مولى ابن عباس (يقول: سمعت ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: خرج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعليه ملحفة) بكسر الميم وسكون اللام وفتح الحاء المهملة حال كونه (منعطفًا) بنون ساكنة مصلحة على كشط في الفرع وفي أصله وهو الذي في الناصرية وغيرها متعطفًا بالفوقية المفتوحة وتشديد الطاء أي مرتديًا (بها على منكبيه) بفتح الميم وكسر الكاف وفتح الموحدة (عليه عصابة) بكسر العين قد عصب بها رأسه من وجعها (دسماء) بالرفع صفة لعصابة أي سوداء (حتى جلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال) بعد الثناء:
(أما بعد أيها الناس فإن الناس يكثرون وتقل الأنصار) قال التوربشتي: يريد أن أهل الإسلام يكثرون وتقل الأنصار لأن الأنصار هم الذين آووه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونصروه، وهذا أمر قد انقضى زمانه لا يلحقهم اللاحق ولا يدرك شأوهم السابق، وكلما مضى منهم واحد مضى من غير بدل فيكثر غيرهم ويقلون (حتى يكونوا كالملح) بكسر الميم (في الطعام) من القلة. ووجه التشبيه أن الملح بالنسبة إلى جملة الطعام جزء يسير منه بالنسبة للمهاجرين وأولادهم الذين انتشروا في البلاد وملكوا الأقاليم فمن ثم قال عليه الصلاة والسلام للمهاجرين: (فمن ولي منكم) أيها المهاجرون (أمرًا) مفعول به (يضر فيه) أي في ذلك الأمر (أحدًا أو ينفعه) صفة كاشفة لأمرًا (فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم) مخصوص بغير الحدود كما سبق.
3801 - حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي، وَالنَّاسُ سَيَكْثُرُونَ وَيَقِلُّونَ، فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولغير أبي ذر: حدّثنا (محمد بن بشار) بالموحدة والمعجمة المشددة بندار قال: (حدّثنا غندر) محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (قال: سمعت قتادة) بن دعامة يحدث (عن أنس بن مالك) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(الأنصار كرشي) بفتح الكاف وكسر الراء أي جماعتي (وعيبتي) أي موضع سري مأخوذ من عيبة الثياب وهي ما تحفظ فيها (والناس) غير الأنصار (سيكثرون) بفتح التحتية وضم المثلثة (و) الأنصار (يقلون) وقد وقع كما قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن الموجودين الآن ممن ينسب لعليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- ممن يتحقق نسبه إليه أضعاف من يوجد من قبيلتي الأوس والخزرج ممن يتحقق نسبه، وقس على ذلك ولا التفات إلى كثرة من يدعي أنه منهم من غير برهان قاله في الفتح.
(فاقبلوا) بفتح الموحدة (من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم).
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الفضائل والترمذي في المناقب والنسائي.

12 - باب مَنَاقِبُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -رضي الله عنه-
(باب مناقب سعد بن معاذ) بالذال المعجمة ابن النعمان بن امرئ القيس بن عبد الأشهل الأنصاري الأوسي الأشهلي كبير الأوس، كما أن سعد بن عبادة كبير الخزرج وإياهما أراد الشاعر بقوله:
فإن يسلم السعد أن يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف المخالف
(-رضي الله عنه-) وسقط باب لأبي ذر.
3802 - حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ -رضي الله عنه- يَقُولُ: «أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حُلَّةُ حَرِيرٍ، فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَمَسُّونَهَا وَيَعْجَبُونَ مِنْ لِينِهَا، فَقَالَ: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ لِينِ هَذِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ خَيْرٌ مِنْهَا أَوْ أَلْيَنُ"». رَوَاهُ قَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ سَمِعَا أَنَسًا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع، ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (محمد بن بشار) بندار العبدي قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر حدّثني (غندر) محمد بن جعفر قال: (حدّثنا) وفي نسخة: أخبرنا (شعبة) بن الحجاج (عن أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي أنه

(6/157)


(قال: سمعت البراء) بن عازب (-رضي الله عنه- يقول: أهديت) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول (للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حلة حرير) أهداها له أكيدر دومة كما في حديث أن السابق في الهبة (فجعل أصحابه يمسونها) بفتح التحتية والميم (ويعجبون) بفتح التحتية وبسكون العين (من لينها فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهم:
(أتعجبون من لين هذه) الحلة (لمناديل سعد بن معاذ) زاد في الهبة في الجنة (خير منها) أي من الحلة (أو ألين) بالشك من الراوي ولأبي ذر عن الكشميهني وألين، وإنما ضرب المثل بالمناديل لأنها ليست من علية الثياب بل تبتذل في أنواع فيمسح بها الأيدي وينفض بها الغبار عن البدن ويغطى بها ما يهدى وتتخذ لفافًا للثياب فصار سبيلها سبيل الخادم، وسبيل سائر الثياب سبيل المخدوم فإذا كان أدناها هكذا فما ظنك بعليها.
وهذا الحديث رواه مسلم في الفضائل و (رواه) أي حديث الباب (قتادة) بن دعامة فيما وصله المؤلّف في الهبة (والزهري) محمد بن مسلم بن شهاب مما وصله في اللباس (سمعا أنس بن مالك) -رضي الله عنه-، وفي اليونينية والناصرية سمعا أنسًا فأسقطا كغيرهما ما أثبته في الفرع وهو ابن مالك (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
3803 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا فَضْلُ بْنُ مُسَاوِرٍ خَتَنُ أَبِي عَوَانَةَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» وَعَنِ الأَعْمَشِ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِثْلَهُ "فَقَالَ رَجُلٌ
لِجَابِرٍ: "فَإِنَّ الْبَرَاءَ يَقُولُ اهْتَزَّ السَّرِيرُ فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَيَّيْنِ ضَغَائِنُ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن المثنى) العنزي الزمن قال: (حدّثنا فضل بن مساور) بفتح الفاء وسكون الضاد المعجمة ومساور بضم الميم وفتح السين المهملة وبعد الألف واو مكسورة فراء البصري (ختن أبي عوانة) بفتح الخاء المعجمة والفوقية آخره نون أي صهر أبي عوانة بفتح العين المهملة والواو المخففة زوج ابنته والختن يطلق على كل من كان من أقارب المرأة قال: (حدّثنا أبو عوانة) الوضاح اليشكري (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن أبي سفيان) طلحة بن نافع القرشي مولاهم قال جماعة: ليس به بأس، وقال شعبة: حديثه عن جابر صحيفة خرج له البخاري مقرونًا بآخر (عن جابر) الأنصاري (-رضي الله عنه-) أنه قال: (سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(اهتز العرش) أي تحرك حقيقة (لموت سعد بن معاذ) فرحًا بقدوم روحه، وخلق الله تعالى فيه تمييزًا إذ لا مانع من ذلك، أو المراد اهتزاز أهل العرش وهم حملته فحذف المضاف، ويؤيده حديث الحاكم: إن جبريل عليه السلام قال: من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واستبشرت به أهلها؟ أو المراد باهتزازه ارتياحه لروحه واستبشاره بصعودها لكرامته ومنه قولهم: فلان يهتز للمكارم ليس مرادهم اضطراب جسمه وحركته، وإنما يريدون ارتياحه إليها وإقباله عليها، وقيل جعل الله تعالى اهتزاز العرش علامة للملائكة على موته، أو المراد الكناية عن تعظيم شأن وفاته، والعرب تنسب الشيء العظيم إلى أعظم الأشياء فتقول: أظلمت الأرض لموت فلان وقامت له القيامة.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في المناقب أيضًا وابن ماجه في السنة.
(وعن الأعمش) سليمان بن مهران بالإسناد السابق إليه أنه قال: (حدّثنا أبو صالح) ذكوان الزيات (عن جابر) الأنصاري (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثله) أي مثل حديث أبي سفيان طلحة بن نافع السابق. وفائدة سياق هذا أنه لا يخرج لأبي سفيان هذا إلا مقرونًا بغيره واستشهادًا لما مرّ مع ما زاده حيث قال، (فقال رجل): قال الحافظ ابن حجر: -رحمه الله- لم أقف على تسميته (لجابر) المذكور -رضي الله عنه- (فإن البراء) أي ابن عازب (يقول): في معنى قوله عليه الصلاة والسلام "اهتز العرش لموت سعد بن معاذ" أي (اهتز السرير) الذي حمل عليه.
وسياق الحديث يأباه إذ إن المراد منه فضيلته وأي فضيلة في اهتز سريره إذ كل سرير يهتز إذا تجاذبته أيدي الرجال. نعم يحتمل أن يراد اهتزاز حملة سريره فرحًا بقدومه على ربه عز وجل، وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عند الحاكم اهتز العرش فرحًا بلقاء الله سعدًا حتى تفسخت أعواده على عواتقنا. قال ابن عمر: يعني عرش سعد الذي حمل عليه فأوّله كما أوّله البراء، لكن هذا الحديث يعارض حديث ابن عمر هذا من رواية عطاء بن السائب عن

(6/158)


مجاهد عن ابن عمر،
وفي حديث عطاء مقال لأنه ممن اختلط في آخر عمره ويعارضه أيضًا ما صححه الترمذي من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخف جنازته.
فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن الملائكة كانت تحمله".
(فقال): أي جابر في جواب الرجل (إنه كان بين هذين الحيين) الأوس والخزرج (ضغائن) بالضاد والغين المعجمتين جمع ضغينة وهي الحقد (سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ) فالتصريح بعرش الرحمن يرد ما تأوله البراء وغيره ولم يقل البراء ذلك على سبيل العداوة لسعد بل فهم شيئًا محتملاً، فحمل الحديث عليه، ولعله لم يقف على قوله اهتز عرش الرحمن، وظن جابر أن البراء قاله غضبًا من سعد فساغ له أن ينتصر له.
3804 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-: «أَنَّ أُنَاسًا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا بَلَغَ قَرِيبًا مِنَ الْمَسْجِدِ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قُومُوا إِلَى خَيْرِكُمْ -أَوْ سَيِّدِكُمْ- فَقَالَ: يَا سَعْدُ، إِنَّ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ. قَالَ: حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ، أَوْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن عرعرة) بن البرند بكسر الموحدة والراء وسكون النون آخره دال مهملة السامي بالمهملة قال: (حدّثنا) ولأبي ذر أخبرنا (شعبة) بن الحجاج (عن سعد بن إبراهيم) بسكون العين ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري قاضي المدينة (عن أبي أمامة) أسعد (بن سهل بن حنيف) بضم الحاء المهملة مصغرًا الأوسي الأنصاري (عن أبي سعيد) بكسر العين سعد بن مالك (الخدري -رضي الله عنه- أن أناسًا) بهمزة مضمومة وهم بنو قريظة ولأبي ذر ناسًا (نزلوا) من قلعتهم بخيبر بعد أن حاصرهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خمسًا وعشرين ليلة وقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب (على حكم سعد بن معاذ فأرسل إليه) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان سعد رمي في غزوة الخندق بسهم قطع منه الأكحل (فجاء) من المسجد المدني النبوي (على حمار) قد وطئ له بوسادة ومعه قومه من الأنصار (فلما بلغ قريبًا من المسجد) الذي أعدّه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للصلاة أيام محاصرته لبني قريظة قيل والأشبه أن قوله من المسجد تصحيف وصوابه فلما دنا من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما في مسلم وأبي داود، وهذا فيه تخطئة الراوي بمجرد الظن فالأولى كما في المصابيح حمله على ما مرّ من كونه اختط عليه الصلاة هناك مسجدًا. ولئن سلمنا أنه لم يكن ثم مسجد أصلاً لكنا لا نسلم أن قوله من المسجد متعلق بقوله قريبًا وإنما هو متعلق بمحذوف أي: فلما بلغ قريبًا من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حالة كونه جائيًا من المسجد (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) للحاضرين من الأنصار أو أعم:
(قوموا إلى خيركم أو سيدكم) بالشك من الراوي، وعلى القول بأنه عام يحتمل أنه لم يكن في المسجد من هو خير منه، أو المراد السيادة الخاصة من جهة التحكيم في هذه القصة، ولأبي ذر
قوموا خيركم أو سيدكم بإسقاط إلى والرفع بتقدير هو (فقال) عليه الصلاة والسلام له: (يا سعد إن هؤلاء) اليهود من بني قريظة (نزلوا على حكمك) فيهم (قال) سعد (فإني أحكم فيهم أن تقتل) طائفة (مقاتلتهم) وهم الرجال (وتسبى ذراريهم) النساء والصبيان (قال) عليه الصلاة والسلام له: (حكمت) أي فيهم (بحكم الله) عز وجل (أو بحكم الملك) بكسر اللام وهو الله جل وعلا، والشك من الراوي، والغرض من الحديث هنا قوله: قوموا إلى خيركم كما لا يخفى.
وسبق الحديث في باب إذا نزل العدوّ على حكم رجل من باب الجهاد.

13 - باب مَنْقَبَةُ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ -رضي الله عنهما-
(باب منقبة أسيد بن حضير) بضم الهمزة والحاء المهملة مصغرين ابن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل الأنصاري الأوسي الأشهلي أبي يحيى المتوفى سنة عشرين في خلافة عمر على الأصح وصلّى عليه عمر -رضي الله عنه- (و) باب منقبة (عباد بن بشر) بفتح العين والموحدة المشدّدة وبشر بموحدة مكسورة ومعجمة ساكنة ابن وقش بفتح الواو وسكون القاف وبمعجمة الأنصاري الخزرجي الأشهلي أسلم قبل الهجرة وشهد بدرًا وأبلى يوم اليمامة فاستشهد بها (-رضي الله عنهما-) وسقط لأبي ذر لفظ باب فالتالي مرفوع كما لا يخفى.
3805 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا حَبَّانُ بن همامٌ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ أَخْبَرَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- "أَنَّ رَجُلَيْنِ خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَإِذَا نُورٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا حَتَّى تَفَرَّقَا فَتَفَرَّقَ النُّورُ مَعَهُمَا".
وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ "إِنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ وَرَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ".
قَالَ حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ: "كَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبه قال: (حدّثنا علي بن مسلم) الطوسي البغدادي قال: (حدّثنا حبان) بفتح الحاء المهملة والموحدة المشدّدة ابن هلال الباهلي

(6/159)


وثبت لأبي ذر ابن هلال قال: (حدّثنا همام) بفتح الهاء وتشديد الميم الأولى ابن يحيى العوذي بفتح العين المهملة وسكون الواو وكسر الذال المعجمة أبو عبد الله البصري قال أحمد: هو ثبت في كل المشايخ قال: (أخبرنا قتادة) ابن دعامة (عن أنس- رضي الله عنه- أن رجلين) ذكرهما في الرواية المعلقة بعد (خرجا من عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ليلة مظلمة) بكسر اللام (وإذا) بالواو، ولأبي ذر: فإذا (نور بين أيديهما) يضيء (حتى تفرقا فتفرق النور معهما) يضيء مع كل واحد منهما حتى أتى أهله إكرامًا لهما.
(وقال معمر): هو ابن راشد فيما وصله عبد الرزاق في مصنفه والإسماعيلي (عن ثابت عن أنس) -رضي الله عنهما- (أن أسيد بن حضير ورجلاً من الأنصار) وتمامه: تحدثنا عند رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى ذهب من الليل ساعة في ليلة شديدة الظلمة ثم خرجا وبيد كل واحد منهما عصية فأضاءت
عصا أحدهما حتى مشيا في ضوئها حتى إذا افترقت بهما الطريق أضاءت عصا الآخر فمشى كل واحد منهما في ضوء عصاه حتى بلغ أهله.
(وقال: حماد) هو ابن سلمة فيما وصله أحمد والحاكم (أخبرنا ثابت عن أنس) -رضي الله عنه- قال: (كان أسيد بن حضير) سقط ابن حضير لأبي ذر (وعباد بن بشر عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وتمامه: في ليلة ظلماء حندس، فلما خرجا أضاءت عصا أحدهما فمشيا في ضوئها فلما افترقت بهما الطريق أضاءت عصا الآخر، وقد وقع مثل هذا لغير المذكورين، فروى أبو نعيم أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعطى قتادة بن النعمان وقد صلّى معه العشاء في ليلة مظلمة مطيرة عرجونًا وقال: "انطلق به فإنه سيضيء لك من بين يديك عشرًا ومن خلفك عشرًا فإذا دخلت بيتك فسترى سوادًا فاضربه حتى يخرج فإنه الشيطان" فانطلق فأضاء له العرجون حتى دخل بيته ووجد السواد فضربه حتى خرج.

14 - باب مَنَاقِبُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رضي الله عنه-
وحديث الباب أخرجه المؤلّف في أبواب المساجد من الصلاة.
(باب مناقب معاذ بن جبل) بفتح الجيم والموحدة ابن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدي بن كعب بن جشم بن الخزرج من نجباء الصحابة. قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: كنا نشبهه بإبراهيم عليه الصلاة والسلام {كان أمة قانتًا لله حنيفًا} [النحل: 120] وكان شهد العقبة وبدرًا وتوفي في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة بالأردن (-رضي الله عنه-) وسقط لفظ باب لأبي ذر.
3806 - حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «اسْتَقْرِئُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأُبَىٍّ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (محمد بن بشار) بندار العبدي قال: (حدّثنا غندر) محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن عمرو) بفتح العين ابن مرة الجملي بفتح الجيم والميم (عن إبراهيم) النخعي (عن مسروق) هو ابن الأجدع الهمداني أحد الأعلام (عن عبد الله بن عمرو) بفتح العين ابن العاصي (-رضي الله عنهما-) أنه قال: (سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(استقرئوا القرآن) بكسر الراء أي خذوه (من أربعة ابن مسعود) عبد الله (و) من (سالم مولى أبي حذيفة و) من (أبي) بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد التحتية ابن كعب (و) من (معاذ بن جبل) قال النووي: قالوا: لأن هؤلاء الأربعة تفرغوا لأخذ القرآن عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مشافهة، وغيرهم اقتصروا على أخذ بعضهم عن بعض أو لأن هؤلاء تفرغوا لأن يؤخذ عنهم، أو أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أراد الإعلام بما يكون بعد وفاته عليه الصلاة والسلام من تقدم هؤلاء الأربعة وأنهم أقرأ من غيرهم.

15 - باب مَنْقَبَةُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ -رضي الله عنه- وَقَالَتْ عَائِشَةُ: "وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلاً صَالِحًا"
(منقبة) وفي نسخة: باب منقبة (سعد بن عبادة) بضم العين وتخفيف الموحدة ابن دليم بن حارثة بن أبي حزيمة بفتح الحاء المهملة وكسر الزاي بعدها تحتية ثم ميم ابن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة الأنصاري الساعدي نقيب بني ساعدة شهد بدرًا كما في صحيح مسلم، لكن المعروف عند أهل المغازي أنه تهيأ للخروج فنهش فأقام. نعم ذكره في البدريين الواقدي والمدائني وابن الكلبي، وكان سيدًا جوادًا ذا رياسة، ومات بحوران من أرض الشام سنة أربع عشرة أو خمس عشرة في خلافة عمر.
قال ابن الأثير في أسد الغابة: ولم يختلفوا أنه

(6/160)


وجد ميتًا على مغتسله، وقد اخضرّ جسده ولم يشعروا بموته بالمدينة حتى سمعوا قائلاً يقول من بئر ولا يرون أحدًا:
نحن قتلنا سيد الخز ... رج سعد بن عباده
فرميناه بسهم ... فلم يخط فؤاده
فلما سمع الغلمان ذلك ذعروا فحفظ ذلك اليوم فوجدوه اليوم الذي مات فيه سعد بالشام.
قال ابن سيرين: بينا سعد يبول قائمًا إذ اتكأ فمات قتلته الجن وقبره بالمنيحة قرية من غوطة دمشق مشهور يزار إلى اليوم (-رضي الله عنه-).
(وقالت عائشة): -رضي الله عنها- في سعد (وكان قبل ذلك) الذي قاله في حديث الإفك (رجلاً صالحًا) ولكن احتملته الحمية وذلك أنه لما قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يا معشر المسلمين من يعذرني في رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهل بيتي إلا خيرًا فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، وليس مراد عائشة -رضي الله عنها- الغض منه لأن سعدًا لم يكن منه إلا الرد على سعد بن معاذ، ولا يلزم منه زوال تلك الصفة عنه في وقت صدور الإفك، وقد كان في هذه المقالة متأولاً، فلذلك أورد المؤلّف ذلك في مناقبه.
3807 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ أَبُو أُسَيْدٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «خَيْرُ دُورِ الأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ بَنُو عَبْدِ الأَشْهَلِ، ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ، وَفِي كُلِّ دُورِ الأَنْصَارِ خَيْرٌ. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ -وَكَانَ ذَا قِدَمٍ فِي الإِسْلاَمِ -: أَرَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ فَضَّلَ عَلَيْنَا. فَقِيلَ لَهُ "قَدْ فَضَّلَكُمْ عَلَى نَاسٍ كَثِيرٍ"».
وبه قال: (حدّثنا إسحاق) هو ابن منصور الكوسج المروزي قال: (حدّثنا عبد الصمد) بن عبد الوارث التنوري قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (حدّثنا قتادة) بن دعامة (قال: سمعت أنس بن مالك -رضي الله عنه-) يقول (قال أبو أسيد): بضم الهمزة وفتح السين مالك بن ربيعة الساعدي (قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(خير دور الأنصار) أي قبائلهم فهو من باب إطلاق المحل وإرادة الحال (بني) أي دور بني كذا في الفرع بني بالياء وفي اليونينية وغيرها بنو (النجار) بالجيم من الخزرج (ثم بنو عبد الأشهل) بالثمين المعجمة من الأوس (ثم بنو الحرث بن الخزرج ثم بنو ساعدة) من الخزرج (وفي كل دور الأنصار خير) وإن تفاوتت مراتبه فخير الأولى بمعنى أفعل التفضيل وهذه الأخيرة اسم (فقال سعد بن عبادة وكان ذا قدم في الإسلام): بكسر القاف وضبطه القابسي بفتحها ولكل وجه صحيح كما لا يخفى (أرى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد فضّل علينا) بعض القبائل (فقيل له: قد فضلكم) عليه الصلاة والسلام (على ناس كثير) من قبائل الأنصار غير المذكورين.
هذا الحديث سبق قريبًا.

16 - باب مَنَاقِبُ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ -رضي الله عنه-
(باب مناقب أبي بن كعب) بضم الهمزة ثم فتح فتشديد ابن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، واسمه تيم اللات بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج الأكبر الأنصاري الخزرجي النجاري شهد العقبة وبدرًا وكان عمر يقول: أبي سعيد المسلمين، وتوفي سنة ثلاثين (-رضي الله عنه-) وسقط لفظ باب لأبي ذر فقوله مناقب مرفوع.
3808 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: «ذُكِرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَقَالَ: ذَاكَ رَجُلٌ لاَ أَزَالُ أُحِبُّهُ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ، مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -فَبَدَأَ بِهِ- وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ"».
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن عمرو بن مرة) الجملي (عن إبراهيم) النخعي (عن مسروق) هو ابن الأجدع أنه (قال: ذكر) بضم المعجمة مبنيًا للمفعول (عبد الله بن مسعود عند عبد الله بن عمرو) بفتح العين ابن العاصي (فقال: ذاك رجل لا أزال أحبه سمعت النبي) وفي مناقب سالم لا أزال أحبه بعدما سمعت رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(خذوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود فبدأ به و) من (سالم مولى) امرأة (أبي حذيفة) بن عتبة الأنصارية وكان أبو حذيفة تبناه لما تزوج بها فنسب إليه (و) من (معاذ بن جبل
و) من (أبي بن كعب). وفي الترمذي مرفوعًا (وأقرؤهم أبي بن كعب) وقال أبو عمر: قال محمد بن سعد عن الواقدي: أول من كتب لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مقدمه المدينة أبي بن كعب، وهو أول من كتب في آخر الكتاب وكتبه فلان بن فلان.
3809 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ: سَمِعْتُ شُعْبَةَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- «قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأُبَىٍّ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ} [البينة: 1] قَالَ: وَسَمَّانِي؟ قَالَ: نَعَمْ. فَبَكَى». [الحديث 3809 - أطرافه في: 4959، 4960، 4961].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن بشار) بالموحدة ثم المعجمة المشددة بندار العبدي قال:

(6/161)


(حدّثنا غندر) محمد بن جعفر (قال: سمعت شعبة) بن الحجاج يقول: (سمعت قتادة) بن دعامة (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-) يقول: (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأبي) هو ابن كعب (إن الله) عز وجل (أمرني أن أقرأ عليك) سورة ({لم يكن الذين كفروا}) [البيّنة: 1] زاد أبو ذر {من أهل الكتاب} قراءة إبلاغ وإنذار لا قراءة تعلم واستذكار (قال) أبي: (وسماني) الله لك يا رسول الله (قال) عليه الصلاة والسلام: (نعم) سماك لي. وعند الطبراني من وجه آخر عن أبي بن كعب قال: "نعم باسمك ونسبك في الملأ الأعلى".
(قال) أنس -رضي الله عنه-: (فبكى) أبي فرحًا وسرورًا أو خوفًا أن لا يقوم بشكر تلك النعمة، وإنما استفسره بقوله: وسماني لأنه جوز أن يكون أمره أن يقرأ على رجل من أمته غير معين فاخترتني أنت. وقال القرطبي: خص هذه السورة بالذكر لما احتوت عليه من التوحيد والرسالة والإخلاص والصحف والكتب المنزلة على الأنبياء وذكر الصلاة والزكاة والمعاد وبيان أهل الجنة والنار مع وجازتها.
وهذا الحديث ذكره المؤلّف في الفضائل والتفسير والترمذي والنسائي في المناقب.

17 - باب مَنَاقِبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رضي الله عنه-
(باب مناقب زيد بن ثابت) بالمثلثة ابن الضحاك بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد بن عوف بن غنم بن مالك بن النجاري الأنصاري الخزرجي ثم النجاري، وكان عمره لما قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة إحدى عشرة سنة وكان أعلم الصحابة بالفرائض، ومن أعلم الصحابة والراسخين في العلم، ومن أفكه الناس إذا خلا مع أهله، وتوفي سنة خمس وأربعين، وصلّى عليه مروان بن الحكم وسقط لفظ باب لأبي ذر.
3810 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- "جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ: أُبَىٌّ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَبُو زَيْدٍ
وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. قُلْتُ لأَنَسِ: مَنْ أَبُو زَيْدٍ؟ قَالَ: أَحَدُ عُمُومَتِي". [الحديث 3810 - أطرافه في: 3996، 5003، 5004].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن بشار) بندار قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن قتادة) بن دعامة (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه قال: (جمع القرآن) أي استظهره حفظًا (على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أربعة كلهم من الأنصار: أبي) هو ابن كعب الخزرجي (ومعاذ) بن جبل الخزرجي (وأبو زيد) أوس أو ثابت بن زيد أو سعد بن عبيد بن النعمان (وزيد بن ثابت) قال قتادة (قلت لأنس: من أبو زيد) المذكور (قال): هو (أحد عمومتي) واسمه أوس قاله عليّ بن المدائني، أو ثابت بن زيد قاله ابن معين، أو هو سعد بن عبيد بن النعمان جزم به الدارقطني، أو قيس بن السكن بن قيس بن زعورًا بفتح الزاي وبالمهملة وبالراء ابن حرام بالحاء والراء المهملتين الأنصاري النجاري قاله الواقدي، ويرجحه قول أنس: أحد عمومتي لأنه أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بالضادين المعجمتين ابن زيد بن حرام.
فإن قلت: قد جمع القرآن غيرهم أيضًا أجيب: بأن مفهوم العدد لا ينفي الزائد.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الفضائل.

18 - باب مَنَاقِبُ أَبِي طَلْحَةَ -رضي الله عنه-
(باب مناقب أما طلحة) زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي النجاري عقبي بدري نقيب، وأمه عبادة بنت مالك بن عدي بن زيد مناة بن عدي يجتمعان في زيد مناة وهو مشهور بكنيته، وكان زوج أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك. وروينا عن ثابت عن أنس مما ذكره في أسد الغابة: أنه لما خطب أم سليم قالت له: يا أبا طلحة ما مثلك يردّ لكنك امرؤ كافر وأنا امرأة مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك فإن تسلم فذلك مهري لا أسألك غيره فأسلم فكان ذلك مهرها. قال ثابت: فما سمعت بامرأة كانت أكرم الناس مهرًا من أم سليم، توفي سنة اثنتين وثلاثين أو أربع وثلاثين.
وقال المدائني: سنة إحدى وخمسين، وقيل إنه كان لا يكاد يصوم في عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أجل الغزو فلما توفي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صام أربعين سنة لم يفطر إلا أيام العيد، وهو يؤيد قول من قال: إنه توفي سنة إحدى وخمسين (-رضي الله عنه-) وسقط لفظ باب لأبي ذر.
3811 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَىِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُجَوِّبٌ بِهِ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ لَهُ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلاً رَامِيًا شَدِيدَ الْقِدِّ يَكْسِرُ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ الْجَعْبَةُ مِنَ النَّبْلِ، فَيَقُولُ: انْشُرْهَا لأَبِي طَلْحَةَ. فَأَشْرَفَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْظُرُ إِلَى الْقَوْمِ
فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، لاَ تُشْرِفْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ. وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تُنْقِزَانِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا، تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ، ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلآنِهَا، ثُمَّ تَجِيئانِ فَتُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ. وَلَقَدْ وَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدِ أَبِي طَلْحَةَ إِمَّا مَرَّتَيْنِ وَإِمَّا ثَلاَثًا".
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) بفتح الميمين بينهما عين مهملة ساكنة عبد الله بن عمرو بفتح العين ابن أبي الحجاج ميسرة المقعد التميمي المنقري مولاهم البصري قال: (حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد التنوري قال: (حدّثنا عبد العزيز) بن

(6/162)


صهيب (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال: لما كان يوم) وقعة (أُحد انهزم الناس عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبو طلحة بين يدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) الواو في وأبو طلحة للحال وهو مبتدأ خبره (مجوب) بفتح الميم وضم الجيم وسكون الواو أو بضم الميم وفتح الجيم وكسر الواو مشدّدة آخره موحدة فيهما وكلاهما في الفرع وأصله أي مترس (به عليه) زاده الله شرفًا لديه (بحجفة) بفتح الحاء المهملة والجيم والفاء بترس (له) من جلد لا خشب فيه وقوله بحجفة متعلق بقوله مجوب كما لا يخفى. (وكان أبو طلحة رجلاً راميًا) بالقوس (شديد القد) بإضافة شديد إلى القدّ بكسر القاف وتشديد الدال وهو السير من جلد لم يدبغ أي شديد وتر القوس في النزع والمد. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وبهذا جزم الخطابي وتبعه ابن التين اهـ.
وعبارة الخطابي فيما ذكره الكرماني ويحتمل أن تكون الرواية القد بالكسر ويراد به وتر القوس.
قال الزركشي: ولذا أتبعه بقوله: (يكسر يومئذٍ قوسين) بتحتية مفتوحة فكاف ساكنة وقوسين نصب على المفعولية (أو ثلاثًا) بالنصب عطفًا عليه من شدته، والذي في اليونينية وعزاها في الفتح للأكثر شديدًا بالنصب لقد بلام التأكيد، وكلمة قد للتحقيق. والذي في فرع اليونينية شديد بنصبة واحدة على الدال وكشط الأخرى القد بنصبة على القاف وكشط فوق الدال واللام ولم يضبطهما، وضبب على قوله يكسر، وفي الهامش اليونينية عن الكشميهني في رواية أبي ذر عنه تكسر بفوقية مفتوحة فكاف مفتوحة وتشديد المهملة المفتوحة تفعل ليدل على كثرة الكسر يومئذٍ.
قوسان رفع فاعل تكسر أو ثلاث رفع أيضًا عطفًا على سابقه. وقال في الفتح: وروي شديد المد بالميم المفتوحة بدل القاف وتشديد الدال، وقال الكرماني: وتبعه البرماوي وفي بعضها اليد أي بالتحتية بدل القاف.
(وكان الرجل يمر) بأبي طلحة (ومعه الجعبة) بفتح الجيم وسكون العين المهملة الكنانة (من النبل) بفتح النون وسكون الموحدة السهام (فيقول) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(انشرها) بنون ساكنة فمعجمة مضمومة ولأبي ذر عن الكشميهني انثرها بالمثلثة بدل الشين المعجمة (لأبي طلحة) ليرمي بها (فأشرف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي اطلع من فوق حال كونه (ينظر إلى القوم)
وهم يرمون (فيقول) له (أبو طلحة: يا نبي الله) أفديك (بأبي أنت وأمي لا تشرف) بالشين المعجمة والجزم على النهي أي لا تطلع (يصيبك) رفع أي لا تشرف فإنه يصيبك (سهم من سهام القوم) من الأعداء. ولأبي ذر يصبك بالجزم جواب النهي، لكن قال القاضي عياض: والأول هو الصواب والثاني خطأ، وقلب للمعنى. وتعقبه في المصابيح فقال بل الثاني صواب على رأي الكسائي المشهور، وهو أنه أجاز لا تكفر تدخل النار، ولا تدن من الأسد يأكلك بالجزم إذ من الواضح البين أن معنى الأول لا تكفر فإنك إن تكفر تدخل النار، وأن معنى الثاني لا تدن من الأسد فإنك إن تدن منه يأكلك، والجماعة إنما يقدرون فعل الشرط منفيًا فلذلك لا يصح عندهم التركيب المذكور، لكن لم يصل الأمر فيه إلى حد إذا وجدنا رواية صحيحة تتخرج على رأي إمام من أئمة العربية جليل المكانة نطرح الرواية ونقطع بخطئها اعتمادًا على مذهب المخالفين هذا أمر لا يقتضيه الإنصاف (نحري دون نحرك) قال الكرماني: النحر الصدر أي صدري عند صدرك أي أقف أنا بحيث يكون صدري كالترس لصدرك اهـ.
قال أنس: (ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر و) أمي (أم سليم) زوج أبي طلحة -رضي الله عنهم- (وإنهما لمشمرتان) بكسر الميم مع التثنية أثوابهما (أرى) بفتح الهمزة أبصر (خدم سوقهما) بضم السين جمع ساق مجرور بإضافة خدم إليه وهو بفتح الخاء المعجمة وبالدال المهملة جمع الخدمة وهي الخلخال أو أصل الساق، وكان قبل نزول الحجاب حال كونهما (تنقزان القرب) بفتح الفوقية وسكون النون وضم القاف وبعد الزاي ألف فنون أي تثبان وتقفزان من سرعة السير والقرب نصب، واستبعد لأن تنقز غير متعد وأوله بعضهم على نزع الخافض أي يثبان بالقرب، وضبطه

(6/163)


في الفرع وأصله تنقزان أيضًا بضم حرف المضارعة وكسر القاف من أنقز فعداه بالهمزة فيصح على هذا نصب القرب، وللكشميهني تنقلان باللام بدل الزاي، وفي المصابيح أن القرب مفعول باسم فاعل منصوب على الحال محذوف أي تنقزان جاعلتين القرب (على متونهما) ظهورهما (تفرغانه) بضم حرف المضارعة أي الماء (في أفواه القوم) من المسلمين (ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانها) كذا في الفرع بالتأنيث وفي أصله تفرغانه (في أفواه القوم، ولقد وقع السيف من يدي أبي طلحة) بتثنية يدي ولأبي ذر: من يد بالإفراد (إما مرتين وإما ثلاثًا) زاد مسلم في روايته من النعاس.
وعند المؤلّف في المغازي في باب إذ تصعدون عن أبي طلحة أنه قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أُحد حتى سقط سيفي من يدي مرارًا يسقط وآخذه ويسقط وآخذه.
ورجال حديث الباب كلهم بصريون، وسبق في الجهاد، وذكره أيضًا في غزوة أُحد.

19 - باب مَنَاقِبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ -رضي الله عنه-
(باب مناقب عبد الله بن سلام) بتخفيف اللام ابن الحرث الإسرائيلي ثم الأنصاري كان
حليفًا لهم من بني قينقاع، وهو من ولد يوسف بن يعقوب عليهما السلام، وكان اسمه في الجاهلية الحصين فسماه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين أسلم عبد الله، وكان إسلامه لما قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة مهاجرًا. وفي الترمذي أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إنه عاشر عشرة في الجنة" وتوفي عبد الله سنة ثلاث وأربعين (-رضي الله عنه-) وسقط لفظ باب لأبي ذر.
3812 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ سَمِعْتُ مَالِكًا يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ لأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِلاَّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ. قَالَ: وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ على مثله} [الأحقاف: 10] الآيَةَ. قَالَ: لاَ أَدْرِي قَالَ مَالِكٌ الآيَةَ أَوْ فِي الْحَدِيثِ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: سمعت مالكًا) إمام دار الهجرة (يحدث عن أبي النضر) بالضاد المعجمة سالم بن أبي أمية (مولى عمر بن عبيد الله) بضم العين فيهما التيمي المدني (عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه) سعد أحد العشرة المبشرة بالجنة أنه (قال):
(ما سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول لأحد يمشي على الأرض) الآن بعد موت العشرة المبشرة الذين منهم سعد بن أبي وقاص (أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام). وقوله: يمشي على الأرض صفة مؤكدة لأحد كما في قوله تعالى: {وما من دابة في الأرض} [الأنعام: 38، وهود: 6] لمزيد التعميم والإحاطة، لكن استشكل بأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لجماعة: إنهم من أهل الجنة غير ابن سلام، ويبعد أن لا يطلع سعد على ذلك. وما أجيب به: بأنه كره تزكية نفسه لأنه أحد المبشرين بذلك متعقب بأنه لا يستلزم أن ينفي سماعه مثل ذلك في حق غيره، وما سبق من التقدير بالآن بعد موت العشرة إلى آخره مما أجاب به في الفتح وأيّده برواية الدارقطني من طريق إسحاق بن الطباع عن مالك: ما سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول لحي يمشي إنه من أهل الجنة. وبما عنده من طريق عاصم بن مهجع عن مالك لرجل حي ينفي الاستشكال، لكنه يعكر عليه ما عند الدارقطني من طريق سعيد بن داود عن مالك بلفظ سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "لا أقول لأحد من الأحياء أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام" وبلغني أنه قال: "وسلمان الفارسي" لكن قال الحافظ ابن حجر: أن هذا لسياق منكر اهـ.
وأجاب النووي: بأن سعدًا قال: ما سمعت ونفى سماعه ذلك لا يدل على نفي البشارة لغيره وإذا اجتمع النفي والإثبات فالإثبات مقدم عليه اهـ. وقال الكرماني: لفظ ما سمعت لم ينف أصل الأخبار بالجنة لغيره.
(قال) سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: (وفيه) في عبد الله بن سلام (نزلت هذه الآية
{وشهد شاهد من بني إسرائيل} [الأحقاف: 10] زاد أبو ذر على مثله (الآية) كذا قال الجمهور أن الشاهد هو عبد الله بن سلام، وعورض بأن ابن سلام إنما أسلم بالمدينة والأحقاف مكية، وأجيب: بأنها مكية إلا قوله: وشهد شاهد إلى آخر الآيتين، ومعنى الآية أخبروني ماذا تقولون إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به أيها المشركون وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله، والمثل صلة يعني عليه أي على أنه من عند الله فآمن الشاهد واستكبرتم عن الإيمان به، وقيل الشاهد التوراة ومثل القرآن هو التوراة فشهد موسى على

(6/164)


التوراة ومحمد على الفرقان، فكل واحد يصدق الآخر لأن التوراة مشتملة على البشارة بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والقرآن مصدق للتوراة.
(قال) أي عبد الله بن يوسف التنيسي: (لا أدري. قال مالك): الإمام (الآية) أي نزولها في هذه القصة من قبل نفسه (أو في) إسناد هذا (الحديث). وعند ابن منده في الإيمان من طريق إسحاق بن يسار عن عبد الله بن يوسف الحديث والزيادة وفيه قال إسحاق: فقلت لعبد الله بن يوسف إن أبا مسهر حدّثنا بهذا عن مالك ولم يذكر هذه الزيادة فقال عبد الله بن يوسف: إن مالكًا تكلم به عقب الحديث وكانت معي ألواحي فكتبت، فلذا قال: لا أدري إلخ.
وقد أخرج الإسماعيلي والدارقطني في غرائب مالك من طريق أبي مسهر وعاصم بن مهجع وعبد الله بن وهب وغيرهم كلهم عن مالك بدون هذه الزيادة، فالظاهر أنها مدرجة من هذا الوجه. وعند الدارقطني من رواية ابن وهب التصريح بأنها من قول مالك. نعم عند ابن مردويه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، وعند الترمذي من حديث ابن سلام نفسه، وعند ابن حبان من حديث عوف أنها نزلت في عبد الله بن سلام قاله في الفتح.
وحديث الباب أخرجه مسلم في الفضائل.
3813 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَزْهَرُ السَّمَّانُ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ قَالَ: «كُنْتُ جَالِسًا فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى وَجْهِهِ أَثَرُ الْخُشُوعِ، فَقَالُوا: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَجَوَّزَ فِيهِمَا، ثُمَّ خَرَجَ وَتَبِعْتُهُ فَقُلْتُ: إِنَّكَ حِينَ دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ قَالُوا: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ: وَاللَّهِ مَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَا لاَ يَعْلَمُ. وَسَأُحَدِّثُكَ لِمَ ذَاكَ. رَأَيْتُ رُؤْيَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ، وَرَأَيْتُ كَأَنِّي فِي رَوْضَةٍ -ذَكَرَ مِنْ سَعَتِهَا وَخُضْرَتِهَا- وَسْطَهَا عَمُودٌ مِنْ حَدِيدٍ أَسْفَلُهُ فِي الأَرْضِ وَأَعْلاَهُ فِي السَّمَاءِ، فِي أَعْلاَهُ عُرْوَةٌ، فَقِيلَ لِي: ارْقَهْ. قُلْتُ: لاَ أَسْتَطِيعُ. فَأَتَانِي مِنْصَفٌ فَرَفَعَ ثِيَابِي مِنْ خَلْفِي فَرَقِيتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلاَهَا، فَأَخَذْتُ في ِالْعُرْوَةِ، فَقِيلَ لَهُ اسْتَمْسِكْ. فَاسْتَيْقَظْتُ وَإِنَّهَا لَفِي يَدِي. فَقَصَصْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: تِلْكَ الرَّوْضَةُ الإِسْلاَمُ، وَذَلِكَ الْعَمُودُ عَمُودُ الإِسْلاَمِ، وَتِلْكَ الْعُرْوَةُ عُرْوَةُ الْوُثْقَى، فَأَنْتَ عَلَى الإِسْلاَمِ حَتَّى تَمُوتَ. وَذَلِكَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ». وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ عُبَادٍ عَنِ ابْنِ سَلاَمٍ قَالَ:
"وَصِيفٌ" بَدَلَ "مِنْصَفٌ". [الحديث 3813 - طرفاه في: 7010، 7014].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا أزهر) بفتح الهمزة وسكون الزاي وفتح الهاء ابن سعد الباهلي مولاهم (السمان) بتشديد الميم البصري المتوفى سنة ثلاث ومائتين (عن ابن عون) عبد الله واسم جده أرطبان البصري (عن محمد) هو ابن سيرين (عن قيس بن عباد) بضم العين وتخفيف الموحدة البصري قتله الحجاج صبرًا أنه (قال: كنت جالسًا في مسجد المدينة) النبوية مع بعض الصحابة (فدخل رجل) هو ابن سلام كما يأتي قريبًا (على وجهه أثر الخشوع فقالوا): لما بلغهم من حديث سعد السابق (هذا رجل من أهل الجنة فصلّى) الرجل (ركعتين تجوز فيهما) بفتح الفوقية والجيم والواو المشددة بعدها زاي خففهما (ثم خرج) من المسجد (وتبعته فقلت) له: (إنك حين دخلت المسجد قالوا): أي الحاضرون فيك عنك (هذا رجل من أهل الجنة. قال) ابن سلام منكرًا عليهم قطعهم بالجنة له (والله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم) ولعله لم يبلغه خبر سعد أو بلغه ذلك وكره الثناء عليه بذلك تواضعًا وإيثارًا للخمول وكراهة للشهرة. (وسأحدثك) بالواو ولأبي ذر فسأحدثك (لم ذاك) الإنكار الصادر مني عليهم وهو أني (رأيت رؤيا على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقصصتها عليه و) هي أني (رأيت كأني في روضة ذكر) ابن سلام الرائي (من سعتها) بفتح السين (وخضرتها وسطها) بسكون السين (عمود من حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء في أعلاه عروة) بضم العين وسكون الراء المهملتين وفتح الواو (فقيل له): ولأبي ذر لي (ارقه) بهاء السكت ولأبي ذر عن الحموي والمستملي ارق بإسقاطها (قلت): ولأبي ذر فقلت (لا أستطيع) أن أرقاه (فأتاني منصف) بكسر الميم وسكون النون وفتح الصاد المهملة وبعدها فاء، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: منصف بفتح الميم وكسر الصاد، والأول أشهر أي خادم (فرفع ثيابي من خلفي فرقيت) بكسر القاف (حتى كنت في أعلاها فأخذت بالعروة فقيل لي استمسك) بها (فاستيقظت) من منامي (و) الحال (أنها) أي العروة (لفي يدي) قبل أن أتركها وليس المراد أنه استيقظ وهي في يده وإن كانت القدرة صالحة لذلك (فقصصتها على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال): ولأبوي الوقت وذر فقال:
(تلك الروضة الإسلام) أي جميع ما يتعلق بالدين (وذلك) وللحموي وأما (العمود) فهو (عمود الإسلام) أي أركانه الخمسة أو كلمة الشهادة وحدها (وتلك العروة الوثقى) ولغير أبي ذر وتلك العروة عروة الوثقى أي الإيمان. قال تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} [البقرة: 256] (فأنت على الإسلام حتى تموت) (وذاك) ولأبي ذر وذلك (الرجل عبد الله بن سلام) يحتمل أن يكون هو قوله ولا مانع أن يخبر بذلك ويريد نفسه، ويحتمل أن يكون من كلام الراوي، وليس في هذا نص بقطع

(6/165)


النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه من أهل الجنة كما نص على غيره فلذا أنكر عليهم، ويحتمل أن يكون قوله ما ينبغي إنكارًا منه على من سأله عن ذلك لكونه فهم منه التعجب من خبرهم بأن ذلك لا عجب فيه لما ذكره من قصة المنام، وأشار بذلك القول إلى أنه لا ينبغي لأحد إنكار ما لا علم له به إذا كان الذي أخبره به
من أهل الصدق، ويحقق هذا قوله فاستيقظت وإنها لفي يدي أي حقيقة من غير تأويل كما هو ظاهر اللفظ وتكون رؤياه هذه كشفًا كشفه الله تعالى له كرامة له.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في التعبير ومسلم في الفضائل.
وبه قال: (وقال لي خليفة) بن خياط (حدّثنا معاذ) هو ابن نصر العنبري قاضي البصرة قال: (حدّثنا ابن عون) عبد الله (عن محمد) هو ابن سيرين أنه قال: (حدّثنا قيس بن عباد) بضم العين وتخفيف الموحدة (عن ابن سلام) عبد الله أنه (قال): في الحديث السابق (وصيف مكان) قوله فيه (منصف) بكسر الميم وفتح الصاد وهو الخادم الصغير ذكرًا أو أنثى.
3814 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلاَمٍ -رضي الله عنه- فَقَالَ: أَلاَ تَجِيءُ فَأُطْعِمَكَ سَوِيقًا وَتَمْرًا وَتَدْخُلَ فِي بَيْتٍ؟ ثُمَّ قَالَ: إِنَّكَ فِي أَرْضٍ الرِّبَا بِهَا فَاشٍ، إِذَا كَانَ لَكَ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَأَهْدَى إِلَيْكَ حِمْلَ تِبْنٍ أَوْ حِمْلَ شَعِيرٍ أَوْ حِمْلَ قَتٍّ فَإِنَّهُ رِبًا". وَلَمْ يَذْكُرِ النَّضْرُ وَأَبُو دَاوُدَ وَوَهْبٌ عَنْ شُعْبَةَ الْبَيْتَ. [الحديث 3814 - طرفه في: 7342].
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن سعيد بن أبي بردة) بضم الموحدة وسكون الراء (عن أبيه) أبي بردة عامر بن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أنه (قال: أتيت المدينة) طيبة (فلقيت عبد الله بن سلام) -رضي الله عنه- (فقال: ألا تجيء فأطعمك) بالنصب (سويقًا وتمرًا وتدخل في بيت؟) بالتنوين للتعظيم لدخول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه (ثم قال: إنك بأرض) مقيم وهي أرض العراق (الربا بها فاش) ظاهر كثير والجملة الإسمية من المبتدأ والخبر في موضع جر صفة لأرض (إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن) بكسر الحاء المهملة وسكون الميم (أو حمل شعير أو حمل قت) بفتح القاف وتشديد المثناة الفوقية نوع من علف الدواب (فلا تأخذ فإنه ربا) كأنه مذهبه، وإلاّ فالذي عليه الفقهاء أنه لا يكون ربا إلا إذا اشترطه ولا يخفى الورع (ولم يذكر النضر) بالضاد المعجمة ابن شميل (وأبو داود) الطيالسي (ووهب) بسكون الهاء ابن جرير في روايتهم هذا الحديث (عن شعبة) بن الحجاج (البيت) وبثبوته مع ترك قبول هدية المستقرض تحصل المطابقة لأنه علم منه ورعه ودخول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منزله.

20 - باب تَزْوِيجُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَدِيجَةَ، وَفَضْلُهَا -رضي الله عنها-
(باب تزويج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خديجة) بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الأسدية أول خلق الله إسلامًا اتفاقًا، وكانت له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وزير صدق عندما بعث، فكان لا يسمع من المشركين شيئًا يكره من رد عليه وتكذيب له إلا فرج الله بها عنه تثبته وتصدقه وتخفف عنه وتهوّن عليه ما يلقى من قومه، واختارها الله تعالى له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما أراد بها من كرامته، وكانت تدعى في الجاهلية الطاهرة. تزوجها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسنّه خمس وعشرون سنة في قول الجمهور، وكانت قبله عند أبي
هالة بن النباش بن زياد التميمي حليف بني عبد الدار، وتوفيت على الصحيح بعد النبوّة بعشر سنين في شهر رمضان فأقامت معه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خمسًا وعشرين سنة. واستشكل قوله تزويج بصيغة التفعيل إذ مقتضاه أن يكون التزويج لغيره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وأجيب بأن التفعيل قد يجيء بمعنى التفعل أو المراد تزويجه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خديجة من نفسه. (و) ذكر (فضلها - رضي الله تعالى عنها -).
3815 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا -رضي الله عنه- يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:
وَحَدَّثَنِي صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ عَنْ عَلِيٍّ بن أبي طالب -رضي الله عنهم- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد) هو ابن سلام البيكندي قال: (أخبرنا) ولأبي ذر حدّثنا (عبدة) بن سليمان (عن هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير أنه (قال: سمعت عبد الله بن جعفر) أي ابن أبي طالب (قال: سمعت) عمي (عليًّا) -رضي الله عنه- يقول: (سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر وحدّثني بزيادة الواو، وفي نسخة: ح وحدّثني (صدقة) بن الفضل المروزي قال: (أخبرنا عبده) بن سليمان (عن هشام بن عروة عن أبيه) أنه (قال: سمعت عبد الله بن جعفر) المذكور (عن علي) ولأبي ذر زيادة ابن أبي طالب (-رضي الله

(6/166)


عنهم- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(خير نسائها) أي الدنيا أي خير نساء أهل الدنيا في زمانها (مريم) ابنة عمران (وخير نسائها) أي هذه الأمة (خديجة). وعند مسلم من رواية وكيع عن هشام في هذا الحديث وأشار وكيع إلى السماء والأرض. قال النووي رحمه الله: أراد وكيع بهذه الإشارة تفسير الضمير في نسائها وأن المراد جميع نساء الأرض أي كل من بين السماء والأرض من النساء قال: والأظهر أن معناه أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها، وأما التفضيل بينهما فمسكوت عنه.
وفي حديث عمار بن ياسر عند البزار والطبراني مرفوعًا: "لقد فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين". قال في الفتح: وهو حسن الإسناد، واستدلّ به على تفضيل خديجة على عائشة، وعند النسائي بإسناد صحيح وأخرجه الحاكم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا "أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية".
3816 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: كَتَبَ إِلَىَّ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، هَلَكَتْ قَبْلَ
أَنْ يَتَزَوَّجَنِي، لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا، وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ. وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيُهْدِي فِي خَلاَئِلِهَا مِنْهَا مَا يَسَعُهُنَّ". [الحديث 3816 - أطرافه في: 3817، 3818، 5229، 6004، 7484].
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن عفير) بضم المهملة وفتح الفاء أبو عثمان المصري نسبه لجدّه عفير واسم أبيه كثير بالمثلثة قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (قال: كتب إليّ هشام) قال في فتح الباري: وقع عند الإسماعيلي من وجه آخر عن الليث حدثني هشام فلعل الليث لقي هشامًا بعد أن كتب إليه فحدثه به أو كان مذهبه إطلاق حدّثنا في الكتابة، وقد نقل ذلك عنه الخطيب في علوم الحديث (عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوّام (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: ما غرت على امرأة للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بكسر الغين المعجمة وسكون الراء من الغيرة وهي الحمية والأنفة يقال: رجل غيور وامرأة غيور بلا هاء لأن فعولا يشترك فيه الذكر والأنثى وما نافية وما في قوله: (ما غرت) مصدرية أو موصولة أي ما غرت مثل غيرتي أو مثل التي غرتها (على خديجة) فيه ثبوت الغيرة وأنها غير مستنكر وقوعها من فاضلات النساء فضلاً عمن دونهن، وأن عائشة كانت تغار من نساء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكن من خديجة أكثر (هلكت) ماتت (قبل أن يتزوّجني) يعني ولو كانت الآن موجودة لكانت غيرتي أقوى ثم بينت سبب غيرتها بقولها (لما كنت أسمعه يذكرها) وفي الرواية الآتية من كثرة ذكر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إياها (وأمره الله أن يبشرها ببيت) أي في الجنة (من قصب) بفتح القاف والصاد المهملة آخره موحدة لؤلؤ مجوف، وهذا أيضًا من جملة أسباب الغيرة لأن اختصاصها بهذه البشرى يشعر بمزيد محبته عليه الصلاة والسلام لها. وعند الإسماعيلي من رواية الفضل بن موسى عن هشام بن عروة: ما حسدت امرأة قط ما حسدت خديجة حين بشرها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ببيت من قصب (وإن كان ليذبح الشاة) إن مخففة من الثقيلة ولذا أتت باللام في قولها ليذبح الشاة (فيهدي) بضم الياء وكسر الدال (في خلائلها) بالخاء المعجمة أصدقائها (منها) من الشاة (ما يسعهن) أي ما يكفيهن، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: ما يتسعهن بزيادة الفوقية المشدّدة بعد التحتية أي ما يتسع لهن. قال في الفتح وفي رواية النسفيّ يشبعهن من الشبع بكسر المعجمة وفتح الموحدة وليس في روايته لفظة ما، وهذا أيضًا من أسباب الغيرة لما فيه من الإشعار باستمرار حبه لها حتى كان يتعاهد أصداءها.
3817 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِيَّاهَا. قَالَتْ: وَتَزَوَّجَنِي بَعْدَهَا بِثَلاَثِ سِنِينَ، وَأَمَرَهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ -أَوْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ- أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ".
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) أبو رجاء البلخي قال: (حدّثنا حميد بن عبد الرحمن)
بضم الحاء وفتح الميم في الأول مصغرًا الرؤاسي بضم الراء وفتح الهمزة وسين مهملة مكسورة، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الحدود (عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: ما غرت على امرأة) أي من أزواجه عليه الصلاة والسلام (ما غرت) أي مثل غيرتي أو مثل التي غرتها (على خديجة من كثرة ذكر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إياها) إذ كثرة ذكر الشيء تدل على محبته، وأصل غيرة المرأة من تخيل محبة غيرها أكثر منها. وعند النسائي من رواية النضر بن شميل عن هشام كالمؤلّف في النكاح من كثرة ذكره إياها

(6/167)


وثنائه عليها (قالت: وتروّجني بعدها) بعد موتها (بثلاث سنين).
قال النووي: أرادت بذلك زمن الدخول عليها. وأما العقد فتقدم على ذلك بمدّة سنة ونصف ونحو ذلك، وعند الإسماعيلي من طريق عبد الله بن محمد بن يحيى عن هشام عن أبيه أنه كتب إلى الوليد أنك سألتني متى توفيت خديجة وأنها توفيت قبل مخرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من مكة بثلاث سنين أو قريب من ذلك، ونكح -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-عائشة -رضي الله عنها- بعد متوفى خديجة وعائشة بنت ست سنين، ثم إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنى بها بعدما قدم المدينة وهي بنت تسع سنين اهـ.
وقد توفيت خديجة قبل الهجرة اتفاقًا وماتت في رمضان سنة عشر من النبوّة وكان بناؤه عليه الصلاة والسلام على عائشة -رضي الله عنها- بعد منصرفه من وقعة بدر في شوّال سنة اثنتين.
(وأمره ربه عز وجل أو جبريل عليه السلام) بالشك من الراوي (أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب).
3818 - حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَنٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلاَّ خَدِيجَةُ؟ فَيَقُولُ: إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (عمر بن محمد بن حسن) بضم العين في الأول وفتح الحاء في الشاك المعروف بابن التل بفتح المثناة الفوقية وتشديد اللام الأسدي الكوفي المتوفى في شوّال سنة خمسين ومائتين قال: (حدّثنا أبي) محمد بن حسن بن الزبير الكوفي قال: (حدّثنا حفص) هو ابن غياث النخعي الكوفي قاضيها (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما غرت على خديجة وما رأيتها) وقد كانت رؤيتها لها ممكنة لأنه كان لها عند موتها ست سنين فيحتمل النفي بقيد اجتماعهما عنده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ولكن) سبب الغيرة (كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكثر ذكرها) ومن أحب شيئًا أكثر من ذكره (وربما ذبح) عليه الصلاة والسلام (الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة فربما قلت له كأنه) بهاء بعد
النون المشددة ولأبي ذر عن الكشميهني كأن (لم يكن في الدنيا إلا خديجة) وفي غير الفرع وأصله لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فذكر المستثنى منه (فيقول) عليه الصلاة والسلام:
(إنها كانت وكانت) كرر مرتين ولم يرد به التثنية، ولكن ليتعلق بالتكرير كل مرة من خصائلها ما يدل على فضلها كقوله تعالى: {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحًا} [الكهف: 82] ولم يذكر هنا متعلقه للشهرة تفخيمًا وقدّر بنحو كانت فاضلة وكانت عاقلة (وكان لي منها ولد). وعند أحمد من طريق مسروق عن عائشة -رضي الله عنها- "آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء" الحديث، وقد كان جميع أولاده عليه الصلاة والسلام منها إلا إبراهيم عليه السلام فإنه من مارية القبطية.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الفضائل والترمذي في البرّ.
3819 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى -رضي الله عنهما- بَشَّرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَدِيجَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَبَ".
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد بن مسربل الأسدي البصري الحافظ قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن إسماعيل) بن أبي خالد أنه (قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى) بفتح الهمزة والفاء بينهما واو ساكنة واسمه علقمة الأسلمي (-رضي الله عنهما-: بشّر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خديجة؟) هو استفهام محذوف الأداة أي: أبشرها (قال) ابن أبي أوفى: (نعم) بشرها عليه الصلاة والسلام (ببيت) أي في الجنة (من قصب) لؤلؤة مجوفة كما في الكبير للطبراني، وفي الأوسط من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت الأحمر (لا صخب) بالصاد المهملة والخاء المعجمة والموحدة المفتوحات لا صياح (فيه ولا نصب) نفى عنه ما في بيوت الدنيا من آفة جلبة الأصوات وتعب تهيئتها وإصلاحها وسقط قوله قال نعم في الفرع والوجه الإثبات كما هو ثابت في اليونينية فلعل السقط من الكاتب أو غيره فالله أعلم.
وهذا الحديث سبق في أبواب العمرة في باب: متى يحل المعتمر بأتم من هذا.
3820 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَبَ". [الحديث 3820 - طرفه في: 7497].
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) أبو رجاء البلخي قال: (حدّثنا محمد بن فضيل) بضم الفاء وفتح المعجمة

(6/168)


ابن غزوان الضبي مولاهم الحافظ (عن عمارة) بضم العين وتخفيف الميم ابن القعقاع
(عن أبي زرعة) هرم أو عبد الله بن عمرو بن جرير البجلي (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال: أتى جبريل) عليه السلام (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) عند الطبراني في رواية سعيد بن كثير أن ذلك كان وهو بحراء (فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتت) أي إليك (معها إناء فيه إدام) بكسر الهمزة (أو) قال: (طعام) في رواية الطبراني المذكورة أنه كان حيسًا (أو) قال: (شراب) والشك من الراوي (فإذا هي أتتك فاقرأ) بهمزة وصل وفتح الراء (عليها السلام من ربها) جل وعلا (ومني).
وهذا لعمر الله خاصة لم تكن لسواها زاد الطبراني في روايته المذكورة فقالت: هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام، وزاد النسائي من حديث أنس: وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته فجعلت مكان ردّ السلام على الله الثناء عليه تعالى، ثم غايرت بين ما يليق بالله وما يليق بغيره وهذا يدل على وفور فقهها كما لا يخفى. (وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب). وقد أبدى السهيلي لنفي هاتين الصفتين حكمة لطيفة فقال: لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما دعا إلى الإيمان أجابت خديجة -رضي الله عنها- طوعًا فلم تحوجه إلى رفع الصوت من غير منازعة ولا تعب، بل أزالت عنه كل تعب وآنسته من كل وحشة وهوّنت عليه كل عسير فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها وصورة حالها -رضي الله عنها- ومن خواصها -رضي الله عنها- أنها لم تسؤه قط ولم تغاضبه.
وهذا الحديث من المراسيل لأن أبا هريرة -رضي الله عنه- لم يدرك خديجة وأيامها.
3821 - وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتِ: «اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ -أُخْتُ خَدِيجَةَ- عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ، فَارْتَاعَ لِذَلِكَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَالَةَ. قَالَتْ: فَغِرْتُ فَقُلْتُ: مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا».
(وقال إسماعيل بن خليل): الخزاز بمعجمات الكوفي مما وصله أبو عوانة عن محمد بن يحيى الذهلي عن إسماعيل بن خليل المذكور قال: (أخبرنا علي بن مسهر) أبو الحسن الكوفي الحافظ (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: استأذنت هالة بنت خويلد) زوج الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس والد أبي العاص بن الربيع زوج زينب بنت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أخت خديجة) بنت خويلد (على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في الدخول عليه بالمدينة وكانت قد هاجرت إلى المدينة، ويحتمل أن تكون دخلت عليه بمكة حيث كانت عائشة -رضي الله عنها- معه في بعض سفراته (فعرف استئذان خديجة) أي صفة استئذان خديجة لشبه صوتها بصوت أختها فتذكر خديجة بذلك (فارتاع لذلك) بفوقية أي فزع والمراد لازمه أي تغير قال في الفتح: ووقع في بعض الروايات فارتاح بالحاء المهملة أي اهتز لذلك سرورًا (فقال):
(اللهم) اجعلها (هالة) نصب على المفعولية ويجوز الرفع بتقدير هذه هالة وفي الفرع وأصله هالة بفتح ثم نصب منوّنًا (قالت) عائشة -رضي الله عنها- (فغرت فقلت: ما) أي أيّ شيء (تذكر
من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين) بجر حمراء، وجوّز أبو البقاء الرفع على القطع والنصب على الحال وهو تأنيث أحمر، والشدق بكسر الشين المعجمة جانب الفم وصفتها بالدرد وهو سقوط الأسنان من الكبر فلم يبق بشدقيها بياض إلا حمرة اللثات (هلكت في الدهر قد أبدلك الله خيرًا منها) في حديث عائشة -رضي الله عنها- من طريق أبي نجيح عند أحمد والطبراني قالت عائشة -رضي الله عنها-: فقلت قد أبدلك الله بكبيرة السن حديثة السن فغضب حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير، وهذا يرد قول السفاقسي أن في سكوته عليه الصلاة والسلام على ذلك دليلاً على فضل عائشة على خديجة إلا أن يكون المراد بالخيرية هنا حسن الصورة وصغر السن.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الفضائل.

21 - باب ذِكْرُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ -رضي الله عنه-
(باب ذكر جرير بن عبد الله) بن جابر وهو الشليل بشين معجمة مفتوحة فلامين بينهما تحتية ساكنة ابن مالك (البجلي) بفتح الموحدة والجيم نسبة إلى بجيلة بنت مصعب بن سعد العشيرة أم ولد أنمار بن أراش أحد أجداد جرير، وأسلم جرير قبل وفاته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأربعين

(6/169)


يومًا قاله في أسد الغابة وفيه نظر لأنه ثبت أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال له في حجة الوداع: استنصت الناس وذلك قبل موته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأكثر من ثمانين يومًا، وكان جرير حسن الصورة. قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: جرير يوسف هذه الأمة وهو سيد قومه، وفي الطبراني أنه لما دخل على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكرمه وبسط له رداءه وقال: "إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه" وتوفي سنة إحدى وخمسين أو أربع وخمسين (-رضي الله عنه-) وسقط لفظ باب لأبي ذر.
3822 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ بَيَانٍ عَنْ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه-: مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلاَ رَآنِي إِلاَّ ضَحِكَ".
وبه قال: (حدّثنا إسحاق) بن شاهين أبو بشر (الواسطي) قال: (حدّثنا خالد) هو ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد الواسطي الطحان (عن بيان) بفتح الموحدة وتخفيف التحتية بن بشر بالموحدة المكسورة والمعجمة الساكنة الأحمسي (عن قيس) هو ابن أبي حازم أنه (قال: سمعته يقول قال جرير بن عبد الله) البجلي (-رضي الله عنه-: ما حجبني) ولأبي الوقت: قال: ما حجبني (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منذ أسلمت) أي ما منعني مما التمست منه أو من دخول منزله ولا يلزم منه النظر إلى أمهات المؤمنين (ولا رآني إلا ضحك) أي تبسم بشاشة وإكرامًا ولطفًا له.
3823 - وَعَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْتٌ يُقَالَ لَهُ ذُو الْخَلَصَةِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَةُ أَوِ الْكَعْبَةُ الشَّأْمِيَّةُ. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هَلْ أَنْتَ
مُرِيحِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ؟ قَالَ: فَنَفَرْتُ إِلَيْهِ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ، قَالَ: فَكَسَرْنَا، وَقَتَلْنَا مَنْ وَجَدْنَا عِنْدَهُ، فَأَتَيْنَاهُ فَأَخْبَرْنَاهُ، فَدَعَا لَنَا وَلأَحْمَسَ».
(وعن قيس) هو ابن أبي حازم بالإسناد السابق (عن جرير بن عبد الله) البجلي -رضي الله عنه- أنه (قال: كان في الجاهلية بيت) في خثعم قبيلة من اليمن (يقال له ذو الخلصة) بالخاء المعجمة واللام والصاد المهملة المفتوحات (وكان يقال له الكعبة اليمانية) بتخفيف الياء (أو الكعبة الشامية) بالشك في الفرع، وفي رواية الأربعة والشامية بغير ألف بلا شك قال عياض: ذكر الشامية غلط من الرواة والصواب حذفها اهـ. يعني أن الكعبة الشامية هي التي بمكة المشرفة ففرقوا بينهما بالوصف المميز، وأوّله النووي والتي بمكة الكعبة الشامية. وقال الكرماني: الضمير في قوله له راجع للبيت والمراد به بيت الصنم يعني كان يقال لبيت الصنم الكعبة اليمانية والكعبة الشامية فلا غلط ولا حاجة إلى التأويل بالعدول عن الظاهر. (فقال لي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(هل أنت مريحي) من الإراحة (من ذي الخلصة)؟ (قال) جرير: (فنفرت إليه في خمسين ومائة فارس من) رجال (أحمس) بفتح الهمزة وبالحاء المهملة الساكنة آخره سين مهملة بعد فتحة قبيلة جرير (قال: فكسرناه وقتلنا من وجدنا عنده فأتيناه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فأخبرناه) بذلك (فدعا لنا ولأحمس).
وفي باب البشارة في الفتوح من الجهاد فبارك على خيل أحمس ورجالها خمس مرات.

22 - باب ذِكْرُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ الْعَبْسِيِّ -رضي الله عنه-
(باب ذكر حذيفة بن اليمان العبسي) بسكون الموحدة بعدها مهملة، وحذيفة بضم الحاء المهملة وفتح المعجمة وبالفاء مصغرًا واليمان بتخفيف الميم واسمه حسيل، وإنما قيل له اليمان لأنه أصاب دمًا في قومه فهرب إلى المدينة وحالف بني عبد الأشهل من الأنصار فسماه قومه اليمان لأنه حالف الأنصار وهم من اليمن، وكان صاحب سر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، واستعمله عمر -رضي الله عنه- أميرًا على المدائن، ومات بعد قتل عثمان بأربعين يومًا سنة ست وثلاثين وسقط لفظ باب لأبي ذر (-رضي الله عنه-).
3824 - حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ أَخْبَرَنَا سَلَمَةُ بْنُ رَجَاءٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ هَزِيمَةً بَيِّنَةً، فَصَاحَ إِبْلِيسُ: أَىْ عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ. فَرَجَعَتْ أُولاَهُمْ عَلَى أُخْرَاهُمْ، فَاجْتَلَدَتْ مَعَ أُخْرَاهُمْ. فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ، فَنَادَى: أَىْ عِبَادَ اللَّهِ، أَبِي أَبِي. فَقَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ. قَالَ أَبِي: فَوَاللَّهِ مَا زَالَتْ فِي حُذَيْفَةَ مِنْهَا بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (إسماعيل بن خليل) الخزاز بمعجمات قال: (حدّثنا سلمة بن
رجاء) التميمي الكوفي (عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: لما كان يوم أُحد هزم المشركون هزيمة بيّنة) ظاهرة (فصاح إبليس) لعنه الله بالمسلمين (أي عباد الله) اقتلوا (أخراكم) أو انصروا أخراكم (فرجعت أولاهم على أخراهم فاجتلدت) فاقتتلت (أخراهم) قال في التنقيح: وجه الكلام فاجتلدت هي وأخراهم. قال في المصابيح: يريد لأن الاجتلاد كالتجالد يستدعي تشارك أمرين فصاعدًا في أصله، لكن التقدير الذي جعله وجه الكلام مشتمل على حذف المعطوف عليه وحذف العاطف وحده، والظاهر عدمه أو عزته، والأولى أن يجعل من حذف العاطف والمعطوف مثل: {سرابيل تقيكم الحر} [النحل: 81] أي والبرد ومثله كثير فيكون التقدير فاجتلدت أخراهم وأولاهم

(6/170)


وللكشميهني فاجتلدت مع أخراهم (فنظر حذيفة فإذا هو بأبيه) اليمان (فنادى: أي عباد الله) هذا (أبي) يحذر المسلمين عن قتله ولم يسمعوا فقتلوه يظنون أنه من المشركين وتصدّق حذيفة بديته على من قتله (فقالت): أي عائشة -رضي الله عنها- (فوالله ما احتجزوا) بحاء مهملة وجيم وزاي أي ما انفصلوا من القتال (حتى قتلوه) خطأ (فقال حذيفة: غفر الله لكم). قال هشام (قال أبي) عروة (فوالله ما زالت في حذيفة منها) من هذه الكلمة (بقية خير) أي بقية دعاء واستغفار لقاتل أبيه اليمان (حتى لقي الله عز وجل) أي مات وقال التيمي: أي ما زال في حذيفة بقية حزن على أبيه من قتل المسلمين له.

23 - باب ذِكْرُ هِنْدٍ بِنْتِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ -رضي الله عنها-
(باب ذكر هند بنت عتبة بن ربيعة) بن عبد شمس القرشية الهاشمية والدة معاوية بن أبي سفيان أسلمت في الفتح بعد إسلام زوجها أبي سفيان وأقرها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على نكاحها، وكانت امرأة ذات أنفة ورأي وعقل وشهدت أُحدًا كافرة، فلما قتل حمزة مثلت به وشقت كبده فلاكتها فلم تطق، وتوفيت في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في اليوم الذي مات فيه أبو قحافة والد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وهي القائلة للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما شرط على النساء في المبايعة ولا يسرقن ولا يزنين وهل تزني الحرة؟ (-رضي الله عنها-) وسقط باب لأبي ذر.
3825 - وَقَالَ عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: «جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ مِنْ أَهْلِ خِبَاءٍ أَحَبُّ إِلَىَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، ثُمَّ مَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ. قَالَ: وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَىَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا؟ قَالَ: لاَ أُرَاهُ إِلاَّ بِالْمَعْرُوفِ».
(وقال عبدان) عبد الله بن عثمان المروزي مما وصله البيهقي (أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي قال: (أخبرنا يونس) بن يزيد الأيلي (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه قال: (حدّثني) بالإفراد (عروة) بن الزبير (إن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاءت هند) بالصرف لأبي
ذر ولغيره بعدمه (بنت عتبة قالت): ولأبي ذر فقالت: (يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء أحب إليّ أن يذلوا) بفتح أوّله وكسر المعجمة (من أهل خبائك) بكسر الخاء المعجمة وفتح الموحدة مع المدّ خيمة من وبر أو صوف ثم أطلقت على البيت كيف كان (ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحبّ) بالنصب ولأبي ذر: أحب بالرفع (إليّ أن يعزوا) بلفظ الجمع ولأبي ذر عن الحموي والمستملي أن يعز (من أهل خبائك. قالت): أي هند قال عليه الصلاة والسلام ولأبي ذر قال: بدل قالت: أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وأيضًا) ستزيدين من ذلك ويتمكن الإيمان في قلبك فيزيد حبك لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويقوى رجوعك عن بغضه (والذي نفسي بيده. قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسّيك) بكسر الميم والسين المهملة المشدّدة بخيل شحيح (فهل عليّ حرج) أي إثم (أن) أي بأن (أطعم) بضم الهمزة وكسر العين (من) المال (الذي له عيالنا قال) عليه الصلاة والسلام:
(لا أراه) بضم الهمزة أي الإطعام (إلا بالمعروف) بقدر الحاجة دون الزيادة، ولابن عساكر في نسخة وأبي ذر عن الكشميهني قال: "إلا بالمعروف"، ولابن عساكر وأبي ذر عن الحموي والمستملي قال: "لا إلا بالمعروف".
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في النفقات والأيمان والنذور.

24 - باب حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ
(باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل) بفتح العين وسكون الميم ونفيل بضم النون وفتح الفاء ابن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك القرشي العدوي والد سعيد بن زيد، أحد العشرة وابن عم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يجتمع هو وعمر في نفيل -رضي الله عنه- وسقط لفظ باب لأبي ذر.
3826 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بن عُقبةَ حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْوَحْيُ، فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صُفْرَةٌ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا. ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ: إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ، وَلاَ آكُلُ إِلاَّ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَأَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ وَيَقُولُ: الشَّاةُ خَلَقَهَا اللَّهُ، وَأَنْزَلَ لَهَا مِنَ السَّمَاءِ الْمَاءَ، وَأَنْبَتَ لَهَا مِنَ الأَرْضِ، ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ، إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا لَهُ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن أبي بكر) المقدمي قال: (حدّثنا فضيل بن سليمان) النميري قال: (حدّثنا موسى) ولأبي ذر ابن عقبة قال: (حدّثنا سالم بن عبد الله عن) أبيه (عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح) بفتح
الموحدة وسكون اللام وفتح الدال وآخره حاء مهملتين وادٍ قبل مكة من جهة المغرب مكان في طريق التنعيم وقيل واد وفيه الصرف وعدمه (قبل أن ينزل) بفتح أوله ولأبي ذر ينزل بضمه (على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الوحي فقُدمت) بضم القاف (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سفرة) بضم السين

(6/171)


مرفوع نائب عن الفاعل.
قال ابن الأثير: السفرة طعام يتخذه المسافر وأكثر ما يحمل في جلد مستدير فنقل اسم الطعام إلى الجلد وسمي به كما سميت المزادة راوية وغير ذلك من الأسماء المنقولة. قال ابن بطال وكانت هذه السفرة لقريش (فأبى) زيد بن عمرو بن نفيل (أن يأكل منها. ثم قال زيد) مخاطبًا للذين قدموا السفرة (إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم) جمع نصب بالمهملة وضمتين وهي أحجار كانت حول الكعبة يذبحون عليها للأصنام (ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه).
واستشكل بأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان أولى بذلك من زيد. وأجيب: بأنه ليس في الحديث أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكل منها، وعلى تقدير كونه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكل منها فزيد إنما فعل ذلك برأي رآه لا بشرع بلغه، وإنما كان عند أهل الجاهلية بقايا من دين إبراهيم، وكان في شرع إبراهيم تحريم الميتة لا تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه، وتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه وإنما نزل في الإسلام، والأصح أن الأشياء قبل الشرع لا توصف بحل ولا حرمة قاله السهيلي.
وقول ابن بطال: وكانت السفرة لقريش فقدموها للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأبى أن يأكل منها فقدمها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لزيد بن عمرو فأبى أن يأكل منها تعقبه في الفتح فقال: هو محتمل لكن لا أدري من أين له هذا الجزم بذلك فإني لم أقف عليه في رواية أحد.
وقال الخطابي: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يأكل مما يذبحون للأصنام ويأكل مما عدا ذلك وإن كانوا لا يذكرون اسم الله عليه، وإنما فعل ذلك زيد برأي رآه لا بشرع بلغه قاله السهيلي. واستضعف بأن الظاهر أنه كان فى شرع إبراهيم عليه الصلاة والسلام تحريم ما ذبح لغير الله لأنه كان عدو الأصنام.
وهذا الحديث يأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الصيد.
(وأن) بفتح الهمزة ولأبي ذر فإن (زيد بن عمرو) المذكور (كان يعيب) بفتح أوله (على ٌقريش ذبائحهم) التي يذبحونها لغير الله (ويقول) لهم: (الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء) لتشربه (وأنبت لها من الأرض) الكلأ لتأكله (ثم تذبحونها على غير اسم الله إنكارًا لذلك) الفعل (وإعظامًا له) ونصب إنكارًا على التعليل وإعظامًا عطف عليه. وقوله: وأن زيدًا موصول بالإسناد المذكور.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الذبائح والنسائي في المناقب.
3827 - قَالَ مُوسَى: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ -وَلاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ تُحُدِّثَ بِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ يَسْأَلُ عَنِ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ، فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ الْيَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ
دِينِهِمْ فَقَالَ: إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ فَأَخْبِرْنِي. فَقَالَ: لاَ تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ. قَالَ زَيْدٌ: مَا أَفِرُّ إِلاَّ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَلاَ أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ؟ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا. قَالَ زَيْدٌ: وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ؛ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلاَ يَعْبُدُ إِلاَّ اللَّهَ. فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ النَّصَارَى، فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَقَالَ: لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ. قَالَ: مَا أَفِرُّ إِلاَّ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ، وَلاَ أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلاَ مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ؟ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا. قَالَ: وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلاَ يَعْبُدُ إِلاَّ اللَّهَ. فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - خَرَجَ، فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ".
(قال موسى) بن عقبة بالإسناد المذكور (حدّثني) بالإفراد (سالم بن عبد الله) بن عمر بن الخطاب (ولا أعلمه إلا تحدث) بضم الفوقية والحاء وكسر الدال المهملة مبنيًّا للمفعول ويجوز الفتح فيهما مبنيًّا للفاعل وفي نسخة ألا يحدث بضم التحتية وفتح الحاء والدال وضم المثلثة (به عن ابن عمر أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج) من مكة (إلى الشام يسأل عن الدين) أي دين التوحيد (ويتبعه) بسكون الفوقية في الفرع وأصله وعليها علامة أبي ذر، وفي الفتح ويتبعه بتشديدها من الاتباع، وللكشميهني ويبتغيه بتحتية وفوقية مفتوحتين بينهما موحدة ساكنة وغين معجمة بعدها تحتية ساكنة أي يطلبه (فلقي عالمًا من اليهود) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: لم أقف على اسمه (فسأله عن دينهم فقال) له: (إني لعلى) لعل واسمها وخبرها قوله: (أن أدين دينكم فأخبرني) عن شأن دينكم (فقال) له اليهودي: (لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله) أي من عذابه (قال زيد: ما أفر) بالفاء (إلا من غضب الله ولا أحمل من غضب الله شيئًا أبدًا وأنا أستطيعه) أي والحال أن لي قدرة على عدم حمل ذلك، وفي اليونينية وأنى أستطيعه بتشديد النون مفتوحة استفهامية (فهل تدلني على غيره) من الأديان (قال) له: (ما أعلمه إلا أن يكون) دينًا (حنيفًا. قال زيد: وما) الدين (الحنيف؟ قال): اليهودي هو (دين إبراهيم لم يكن يهوديًا ولا نصرانيًّا ولا يعبد إلا الله) وحده لا شريك له (فخرج زيد فلقي عالمًا من النصارى) لم يقف الحافظ ابن حجر على اسمه أيضًا (فذكر مثله) أي مثل ما ذكر لعالم اليهود (فقال) له: (لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله)

(6/172)


أي من إبعاده من رحمته وطرده عن بابه (قال) له زيد: (ما أفر إلا من لعنة الله ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئًا أبدًا وأنا أستطيع) وفي اليونينية وغيرها وأني بفتح النون مشددة استفهامية وعند الداراني وأني بكسر الهمزة والنون المشددة لا أستطيع (فهل تدلني على غيره) من الأديان (قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا. قال) له زيد: (وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديًا ولا نصرانيًّا ولا يعبد إلا الله) وحده لا شريك له (فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام خرج فلما برز) أي ظهر خارجًا عن أرضهم (رفع يديه فقال: اللهم إني)
بكسر الهمزة (أشهد أني) بفتحها (على دين إبراهيم).
وروى البزار والطبراني من حديث سعيد بن زيد خرج زيد بن عمرو وورقة يطلبان الدين حتى أتيا الشام فتنصر ورقة وامتنع زيد فأتى الموصل فلقي راهبًا فعرض عليه النصرانية فامتنع؛ الحديث. وفيه قال سعيد بن زيد: فسألت أنا وعمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن زيد فقال: "غفر الله له ورحمه فإنه مات على دين إبراهيم".
3828 - وَقَالَ اللَّيْثُ: كَتَبَ إِلَىَّ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنهما- قَالَتْ: "رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ: يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ، وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي. وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ، يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: لاَ تَقْتُلْهَا، أَنَا أَكْفِيكَ مَئُونَتَهَا. فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لأَبِيهَا. إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ، وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا".
(وقال الليث) بن سعد مما وصله أبو بكر بن أبي داود عن عيسى بن حماد المعروف بزغبة عن الليث (كتب إليّ) بتشديد التحتية (هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن أسماء بنت أبي بكر) الصديق (-رضي الله عنهما-) أنها (قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائمًا مسندًا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معاشر قريش) ولأبي ذر يا معشر بسكون العين وفتح المعجمة (والله ما منكم على دين إبراهيم غيري) وفي حديث أبي أسامة عند أبي نعيم في مستخرجه وكان يقول: إلهي إله إبراهيم وديني دين إبراهيم.
(وكان) أي زيد (يحيي الموءودة) مفعولة من وأد الشيء إذا قتله، وأطلق عليها اسم الوأد اعتبارًا بما أريد بها وإن لم يقع وكانوا يدفنون البنات وهن بالحياة وأصله فيما قيل من الغيرة عليهن لما وقع لبعض العرب حيث سبى بنت آخر فاستفرشها فأراد أبوها أن يفتديها منه فخيّرها فاختارت الذي سباها فحلف أبوها ليقتلن كل بنت تولد له فتوبع على ذلك، وأكثر من كان يفعل ذلك منهم من الإملاق. وقوله يحيي الموءودة هو مجاز عن الإبقاء وذلك أنه (يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها أنا أكفيكها) ولأبي ذر وابن عساكر: أنا أكفيك (مؤونتها فيأخذها) من أبيها ويقوم بما تحتاج إليه (فإذا ترعرعت) براءين وعينين مهملات أي نشأت (قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مؤونتها).
وعند الفاكهي من حديث عامر بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب قال: قال لي زيد بن عمرو: إني خالفت قومي واتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل وما كانا يعبدان وأنا انتظر نبيًّا من بني إسماعيل ولا أراني أدركه وأنا أؤمن به وأصدق وأشهد أنه نبي، وإن طالت بك حياة فأقرئه مني السلام قال عامر: فلما أسلمت أعلمت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خبره قال: فردّ عليه السلام ترحم عليه وقال: "لقد رأيته في الجنة يسحب ذيولاً" وفي رواية أبي أسامة المذكور سئل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن زيد فقال:
"يبعث يوم القيامة أمة وحده بيني وبين عيسى ابن مريم" وروى أبو عمر أنه كان يقول: يا معشر قريش إياكم والربا فإنه يورث الفقر، وروى الزبير بن بكار من طريق هشام بن عروة قال: بلغنا أن زيدًا كان بالشام فبلغه مخرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأقبل يريده فقتل بميفعة من أرض البلقاء. وقال ابن إسحاق لما توسط بلاد لخم قتلوه، وقيل إنه مات قبل المبعث بخمس سنين عند بناء قريش الكعبة.

25 - باب بُنْيَانُ الْكَعْبَةِ
(باب بنيان الكعبة) في الجاهلية على يد قريش في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل بعثته. وعند ابن إسحاق وغيره أن قريشًا لما بنت الكعبة كان عمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يومئذٍ خمسًا وعشرين سنة، وسقط باب لأبي ذر فتاليه مرفوع.
3829 - حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ: «لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَبَّاسٌ يَنْقُلاَنِ الْحِجَارَةَ، فَقَالَ عَبَّاسٌ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ يَقِكَ مِنَ الْحِجَارَةِ، فَخَرَّ إِلَى الأَرْضِ، وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: إِزَارِي إِزَارِي، فَشَدَّ عَلَيْهِ إِزَارَهُ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (محمود) هو ابن غيلان العدوي مولاهم المروزي قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن همام (قال: أخبرني) بالإفراد (ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز المكي (قال:

(6/173)


أخبرني) بالإفراد أيضًا (عمرو بن دينار) بفتح العين أنه (سمع جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما- قال: لما بنيت الكعبة) بضم الموحدة وكسر النون مبنيًّا للمفعول أي لما بنتها قريش (ذهب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- و) عمه (عباس ينقلان الحجارة) على أعناقهما لبنائها (فقال عباس للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): يا ابن أخي (اجعل إزارك على رقبتك يقيك) بالتحتية بعد القاف مرفوع ولأبي ذر يقك بحذفها على الجزم (من الحجارة) ففعل ذلك -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فخر) أي فوقع (إلى الأرض وطمحت) بفتحات (عيناه) أي شخصتا وارتفعتا (إلى السماء ثم أفاق) وسقطت هذه من الفرع: وفي حديث أبي الطفيل فبينما رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ينقل معهم الحجارة إذ انكشفت عورته فنودي: يا محمد غط عورتك فذلك أوّل ما نودي فما رئيت له عورة قبل ولا بعد (فقال) لعمه: أعطني (إزاري) أعطني (إزاري) فأعطاه فأخذه (فشد عليه) زاده الله شرفًا لديه (إزاره) زاد في رواية في أوائل الصلاة فما رئي بعد ذلك عريانًا.
وهذا الحديث من مراسيل الصحابة، وسبق في باب فضل مكة وبنيانها، واختلف في عدد بناء الكعبة والذي تحصل من مجموعه عشر مرات الملائكة وآدم وأولاده والخليل والعمالقة وجرهم وقصي بن كلاب وقريش وعبد الله بن الزبير والحجاج ومرت دلائل ذلك.
3830 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
يَزِيدَ قَالاَ: لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَوْلَ الْبَيْتِ حَائِطٌ، كَانُوا يُصَلُّونَ حَوْلَ الْبَيْتِ، حَتَّى كَانَ عُمَرُ فَبَنَى حَوْلَهُ حَائِطًا. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: جَدْرُهُ قَصِيرٌ، فَبَنَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ".
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي قال: (حدّثنا حماد بن زيد) هو ابن درهم الأزدي الجهضمي البصري (عن عمرو بن دينار وعبيد الله بن أبي يزيد) بضم عين عبيد الله ويزيد من الزيادة مولى أهل مكة (قالا: لم يكن على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حول البيت) الحرام (حائط كانوا يصلون حول البيت) وهذا مرسل، وقيل منقطع لأن عمرو بن دينار وعبيد الله بن أبي يزيد من صغار التابعين. وقوله: (حتى كان عمر) أي زمان خلافته (فبنى حوله حائطًا) وهذا منقطع لأنهما لم يدركا عمر (قال عبيد الله) بن أبي يزيد: (جدره) بفتح الجيم وسكون الدال مرفوع أي جداره مبتدأ خبره قوله: (قصير) والجملة صفة حائطًا، والذي في الفرع جدرة بفتح الجيم وسكون الدال المهملة ونصب الراء بعدها هاء تأنيث مرفوع عليها شطبة بالحمرة فصير بالرفع أيضًا وكذا هو في اليونيية لكن بغير نقط على الهاء ولا ضبط لها، فيحتمل أن يكون الرفع على الراء وفي نسخة جدارًا بفتح الجيم والدال والنصب قصيرًا نصب أيضًا. (فبناه ابن الزبير) عبد الله -رضي الله عنه- مرتفعًا طويلاً، وهذا المقدار هو الموصول أيضًا من الحديث كما نبه عليه الحافظ ابن حجر.

26 - باب أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ
(باب) بيان (أيام الجاهلية) أيام الفترة وسميت بها لكثرة جهالاتهم وسقط لأبي ذر لفظ باب.
3831 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ هِشَامٌ حَدَّثَنا أَبِي عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "كَانَ عَاشُورَاءُ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُهُ. فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ لاَ يَصُومُهُ".
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (قال هشام: حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا هشام قال: حدّثني (أبي) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: كان عاشوراء) ولأبي ذر كان يوم عاشوراء (يومًا تصومه قريش في الجاهلية) اقتداء بشرع سابق، لكن قال في الفتح: أن في بعض الأخبار أنه كان أصابهم قحط ثم رفع عنهم فصاموه شكرًا (وكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصومه) أي في الجاهلية (فلما قدم المدينة) في ربيع الأول (صامه) على عادته (وأمر) أصحابه (بصيامه) في أول السنة الثانية (فلما نزل رمضان) أي صيامه في الثانية في شهر شعبان (كان من شاء صامه) أي عاشوراء (ومن شاء لا يصومه).
وهذا الحديث قد مرّ في كتاب الصيام.
3832 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله
عنهما - قَالَ: «كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنَ الْفُجُورِ فِي الأَرْضِ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَأ الدَّبَرْ، وَعَفَا الأَثَرْ، حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ. قَالَ: فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ رَابِعَةً مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، وَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: الْحِلُّ كُلُّهُ».
وبه قال: (حدّثنا مسلم) هو ابن إبراهيم قال: (حدّثنا وهيب) مصغرًا هو ابن خالد قال: (حدّثنا ابن طاوس) عبد الله (عن أبيه) طاوس (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال: كانوا) أي أهل الجاهلية (يرون) بفتح التحتية أي يعتقدون (أن العمرة) أي الإحرام بها (في أشهر الحج) شوال وذي القعدة وتسع من الحجة وليلة النحر أو عشر أو ذي الحجة بكماله على الخلاف فيه (من الفجور) أي من الذنوب (في الأرض وكانوا) أي في الجاهلية (يسمون

(6/174)


المحرم صفرًا) بالتنوين مصروفًا. قال النووي: بلا خلاف اهـ. وفي الفرع كأصله عن أبي ذر صفر بغير تنوين (ويقولون: إذا برأ الدبر) بالمهملة والموحدة المفتوحتين الجرح الذي يحصل في ظهر الإبل من اصطكاك الأقتاب وبرا بغير همزة في الفرع كأصله (وعفا الأثر) أي ذهب أثر الحاج من الطريق بعد رجوعهم بوقوع الأمطار وزاد في الحج وانسلخ صفر (حلت العمرة لمن اعتمر) بسكون الراء كالسابقتين للسجع.
(قال) ابن عباس (فقدم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه) مكة (رابعة) أي صبح رابعة من ذي الحجة حال كونهم (مهلين بالحج) ولا يلزم من إهلاله عليه الصلاة والسلام بالحج أن لا يكون قارنًا (وأمرهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يجعلوها) أي يقبلوا الحجة (عمرة) ويتحللوا بعملها فيصيروا متمتعين وهذا الفسخ خاص بذلك الزمن خلافًا للأمام أحمد (قالوا: يا رسول الله أيّ الحل؟) هل هو حل عام لكل ما حرم بالإحرام حتى الجمع أو حل خاص (قال) عليه الصلاة والسلام: (الحل كله) فيحل فيه حتى الجماع لأن العمرة ليس لها إلا تحلل واحد.
وهذا الحديث قد سبق في الحج.
3833 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: كَانَ عَمْرٌو يَقُولُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: "جَاءَ سَيْلٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكَسَا مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ. قَالَ سُفْيَانُ وَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَحَدِيثٌ لَهُ شَأْنٌ".
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (قال: كان عمرو) بفتح العين ابن دينار (يقول: حدّثنا سعيد بن المسيب) التابعي (عن أبيه) المسيب (عن جده) جد سعيد واسمه حزن بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي بعدها نون المهاجري وإن من أشراف قريش في الجاهلية أنه (قال: جاء سيل في الجاهلية) قبل الإسلام (فكسا) أي غطى (ما بين الجبلين) المشرفين على مكة (قال سفيان) بن عيينة: (ويقول) عمرو بن دينار: (إن هذا الحديث له شأن) أي قصة طويلة.
3834 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ بَيَانٍ أَبِي بِشْرٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: "دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَحْمَسَ يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ، فَرَآهَا لاَ تَكَلَّمُ، فَقَالَ: مَا لَهَا لاَ تَكَلَّمُ؟ قَالُوا: حَجَّتْ مُصْمِتَةً. قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، فَإِنَّ هَذَا لاَ يَحِلُّ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ. فَتَكَلَّمَتْ فَقَالَتْ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: امْرُؤٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، قَالَتْ: أَيُّ الْمُهَاجِرِينَ؟ قَالَ: مِنْ قُرَيْشٍ. قَالَتْ: مِنْ أَىِّ قُرَيْشٍ أَنْتَ؟ قَالَ: إِنَّكِ لَسَئُولٌ، أَنَا أَبُو بَكْرٍ. قَالَتْ: مَا بَقَاؤُنَا عَلَى هَذَا الأَمْرِ الصَّالِحِ الَّذِي جَاءَ اللَّهُ بِهِ بَعْدَ الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: بَقَاؤُكُمْ عَلَيْهِ مَا اسْتَقَامَتْ بِكُمْ أَئِمَّتُكُمْ. قَالَتْ: وَمَا الأَئِمَّةُ؟ قَالَ: أَمَا كَانَ لِقَوْمِكِ رُءُوسٌ وَأَشْرَافٌ يَأْمُرُونَهُمْ فَيُطِيعُونَهُمْ؟ قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَهُمْ أُولَئِكَ عَلَى النَّاسِ".
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي قال: (حدّثنا أبو عوانة) الوضاح بن عبد الله اليشكري (عن بيان) بفتح الموحدة وتخفيف التحتية (أبي بشر) بكسر الموحدة وسكون المعجمة ابن بشر بالموحدة ككنيته الأحمسي الكوفي (عن قيس بن أبي حازم) بالحاء المهملة والزاي واسمه عوف أنه (قال: دخل أبو بكر) الصديق -رضي الله عنه- (على امرأة من أحمس) بحاء وسين مهملتين وفتح الميم قبيلة من بجيلة وليست من الحمس الذين هم من قريش (يقال لها) للمرأة (زينب) بنت المهاجر كما في طبقات ابن سعد أو بنت جابر كما ذكر أبو موسى المديني في ذيل الصحابة عن ابن منده في تاريخ النساء له أو زينب بنت عوف كما ذكر الدارقطني في العلل قال: وذكر ابن عيينة عن إسماعيل أنها جدة إبراهيم بن المهاجر. قال في الفتح: والجمع بين هذه الأقوال ممكن فمن قال: بنت المهاجر نسبها إلى أبيها أو بنت جابر نسبها إلى جدها الأدنى أو بنت عوف نسبها إلى جدها الأعلى (فرآها) أبو بكر (لا تكلم) بحذف أحد المثلين (فقال: ما لها لا تكلم؟ قالوا: حجت مصمتة) بضم الميم الأولى وكسر الثانية وسكون الصاد المهملة اسم فاعل من أصمت رباعيّا. يقال: أصمت بفتح أوله اصماتًا وصمت بفتحتين صموتًا وصمتًا وصماتًا أي ساكنة (قال لها: تكلمي فإن هذا) أي ترك الكلام (لا يحل هذا) الصمات (من عمل الجاهلية فتكلمت). وعند الإسماعيلي أن المرأة قالت له كان بيننا وبين قومك في الجاهلية شرّ فحلفت أن الله عافاني من ذلك أن لا أكلم أحدًا حتى أحج فقال: إن الإسلام يهدم ذلك فتكلمي (فقالت) له: (من أنت؟ قال) لها: (امرؤ من المهاجرين. قالت: أي المهاجرين؟ قال) لها: (من قريش. قالت) له: (من أي قريش أنت؟ قال) لها: (إنك) بكسر الكاف (لسؤول) بلام التأكيد وصيغة فعول المذكر والمؤنث فيها سواء والمعنى أنك لكثيرة السؤال (أنا أبو بكر. قالت) له: (ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح) أي دين الإسلام (الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال) أبو بكر -رضي الله عنه-: (بقاؤكم عليه ما استقامت بكم) بالموحدة ولأبي ذر عن الكشميهني لكم باللام (أئمتكم) لأن باستقامتهم تقام الحدود وتؤخذ الحقوق ويوضع كل شيء موضعه (قالت) له: (وما الأئمة؟ قال) لها: (أما) بالتخفيف (كان لقومك

(6/175)


رؤوس وأشراف
يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت) له: (بلى. قال): لها: (فهم أولئك على الناس) بكسر الكاف.
واستدلّ به على أن من نذر أن لا يتكلم لم ينعقد نذره لأن أبا بكر -رضي الله عنه- أطلق أن ذلك لا يحل وأنه من فعل الجاهلية وأن الإسلام هدم ذلك، ولا يقول أبو بكر مثل هذا إلا عن توقيف فيكون في حكم المرفوع وشرط المنذور كونه قربة لم تتعين كعتق وعيادة مريض وسلام وتشييع جنازة فلو نذر غير قربة كواجب عيني كصلاة الظهر أو معصية كشرب خمر وصلاة بحدث أو مكروه كصيام الدهر لمن خاف به ضررًا أو فوت حق أو مباح كقيام وقعود وصمت سواء نذر فعله أم تركه لم يصح نذره، أما الواجب المذكور فلأنه لزم عينًا بإلزام الشرع قبل النذر فلا معنى لالتزامه، وأما المعصية فلحديث مسلم لا نذر في معصية الله. وأما المكروه والمباح فلأنهما لا يتقرب بهما. وتأتي زيادة لهذا في النذور إن شاء الله تعالى بقوة الله ومعونته.
3835 - حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "أَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ لِبَعْضِ الْعَرَبِ، وَكَانَ لَهَا خِفْشٌ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَتْ فَكَانَتْ تَأْتِينَا فَتَحَدَّثُ عِنْدَنَا، فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْ حَدِيثِهَا قَالَتْ:
وَيَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا ... أَلاَ إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ نجَانِي
فَلَمَّا أَكْثَرَتْ قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: وَمَا يَوْمُ الْوِشَاحِ؟ قَالَتْ: خَرَجَتْ جُوَيْرِيَةٌ لِبَعْضِ أَهْلِي وَعَلَيْهَا وِشَاحٌ مِنْ أَدَمٍ، فَسَقَطَ مِنْهَا، فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِ الْحُدَيَّا وَهْيَ تَحْسِبُهُ لَحْمًا، فَأَخَذَتْ. فَاتَّهَمُونِي بِهِ، فَعَذَّبُونِي، حَتَّى بَلَغَ مِنْ أَمْرِي أَنَّهُمْ طَلَبُوا فِي قُبُلِي، فَبَيْنَا هُمْ حَوْلِي وَأَنَا فِي كَرْبِي إِذْ أَقْبَلَتِ الْحُدَيَّا حَتَّى وَازَتْ بِرُءُوسِنَا، ثُمَّ أَلْقَتْهُ فَأَخَذُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (فروة بن أبي المغراء) بفتح الفاء وسكون الراء والمغراء بفتح الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الراء ممدود الكندي الكوفي قال: (أخبرنا علي بن مسهر) بضم الميم وسكون المهملة وكسر الهاء (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: أسلمت امرأة سوداء لبعض العرب) لم تسم وذكر عمر بن شبة أنها كانت بمكة وأنها لما وقع لها ذلك هاجرت إلى المدينة (وكان لها حفش) بحاء مهملة مكسورة وفاء ساكنة بعدها شين معجمة بيت صغير (في المسجد قالت) عائشة -رضي الله عنها- (فكانت تأتينا فتحدّث عندنا) بحذف أحد المثلين تخفيفًا ولأبي ذر نتحدّث بحذف الفاء وإثبات التاء الأخرى (فإذا فرغت من حديثها قالت: ويوم الوشاح) بكسر الواو وضمها وقد تبدل همزة مكسورة وبالشين المعجمة وبعد الألف حاء مهملة ما يقدّ من الجلد ويرصع بالجواهر وتشده المرأة بين عاتقيها (من تعاجيب ربنا ألا) بالتخفيف (أنه) بفتح الهمزة وكسرها في اليونينية (من بلدة الكفر أنجاني، فلما أكثرت) من ذلك (قالت لها عائشة) -رضي الله عنها-: (وما يوم الوشاح؟ قالت: خرجت جويرية لبعض أهلي) وكانت
عروسًا فدخلت مغتسلها (وعليها وشاح من أدم) أحمر (فسقط منها فانحطت عليه الحديا) بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وتشديد التحتية من غير همز (وهي تحسبه لحمًا فأخذت) بحذف ضمير النصب ولأبي ذر فأخذته (فاتهموني به فعذبوني حتى بلغ من أمرهم) كذا في الفرع والذي في أصله من أمري (أنهم طلبوا) ذلك الوشاح (في قبلي) وفي الصلاة فالتمسوه فلم يجدوه قالت: فاتهموني.
قالت: فطفقوا يفتشون حتى فتشوا قبلها (فبينا هم) بغير ميم (حولي وأنا في كربي إذ أقبلت الحديا حتى وازت) بالزاي المعجمة أي حازت (برؤوسنا) بهمزة بعدها واو، ولأبي ذر: برؤوسنا بغير همزة (ثم ألقته فأخذوه فقلت لهم هذا الذي اتهمتموني به) أني أخذته (وأنا منه بريئة) جملة حالية.
وسبق هذا الحديث في باب نوم المرأة في المسجد من كتاب الصلاة.
3836 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَلاَ مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ يَحْلِفْ إِلاَّ بِاللَّهِ، فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ بِآبَائِهَا فَقَالَ: لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد البغلاني قال: (حدّثنا إسماعيل بن جعفر) المدني (عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(ألا) بالتخفيف (من كان حالفًا) أي من أراد أن يحلف (فلا يحلف) بالجزم (إلا بالله) أي كوالله وكرب العالمين والحيّ الذي لا يموت ومن نفسي بيده وبصفته الذاتية كعظمته وعزته وكبريائه وكلامه لا بغيره، لأن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به وحقيقة العظمة مختصة به تعالى فلا يضاهى به غيره (فكانت) بالفاء، ولأبي ذر: وكانت (قريش تحلف بآبائها) بأن يقول: الواحد منهم وأبي أفعل هذا أو وأبي لا أفعل هذا أو وحق أبي أو وتربة أبي (فقال) لهم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لا تحلفوا بآبائكم) لأنه من أيمان الجاهلية.
ويأتي إن شاء الله تعالى ما فيه من المباحث في بابه بعون الله وقوته. وهذا الحديث أخرجه النسائي.
3837 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ أَنَّ الْقَاسِمَ كَانَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَىِ الْجَنَازَةِ وَلاَ يَقُومُ لَهَا، وَيُخْبِرُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُومُونَ لَهَا يَقُولُونَ إِذَا رَأَوْهَا: كُنْتِ فِي أَهْلِكِ مَا أَنْتِ مَرَّتَيْنِ".
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن سليمان) أبو سعيد الجعفي نزيل مصر وتوفي بها فيما قاله المنذري سنة تسع

(6/176)


وثلاثين ومائتين (قال: حدّثني) بالإفراد (ابن وهب) عبد الله المصري (قال: أخبرني) بالإفراد (عمرو) بفتح العين ابن الحرث المصري (أن عبد الرحمن بن القاسم) بن محمد بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- (حدّثه أن) أباه (القاسم كان يمشي بين يدي الجنازة) وهو أفضل
عند الشافعية وعند الحنفية وراءها أفضل لأنها متبوعة (ولا يقوم لها) إذا مرت عليه (ويخبر عن عائشة) -رضي الله عنها- أنها (قالت: كان أهل الجاهلية يقومون لها يقولون إذا رأوها كنت في أهلك ما) أي الذي (أنت) فيه كنت في الحياة مثله إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، وذلك فيما يدّعونه من أن روح الإنسان تصير طائرًا مثله وهو المشهور عندهم بالصدى والهام وحينئذٍ فما موصول وبعض صلته محذوف يقولون ذلك (مرتين) أو المعنى كنت في أهلك شريفًا مثلاً فأي شيء أنت الآن؟ فما حينئذٍ استفهامية أو ما نافية ولفظ مرتين من تتمة المقول أي كنت مرة في القوم ولست بكائن فيهم مرة أخرى كما هو معتقد الكفار حيث قالوا: {وما هي إلا حياتنا الدنيا} [الجاثية: 24] وفي قول عائشة -رضي الله عنها-: كان أهل الجاهلية ما يدل ظاهره أنه لم يبلغها أمره عليه الصلاة والسلام بالقيام للجنازة فرأت أن ذلك من شأن الجاهلية، وقد جاء الإسلام بمخالفتهم، وقد ذهب الشافعي -رحمه الله- إلى أنه غير واجب وأن الأمر به منسوخ وهل يبقي الاستحباب؟ قال: والقعود أحب إليّ وبكراهة القيام صرح النووي -رحمه الله- ومبحث ذلك مر في الجنائز.
3838 - حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: "قَالَ عُمَرُ -رضي الله عنه-: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لاَ يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ حَتَّى تَشْرُقَ الشَّمْسُ عَلَى ثَبِيرٍ، فَخَالَفَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (عمرو بن العباس) بالموحدة والمهملة وعين عمرو مفتوحة أبو عثمان البصري قال: (حدّثنا عبد الرحمن) بن مهدي العنبري البصري قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي (عن عمرو بن ميمون) بفتح العين الكوفي أدرك الجاهلية أنه (قال: قال عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنه-: إن المشركين كانوا لا يفيضون) بضم التحتية أي لا يدفعون (من جمع) بفتح الجيم وسكون الميم أي من المزدلفة (حتى تشرق الشمس) بفتح الفوقية وضم الراء أي تطلع، ولأبي ذر تشرق بضم التاء وكسر الراء من الإشراق (على) جبل (ثبير) بمثلثة مفتوحة فموحدة مكسورة (فخالفهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأفاض قبل أن تطلع الشمس) وهذا مذهب الشافعية والجمهور.
3839 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي أُسَامَةَ: حَدَّثَكُمْ يَحْيَى بْنُ الْمُهَلَّبِ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ عِكْرِمَةَ {وَكَأْسًا دِهَاقًا} [النبأ: 34] قَالَ: مَلأَى مُتَتَابِعَةً.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (إسحاق بن إبراهيم) بن راهويه (قال: قلت لأبي أسامة) حماد بن أسامة (حدّثكم يحيى بن المهلب) بضم الميم وفتح الهاء واللام المشدّدة أبو كدينة بضم الكاف وفتح الدال وسكون التحتية بعدها نون مصغرًا الكوفي البجلي الموثق ليس له في البخاري سوى هذا الموضع قال: (حدّثنا حصين) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي (عن عكرمة) مولى ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وكأسًا دهاقًا}
[النبأ: 34] (قال: ملأى متتابعة) من غير انقطاع قال:
أتانا عامر يبغي قرانا ... فأترعنا له كأسًا دهاقا
3840 - قَالَ: "وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: اسْقِنَا كَأْسًا دِهَاقًا".
(قال) عكرمة بالسند السابق: (وقال ابن عباس) -رضي الله عنهما-: (سمعت أبي يقول في الجاهلية): قبل أن يسلم (اسقنا كأسًا دهاقًا) وعند الإسماعيلي من وجه آخر عن حصين عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- سمعت أبي يقول لغلامه: ادهن لنا أي املأ لنا أو تابع لنا، وهذا معنى السابق، وفي اللباب قال عكرمة: وربما سمعت ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: اسقنا وادهق لنا. ودعا ابن عباس -رضي الله عنهما- غلامًا له فقال: اسقنا فجاء الغلام بها ملأى فقال ابن عباس: هذا الدهاق. وعن عكرمة أيضًا وزيد بن أسلم أنها الصافية.
3841 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بن عُمير عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلاَ كُلُّ شَىْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلٌ. وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ». [الحديث 3841 - طرفاه في: 6147، 6489].
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن عبد الملك بن عمير) بضم العين وفتح الميم مصغرًا الكوفي (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أصدق كلمة قالها الشاعر) من إطلاق الكلمة على الكلام وهو مجاز محتمل عند النحويين مستعمل

(6/177)


عند المتكلمين وهو من باب تسمية الشيء باسم جزئه على سبيل التوسع، ولمسلم من طريق شعبة وزائدة عن عبد الملك: أن أصدق بيت، وله من رواية شريك عن عبد الملك أشعر كلمة تكلمت بها العرب (كلمة لبيد) بفتح اللام وكسر الموحدة ابن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن الجحفري العامري من فحول الشعراء مخضرم وفد على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سنة وفد قومه بنو جعفر فأسلم وحسن إسلامه (ألا) بالتخفيف استفتاحية (كل شيء) مبتدأ مضاف للنكرة وهو يفيد استغراق أفرادها نحو كل نفس ذائقة الموت (ما خلا الله) نصب بخلا وخبر المبتدأ قوله (باطل) كذا بالتنوين أي كل شيء خلا الله وخلا صفاته الذاتية من رحمة وعذاب وغير ذلك، أو المراد كل شيء سوى الله جائز عليه الفناء لذاته والنصف الأخير لهذا البيت:
وكل نعيم لا محالة زائل
وهو من قصيدة من البحر الطويل وجملتها عشرة أبيات وأنشدت له عائشة -رضي الله عنها- قوله:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
فقالت: يرحم الله لبيدًا كيف لو أدرك زماننا هذا؟ وقال له عمر بن الخطاب: أنشدني شيئًا من شعرك فقال: ما كنت لأقول شعرًا بعد أن علمني الله البقرة وآل عمران، وتوفي في إمارة الوليد بن عتبة عليها في خلافة عثمان -رضي الله عنه- عن مائة وأربعين سنة، وقيل وسبع وخمسين سنة وهو القائل:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس كيف لبيد
(وكاد أمية بن أبي الصلت) بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد التحتية والصلت بفتح الصاد المهملة وسكون اللام بعدها فوقية الثقفي أي قارب (أن يسلم) بضم التحتية وسكون السين المهملة وكسر اللام أي في شعره، ففي حديث مسلم من طريق عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: هل معك من شعر أمية؟ قلت: نعم فأنشدته مائة بيت. فقال: لقد كاد يسلم في شعره، وكان أمية يتعبد في الجاهلية ويؤمن بالبعث، وأدرك الإسلام ولم يسلم. وقيل إنه داخل في النصرانية وأكثر في شعره من ذكر التوحيد، وسقط لأبي ذر أن من قوله أن يسلم وحينئذٍ يسلم رفع.
وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في الأدب والرقاق، ومسلم في الشعر، والترمذي في الاستئذان، وابن ماجه في الأدب.
3842 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ بن بلالٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "كَانَ لأَبِي بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَىْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الْغُلاَمُ: أتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ، إِلاَّ أَنِّي خَدَعْتُهُ فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ. فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَىْءٍ فِي بَطْنِهِ".
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبى ذر: حدّثنا (أخي) عبد الحميد المدني (عن سليمان بن بلال) أبي أيوب القرشي المدني وثبت ابن بلال لأبي ذر (عن يحيى بن سعيد) الأنصاري قاضي المدينة (عن عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم بن محمد) أي ابن أبي بكر الصديق (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: كان لأبي بكر) الصديق -رضي الله عنه- (غلام) لم يسم (يخرج) بضم التحتية وسكون المعجمة وكسر الراء (له الخراج) أي يعطيه كل
يوم ما عينه وضربه عليه من كسبه (وكان أبو بكر يأكل من خراجه) إذ سأله عنه وعرف حله (فجاء يومًا بشيء) من كسبه (فأكل منه أبو بكر) -رضي الله عنه- ولم يسأله (فقال له الغلام: تدري) ولأبي ذر عن الكشميهني أتدري (ما هذا؟) الذي جئتك به وأكلت منه (فقال أبو بكر) -رضي الله عنه-: (وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية) لم يسم (و) الحال أني (ما أحسن الكهانة) بكسر الكاف وهي الإخبار بالغيب من غير طريق شرعي وكان كثيرًا في الجاهلية لا سيما قبل البعثة، وكان منهم من يزعم أن له رئيًا من الجن يلقي إليه الأخبار، ومنهم من يدعي أنه يستدرك ذلك بفهم أعطيه (إلا أني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك) أي بمقابلة الذي تكهنت له (فهذا) ولأبي ذر عن الكشميهني فهو (الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر) -رضي الله عنه- (يده) في فيه (فقاء)

(6/178)


استفرغ (كل شيء في بطنه) للنهي عن حلوان الكاهن ولأن ما يحصل بطريق الخديعة حرام.
3843 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: "كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَبَايَعُونَ لُحُومَ الْجَزُورِ إِلَى حَبَلِ الْحَبَلَةِ، قَالَ: وَحَبَلُ الْحَبَلَةِ أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ مَا فِي بَطْنِهَا، ثُمَّ تَحْمِلَ الَّتِي نُتِجَتْ. فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ".
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن عبيد الله) بضم العين مصغرًا ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني الفقيه الثبت (قال: أخبرني) بالإفراد (نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر -رضي الله عنهما-) أنه (قال: كان أهل الجاهلية يتبايعون لحوم الجزور) بفتح الجيم البعير ذكرًا كان أو أنثى (إلى حبل الحبلة) بفتح الحاء المهملة والموحدة فيهما (قال) ابن عمر (وحبل الحبلة) هو (أن تنتج الناقة) بضم الفوقية الأولى وفتح الثانية بينهما نون ساكنة آخره جيم مبنيًّا للمفعول أي تضع (ما في بطنها ثم تحمل) الناقة (التي نتجت) بضم النون وكسر الفوقي (فنهاهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك) لجهل الأجل.
ومباحثه سبقت في باب بيع الغرر وحبل الحبلة من البيع.
3844 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ قَالَ: حدَّثنا غَيْلاَنُ بْنُ جَرِيرٍ "كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَيُحَدِّثُنَا عَنِ الأَنْصَارِ، وَكَانَ يَقُولُ لِي: فَعَلَ قَوْمُكَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، وَفَعَلَ قَوْمُكَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا".
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي قال: (حدّثنا مهدي) بفتح الميم وسكون الهاء وكسر المهملة وتشديد التحتية ابن ميمون الأزدي البصري (قال: حدّثنا غيلان بن جرير) بفتح المعجمة وسكون التحتية وجرير بفتح الجيم البصري (كنا نأتي أنس بن مالك) -رضي الله عنه- (فيحدّثنا عن الأنصار وكان) ولأبي ذر فكان بالفاء بدل الواو (يقول لي: فعل قومك) في الجاهلية (كذا وكذا يوم كذا وكذا وفعل قومك كذا وكذا يوم كذا وكذا) وليس غيلان من الأنصار وإنما قال له أنس: فعل قومك نظرًا إلى النسبة الأعمية وهي الأزد.
وهذا الحديث قد سبق في مناقب الأنصار.

27 - باب الْقَسَامَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
(القسامة في الجاهلية) بفتح القاف وتخفيف السين المهملة مأخوذة من القسم وهي اليمين وهي في عرف الشرع حلف معين عند التهمة بالقتل على الإثبات أو النفي أو هي مأخوذة من قسمة الإيمان على الحالفين، وثبتت هذه الترجمة عند الأكثرين عن الفربري هنا وسقطت للنسفي قال ابن حجر: وهو أوجه لأن الجميع من ترجمة أيام الجاهلية.
3845 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا قَطَنٌ أَبُو الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا أَبُو يَزِيدَ الْمَدَنِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "إِنَّ أَوَّلَ قَسَامَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَفِينَا بَنِي هَاشِمٍ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ اسْتَأْجَرَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ فَخِذٍ أُخْرَى، فَانْطَلَقَ مَعَهُ فِي إِبِلِهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ بِهِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ قَدِ انْقَطَعَتْ عُرْوَةُ جُوَالِقِهِ فَقَالَ: أَغِثْنِي بِعِقَالٍ أَشُدُّ بِهِ عُرْوَةَ جُوَالِقِي لاَ تَنْفِرُ الإِبِلُ، فَأَعْطَاهُ عِقَالاً فَشَدَّ بِهِ عُرْوَةَ جُوَالِقِهِ. فَلَمَّا نَزَلُوا عُقِلَتِ الإِبِلُ إِلاَّ بَعِيرًا وَاحِدًا، فَقَالَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ: مَا شَأْنُ هَذَا الْبَعِيرِ لَمْ يُعْقَلْ مِنْ بَيْنِ الإِبِلِ؟ قَالَ: لَيْسَ لَهُ عِقَالٌ. قَالَ: فَأَيْنَ عِقَالُهُ؟ قَالَ: فَحَذَفَهُ بِعَصًا كَانَ فِيهَا أَجَلُهُ. فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ الْمَوْسِمَ؟ قَالَ: مَا أَشْهَدُ وَرُبَّمَا شَهِدْتُهُ. قَالَ: هَلْ أَنْتَ مُبْلِغٌ عَنِّي رِسَالَةً مَرَّةً مِنَ الدَّهْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ فَكُنْتَ: إِذَا أَنْتَ شَهِدْتَ الْمَوْسِمَ فَنَادِ يَا آلَ قُرَيْشٍ، فَإِذَا أَجَابُوكَ فَنَادِ يَا آلَ بَنِي هَاشِمٍ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاسألْ عَنْ أَبِي طَالِبٍ فَأَخْبِرْهُ أَنَّ فُلاَنًا قَتَلَنِي فِي عِقَالٍ. وَمَاتَ الْمُسْتَأْجَرُ. فَلَمَّا قَدِمَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ أَتَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: مَا فَعَلَ صَاحِبُنَا؟ قَالَ: مَرِضَ فَأَحْسَنْتُ الْقِيَامَ عَلَيْهِ، فَوَلِيتُ دَفْنَهُ. قَالَ: قَدْ كَانَ أَهْلَ ذَاكَ مِنْكَ. فَمَكُثَ حِينًا ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي أَوْصَى إِلَيْهِ أَنْ يُبْلِغَ عَنْهُ وَافَى الْمَوْسِمَ فَقَالَ: يَا آلَ قُرَيْشٍ، قَالُوا: هَذِهِ قُرَيْشٌ. قَالَ: يَا بَنِي هَاشِمٍ، قَالُوا: هَذِهِ بَنُو هَاشِمٍ. قَالَ: أَيْنَ أَبُو طَالِبٍ؟ قَالُوا: هَذَا أَبُو طَالِبٍ. قَالَ: أَمَرَنِي فُلاَنٌ أَنْ أُبْلِغَكَ رِسَالَةً أَنَّ فُلاَنًا قَتَلَهُ فِي عِقَالٍ. فَأَتَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ: اخْتَرْ مِنَّا إِحْدَى ثَلاَثٍ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تُؤَدِّيَ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ فَإِنَّكَ قَتَلْتَ صَاحِبَنَا، وَإِنْ شِئْتَ حَلَفَ خَمْسُونَ مِنْ قَوْمِكَ أَنَّكَ لَمْ تَقْتُلْهُ، وَإِنْ أَبَيْتَ قَتَلْنَاكَ بِهِ. فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالُوا نَحْلِفُ. فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ كَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْهُمْ قَدْ وَلَدَتْ لَهُ فَقَالَتْ: يَا أَبَا طَالِبٍ أُحِبُّ أَنْ تُجِيزَ ابْنِي هَذَا بِرَجُلٍ مِنَ الْخَمْسِينَ وَلاَ تَصْبُرْ يَمِينَهُ حَيْثُ تُصْبَرُ الأَيْمَانُ، فَفَعَلَ. فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَرَدْتَ خَمْسِينَ رَجُلاً أَنْ يَحْلِفُوا مَكَانَ مِائَةٍ مِنَ الإِبِلِ، يُصِيبُ كُلَّ رَجُلٍ بَعِيرَانِ، هَذَانِ بَعِيرَانِ فَاقْبَلْهُمَا مِنِّي وَلاَ تَصْبُرْ يَمِينِي حَيْثُ تُصْبِرُ الأَيْمَانُ، فَقَبِلَهُمَا. وَجَاءَ ثَمَانِيةٌ وَأَرْبَعُونَ فَحَلَفُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَوَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ مَا حَالَ الْحَوْلُ وَمِنَ الثَّمَانِيَةِ وَأَرْبَعِينَ عَيْنٌ تَطْرِفُ".
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) بسكون العين المهملة بين فتحتين عبد الله بن عمرو المقعد المنقري بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف قال: (حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد أبو عبيدة البصري التنوري قال: (حدّثنا قطن) بفتح القاف والطاء المهملة بعدها نون ابن كعب البصري القطعي بضم القاف وفتح المهملة الأولى (أبو الهيثم) بالمثلثة قال: (حدّثنا أبو يزيد) من الزيادة (المدني) ولأبي ذر المديني البصري قال في الفتح: ويقال له المديني بزيادة تحتية، ولعل أصله كان من المدينة ولكن لم يرو عنه أحد من أهلها، وسئل عنه مالك فلم يعرفه ولم يعرف اسمه، وقد وثقه ابن معين وغيره وليس له ولا للراوي عنه في البخاري إلا هذا الموضع (عن عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال: إن أول قسامة كانت في الجاهلية لفينا) بلام التأكيد (بني هاشم) كان الحكم بها وبني مجرور بدل من الضمير المجرور وذلك أنه (كان رجل من بني هاشم) هو عمرو بن علقمة بن المطلب بن عبد مناف كما قال الزبير بن بكار، وكأنه نسبه إلى بني هاشم مجازًا لما كان بين بني هاشم وبني المطلب من المودة والمؤاخاة وسماه ابن الكلبي عامرًا (استأجره رجل من قريش) اسمه خداش بخاء معجمة مكسورة فدال مهملة وبعد الألف شين معجمة ابن عبد الله بن أبي قيس العامري كما عند الزبير بن بكار، وللأصيلي وأبي ذر فيما ذكره في الفتح استأجر رجلاً من قريش قال: وهو مقلوب والصواب الأول (من فخذ أخرى) بكسر الخاء المعجمة وتسكن آخره معجمة (فانطلق) الأجير (معه) مع المستأجر (في إبله) إلى الشام (فمر رجل به) أي بالأجير ولأبي ذر وابن عساكر فأمر به رجل (من بني هاشم) لم يسم (قد انقطعت عروة جوالقه) بضم الجيم وكسر اللام مصححًا عليها في الفرع كالأصل من غير همز أي وعائه ويكون من جلود وغيرها فارسي معرب (فقال) للأجير: (أغثني) بمثلثة من الإغاثة (بعقال) بكسر

(6/179)


العين المهملة بحبل (أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل) بكسر الفاء وضم الراء مصححًا عليها في الفرع وأصله (فأعطاه عقالا فشدّ به عروة جوالقه فلما نزلوا) منزلاً (عقلت الإبل) بضم العين مبنيًّا للمفعول (إلا بعيرًا واحدًا) لم يعقل لعدم وجدان عقاله الذي شد به الجوالق (فقال الذي استأجره: ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الإبل. قال) له الأجير: (ليس له عقال. قال) المستأجر له: (فأين عقالها؟) زاد الفاكهي من وجه آخر عن أبي معمر شيخ المؤلّف فقال: مر بي رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه واستغاث في فأعطيته (قال: فحذفه) بالمهملة والذال المعجمة أي رماه (بعصا) أصابت مقتله (كان فيها أجله) وقول العيني تبعًا للحافظ ابن حجر -رحمه الله- قوله فمات أي أشرف على الموت ظاهره أنه من الحديث عند البخاري، ولم أجده في أصل من أصوله بعد الكشف عنه فالله أعلم. نعم قوله فكان فيها أجله معناه مات لكنه لا يلزم منه الفورية بدليل قوله: (فمرّ به رجل من أهل اليمن) لم يسم أي قبل أن يقضي (فقال) له: (أتشهد الموسم) أي موسم الحج (قال) الرجل المار: (ما أشهد) بحذف ضمير المفعول (وربما شهدته قال) له: (هل أنت مبلغ) بضم الميم وسكون الموحدة وكسر اللام (عني رسالة مرة من الدهر؟) بسكون الهاء وفي
اليونينية بفتحها أي وقتًا من الأوقات (قال: نعم) أفعل ذلك (قال: فكنت) بضم الكاف وسكون النون وضم الفوقية مصححًا عليها في الفرع كأصله وفي غيره بفتحها على الخطاب من الكون فيهما ولأبي ذر فكتب بالفوقية والموحدة من الكتابة قال ابن حجر رحمه الله: وهذه أوجه من الأولى. وقال عياض: إنها بالنون عند الحموي والمستملي وإنها التي في أصل سماعه (إذا أنت شهدت الموسم فناد يا آل قريش) بإثبات الهمزة في الفرع وبحذفها في غيره على الاستغاثة (فإذا أجابوك فناد يا آل بني هاشم) بالهمزة وحذفها كسابقه (فإن أجابوك فاسأل) بسكون السين بعدها همزة في الفرع وفي اليونينية فسل بفتح السين من غير همز (عن أبي طالب فأخبره أن فلانًا) الذي استأجرني (قتلني في) أي بسبب (عقال ومات المستأجر) بفتح الجيم بسبب تلك الحذفة بعد أن أوصى اليماني بما أوصاه.
(فلما قدم الذي استأجره أتاه أبو طالب فقال) له: (ما فعل صاحبنا؟ قال: مرض فأحسنت القيام عليه) وتوفي (فوليت دفنه) بفتح الواو وكسر اللام (قال) أبو طالب (قد كان أهل ذاك) بغير لام ولأبي ذر ذلك (منك فمكث حينًا) بضم الكاف (ثم إن الرجل) اليماني (الذي أوصى إليه أن يبلغ) بضم التحتية وسكون الموحدة وكسر اللام (عنه) ما ذكر (وافى الموسم) أي أتاه (فقال: يا آل قريش. قالوا) له: (هذه قريش. قال: يا آل بني هاشم) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي يا بني هاشم (قالوا: هذه بنو هاشم قال: أين) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي من (أبو طالب؟ قالوا: هذا أبو طالب. قال) له: (أمرني فلان أن أبلغك) بضم الهمزة وسكون الموحدة (رسالة أن) بفتح الهمزة (فلانًا قتله في) أي بسبب (عقال) وزاد ابن الكلبي فأخبره بالقصة وخداش يطوف بالبيت لا يعلم بما كان فقام رجال من بني هاشم إلى خداش فضربوه وقالوا: قتلت صاحبنا فجحد (فأتاه أبو طالب فقال) له: (اختر منا إحدى ثلاث) كانت معروفة عندهم (إن شئت أن تؤدي) بهمزة مفتوحة (مائة من الإبل فإنك) أي بسبب أنك (قتلت صاحبنا، وإن شئت حلف) بلفظ الماضي (خمسون من قومك أنك) بفتح الهمزة وكسرها في اليونينية (لم تقتله، فإن أبيت) أي امتنعت من ذلك (قتلناك به) والظاهر أن هذه هي الثالثة. وعند الزبير بن بكار أنهم تحاكموا في ذلك إلى الوليد بن المغيرة فقضى أن يحلف خمسون رجلاً من بني عامر عند البيت ما قتله خداش.
(فأتى قومه) فذكر لهم ذلك (فقالوا: نحلف فأتته) أي أبا طالب (امرأة من بني هاشم) اسمها زينب بنت علقمة أخت المقتول (كانت تحت رجل منهم) اسمه عبد العزى بن قيس العامري (قد ولدت له) ولدا اسمه حويطب بمهملتين مصغرًا وله صحبة (فقالت:

(6/180)


يا أبا طالب أحب أن تجيز) بجيم وزاي تسقط (ابني) حويطبًا (هذا) من اليمين وتعفو عنه (برجل) أي بدل رجل (من الخمسين ولا تصبر يمينه) بفتح الفوقية وسكون الصاد المهملة وضم الموحدة وتكسر مجزوم على النهي، ولأبي ذر: ولا تصبر بضم أوّله وكسر ثالثه أي ولا تلزمه باليمين (حيث تصبر الإيمان) بضم الفوقية وفتح الموحدة بين الركن والمقام (ففعل) أبو طالب ما سألته (فأتاه رجل منهم) لم يسم (فقال: يا أبا طالب أردت خمسين رجلاً أن يحلفوا مكان مائة من الإبل
يصيب) فعل مضارع (كل رجل) بنصب كل على المفعولية (بعيران هذان بعيران فأقبلهما عني) بفتح الموحدة (ولا تصبر) بفتح أوله وضم ثالثه وقد تكسر، ولأبي ذر: ولا تصبر بضم أوّله وكسر ثالثه (يميني حيث تصبر الأيمان) بضم أوّله وفتح ثالثه مبنيًا للمفعول وبكسر الموحدة مبنيًّا للفاعل (فقبلهما وجاء ثمانية وأربعون) رجلاً (فحلفوا) زاد ابن الكلبي عند الركن أن خداشًا بريء من دم المقتول.
(قال ابن عباس) -رضي الله عنهما- بالسند المذكور: (فوالذي نفسي بيده ما حال) ولأبى ذر عن الكشميهني: ما جاء (الحول) من يوم حلفهم (ومن الثمانية وأربعين) الذين حلفوا وللأصيلي وابن عساكر: والأربعين (عين تطرف) بكسر الراء أي تتحرك زاد ابن الكلبي وصارت رباع الجميع لحويطب، فلذا كان أكثر من بمكة رباعًا.
استشكل قول ابن عباس -رضي الله عنهما- فوالذي نفسي بيده إلى آخره مع كونه حين ذاك لم يولد. وأجيب: باحتمال أن الذي أخبره بذلك جماعة اطمأنت نفسه إلى صدقهم حتى وسعه أن يحلف على ذلك قاله السفاقسي. وقال في الفتح: ويحتمل أن يكون الذي أخبره بذلك هو النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: وهو أمكن في دخول هذا الحديث في الصحيح. وقال في الكواكب: فيه ردع للظالمين وسلوة للمظلومين، ووجه الحكمة في هلاكهم كلهم أن يتمانعوا من الظلم إذ لم يكن فيهم إذ ذاك نبي ولا كتاب ولا كانوا يؤمنون بالبعث، فلو تركوا مع ذلك هملاً لأكل القوي الضعيف ولاقتضم الظالم المظلوم. وروى الفاكهي كما ذكره في الفتح من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه قال: حلف ناس عند البيت قسامة على باطل ثم خرجوا فنزلوا تحت صخرة فانهدمت عليهم.
وهذا الحديث أخرجه النسائي في القسامة، ومباحث القسامة تأتي إن شاء الله تعالى في محلها بعون الله وقوّته.
3846 - حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "كَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدِ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ، وَقُتِّلَتْ سَرَوَاتُهُمْ وَجُرِّحُوا، قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دُخُولِهِمْ فِي الإِسْلاَمِ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (عبيد بن إسماعيل) بضم العين مصغرًا غير مضاف لشيء وكان اسمه عبد الله وكنيته أبو محمد الهباري القرشي الكوفي قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوّام (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: كان يوم بعاث) بضم الموحدة آخره مثلثة غير منصرف لأبي ذر للتأنيث والعلمية اسم بقعة ولغيره بالصرف اسم موضع وقع فيه حرب بين الأوس والخزرج (يومًا قدمه الله لرسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قبل قدومه المدينة بخمس سنين قتل فيه كثير من أشرافهم إذ لو كانوا أحياء لاستكبروا عن متابعته وسقطت التصلية لأبي ذر (فقدم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد افترق ملؤهم) جماعتهم (وقتلت): بتشديد الفوقية الأولى في
اليونينية وبتخفيفها في غيرها (سرواتهم) بفتح المهملتين أشرافهم (وجرحوا) بضم الجيم وتشديد الراء (قدمه الله لرسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في) أي لأجل (دخولهم في) دين (الإسلام).
وسبق هذا الحديث في مناقب الأنصار.
3847 - وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ أَنَّ كُرَيْبًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "لَيْسَ السَّعْيُ بِبَطْنِ الْوَادِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سُنَّةً، إِنَّمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْعَوْنَهَا وَيَقُولُونَ: لاَ نُجِيزُ الْبَطْحَاءَ إِلاَّ شَدًّا".
وبه قال: (وقال ابن وهب): عبد الله فيما وصله أبو نعيم في مستخرجه (أخبرنا عمرو) بفتح العين ابن الحرث المصري (عن بكير بن الأشج) بضم الموحدة مصغرًا والأشج بهمزة وشين معجمة مفتوحتين فجيم نسبة لجدّه واسم أبيه عبد الله مولى بني مخزوم (أن كريبًا) بضم الكاف وفتح الراء وسكون التحتية بعدها موحدة (مولى ابن عباس حدثه أن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (قال: ليس السعي) المشي الشديد (ببطن الوادي بين الصفا والمروة سنّة) ولأبي ذر عن الكشميهني

(6/181)


بسنّة (إنما كان أهل الجاهلية يسعونها) يمشونها مشيًا شديدًا (ويقولون لا نجيز البطحاء) بضم النون وكسر الجيم وبعد التحتية الساكنة زاي أي لا نقطع مسيل الوادي (إلا) إجازة (شدّا) بقوّة وعدو شديد، ولم ينف ابن عباس سنية السعي المجرد بل شدة المشي إذ أصل السعي طريقة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بل واجب ركن في الحج والعمرة. نعم قال الجمهور باستحباب العدو في بطن المسيل، وخالفهم ابن عباس -رضي الله عنهما-.
3848 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ أَخْبَرَنَا مُطَرِّفٌ سَمِعْتُ أَبَا السَّفَرِ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا مِنِّي مَا أَقُولُ لَكُمْ، وَأَسْمِعُونِي مَا تَقُولُونَ، وَلاَ تَذْهَبُوا فَتَقُولُوا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ فَلْيَطُفْ مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ، وَلاَ تَقُولُوا الْحَطِيمُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ يَحْلِفُ فَيُلْقِي سَوْطَهُ أَوْ نَعْلَهُ أَوْ قَوْسَهُ".
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (عبيد الله بن محمد) بضم العين في الفرع وفي اليونينية وغيرها بفتحها وهو المعروف (الجعفي) بضم الجيم وسكون العين المهملة المسندي قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (أخبرنا مطرف) بضم الميم وفتح المهملة وكسر الراء المشددة ابن عبد الله الحرشي بمهملتين ثم معجمة البصري (قال: سمعت أبا السفر) بفتح المهملة والفاء سعيد بن يحمد بضم التحتية وسكون الحاء المهملة وكسر الميم بعدها دال مهملة الهمداني الثوري الكوفي (يقول: سمعت ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: يا أيها الناس اسمعوا مني ما أقول لكم) سماع ضبط واتقان (وأسمعوني) بهمزة قطع أي أعيدوا عليّ (ما تقولون) إنكم حفظتموه مني فكأنه خشي أن لا يفهموا مراده (ولا تذهبوا فتقولوا قال ابن عباس) كذا (قال ابن عباس) كذا من
قبل أن تضبطوا ما أقول لكم (من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر) بكسر الحاء وسكون الجيم وهو المحوّط الذي تحت الميزاب وأكثر الروايات كما نبه عليه في شفاء الغرام أن فيه من البيت نحو سبعة أذرع كما في الصحيحين (ولا تقولوا الحطيم) أي لا تسموه بالحطيم (فإن الرجل في الجاهلية كان يحلف) عنده (فيلقي) فيه (سوطه أو نعله أو قوسه) بعد أن يحلف علامة لعقد حلفه فسموه بالحطيم لذلك لكونه يحطم أمتعتهم فعيل بمعنى فاعل، وقيل ما ذكره في شفاء الغرام لأنهم كانوا يطرحون فيه ما طافوا به من الثياب فيبقى حتى ينحطم من طول الزمان، وقيل لأنهم كانوا يحطمون بالإيمان فقلّ من حلف هناك آثمًا إلا عجلت له العقوبة، وقيل الحطيم ما بين الحجر الأسود والمقام وزمزم والحجر، لكن قال في الفتح: إن حديث ابن عباس المذكور حجة في ردّ هذا وشبهه.
3849 - حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: "رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قِرَدَةٌ قَدْ زَنَتْ فَرَجَمُوهَا، فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ".
وبه قال: (حدّثنا نعيم بن حماد) بتشديد الميم ابن معاوية بن الحرث الخزاعي أبو عبد الله الرفاء بالفاء المروزي نزيل مصر صدوق يخطئ كثيرًا فقيه عارف بالفرائض وقد تتبع ابن عدي ما أخطأ فيه وقال باقي حديثه مستقيم ووثقه أحمد قال: (حدّثنا هشيم) بضم الهاء وفتح الشين المعجمة مصغرًا ابن بشير بفتح الموحدة بوزن عظيم ابن معاوية بن خازم بمعجمتين الواسطي (عن حصين) بمهملتين مصغرًا ابن عبد الرحمن الكوفي (عن عمرو بن ميمون) بفتح العين الأودي أبي عبد الله المخضرم المشهور أسلم في زمنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يره أنه (قال: رأيت في الجاهلية قردة) بكسر القاف وسكون الراء أنثى الحيوان المعروف (اجتمع عليها قردة) بكسر القاف وفتح الراء جمع قرد ويجمع أيضًا على قرود حال كونها (قد زنت فرجموها فرجمتا معهم).
وهذا الحديث ثابت في جميع أصول البخاري التي رأيتها قال في الفتح وكفى بإيراد أبي ذر الحافظ له عن شيوخه الثلاثة الأئمة المتقنين عن الفربري وأبي مسعود له في الأطراف حجة لكنه سقط من رواية النسفيّ، وكذا الحديث الذي بعده ولا يلزم من ذلك أن لا يكون في رواية الفربري فإن روايته تزيد على رواية النسفيّ عدة أحاديث.
ورواه الإسماعيلي من وجه آخر من طريق عبد الملك بن مسلم عن عيسى بن حطان عن عمرو بن ميمون قال: كنت في اليمن في غنم لأهلي وأنا على شرف فجاء قرد مع قردة فتوسد يدها فجاء قرد أصغر منها فغمزها فسلت يدها من تحت رأس القرد الأوّل سلاً رفيقًا وتبعته فوقع عليها وأنا أنظر، ثم رجعت فجعلت تدخل يدها تحت خد القرد الأول برفق فاستيقظ فزعًا فشمها فصاح فاجتمعت القرود فجعل يصيح ويومئ

(6/182)


إليها بيده فذهب القرود يمنة ويسرة فجاؤوا بذلك القرد أعرفه فحفروا لهما حفرة فرجموهما فلقد رأيت الرجم في غير بني آدم.
ورواه البخاري أيضًا في تاريخه الكبير فقال: قال لي نعيم بن حماد: أخبرنا هشيم عن أبي المليح وحصين عن عمرو بن ميمون قال: رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة فرجموها ورجمتها معهم وليس فيه قد زنت، وقول ابن الأثير في أسد الغابة كابن عبد البر أن القصة بطولها يعني المروية عند الإسماعيلي المذكورة تدور على عبد الملك بن مسلم عن عيسى بن حطان وليسا ممن يحتج بهما، وهذا عند جماعة من أهل العلم منكر لإضافة الزنا إلى غير مكلف وإقامة الحدود على البهائم، ولو صح ذلك لكان من الجن لأن العبادات والتكليفات في الجن والإنس دون غيرهما. أجيب عنه: بأنه لا يلزم من كون عبد الملك وابن حطان مطعونًا فيهما ضعف رواية البخاري للقصة عن غيرهما بل مقوّية وعاضدة لرواية الإسماعيلي المذكورة، وبأنه لا يلزم من كون صورة الواقعة صورة الزنا أن يكون ذلك زنا حقيقة ولا حدًّا، وإنما أطلق ذلك عليه لشبهه به فلا يستلزم ذلك إيقاع التكليف على الحيوان.
3850 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "خِلاَلٌ مِنْ خِلاَلِ الْجَاهِلِيَّةِ: الطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالنِّيَاحَةُ -وَنَسِيَ الثَّالِثَةَ- قَالَ سُفْيَانُ: وَيَقُولُونَ إِنَّهَا الاِسْتِسْقَاءُ بِالأَنْوَاءِ".
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن عبيد الله) بضم العين مصغرًا ابن أبي يزيد. المكي مولى آل قارظ بن شيبة الكناني وثقه ابن المديني أنه (سمع ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: خلال من خلال الجاهلية) بالخاء المعجمة فيهما أي خصال من خصال الجاهلية (الطعن في الأنساب) أي القدح فيها بغير علم (والنياحة) بكسر النون على الميت (ونسي) عبيد الله الراوي الخلة (الثالثة. قال سفيان) بن عيينة (ويقولون إنها) أي الثالثة (الاستسقاء بالأنواء) جمع نوء وهو منزل القمر كانوا يقولون مطرنا بنوء كذا وسقينا بنوء كذا.

28 - باب مَبْعَثِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلاَبِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ.
(باب مبعث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مصدر ميمي من البعث وهو الإرسال هو (محمد بن عبد الله) الذي تكاملت فيه الخصال المحمودة وهو اسم مفعول من الصفة على سبيل التفاؤل أنه سيكثر حمده، وسائر أسماء أوصافه عليه الصلاة والسلام راجعة إليه، وتوفي أبوه بعد شهرين من حمله أو وهو في المهد أو وهو ابن شهرين والأوّل أشهر (ابن عبد المطلب) اسمه شيبة الحمد لأنه ولد وفي رأسه شيبة، ولقب بعبد المطلب لأن عمه المطلب جاء به إلى مكة رديفه وهو بهيئة بذة فكان يسأل عنه فيقول: هو عبدي حياء من أن يقول: ابن أخي وعاش مائة وأربعين سنة (ابن هاشم بن
عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة) واسم هاشم عمرو، وقيل له هاشم لأنه هشم الثريد بمكة لقومه في زمن المجاعة، ومناف بفتح الميم وتخفيف النون، وقصي بضم القاف تصغير قصى أي بعد لأنه بعد عن عشيرته في بلاد قضاعة حين احتملته أمه، وصغر على فعيل لأنهم كرهوا اجتماع ياءات فحذفوا إحداهن وهي الثانية التي تكون في فعيل فبقي على وزن فعيل مثل فليس واسمه مجمع، وقال الشافعي رحمه الله: يزيد وكلاب بكسر الكاف وتخفيف اللام ولقب به لمحبته الصيد وكان أكثر صيده بالكلاب قاله المهلب وغيره واسمه حكيم أو عروة، ومرّة منقول من اسم الحنظلة قاله السهيلي (ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر) وكعب أول من جمع يوم العروبة وكان فصيحًا خطيبًا، قيل وسمي كعبًا لستره على قومه ولين جانبه لهم منقول من كعب القدم، وقيل لارتفاعه على قومه وشرفه فيهم، ولؤي بالهمزة في الأكثر تصغير اللأي وهو الثور الوحشي، وغالب بالمعجمة وكسر اللام وفهر بكسر الفاء وسكون الهاء وهو من الحجارة الطويل والأملس، قيل واسمه قريش وهو قريش فمن لم يكن من ولده فليس بقرشي، وقال آخرون: أصل قريش النضر محتجين بحديث الأشعث بن قيس الكندي قال: قدمت على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في وفد كندة فقلت: ألستم منا يا رسول الله؟ قال: "لا نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا" ذكره أبو عمر، وزاد في رواية أبي نعيم في الرياضة قال أشعث: والله لا أسمع أحدًا نفى قريشًا من النضر بن

(6/183)


كنانة إلا جلدته، وقيل فهر اسمه وقريش لقبه، ونقل الزبير عن الزهري أن أمه سمته قريشًا وسماه أبوه فهرًا، والنضر بفتح النون وسكون الضاد المعجمة وسمي به لوضاءته وجماله وإشراق وجهه (ابن كنانة) بلفظ وعاء السهام (ابن خزيمة) بضم الخاء وفتح الزاي المعجمتين مصغرًا (ابن مدركة) بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر الراء (ابن إلياس بن مضر) بكسر الهمزة وسكون اللام أفعال من قولهم ليس للشجاع الذي لا يفر قاله ابن الأنباري.
وقال غيره: هو بهمزة وصل وهو ضد الرجاء ومضر بضم الميم وفتح الضاد المعجمة قيل وسمي به لأنه كان يحب شرب اللبن الماضر وهو الحامض أو لأنه كان يمضر القلوب بحسنه وجماله (ابن نزار بن معد بن عدنان) بكسر النون وفتح الزاي وبعد الألف راء من النزر وهو القليل. وقال أبو الفرج الأصبهاني: لأنه كان فريد قومه ومعدّ بفتح الميم والعين وتشديد الدال المهملتين وعدنان بوزن فعلان من العدن.
وقد روى أبو جعفر بن حبيب في تاريخه المحبر من حديث ابن عباس قال: كان عدنان ومعدّ وربيعة ومضر وخزيمة وأسد على ملة إبراهيم فلا تذكروهم إلا بخير، وروى الزبير بن بكار من وجه آخر قوي مرفوعا "لا تسبوا مضر ولا ربيعة فإنهما كانا مسلمين" وله شاهد عند ابن حبيب من مرسل سعيد بن المسيب، وقد اقتصر البخاري من هذا النسب الشريف على عدنان لما وقع من الاختلاف فيمن بين عدنان وبين إبراهيم الخليل، وفيمن بين إبراهيم وآدم، وأخرج ابن سعد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا انتسب لم يجاوز في نسبه معدّ بن عدنان. وقالت عائشة -رضي الله عنها-: ما وجدنا من يعرف ما وراء عدنان إلى ما وراء قحطان.
وقال ابن جريج عن القاسم بن أبي مرة عن عكرمة: أضلت نزار نسبها من عدنان.
3851 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ، فَمَكَثَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً؛ ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَكَثَ بِهَا عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-". [الحديث 3851 - أطرافه في: 3902، 3903، 4465، 4979].
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن أبي رجاء) الهروي الجعفي قال: (حدّثنا النضر) بفتح النون وسكون الضاد المعجمة ابن شميل أبو الحسن المازني (عن هشام) هو ابن حسان البصري (عن عكرمة) مولى ابن عباس -رضي الله عنهما- (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال):
(أنزل على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) الوحي (وهو ابن أربعين) سنة (فمكث ثلاث) وللكشميهني فمكث بمكة ثلاث (عشرة سنة) بعد الوحي منها مدة الفترة والرؤيا الصالحة في النوم (ثم أمر) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول (بالهجرة فهاجر إلى المدينة فمكث عشر سنين ثم توفي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) عن ثلاث وستين سنة.

29 - باب مَا لَقِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ
(باب ما لقي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه) -رضي الله عنهم- (من المشركين) أي من أذاهم حال كونهم (بمكة).
3852 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا بَيَانٌ وَإِسْمَاعِيلُ قَالاَ: سَمِعْنَا قَيْسًا يَقُولُ: سَمِعْتُ خَبَّابًا يَقُولُ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً وَهْوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ -وَقَدْ لَقِينَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً- فَقُلْتُ: يا رسول الله, أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ فَقَعَدَ وَهْوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ: لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ. وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ».
زَادَ بَيَانٌ "وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ".
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير المكي قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا بيان) بفتح الموحدة وتخفيف التحتية ابن بشر الأحمسي المعلم الكوفي (وإسماعيل) بن أبي خالد (قالا: سمعنا قيسًا) هو ابن أبي حازم البجلي التابعي الكبير (يقول: سمعت خبابًا) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الموحدة الأولى ابن الأرت بفتح الهمزة والراء وتشديد الفوقية (يقول: أتيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو) أي والحال أنه (متوسد بردة) بتاء التأنيث، ولأبي ذر عن الكشميهني: بردة بالهاء
(وهو) أي والحال أنه (في ظل الكعبة و) الحال أنا (قد لقينا من المشركين شدة فقلت: ألا) ولأبي ذر عن الكشميهني يا رسول الله ألا (تدعو الله؟) تعالى (فقعد وهو) أي والحال أنه (محمرّ وجهه) من الغضب (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(لقد كان من) بفتح الميم (قبلكم) من الأنبياء (ليمشط) بضم التحتية وسكون الميم وفتح المعجمة مبنيًّا للمفعول (بمشاط الحديد) بكسر الميم جمع مشط كرماح جمع رمح قاله الصغاني في شوارد اللغات، ولأبي ذر عن الكشميهني: بأمشاط الحديد (ما دون عظامه من لحم أو عصب ما) كان (يصرفه) بالهاء، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: يصرف (ذلك) المشط (عن دينه ويوضع المنشار) بكسر الميم وسكون النون بالمعجمة التي ينشر بها الخشب (على مفرق رأسه) بفتح الميم وسكون الفاء وكسر الراء

(6/184)


(فيشق باثنين) بضم التحتية وفتح الشين المعجمة (ما يصرفه ذلك) الوضع على مفرق رأسه (عن دينه وليتمن الله) عز وجل (هذا الأمر) بفتح اللام وضم التحتية وكسر الفوقية وتشديد الميم المفتوحة والنون من الإتمام والكمال واللام للتأكيد أي أمر الإسلام (حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت) بفتح الميم (ما يخاف) أحدًا (إلا الله) عز وجل (زاد بيان) المذكور في السند بروايته (والذئب على غنمه) بنصب الذئب عطفًا على المستثنى منه لا المستثنى قاله في الكواكب، وجوزه في الفتح وقال: إن التقدير ولا يخاف إلا الذئب على غنمه لأن سياق الحديث إنما هو للأمن من عدوان بعض الناس على بعض كما كانوا في الجاهلية لا للأمن من عدوان الذئب فإن ذلك إنما يكون عند نزول عيسى اهـ.
وتعقبه في العمدة بأن سياق الحديث أعم من عدوان الناس وعدوان الذئب ونحوه لأن قوله: الراكب أعم من أن يكون معه غنم أو غيره وعدم خوفه يكون من الناس والحيوان، وبأن ذلك غير مختص بزمان عيسى عليه الصلاة والسلام، وإنما وقع هذا في زمن عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- فإن الرعاة كانوا آمنين من الذئاب في أيامه ولم يعرفوا موته إلا بعدوان الذئب على الغنم.
وهذا الحديث قد سبق في باب علامات النبوة.
3853 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: "قَرَأَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النَّجْمَ فَسَجَدَ، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلاَّ سَجَدَ، إِلاَّ رَجُلٌ رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصىً فَرَفَعَهُ، فَسَجَدَ عَلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا يَكْفِينِي. فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا بِاللَّهِ".
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي إسحاق) عمرو السبيعي (عن الأسود) بن يزيد النخعي (عن عبد الله) بن مسعود (-رضي الله عنه-) أنه (قال: قرأ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النجم) في رمضان سنة خمس من البعثة كما قال الواقدي (فسجد) بعد فراغه من قراءتها (فما بقي أحد) من المسلمين والمشركين (إلا سجد) معه المسلمون لله وغيرهم
لآلهتهم لأنها أول سجدة نزلت فأرادوا معارضة المسلمين بالسجود لآلهتهم (إلاّ رجل) وهو أمية بن خلف كما في سورة النجم عند المؤلّف فلم يسجد (رأيته أخذ كفًا من حصا فرفعه) إلى وجهه (فسجد عليه وقال: هذا يكفيني فلقد رأيته بعد) بالبناء على الضم أي بعد ذلك (قتل كافرًا بالله) تعالى يوم بدر.
ومطابقة الحديث للترجمة في عدم سجود هذا المذكور إذ في مخالفته نوع أذى على ما لا يخفى.
وهذا الحديث سبق في أبواب السجود ويأتي إن شاء الله تعالى في التفسير.
3854 - حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: «بَيْنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَاجِدٌ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِسَلَى جَزُورٍ فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ - عَلَيْهَا السَّلاَمُ - فَأَخَذَتْهُ مِنْ ظَهْرِهِ وَدَعَتْ عَلَى مَنْ صَنَعَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الْمَلأَ مِنْ قُرَيْشٍ: أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ -أَوْ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ، شُعْبَةُ الشَّاكُّ- فَرَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، فَأُلْقُوا فِي بِئْرٍ، غَيْرَ أُمَيَّةَ بن خلف أَوْ أُبَيٍّ تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ فَلَمْ يُلْقَ فِي الْبِئْرِ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (محمد بن بشار) بندار العبدي قال: (حدّثنا غندر) محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي إسحاق) عمرو السبيعي (عن عمرو بن ميمون) بفتح العين الأودي المخضرم (عن عبد الله) بن مسعود (-رضي الله عنه-) أنه (قال: بينا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بغير ميم في بينا (ساجد) عند الكعبة (وحوله ناس من قريش) وهم السبعة المدعوّ عليهم بعد (جاء عقبة بن أبي معيط) أشقاهم (بسلا جزور) بفتح السين المهملة (فقذفه على ظهر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلم يرفع رأسه فجاءت فاطمة) ابنته (عليها السلام فأخذته من ظهره) الشريف (ودعت على من صنع) ذلك وفي رواية إسرائيل فأقبلت تسبهم (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لما رفع رأسه من السجود وفرغ من الصلاة:
(اللهم عليك الملأ من قريش) أي الزم جماعتهم وأشرافهم أي أهلكهم (أبا جهل بن هشام) واسمه عمرو فرعون هذه الأمة (وعتبة بن ربيعة) بضم العين وسكون الفوقية وفي اليونينية الرفع والنصب بتقدير أعني ونحوه (وشيبة بن ربيعة) أخا عتبة (وأمية بن خلف أو أبي بن خلف شعبة) بن الحجاج هو (الشاك) في ذلك، والصحيح أنه أمية كما في كتاب الصلاة لأن أبيا قتله النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم أُحد قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: (فرأيتهم قتلوا يوم بدر فألقوا) بضم الهمزة (في بئر) هناك تحقيرًا لشأنهم ولئلا يتأذى بريحهم (غير أمية) ولأبي ذر: زيادة ابن خلف (أو أبي) بالشك (تقطعت أوصاله فلم يلق في البئر).
وهذا الحديث سبق في أواخر الوضوء.
3855 - حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ -أَوْ قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَكَمُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ- قَالَ: "أَمَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى قَالَ: سَلِ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ مَا أَمْرُهُمَا؟ [الأنعام: 151، الإسراء: 33] {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ}، [النساء: 93]: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: فَقَالَ: لَمَّا أُنْزِلَتِ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ [68] قَالَ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ: فَقَدْ قَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَدَعَوْنَا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَقَدْ أَتَيْنَا الْفَوَاحِشَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [الفرقان: 70] الآيَةَ، فَهَذِهِ لأُولَئِكَ، وَأَمَّا الَّتِي فِي النِّسَاءِ [93] الرَّجُلُ إِذَا عَرَفَ الإِسْلاَمَ وَشَرَائِعَهُ ثُمَّ قَتَلَ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ، فَذَكَرْتُهُ لِمُجَاهِدٍ فَقَالَ: إِلاَّ مَنْ نَدِمَ". [الحديث 3855 - أطرافه في: 4590، 4762، 4763، 4765، 4766].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدَّثني بالإفراد (عثمان بن أبي شيبة) أخو أبي بكر قال: (حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد (عن

(6/185)


منصور) هو ابن المعتمر أنه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (سعيد بن جبير أو قال) منصور: (حدّثني) بالإفراد الحكم بن عتيبة بضم العين وفتح الفوقية وسكون التحتية وفتح الموحدة الكندي الكوفي (عن سعيد بن جبير) أنه (قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزى) بفتح الهمزة وسكون الموحدة وفتح الزاي مقصور الخزاعي مولاهم صحابي صغير (قال: سل ابن عباس) -رضي الله عنهما- بفتح السين من غير همز وفي الناصرية قال: اسأل ابن عباس -رضي الله عنهما- (عن هاتين الآيتين ما أمرهما) أي ما التوفيق بينهما وهما قوله تعالى في سورة الفرقان: ({ولا تقتلوا النفس التي حرم الله}) [الأنعام: 151] كذا في الرواية. ولفظ التلاوة: {ولا يقتلون} بثبوت النون زاد أبو ذر: إلاّ بالحق ({ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا}) [النساء: 93] أي حيث دلت الأولى العفو عند التوبة، والثانية على وجوب الجزاء مطلقًا (فسألت ابن عباس) -رضي الله عنهما- عن ذلك (فقال: لما أنزلت التي في الفرقان قال مشركو أهل مكة: فقد قتلنا النفس التي حرم الله ودعونا مع الله إلها آخر وقد أتينا الفواحش) فما يغني عنا الإسلام، وقد فعلنا ذلك كله وسقط قوله وقد لأبي ذر (فأنزل الله) عز وجل ({إلا من تاب وآمن}) [الفرقان: 70] (الآية) التي في سورة الفرقان (فهذه لأولئك) الكفار (وأما التي في) سورة (النساء) ففي (الرجل) المسلم (إذا عرف الإسلام وشرائعه ثم قتل فجزاؤه جهنم خالدًا فيها) سقط قوله خالدًا فيها من اليونينية فلا تقبل توبته وقال زيد بن ثابت: لما نزلت التي في الفرقان: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر} [الفرقان: 68] عجبنا من لينها فمكثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة فنسخت اللينة، وأراد بالغليظة آية النساء، وباللينة آية الفرقان، وقد ذهب أهل السُّنّة إلى أن توبة قاتل المسلم عمدًا مقبولة لآية {وإني لغفار لمن تاب} [طه: 82] و {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] وما روي عن ابن عباس - رضي الله
عنهما - فهو تشديد ومبالغة في الزجر عن القتل، وليس في الآية متمسك لمن قال: بالتخليد في النار بارتكاب الكبائر لأن الآية نزلت في قاتل هو كافر وهو مقيس بن ضبابة، وقيل: إنه وعيد لمن قتل مؤمنًا مستحلاًّ لقتله بسبب إيمانه، ومن استحل قتل أهل الإيمان لإيمانهم كان كافرًا مخلدًا في النار، وذكر أن عمرو بن عبيد جاء إلى أبي عمرو بن العلاء فقال: هل يخلف الله وعده؟ فقال: لا. فقال: أليس قد قال الله تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها} [النساء: 93] فقال أبو عمرو: من المعجمة أتيت يا أبا عثمان إن العرب تعدّ الإخلاف في الوعيد خلفًا وإنما تعدّ إخلاف الوعد خلفًا، وأنشد:
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
قال عبد الرحمن بن أبزى: (فذكرته) أي قول ابن عباس -رضي الله عنهما- (لمجاهد) هو ابن جبر (فقال: إلا من ندم) أي الآية الثانية مقيدة بقوله: {إلا من تاب} [الفرقان: 75] حملاً للمطلق على المقيد.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في التفسير وأبو داود في الفتن والنسائي في المحاربة والتفسير.
3856 - حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شَىْءٍ صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قَالَ: "بَيْنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي فِي حِجْرِ الْكَعْبَةِ، إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} الآيَةَ [غافر: 28]. تَابَعَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: وَقَالَ عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ: قِيلَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ".
وبه قال: (حدّثنا عياش بن الوليد) بالتحتية وبعد الألف شين معجمة الرقام البصري قال: (حدّثنا الوليد بن مسلم) أبو العباس الدمشقي قال: (حدّثني) بالإفراد (الأوزاعي) عبد الرحمن قال: (حدّثني) بالإفراد أيضًا (يحيى بن أبي كثير) بالمثلثة الطائي مولاهم اليماني (عن محمد بن إبراهيم التيمي) أبي عبد الله المدني أنه قال: (حدّثني) بالإفراد (عروة بن الزبير) بن العوّام (قال: سألت) عبد الله (بن عمرو بن العاص) -رضي الله عنهما- (قلت أخبرني) بكسر الموحدة وسكون الراء وسقط لفظ قلت من اليونينية (بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(بينا) بغير ميم ولأبي ذر: بينما (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حجر الكعبة) بكسر الحاء المهملة وسكون الجيم (إذ أقبل عقبة بن أبي معيط) المقتول كافرًا بعد بدر (فوضع ثوبه) أي ثوب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (في
عنقه)

(6/186)


المكرم (فخنقه) به (خنقًا) بسكون النون (شديدًا فأقبل أبو بكر) الصديق -رضي الله عنه- (حتى أخذ بمنكبه) بفتح الميم وكسر الكاف أي بمنكب عقبة (ودفعه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: {أتقتلون رجلاً} كراهية ({أن يقول ربي الله} [غافر: 28] الآية) أي لأن يقول: "وقال الزمخشري في آية المؤمن: ولك أن تقدر مضافًا محذوفًا أي وقت أن يقول، والمعنى أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر، وهذا رده أبو حيان بأن تقدير هذا الوقت لا يجوز إلا مع المصدر المصرح به. تقول: جئتك صياح الديك أي وقت صياحه، ولو قلت أجيئك إن صاح الديك أو أن يصيح لم يصح نص عليه النحويون. وهذا الاستفهام على سبيل الإنكار وفي هذا الكلام ما يدل على حسن هذا الإنكار لأنه ما زاد على أن قال: {ربي الله وقد جاءكم بالبينات} [غافر: 28] وذلك لا يوجب القتل البتة.
(تابعه) أي تابع عياش بن الوليد (ابن إسحاق) محمد فقال: (حدّثني) بالإفراد (يحيى بن عروة عن) أبيه (عروة) بن الزبير أنه قال: (قلت لعبد الله بن عمرو) بفتح العين وهذه المتابعة وصلها أحمد والبزار.
(وقال عبدة) بفتح العين وسكون الموحدة ابن سليمان فيما وصله النسائي (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (قيل لعمرو بن العاص) فخالف هشام أخاه يحيى بن عروة في اسم الصحابي فقال يحيى: عبد الله بن عمرو، وقال هشام: عمرو بن العاص فيرجح رواية يحيى موافقة محمد بن إبراهيم التيمي.
(وقال محمد بن عمرو) بفتح العين ابن علقمة الليثي المدني فيما وصله المؤلّف في خلق أفعال العباد (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: (حدّثني) بالإفراد (عمرو بن العاص) وهذا كله مع ما سبق من حديث عائشة -رضي الله عنها- أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لها: وكان أشد ما لقيت من قومك فذكر قصته بالطائف مع ثقيف يدل على تعدد ذلك فلا تعارض على ما لا يخفى.
وحديث الباب سبق في مناقب أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-.

30 - باب إِسْلاَمُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي الله عنه-
(باب إسلام أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-) سقط لفظ باب لأبي ذر فتاليه رفع والصديق فعيل مبالغة في الصدق وهو الكثير الصدق، وقيل الذي لم يكذب قط، وقد قال أبو الحسن الأشعري -رحمه الله تعالى-: لم يزل أبو بكر -رضي الله عنه- بعين الرضا منه فاختلف الناس في مراده بهذا الكلام فقيل: لم يزل مؤمنًا قبل البعثة وبعدها وهو الصحيح المرتضى، وقيل بل أراد أنه لم يزل بحالة غير مغضوب فيها عليه لعلم الله تعالى بأنه سيؤمن ويصير من خلاصة الأبرار.
قال الشيخ تقي الدين السبكي رحمه الله: لو كان هذا مراده لاستوى الصديق وسائر
الصحابة في ذلك، وهذه العبارة التي قالها الأشعري في حق الصديق -رضي الله عنه- لم تحفظ عنه في حق غيره، فالصواب أن يقال إن الصديق -رضي الله عنه- لم يثبت عنه حالة كفر بالله كما ثبتت عن غيره ممن آمن وهو الذي سمعناه من أشياخنا ومن يقتدى به وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
ونقل ابن ظفر في أنباء نجباء الأبناء أن القاضي أبا الحسين أحمد بن محمد الزبيدي روى بإسناده في كتابه المسمى معالي الفرش إلى عوالي العرش أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: اجتمع المهاجرون والأنصار عند رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: وعيشك يا رسول الله إني لم أسجد لصنم قط، فغضب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وقال: تقول وعيشك يا رسول الله إني لم أسجد لصنم قط وقد كنت في الجاهلية كذا وكذا سنة. فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: إن أبا قحافة أخذ بيدي فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام فقال لي: هذه آلهتك الشم العلا فاسجد لها وخلاني ومضى فدنوت من الصنم وقلت: إني جائع فأطعمني، فلم يجبني فقلت: إني عار فاكسني فلم يجبني، فأخذت صخرة فقلت إني ملق عليك هذه الصخرة فإن كنت إلهًا فامنع نفسك فلم يجبني، فألقيت عليه الصخرة فخر لوجهه وأقبل أبي فقال: ما هذا يا بني؟ فقلت هو الذي ترى فانطلق بي إلى أمي فأخبرها فقالت: دعه فهو الذي ناجاني الله تعالى به. فقلت: يا أماه ما الذي ناجاك به؟ قالت:

(6/187)


ليلة أصابني المخاض لم يكن عندي أحد فسمعت هاتفًا يقول: يا أمة الله على التحقيق أبشري بالولد العتيق اسمه في السماء الصديق لمحمد صاحب رفيق. قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: فلما انقضى كلام أبي بكر -رضي الله عنه- نزل جبريل على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: صدق أبو بكر وصدقه ثلاث مرات اهـ.
3857 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمَّادٍ الآمُلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُجَالِدٍ عَنْ بَيَانٍ عَنْ وَبَرَةَ عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: "قَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا مَعَهُ إِلاَّ خَمْسَةُ أَعْبُدٍ وَامْرَأَتَانِ وَأَبُو بَكْرٍ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، (عبد الله بن محمد الآملي) بمدّ الهمزة وضم الميم المخففة وسقط لأبي ذر: الآملي، وثبت في الفرع ابن محمد وكذا في رواية أبي عليّ بن السكن عن الفربري ووقع في اليونينية وغيرها ابن حماد بدل قوله ابن محمد وبذلك نسبه أبو زيد المروزي وجزم به أبو نصر الكلاباذي وغيره، وفي كثير من الأصول حدّثني عبد الله غير منسوب وهو تلميذ البخاري وورّاقه فهو من رواية الأكابر عن الأصاغر (قال: حدّثني) بالإفراد (يحيى بن معين) بفتح الميم وكسر العين المهملة البغدادي قال: (حدّثنا إسماعيل بن مجالد) بضم الميم وفتح الجيم الهمداني أبو عمر الكوفي نزيل بغداد (عن بيان) الأحمسي (عن وبرة) بالموحدة وفتحات ابن عبد الرحمن (عن همام بن الحرث) النخعي الكوفي أنه (قال: قال عمار بن ياسر) العنسي أحد السابقين البدريين.
(رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما معه إلا خمسة أعبد) بلال وزيد بن حارثة وعامر بن فهيرة وأبو فكيهة وعبيد بن زيد الحبشي (وامرأتان) خديجة أم المؤمنين وأم أيمن أو سمية (وأبو بكر) الصديق
-رضي الله عنه-، وهو أول من أسلم من الأحرار البالغين.
وسبق هذا الحديث في مناقب أبي بكر -رضي الله عنه-.

31 - باب إِسْلاَمُ سَعْدٍ بْنِ أَبِي وَقَاص -رضي الله عنه-
(باب إسلام سعد) ولأبي ذر زيادة ابن أبي وقاص واسمه مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهري فارس الإسلام واحد العشرة (-رضي الله عنه-) وسقط لأبي ذر باب فالتالي رفع.
3858 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هَاشِمٌ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: "مَا أَسْلَمَ أَحَدٌ إِلاَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ، وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَإِنِّي لَثُلُثُ الإِسْلاَمِ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (إسحاق) بن إبراهيم بن نصر أبو إبراهيم السعدي المروزي قال: (أخبرنا) ولأبي ذر حدّثنا (أبو أسامة) حماد بن أسامة قال: (حدّثنا هاشم) هو ابن هاشم بن عتبة بالعين المضمومة وسكون الفوقية ابن أبي وقاص (قال: سمعت سعيد بن المسيب) بفتح التحتية وكسرها (قال: سمعت أبا إسحاق سعد بن أبي وقاص) -رضي الله عنه- وهو آخر العشرة وفاة سنة خمس وخمسين -رضي الله عنه- (يقول: ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه) قاله بحسب ما علمه وإلاّ فقد أسلم قبله خديجة وعلي وأبو بكر وزيد ونحوهم.
وقال الكرماني: لعلهم أسلموا أول النهار وهو آخره (ولقد مكثت) بفتح الكاف وضمها (سبعة أيام وإني لثلث الإسلام) أي بالنسبة للرجال البالغين أو بحسب ما اطلع عليه لأن من أسلم إذ ذاك كان يخفي إسلامه.
وهذا الحديث سبق في مناقبه.

32 - باب ذِكْرُ الْجِنِّ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1]
(باب ذكر الجن وقول الله تعالى: {قل أوحي إليّ}) أي قل يا محمد لأمتك أوحي إليّ على لسان جبريل ({إنه استمع نفر}) جماعة من الثلاثة إلى العشرة ({من الجن}) [الجن: 1] والقائم مقام الفاعل أنه استمع لأنه المفعول الصريح، وجوز الكوفيون والأخفش أن يكون القائم مقام الفاعل الجار والمجرور فيكون هذا باقيًا على نصبه، والتقدير أوحى إلي استماع نفر، و: من الجن صفة لنفر وهل رآهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وظاهر القرآن أنه لم يرهم واختلف فيهم من هم قال ابن الخطيب: فروى عاصم عن زر قدم رهط زوبعة وأصحابه على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقيل كانوا الشيصبان
وهم أكثر الجن عددًا وعامة جنود إبليس منهم وقيل كانوا سبعة ثلاثة من أرض حران وأربعة من أرض نصيبين قرية باليمن غير التي بالعراق، وقيل إن الذين أتوه بمكة جن نصيبين والذين أتوه بنخلة جن نينوى. وقال عكرمة: كانوا اثني عشر ألفًا من جزيرة الموصل وسقط الباب لأبي ذر.
3859 - حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ بن أُسَامَةَ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ مَعْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: "سَأَلْتُ مَسْرُوقًا: مَنْ آذَنَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْجِنِّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُوكَ -يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ- أَنَّهُ آذَنَتْ بِهِمْ شَجَرَةٌ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (عبيد الله) بضم العين (ابن سعيد) بكسر العين أبو قدامة السرخسي قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة قال: (حدّثنا مسعر) بكسر الميم وسكون السين وفتح العين المهملتين ابن كدام الهلالي الكوفي أحد الأعلام (عن معن بن عبد الرحمن) أنه (قال: سمعت أبي)

(6/188)


عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- (قال: سألت مسروقًا) أي ابن الأجدع (من آذن) أي من أعلم (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ فقال): مسروق (حدّثني) بالإفراد بذلك (أبوك يعني عبد الله) بن مسعود (إنه) بفتح الهمزة (آذنت) بالمد أعلمت (بهم شجرة) وفي مسند إسحاق بن راهويه سمرة بدل قوله شجرة.
3860 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَدِّي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: «أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِدَاوَةً لِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ. فَبَيْنَمَا هُوَ يَتْبَعُهُ بِهَا فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ. فَقَالَ: ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا، وَلاَ تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلاَ بِرَوْثَةٍ. فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ أَحْمِلُهَا فِي طَرَفِ ثَوْبِي حَتَّى وَضَعْتُ إِلَى جَنْبِهِ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مَشَيْتُ مَعَهُ فَقُلْتُ: مَا بَالُ الْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ؟ قَالَ: هُمَا مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ، وَإِنَّهُ أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ -وَنِعْمَ الْجِنُّ- فَسَأَلُونِي الزَّادَ، فَدَعَوْتُ اللَّهَ لَهُمْ أَنْ لاَ يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلاَ بِرَوْثَةٍ إِلاَّ وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَامًا».
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري التبوذكي قال: (حدّثنا عمرو بن يحيى بن سعيد) بفتح العين في الأول وكسرها في الثالث (قال: أخبرني) بالتوحيد (جدي) سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه كان يحمل مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إداوة) بكسر الهمزة إناء صغير من جلد يتخذ للماء ولأبي ذر الأداوة (لوضوئه وحاجته فبينما) بالميم (هو يتبعه بها فقال) عليه الصلاة والسلام:
(من هذا؟ فقال أنا أبو هريرة. فقال ابغني) بهمزة وصل من الثلاثي ولأبي ذر بقطع أي اطلب لي (أحجارًا أستنفض) بكسر الفاء والجزم جوابًا للأمر أستنج (بها ولا تأتني بعظم ولا بروثة فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت) بحذف المفعول ولأبي ذر عن الكشميهني وضعتها (إلى جنبه ثم انصرفت حتى إذا فرغ) من حاجته (مشيت معه) (فقلت) له يا رسول الله (ما
بال العظم والروثة قال) عليه الصلاة والسلام: (هما من طعام الجن وأنه أتاني وفد جن نصيبين) بفتح النون وكسر الصاد المهملة بعدها تحتيتان ساكنتان بينهما موحدة مكسورة آخره نون بلدة مشهورة بالجزيرة. وقال السفاقسي: بالشام قال في الفتح: وفيه تجوّز فإن الجزيرة بين الشام والعراق (ونعم الجن فسألوني الزاد) يحتمل أن يكون وقع في هذه الليلة أو فيما مضى (فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعامًا) ولأبي ذر عن المستملي والكشميهني طعمًا بضم الطاء وسكون العين من غير ألف، والذي تحصل من الأخبار أن وفادة الجن عليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرات ببطن نخلة وهو يقرأ القرآن، فلما حضروه قالوا أنصتوا وكانوا سبعة: أحدهم زوبعة وبالحجون وأخرى ببقيع الغرقد، وفي هذه الليالي حضر ابن مسعود وخطّ عليه وخارج المدينة وحضرها الزبير بن العوّام وفي بعض أسفاره حضرها بلال بن الحرث.

33 - باب إِسْلاَمُ أَبِي ذَرٍّ الغِفارِيُّ -رضي الله عنه-
(باب إسلام أبي ذر) جندب بن جنادة (الغفاري -رضي الله عنه-) وسقط الباب لأبي ذر.
3861 - حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: «لَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ ائْتِنِي. فَانْطَلَقَ الأَخُ حَتَّى قَدِمَهُ وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ، وَكَلاَمًا مَا هُوَ بِالشِّعْرِ. فَقَالَ: مَا شَفَيْتَنِي مِمَّا أَرَدْتُ. فَتَزَوَّدَ وَحَمَلَ شَنَّةً لَهُ فِيهَا مَاءٌ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَأَتَى الْمَسْجِدَ، فَالْتَمَسَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلاَ يَعْرِفُهُ، وَكَرِهَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ، حَتَّى أَدْرَكَهُ بَعْضُ اللَّيْلِ، فَرَآهُ عَلِيٌّ فَعَرَفَ أَنَّهُ غَرِيبٌ، فَلَمَّا رَآهُ تَبِعَهُ، فَلَمْ يَسْأَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَىْءٍ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ احْتَمَلَ قِرْبَتَهُ وَزَادَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَظَلَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلاَ يَرَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أَمْسَى فَعَادَ إِلَى مَضْجَعِهِ، فَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَمَا نَالَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَهُ؟ فَأَقَامَهُ، فَذَهَبَ بِهِ مَعَهُ، لاَ يَسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَىْءٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمَ الثَّالِثِ فَعَادَ عَلِيٌّ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَقَامَ مَعَهُ ثُمَّ قَالَ: أَلاَ تُحَدِّثُنِي مَا الَّذِي أَقْدَمَكَ؟ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي عَهْدًا وَمِيثَاقًا لَتُرْشِدَنَّنِي فَعَلْتُ. فَفَعَلَ، فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: فَإِنَّهُ حَقٌّ، وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَاتْبَعْنِي، فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ شَيْئًا أَخَافُ عَلَيْكَ قُمْتُ كَأَنِّي أُرِيقُ الْمَاءَ، فَإِنْ مَضَيْتُ فَاتْبَعْنِي حَتَّى تَدْخُلَ مَدْخَلِي، فَفَعَلَ، فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَدَخَلَ مَعَهُ فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي. قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ. فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ قَامَ الْقَوْمُ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَوْجَعُوهُ. وَأَتَى الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ قَالَ: وَيْلَكُمْ، أَلَسْتُمْ
تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ غِفَارٍ، وَأَنَّ طَرِيقَ تِجَارِكُمْ إِلَى الشَّامِ؟ فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ. ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِ لِمِثْلِهَا فَضَرَبُوهُ وَثَارُوا إِلَيْهِ، فَأَكَبَّ الْعَبَّاسُ عَلَيْهِ».
وبه قال: (حدّثني) بالتوحيد (عمرو بن عباس) بفتح العين أبو عثمان البصري قال: (حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي) الحافظ أبو سعيد البصري اللؤلؤي قال: (حدّثنا المثنى) بضم الميم وفتح المثلثة والنون المشدّدة ابن عمران الضبعي (عن أبي جمرة) بالجيم والراء نصر بن عمران (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال):
(لما بلغ أبا ذر مبعث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لأخيه) أنيس بضم الهمزة مصغرًا (اركب) وسر (إلى هذا الوادي) وادي مكة (فاعلم) بهمزة وصل (لي علم) بكسر العين وسكون اللام (هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء واسمع من قوله ثم ائتني فانطلق الأخ) أنيس المذكور ولأبي ذر عن الكشميهني فانطلق الآخر بفتح الخاء المعجمة بدل قوله الأخ (حتى قدمه) أي وادي مكة (وسمع من قوله) الذي يسلب الأرواح -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ثم رجع إلى) أخيه (أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلامًا) نصب بتقدير وسمعته يقول: كلامًا أو عطفًا على ضمير رأيته من باب قوله.
علفتها تبنًا وماءً باردًا
أو ضمن الرؤية معنى الأخذ أي أخذت منه كلامًا (ما هو بالشعر) زاد مسلم ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم عليها والله أنه لصادق (فقال) له أبو ذر: (ما شفيتني) بالشين المعجمة والفاء (مما أردت فتزوّد وحمل شنة) بفتح المعجمة والنون المشددة قربة خلقة (له فيها ماء) وسار (حتى قدم مكة فأتى المسجد فالتمس النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي طلبه (ولا يعرفه وكره أن يسأل عنه) قريشًا فيؤذونه (حتى أدركه بعض الليل فرآه) ولأبي ذر اضطجع وللأصيلي وابن

(6/189)


عساكر وأبي الوقت فاضطجع فرآه (علي) -رضي الله عنه- (فعرف أنه غريب) وفي رواية أبي قتيبة السابقة في قصة زمزم فقال: كأن الرجل غريب قلت نعم (فلما رآه تبعه) ولأبي قتيبة قال علي له: انطلق إلى المنزل قال: فانطلقت معه (فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح ثم احتمل) أبو ذر (قربته وزاده إلى المسجد وظل ذلك اليوم) فيه (ولا يراه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى أمسى فعاد إلى مضجعه) بكسر الجيم ولأبي ذر مضجعه بفتحها (فمر به علي فقال: أما نال) بالنون أي ما آن (للرجل أن يعلم منزله) أي أن يكون له منزل معين يسكنه أو أراد دعوته إلى منزله وأضاف المنزل إليه بملابسة إضافته له فيه (فأقامه) من مضجعه (فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى إذا كان يوم الثالث فعاد) ولأبي ذر عن الكشميهني: فغدا، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: قعد (عليّ على مثل ذلك) الفعل من أخذه إلى منزله (فأقام معه) وسقط من اليونينية وغيرها قوله على التي بعد عليّ (ثم قال) له عليّ (ألا تحدثني) بالرفع (ما الذي أقدمك) هنا (قال) أبو ذر: (إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا لترشدنني) إلى مقصودي ولأبي ذر عن الكشميهني لترشدني بنون واحدة مشددة (فعلت
ففعل) عليّ ما ذكره له من العهد والميثاق (فأخبره) أبو ذر عن مقصده ولأبي ذر فأخبرته بتاء المتكلم قبل الضمير وفيه التفات (قال) له عليّ (فإنه حق وهو رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) سقطت التصلية لأبي ذر (فإذا أصبحت فاتبعني) بتشديد الفوقية لأبي ذر وبتخفيفها ساكنة لغيره (فإني إن رأيت شيئًا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء) ولأبي قتيبة: قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي ولعله قالهما جميعًا (فإن مضيت فاتبعني) بتشديد الفوقية لأبي ذر وبتخفيفها لغيره (حتى تدخل مدخلي ففعل) أبو ذر ذلك (فانطلق يقفوه) أي يتبعه (حتى دخل على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ودخل) أبو ذر (معه فسمع من قوله) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وأسلم مكانه فقال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ارجع إلى قومك) غفار (فأخبرهم) بشأني لعل الله أن ينفعهم بك (حتى يأتيك أمري) ولأبي قتيبة قال لي: يا أبا ذر اكتم هذا الأمر وارجع إلى بلدك فإذا بلغك ظهورنا فأقبل وإنما أمره بالكتمان خوفًا عليه من قريش (قال) أبو ذر (والذي نفسي بيده لأصرخن بها) لأرفعن بكلمة التوحيد صوتي (بين ظهرانيهم) بفتح النون أي في جمعهم (فخرج حتى أتى المسجد) الحرام (فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ثم قام القوم) قريش (فضربوه حتى أضجعوه) على الأرض (وأتى العباس) بن عبد المطلب -رضي الله عنه- (فأكب عليه قال) ولأبي ذر: ثم قال: (ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجاركم إلى الشام) عليهم (فأنقذه منهم) بالقاف والذال المعجمة أي خلصه من المشركين (ثم عاد من الغد لمثلها فضربوه وثاروا إليه) بالمثلثة (فأكبّ العباس عليه) فأنقذه منهم ورجع إلى قومه فأسلم أخوه أنيس وأمه وكثير من قومه.
وهذا الحديث قد مرّ في قصة زمزم في مناقب قريش.

34 - باب إِسْلاَمُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ -رضي الله عنه-
هذا (باب إسلام سعيد بن زيد) بكسر العين ابن عمرو بفتح العين ابن نفيل بضم النون وفتح الفاء أحد العشرة المبشرة بالجنة وهو ابن عم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وزوج أخته أم جميل فاطمة بنت الخطاب، وكان أبوه زيد يطلب دين الحنيفية دين إبراهيم قبل المبعث فكان يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا ويصلّي إلى الكعبة حتى مات على ذلك (-رضي الله عنه-).
3862 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: "وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنَّ عُمَرَ لَمُوثِقِي عَلَى الإِسْلاَمِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عُمَرُ، وَلَوْ أَنَّ أُحُدًا ارْفَضَّ لِلَّذِي صَنَعْتُمْ بِعُثْمَانَ لَكَانَ مَحْقُوقًا أَنْ يَرْفَضَّ". [الحديث 3862 - طرفاه في: 3867، 6942].
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) الثقفي قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن إسماعيل) بن أبي خالد (عن قيس) هو ابن أبي حازم (قال: سمعت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في مسجد الكوفة يقول: والله لقد رأيتني) بضم التاء الفوقية أي لقد رأيت نفسي (و) الحال (أن عمر) بن
الخطاب -رضي الله عنه- (لموثقي على الإسلام) بالمثلثة بحبل أوقد كالأسير تضييقًا وإهانة. وفي حديث أنس -رضي الله عنه-

(6/190)


عند صاحب الصفوة أن عمر -رضي الله عنه- لما بلغه إسلام أخته وزوجها سعيد بن زيد وثب عليه فوطئه وطأً شديدًا فجاءت أخته فدفعته عن زوجها فنفحها بيده فدمى وجهها وهذا يرد ما قاله البرماوي كالكرماني حيث فسر قوله لموثقي أي على الثبات على الإسلام ويشددني ويثبتني عليه (قبل أن يسلم عمر) -رضي الله عنه-، وكان سبب إسلامه إسلامهما وما سمعه في بيتهما من القرآن كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ولذا أخر المؤلّف ذكر إسلام عمر -رضي الله عنه- عن إسلام سعيد (ولو أن أُحدًا) الجبل المعروف (ارفض) بهمزة وصل وسكون الراء وفتح الفاء وتشديد الضاد المعجمة أي زال من مكانه (للذي) أي لأجل الذي (صنعتم بعثمان) بن عفان -رضي الله عنه- من القتل (لكان محقوقًا أن يرفض) أي حقيقًا بالإرفضاض، وهذا منه على سبيل التمثيل وكان سعيد بن زيد من المهاجرين الأولين، وشهد المشاهد كلها إلا بدرًا وضرب له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيها بسهمه وأجره وكان مجاب الدعوة.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في اسلام عمرو في الإكراه أيضًا.

35 - باب إِسْلاَمِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-
(باب إسلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-) سقط لفظ باب لأبي ذر فالتالي رفع.
3863 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (محمد بن كثير) بالمثلثة أبو عبد الله العبدي البصري قال: (أخبرنا سفيان) الثوري (عن إسماعيل بن أبي خالد) الكوفي الحافظ (عن قيس بن أبي حازم) التابعي الكبير البجلي (عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-) أنه (قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر).
3864 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: فَأَخْبَرَنِي جَدِّي زَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "بَيْنَمَا هُوَ فِي الدَّارِ خَائِفًا إِذْ جَاءَهُ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ أَبُو عَمْرٍو عَلَيْهِ حُلَّةُ حِبَرٍ وَقَمِيصٌ مَكْفُوفٌ بِحَرِيرٍ -وَهُوَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ وَهُمْ حُلَفَاؤُنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ- فَقَالَ: مَا بَالُكَ؟ قَالَ: زَعَمَ قَوْمُكَ أَنَّهُمْ سَيَقْتُلُونِي إِنْ أَسْلَمْتُ. قَالَ: لاَ سَبِيلَ إِلَيْكَ. بَعْدَ أَنْ قَالَهَا أَمِنْتُ. فَخَرَجَ الْعَاصِ فَلَقِيَ النَّاسَ قَدْ سَالَ بِهِمُ الْوَادِي، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ فَقَالُوا: نُرِيدُ هَذَا ابْنَ الْخَطَّابِ الَّذِي صَبَا. قَالَ لاَ سَبِيلَ إِلَيْهِ. فَكَرَّ النَّاسُ". [الحديث 3864 - طرفه في: 3865].
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن سليمان) الجعفي الكوفي سكن مصر (قال: حدّثني) بالإفراد (ابن
وهب) عبد الله المصري أيضًا (قال: حدّثني) بالتوحيد (عمر بن محمد) بضم العين (قال: فأخبرني) بالإفراد (جدي زيد بن عبد الله بن عمر) بفاء العطف على شيء مقدر كأنه قال: قال: كذا فأخبرني بكذا (عن أبيه) عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه (قال: بينما) بالميم (هو) أي عمر بن الخطاب (في الدار) حال كونه (خائفًا) من قريش لما أسلم (إذ جاءه العاص) بكسر الصاد مصححًا عليها في الفرع كأصله لأنها من الناقص لأن أصله العاصي بالياء كالقاضي فخفف بترك الياء وبضم الصاد إذا قلنا أنه من الأجوف أي ألفه مبدلة عن واو وأصله العوص (ابن وائل) بالمد (السهمي) بفتح السين المهملة وسكون الهاء (أبو عمرو) والعاص جاهلي أدرك الإسلام ولم يسلم وهو ابن هاشم بن سعيد بن سهم (عليه حلة حبرة) بكسر الحاء المهملة وفتح الموحدة جر بإضافة حلة إليها برد مخطط، ولأبي ذر: حبر إسقاط الهاء (وقميص مكفوف) مخيط (بحرير وهو) أي العاص (من بني سهم وهم حلفاؤنا في الجاهلية) بالحاء المهملة جمع حليف من الحلف وهو المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد (فقال له) العاص (ما بالك؟) بضم اللام ما شأنك (قال: زعم قومك) بنو سهم (أنهم سيقتلونني) ولأبي ذر: سيقتلوني بنون واحدة (أن أسلمت) أي لأجل إسلامي بفتح همزة أن وفي الناصرية بكسرها كالفرع ولم يضبطها في اليونينية (قال) له العاص (لا سبيل) لهم (إليك) فقال: عمر -رضي الله عنه- (بعد أن قالها) أي كلمة لا سبيل إليك (أمنت) بهمزة مفتوحة وميم مكسورة ونون ساكنة وفوقية مضمومة من الأمان أي زال خوفي لقول: العاص لأنه كان مطاعًا في قومه (فخرج العاص فلقي الناس قد سال) بغير همز أي امتلأ (بهم الوادي) وادي مكة (فقال) العاص: (أين تريدون؟ فقالوا: نريد هذا ابن الخطاب) عمر -رضي الله عنه- (الذي صبا) أي خرج عن دين آبائه (قال) العاص: (لا سبيل) لكم (إليه فكرّ الناس) بتشديد الراء أي رجعوا.
3865 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُهُ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: "لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ، اجْتَمَعَ النَّاسُ عِنْدَ دَارِهِ وَقَالُوا: صَبَأ عُمَرُ -وَأَنَا غُلاَمٌ فَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِي- فَجَاءَ رَجُلٌ عَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ فَقَالَ: قَدْ صَبَأ عُمَرُ، فَمَا ذَاكَ؟ فَأَنَا لَهُ جَارٌ. قَالَ: فَرَأَيْتُ النَّاسَ تَصَدَّعُوا عَنْهُ. فَقُلْتُ مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ".
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (قال عمرو بن دينار): قال سفيان (سمعته) أي عمرو بن دينار (قال: قال عبد الله بن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما- لما أسلم عمر اجتمع الناس عند داره) ولأبي ذر عن الكشميهني إليه عند داره (وقالوا:

(6/191)


صبأ عمر) بغير همز خرج عن دينه إلى دين آخر قال ابنه (وأنا غلام فوق ظهر بيتي فجاء رجل عليه قباء من ديباج) من إبريسم وقد تفتح داله (فقال: قد صبا عمر) سقط لفظ قد من اليونينية (فما ذاك) الاجتماع فلا يعرض له أحد (فأنا) أي والحال أنا (له جار) بالجيم وتخفيف الراء أي أجرته من أن يظلمه أحد (قال) ابن عمر -رضي الله عنه- (فرأيت الناس تصدعوا) بالصاد والدال المشدّدة المفتوحتين المهملتين أي تفرقوا (عنه فقلت) لأبي (من هذا الرجل؟) الذي تفرق الناس
بسببه (قال): بالإفراد وفي اليونينية قالوا: هو (العاص بن وائل).
3866 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ أَنَّ سَالِمًا حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: "مَا سَمِعْتُ عُمَرَ لِشَىْءٍ قَطُّ يَقُولُ إِنِّي لأَظُنُّهُ كَذَا إِلاَّ كَانَ كَمَا يَظُنُّ. بَيْنَمَا عُمَرُ جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ جَمِيلٌ فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي، أَوْ إِنَّ هَذَا عَلَى دِينِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنَهُمْ، عَلَىَّ الرَّجُلَ. فَدُعِيَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ اسْتُقْبِلَ بِهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ. قَالَ: فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ إِلاَّ مَا أَخْبَرْتَنِي. قَالَ: كُنْتُ كَاهِنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ: فَمَا أَعْجَبُ مَا جَاءَتْكَ بِهِ جِنِّيَّتُكَ؟ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا فِي السُّوقِ، جَاءَتْنِي أَعْرِفُ فِيهَا الْفَزَعَ فَقَالَت: أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وَإِبْلاَسَهَا، وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ إِنْكَاسِهَا، وَلُحُوقَهَا بِالْقِلاَصِ وَأَحْلاَسِهَا. قَالَ عُمَرُ: صَدَقَ، بَيْنَمَا أَنَا نائمٌ عِنْدَ آلِهَتِهِمْ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِعِجْلٍ فَذَبَحَهُ، فَصَرَخَ بِهِ صَارِخٌ لَمْ أَسْمَعْ صَارِخًا قَطُّ أَشَدَّ صَوْتًا مِنْهُ يَقُولُ: يَا جَلِيحْ، أَمْرٌ نَجِيحْ، رَجُلٌ فَصِيحْ، يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ. فَوَثَبَ الْقَوْمُ. قُلْتُ: لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا. ثُمَّ نَادَى: يَا جَلِيحْ، أَمْرٌ نَجِيحْ، رَجُلٌ فَصِيحْ، يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَقُمْتُ، فَمَا نَشِبْنَا أَنْ قِيلَ: هَذَا نَبِيٌّ".
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن سليمان) الجعفي (قال: حدّثني) بالتوحيد (ابن وهب) عبد الله قال: (حدّثني) بالإفراد أيضًا (عمر) بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- (أن سالمًا حدّثه عن) أبيه (عبد الله بن عمر) أنه (قال: ما سمعت عمر لشيء قط) بفتح القاف وتشديد الطاء لأجل شيء أو عن شيء قط (يقول: أني أظنه كذا إلاّ كان كما يظن) لأنه كان من المحدثين بفتح الدال (بينما) بالميم (عمر) -رضي الله عنه- (جالس) وجواب بينما قوله (إذ مرّ به رجل جميل) قال البيهقي: يشبه أن يكون هو سواد بن قارب بفتح السين وتخفيف الواو وقارب بالقاف والراء المكسورة بعدها موحدة (فقال عمر: لقد أخطأ ظني) في كونه في الجاهلية بأن صار مسلمًا (أو) قال: (إن هذا) سواد بن قارب مستمر (على دينه في الجاهلية) على عبادة الأوثان (أو لقد) بالهمزة والواو الساكنة في اليونينية وغيرها وفي الفرع ولقد (كان كاهنهم) بكسر الهاء أي كاهن قومه (عليّ) بتشديد الياء أي أحضروا (الرجل) أو قربوه مني (فدعي) بضم الدال مبنيًّا للمفعول (له) أي لأجل عمر (فقال): ولأبي ذر قال: (له) عمر (ذلك) الذي قاله في غيبته من التردّد وقال أبو عمر كان يتكهن في الجاهلية فأسلم وداعبه عمر يومًا وقال: ما فعلت كهانتك يا سواد؟ فغضب وقال: ما كنا عليه نحن وأنت يا عمر من جاهليتنا وكفرنا من الكهانة فما لك تعيرني بشيء تبت منه وأرجو من الله العفو عنه (فقال) سواد (ما رأيت) شيئًا (كاليوم) أي مثل ما رأيت اليوم أي حيث (استقبل) بضم الفوقية مبنيًا للمفعول (به) أي فيه (رجل) نائب عن الفاعل (مسلم) صفة له، وللأربعة استقبل بفتح الفوقية مبنيًّا للفاعل به أي بالكلام رجلاً مفعول لرأيت ومسلمًا صفته كذا أعرّبه الكرماني وتبعه البرماوي.
وقال: العيني: فيه شيء إن كان مراده رأيت المصرح به في الحديث، فإن قدر لفظ رأيت آخر يكون موجهًا تقديره ما رأيت يومًا مثل هذا اليوم رأيت استقبل به أي بالكلام المذكور رجلاً مسلمًا، فقوله: استقبل به جملة معترضة بين الفاعل والمفعول وحاصل المعنى ما رأيت كاليوم رأيت فيه رجلاً استقبل فيه أي في اليوم اهـ. وعند البيهقي في رواية مرسلة: قد جاء الله بالإسلام فما لنا وذكر الجاهلية.
(قال) عمر -رضي الله عنه- له: (فإني أعزم عليك) أي ألزمك (إلا ما أخبرتني) أي ما أطلب منك إلا الإخبار (قال) سواد: (كنت كاهنهم) أي أخبرهم بالمغيبات في الجاهلية (قال) له عمر: (فما أعجب) بالضم وما استفهامية (ما جاءتك به جنيتك) من أخبار الغيب (قال: بينما) بالميم (أنا يومًا في السوق جاءتني) الجنية (أعرف فيها الفزع) بفتح الفاء والزاي والمهملة أي الخوف (فقالت) لي ولأبي ذر وقالت: (ألم تر الجن وإبلاسها) بكسر الهمزة وسكون الموحدة والنصب عطفًا على سابقه أي وخوفها (وبأسها) من اليأس ضد الرجاء (من بعد إنكاسها) بكسر الهمزة وسكون النون أي من بعد انقلابها على رأسها. قال ابن فارس: معناه يئست من استراق السمع بعد أن كانت ألفته فانقلبت عن الاستراق وقد أيست من السمع (ولحوقها) بالنصب عطفًا على إبلاسها أو بالجر عطفًا على إنكاسها أي ولحوق الجن (بالقلاص) بالقاف المكسورة آخره صاد مهملة جمع قلوص الناقة الشابة (وأحلاسها) بفتح الهمزة وسكون الحاء

(6/192)


المهملة بعدها لام ألف فسين مهملة جمع حلس بكسر أوّله، وهو كساء يجعل تحت رحل الإبل على ظهورها تلازمه، ومنه قيل فلان حلس بيته أي ملازمه. قال في الكواكب: والمراد بيان ظهور النبي العربي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومتابعة الجن للعرب ولحوقهم بهم في الدين إذ هو رسول الثقلين، وهذا الشعر من الرجز، لكن وقع الأخير غير موزون. نعم روي ورحلها العيس بأحلاسها وهذا موزون والعيس بكسر العين الإبل، وعند البيهقي موصولاً من حديث البراء بن عازب في دلائل النبوة له بعد قوله وأحلاسها:
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنوها مثل أرجاسها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى راسها
قال: ثم نبهني فأفزعني وقال: يا سواد إن الله عز وجل بعث نبيًّا فانهض إليه تسعد وترشد، فلما كان في الليلة الثانية أتاني فنبهني ثم قال:
عجبت للجن وتطلابها ... وشدّها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... وليس قدماها كأذنابها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى قابها
فلما كان في الليلة الثالثة أتاني فنبهني فقال:
عجبت للجن وتنفارها ... وشدّها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ليس ذوو الشر كأخيارها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ... ما مؤمنو الجن ككفارها
قال: فوقع في قلبي الإسلام وأتيت المدينة، فلما رآني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "مرحبًا بك يا سواد بن قارب قد علمنا ما جاء بك" قال: قد قلت شعرًا فاسمعه مني فقلت:
أتاني رئيي بعد ليل وهجعة ... ولم أك فيما قد بليت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك نبيّ من لؤي بن غالب
فشمرت عن ساقي الإزار ووسطت ... بي الذعلب الوجناء عند السباسب
فأشهد أن الله لا رب غيره ... وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين شفاعة ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل ... وإن كان فيما جاء شيب الذوائب
فكن لي شفيعًا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب
قال: فضحك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى بدت نواجذه (قال عمر) -رضي الله عنه-: (صدق) سواد (بينما) بالميم (أنا عند آلهتهم) ولأبي ذر والأصيلي وابن عساكر: بينما أنا نائم عند آلهتهم أي أصنامهم (إذ جاء رجل) لم يعرف الحافظ ابن حجر اسمه وعند أحمد من وجه آخر أنه ابن عبس شيخ أدرك الجاهلية (بعجل فذبحه فصرخ به صارخ لم أسمع صارخًا قط أشد صوتًا منه يقول: يا جليح) بفتح الجيم وبعد اللام المكسورة تحتية ساكنة فحاء مهملة أي يا وقح ومعناه المكافح والمكاشف بالعداوة، ويحتمل أن يكون نادى رجلاً بعينه أو من كان متصفًا بذلك (أمر نجيح) بنون مفتوحة فجيم مكسورة آخره حاء مهملة من النجاح وهو الظفر بالبغية (رجل فصيح) بالفاء من الفصاحة ولأبي ذر عن الكشميهني يصيح بتحتية مفتوحة بدل الفاء من الصياح (يقول: لا إله إلا أنت) ولأبي ذر عن الكشميهني: لا إله إلا الله (فوثب القوم) بالثاء المثلثة أي قاموا قال عمر: فلما رأيت ذلك (قلت لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى يا جليح أمر نجيح رجل فصيح) ولأبي ذر عن الكشميهني يصيح (يقول:

(6/193)


لا إله إلا الله لإقمت فما نشبنا) بفتح النون وكسر الشين المعجمة وسكون الموحدة أي ما مكثنا وتعلقنا بشيء (أن قيل هذا نبي) قد ظهر.
وعند أبي نعيم في دلائله أن أبا جهل جعل لمن يقتل محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مائة ناقة. قال عمر -رضي الله عنه-: فقلت له يا أبا الحكم الضمان صحيح؟ قال: نعم. قال: فتقلدت سيفي أريده فمررت على عجل وعم يريدون أن يذبحوه فقمت أنظر إليهم فإذا صائح يصيح من جوف العجل يا آل
ذريح أمر بجيح رجل يصيح بلسان فصيح. قال عمر -رضي الله عنه-: فقلت في نفسي إن هذا الأمر ما يراد به إلا أنا. قال: فدخلت على أختي فإذا عندها سعيد بن زيد فذكر القصة في سبب إسلامه بطولها.
وفي حديث أسامة بن زيد عن أبيه عن جده أسلم قال: قال لنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: تحبون أن أعلمكم كيف كان بدء إسلامي؟ قلنا: نعم. قال: كنت من أشد الناس على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فبينا أنا في: يوم حار بالهاجرة لقيني رجل من قريش اسمه نعيم بن عبد الله النحام وكان مخفيًّا إسلامه -رضي الله عنه- فقال: أين تذهب يا ابن الخطاب إنك تزعم أنك هكذا وقد دخل عليك هذا الأمر في بيتك أختك قد صبت فرجعت مغضبًا فدخلت عليها فقلت: يا عدوة نفسها بلغني أنك قد صبأت وأرفع شيئًا في يدي فأضربها به فسال الدم فبكت ثم قالت: يا ابن الخطاب ما كنت فاعلاً فافعل فقد أسلمت، فنظرت فإذا بكتاب في ناحية البيت فقلت لها أعطينه فقالت: لا أعطيكه لست من أهله إنك لا تغتسل من الجنابة ولا تتطهر، وهذا لا يمسه إلا المطهرون فلم أزل بها حتى أعطتنيه فإذا فيه: {بسم الله الرحمن الرحيم} فلما مررت بالرحمن الرحيم ذعرت ورميت بالكتاب من يدي ثم رجعت إلى نفسي فأخذته فإذا فيه: {سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} [الحديد: 1] فكلما مررت بالاسم من أسماء الله تعالى ذعرت ثم رجعت إلى نفسي حتى بلغت: (آمنوا بالله ورسوله} [الحديد: 7] إلى قوله: {إن كنتم مؤمنين} [الحديد: 8] فقلت أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فخرج القوم يتبادرون بالتكبير استبشارًا بما سمعوه مني، فلما دخلت على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخذ بمجامع قميصي فجذبني إليه ثم قال: أسلم يا ابن الخطاب اللهم اهده. فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فكبّر المسلمون تكبيرة سمعت بطرفي مكة ثم قال: ثم خرجت فقرعت باب خالي فقلت له: أشعرت أني صبوت فأجاف الباب دوني وتركني، فلما اجتمع الناس جئت إلى رجل لا يكتم السر فذكرت له فيما بيني وبينه أني قد صبوت ليشيع ذلك ليصيبني ما أصاب المسلمين من أذى قريش قال: فرفع الرجل صوته بأعلاه ألا أن ابن الخطاب قد صبأ. قال: فما زال الناس يضربوني وأضربهم قال فقال خالي: ما هذا؟ فقيل له ابن الخطاب فقام على الحجر فأشار بكمه فقال: ألا أني قد أجرت ابن أختي. قال: فانكشف الناس عني قال: وكنت لا أشأ أن أرى أحدًا من المسلمين يضرب إلا رأيته وأنا لا أضرب فقلت: ما هذا بشيء حتى يصيبني ما يصيب المسلمين. قال: فأمهلت حتى إذا جلس الناس في الحجر وصلت إلى خالي فقلت له جوارك رد عليك فما زلت أضرب وأضرب حتى أعز الله الإسلام. وهذا الخبر رواه ابن إسحاق وأن الذي كان في الصحيفة سورة طه.
3867 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا قَيْسٌ قَالَ: "سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ لِلْقَوْمِ: لَوْ رَأَيْتُنِي مُوثِقِي عُمَرُ عَلَى الإِسْلاَمِ أَنَا وَأُخْتُهُ، وَمَا أَسْلَمَ، وَلَوْ أَنَّ أُحُدًا انْقَضَّ لِمَا صَنَعْتُمْ بِعُثْمَانَ لَكَانَ مَحْقُوقًا أَنْ يَنْقَضَّ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن المثنى) العنزي قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي خالد قال: (حدّثنا قيس) هو ابن أبي حازم قال: (سمعت سعيد بن زيد) أي ابن عمرو بن نفيل -رضي الله عنه- (يقول للقوم): في مسجد الكوفة (لو رأيتني) بضم التاء وسقط لو لأبي ذر أي لو رأيت نفسي (موثقي عمر على الإسلام) بضم الميم وسكون الواو وكسر المثلثة إهانة لي وتضييقًا عليّ لكوني أسلمت (أنا وأخته) زوجتي فاطمة بنت الخطاب (وما) كان عمر (أسلم ولو أن أُحدًا) الجبل المعروف بالمدينة (انقض) بالنون والقاف والضاد المعجمة المشددة انكسر وانهدم ولأبي ذر عن الكشميهني انفض بالفاء أي تفرق (لما صنعتم بعثمان) بن عفان -رضي الله عنه- يوم الدار (لكان محقوقًا) بفتح الميم وسكون

(6/194)


المهملة وقافين بينهما واو ساكنة أي واجبًا (أن ينقض) أي أن ينهدم، وللكشميهني: أن ينفض بالفاء أي أن يتفرق والمعنى لو تحركت القبائل لطلب ثأر عثمان لفعلوا واجبًا.
وهذا الحديث سبق في الباب الذي قبل هذا والله الموفق.

36 - باب انْشِقَاقِ الْقَمَرِ
(باب انشقاق القمر) في زمنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معجزة له وسقط لفظ باب لأبي ذر فالتالي رفع على ما لا يخفى.
3868 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-: "أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً، فَأَرَاهُمُ الْقَمَرَ شِقَّتَيْنِ، حَتَّى رَأَوْا حِرَاءً بَيْنَهُمَا".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذرة حدّثنا (عبد الله بن عبد الوهاب) الحجبي البصري قال: (حدّثنا بشر بن المفضل) بكسر الموحدة وسكون الشين المعجمة والمفضل بضم الميم وفتح الفاء والضاد المعجمة المشدّدة ابن لاحق الرقاشي بقاف ومعجمة أبو إسماعيل البصري قال: (حدّثنا سعيد بن أبي عروبة) مهران اليشكري مولاهم أحد الأعلام (عن قتادة) بن دعامة (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-):
(أن أهل مكة) كفار قريش وفي دلائل النبوّة لأبي نعيم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل والعاص بن وائل والعاص بن هشام والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب وابنه زمعة والنضر بن الحرث (سألوا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يريهم آية) أي معجزة تشهد لما ادّعاه من نبوّته (فأراهم القمر شقتين) بفتح الشين في الفرع مصححًا عليه وضبطها في الفتح والمصابيح واليونينية والناصرية بكسرها أي نصفين (حتى رأوا حرًّا) بالتنوين الجبل المعروف (بينهما) بين الشقتين. وهذا من مراسيل الصحابة لأن أنسًا لم يشاهد هذه القصة، وفي حديث مسلم فأراهم القمر مرتين، وكذا هو بلفظ مرتين في مصنف عبد الرزاق عن معمر، وكذا أخرجه
أحمد وإسحاق في مسنديهما، ولعل المراد فرقتين جمعًا بين الروايات كما نبه عليه في الفتح.
3869 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: «انْشَقَّ الْقَمَرُ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمِنًى فَقَالَ: اشْهَدُوا، وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ نَحْوَ الْجَبَلِ».
وَقَالَ أَبُو الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: "انْشَقَّ بِمَكَّةَ".
وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.
وبه قال: (حدّثنا عبدان) اسمه عبد الله بن عثمان بن جبلة المروزي (عن أبي حمزة) بالحاء المهملة والزاي محمد بن ميمون السكري (عن الأعمش) سليمان (عن إبراهيم) النخعي (عن أبي معمر) عبد الله بن سخبرة (عن عبد الله) بن مسعود (-رضي الله عنه-) أنه (قال): (انشق القمر ونحن مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمنى فقال): يخاطب أبا سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن أبي الأرقم وابن مسعود (اشهدوا) ولأبي ذر فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اشهدوا أي اضبطوا ذلك بالمشاهدة (وذهبت فرقة) من القمر (نحو الجبل) المعروف بحرًا وبقيت الأخرى مكانه حتى صار حرًّا بينهما، وقوله: ونحن مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرد على من قال: إن قوله في الآية {وانشق القمر} [القمر: 1] بمعنى انشق يوم القيامة فأوقع الماضي موقع المستقبل لتحققه وهو خلاف الإجماع، وكذا قول الآخر انشق بمعنى انفلق عنه الظلام عند طلوع الشمس كما يسمى الصبح فلقًا.
(وقال أبو الضحى): مسلم بن صبيح الكوفي (عن مسروق) هو ابن الأجدع (عن عبد الله) بن مسعود -رضي الله عنه- (انشق بمكة) وهذا وصله أبو داود الطيالسي (وتابعه) أي وتابع إبراهيم النخعي في روايته عن أبي معمر (محمد بن مسلم) الطائفي (عن ابن أبي نجيح) يسار (عن مجاهد) هو ابن جبر (عن أبي معمر) عبد الله بن سخبرة (عن عبد الله) بن مسعود -رضي الله عنه- وهذه المتابعة وصلها عبد الرزاق في مصنفه ولا معارضة بين قوله بمكة. وقوله بمنى إذ المراد أن ذلك وقع قبل الهجرة ومنى من جملة مكة.
3870 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: "أَنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ عَلَى زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبه قال: (حدَّثنا عثمان بن صالح) السهمي المصري قال: (حدّثنا بكر بن مضر) بفتح الموحدة وسكون الكاف ومضر بضم الميم وفتح الضاد المعجمة ابن محمد بن حكيم المصري قال: (حدّثني) بالإفراد (جعفر بن ربيعة) بن شرحبيل المصري (عن عراك بن مالك) بكسر العين المهملة وتخفيف الراء الغفاري المدني (عن عبيد الله) بضم العين (ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن
عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-) (إن القمر انشق على) ولأبي ذر عن الكشميهني في (زمان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بمكة قبل الهجرة. وهذا مرسل لأن ابن عباس -رضي الله عنهما- لم يدرك ذلك لأنه كان ابن سنتين أو ثلاث.
3871 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: "انْشَقَّ الْقَمَرُ".
وبه قال: (حدّثنا

(6/195)


عمر بن حفص) بضم العين النخعي الكوفي قال: (حدّثنا أبي) حفص بن غياث قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان قال: (حدّثنا إبراهيم) النخعي (عن أبي معمر) عبد الله (عن عبد الله) بن مسعود (-رضي الله عنه-) أنه (قال: انشق القمر) كذا أورده مختصرًا وهو ثابت في رواية الحموي والكشميهني، وقول بعضهم: لو انشق لما خفي على أهل الأقطار ولو ظهر عندهم لنقلوه متواترًا لأن الطباع مجبولة على نشر العجائب مردود بأنه يجوز أن يحجبه الله عز وجل عنهم بغيم، لا سيما وأكثر الناس نيام والأبواب مغلقة وقل من يترصد السماء، ولعله كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر. وقد روى أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله أنهم سألوا السفار هل انشق قالوا: قد رأيناه.

37 - باب هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ».
فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
فِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى وَأَسْمَاءَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
(باب هجرة) المسلمين من مكة إلى أرض (الحبشة) بإشارته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما أقبل كفار قريش على من آمن يعذبونهم ويؤذونهم ليردوهم عن دينهم وكانت الهجرة مرتين الأولى في رجب سنة خمس من المبعث وكان عدد من هاجر اثني عشر رجلاً وأربع نسوة خرجوا مشاة إلى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار.
وذكر ابن إسحاق أن السبب في ذلك أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لأصحابه لما رأى المشركين يؤذونهم ولا يستطيع أن يكفهم أن بالحبشة ملكًا لا يظلم عنده أحد فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجًا. قال: فكان أوّل من خرج منهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله.
وأخرج يعقوب بن سفيان بسند موصول إلى أنس قال: أبطأ على رسول الله خبرهما فقدمت امرأة فقالت له: قد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار فقال: صحبهم الله إن عثمان لأوّل من هاجر بأهله بعد لوط.
قلت: وبهذا تظهر النكتة في تصدير البخاري الباب بحديث عثمان، وقد سرد ابن إسحاق أسماءهم. فأما الرجال فهم: عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوّام، وأبو حذيفة بن عتبة، ومصعب بن عمير، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة، وسهيل ابن بيضاء، وأبو سبرة، وأبو رهم العامري. قال: ويقال بدله حاطب بن عمرو العامري. وأما النسوة فهي: رقية بنت النبي، وسهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة، وأم سلمة بنت أبي أمية امرأة أبي سلمة، وليلة بنت أبي حثمة امرأة عامر بن ربيعة. ووافقه الواقدي في سردهم وزاد اثنين: عبد الله بن مسعود، وحاطب بن عمرو مع أنه ذكر في أول كلامه أنهم كانوا أحد عشر رجلاً، فالصواب ما قال ابن إسحاق بأنه إنما كان في الهجرة الثانية.
ويؤيده ما روى أحمد بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: بعثنا النبي عليه السلام إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلاً فيهم: عبد الله بن مسعود، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن عرفطة، وعثمان بن مظعون، وأبو موسى فذكر الحديث انظر الفتح. ثم رجعوا عندما بلغهم عن المشركين سجودهم معه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند قراءة سورة النجم فلقوا من المشركين أشد مما عهدوا فهاجروا ثانية، وكانوا ثلاثة وثمانين رجلاً إن كان فيهم عمار وثماني عشره امرأة وسقط باب لأبي ذر.
(وقالت عائشة) -رضي الله عنها- مما وصله المؤلّف مطوّلاً في باب الهجرة إلى المدينة (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أريت) بضم الهمزة (دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين) تثنية لابة وهي الحرة ذات الحجارة السود وهذه طابة (فهاجر من هاجر) من المسلمين (قبل المدينة) بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهتها (ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة) وهذا وقع بعد الهجرة الثانية إلى الحبشة (فيه) أي في هذا الباب (عن أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري مما يأتي آخر الباب إن شاء الله تعالى موصولاً (و) عن (أسماء) بنت عميس الخثعمية وهي أخت أم المؤمنين ميمونة لأمها كما سيأتي في غزوة حنين إن شاء الله تعالى (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
3872 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ "أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ قَالاَ لَهُ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُكَلِّمَ خَالَكَ عُثْمَانَ فِي أَخِيهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسُ فِيمَا فَعَلَ بِهِ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَانْتَصَبْتُ لِعُثْمَانَ حِينَ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، وَهْيَ نَصِيحَةٌ. فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَرْءُ، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ. فَانْصَرَفْتُ. فَلَمَّا قَضَيْتُ الصَّلاَةَ جَلَسْتُ إِلَى الْمِسْوَرِ وَإِلَى ابْنِ عَبْدِ يَغُوثَ فَحَدَّثْتُهُمَا بِالَّذِي قُلْتُ لِعُثْمَانَ وَقَالَ لِي. فَقَالاَ: قَدْ قَضَيْتَ الَّذِي كَانَ عَلَيْكَ. فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ مَعَهُمَا إِذْ جَاءَنِي رَسُولُ عُثْمَانَ، فَقَالاَ لِي: قَدِ ابْتَلاَكَ اللَّهُ. فَانْطَلَقْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا نَصِيحَتُكَ الَّتِي ذَكَرْتَ آنِفًا؟ قَالَ: فَتَشَهَّدْتُ ثُمَّ قُلْتُ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَكُنْتَ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَآمَنْتَ بِهِ،
وَهَاجَرْتَ الْهِجْرَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَأَيْتَ هَدْيَهُ. وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي شَأْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، فَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ. فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ أَخِي، أَدْرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ: قُلْتُ: لاَ، وَلَكِنْ قَدْ خَلَصَ إِلَىَّ مِنْ عِلْمِهِ مَا خَلَصَ إِلَى الْعَذْرَاءِ فِي سِتْرِهَا. قَالَ: فَتَشَهَّدَ عُثْمَانُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَكُنْتُ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَآمَنْتُ بِمَا بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهَاجَرْتُ الْهِجْرَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ -كَمَا قُلْتَ- وَصَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَايَعْتُهُ. وَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ، وَلاَ غَشَشْتُهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ. ثُمَّ اسْتَخْلَفَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، فَوَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلاَ غَشَشْتُهُ. ثُمَّ اسْتُخْلِفَ عُمَرُ، فَوَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلاَ غَشَشْتُهُ. ثُمَّ اسْتُخْلِفْتُ، أَفَلَيْسَ لِي عَلَيْكُمْ مِثْلُ الَّذِي كَانَ لَهُمْ عَلَيَّ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا هَذِهِ الأَحَادِيثُ الَّتِي تَبْلُغُنِي عَنْكُمْ؟ فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ شَأْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَسَنَأْخُذُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِالْحَقِّ. قَالَ: فَجَلَدَ الْوَلِيدَ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَجْلِدَهُ، وَكَانَ هُوَ يَجْلِدُهُ".
وَقَالَ يُونُسُ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ: "أَفَلَيْسَ لِي عَلَيْكُمْ مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِي كَانَ لَهُمْ".
قَالَ أَبُو عَبد الله: {بَلاءٌ من رَبِّكُمْ} [البقرة: 49] مَا ابتُلِيتُم به من شدَّة. وفي موضع: البلاءُ الابتلاء والتمحيص، من بَلَوتهُ ومحَّصتهُ أي استخرجتُ ما عندَه. يبلو: يختبر، مُبتليكم: مُختبِرُكم. وأما قوله: "بلاء عظيم" النعم، وهي مِن أبلَيْتُه، وتلك من ابتليته.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد الجعفي) المسندي قال: (حدّثنا هشام) هو ابن يوسف الصنعاني قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد عالم اليمن (عن

(6/196)


الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه قال: (حدّثنا) وفي نسخة أخبرني بالإفراد (عروة بن الزبير أن عبيد الله) بضم العين وفتح الموحدة (ابن عدي بن الخيار) بكسر الخاء المعجمة وتخفيف التحتية (أخبره أن المسور بن مخرمة) بن نوفل الزهري الصحابي الصغير (وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث) بالغين المعجمة المضمومة والمثلثة الزهري من صلحاء التابعين وأشرافهم (قالا له): أي لعبيد الله بن عدي بن الخيار (ما يمنعك أن تكلم خالك عثمان) بن عفان ليست أمه أختًا له بل من رهطه (في أخيه) لأمه (الوليد بن عقبة) بضم العين وسكون القاف ابن أبي معيط وكان عثمان ولاه الكوفة بعد عزل سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- (كان أكثر) ولأبي ذر عن الكشميهني أكبر بالموحدة بدل المثلثة (الناس فيما فعل) عثمان (به) بالوليد من تقويته في الأمور وإهماله حدّ شربه المسكر (قال عبيد الله) بن عدي (فانتصبت لعثمان حين خرج إلى الصلاة فقلت له: إن لي إليك حاجة وهي نصيحة) لك (فقال: أيها المرء أعوذ بالله منك) قال ذلك لأنه فهم أنه يكلمه بما فيه إنكار عليه فيضيق صدره لذلك. قال عبيد الله (فانصرفت فلما قضيت الصلاة) نصب مفعول (جلست إلى
المسور وإلى ابن عبد يغوث فحدّثتهما بالذي قلت لعثمان و) الذي (قال لي) عثمان (فقالا: قد قضيت الذي كان عليك، فبينما) بالميم (أنا جالس معهما إذ جاءني رسول عثمان) لم يسم (فقالا): المسور وابن عبد يغوث (لي قد ابتلاك الله) يأتي تفسيره بعد إن شاء الله تعالى من قول المصنف (فانطلقت حتى دخلت عليه فقال: ما نصيحتك التي ذكرت آنفًا؟) بمدّ الهمزة (قال: فتشهدت) وسقط لفظ قال: في الفرع وثبت في الأصل (ثم قلت إن الله بعث محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) سقطت التصلية لأبي ذر (وأنزل عليه الكتاب وكنت ممن استجاب لله ورسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وسقطت التصلية في رواية أبي ذر ولأبي ذر عن الكشميهني ممن استجاب لله ورسوله وآمن (وآمنت به وهاجرت الهجرتين الأوليين) بضم الهمزة وسكون الواو وفتح اللام والتحتية الأولى وتسكين الثانية تثنية أولى على التغليب بالنسبة إلى هجرة الحبشة فإنها كانت أولى وثانية أما إلى المدينة فلم تكن إلا واحدة، وهذا هو المراد من هذا الحديث في هذا الباب كما لا يخفى.
(وصحبت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورأيت هديه) طريقه (وقد أكثر الناس) الكلام (في شأن الوليد بن عقبة) بسبب شربه الخمر وسوء سيرته (فحق عليك أن تقيم عليه الحدّ فقال لى): أي على عادة العرب (يا ابن أخي) ولأبي ذر أختي قال الكرماني: هي الصواب لأنه كان خاله (أدركت) بتاء الخطأ (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قال: قلت لا). أي لم أدركه من يعي عنه وليس مراده نفي الإدراك بالسن لأنه ولد في حياته عليه الصلاة والسلام (ولكن قد خلص) أي وصل (إليّ من علمه ما خلص) ما وصل (إلى العذراء) بالذال المعجمة والمد البكر (في سترها) بكسر السين أي من شرعه الشائع الذائع الذي ليس يخفى على أحد (قال: فتشهد عثمان فقال: إن الله قد بعث محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالحق) سقط لفظ قد والتصلية لأبي ذر (وأنزل عليه الكتاب وكنت ممن استجاب لله ورسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) سقطت التصلية لأبي ذر (وآمنت) ولأبي ذر عن الكشميهني ممن استجاب الله ورسوله وآمن (بما بعث به محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) سقطت التصلية لأبي ذر (وهاجرت الهجرتين الأوليين) الحبشة والمدينة (كما قلت) بتاء الخطاب لعبيد الله (وصحبت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبايعته) من المبايعة ولأبي ذر وتابعته بالفوقية بدل الموحدة من المتابعة (والله) بالواو ولأبي ذر عن الكشميهني فوالله بالفاء (ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم استخلف الله أبا بكر فوالله ما عصيته ولا غششته، ثم استخلف) بضم الفوقية مبنيًا للمفعول (عمر) -رضي الله عنه- (فوالله ما عصيته ولا غششته) زاد أبو ذر حتى توفاه الله (ثم استخلفت) بضم الفوقية مبنيًا للمفعول (أفليس لي عليكم) بهمزة

(6/197)


الاستفهام (مثل) ولأبي ذر من الحق مثل (الذي كان لهم عليّ) بتشديد الياء وسقطت من الفرع وثبتت في أصله (قال) عبيد الله: (بلى. قال) عثمان: (فما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم) بسبب تأخير الحد عن الوليد (فأما ما ذكرت من شأن الوليد بن عقبة) سقط ابن عقبة لأبي ذر (فسنأخذ فيه إن شاء الله بالحق. قال) عبيد الله (فجلد الوليد أربعين جلدة) بعد أن شهد عليه حمران والصعب بن جثامة أنه قد شرب الخمر (وأمر عليًّا أن يجلده وكان هو) أي عليّ (يجلده) ولا تنافي بين قوله هنا أربعين، وقوله في مناقب عثمان ثمانين لأن التخصيص بالعدد لا ينفي الزائد أو كان الجلد بسوط له طرفان.
(وقال يونس) بن يزيد الأيلي مما وصله في مناقب عثمان (وابن أخي الزهري) محمد بن عبد الله بن مسلم مما وصله ابن عبد البر في تمهيده (عن الزهري) محمد بن مسلم (أفليس لي عليكم من الحق مثل الذي كان لهم؟) وهذا التعليق عن يونس وابن أخي الزهري ثابت في رواية المستملي فقط.
(قال أبو عبد الله) البخاري في قوله ابتلاك الله ({بلاء من ربكم}) [البقرة: 49] أي (ما ابتليتم به من شدّة. وفي موضع) آخر (البلاء) هو (الابتلاء والتمحيص) بالحاء والصاد المهملتين (من بلوته) بالواو (ومحصته أي استخرجت ما عنده) ويشهد له قوله (يبلو) أي (يختبر) و (مبتليكم) أي (مختبركم) ثم استطرد فقال: (وأما قوله بلاء) من ربكم (عظيم) فالمراد به (النعم) بكسر النون (وهي من أبليته) إذا أنعمت عليه (وتلك) أي الأولى (من ابتليته) وهذا كله ثابت في رواية المستملي وحده.
3873 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها--: «أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَذَكَرَتَا لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِيكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وبه قال: (حدّثني) بالتوحيد (محمد بن المثنى) العنزي الزمن قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن هشام) أنه (قال: حدّثني) بالإفراد (أبي) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها- أن أم حبيبة) رملة بنت أبي سفيان (وأم سلمة) هند ولأبي ذر تقديم أم سلمة على أم حبيبة (ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة) بنون الجمع على أن أقل الجمع اثنان أو معهما غيرهما من النسوة. وكانت أم سلمة هاجرت الأولى مع زوجها أبي سلمة بن عبد الأسد، وأم حبيبة الثانية مع زوجها عبيد الله بن جحش فمات هناك (فيها تصاوير فذكرتا) ذلك (للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال):
(إن أولئك) بكسر الكاف (إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي فبنوا (على قبره مسجدًا وصوّروا فيه تيك) بفوقية مكسورة فتحتية ساكنة ولأبي ذر عن الحموي والمستملي تلك (الصور) باللام بدل التحتية (أولئك) بكسر الكاف (شرار الخلق عند الله يوم القيامة).
وهذا الحديث سبق في الجنائز في باب بناء المساجد على القبر.
3874 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ السَّعِيدِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ قَالَتْ: «قَدِمْتُ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَأَنَا جُوَيْرِيَةٌ، فَكَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَمِيصَةً لَهَا أَعْلاَمٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَمْسَحُ الأَعْلاَمَ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: سَنَاهْ سَنَاهْ. قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: يَعْنِي حَسَنٌ حَسَنٌ».
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير المكي قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا إسحاق بن سعيد السعيدي) بكسر العين (عن أبيه) سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص (عن أم خالد) اسمها أمة بفتح الهمزة والميم المخففة وبالهاء وخالد هو ابن الزبير بن العوّام (بنت خالد) أي ابن سعيد بن العاص أنها (قالت: قدمت من أرض الحبشة وأنا جويرية فكساني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خميصة) بفتح الخاء المعجمة وبالصاد المهملة كساء من خز (لها أعلام فجعل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يمسح الأعلام بيده) الكريمة (ويقول): (سناه سناه) مرتين بفتح السين والنون وبعد الألف هاء ساكنة فيهما (قال: الحميدي) عبد الله الراوي (يعني) هو أي الثوب (حسن حسن).
3875 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: «كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ يُصَلِّي فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا، قَالَ: إِنَّ فِي الصَّلاَةِ شُغْلاً. فَقُلْتُ لإِبْرَاهِيمَ: كَيْفَ تَصْنَعُ أَنْتَ؟ قَالَ: أَرُدُّ فِي نَفْسِي».
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن حماد) الشيباني مولاهم البصري ختن أبي عوانة قال: (حدّثنا أبو عوانة) الوضاح اليشكري (عن سليمان) بن مهران الأعمش (عن إبراهيم) النخعي (عن علقمة) بن قيس النخعي (عن عبد الله) بن مسعود (-رضي الله عنه-) أنه (قال: كنا نسلم على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يصلّي فيرد علينا) السلام (فلما رجعنا من عند النجاشي) ملك الحبشة من الهجرة الثانية إلى المدينة والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتجهز إلى بدر (سلمنا عليه) وهو في الصلاة (فلم يردّ علينا) السلام (فقلنا: يا رسول الله إنا كنا نسلم

(6/198)


عليك) وأنت في الصلاة (فترد علينا) السلام (قال):
(إن في الصلاة شغلاً) بالله عز وجل لا يمكن معه غيره. قال سليمان الأعمش (فقلت لإبراهيم) النخعي (كيف تصنع أنت) إذا سلم عليك إنسان وأنت في الصلاة (قال: أردّ) عليه (في نفسي).
وهذا الحديث قد سبق في أواخر الصلاة في باب لا يرد السلام في الصلاة.
3876 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه-: «بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ، فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا، فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَكُمْ أَنْتُمْ يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن العلاء) بفتح العين المهملة والمدّ أبو كريب الهمداني الكوفي قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة قال: (حدّثنا بريد بن عبد الله) بضم الموحدة وفتح الراء مصغرًا (عن) جدّه (أبي بردة) بضم الموحدة وسكون الراء عامر (عن) أبيه (أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري (-رضي الله عنه-) أنه (قال: بلغنا مخرج النبي) مصدر ميمي أي خروج
النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي مبعثه أو خروجه إلى المدينة (ونحن باليمن فركبنا سفينة) لنصل إلى مكة (فألقتنا سفينتنا) بسبب هيجان البحر والريح (إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب) -رضي الله عنه- (فأقمنا معه) بالحبشة (حتى قدمنا) المدينة (فوافقنا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين افتتح خيبر) سنة ست أو سبع (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لكم أنتم يا أهل السفينة هجرتان) هجرة من مكة إلى الحبشة، وهجرة من الحبشة إلى المدينة. وفي رواية مسلم فأسهم لنا وما قسم لأحد غاب عن خيبر منها شيئًا إلا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، وسقطت أداة النداء من قوله يا أهل السفينة.
وحديث الباب أخرجه المؤلّف مقطعًا في الخمس والمغازي ومسلم في الفضائل.

38 - باب مَوْتُ النَّجَاشِيِّ
(باب موت النجاشي) بفتح النون وحكى ابن دحية كسرها وهو لقب كل من ملك الحبشة ولقبه الآن الحطي بفتح الحاء وكسر الطاء الخفيفة المهملتين آخره تحتية خفيفة وسقط لفظ باب لأبي ذر.
3877 - حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه-: «قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ مَاتَ النَّجَاشِيُّ: مَاتَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِي كُمْ أَصْحَمَةَ».
وبه قال: (حدّثنا أبو الربيع) سليمان بن داود العتكي الزهراني المقري البصري قال: (حدّثنا ابن عيينة) سفيان (عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (عن عطاء) هو ابن أبي رباح (عن جابر) هو ابن عبد الله الأنصاري (-رضي الله عنه-) عن أبيه أنه قال: (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين مات النجاشي) سنة تسع أو ثمان قبل فتح مكة:
(مات اليوم رجل صالح فقوموا فصلوا) أي صلاة الغيبة (على أخيكم) في الإسلام (أصحمة) بهمزة وصاد وحاء مهملتين وميم مفتوحات آخره هاء تأنيث قيل: هو لقبه واسمه عطية.
3878 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ عَطَاءً حَدَّثَهُمْ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنهما- "أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَصَفَّنَا وَرَاءَهُ، فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الأعلى بن حماد) الباهلي مولاهم البصري النرسي بفتح النون وسكون الراء وبالسين المهملة قال: (حدّثنا يزيد بن زريع) بتقديم الزاي على الراء مصغرًا أبو معاوية البصري قال: (حدّثنا سعيد) بكسر العين ابن أبي عروبة قال: (حدّثنا قتادة) بن دعامة السدوسي
(أن عطاء حدثهم عن جابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله عنهما-) (أن نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلّى على النجاشي) بتشديد التحتية وتخفيفها ولأبي ذر عن الكشميهني صلّى على أصحمة النجاشي (فصفنا) بتشديد الفاء (وراءه فكنت في الصف الثاني أو الثالث).
ومطابقته للترجمة من جهة صلاته عليه بعد إعلامه بموته.
3879 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ سَلِيمِ بْنِ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا".
تَابَعَهُ عَبْدُ الصَّمَدِ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (عبد الله بن أبي شيبة) قال: (حدّثنا يزيد بن هارون) بن زاذان السلمي مولاهم أبو خالد الواسطي، وسقط ابن هارون لغير أبي ذر (عن سليم بن حيان) بفتح السين مصححًا عليها في الفرع أصله وكسر اللام وحيان بفتح الحاء المهملة والتحتية المشددة الهذلي البصري قال: (حدّثنا سعيد بن ميناء) بكسر الميم ممدودًا (عن جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما-) (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلّى على أصحمة النجاشي) صلاة الغيبة (فكبّر عليه أربعًا) واستنبط منه الصلاة على الغائب لكنها لا تسقط الفرض. (تابعه) أي تابع يزيد بن هارون (عبد الصمد) بن عبد الوارث في روايته إياه عن سليم بن حيان.
3880 - حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَخْبَرَهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَعَى لَهُمُ النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ».
وبه قال: (حدّثنا زهير بن حرب) بضم الزاي مصغرًا أبو خيثمة الحافظ قال: (حدّثنا يعقوب بن إبراهيم) قال: (حدّثنا أبي) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن

(6/199)


عبد الرحمن بن عوف الزهري (عن صالح) هو ابن كيسان (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري أنه (قال: حدّثني) بالإفراد (أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف (وابن المسيب) سعيد (أن أبا هريرة -رضي الله عنه- أخبرهما أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نعى لهم النجاشي صاحب الحبشة) أي أخبر أصحابه بموته (في اليوم الذي مات فيه) وهو علم من أعلام نبوّته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وقال) لهم:
(استغفروا لأخيكم) في الإسلام النجاشي.
3881 - وَعَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَخْبَرَهُمْ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَفَّ بِهِمْ فِي الْمُصَلَّى فَصَلَّى عَلَيْهِ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا".
(وعن صالح) أي ابن كيسان بالسند السابق (عن ابن شهاب) الزهري أنه (قال: حدّثني) بالإفراد (سعيد بن المسيب) وسقط لأبي ذر ابن المسيب وثبت له عن الكشميهني حدّثني بالإفراد أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد (إن أبا هريرة -رضي الله عنه- أخبرهم أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صف بهم في المصلى) خارج المدينة (فصلى عليه) على النجاشي (وكبر أربعًا) ولأبي ذر وكبر عليه أربعًا وهذا النجاشي هو الذي هاجر إليه المسلمون، وكتب له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلام مع عمرو بن أمية سنة ست من الهجرة وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب، وأما النجاشي الذي ولي بعده الحبشة فكان كافرًا لم يعرف له إسلام ولا اسم.

39 - باب تَقَاسُمُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(باب تقاسم المشركين) أي تحالفهم (على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وسقط لفظ باب لأبي ذر.
3882 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ أَرَادَ حُنَيْنًا: مَنْزِلُنَا غَدًا -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ».
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) الأويسي (قال: حدّثني) بالإفراد (إبراهيم بن سعد) بسكون العين القرشي (عن ابن شهاب) الزهري (عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين أراد حنينًا) أي غزوتها:
(منزلنا غدًا إن شاء الله) اعتراض بين المبتدأ وهو قوله منزلنا وخبره وهو قوله: (بخيف بني كنانة) بفتح الخاء المعجمة ما انحدر من غلظ الجبل وارتفع عن مسيل الماء وهو المحصب (حيث تقاسموا) تحالفوا (على الكفر). زاد في الحج من طريق الأوزاعي عن الزهري، وذلك أن قريشًا وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وفي السيرة: وكتبوا بذلك كتابًا بخط بغيض بن عامر بن هاشم وعلقوه في جوف الكعبة وتمادوا على العمل بما فيه من ذلك ثلاث سنين، فاشتد البلاء على بني هاشم في شعبهم وعلى كل من معهم، فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم قوم من قصي ممن ولدتهم بنو هاشم ومن سواهم فأجمعوا أمرهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة، وبعث الله على صحيفتهم الأرضة فأكلت ولحست ما فيها من ميثاق وعهد وبقي ما كان فيها من ذكر الله عز وجل، وأطلع الله تعالى نبيه على ذلك فأخبر عمه أبا طالب بذلك فقال: أريك أخبرك بذلك؟ قال: نعم. فقال أبو طالب: لا والثواقب ما كذبتني، ثم خرج أبو طالب فقال: يا معشر قريش إن ابن أخي أخبرني أن الله عز وجل قد سلّط على صحيفتكم الأرضة فإن كان كما يقول: فوالله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلاً دفعنا إليكم صاحبنا قتلتم أو استحييتم فقالوا: قد
رضينا بالذي تقول، ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما أخبر فقالوا: هذا سحر ابن أخيك وزادهم ذلك بغيًا وعدوانًا.
ويأتي إن شاء الله تعالى ما في حديث الباب من المباحث في الفتح بعون الله وقوته.

40 - باب قِصَّةُ أَبِي طَالِبٍ
(باب قصة أبي طالب) عبد مناف عم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شقيق عبد الله وكافله بعد موت عبد المطلب، وتوفي أبو طالب بعد خروجهم من الشعب سنة عشر من المبعث وسقط لفظ باب لأبي ذر.
3883 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رضي الله عنه-: «قَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ، قَالَ: هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ». [الحديث 3883 - طرفاه في: 6208، 6572].
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن سفيان) الثوري أنه قال: (حدّثنا عبد الملك بن عمير) بضم العين مصغرًا قال: (حدّثنا عبد الله بن الحرث) بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب قال: (حدّثنا العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه-) أنه (قال للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما أغنيت عن عمك) أبي طالب أي أيّ شيء دفعته عنه (فوالله) كذا في الفرع وغيره، والذي في اليونينية والناصرية (فإنه كان يحوطك) يصونك

(6/200)


ويحفظك ويذب عنك (ويغضب لك قال) عليه الصلاة والسلام:
(هو في ضحضاح) بفتح الضادين المعجمتين وحاءين مهملتين أولاهما ساكنة يبلغ كعبه (من نار) وأصله مارق من الماء على وجه الأرض إلى نحو الكعبين فاستعير للنار (ولولا أنا) شفعت فيه (لكان في الدرك الأسفل من النار) أي أقصى قعرها. وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: الدرك الأسفل توابيت من حديد مقفلة في النار. وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: بيت يقفل عليهم تتوقد فيه النار من فوقهم ومن تحتهم.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الأدب ومسلم في الإيمان.
3884 - حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ- فَقَالَ: أَيْ عَمِّ، قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَالاَ يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَىْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ، فَنَزَلَتْ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]، وَنَزَلَتْ: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (محمود) هو ابن غيلان العدوي مولاهم المروزي قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن همام نافع الحميري مولاهم أبو بكر الصنعاني (قال: أخبرنا معمر) هو ابن راشد الأزدي الأسدي مولاهم البصري (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن ابن المسيب) سعيد (عن أبيه) المسيب بن حزن بفتح المهملة وسكون الزاي ابن أبي وهب المخزومي له ولأبيه صحبة (أن أبا طالب لما حضرته الوفاة) قبل أن يدخل في الغرغرة (دخل عليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعنده أبو جهل) عمرو بن هشام بن المغيرة عدوّ الله فرعون هذه الأمة (فقال) عليه الصلاة والسلام له:
(أي عم قل لا إله إلا الله كلمة) نصب بدلاً من مقول القول وهو لا إله إلا الله (أحاج) بضم الهمزة بعدها حاء مهملة وبعد الألف جيم مشددة وفي الجنائز أشهد (لك بها عند الله) (فقال: أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية) بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وقد أسلم عبد الله هذا يوم الفتح واستشهد في غزوة حنين (يا أبا طالب ترغب) ولأبي ذر أترغب بهمزة الاستفهام (عن ملة عبد المطلب فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به): أنا (على ملة عبد المطلب فقال) له (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (لأستغفرن لك) كما استغفر إبراهيم لأبيه، ولأبي ذر عن الكشميهني: لأستغفرن له بالهاء بدل الكاف (ما لم أنه) بضم الهمزة وسكون النون مبنيًا للمفعول (عنه) أي ما لم ينهني الله عن الاستغفار له (فنزلت {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى}) [التوبة: 113] أي ما صح الاستغفار في حكم الله وحكمته ({من بعدما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم}) [التوبة: 113] من بعد ما ظهر لهم أنهم ماتوا على الشرك فهو كالعلة للمنع من الاستغفار لهم وسقط لأبي ذر من قوله: {ولو كانوا أولي قربى} الخ وقال: قوله: {للمشركين} إلى {أصحاب الجحيم} (ونزلت): في أبي طالب وفي نسخة ونزل: ({إنك لا تهدي من أحببت}) [القصص: 56] أي أحببت هدايته أو أحببته لقرابته أي ليس ذلك إليك إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء وله الحكمة المبالغة والحجة الدامغة، وقد كان أبو طالب يحوطه عليه الصلاة والسلام وينصره ويحبه حبًّا طبيعيًا لا شرعيًّا فسبق القدر فيه واستمر على كفره ولله الحجة السامية، ولا ننافي بين هذه الآية وبين قوله: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} [الشورى: 52] لأن الذي أثبته وأضافه إليه الدعوة والذي نفى عنه هداية التوفيق وشرح الصدر، ويأتي مزيد لما ذكر هنا في تفسير سورة براءة بعون الله.
3885 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَني ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-: «أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ- فَقَالَ: لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ، يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ».
[الحديث 3885 - طرفه في: 6564].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر حدّثني (الليث) بن سعد قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر حدّثني (ابن الهاد) هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي (عن عبد الله بن خباب) بفتح المعجمة والموحدة المشددة الأولى الأنصاري التابعي (عن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان (الخدري) بالدال المهملة -رضي الله عنه- (أنه سمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وذكر) بضم الذال المعجمة وكسر الكاف (عنده عمه) أبو طالب (فقال):
(لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار) بضادين معجمتين مفتوحتين بينهما حاء مهملة وهو ما رق من الماء على وجه الأرض إلى نحو الكعبين ثم استعير للنار (يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه) بفتح التحتية وسكون الغين المعجمة وكسر اللام.
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن حمزة) بالحاء المهملة والزاي الزبيري الأسدي المدني قال: (حدّثنا ابن

(6/201)


أبي حازم) سلمة بن دينار (والدراوردي) بفتح الدال المهملة الأولى والراء وبعد الألف واو مفتوحة وسكون الراء بعدها دال مهملة فتحتية عبد العزيز بن محمد (عن يزيد) بن الهاد (بهذا) الحديث المذكور (وقال): (تغلي منه أم دماغه) أي أصله، وفي رواية يونس عن ابن إسحاق فقال: يغلي منها دماغه حتى يسيل على قدميه. قال السهيلي: من باب النظر في حكمة الله ومشاكلة الجزاء للعمل أن أبا طالب كان معه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بجملته متحزبًا له إلا أنه كان مثبتًا لقدمه على ملة عبد المطلب حتى قال عند الموت: أنا على ملة عبد المطلب فسلط العذاب على قدميه خاصة لتثبيته إياهما على ملة آبائه.

41 - باب حَدِيثِ الإِسْرَاءِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1]
(باب حديث الإسراء) سقط التبويب لأبي ذر (وقول الله تعالى: {سبحان}) تنزيه لله تعالى عن السوء وهو علم للتسبيح كعثمان للرجل. قال الراغب: السبح المرّ السريع في الماء أو في الهواء. يقال: سبح سبحًا وسباحة وأستعير لمرّ النجوم في الفلك كقوله تعالى: {كل في فلك يسبحون} [الأنبياء: 33] ولجري الفرس: {والسابحات سبحًا} [النازعات: 3] ولسرعة الذهاب في العمل {إن لك في النهار سبحًا طويلاً} [المزمل: 7] والتسبيح أصله التنزيه للباري جل وعلا، والمرّ السريع في عبادته عز وجل، وجعل ذلك في فعل الخير كما جعل الإبعاد في الشر، وقيل أبعده الله ثم جعل التسبيح عامًا في العبادات قولاً كانت أو فعلاً أو نيّة قال تعالى: {فلولا أنه كان من المسبحين} [الصافات: 143] وقال عز وجل: {ونحن نسبح بحمدك} [البقرة: 30] وسبحان أصله مصدر كغفران. قال أبو البقاء: سبحان اسم واقع موقع المصدر، وقد اشتق منه سبحت والتسبيح ولا يكاد يستعمل إلا مضافًا لأن الإضافة تبين من المعظم، فإذا أفرد عن الإضافة
كان اسمًا علمًا للتسبيح لا ينصرف للتعريف والألف والنون في آخره مثل عثمان. وقال ابن الحاجب: والدليل على أن سبحان علم التسبيح قول الشاعر:
قد قلت لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
ولولا أنه علم لوجب صرفه لأن الألف والنون في غير الصفات إنما تمنع مع العلمية ولا يستعمل علمًا إلا شاذًا وأكثر استعماله مضافًا وليس بعلم لأن الأعلام لا تضاف ({الذي أسرى بعبده}) [الإسراء: 1] سيدنا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأسرى وسرى واحد، لكن قال السهيلي: تسامح اللغويون في سرى وأسرى وجعلوهما بمعنى واحد، واتفقت الرواة على تسمية الإسراء به عليه السلام إسراء ولم يسمه أحد منهم سرى، فدلّ على أنهم لم يحققوا فيه العبارة ولذلك لم يختلف في تلاوة أسرى دون سرى. وقال: {والليل إذا يسر} [الفجر: 4] فدلّ على أن السرى من سريت إذا سرت ليلاً وهي مؤنثة تقول طالت سراك الليلة والإسراء متعد في المعنى لكن حذف مفعوله كثيرًا حتى ظن أنهما بمعنى لما رأوهما غير متعديين في اللفظ إلى مفعول، وإنما أسرى بعبده أي جعل البراق يسري به وحذف المفعول للدلالة عليه إذ المقصود بالخبر ذكره لما ذكر الدابة التي سرت به اهـ.
({ليلاً}) [الإسراء: 1] نصب على الظرفية وقيده بالليل والإسراء لا يكون إلا بالليل للتأكيد أو ليدل بلفظ التنكير على تقليل مدة الإسراء أو أنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مدة أربعين ليلة ({من المسجد الحرام}) [الإسراء: 1] روي أنه من بيت أم هانئ، فالمراد بالمسجد الحرام المحرم كله لإحاطته بالمسجد والتباسه به، وكان الإسراء به يقظة إذ لا فضيلة للحالم ولا مزية للنائم ({إلى المسجد الأقصى}) [الإسراء: 1] هو بيت المقدس لأنه لم يكن حينئذٍ وراءه مسجد وهو معدن الأنبياء من لدن الخليل، ولذا جمعوا له هنالك كلهم فأمهم في محلتهم ودارهم ليدل ذلك على أنه الرئيس المقدم، والإمام الأعظم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشرف وكرم وسقط قوله من المسجد الحرام إلخ لأبي ذر.
3886 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: «سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: لَمَّا كَذَّبَنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ». [الحديث 3886 - طرفه في: 4710].
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي مولاهم المصري قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن عقيل) بضم العين وفتح القاف ابن خالد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري أنه قال: (حدّثني) بالإفراد (أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف قال:

(6/202)


(سمعت جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(لما كذبني) بتشديد الذال المعجمة، ولأبي ذر عن الكشميهني: كذبتني بتاء التأنيث. بعد الموحدة (قريش) أي إذ أخبرهم أنه جاء بيت المقدس في ليلة واحدة رجع (قمت في الحجر) بكسر
الحاء المهملة وسكون الجيم (فجلا الله) بالجيم وتخفيف اللام، ولأبي ذر عن الكشميهني: فجلى الله بتشديدها كشف (لي بيت المقدس) بأن أزال الحجاب بيني وبينه (فطلّقت) بكسر الفاء وسكون القاف (أخبرهم عن آياته) علاماته (وأنا أنظر إليه).
وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع عند دار عقيل فنعته وأنا أنظر إليه" رواه البزار.
وفي الدلائل للبيهقي من طريق صالح بن كيسان عن الزهري عن أبي سلمة قال: افتتن ناس يعني عقب الإسراء فجاء ناس إلى أبي بكر -رضي الله عنه- فذكروا له فقال: أشهد أنه صادق.
فقالوا: أوتصدقه أنه أتى الشام في ليلة واحدة ثم رجع إلى مكة؟ قال: نعم أصدقه بأبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء قال: فسمي بذلك الصديق.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في التفسير، ومسلم في الإيمان، والترمذي والنسائي في التفسير.

42 - باب الْمِعْرَاجِ
(باب المعراج) بكسر الميم. قال في النهاية: مفعال من العروج وهو الصعود كأنه آلة له.
وقال في الصحاح: عرج في الدرجة والسلم يعرج عروجًا أي ارتقى والمعراج السلم ومنه ليلة المعراج والجمع معارج ومعاريج مثل مفاتح ومفاتيح. قال الأخفش: إن شئت جعلت الواحد معرج ومعرج مثل مرقاة ومرقاة والمعارج والمصاعد اهـ.
وسميت بليلة المعراج لصعود النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيها. وظاهر صنيع البخاري هنا أن ليلة الإسراء كانت غير ليلة المعراج حيث أفرد كل واحدة منهما بترجمة، لكن قوله في أول الصلاة باب كيف فرضت الصلاة ليلة الإسراء يدل على اتحادهما فإن الصلاة إنما فرضت في المعراج، وإنما أفرد كلاً منهما بترجمة لأن كلاًّ منهما يشتمل على قصة منفردة وإن كانا وقعا معًا، والجمهور على أن وقوعهما معًا، في ليلة واحدة في اليقظة. بجسده المكرّم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقيل وقع ذلك مرتين مرة في المنام توطئة وتمهيدًا ومرة في اليقظة. وذهب الأكثرون إلى أنه كان في ربيع الأول قبل الهجرة بسنة وقيل كان في رجب، وعن الزهري أنه كان بعد المبعث بخمس سنين، ورجحه القرطبي والنووي. وعند ابن أبي شيبة من حديث جابر وابن عباس -رضي الله عنهما- قالا: ولد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم الاثنين وفيه بعث وفيه عرج به إلى السماء وفيه مات.
3887 - حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ -رضي الله عنه-: «أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ -وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ- مُضْطَجِعًا، إِذْ أَتَانِي آتٍ فَقَدَّ - قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَشَقَّ -مَا
بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ. فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهْوَ إِلَى جَنْبِي: مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ -وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ مِنْ قَصِّهِ إِلَى شِعْرَتِهِ- فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أُعِيدَ، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ. -فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ: هُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟ قَالَ أَنَسٌ: نَعَمْ- يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ، فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفَتَحَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ، فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلاَمَ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالاِبْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ. فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا خَالَةِ. قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمْتُ، فَرَدَّا، ثُمَّ قَالاَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يُوسُفُ. قَالَ: هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: أوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِلَى إِدْرِيسَ، قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ. قَالَ: هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى قَالَ: هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى، قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لأَنَّ غُلاَمًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ ممَنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي. ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ، ونِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: هَذَا أَبُوكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. قَالَ:
فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلاَمَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالاِبْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبِقُهَا مِثْلُ قِلاَلِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ. قَالَ: هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ. فَقُلْتُ: مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهَرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ. ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ. ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: هِيَ الْفِطْرَةُ أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ. ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ. فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قَالَ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ. فَرَجَعْتُ، فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ. فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ. فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ. فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ. فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ. قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ، وَلَكِنْ أَرْضَى وَأُسَلِّمُ. قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي»
وبه قال: (حدّثنا هدبة بن خالد) بضم الهاء وسكون الدال المهملة بعدها موحدة القيسي قال: (حدّثنا همام بن يحيى) بفتح الهاء وتشديد الميم الأولى ابن دينار العوذي بفتح العين المهملة وبعد الواو الساكنة ذال معجمة مكسورة قال: (حدّثنا قتادة) بن دعامة (عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة) بفتح الصادين المهملتين وسكون العين المهملة الأنصاري (-رضي الله عنهما- أن نبي الله) ولأبي ذر: أن النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حدثهم عن ليلة أسري به) فيها بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول أنه (قال):
(بينما) بالميم (أنا) كائن (في الحطيم) أي في الحجر بكسر الحاء وسكون الجيم وسقط قوله قال: في اليونينية (وربما قال): (في الحجر) بدل الحطيم والشك من قتادة، وفي بدء الخلق: بينا أنا عند البيت وهو أعم (مضطجعًا) نصب على الحال (إذ أتاني أت) هو جبريل عليه السلام (فقدّ) بالفاء والقاف والمهملة المشدّدة المفتوحات شق طولاً (قال): قتادة (وسمعته) أي أن أنسًا (يقول): (فشق ما بين هذه إلى هذه فقلت للجارود) بفتح الجيم وبعد الألف راء مضمومة فواو فدال مهملة ابن سبرة البصري التابعي صاحب أنس -رضي الله عنه- (وهو إلى جنبي) بفتح الجيم وسكون النون وكسر الموحدة (ما يعني) أنس (به؟) بقوله فشق ما بين هذه إلى هذه (قال): يعني به (من
ثغرة نحره) بمثلثة مضمومة وسكون المعجمة بعدها راء الموضع المنخفض بين الترقوتين (إلى شعرته) بكسر الشين

(6/203)


المعجمة وسكون العين المهملة عانته أو منبت شعرها. قال قتادة: (وسمعته) أي سمعت أنسًا -رضي الله عنه- (يقول) أيضًا شق (من قصته) بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة رأس صدره (إلى شعرته فاستخرج قلبي ثم أتيت) بضم الهمزة (بطست) بفتح الطاء وسكون السين المهملتين (من ذهب) قبل تحريم استعماله (مملوءة) بالتأنيث على لفظ الطست لأنها مؤنثة وبالجر على الصفة (إيمانًا) نصب على التمييز ملأ حقيقة وتجسيد المعاني جائز كتمثيل الموت كبشًا أو مجازًا من باب التمثيل كما مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط. وفائدته كشف المعنوي بالحسي (فغسل) بضم الغين أي غسل جبريل (قلبي) وفي مسلم كالمؤلّف في كتاب الصلاة: بماء زمزم لأنه أفضل المياه وفيه تقوية القلب (ثم حشي) بضم المهملة وكسر المعجمة إيمانًا وحكمة وفي الصلاة ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا فأفرغه في صدري ثم أطبقه (ثم أعيد) موضعه من الصدر المقدس وإنما أتي بالطست لأنه أشهر آلات الغسل عرفًا وبالذهب لكونه أعلى الأواني الحسية وأصفاها، وحكمة الغسل ليتقوى على استجلاء الأسماء الحسنى والثبوت في المقام الأسنى، وقد أنكر القاضي عياض -رحمه الله- شق الصدر المقدس ليلة الإسراء وقال: إنما كان ذلك وهو صغير في بني سعد عند مرضعته حليمة وتعقبوه بأن ذلك وقع مرتين. الأولى: عند حليمة لنزع العلقة التي قيل له عندها هذا حظ الشيطان منك، ولذا أنشأ على أكمل الأحوال من العصمة، والثانية: عند الإسراء. وقد روى الطيالسي والحرث في مسنديهما من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن الشق وقع مرة أخرى عند مجيء جبريل عليه السلام له بالوحي في غار حراء لزيادة الكرامة وليتلقى الوحي بقلب قوي على أكمل الأحوال من التقديس، وقد وقع في ذلك من الخوارق ما يدهش السامع فسبيلنا الإيمان به والتسليم من غير أن نتكلف إلى التوفيق بين المنقول والمعقول للتبرئ مما يتوهم أنه محال من شق البطن وإخراج القلب المؤدّيين إلى الموت لا محالة، ونحن بحمد الله لا نرى العدول عن الحقيقة إلى المجاز في خبر الصادق إلا في الأمر المحال على القدرة وسقط قوله ثم أعيد لغير أبي ذر.
(ثم أتيت) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول (بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض) اللون والتذكير باعتبار المركوب، وعند الثعلبي بسند ضعيف من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- لها خدّ كخدّ الإنسان وعرف كالفرس وقوائم كالإبل وأظلاف وذنب كالبقر وكان صدره ياقوتة حمراء (فقال له): أي لأنس -رضي الله عنه- (الجارود) بن أبي سبرة (هو البراق يا أبا حمزة) استفهام حذفت منه الأداة وأبو حمزة بالحاء المهملة والزاي كنية أنس -رضي الله عنه- (قال أنس: نعم) هو البراق (يضع خطوه) بفتح الخاء المعجمة وسكون الطاء المهملة (عند أقصى طرفه) بفتح المهملة وسكون الراء بعدها فاء أي يضع رجله عند منتهى ما يرى بصره، وهو يدل على أنه كان يمشي على وجه الأرض. وروى ابن سعد عن الواقدي بأسانيده: له جناحان ولعله يشعر بأنه يطير بين السماء والأرض (فحملت عليه) بضم الحاء مبنيًّا للمفعول (فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا) فيه حذف صرح به
البيهقي في دلائله من حديث أبي سعيد ولفظه: فإذا أنا بدابة كالبغل يقال له البراق، وكانت الأنبياء تركبه قبلي فركبته. الحديث. قال: ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس فصليت ثم أتيت بالمعراج، وعند ابن إسحاق: ولم أر قط شيئًا أحسن منه، وهو الذي يمدّ إليه الميت عينيه إذا احتضر، وفي رواية كعب: فوضعت له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب حتى عرج هو وجبريل، وفي شرف المصطفى لابن سعد: أنه منضد باللؤلؤ عن يمينه ملائكة وعن يساره ملائكة، وعند ابن أبي حاتم من رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس -رضي الله عنه-: فلم ألبث إلاّ يسيرًا حتى اجتمع ناس كثير ثم أذن مؤذن فأقيمت الصلاة فأخذ بيدي جبريل فقدمني فصليت بهم، وعند أحمد من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- فلما أتى النبي -صَلَّى اللَّهُ

(6/204)


عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المسجد الأقصى فإذا النبيون أجمعون يصلون معه والأظهر أن صلاته بهم ببيت المقدس كانت قبل العروج ثم عرج به إلى السماء الدنيا.
(فاستفتح) جبريل (فقيل) ولأبي ذر قيل (من هذا؟) الذي يقرع الباب (قال جبريل: قيل)
ولأبي ذر قال: أي خازن السماء (ومن معك؟ قال): جبريل معي (محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟) للعروج به (قال): جبريل (نعم). أرسل إليه (قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء) قال ابن مالك: في شواهده في هذا الكلام شاهد على الاستغناء بالصلة عن الموصول أو الصفة عن الموصوف في باب: نعم لأنها تحتاج إلى فاعل هو المجيء وإلى مخصوص بمعناها وهو مبتدأ مخبر عنه بنعم وفاعلها فهو في هذا الكلام وشبهه موصول أو موصوف بجاء، والتقدير ونعم المجيء الذي جاء أو نعم المجيء مجيء جاء وكونه موصولاً أجود لأنه مخبر عنه والمخبر عنه إذا كان معرف أولى من كونه نكرة (ففتح) خازنها الباب (فلما خلصت) بفتح اللام أي وصلت (فإذا فيها آدم فقال) له جبريل: (هذا أبوك آدم فسلم عليه) لأن المار يسلم على القاعد وإن كان المار أفضل من القاعد (فسلمت عليه فردّ) علي (السلام ثم قال) له آدم: (مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح ثم صعد) جبريل (حتى) ولأبي ذر ثم صعد بي حتى (أتى السماء الثانية فاستفتح) جبريل بابها (قيل) ولأبي ذر فقيل (من هذا؟) الذي يقرع الباب (قال جبريل. قيل: ومن معك؟ قال): معي (محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال) جبريل: (نعم) أرسل إليه (قيل مرحبًا به فنعم المجيء) الذي (جاء) أو نعم المجيء مجيء جاء (ففتح) الخازن الباب (فلما خلصت إذا يحيى) بن زكريا (وعيسى) ابن مريم (وهما ابنا الخالة) لأن أم يحيى إيشاع بنت فاقوذ أخت حنة بالحاء المهملة والنون المشدّدة بنت فاقوذ أم مريم، وذلك أن عمران بن ماثان تزوج حنة وزكريا تزوج إيشاع فولدت يحيى وولدت حنة مريم فتكون إيشاع خالة مريم وحنة خالة يحيى فهما ابنا خالة بهذا الاعتبار وليس عمران هذا أبا موسى إذ بينهما فيما قيل ألف وثمانمائة سنة ولأبي ذر: ابنا خالة. (قال) جبريل له عليه الصلاة والسلام: (هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما فسلمت عليهما فردّا) علي السلام (ثم قالا): لي: (مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد) جبريل (إلى السماء الثالثة فاستفتح) جبريل الباب (قيل) له، ولأبي ذر: فقيل (من هذا؟) الذي يستفتح (قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال)
جبريل: معي (محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟) للعروج به (قال: نعم. قيل مرحبًا به فنعم المجيء) مجيء (جاء ففتح) بضم الفاء الثانية مبنيًّا للمفعول (فلما خلصت إذا يوسف قال) لي جبريل: (هذا يوسف فسلّم عليه فسلمت عليه فردّ) عليّ السلام (ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد بي) جبريل (حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح) جبريل (قيل) له: (من هذا؟ قال جبريل: قيل) ولأبي ذر: قال: (ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم) أرسل إليه (قيل مرحبًا به فنعم المجيء) الذي (جاء ففتح) بضم الفاء مبنيًّا للمفعول لنا (فلما خلصت إلى إدريس) وللأربعة: فإذا إدريس (قال) جبريل: (هذا إدريس فسلم عليه فسلمت عليه) ولغير الكشميهني سقوط لفظ عليه (فرد) عليّ السلام (ثم قال) لي: (مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح) فيه رد على النسابة في قولهم إن إدريس جد نوح وإلاّ لقال والابن الصالح كما قال: آدم (ثم صعد) جبريل (بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح) جبريل (قيل) له: (من هذا؟) الذي يستفتح (قال: جبريل. قيل) ولأبي ذر: (ومن معك؟ قال) جبريل: (محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) سقطت التصلية لأبي ذر (قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل مرحبًا به فنعم المجيء جاء) قيل المخصوص بالمدح محذوف وفيه تقديم وتأخير والتقدير جاء فنعم المجيء مجيئه (فلما خلصت فإذا هارون قال: هذا هارون فسلّم عليه فسلمت عليه فرد) السلام علي (ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد بي) جبريل (حتى أتى السماء السادسة فاستفتح) جبريل (قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: من) ولأبي ذر

(6/205)


قال: ومن (معك؟ قال): معي (محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟) سقطت واو وقد لأبي ذر (قال: نعم قال: مرحبًا به فنعم المجيء جاء فلما خلصت فإذا موسى) قال في المصابيح: إن الفاء فيه وفي فإذا إبراهيم زائدة (قال) جبريل: (هذا موسى فسلّم عليه فسلّمت عليه فرد) عليّ السلام (ثم قال) له: (مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح فلما تجاوزت) بالجيم والزاي أي موسى (بكى. قيل) ولأبي ذر فقيل وفي نسخة قال: (له ما يبكيك؟) يا موسى (قال: أبكي لأن غلامًا بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن) ولأبي ذر عن الكشميهني أكثر ممن (يدخلها من أمتي) ليس بكاؤه حسدًا حاشاه الله بل أسفًا على ما فاته من الأجر المترتب عليه رفع درجته بسبب ما حصل من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم المستلزم ذلك لنقص أجره لأن لكل نبي مثل أجر جميع من اتبعه، وقوله غلام مراده به أنه صغير السن بالنسبة إليه، وقد أنعم الله عليه بما لم ينعم به عليه مع طول عمره (ثم صعد بي) جبريل (إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم قال: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم) الخليل (قال) جبريل (هذا أبوك) إبراهيم (فسلّم عليه قال: فسلمت عليه فرد السلام قال): وفي نسخة فقال: ولأبي ذر ثم قال: (مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح). وقد استشكل رؤية الأنبياء في السماوات مع أن أجسادهم مستقرة في قبورهم بالأرض. وأجيب: بأن أرواحهم تشكلت بصور أجسادهم أو أحضرت أجسادهم لملاقاته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تلك الليلة تشريفًا له وتكريمًا (ثم رفعت لي) أي لأجلي بضم الراء
وكسر الفاء وفتح العين المهملة وتسكين الفوقية (سدرة المنتهى) التي ينتهي إليها ما يعرج من الأرض فيقبض منها، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: ثم رفعت بسكون العين وضم الفوقية وإلى الجارة وسدرة جرّ بها وجمع بين الروايتين بأنه رفع إليها وظهرت له كل الظهور حتى اطلع عليها كل الاطّلاع (فإذا نبقها) بكسر الموحدة ثمر السدرة (مثل قلال هجر) بكسر القاف وهجر بفتح الهاء والجيم اسم بلد لا ينصرف للعلمية والتأنيث ومراده أن ثمرها في الكبر كالجرار التي تصنع بها وكانت معروفة عند المخاطبين، فلذا وقع التمثيل بها، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: مثل قلال الهجر بالتعريف (وإذا ورقها مثل آذان الفيلة) بكسر الفاء وفتح التحتية جمع فيل وقول الزركشي بفتح الفاء والياء تعقبه في المصابيح بأنه سهو (قال) لي جبريل: (هذه سدرة المنتهى وإذا أربعة أنهار) تخرج من أصلها (نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران) يجريان (في الجنة) ويجريان من أصل سدرة المنتهى ثم يسيران حيث يشاء الله ثم ينزلان إلى الأرض ثم يسيران فيها وقال مقاتل: الباطنان السلسبيل والكوثر (وأما الظاهران فالنيل) نهر مصر (والفرات) بالمثناة الفوقية خطأ وصلاً ووقفًا لا بالهاء نهر بغداد (ثم رفع لي البيت المعمور) زاد الكشميهني يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، وزاد في بدء الخلق: إذا خرجوا لم يعودوا (ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل فأخذت اللبن) فشربت منه (فقال) جبريل: (هي الفطرة) الإسلامية (أنت) ولأبي ذر التي أنت (عليها وأمتك) وفي الأشربة من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: ولو أخذت الخمر لغوت أمتك. وعند البيهقي عن أنس: ولو شربت الماء غرقت وغرقت أمتك. وفي مسلم أن إتيانه بالآنية كان ببيت المقدس قبل المعراج، ويحتمل أن الآنية عرضت عليه مرتين مرة عند فراغه من الصلاة ببيت المقدس ومرة عند وصوله إلى سدرة المنتهى.
(ثم فرضت) بالبناء للمفعول (عليّ الصلوات) بالجمع ولأبي ذر الصلاة (خمسون صلاة كل يوم) وزاد في الصلاة ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام قال ابن حزم وفي رواية أنس بن مالك قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ففرض الله

(6/206)


عز وجل على أمتي خمسين صلاة (فرجعت فمررت على موسى فقال: بما) ولأبي ذر بم (أمرت؟) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول (قال) نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قلت له: (أمرت بخمسين صلاة كل يوم) وليلة (قال) موسى عليه السلام: (إن أمتك لا تستطيع) أن تصلي (خمسين صلاة كل يوم) وليلة (وإني والله قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك) قال عليه الصلاة والسلام: (فرجعت) إلى ربي (فوضع عني عشرًا) من الخمسين (فرجعت إلى موسى) فأخبرته (فقال: مثله) إن أمتك لا تستطيع الخ (فرجعت فوضع عني عشرًا) من الأربعين (فرجعت إلى موسى) (فقال: مثله) (فرجعت فوضع عني عشرًا) من الثلاثين (فرجعت إلى موسى) (فقال: مثله) (فرجعت فأمرت بعشر صلوات) بالإضافة وفي اليونينية بعشر بالتنوين (كل يوم) وليلة (فرجعت) إلى موسى سقط لفظ فرجعت لأبي ذر وإلى موسى للكل (فقال) موسى: (مثله فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم) وليلة (فرجعت إلى موسى فقال: بما) بألف بعد الميم ولأبي ذر بم (أمرت؟ قلت) (أمرت بخمس
صلوات كل يوم) (قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك قال): عليه الصلاة والسلام فقلت له: (سألت ربي حتى استحييت) فلا أرجع فإني إن رجعت صرت غير راض ولا مسلم (ولكن) ولأبي ذر عن الكشميهني: ولكني (أرضى وأسلم) (قال) عليه الصلاة والسلام: (فلما جاوزت ناداني مناد) والذي في اليونينية نادى مناد (أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي) وهذا من أقوى ما يستدل به على أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كلمه ربه ليلة الإسراء بغير واسطة كما قاله في الفتح.
3888 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ قَالَ هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ". [الحديث 3888 - طرفاه في: 4716، 6613].
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا عمرو) بفتح العين ابن دينار (عن عكرمة) مولى ابن عباس -رضي الله عنهما- (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في) تفسير (قوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} [الإسراء: 60] قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله) ولأبي ذر النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة أسري به إلى بيت المقدس) وبذلك تمسك من قال: كان الإسراء في المنام، ومن قال: كان في اليقظة فسر الرؤيا بالرؤية من قوله أريها ليلة أسري به، والإسراء إنما كان في اليقظة لأنه لو كان منامًا ما كذبته قريش فيه وإذا كان ذلك في اليقظة، وكان المعراج في تلك الليلة لزم أن يكون في اليقظة أيضًا إذ لم يقل أحد أنه نام لما وصل إلى بيت المقدس ثم عرج به وهو نائم وإنما كان في اليقظة فإضافة الرؤيا إلى العين للاحتراز عن رؤيا القلب (قال) ابن عباس -رضي الله عنهما-: (والشجرة الملعونة في القرآن قال: هي شجرة الزقوم) واختاره ابن جرير قال: لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك أي في الرؤيا والشجرة.
فإن قلت: ليس في القرآن ذكر لعن شجرة الزقوم. أجيب: بأن المعنى والشجرة الملعون آكلوها وهم الكفار لأنه قال: {فإنهم لآكلون منها فمالؤون منها البطون} [الصافات: 66] فوصفت بلعن أهلها على المجاز ولأن العرب تقول: لكل طعام مكروه وضار ملعون ولأن اللعن هو الإبعاد من الرحمة وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة.

43 - باب وُفُودُ الأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَكَّةَ وَبَيْعَةُ الْعَقَبَةِ
(باب وفود الأنصار) الأوس والخزرج (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمكة وبيعة العقبة) بمنى في الموسم، وكان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعرض نفسه على القبائل كل موسم فلقي عند العقبة ستة نفر من الخزرج وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة، وعوف بن الحرث بن رفاعة وهو ابن عفراء، ورافع بن مالك العجلاني،
وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، وجابر بن عبد الله بن رباب. ومن أهل العلم بالسير من يجعل فيهم عبادة بن الصامت بدل جابر بن رباب، فدعاهم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الإسلام فآمنوا وقالوا: إنّا تركنا قومنا وبينهم حروب فننصرف فندعوهم إلى ما دعوتنا إليه فلعل الله أن يجمعهم بك فإن اجتمعت كلمتهم عليك واتبعوك فلا أحد أعز منك وانصرفوا إلى المدينة

(6/207)


فدعوا قومهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فلما كان العام المقبل قدم مكة من الأنصار اثنا عشر رجلاً منهم خمسة من الستة الذين ذكرناهم وهم: أبو أمامة، وعوف ابن عفراء، ورافع بن مالك، وقطبة، وعقبة. وبقيتهم معاذ بن الحرث بن رفاعة وهو ابن عفراء أخو عوف المذكور، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة الزرقي، وعبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة البلوي حليف بني عصية من بلى، والعباس بن عبادة بن نضلة. وهؤلاء من الخزرج.
ومن الأوس رجلان أبو الهيثم بن التيهان من بني عبد الأشهل وعويم بن ساعدة من بني عمرو بن عوف حليف لهم فبايعوه عند العقبة على بيعة النساء وبعث معهم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابن أم مكتوم ومصعب بن عمير يعلمان من أسلم منهم القرآن وشرائع الإسلام ويدعوان من لم يسلم إلى الإسلام فأسلم على يد مصعب خلق كثير من الأنصار ولم يبق في بني عبد الأشهل أحد من الرجال والنساء إلا أسلم حاشا الأصرم عمرو بن ثابت بن وقش فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أُحد فأسلم واستشهد ولم يسجد لله سجدة واحدة، وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه من أهل الجنة، ثم خرج جماعة كثيرة ممن أسلم من الأنصار يريدون لقاءه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في جملة قوم كفار منهم فوافوا مكة فواعدوه العقبة من أوسط أيام التشريق فبايعوه عند العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم وأن يرحل إليهم هو وأصحابه، وحضر العباس تلك الليلة موثقًا لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومؤكدًا على أهل يثرب وكان يومئذٍ على دين قومه، وكان للبراء بن معرور في تلك الليلة المقام المحمود في التوثق، وكان المبايعون تلك الليلة سبعين رجلاً وامرأتين وسقط لفظ باب لأبي ذر.
3889 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ح.
وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ -وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ حِينَ عَمِيَ- قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِطُولِهِ، قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ فِي حَدِيثِهِ "وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلاَمِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا".
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) بضم الموحدة مصغرًا اسم جده واسم أبيه عبد الله
المخزومي المصري قال: (حدّثنا الليث) بن سعد إمام المصريين (عن عقيل) بضم العين ابن خالد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري قال المؤلّف: (ح).
(وحدّثنا) بالواو الثابتة في رواية أبي ذر (أحمد بن صالح) أبو جعفر المصري قال: (حدّثنا عنبسة) بفتح العين والسين المهملتين بينهما نون ساكنة فموحدة مفتوحة ابن خالد بن يزيد الأيلي قال: (حدّثنا) عمي (يونس) بن يزيد الأيلي واللفظ لعقيل لا ليونس (عن ابن شهاب) أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن) أباه (عبد الله بن كعب وكان قائد كعب) أبيه (حين عمي قال: سمعت) أبي (كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن النبي) ولأبي ذر عن رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة تبوك) الحديث (بطوله. قال ابن بكير في حديثه): أي حديث عقيل (ولقد شهدت مع النبي) وفي نسخة مع رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وضبب في الفرع على لفظ النبي (ليلة العقبة) الثالثة (حين تواثقنا) بالمثلثة والقاف (على الإسلام وما أحب أن لي بها) أي بدلها (مشهد بدر) فالباء باء البدلية (وإن كانت بدر أذكر) بفتح الهمزة وسكون المعجمة وفتح الكاف أي أكثر شهرة (في الناس منها) لأن ليلة العقبة المذكورة كانت أول الإسلام ومنها فشا وتأكد أساسه.
وهذا الحديث مر في الوصايا والجهاد، وأخرجه أيضًا في المغازي والتفسير والاستئذان والأحكام مطوّلاً ومختصرًا.
3890 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: كَانَ عَمْرٌو يَقُولُ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: "شَهِدَ بِي خَالاَيَ الْعَقَبَةَ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: "أَحَدُهُمَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ". [الحديث 3890 - طرفه في: 3891].
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (قال: كان عمرو) بفتح العين ابن دينار (يقول: سمعت جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام بالمهملتين ابن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري (-رضي الله عنهما- يقول: شهد بي) بالموحدة قبل التحتية الساكنة (خالاي) تثنية خال مضاف لياء المتكلم المخففة (العقبة) الثالثة.
(قال أبو عبد الله) البخاري المؤلّف ولأبي ذر قال: عبد الله بن محمد أي الجعفي المسندي (قال ابن عيينة): سفيان (أحدهما)

(6/208)


أي خالي جابر (البراء بن معرور) بمهملات وأم جابر اسمها نسيبة بضم النون بنت عقبة بضم العين وسكون القاف ابن عدي وأخواها ثعلبة وعمرو وهما خالا جابر وقد شهد العقبة الأخيرة، وأما البراء بن معرور فليس من أخوال جابر لكنه كما قال في الفتح كالكرماني من أقارب أمه وأقارب الأم يسمون أخوالاً مجازًا.
3891 - حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ: "أَنَا وَأَبِي وَخَالايَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَقَبَةِ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (إبراهيم بن موسى) بن يزيد الفراء الصغير قال: (أخبرنا هشام)
هو ابن يوسف الصنعاني (أن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (أخبرهم قال عطاء): هو ابن أبي رباح (قال جابر) الأنصاري (أنا وأبي) عبد الله (وخالي) بكسر اللام بالإفراد ولأبي ذر وخالاي بالتثنية (من أصحاب العقبة) الثالثة وكان جابر أصغر من شهدها.
3892 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بن عبد الله «أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ -مِنَ الَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمِنْ أَصْحَابِهِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ- أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: تَعَالَوْا بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ. فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهْوَ لَهُ كَفَّارَةٌ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، قَالَ فَبَايَعْناهُ عَلَى ذَلِكَ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (إسحاق بن منصور) أبو يعقوب الكوسج المروزي قال: (أخبرنا يعقوب بن إبراهيم) بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: (حدّثنا ابن أخي ابن شهاب) محمد بن عبد الله (عن عمه) محمد بن مسلم الزهري أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (أبو إدريس عائذ الله) بالعين المهملة والذال المعجمة ممدودًا (ابن عبد الله) الخولاني أحد الأعلام سقط ابن عبد الله من اليونينية (أن عباة بن الصامت) -رضي الله عنه- ابن قيس (من الذين شهدوا بدرًا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن أصحابه ليلة العقبة) وهو أحد النقباء واحد الستة أهل العقبة الأولى في قول بعضهم واحد الاثني عشر أهل الثانية وأحد السبعين في الثالثة (أخبره أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال وحوله عصابة) بكسر العين المهملة (من أصحابه):
(تعالوا) بفتح اللام (بايعوني) عاقدوني (على) التوحيد (أن لا تشركوا بالله شيئًا و) على أن (لا تسرقوا) شيئًا (و) على أن (لا تزنوا و) على أن (لا تقتلوا أولادكم ولا تأتون) ولأبي ذر والأصيلي وابن عساكر: ولا تأتوا بحذف النون عطفًا على المنصوب السابق (ببهتان) بكذب يبهت سامعه (تفترونه) تختلقونه (بين أيديكم وأرجلكم) أي من قبل أنفسكم فكني باليد والرجل عن الذات لأن معظم الأفعال بها (ولا تعصوني في معروف) قاله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تطييبًا لقلوبهم وإلا فهو -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يأمر إلا بالمعروف (فمن وفى منكم) بتخفيف الفاء بالعهد (فأجره على الله) فضلاً (ومن أصاب) منكم أيها المؤمنون (من ذلك شيئًا) غير الشرك (فعوقب به) بسببه (في الدنيا) بإقامة الحد عليه (فهو) أي العقاب (له كفارة) فلا يعاقب عليه في الآخرة (ومن أصاب من ذلك) المذكور (شيئًا فستره الله فأمره) مفوّض (إلى الله) تعالى (إن شاء عاقبه) بعدله (وإن شاء عفا عنه) بفضله (قال): عبادة (فبايعته) وفي نسخة فبايعناه (على ذلك).
وهذا الحديث سبق في كتاب الإيمان.
3893 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنِ النَّابِحِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: "إِنِّي مِنَ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَالَ: بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لاَ نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ نَسْرِقَ، وَلاَ نَزْنِيَ، وَلاَ نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بالحقّ، وَلاَ نَنْتَهِبَ، وَلاَ نَقْضِيَ بِالْجَنَّةِ إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ، فَإِنْ غَشِينَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَانَ قَضَاءُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ".
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن يزيد بن أبي حبيب) من الزيادة وحبيب بالحاء المهملة المفتوحة والموحدتين بينهما تحتية ساكنة الأزدي أبي رجاء عالم مصر (عن أبي الخير) مرثد بفتح الميم والمثلثة بينهما راء ساكنة وآخره دال مهملة ابن عبد الله المصري (عن الصنابحي) بضم الصاد المهملة وفتح النون المخففة وبعد الألف موحدة مكسورة فحاء مهملة عبد الرحمن بن عسيلة بضم العين وفتح السين المهملتين مصغرًا التابعي (عن عبادة بن الصامت) بن قيس أبي الوليد الخزرجي (-رضي الله عنه- أنه قال إني من النقباء) الاثني عشر (الذين بايعوا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ليلة العقبة الثالثة على الإيواء والنصرة وغيرهما (وقال: بايعناه) أي في وقت آخر (على أن لا نشرك بالله شيئًا) على ترك الإشراك (و) أن (لا نسرق) بحذف المفعول ليدل على العموم (و) أن (لا نزني) بنونين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة ففوقية مفتوحة فهاء مكسورة فموحدة ولأبي ذر عن الكشميهني ولا ننهب بحذف الفوقية وفتح الهاء أي لا نأخذ مال

(6/209)


أحد بغير حق (و) أن (لا نعصي) بالعين والصاد المهملتين أي لا نعصي الله في معروف (بالجنة وإن فعلنا ذلك) متعلق بقوله بايعناه أي بايعناه على أن لا نفعل شيئًا مما ذكر بمقابلة الجنة، وللكشميهني ولا نقضي بالقاف والضاد المعجمة وهو تصحيف وتكلف بعضهم في تأويله فقال نهاهم عن ولاية القضاء قال في الفتح: وهذا يبطله أن عباده ولي قضاء فلسطين في زمن عمر -رضي الله عنه-، وقيل إن قوله بالجنة متعلق بنقضي أي لا نقضي بالجنة لأحد معين بل الأمر موكول إلى الله تعالى لا حكم لنا فيه لكن يبقى قوله: إن فعلنا ذلك لا جواب له (فإن غشينا) بالغين المفتوحة والشين المكسورة المعجمتين والتحتية الساكنة أي إن أصبنا (من ذلك) المنهي عنه (شيئًا كان قضاء ذلك) مفوّضًا (إلى الله) عز وجل إن شاء عفا عنه إن شاء عاقبه.
وظاهر صنيع المؤلّف أن هذه المبايعة وقعت ليلة العقبة وبه جزم القاضي عياض وآخرون.
وقال ابن حجر: إنما هي مبايعة أخرى غير ليلة العقبة وإنما الذي في العقبة أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم إلى آخره ثم صدرت بعد مبايعات أخرى منها هذه التي ذكر فيها هذه المنهيات. ويقوي ذلك نزول آية الممتحنة فإنها بعد فتح مكة، ولقوله في رواية مسلم والنسائي كما أخذ على النساء بل عند الطبراني من وجه آخر عن الزهري: ثم بايعنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ما بايع
عليه النساء يوم فتح مكة، فظهر أن هذه البيعة إنما صدرت بعد نزول الآية بل بعد صدور بيعة العقبة فصح تغاير البيعتين بيعة الأنصار قبل الهجرة وبيعة أخرى بعد فتح مكة، وإنما وقع الالتباس من جهة أن عبادة بن الصامت حضر البيعتين ولما كانت بيعة العقبة من أجل ما يتمدّح به فكان يذكرها إذا حدث تنويهًا بسابقته، ويؤيده أيضًا قوله في هذا الحديث الأخير: ولا ننتهب لأن الجهاد لم يكن فرض والمراد بالانتهاب كما قاله في الفتح ما يقع بعد القتال، لكن تفسير الانتهاب بذلك على الخصوص غير ظاهر على ما لا يخفى، لكن روى ابن إسحاق بسنده عن عبادة قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا اثني عشر رجلاً فبايعنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على بيعة النساء أي على وفق بيعة النساء التي نزلت بعد ذلك عند فتح مكة ففيه الجزم بأنها ليلة العقبة.
وأجيب: بأنه اتفق وقوع ذلك قبل نزول الآية، وأضيفت النساء لضبطها بالقرآن والراجح أن التصريح بذلك وهم من بعض الرواة، والذي دل عليه الأحاديث أن البيعات ثلاثة: العقبة وكانت قبل فرض الحرب، والثانية بعد الحرب على عدم الفرار، والثالثة على نظير بيعة النساء.
وهذا الحديث قد مرّ في كتاب الإيمان.

44 - باب تَزْوِيجُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَائِشَةَ، وَقُدُومِهَا الْمَدِينَةَ، وَبِنَاؤُهُ بِهَا
(باب تزويج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عائشة) -رضي الله عنها- (وقدومها المدينة) بعد الهجرة (وبنائه) عليه الصلاة والسلام (بها) وسقط لفظ باب لأبي ذر فتزويج وبناء رفع على ما لا يخفى.
3894 - حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَنَزَلْنَا فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الخَزْرَجٍ، فَوُعِكْتُ فَتَمَرَّقَ شَعَرِي، فَوَفَى جُمَيْمَةً، فَأَتَتْنِي أُمِّي أُمُّ رُومَانَ -وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ وَمَعِي صَوَاحِبُ لِي- فَصَرَخَتْ بِي فَأَتَيْتُهَا، لاَ أَدْرِي مَا تُرِيدُ بِي، فَأَخَذَتْ بِيَدِي حَتَّى أَوْقَفَتْنِي عَلَى بَابِ الدَّارِ، وَإِنِّي لأَنْهَجُ حَتَّى سَكَنَ بَعْضُ نَفَسِي. ثُمَّ أَخَذَتْ شَيْئًا مِنْ مَاءٍ فَمَسَحَتْ بِهِ وَجْهِي وَرَأْسِي، ثُمَّ أَدْخَلَتْنِي الدَّارَ، فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فِي الْبَيْتِ، فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ. فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِنَّ، فَأَصْلَحْنَ مِنْ شَأْنِي، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلاَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضُحًى، فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ". [الحديث 3894 - أطرافه في: 3896، 5133، 5134، 5156، 5158، 5160].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (فروة بن أبي المغراء) بفتح الميم وسكون الغين المعجمة ممدودًا الكندي قال: (حدّثنا علي بن مسهر) بضم الميم وسكون المهملة قاضي الموصل القرشي الكوفي (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: تزوجني) أي عقد عليّ (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنا بنت ست سنين فقدمنا المدينة) أنا وأمي أم رومان
وأختي أسماء بعد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبي بكر -رضي الله عنه- (فنزلنا في بني الحرث بن خزرج) ولأبي ذر: ابن الخزرج (فوعكت) بضم النواو وسكون الكاف أي حممت (فتمزّق) بالراء المشددة للكشميهني أي انتتف (شعري) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: فتمزق بالزاي أي انقطع، لكن قال القاضي عياض أنه بالزاي عند الكشميهني عكس ما هنا (فوفى) بتخفيف الفاء أي أكثر وفيه حذف تقديره ثم نصلت من الوعك فتربى شعري فكثر (جميمة) بضم الجيم وفتح الميمين بينهما تحتية ساكنة مصغر جمة بضم الجيم من شعر الرأس ما سقط عن المنكبين فإذا كان إلى شحمة

(6/210)


الأذنين سمي وفرة وجميمة بالرفع على الفاعلية وفي الفرع بالنصب (فأتتني أمي أم رومان) زينب الفراسية (وإني لفي أرجوحة) بضم الهمزة وسكون الراء وضم الجيم وبعد الواو حاء مهملة حبل يشد في كل من طرفيه خشبة فيجلس واحد على طرف وآخر على الآخر ويحركان فيميل أحدهما بالآخر نوع من لعب الصغار (ومعي صواحب لي) بغير تنوين (فصرخت بيدي فأتيتها لا) ولأبي ذر عن الكشميهني: ما (أدري ما تريد بي) وللكشميهني: مني (فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار وأني لأنهج) بالنون والجيم مع فتح الهمزة والهاء وبضم الهمزة وكسر الهاء أي أتنفس نفسًا عاليًا من الإعياء (حتى سكن بعض نفسي) بفتح الفاء (ثم أخت شيئًا من ماء فمسحت به وجهي ورأسي ثم أدخلتني الدار فإذا نسوة من الأنصار) لم أعرف أسماءهن (في البيت فقلن: على الخير والبركة وعلى خير طائر) أي على خير حظ ونصيب (فأشلمتني إليهن فأصلحن من شأني فلم يرعني) بفتح التحتية وضم الراء وسكون العين المهملة فلم يفجأني (إلا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قد دخل عليّ (ضحى) على غير علم (فأسلمنني) النسوة الأنصاريات (إليه). وعند أحمد من وجه آخر فوقفت بي عند الباب حتى سكنت نفسي الحديث. وفيه: فإذا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جالس على سرير وعنده رجال ونساء من الأنصار فأجلستني في حجره ثم قالت: هؤلاء أهلك يا رسول الله بارك الله لك فيهم، فوثب الرجال والنساء وبنى بي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بيتنا (وأنا يومئذ بنت تسع سنين) وكان ذلك في شوال من السنة الأولى من الهجرة أو الثانية. وقولها في حديث أحمد -رضي الله عنه- وبنى بي يردّ قول الجوهري في الصحاح العامة تقول: بنى بأهله وهو خطأ، وإنما يقال: بنى على أهله والأصل فيه أن الداخل على أهله يضرب عليه قبة ليلة الدخول ثم قيل لكل داخل بأهله بان اهـ.
وهذا الحديث أخرجه ابن ماجه في النكاح.
3895 - حَدَّثَنَا مُعَلًّى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: «أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهَا أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ: أَرَى أَنَّكِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ وَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَاكْشِفْ، فَإِذَا هِيَ أَنْتِ، فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ». [الحديث 3895 - أطرافه في: 5078، 5125، 7011، 7012].
وبه قال: (حدّثنا معلى) بضم الميم وفتح العين واللام مشددة منونة ابن أسد أبو الهيثم البصري قال: (حدّثنا وهيب) مصغرًا ابن خالد البصري (عن هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن
الزبير بن العوّام (عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لها):
(أريتك) بضم الهمزة (في المنام مرتين) وفي رواية ثلاث مرات (أرى) بفتح الهمزة والراء (أنك) بكسر الكاف (في سرقة) بفتح السين المهملة والراء والقاف في قطعة (من حرير) والمراد أنه يريه صورتها (ويقول): أي جبريل ولأبي ذر عن الكشميهني ويقال: (هذه امرأتك فأكشف) عن وجهك بهمزة قطع وضم الفاء في الفرع والناصرية والذي في اليونينية بهمزة وصل والجزم فعل أمر وزاد في اليونينية عنها (فإذا هي أنت) وفي رواية: فإذا أنت هي أي مثل الصورة التي رأيتها في المنام وهو تشبيه بليغ حيث حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله: كنت أظن أن العقرب أشدّ لسعة من الزنبور فإذا هو هي أي فإذا الزنبور مثل العقرب فحذف الأداة مبالغة فحصل التشابه (فأقول إن يك هذا من عند الله يمضه) بضم أوله.
قال في شرح المشكاة: هذا الشرط مما يقوله المتحقق لثبوت الأمر المدل بصحته تقريرًا لوقوع الجزاء وتحققه ونحوه قول السلطان لمن تحت قهره إن كنت سلطانًا انتقمت منك أي السلطنة مقتضية للانتقام.
وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون ذلك قبل البعثة فلا إشكال فيه وإن كان بعدها ففيه ثلاث احتمالات التردد هل هي زوجته في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط أو أنه لفظ شك لا يراد به ظاهره وهو نوع من البديع عند أهل البلاغة يسمونه تجاهل العارف وسماه بعضهم مزج الشك باليقين أو وجه التردد هل هي رؤيا وحي على ظاهرها وحقيقتها أو رؤيا وحي لها تعبير وكلا الأمرين جائز في حق الأنبياء اهـ.
قال في الفتح: الأخير هو المعتمد، وبه جزم السهيلي عن ابن العربي ثم قال: وتعبيره باحتمال غيرها لا أرضاه والأول يردّه أن

(6/211)


السياق يقتضي أنها كانت قد وجدت فإن ظاهر قوله فإذا هي أنت يشعر بأنه كان قد رآها وعرفها قبل ذلك، والواقع أنها ولدت بعد البعثة ويرد أول الاحتمالات الثلاثة رواية ابن حبان في آخر حديث الباب هي زوجتك في الدنيا والآخرة والثاني بعيد.
3896 - حَدَّثَنا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلاَثِ سِنِينَ، فَلَبِثَ سَنَتَيْنِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، وَنَكَحَ عَائِشَةَ وَهْيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، ثُمَّ بَنَى بِهَا وَهْيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ".
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولغير أبي ذر: حدّثني (عبيد بن إسماعيل) بضم العين مصغرًا من غير إضافة الهباري القرشي الكوفي قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير أنه (قال: توفيت خديجة) أم المؤمنين -رضي الله عنها- (قبل مخرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من مكة (إلى المدينة بثلاث سنين) وقيل بأربع وقيل بخمس (فلبث سنتين أو قريبًا من ذلك) لم يدخل على
أحد من النساء ثم دخل على سودة بنت زمعة قبل أن يهاجر وقبل أن يعقد على عائشة -رضي الله عنها- كما قاله قتادة وغيره ولم يذكر ابن قتيبة غيره وقيل بعد عائشة (ونكح عائشة) أي عقد عليها في شوّال (وهي بنت ست سنين ثم بنى بها) في شوال بعد أن هاجر (وهي بنت تسع سنين) ومكثت عنده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تسعًا، وتوفي وهي بنت ثمان عشرة، وثبت قوله سنين بعد ست لأبي ذر عن الكشميهني وسقطت بعد تسع لأبي ذر.
وهذا الحديث مرسل لأن عروة لم يحضر القصة لكن الأقرب أنه تحمله عن عائشة -رضي الله عنها- لكثرة علمه بأحوالها.

45 - باب هِجْرَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ».
وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ».
(باب هجرة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بإذن الله عز وجل له في ذلك بقوله تعالى: {وقل رب أدخلني مدخل صدق} [الإسراء: 80] بعد بيعة العقبة بشهرين وبضعة عشر يومًا (وأصحابه) أبي بكر وعامر بن فهيرة وصاحبين له من مكة (إلى المدينة) وكان قد هاجر بين العقبتين جماعة ابن أم مكتوم وغيره وسقط باب لأبي ذر.
(وقال عبد الله بن زيد) مما وصله في غزوة حنين (وأبو هريرة) مما سبق موصولاً فى مناقب الأنصار (-رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه قال: (لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار) قاله جوابًا لقولهم أنه أحب الإقامة بموطنه بمكة أي لولا الهجرة لكنت أنصاريًا صرفًا، فلم يمنعني مانع من المقام بمكة لكنني اتصفت بصفة الهجرة والمهاجر لا يقيم بالبلد التي هاجر منها مستوطنًا فلتطمئن قلوبكم بعدم التحول عنكم.
(وقال أبو موسى) عبد الله بن قيس (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي) بفتح الواو والهاء ظني (إلى أنها اليمامة) مدينة من اليمن على مرحلتين من الطائف (أو هجر) بفتح الهاء والجيم بلد معروف من البحرين وهي مساكن عبد القيس أو هي قرية بقرب المدينة وصوب في الفتح الأول ولأبي ذر أو الهجر بأداة التعريف (فإذا هي المدينة يثرب) بالمثلثة وهذا وصله في الصلاة.
3897 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يَقُولُ: "عُدْنَا خَبَّابًا فَقَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْخُذْ
مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ نَمِرَةً، فَكُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنْ إِذْخِرٍ. وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهْوَ يَهْدِبُهَا".
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير المكي قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران (قال: سمعت أبا وائل) بالهمز شقيق بن سلمة حال كونه (يقول: عدنا خبابًا) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الموحدة الأولى ابن الأرتّ بالفوقية المشددة في مرض (فقال: هاجرنا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي إلى المدينة بإذنه وإلاّ فلم يصحبه عليه الصلاة والسلام غير أبي بكر وعامر بن فهيرة حال كوننا (نريد وجه الله) لا الدنيا (فوقع أجرنا على الله) فضلاً منه تعالى (فمنا من مضى) مات (لم يأخذ من أجره) من الغنائم التي أخذها من أدرك زمن الفتوح (شيئًا) بل ادخر الله تعالى له أجره موفرًا في الآخرة (منهم مصعب بن عمير) بضم العين مصغرًا ابن هاشم بن عبد مناف (قتل يوم أُحُد) قتله ابن قميئة (وترك نمرة) كساء مخططًا (فكنا) لما كفناه (إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا) بها (رجليه بدا) بغير همزة (رأسه فأمرنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن نغطي رأسه) بطرفها (ونجعل على رجليه شيئًا من إذخر) بذال وخاء معجمتين حشيش مكة ذي الريح الطيب (ومنا من أينعت له ثمرته) نضجت وطابت (فهو يهدبها) بكسر الدال المهملة مصححًا عليها في الفرع وأصله ويجوز الضم والفتح أي يجتنيها.

(6/212)


وهذا الحديث مرّ في باب إذا لم يجد كفنًا إلا ما يواري به رأسه من كتاب الجنائز.
3898 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ - هُوَ ابْنُ زَيْدٍ - عَنْ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا حماد هو ابن زيد) أي ابن درهم وسقط لفظ هو لأبي ذر (عن يحيى) بن سعيد الأنصاري (عن محمد بن إبراهيم) بن الحرث التيمي (عن علقمة بن وقاص) الليثي أنه (قال: سمعت عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أراه) بضم الهمزة أي أظنه كذا في هامش اليونينية مخرجًا له بعد قوله -رضي الله عنه- بعطفة بالحمرة خفية وزاد في الفرع -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يقول):
(الأعمال بالنية) بالإفراد على الأصل لاتحاد محلها الذي هو القلب وحذف وإنما والجمع المحلى بأل يفيد الاستغراق وهو مستلزم للحصر المثبت للحكم المذكور ونفيه عن غيره فلا عمل إلاّ بنية (فمن كانت هجرته إلى دنيا) بغير تنوين (يصيبها أو) إلى (امرأة يتزوجها) نيّة وقصدًا (فهجرته إلى ما هاجر إليه) من الدنيا والمرأة حكمًا وشرعًا أو هجرته إليهما قبيحة غير صحيحة أو غير مقبولة
فلا نصيب له في الآخرة، والذي دعاهم لهذا التقدير اتحاد الشرط والجزاء ولا بد من تغايرهما.
وأجاب بعضهم: بأنه إذا اتحد مثل ذلك يكون المراد به المبالغة في التحقير كهذه أو التعظيم كقوله: (ومن كانت هجرته إلى) طاعة (الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وسقطت التصلية لأبي ذر وأعاد المجرور ظاهرًا لا مضمرًا إذ لم يقل فهجرته إليهما لقصد الاستلذاذ بذكر الله ورسوله بخلاف الدنيا والمرأة فإن إبهامهما أولى. وقد اشتهر أن سبب هذا الحديث قصة مهاجر أم قيس وأنه خطبها فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها فكان يسمى مهاجر أم قيس. رواه الطبراني في معجمه الكبير بإسناد رجاله ثقات.
ومباحث الحديث سبقت أول الكتاب والله المستعان.
3899 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ الْمَكِّيِّ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- كَانَ يَقُولُ: لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ". [الحديث 3899 - أطرافه في: 4309، 4310، 4311].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (إسحاق بن يزيد) من الزيادة هو إسحاق بن إبراهيم بن يزيد الأموي مولاهم الفراديسي (الدمشقي) قال: (حدّثنا يحيى بن حمزة) بالحاء المهملة والزاي أبو عبد الرحمن قاضي دمشق (قال: حدّثني) بالإفراد (أبو عمرو) عبد الرحمن (الأوزاعي عن عبدة) بفتح العين وسكون الموحدة (ابن أبي لبابة) بضم اللام وفتح الموحدتين بينهما ألف مخففًا الأسدي الكوفي سكن الشام (عن مجاهد بن جبر المكي أن عبد الله بن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما- كان يقول: لا هجرة بعد الفتح).
3900 - قَالَ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ: وَحَدَّثَنِي الأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: زُرْتُ عَائِشَةَ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ، فَسَأَلْنَاهَا عَنِ الْهِجْرَةِ فَقَالَتْ: لاَ هِجْرَةَ الْيَوْمَ، كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَفِرُّ أَحَدُهُمْ بِدِينِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الإِسْلاَمَ، وَالْيَوْمَ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ".
(وحدّثني) بالإفراد ولأبي ذر: قال يحيى بن حمزة وحدّثني (الأوزاعي) عبد الرحمن (عن عطاء بن أبي رباح) بفتح الراء والموحدة أنه (قال: زرت عائشة) -رضي الله عنها- وكانت مجاورة في جبل ثبير إذ ذاك (مع عبيد بن عمير الليثي) بالمثلثة (فسألناها) ولأبي ذر: وسألتها (عن الهجرة فقالت: لا هجرة اليوم) أي بعد الفتح (كان المؤمنون) قبل الفتح (يفر أحدهم) من مكة (بدينه إلى الله تعالى وإلى رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) إلى المدينة وسقطت التصلية لأبي ذر (مخافة أن يفتن عليه) أي على دينه فكانت واجبة لذلك ولتعلم الشرائع والأحكام وقتال الكفار (فأما اليوم) بعد الفتح (فقد أظهر الله الإسلام) وفشت الشرائع والأحكام (واليوم) وللأصيلي وأبي ذر عن الكشميهني والمؤمن بدل قوله
واليوم (يعبد ربه حيث شاء) فالحكم يدور مع علته. قال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام فالإقامة فيها أفضل من الرحلة لما يترجى من دخول غيره في الإسلام (ولكن جهاد) في الكفار (ونية) أي وثواب نيّة في الجهاد أو الهجرة نعم ما دام في الدنيا دار كفر فالهجرة منها واجبة على من أسلم وخاف أن يفتن فى دينه.
3901 - حَدَّثَنِي زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ قَالَ هِشَامٌ: فَأَخْبَرَنِي أَبِي "عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ سَعْدًا قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَكَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَخْرَجُوهُ، اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ".
وَقَالَ أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ: "مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا نَبِيَّكَ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ قُرَيْشٍ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (زكريا بن يحيى) البلخي قال: (حدّثنا ابن نمير) عبد الله الهمداني (قال هشام: فأخبرني) بالإفراد (أبي) عروة (عن عائشة -رضي الله عنها- أن سعدًا) بسكون العين ابن معاذ الأنصاري (قال): في قريش يوم بني قريظة وكان قد أصيب يوم الخندق في الأكحل (اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك -صَلَّى اللَّهُ

(6/213)


عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) سقطت التصلية لأبي ذر (وأخرجوه) من مكة (اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم).
(وقال أبان بن يزيد) العطار (حدّثنا هشام عن أبيه) عروة أنه قال: (أخبرتني) بالإفراد (عائشة) -رضي الله عنها- بالحديث المذكور وقال فيه: (من قوم كذبوا نبيك وأخرجوه) كابن نمير.
وزاد (من قريش) فأفصح بتعيين القوم وقريش هم المخرجون له عليه الصلاة والسلام لا بنو قريظة. وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في المقدمة: رواية أبان بن يزيد عن هشام لم أقف على من وصلها.
3902 - حَدَّثَنِي مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا رَوْحٌ بن عُبادةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكُثَ بِمَكَّةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتِّينَ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولغير أبي ذر حدّثنا بالجمع (مطر بن الفضل) المروزي قال:
(حدّثنا روح بن عبادة) بضم العين وتخفيف الموحدة وثبت ابن عبادة لأبي ذر قال: (حدّثنا هشام) أي ابن حسان القهدوسي بضم القاف وسكون الهاء آخره سين مهملة قال: (حدّثنا عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال: بعث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بضم الموحدة وكسر العين (لأربعين سنة فمكث) بضم الكاف (بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه) فيها منها مدة فترة
الوحي ومدة الرؤيا الصالحة (ثم أمر بالهجرة) من مكة إلى المدينة (فهاجر عشر سنين ومات) بها (وهو ابن ثلاث وستين) سنة. وثبت قوله سنة بعد قوله ثلاث عشرة للحموي والكشميهني.
3903 - حَدَّثَنِي مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَكَّةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ؛ وَتُوُفِّيَ وَهْوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتِّينَ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (مطر بن الفضل) سقط ابن الفضل لأبي ذر قال: (حدّثنا روح بن عبادة) وسقط لأبي ذر أيضًا ابن عبادة قال: (حدّثنا زكريا بن إسحاق) المكي ثقة لكنه رمي بالقدر قال: (حدّثنا عمرو بن دينار عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- أنه (قال مكث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمكة ثلاث عشرة) سنة من مجيء جبريل له بالوحي (وتوفي) بالمدينة (وهو ابن ثلاث وستين) سنة.
3904 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عبد اللَّهِ عَنْ عُبَيْدٍ -يَعْنِي ابْنَ حُنَيْنٍ- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ. فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا. فَعَجِبْنَا لَهُ. وَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ، يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، وَهْوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُوَ الْمُخَيَّرَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمَنَا بِهِ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَىَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، إِلاَّ خُلَّةَ الإِسْلاَمِ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلاَّ خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ».
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل بن عبد الله) الأويسي (قال: حدّثني) بالإفراد (مالك) الإمام (عن أبي النضر) بالضاد المعجمة اسلم بن أبي أمية (مولى عمر بن عبيد الله) بضم العين التيمي المدني (عن عبيد) بالتصغير من غير إضافة (يعني ابن حنين) بضم الحاء المهملة وفتح النون مولى زيد بن الخطاب وسقط لفظ يعني لأبي ذر (عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جلس على المنبر فقال):
(إن عبدًا خيَّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده) في الآخرة (فاختار ما عنده) (فبكى أبو بكر وقال: فديناك) يا رسول الله (بآبائنا وأمهاتنا) قال أبو سعيد: (فعجبنا له وقال الناس): متعجبين من تفديته لأنهم لم يفهموا المناسبة بين الكلامين (انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده وهو يقول:
فديناك بآبائنا وأمهاتنا فكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو المخير) بفتح التحتية المشدّدة والنصب خبر كان ولفظ هو ضمير فصل، ولأبي ذر هو المخير بالرفع على أنه خبر المبتدأ الذي هو هو والجملة في موضع نصب خبر كان (وكان أبو بكر هو أعلمنا به).
(وقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إن من أمن الناس عليّ) بتشديد الياء (في صحبته وماله أبا بكر) بفتح الهمزة والميم وتشديد النون أي من أبذلهم وأسمحهم من منّ عليه منا لا من منّ منة إذ ليس لأحد أن يمتن على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو وارد مورد الإحماد، وإذا حمل على معنى الامتنان عاد ذمًا على صاحبه، لأن المنة تهدم الصنيعة، وأبا بكر بالنصب على ما لا يخفى (ولو كنت متخذًا خليلاً من أمتي) أرجع إليه في المهمات وأعتمد عليه في الحاجات (لاتخذت أبا بكر) خليلاً ولكن ملجئي واعتمادي في جميع الأحوال إلى الله تعالى (إلا) بالتشديد (خلة الإسلام) استدراك عن مضمون الجملة الشرطية وفحواها كأنه قال: ليس بيني وبينه خلة ولكن أخوة الإسلام نفى الخلة المنبئة عن الحاجة وأثبت الإخاء المقتضي للمساواة (لا يبقين) بفتح التحتية وسكون الموحدة وفتح القاف والتحتية وتشديد النون (في المسجد خوخة) بمعجمتين

(6/214)


مفتوحتين بينهما واو ساكنة باب صغير وكانوا قد فتحوا أبوابًا في ديارهم إلى المسجد فأمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بسدها كلها (إلا خوخة أبي بكر) تكريمًا له وتنبيهًا على أنه الخليفة بعده، أو المراد المجاز فهو كناية عن الخلافة وسد أبواب المقالة دون التطرق، ورجحه الطيبي محتجًّا بأنه لم يصح عنده أن أبا بكر -رضي الله عنه- كان له بيت بجنب المسجد وإنما كان منزله بالسنح من عوالي المدينة.
وهذا الحديث مرّ في كتاب الصلاة وغيره.
3905 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: "لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَرَفَىِ النَّهَارِ: بُكْرَةً وَعَشِيَّةً. فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونُ، خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتَّى بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ -وَهْوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ- فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي. قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ، إِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَأَنَا لَكَ جَارٌ. ارْجِعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ. فَرَجَعَ، وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ؟ فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَقَالُوا لاِبْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ فِيهَا وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ؛ وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لأَبِي بَكْرٍ،
فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِصَلاَتِهِ وَلاَ يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ. ثُمَّ بَدَا لأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَتْقَذَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ؛ فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَأَعْلَنَ بِالصَّلاَةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَانْهَهُ؛ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلاَّ أَنْ يُعْلِنَ بِذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ، وَلَسْنَا بمُقِرِّينَ لأَبِي بَكْرٍ الاِسْتِعْلاَنَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ تَرْجِعَ إِلَىَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لاَ أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْمُسْلِمِينَ: إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ، وَهُمَا الْحَرَّتَانِ. فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ -وَهْوَ الْخَبَطُ- أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي الظَّهِيرَةِ قَالَ قَائِلٌ لأَبِي بَكْرٍ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَقَنِّعًا -فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا- فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلاَّ أَمْرٌ. قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأَبِي بَكْرٍ: أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّحَابَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: نَعَمْ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَىَّ هَاتَيْنِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بِالثَّمَنِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجَهَازِ، وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مَنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقِ. قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنَا فِيهِ ثَلاَثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهْوَ غُلاَمٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلاَ يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلاَّ وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلاَمُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ يَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ -وَهْوَ
لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا- حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلاَثِ. وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلاً مِنْ بَنِي الدِّيلِ، وَهْوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا -وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ- قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَهْوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاَثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلاَثٍ، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ، فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ".
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي ونسبه لجده (قال: حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن عقيل) بضم العين ابن خالد أنه قال: (قال ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (فأخبرني) بالتوحيد (عروة بن الزبير -رضي الله عنه- أن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنها (قالت: لم أعقل أبوي) بكسر القاف وتشديد ياء أبوي أي أبا بكر وأم رومان (قط إلاّ وهما يدينان الدين) بكسر الدال أي دين الإسلام (ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون) بأذى الكفار من قريش بحصرهم بني هاشم والمطلب في شعب أبي طالب وأذن -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة (خرج أبو بكر) -رضي الله عنه- حال كونه (مهاجرًا نحو أرض الحبشة) ليلحق من سبقه من المسلمين ممن هاجر إليها (حتى بلغ) ولأبي ذر: حتى إذا بلغ (برك الغماد) بفتح الموحدة وسكون الراء بعدها كاف. والغماد بكسر الغين المعجمة وتخفيف الميم وبعد الألف دال مهملة موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن، ولأبي ذر برك بكسر الموحدة (لقيه ابن الدغنة) بفتح الدال المهملة وكسر الغين المعجمة وتخفيف النون. وقال الأصيلي: قرأه لنا المروزي بفتح الغين ولأبي ذر في اليونينية بضم الدال، وله أيضًا فيها ابن الدغنة بضم الدال والغين وتشديد النون ونسبت هذه لكن بزيادة أداة التعريف لأهل اللغة والأولى للرواة وهو اسم أمه، واسمه الحرث بن يزيد كما عند البلاذري من طريق الواقدي عن معمر عن الزهري وليس هو ربيعة بن رفيع، ووهم الكرماني قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله. (وهو سيد القارة) بالقاف وتخفيف الراء قبيلة مشهورة من بني الهون بالضم والتخفيف ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر (فقال) له: (أين تريد يا أبا بكر؟ فقال) له (أبو بكر أخرجني قومي) أي تسببوا في إخراجي قريش (فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي) بهمزة مفتوحة فسين مكسورة وحاء مهملتين بينهما تحتية ساكنة ولم يذكر له وجه مقصده لأنه كان كافرًا (فقال) له: (ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج) بفتح أوله وضم ثالثه من الخزرج (ولا يخرج) بضم ثم فتح من الإخراج (إنك) وللمستملي والكشميهني أنت (تكسب المعدوم) بفتح تاء تكسب أي تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك، ولأبي ذر: عن الكشميهني المعدم بضم الميم وكسر الدال من غير واو (وتصل الرحم) أي القرابة (وتحمل الكل) بفتح الكاف وتشديد اللام الذي لا يستقل بأمره أو الثقل (وتقري الضيف) بفتح الفوقية من الثلاثي (وتعين على نوائب الحق) أي حوادثه فوصفه
بمثل ما وصفت خديجة -رضي الله عنها- به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يدل على اشتهار أبي بكر -رضي الله عنه- بالصفات المبالغة أنواع الكمال (فأنا لك جار) أي مجير أمنع من يؤذيك (ارجع) ولأبي ذر فارجع (واعبد ربك ببلدك) مكة (فرجع) أبو بكر -رضي الله عنه- (وارتحل معه ابن الدغنة) إلى مكة (فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله) من وطنه باختياره على نيّة الإقامة مع ما فيه من النفع المتعدي لأهل بلده (ولا يخرج) بضم أوله وفتح ثالثه لا يخرجه أحد بغير اختياره لما ذكر (أتخرجون رجلاً) استفهام إنكاري (يكسب المعدوم) وللكشميهني المعدم (ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة) بكسر الجيم

(6/215)


أي لم ترد عليه قوله في جوار أبي بكر -رضي الله عنه- فأطلق التكذيب وأراد لازمه لأن كل من كذبك فقد ردّ قولك (وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد) عطف على محذوف تقديره: مر أبا بكر لا يتعرض إلى شيء وليعبد من جاء له فليعبد (ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك) الذي يقرأه ويتعبد به (ولا يستعلن به) بل يخفيه (فإنا نخشى أن يفتن) بكسر التاء بذلك (نساءنا وأبناءنا فقال ذلك) القول الذي قالوه (ابن الدغنة لأبي بكر فلبث أبو بكر بذلك) أي مكث على ما شرطوا عليه (يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ولم يقع لي قدر زمان المدة التي أقام فيها أبو بكر -رضي الله عنه- على ذلك (ثم بدا لأبي بكر) -رضي الله عنه- أي ظهر له رأي غير الرأي الأول (فابتنى مسجدًا بفناء داره) بكسر الفاء والمد أي أمامها (وكان يصل فيه ويقرأ القرآن) كله أو بعضه (فيتقذف) بتحتية مفتوحة فنون ساكنة فقاف مفتوحة فذال معجمة مكسورة بعدها فاء كذا للمروزي والمستملي وعند غيرهما من شيوخ أبي ذر فيتقذف بالتاء الفوقية بدل النون وتشديد المعجمة المفتوحة بوزن يتفعل أي يتدافعون على أبي بكر -رضي الله عنه- فيقذف بعضهم بعضًا فيتساقطون عليه، ويروى فيتقصف بالصاد المهملة أي يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض فيكاد ينكسر. قال الخطابي: وهو المحفوظ، وللكشميهني كما في الفتح وعزاها في اليونينية للجرجاني فيتقصف بنون ساكنة بدل الفوقية وكسر الصاد أي يسقط (عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلاً بكاء) بتشديد الكاف كثير البكاء - رضي الله تعالى عنه - (لا يملك عينيه) من رقة قلبه (إذا قرأ القرآن) إذا ظرفية والعامل فيه لا يملك أو شرطية والجزاء مقدر أي إذا قرأ القرآن لا يملك عينيه (فأفزع ذلك) أي أخاف ما فعله أبو بكر من صلاته وقراءته (أشراف قريش من المشركين) على نسائهم وأبنائهم أن يميلوا إلى الإسلام لما يعلمون من رقة قلوبهم (فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم) أي على أشراف قريش من المشركين، ولأبي ذر عن الكشميهني: فقدم عليه أي على أبي بكر -رضي الله عنه- (فقالوا): أي كفار قريش (إنا كنا أجرنا) بهمزة مقصورة فجيم فراء مهملة (أبا بكر بجوارك) أي بسبب جوارك، وللقابسي أجزنا بالزاي أي أبحنا. قال في الفتح: والأول أوجه (على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدًا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة
فيه وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا) بفتح التحتية وكسر الفوقية ونصب التالي على المفعولية ولغير أبي ذر: يفتن بضم أوله وفتح ثالثه مبنيًا للمفعول فالتالي رفع (فاتهمه) بهمزة وصل عن ذلك (فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى) امتنع (إلا أن يعلن بذلك فسله) بفتح السين وسكون اللام من غير همز (أن يرد إليك ذمتك) أي أمانك له (فإنا قد كرهنا أن نخفرك) بضم النون وسكون الخاء المعجمة وكسر الفاء رباعي من الإخفار أي ننقض عهدك (ولسنا مقرين) ولأبي ذر بمقرين (لأبي بكر الاستعلان) خوفًا على نسائنا وأبنائنا.
(قالت عائشة): -رضي الله عنها- بالسند السابق (فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر) -رضي الله عنه- (فقال) له: (قد علمت الذي عاقدت لك عليه) بتاء المتكلم (فإما أن تقتصر على ذلك) الذي عاقدت لك عليه (وإما أن ترجع إليّ) بتشديد الياء (ذمتي) عهدي (فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت) بضم أوله وكسر ثالثه (في رجل عقدت له فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل) أي بحمايته (والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يومئذ بمكة) جملة حالية (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للمسلمين):
(إني أريت) بضم الهمزة مبنيًا للمفعول (دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين) تثنية لابة بتخفيف الموحدة قال الزهري: (وهما الحرتان) بالحاء المهملة وتشديد الراء حجارة سود (فهاجر من هاجر قبل المدينة)

(6/216)


بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهتها (ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة) بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهتها (ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة) لما سمعوا استيطان المسلمين بها (وتجهز أبو بكر) -رضي الله عنه- (قبل المدينة) أي يريد جهة المدينة (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على رسلك) بكسر الراء وسكون السين المهملة على مهلك ولابن حبان فقال: اصبر (فإني أرجو أن يؤذن لي) في الهجرة (فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك؟) أي الإذن (بأبي أنت) زاد الكشميهني وأمي (قال) عليه الصلاة والسلام (نعم) أرجوه (فحبس) أي منع (أبو بكر نفسه) من الهجرة (على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي لأجله (ليصحبه) في الهجرة (وعلف) أبو بكر -رضي الله عنه- (راحلتين) تثنية راحلة من الإبل القوي على السير وحمل الأثقال (كانتا عنده ورق السمر) بفتح السين المهملة وضم الميم. قال الزهري (وهو الخبط) بفتح الخاء المعجمة والموحدة ما يخبط بالعصا فيسقط من ورق الشجر (أربعة أشهر).
(قال ابن شهاب) الزهرى بالسند السابق (قال عروة) بن الزبير (قالت عائشة) -رضي الله عنها- (فبينما) بالميم (نحن يومًا جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة) أول الزوال عند شدة الحر (قال قائل): قال في المقدمة: يحتمل أن يفسر بعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وفي الطبراني أن قائل ذلك أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- (لأبي بكر هذا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (متقنعًا) أي مغطيًا رأسه (في ساعة لم يكن يأتينا فيها. فقال أبو بكر: فداء) بكسر الفاء وبالهمزة ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: فدى بالقصر من غير همز (له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا
أمر) حدث (قالت) عائشة -رضي الله عنها-: (فجاء رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاستأذن) في الدخول (فأذن له) أبو بكر -رضي الله عنه- (فدخل فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأبي بكر):
(أخرج من عندك) بهمزة قطع مفتوحة وكسر الراء (فقال أبو بكر: إنما هم أهلك) يريد عائشة وأمها (بأبي أنت يا رسول الله. قال) عليه الصلاة والسلام (فإني) ولأبي ذر عن الكشميهني: فإنه (قد أذن لي في الخروج) بضم الهمزة وكسر الذال المعجمة أي إلى المدينة (فقال أبو بكر): أريد (الصحابة) وبالرفع خبر مبتدأ محذوف (بأبي أنت يا رسول الله. قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: نعم) الصحبة التي تطلبها (قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين. قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بالثمن) أي لا آخذ إلا بالثمن، وعند الواقدي أن الثمن كان ثمانمائة وأن الراحلة هي القصواء وأنها كانت من بني قشير، وعند ابن إسحاق أنها الجدعاء (قالت عائشة) -رضي الله عنها- (فجهزناهما أحث الجهاز) بالحاء المهملة والمثلثة أفعل تفضيل من الحث أي أسرعه، ولأبي ذر عن الكشميهني والحموي أحب بالموحدة والجهاز بفتح الجيم وكسرها ما يحتاج إليه في السفر ونحوه (وصنعنا لهما سفرة) أي زادًا (في جراب) بكسر الجيم، وعن الواقدي أنه كان في السفر شاة مطبوخة (فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها) بكسر النون ما يشد به الوسط (فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاق) بالإفراد، ولأبي ذر عن الكشميهني النطاقين بالتثنية والمحفوظ أنها شقت نطاقها نصفين فشدت بأحدهما الزاد وشدت فم القربة بالآخر فسميت ذات النطاقين.
(قالت) عائشة -رضي الله عنها-: (ثم لحق) بكسر الحاء (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبو بكر بغار) بالتنوين (في جبل ثور) بالمثلثة المفتوحة وكان خروجهما من مكة يوم الخميس (فكمنا) بفتحات (فيه ثلاث ليال) وخرجا منه يوم الاثنين (يبيت) في الغار (عندهما عبد الله بن أبي بكر) الصديق -رضي الله عنهما- (وهو غلام شاب ثقف) بفتح المثلثة وكسر القاف وتسكن وتفتح بعدها فاء حاذق (لقن) بلام مفتوحة وبقاف مكسورة فنون سريع الفهم (فيدلج) بضم الياء وسكون الدال؛ ولأبي ذر فيدلج بتشديد الدال يخرج (من عندهما بسحر فيصبح مع قريش

(6/217)


بمكة كبائت) بها لشدة رجوعه بغلس (فلا يسمع أمرًا يكتادان به) بضم التحتية وفوقية بعد الكاف يفتعلان من الكيد مبني للمفعول أي يطلب لهما ما فيه المكروه، ولأبي ذر عن الكشميهني يكادان بحذف الفوقية (إلا وعاه) حفظه (حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى) أي يحفظ (عليهما عامر بن فهيرة) بضم الفاء مصغرًا (مولى أبي بكر) الصديق -رضي الله عنه- (منحة) بكسر الميم وسكون النون وفتح المهملة شاة تحلب إناء بالغداة وإناء بالعشي (من غنم) كانت لأبي بكر -رضي الله عنه- (فيريحها) أي الشاة أو الغنم (عليهما حين تذهب ساعة من العشاء) كل ليلة فيحلبان ويشربان (فيبيتان في رسل) بكسر الراء وسكون المهملة (وهو لبن منحتهما) الطري (ورضيفهما) بفتح الراء وكسر الضاد المعجمة بعدها تحتية ساكنة ففاء مكسورة مجرور عطفًا على المضاف إليه ومرفوع عطفًا على قوله: وهو لبن وهو الموضوع فيه الحجارة المحماة لتذهب وخامته وثقله (حتى ينعق بها) بفتح أوله وكسر ثالثه المهمل أي يصيح بالغنم ويزجرها، ولأبي ذر: بهما بالتثنية أي يسمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
والصدّيق -رضي الله عنه- صوته إذا زجر غنمه (عامر بن فهيرة بغلس) هو ظلام آخر الليل وسقط ابن فهيرة لأبي ذر. (يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث) التي أقامها فيها بالغار، وعند ابن عائذ من حديث ابن عباس فيصبح في رعيان الناس كبائت فلا يفطن له.
(واستأجر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبو بكر رجلاً) هو عبد الله بن أريقط بالقاف والطاء مصغرًا (من بني الديل) بكسر الدال المهملة وسكون التحتية بعدها لام (وهو) أي الرجل الذي استؤجر (من بني عبد بن عدي) أي ابن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وقيل من بني عدي بن عمرو (هاديًا) يهديهما إلى الطريق (خريتًا) بكسر الخاء المعجمة والراء المشددة بعدها تحتية ساكنة ففوقية ونصبهما صفة لرجلاً. قال الزهري: (والخريت) هو (الماهر بالهداية) حال كونه أي الرجل الذي استؤجر (قد غمس) بغين معجمة فميم فسين مهملة مفتوحات (حلفًا) بكسر الحاء المهملة وبعد اللام الساكنة فاء (في آل العاص بن وائل السهمي) بفتح السين المهملة وسكون الهاء يعني أنه حليف لهم وآخذ بنصيب من عقدهم، وكانوا إذا تحالفوا غمسوا أيديهم في دم أو خلوق أو شيء يكون فيه تلوين فيكون ذلك تأكيدًا للحلف (وهو) أي الرجل الذي استأجراه (على دين كفار قريش فأمناه) بفتح الهمزة المقصورة وكسر الميم أي ائتمناه (فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال) فأتاهما (براحلتيهما صبح ثلاث وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل) عبد الله بن أريقط (فأخد بهم طريق السواحل) بالسين والحاء المهملتين بينهما واو فألف أسفل من عسفان.
3906 - قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ -وَهْوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ- أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ يَقُولُ: "جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لمنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلاَنًا وَفُلاَنًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا. ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي -وَهْيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ- فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ رُمْحِي فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الأَرْضَ، وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ، حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا، فَرَفَعْتُهَا تُقَرَّبُ بِي، حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ، فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الأَزْلاَمَ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا: أَضُرُّهُمْ أَمْ لاَ؟ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي -وَعَصَيْتُ الأَزْلاَمَ- تُقَرِّبُ بِي، حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ لاَ يَلْتَفِتُ، وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الاِلْتِفَاتَ، سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ. فَخَرَرْتُ عَنْهَا، ثُمَّ زَجَرْتُهَا، فَنَهَضَتْ فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا لأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ،
فَاسْتَقْسَمْتُ بِالأَزْلاَمِ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ. فَنَادَيْتُهُمْ بِالأَمَانِ، فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ. وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ. وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ، فَلَمْ يَرْزَآنِي، وَلَمْ يَسْأَلاَنِي إِلاَّ أَنْ قَالَ: أَخْفِ عَنَّا. فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ، فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ آدمٍ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تِجَارًا قَافِلِينَ مِنَ الشَّأْمِ، فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ. وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ مَخْرَجَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مَكَّةَ، فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ فَيَنْتَظِرُونَهُ، حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ، فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ، فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ، فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعَاشِرَ الْعَرَبِ هَذَا جَدُّكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ. فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلاَحِ، فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِظَهْرِ الْحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ، وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَامِتًا، فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الأَنْصَارِ -مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-- يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ، حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ ذَلِكَ؛ فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَأُسِّسَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ، حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمَدِينَةِ، وَهْوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ. ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْغُلاَمَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالاَ: لاَ، بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُمَا هِبةً حتى ابتاعَهُ منهما، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا، وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ وَيَقُولُ -وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ:
هَذَا الْحِمَالُ لاَ حِمَالَ خَيْبَرْ ... هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ
وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ إِنَّ الأَجْرَ أَجْرُ الآخِرَهْ ... فَارْحَمِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا -فِي الأَحَادِيثِ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ تَامٍّ غَيْرِ هَذِهِ الأَبْيَاتِ.
(وقال ابن شهاب) الزهري بالسند المذكور (وأخبرني) بالإفراد (عبد الرحمن بن مالك المدلجي) بضم الميم وسكون الدال وكسر اللام والجيم وتشديد التحتية (وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم) بضم الجيم والشين المعجمة بينهما عين مهملة ساكنة، وسقط لأبي ذر ابن مالك كذا في الفرع كأصله، وقال في فتح الباري: وتبعه العيني قوله ابن أخي سراقة بن جعشم في رواية أبي ذر ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم (أن أباه) مالكًا (أخبره أنه سمع سراقة بن جعشم) نسبه لجده (يقول: جاءنا رسول) بالإفراد في رسول فى الفرع وفي اليونينية رسل بضم الراء والسين بلفظ الجمع (كفار قريش يجعلون في رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- و) في (أبي بكر دية) أي مائة ناقة (كل واحد منهما من قتله) ولأبي ذر: لمن قتله (أو أسره فبينما) بالميم (أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: إذ أقبل (رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفًا) بمدّ الهمزة وكسر النون الآن (أسودة) بكسر الواو بعد المهملة الساكنة أشخاصًا (بالساحل أراها) بضم الهمزة أظنها (محمدًا وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم فقلت له:

(6/218)


إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا) لم أعرف اسمهما (انطلقوا) بفتح اللام (بأعيننا) أي في نظرنا معاينة يبتغون ضالة لهم (ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت) منزلي (فأمرت جاريتي) لم يعرف ابن حجر اسمها (أن تخرج بفرسي) وزاد موسى بن عقبة ثم أخذت قداحي بكسر القاف أي الأزلام فاستقسمت بها فخرج الذي أكره لا تضره وكنت أرجو أن أرده وآخذ المائة ناقة (وهي من وراء أكمة) رابية مرتفعة (فتحبسها عليّ) بتشديد التحتية (وأخدت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخططت) بالمهملات (بزجه الأرض) بضم الزاي والجيم المشددة المكسورة الحديد الذي في أسفل الرمح أي أمكنت أسفله، ولأبي ذر عن الكشميهني: فخططت بالخاء المعجمة أي خفضت أعلاه وجررت بزجه على الأرض فخطها به من غير قصد لخطها لكي لا يظهر الرمح وإن أمسك زجه ونصبه (وخفضت عاليه) لئلا يظهر بريقه لمن بعد منه فينذر به وينكشف أمره لأنه كره أن يتبعه أحد فيشركه في الجعالة (حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها) بالراه ولأبي ذر فرفعتها بتشديد الفاء أسرعت بها السير (تقرب) بتشديد الراء مفتوحة أو مكسورة (بي) فرسي ضرب من الإسراع. قال الأصمعي: والتقريب أن ترفع يديها معًا وتضعهما معًا (حتى دنوت منهم فعثرت) بالفاء والمثلثة، ولأبي ذر: وعثرت (بي فرسي فخررت) بالخاء المعجمة سقطت (عنها) عن فرسي (فقمت فأهويت يدي) أي بسطتها (إلى كنانتي) كيس السهام (فاستخرجت منها الأزلام) جمع زلم بفتح الزاي واللام أقلام كانوا يكتبون على بعضها نعم وعلى بعضها لا، وكانوا إذا أرادوا أمرًا استقسموا بها فإذا خرج السهم الذي عليه نعم خرجوا،
وإذا خرج الآخر لم يخرجوا ومعنى الاستقسام معرفة قسم الخير والشر (فاستقسمت) بالفاء، ولأبي ذر: واستقسمت بالواو (بها أضرهم أم لا) طلبت معرفة النفع والضرّ بالأزلام أي التفاؤل (فخرج الذي أكره) لا تضرهم (فركبت فرسي وعصيت الأزلام) الواو للحال أي فلم ألتفت إلى ما خرج من الذي أكره (تقرب بي) فرسي (حتى إذا سمعت قراءة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو لا يلتفت وأبو بكر) -رضي الله عنه- (يكثر الالتفات ساخت) بالسين المهملة والخاء المعجمة أي غاصت (يدا فرسي في الأرض). زاد الطبراني عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- لمنخريها (حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها) على القيام (فنهضت فلم تكد تخرج يديها) بضم أوله من أخرج من الأرض (فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان) بالعين المهملة المضمومة فمثلثة مفتوحة وبعد الألف نون دخان من غير نار وهو مبتدأ خبره قوله لأثر يديها مقدمًا، ولأبي ذر عن الكشميهني: غبار بالمعجمة والموحدة آخره راء (ساطع) منتشر (في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره) لا تضرهم (فناديتهم بالأمان) وعند ابن إسحاق: فناديت القوم أنا سراقة بن مالك بن جعشم انظروني أكلمكم فوالله لا يأتيكم مني شيء تكرهونه (فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت له إن قومك) قريشًا (قد جعلوا فيك الدّية) يدفعونها لمن يقتلك أو يأسرك (وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس) قريش (بهم) من الحرص على الظفر بهم وغير ذلك (وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني) لم ينقصاني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبو بكر شيئًا (ولم يسألاني) شيئًا مما معي (إلا أن قال): لي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(أخف عنا) بفتح الهمزة وسكون المعجمة بعدها فاء أمر من الإخفاء. قال سراقة: (فسألته) عليه الصلاة والسلام (أن يكتب لي كتاب أمن) بسكون الميم (فأمر) عليه الصلاة والسلام (عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم) بكسر الدال المهملة بعدها تحتية وفي نسخة من أدم بفتح الدال وحذف التحتية جلد مدبوغ زاد ابن إسحاق فأخذته فجعلته في كنانتي ثم رجعت (ثم مضى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ومن معه إلى

(6/219)


جهة مقصده.
(قال ابن شهاب) الزهري بالسند السابق (فأخبرني) بالإفراد (عروة بن الزبير) بن العوّام (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقي الزبير في ركب المسلمين كانوا تجارًا) بكسر التاء وتخفيف الجيم حال كونهم (قافلين) راجعين (من الشام فكسا الزبير رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبا بكر ثياب بياض) وقول الدمياطي: إن الذي كسا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبا بكر إنما هو طلحة بن عبيد الله وكان جائيًا من الشام في عير متمسكًا في ذلك بأن أهل السير لم يذكروا أن الزبير لقي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في طريق الهجرة وإنما هو طلحة بن عبيد الله ليس فيه دلالة على ذلك فالأولى الجمع بينهما وإلا فما في الصحيح أصح لا سيما والرواية التي فيها طلحة من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة والتي في الصحيح من طريق عقيل عن الزهري عن عروة، وعند ابن أبي شيبة من طريق هشام بن عروة عن أبيه نحو رواية أبي الأسود فتعين تصحيح القولين وحينئذٍ فيكون كل من الزبير وطلحة كساهما.
(وسمع المسلمون بالمدينة مخرج) ولأبي ذر بمخرج (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من مكة فكانوا يغدون) بسكون الغين المعجمة يخرجون (كل غداة إلى الحرة) بالحاء المهملة المفتوحة وتشديد الراء (فينتظرونه حتى يردهم حرّ الظهيرة فانقلبوا) رجعوا (يومًا بعد ما أطالوا انتظارهم) له عليه الصلاة والسلام (فلما أووا إلى بيوتهم أوفى) بفتح الهمزة وسكون الواو وفتح الفاء أي طلع (رجل من يهود) لم يسم (على أطم) بضم الهمزة والطاء المهملة حصن (من آطامهم لأمر ينظر إليه فبصر) بفتح الموحدة وضم المهملة (برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه) حال كونهم (مبيضين) بفتح الموحدة والتحتية المشددة بعدها ضاد معجمة عليهم الثياب البيض. قال السفاقسي: ويحتمل أن يريد متعجلين قال ابن فارس: يقال بائض أي متعجل ويدل عليه قوله (يزول بهم السراب) المرئي في شدة الحر كأنه ماء حتى إذا جئته لم تجده شيئًا كما قال الله تعالى (فلم يملك اليهودي) نفسه (أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب) بألف بعد العين، ولأبي ذر: يا معشر بحذف الألف وسكون العين (هذا جدّكم) بفتح الجيم وتشديد الدال المهملة أي حظكم وصاحب دولتكم (الذي تنتظرون) السعادة بمجيئه (فثار المسلمون) بالمثلثة (إلى السلاح فتلقوا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بظهر الحرة) الأرض التي عليها الحجارة السود (فعدل بهم) بتخفيف الدال (ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف) بفتح العين وسكون الميم أي ابن مالك بن الأوس ومنازلهم بقباء (وذلك) وفي رواية وكان (يوم الاثنين من شهر ربيع الأول) أوّله أو لليلتين خلتا منه أو لاثنتي عشرة ليلة خلت منه أو لثلاث عشرة خلت منه (فقام أبو بكر للناس) يتلقاهم (وجلس رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صامتًا) ساكتًا (فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحيي أبا بكر) أي يسلم عليه يظنه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (حتى أصابت الشمس رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأقبل أبو بكر) - رضي الله تعالى عنه - (حتى ظلل عليه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بردائه فعرف الناس رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند ذلك) وعند موسى بن عقبة فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يكن رآه يحسبه أبا بكر -رضي الله عنه- حتى إذا أصابته الشمس أقبل أبو بكر -رضي الله عنه- بشيء يظله (فلبث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى) وهو مسجد قباء (وصلّى فيه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أيام مقامه بقباء (ثم ركب راحلته) من قباء يوم الجمعة فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف (فسار يمشي معه الناس) ولأبي ذر عن الكشميهني: مع الناس (حتى بركت) راحلته (عند مسجد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمدينة) وعند سعيد بن منصور حتى استناخت عند موضع المنبر من المسجد (وهو يصلّي فيه يومئذٍ رجال من المسلمين وكان) موضع المسجد (مربدًا) بكسر الميم وفتح

(6/220)


الموحدة بينهما واء ساكنة (للتمر) يجفف فيه (لسهيل) بالتصغير (وسهل) ابني رافع بن عمرو (غلامين يتيمين في حجر أسعد) بفتح الحاء المهملة وسكون الجيم ولأبي ذر سعد (بن زرارة) وكان أسعد -رضي الله عنه- من السابقين إلى الإسلام من الأنصار وأما أخوه سعد فتأخر إسلامه (فقال: رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين بركت به راحلته):
(هذا إن شاء الله المنزل) (ثم دعا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الغلامين فسامهما بالمربد ليتخذه مسجدًا فقالا: لا بل نهبه لك يا رسول الله فأبى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما) أي
اشتراه، وثبت قوله فأبى إلى آخره في رواية أبي ذر (ثم بناه مسجدًا وطفق) بكسر الفاء (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ينقل معهم اللبن) بفتح اللام وكسر الموحدة الطوب النيء (في بنيانه ويقول): وهو ينقل اللبن (هذا الحمال) بكسر الحاء المهملة وفتح الميم مخففة ولأبي ذر هذا الحمال بفتح الحاء المهملة أي هذا المحمول من اللبن أبر عند الله وأطهر عند الله (لا حمال) بكسر الحاء المهملة ولأبي ذر: لا حمال بفتحها (خيبر) الذي يحمل منها من التمر والزبيب ونحوهما الذي يغتبط به حاملوه.
قال القاضي عياض -رحمه الله تعالى-: وقد رواه المستملي جمال بالجيم المفتوحة قال: وله وجه والأول أظهر (هذا أبر) أي أبقى ذخزًا عند الله عز وجل وأكثر ثوابًا وأدوم نفعًا يا (ربنا وأطهر) بالطاء المهملة أي أشد طهارة من حمال خيبر (ويقول): (اللهم إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة) بكسر الجيم (فتمثل) عليه الصلاة والسلام (بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي) هو عبد الله بن رواحة.
(قال: ابن شهاب) الزهري (ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تمثل ببيت شعر تام غير هذا البيت) ولأبي ذر غير هذه الأبيات أي السابقة قال في التنقيح: قد أنكر على الزهري ذلك من وجهين. أحدهما: أنه رجز وليس بشعر ولذا يقال لصاحبه راجز لا شاعر، وثانيهما: أنه ليس بموزون اهـ.
وتعقبه في المصابيح بأن بين الوجهين تنافيًا لأن الأول يقتضي تسليم كون الكل موزونًا ضرورة أنه جعله رجزًا ولا بدّ فيه من وزن خاص سواء قلنا هو شعر أم لا والثاني مصرح بنفي الوزن ولقائل أن يمنع كون الرجز غير شعر وكون قائله غير شاعر وهو الصحيح عند العروضيين.
سلمنا أن الرجز ليس شعرًا لكنا لا نسلم أن قوله:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر
من شعر الرجز، وإنما هو من مشطور السريع دخله الكسف والخبن، وأما قوله ليس بموزون فإنما يتم في قوله أن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة اهـ. والممنوع عليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنشاء الشعر لا إنشاده.
وهذا الحديث أخرجه في مواضع مختصرًا وبتمامه هنا فقط.
3907 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ وَفَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ -رضي الله عنها- "صَنَعْتُ سُفْرَةً لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ حِينَ أَرَادَا الْمَدِينَةَ، فَقُلْتُ لأَبِي: مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبُطُهُ إِلاَّ نِطَاقِي، قَالَ: فَشُقِّيهِ. فَفَعَلْتُ، فَسُمِّيتُ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس: "أسماءُ ذَاتَ النِّطَاق".
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (عبد الله بن أبي شيبة) نسبه لجده واسم أبيه محمد قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة قال: (حدّثنا هشام عن أبيه) عروة بن الزبير
(وفاطمة) بنت المنذر بن الزبير (عن أسماء) بنت أبي بكر (-رضي الله عنهما-) وعنه أنها (صنعت سفرة للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبي بكر) أبيها (حين أراد المدينة) في الهجرة (فقلت لأبي) أبي بكر -رضي الله عنه- (ما أجد شيئًا أربطه) به بكسر الموحدة أي الظرف أو رأس السفرة نهو على تقدير حذف مضاف (إلاّ نطاقي) بكسر القاف وتخفيف التحتية (قال) أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - (فشقيه) باثنتين (ففعلت) ما أمرني به أبي من الشق (فسميت) بضم السين المهملة وكسر الميم المشددة (ذات النطاقين) وقد مرّ هذا الحديث في باب حمل الزاد في الغزو من كتاب الجهاد.
(وقال: ابن عباس) -رضي الله عنهما- (أسماء ذات النطاق) بالإفراد وهذا وصله في سورة براءة وهو ثابت هنا لأبي ذر.
3908 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ -رضي الله عنه- قَالَ: "لَمَّا أَقْبَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَدِينَةِ تَبِعَهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَاخَتْ بِهِ فَرَسُهُ قَالَ: ادْعُ اللَّهَ لِي وَلاَ أَضُرُّكَ، فَدَعَا لَهُ، قَالَ فَعَطِشَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَرَّ بِرَاعٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَخَذْتُ قَدَحًا فَحَلَبْتُ فِيهِ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، فَأَتَيْتُهُ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن بشار) بالموحدة والمعجمة المشددة أبو بكر بندار العبدي قال: (حدّثنا غندر) محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي إسحاق) عمرو السبيعي أنه (قال: سمعت البراء) بن عازب (-رضي الله عنه-) أنه (قال: لما أقبل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من

(6/221)


الغار (إلى المدينة تبعه سراقة بن مالك بن جعشم) بضم الجيم والمعجمة بينهما مهملة ساكنة الكناني أسلم بعد الطائف (فدعا عليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فساخت) بالخاء المعجمة غاصت (به فرسه قال) للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ادع الله لي ولا أضرك) ولأبي ذر ولا أضرّ بك بزيادة حرف الجر قبل الكاف (فدعا له) عليه الصلاة والسلام (قال: فعطش رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فمر براع قال): ولأبي ذر فقال: (أبو بكر) -رضي الله عنه- زاد في اللقطة فانطلقت فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه فقلت: لمن أنت؟ قال: لرجل من قريش فسماه فعرفته فقلت: هل في غنمك من لبن. فقال: نعم فأمرته فاعتقل شاة من غنمه ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار (فأخدت قدحًا فحلبت فيه كثبة) بضم الكاف وسكون المثلثة قليلاً (من لبن فأتيته) عليه الصلاة والسلام (فشرب) منه (حتى رضيت).
3909 - حَدَّثَنِي زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَتْ: فَخَرَجْتُ وَأَنَا مُتِمٌّ، فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْتُ بِقُبَاءٍ فَوَلَدْتُهُ بِقُبَاءٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَضَعْتُهُ فِي حَجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ شَىْءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ حَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، ثُمَّ دَعَا لَهُ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الإِسْلاَمِ".
تَابَعَهُ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ -رضي الله عنها- "أَنَّهَا هَاجَرَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْيَ حُبْلَى". [الحديث 3909 - طرفه في: 5469].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (زكريا بن يحيى) بن صالح اللؤلؤي البلخي الحافظ (عن أبي أسامة) حماد بن أسامة (عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء) بنت أبي بكر الصديق (-رضي الله عنها-) وعن أبيها (أنها حملت بعبد الله بن الزبير) بن العوّام -رضي الله عنه- بمكة (قالت: فخرجت) من مكة مهاجرة إلى المدينة (وأنا متم) بضم الميم الأولى وكسر الفوقية وتشديد الميم أي والحال أني قد أتممت مدة الحمل الغالبة وهي تسعة أشهر (فأتيت المدينة فنزلت بقباء) بالصرف (فولدته بقباء ثم أتيت به) بعبد الله (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بالمدينة (فوضعته) بسكون العين ولأبي ذر فوضعه عليه الصلاة والسلام (في حجره) بفتح الحاء المهملة (ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل) بالفوقية والفاء رمى من ريقه (في فيه) في فَي عبد الله (فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم حنكه) بحاء مهملة ونون مشدّدة وكاف مفتوحات (بتمرة) بالفوقية وسكون الميم كالسابقة بأن مضغها ودَلَّكَ بها حنكه (ثم دعا له وبرك عليه) بفتح الموحدة والراء المشددة بأن قال: بارك الله فيك أو اللهم بارك فيه (وكان) عبد الله (أول مولود ولد في الإسلام) من المهاجرين، وفي بعض النسخ يعني بالمدينة.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في العقيقة ومسلم في الاستئذان.
(تابعه) أي تابع زكريا بن يحيى (خالد بن مخلد) بفتح الميم واللام بينهما خاء معجمة ساكنة القطواني (عن علي بن مسهر) قاضي الموصل (عن هشام عن أبيه) عروة -رضي الله عنه- (عن أسماء -رضي الله عنها- هاجرت إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي حبلى) وعند الإسماعيلي مما وصله وهي حبل بعبد الله فوضعته بقباء فلم ترضعه حتى أتت به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نحوه وفي آخره وسماه عبد الله.
3910 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الإِسْلاَمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَخَذَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَمْرَةً فَلاَكَهَا، ثُمَّ أَدْخَلَهَا فِي فِيهِ، فَأَوَّلُ مَا دَخَلَ بَطْنَهُ رِيقُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد (عن أبي أسامة) حماد (عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: أوّل مولود ولد في الإسلام) من المهاجرين بالمدينة (عبد الله بن الزبير أتوا) أمه ومن معها (به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخذ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تمرة فلاكها) مضغها عليه الصلاة والسلام (ثم أدخلها في فيه) في فم عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- (فأوّل ما دخل بطنه ريق النبي) ولأبي ذر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
3911 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "أَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَدِينَةِ وَهْوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ
شَيْخٌ يُعْرَفُ وَنَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَابٌّ لاَ يُعْرَفُ. قَالَ: فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ فَيَقُولُ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ، قَالَ: فَيَحْسِبُ الْحَاسِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي الطَّرِيقَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي سَبِيلَ الْخَيْرِ. فَالْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هُوَ بِفَارِسٍ قَدْ لَحِقَهُمْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا فَارِسٌ قَدْ لَحِقَ بِنَا، فَالْتَفَتَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: اللَّهُمَّ اصْرَعْهُ؛ فَصَرَعَهُ الْفَرَسُ، ثُمَّ قَامَتْ تُحَمْحِمُ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مُرْنِي بِمَا شِئْتَ. قَالَ: فَقِفْ مَكَانَكَ، لاَ تَتْرُكَنَّ أَحَدًا يَلْحَقُ بِنَا. قَالَ: فَكَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَ آخِرَ النَّهَارِ مَسْلَحَةً لَهُ. فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَانِبَ الْحَرَّةِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الأَنْصَارِ فَجَاءُوا إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَلَّمُوا عَلَيْهِمَا وَقَالُوا: ارْكَبَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ. فَرَكِبَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ وَحَفُّوا دُونَهُمَا بِالسِّلاَحِ، فَقِيلَ فِي الْمَدِينَةِ: جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ، جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَشْرَفُوا يَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ. فَأَقْبَلَ يَسِيرُ حَتَّى نَزَلَ جَانِبَ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ، فَإِنَّهُ لَيُحَدِّثُ أَهْلَهُ إِذْ سَمِعَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ وَهْوَ فِي نَخْلٍ لأَهْلِهِ يَخْتَرِفُ لَهُمْ، فَعَجِلَ أَنْ يَضَعَ الَّذِي يَخْتَرِفُ لَهُمْ فِيهَا، فَجَاءَ وَهْيَ مَعَهُ، فَسَمِعَ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟ فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَذِهِ دَارِي وَهَذَا بَابِي. قَالَ فَانْطَلِقْ فَهَيِّئْ لَنَا مَقِيلاً. قَالَ: قُومَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. فَلَمَّا جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّكَ جِئْتَ بِحَقٍّ، وَقَدْ عَلِمَتْ يَهُودُ أَنِّي سَيِّدُهُمْ وَابْنُ سَيِّدِهِمْ وَأَعْلَمُهُمْ وَابْنُ أَعْلَمِهِمْ، فَادْعُهُمْ فَاسْأَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، فَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ قَالُوا فِيَّ مَا لَيْسَ فِيَّ. فَأَرْسَلَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَقْبَلُوا فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، وَيْلَكُمُ اتَّقُوا اللَّهَ، فَوَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، وَأَنِّي جِئْتُكُمْ بِحَقٍّ، فَأَسْلِمُوا. قَالُوا: مَا نَعْلَمُهُ -قَالُوا لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَهَا ثَلاَثَ مِرَارٍ- قَالَ: فَأَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ؟ قَالُوا: ذَاكَ سَيِّدُنَا، وَابْنُ سَيِّدِنَا، وَأَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا. قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ؟ قَالُوا: حَاشَا لِلَّهِ مَا كَانَ لِيُسْلِمَ. قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ؟ قَالُوا: حَاشَا لِلَّهِ مَا كَانَ لِيُسْلِمَ. قَالَ: يَا ابْنَ سَلاَمٍ اخْرُجْ عَلَيْهِمْ. فَخَرَجَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، اتَّقُوا اللَّهَ، فَوَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِحَقٍّ. فَقَالُوا: كَذَبْتَ. فَأَخْرَجَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد) هو ابن سلام أو ابن المثنى قال: (حدّثنا عبد الصمد) قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر حدّثني (أبي) عبد الوارث بن سعيد البصري قال: (حدّثنا عبد العزيز بن صهيب) مصغرًا قال: (حدّثنا أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: أقبل نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
من مكة (إلى المدينة وهو مردف أبا بكر) -رضي الله عنه- خلفه على الراحلة التي هو عليها (وأبو بكر شيخ) قد أسرع إليه الشيب في لحيته الكريمة (يعرف) لتردّده إليهم للتجارة (ونبي الله) ولأبي ذر والنبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شاب) ليس في لحيته الشريفة شيب، وكان أسن من الصديق -رضي الله عنه- (لا يعرف) لعدم تردّده إليهم (قال: فيلقى الرجل أبا بكر) -رضي الله عنه- في الانتقال من بني عمرو (فيقول)

(6/222)


له: (يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول) له: (هذا الرجل يهديني) ولأبي ذر الذي يهديني (السبيل قال: فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق وإنما يعني) أبو بكر -رضي الله عنه- (سبيل الخير فالتفت أبو بكر) -رضي الله عنه- (فإذا هو بفارس) هو سراقة (قد لحقهم فقال: يا رسول الله هذا فارس قد لحق بنا فالتفت نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال): (اللهم اصرعه) (فصرعه الفرس) ولأبي ذر فصرعه فرسه (ثم قامت تحمحم) بحائين مهملتين وميمين أي تصوّت وذكر في قوله فصرعه باعتبار لفظ الفرس وأنث في قوله قامت باعتبار ما في نفس الأمر من أنها كانت أنثى قاله ابن حجر، وقال العيني، قال أهل اللغة: ومنهم الجوهري الفرس يقع على الذكر والأنثى ولم يقل أحد أنه يذكر باعتبار لفظه ويؤنث باعتبار أنها كانت في نفس الأمر أنثى (فقال) سراقة: (يا نبي الله مرني بم) بغير ألف ولأبي ذر بما (شئت. فقال) عليه الصلاة والسلام له: (فقف مكانك لا تتركن أحدًا يلحق بنا) قال في الكواكب: هو كقوله لا تدن من الأسد تهلك وهو ظاهر على مذهب الكسائي قال في العمدة: هذا المثال غير صحيح عند غير الكسائي لأن فيه فساد المعنى لأن انتفاء الدنوّ ليس سببًا للهلاك والكسائي يجوز هذا لأنه يقدر الشرط إيجابيًّا في قوّة إن دنوت من الأسد تهلك (قال: فكان) سراقة (أوّل النهار جاهدًا على نبيّ الله وكان آخر النهار مسلحة له) بفتح الميم وسكون المهملة وفتح اللام والحاء المهملة أي يدفع عنه الأذى بمثابة السلاح (فنزل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جانب الحرة) بفتح الحاء المهملة والراء المشدّدة فأقام بقباء المدة التي أقامها وبنى بها المسجد (ثم بعث) عليه الصلاة والسلام (إلى الأنصار) فطوي في هذا الحديث قامته عليه الصلاة والسلام بقباء (فجاؤوا إلى نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- و) إلى (أبي بكر) - رضي الله تعالى عنه - وثبت قوله وأبي بكر لأبي ذر وحده (فسلموا عليهما وقالوا: اركبا) حال كونكما آمنين) حال كونكما (مطاعين) بفتح النون والعين بلفظ التثنية فيهما وفي الفرع بكسرهما بلفظ الجمع وكشط فوقهما والأول أوجه على ما لا يخفى (فركب نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبو بكر) -رضي الله عنه- (وحفوا) بالحاء المهملة المفتوحة والفاء المشدّدة أحدقوا أي الأنصار (دونهما بالسلاح فقيل في المدينة: جاء نبي الله جاء نبي الله) مرتين (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأشرفوا ينظرون) إليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ويقولون جاء نبي الله) مرة واحدة كما في الفرع والذي في اليونينية والناصرية جاء نبي الله مرتين (فأقبل) عليه الصلاة والسلام (يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب) الأنصاري - رضي الله تعالى عنه - (فإنه) عليه الصلاة والسلام (ليحدث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام) بتخفيف لام ابن سلام الإسرائيلي من حلفاء بني عوف بن الخزرج (وهو) أي والحال أنه (في نخل لأهله يخترف) بالخاء المعجمة والفاء يجتني (لهم) من الثمار (فعجل) بكسر الجيم مخففة استعجل (أن يضع) ولأبي ذر عن الحموي
والكشميهني أن يضم (الذي يخترف لهم) لأهله (فيها) أي في النخل (فجاء) إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وهي) أي والحال أن الثمرة التي اجتناها (معه فسمع من نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في الترمذي أنه أول ما سمع من كلامه أن قال: أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام (ثم رجع إلى أهله. فقال نبي الله) ولأبي ذر النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أي بيوت أهلنا) أقارب والدة عبد المطلب سلمى بنت عمرو من بني مالك بن النجار (أقرب فقال أبو أيوب) الأنصاري -رضي الله عنه- (أنا يا نبي الله هذه داري وهذا بابي قال) عليه الصلاة والسلام: (فانطلق) فهيئ لنا دارك (فهيئ) بسكون الهاء في الفرع والذي في اليونينية بفتحها وتشديد التحتية بعدها همزة ساكنة (لنا مقيلاً) بفتح الميم وكسر القاف أي مكانًا نقيل فيه

(6/223)


والمقيل النوم نصف النهار وقال الأزهري: القيلولة والمقيل الاستراحة نصف النهار معها نوم أو لا قال بدليل قوله تعالى: {وأحسن مقيلاً} [الفرقان: 24] والجنة لا نوم فيها (قال) أبو أيوب -رضي الله عنه-: (قومًا على بركة الله تعالى فلما جاء نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) إلى منزل أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- تعالى عنه (جاء عبد الله بن سلام) إليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زاد في رواية حميد الآتية إن شاء الله قبل المغازي فقال: إني أسألك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أوّل أشراط الساعة، وما أوّل طعام يأكله أهل الجنة، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فذكر له جواب مسائله. (فقال: أشهد أنك رسول الله وأنك جئت بحق، وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيّ ما ليس فيّ) بتشديد التحتية فيهما (فأرسل نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) إلى اليهود (فأقبلوا فدخلوا عليه) عليه الصلاة والسلام بعد أن خبأ لهم عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- (فقال لهم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقًّا وأني جئتكم بحق فأسلموا) بهمزة قطع وكسر اللام (قالوا): منكرين ذلك (ما نعلمه قالوا للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالها ثلاث مرار قال) عليه الصلاة والسلام (فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام) (قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا قال) عليه الصلاة والسلام لهم (أفرأيتم) أي أخبروني (إن أسلم) عبد الله (قالوا: حاشى لله ما كان ليسلم) بضم التحتية وكسر اللام (قال) عليه السلام (أفرأيتم إن أسلم قالوا: حاشى لله) ولأبي ذر حاش لله (ما كان ليسلم. قال: أفرأيتم إن أسلم قالوا: حاشى لله) ولأبي ذر حاشى لله (ما كان ليسلم) كررت ثلاثًا (قال) عليه الصلاة والسلام: (يا ابن سلام اخرج عليهم فخرج فقال: يا معشر اليهود اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنه جاء بحق) ولأبي ذر عن الكشميهني بالحق (فقالوا له: كذبت فأخرجهم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من عنده.
3912 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ -يَعْنِي عَنِ ابْنِ عُمَرَ- عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ فَرَضَ
لِلْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ أَرْبَعَةَ آلاَفٍ فِي أَرْبَعَةٍ، وَفَرَضَ لاِبْنِ عُمَرَ ثَلاَثَةَ آلاَفٍ وَخَمْسَمِائَةٍ. فَقِيلَ لَهُ: هُوَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَلِمَ نَقَصْتَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا هَاجَرَ بِهِ أَبَوَاهُ. يَقُولُ: لَيْسَ هُوَ كَمَنْ هَاجَرَ بِنَفْسِهِ".
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (إيراهيم بن موسى) الفراء الصغير قال: (أخبرنا هشام) هو ابن يوسف الصنعاني (عن ابن جريج) عبد الملك أنه (قال: أخبرني) بالتوحيد (عبيد الله) مصغرًا (ابن عمر) بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- (عن نافع) مولى ابن عمر -رضي الله عنهما- (يعني عن ابن عمر عن) أبيه (عمر بن الخطاب) ولأبي ذر عن نافع عن عمر بن الخطاب فأسقط يعني عن ابن عمر وفيها انقطاع لأن نافعًا لم يدرك عمر (-رضي الله عنه-) أنه (قال: كان) عمر -رضي الله عنه- (فرض) عين (للمهاجرين الأولين) في بيت المال (أربعة آلاف في أربعة) أي أربعة آلاف في أربعة آلاف في أربعة أعوام (وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة فقيل له) لعمر -رضي الله عنه- (هو) أي ابن عمر (من المهاجرين فلم نقصته من أربعة آلاف) خمسمائة (قال) عمر -رضي الله عنه-: (إنما هاجر به أبواه) وكان عمره حينئذٍ إحدى عشرة سنة وأشهرًا (يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه).
3913 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ خَبَّابٍ قَالَ::"هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ... " ح.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن كثير) بالمثلثة قال: (أخبرنا سفيان) بن عيينة (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن أبي وائل) شقيق بن سلمة (عن خباب) بالخاء المعجمة والموحدة الأولى المشدّدة ابن الأرت التميمي من السابقين إلى الإسلام أنه (قال: هاجرنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
3914 - وَحَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنِ الأَعْمَشِ قَالَ: سَمِعْتُ شَقِيقَ بْنَ سَلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا خَبَّابٌ قَالَ: "هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ وَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ: قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ نَجِدْ شَيْئًا نُكَفِّنُهُ فِيهِ إِلاَّ نَمِرَةً كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاَهُ، فَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ؛ فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نُغْطِيَ رَأْسَهُ بِهَا، وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ إِذْخِرٍ. وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهْوَ يَهْدِبُهَا".
وبه قال: (ح حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن الأعمش) سليمان أنه (قال: سمعت) أبا وائل (شقيق بن سلمة. قال: حدّثنا خباب) -رضي الله عنه- (قال: هاجرنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي بإذنه لأنه لم يهاجر معه إلا أبو بكر -رضي الله عنه- وعامر بن فهيرة (نبتغي) نطلب (وجه الله) تعالى (ووجب) أي ثبت (أجرنا على الله فمنا من مضى) مات (لم يأكل من أجره) من الغنائم (شيئًا منهم مصعب بن عمير) بضم العين مصغرًا
(قتل يوم) وقعة (أحد

(6/224)


فلم نجد شيئًا نكفنه فيه إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه) لقصرها (فإذا) بالفاء، ولأبي ذر: وإذا (غطينا رجليه خرج رأسه فأمرنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن نغطي) بفتح الغين المعجمة وتشديد الطاء مكسورة في الفرع وفي أصله بسكون الغين وكسر الطاء مخففة (رأسه بها ونجعل على رجليه من اذخر) الذال والخاء المعجمتين نبت حجازي طيب الرائحة (ومنا من أينعت) بالتحتية والنون أدركت ونضجت (له تمرته فهو يهدبها) بكسر الدال مصححًا عليه في الفرع ويجوز الضم والفتح أي يجتنيها.
وهذا الحديث سبق في الجنائز وعن قريب.
3915 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيُّ قَالَ: "قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: هَلْ تَدْرِي مَا قَالَ أَبِي لأَبِيكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَإِنَّ أَبِي قَالَ لأَبِيكَ: يَا أَبَا مُوسَى، هَلْ يَسُرُّكَ إِسْلاَمُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهِجْرَتُنَا مَعَهُ وَجِهَادُنَا مَعَهُ وَعَمَلُنَا كُلُّهُ مَعَهُ بَرَدَ لَنَا، وَأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ عَمِلْنَاهُ بَعْدَهُ نَجَوْنَا مِنْهُ كَفَافًا رَأْسًا بِرَأْسٍ؟ فَقَالَ أَبِي: لاَ وَاللَّهِ، قَدْ جَاهَدْنَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَلَّيْنَا وَصُمْنَا وَعَمِلْنَا خَيْرًا كَثِيرًا وَأَسْلَمَ عَلَى أَيْدِينَا بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَإِنَّا لَنَرْجُو ذَلِكَ. فَقَالَ أَبِي: لَكِنِّي أَنَا وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ بَرَدَ لَنَا وَأَنَّ كُلَّ شَىْءٍ عَمِلْنَاهُ بَعْدُ نَجَوْنَا مِنْهُ كَفَافًا رَأْسًا بِرَأْسٍ. فَقُلْتُ: إِنَّ أَبَاكَ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَبِي".
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بشر) بكسر الموحدة وسكون المعجمة أبو زكريا البلخي قال: (حدّثنا روح) بفتح الراء ابن عبادة بضم العين قال: (حدّثنا عوف) بفتح العين الإعرابي (عن معاوية بن قرّة) بضم القاف وفتح الراء المشددة أنه (قال: حدّثنا) بالإفراد (أبو بردة) بضم الموحدة وسكون الراء عامر (بن أبي موسى) عبد الله (الأشعري قال: قال لي عبد الله بن عمر) بن الخطاب -رضي الله عنهما- (هل تدري ما قال أبي) عمر (لأبيك؟) أبي موسى (قال: قلت لا). أدري (قال: فإن أبي قال لأبيك: يا أبا موسى هل يسرك إسلامنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهجرتنا معه وجهادنا معه وعملنا كله معه برد) بفتح الموحدة والراء والدال المهملة ثبت وسلم (لنا وإن كل عمل عملناه) بفتع الميم في الأول وكسرها في الثاني (بعده نجونا منه) بالجيم وسكون الواو (كفافًا رأسًا برأس) قاله عمر -رضي الله عنه- هضمًا لنفسه أو لما رأى أن الإنسان لا يخلو عن تقصير في كل خير يعمله (فقال): ولأبي ذر قال (أبي) الصواب ما في رواية النسفيّ فقال أبوك لأن ابن عمر يخاطب أبا بردة ويعلمه أن أباه موسى قال: (لا والله قد جاهدنا بعد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصلينا وصمنا وعملنا خيرًا كثيرًا وأسلم على أيدينا بشر كثير) بالمثلثة (وإنا لنرجو ذلك، فقال أبي) عمر (لكني أنا والذي نفس عمر بيده لولدت أن ذلك برد) بفتحات سلم (لنا وأن كل شيء عملناه) سقط ضمير النصب لأبي ذر (بعد نجونا منه كفافًا رأسًا برأس) قال أبو بردة (فقلت) لابن عمر (إن أباك) عمر (والله خير من أبي) أبي موسى لأن مقام الخوف أفضل من مقام الرجاء.
3916 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ -أَوْ بَلَغَنِي عَنْهُ- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: "سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- إِذَا قِيلَ لَهُ هَاجَرَ قَبْلَ أَبِيهِ يَغْضَبُ. قَالَ: وَقَدِمْتُ أَنَا وَعُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَجَدْنَاهُ قَائِلاً فَرَجَعْنَا إِلَى الْمَنْزِلِ، فَأَرْسَلَنِي عُمَرُ وَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ هَلِ اسْتَيْقَظَ؟ فَأَتَيْتُهُ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَبَايَعْتُهُ، ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّهُ قَدِ اسْتَيْقَظَ، فَانْطَلَقْنَا إِلَيْهِ نُهَرْوِلُ هَرْوَلَةً حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ فَبَايَعَهُ، ثُمَّ بَايَعْتُهُ". [الحديث 3916 - طرفاه في: 4186، 4187].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن صباح) بتشديد الموحدة البزاز بمعجمتين قال: المؤلّف (أو بلغني عنه) عن محمد بن صابح عباد بن الوليد الغبري بضم الغين المعجمة وفتح الموحدة وقد روى المؤلّف عن محمد بن صباح في الصلاة والبيوع جازمًا بغير واسطة قال: (حدّثنا إسماعيل) ابن علية (عن عاصم) هو ابن سليمان الأحول (عن أبي عثمان) عبد الرحمن بن ملّ النهدي أنه (قال: سمعت ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا قبل له) أنه (هاجر قبل أبيه يغضب) لما فيه من رفعته على أبيه وتنافسه (قال) ابن عمر: (وقدمت أنا و) أبي (عمر على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) عند البيعة قال في الفتح: ولعلها بيعة الرضوان (فوجدناه قائلاً) نائمًا في القائلة (فرجعنا إلى المنزل فأرسلني عمر) -رضي الله عنه- إليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وقال): ولأبي ذر فقال (اذهب فانظر هل استيقظ) عليه الصلاة والسلام من نومه (فأتيته) عليه الصلاة والسلام (فدخلت عليه فبايعته ثم انطلقت إلى عمر فأخبرنه أنه قد استيقظ فانطلقنا إليه) زاده الله شرفًا لديه حال كوننا (تهرول هرولة حتى دخل) عمر (عليه فبايعه ثم بايعته) ثانيًا وزعم الداودي أن هذه البيعة كانت عند قدومه عليه الصلاة والسلام المدينة في الهجرة.
واستبعد لأن ابن عمر لم يكن إذ ذاك في سن من يبايع وقد عرض على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد ذلك بثلاث سنين يوم أُحُد فلم يجزه، فيحتمل أن تكون البيعة هذه على غير قتال، وإنما ذكرها ابن عمر ليبين سبب وهم من قال: إنه ممن هاجر قبل أبيه وإنما الذي وقع له أنه بايع قبل أبيه فتوهم بعضهم أن هجرته كانت قبل هجرة أبيه وليس كذلك حكاه في الفتح عن الداودي.
3917 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: "سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يُحَدِّثُ قَالَ: ابْتَاعَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ عَازِبٍ رَحْلاً" فَحَمَلْتُهُ مَعَهُ. قَالَ: فَسَأَلَهُ عَازِبٌ عَنْ مَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: أُخِذَ عَلَيْنَا بِالرَّصَدِ، فَخَرَجْنَا لَيْلاً، فَأَحْثَثْنَا لَيْلَتَنَا وَيَوْمَنَا حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، ثُمَّ رُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ، فَأَتَيْنَاهَا وَلَهَا شَىْءٌ مِنْ ظِلٍّ. قَالَ: فَفَرَشْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرْوَةً مَعِي، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَانْطَلَقْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعٍ قَدْ أَقْبَلَ فِي غُنَيْمَةٍ يُرِيدُ مِنَ الصَّخْرَةِ مِثْلَ الَّذِي أَرَدْنَا، فَسَأَلْتُهُ: لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلاَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا لِفُلاَنٍ. فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَخَذَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: انْفُضِ الضَّرْعَ. قَالَ: فَحَلَبَ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، وَمَعِي إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ عَلَيْهَا خِرْقَةٌ قَدْ
رَوَّأْتُهَا لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى رَضِيتُ. ثُمَّ ارْتَحَلْنَا وَالطَّلَبُ فِي إِثْرِنَا".
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع، ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (أحمد بن عثمان) الأزدي الكوفي قال: (حدّثنا

(6/225)


شريح بن مسلمة) بضم الشين المعجمة وفتح الراء آخره مهملة ومسلمة بميم مفتوحة ومهملة ساكنة وفتح اللام الكوفي قال: (حدّثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه) يوسف بن إسحاق (عن أبي إسحاق) عمرو السبيعي أنه (قال: سمعت البراء) بن عازب -رضي الله عنه- (يحدث قال: ابتاع أبو بكر) -رضي الله عنه- (من عازب) هو أبو البراء المذكور (رحلاً) بسكون الحاء المهملة. قال البراء (فحملته معه) أي فحملت الرحل مع أبي بكر -رضي الله عنه- (قال: فسأله عازب عن مسير رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: أخذ) بضم الهمزة وكسر المعجمة (عينا بالرصد) بالارتقاب (فخرجنا ليلاً) من الغار بعد ثلاث ليال (فأحثثنا) بحاء مهملة فمثلثتين فنون أي أسرعنا السير وفي نسخة فاحثثنا بزيادة فوقية بعد الحاء افتعلنا من الحث وفي أخرى فأحيينا بتحتيين بدل المثلثين بلا فوقية من الإحياء ضد النوم (ليلتنا ويومنا حتى قام قائم الظهيرة) نصف النهار حيث لا يظهر ظل (ثم رفعت لنا صخرة) أي ظهرت لأبصارنا (فأتيناها ولها شيء من ظل. قال) أبو بكر -رضي الله عنه-: (ففرشت لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فروة) من جلد (معي ثم اضطجع عليها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فانطلقت أنفض ما حوله) من الغبار (فإذا أنا براع قد أقبل في غنيمة) بضم الغين المعجمة وفتح النون ولأبي ذر عن الحموي والمستملي في غنيمته بفوقية بعد الميم (يريد من الصخرة مثل الذي أردنا) منها من الظل (فسألته لمن أنت يا غلام؟ فقال: أنا لفلان فقلت له: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم. قلت له: هل أنت حالب؟) أي أذن لك أن تحلب لمن يمر بك على سبيل الضيافة (قال: نعم فأخذ شاة من غنمه فقلت له؟ انفض الضرع) من الأوساخ (قال: فحلب كثبة) بكاف مضمومة فمثلثة ساكنة فموحدة قطعة (من لبن) قدر ملء القدح (ومعي إداوة) بكسر الهمزة وعاء من جلد (من ماء عليها) ولأبي ذر: وعليها (خرقة قد روّأتها لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) براء مفتوحة فواو مشدّدة مفتوحة فهمزة ساكنة ففوقية فهاء أي تأنيت بها حتى صلحت. تقول: روّأت الأمر إذا نظرت فيه ولم تعجل وقال في النهاية: الصواب ترك الهمزة أي شددتها بالخرقة وربطتها عليها يقال: رويت البعير مخفف الواو إذا شددت عليه بالرواء بكسر الراء وقال الأزهري: الرواء الحبل الذي يروى به على البعير أي يشد به المتاع عليه وقال الكرماني: روّأتها جعلت فيها الماء لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فصببت على اللبن) من الإدواة (حتى برد أسفله) بفتح الموحدة والراء (ثم أتيت به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت) له (اشرب يا رسول الله فشرب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى رضيت) أي طابت نفسي بكثرة شربه (ثم ارتحلنا والطلب) بفتح الطاء واللام بعدها موحدة (في إثرنا) بكسر الهمزة وسكون المثلثة ولأبي ذر في أثرنا بفتحهما.
3918 - قَالَ الْبَرَاءُ: فَدَخَلْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى أَهْلِهِ، فَإِذَا عَائِشَةُ ابْنَتُهُ مُضْطَجِعَةٌ قَدْ أَصَابَتْهَا
حُمَّى، فَرَأَيْتُ أَبَاهَا فَقَبَّلَ خَدَّهَا وَقَالَ: كَيْفَ أَنْتِ يَا بُنَيَّةُ".
(قال البراء: فدخلت مع أبي بكر) - رضي الله تعالى عنه - (على أهله فإذا عائشة ابنته) -رضي الله عنها- (مضطجعة) بالرفع، ولأبي ذر: مضطجعة بالنصب (قد أصابتها حمى فرأيت أباها) أتاها (فقبّل) ولأبي ذر: يقبل (خدها) بلفظ المضارع (وقال): لها (كيف أنت يا بنية؟).
وهذا الحديث قد مرّ في باب علامات النبوة بأتم لكن بدون هذه الزيادة إذ لم يذكرها البخاري إلا هنا وكان دخول البراء على عائشة -رضي الله عنها- قبل الحجاب اتفاقًا وسنه دون البلوغ.
3919 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ وَسَّاجٍ حَدَّثَهُ عَنْ أَنَسٍ خَادِمِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَيْسَ فِي أَصْحَابِهِ أَشْمَطُ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ، فَغَلَفَهَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ". [الحديث 3919 - طرفه في: 3920].
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن عبد الرحمن) الدمشقي قال: (حدّثنا محمد بن حمير) بكسر الحاء المهملة وسكون الميم وبعد التحتية المفتوحة راء الحمصي قال: (حدّثنا إبراهيم بن أبي عبلة) بفتح العين المهملة وسكون الموحدة وفتح اللام شمر بن يقظان العقيلي الشامي (أن عقبة بن وساج) بفتح الواو والسين المهملة المشددة آخره جيم البصري سكن الشام (حدثه عن أنس خادم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال: قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) المدينة لما هاجر إليها (وليس في أصحابه) المهاجرين (أشمط) بهمزة مفتوحة فمعجمة ساكنة فميم مفتوحة فطاء مهملة قد خالط شعره الأسود بياض (غير) بفتح الراء ولأبي ذر غير

(6/226)


(أبي بكر) بضمها (فغلفها) بفتح الغين المعجمة واللام والفاء وعلى اللام في الفرع وأصله خف وصرح به البرماوي فقال: بتخفيف اللام وسبقه إليه الزركشي في التنقيح وتعقبه في المصابيح بأن القاضي عياضًا -رحمه الله- قال: إن الرواية بتشديدها، ثم حكي عن ابن قتيبة أنه قال: غلف لحيته بالتخفيف ولا يقال بالتشديد قال: فأعرض الزركشي عن الرواية واعتمد قول ابن قتيبة وضمير النصب من قوله فغلفها عائد إلى لحيته لتقدم الدال عليها وهو قوله ليس في أصحابه أشمط غير أبي بكر والمعنى لطخها وسترها (بالحناء) بكسر الحاء المهملة وتشديد النون ممدودًا (والكتم) بفتح الكاف والفوقية المخففة، وحكي عن أبي عبيد تشديدها ورق يخصف به كالآس من نبات ينبت في أصعب الصخور فيتدلى خيطانًا لطافًا ومجتناه صعب ولذلك هو قليل.
3920 - وَقَالَ دُحَيْمٌ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ وَسَّاجٍ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ فَكَانَ أَسَنَّ أَصْحَابِهِ أَبُو بَكْرٍ فَغَلَفَهَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ حَتَّى قَنَأَ لَوْنُهَا".
(وقال دحيم): بضم الدال وفتح الحاء المهملتين عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي الحافظ فيما وصله الإسماعيلي قال: (حدّثنا الوليد) بن مسلم الحافظ عالم الشام قال: (حدّثنا الأوزاعي)
عبد الرحمن قال: (حدّثني) بالإفراد (أبو عبيد) بضم العين مصغرًا واسمه حييّ بضم المهملة وتخفيف التحتية الأولى وتشديد الثانية مولى سليمان بن عبد الملك (عن عقبة بن وساج) بالسين المهملة والجيم قال: (حدّثني) بالتوحيد (أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة) مهاجرًا (فكان أسنّ أصحابه) الذين قدموا معه (أبو بكر) -رضي الله عنه- وقد خالط سواد شعر لحيته بياض (فغلفها بالحناء والكتم حتى قنأ لونها) بقاف فنون فهمزة مفتوحات اشتدت حمرتها حتى ضربت إلى السواد.
3921 - حَدَّثَنَا أَصْبَغُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ -رضي الله عنه- تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ كَلْبٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ بَكْرٍ، فَلَمَّا هَاجَرَ أَبُو بَكْرٍ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَهَا ابْنُ عَمِّهَا"، هَذَا الشَّاعِرُ الَّذِي قَالَ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ رَثَى كُفَّارَ قُرَيْشٍ:
وَمَاذَا بِالْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ ... مِنَ الشِّيزَى تُزَيَّنُ بِالسَّنَامِ
وَمَاذَا بِالْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ ... مِنَ الْقَيْنَاتِ وَالشَّرْبِ الْكِرَامِ
تُحَيِّينَا بِالسَّلاَمَةِ أُمُّ بَكْرٍ ... وَهَلْ لِي بَعْدَ قَوْمِي مِنْ سَلاَمِ
يُحَدِّثُنَا الرَّسُولُ بِأَنْ سَنَحْيَا ... وَكَيْفَ حَيَاةُ أَصْدَاءٍ وَهَامِ
وبه قال: (حدّثنا أصبغ) بن الفرج القرشي مولاهم المصري كاتب عبد الله بن وهب المصري قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: أخبرنا (ابن وهب) عبد الله (عن يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري (عن عروة) بن الزبير (عن عائشة) -رضي الله عنها- (أن) أباها (أبا بكر -رضي الله عنه- تزوج امرأة من) بني (كلب) أي ابن عوف بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة (يقال لها): للتي تزوجها (أم بكر) بفتح الموحدة وسكون الكاف ولم يقف الحافظ ابن حجر رحمه الله على اسمها (فلما هاجر أبو بكر) -رضي الله عنه- إلى المدينة (طلقها فتزوجها ابن عمها) أبو بكر شداد بن الأسود بن عبد شمس بن مالك بن جعونة ويقال له: ابن شعوب بفتح المعجمة وضم المهملة وبعد الواو الساكنة موحدة وهو (هذا الشاعر الذي قال: هذه القصيدة) التي كان (رثى) بها (كفار قريش) الذين قتلوا يوم بدر وألقاهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالقليب (وماذا بالقليب) البئر التي لم تطو (قليب بدر) بدل من قليب الأول (من الشيزى) بكسر الشين المعجمة وسكون التحتية وفتح الزاي مقصورًا شجر تعمل منه الجفان. أي: وماذا بقليب بدر من أصحاب الجفان والقصاع المعمولة من الشيزى للثريد حال كونها (تزين) بضم الفوقية وفتح الزاي وتشديد التحتية بعدها نون (بالسنام) بفتح السين المهملة والنون أي بلحوم سنام الإبل فهو على حذف مضاف، وقيل كانوا يسمون الرجل المطعام جفنة لأنه يطعم الناس (وماذا بالقليب قليب بدر من القينات) بفتح القاف أي: وماذا به من أصحاب المغنيات (والشرب الكرام) بفتح الشين المعجمة وسكون الراء الندامى، والواحد شارب كصحب وصاحب (تحيي بالسلامة) بالتحتية أو دعاء بالسلامة، ولأبي ذر عن
الحموي والمستملي تحيينا السلامة (أم بكر، وهل) بالواو ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: فهل (لي بعد) هلاك (قومي من سلام) من تحية أو من سلامة وهو يقوي أن المراد من السلام الدعاء بالسلامة أو الإخبار بها (يحدّثنا الرسول) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بأن سنحيا) بعد الموت (وكيف حياة أصداء) بفتح الهمزة وسكون الصاد وفتح الدال المهملتين ممدودًا جمع صدى ذكر اليوم (وهام) بفتح الواو والهاء وألف فميم جمع هامة بتخفيف الميم على المشهور.
وكانت

(6/227)


العرب تعتقد أن روح القتيل الذي لم يؤخذ بثأره تصير هامة فتزقو عند قبره وتقول: اسقوني اسقوني من دم قاتلي فإذا أخذ بثأره طارت، وقيل كانوا يزعمون أن عظام الميت، وقيل روحه تصير هامة ويسمونها الصدى، وهذا تفسير أكثر العلماء فهو هنا عطف تفسيري، وقيل الصدى الطائر الذي يطير بالليل والهامة جمجمة الرأس وهي التي يخرج منها الصدى بزعمهم وأراد الشاعر إنكار البعث بهذا الكلام فإنه يقول: إذا صار الإنسان كهذا الطائر كيف يصير مرة أخرى إنسانًا؟.
3922 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْغَارِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِأَقْدَامِ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصَرَهُ رَآنَا. قَالَ: اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ، اثْنَانِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا».
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري قال: (حدّثنا همام) هو ابن يحيى الشيباني البصري (عن ثابت) البناني (عن أنس عن أبي بكر -رضي الله عنه-) أنه (قال: كنت مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الغار) بجبل ثور (فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم) كفار قريش (فقلت: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره) أي أماله إلى تحت (رآنا قال): عليه الصلاة والسلام:
(اسكت يا أبا بكر) نحن (اثنان الله ثالثهما) في معاونتهما وتحصيل مرادهما.
وهذا الحديث سبق في مناقب أبي بكر -رضي الله عنه-.
3923 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ ح.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَأَلَهُ عَنِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنَّ الْهِجْرَةَ شَأْنُهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَتُعْطِي صَدَقَتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ تَمْنَحُ مِنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَتَحْلُبُهَا يَوْمَ وُرُودِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا».
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا الوليد بن مسلم) الدمشقي قال:
(حدّثنا الأوزاعي) عبد الرحمن (وقال: محمد بن يوسف حدّثنا الأوزاعي) قال: (حدّثنا) وفي نسخة: حدّثني (الزهري) محمد بن مسلم (قال: حدّثني) بالإفراد (عطاء بن يزيد الليثي قال: حدّثني) بالتوحيد أيضًا (أبو سعيد) بكسر العين الخدري (-رضي الله عنه- قال: جاء أعرابي إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسأله عن الهجرة) أي أن يبايعه على أن يقيم بالمدينة ولم يكن من أهل مكة الذين وجبت عليهم الهجرة قبل فتح مكة (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(ويحك إن الهجرة شأنها) أي القيام بحقها (شديد) لا تستطيع القيام بحقها (فهل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: فتعطي صدقتها؟) الواجبة (قال: نعم. قال: فهل تمنح منها؟) أي تعطيها لغيرك بحلب منها (قال: نعم. قال: فتحلبها؟) للمساكين (يوم ورودها) بضم الواو والراء على الماء لأنه أرفق لها. ولأبي ذر: وردها بكسر الواو وسكون الراء بغير واو بعدها. (قال: نعم. قال: فاعمل من وراء البحار) بكسر الموحدة وبالمهملة أي من وراء القرى والمدن فلا تبال أن تقيم في بلدك ولو كنت في أقصى بلاد الإسلام (فإن الله لن يترك) بفتح التحتية وكسر الفوقية أي لم ينقصك (من) ثواب (عملك شيئًا) إذا أدّيت الحقوق التي عليك.
وهذا الحديث قد سبق في باب الزكاة الإبل من الزكاة.

46 - باب مَقْدَمِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ الْمَدِينَةَ
(باب مقدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى قباء يوم الاثنين ربيع أول وقيل في ثامنه (و) مقدم أكثر (أصحابه المدينة) قبله.
3924 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ سَمِعَ الْبَرَاءَ -رضي الله عنه- قَالَ: "أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ. ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَبِلاَلٌ -رضي الله عنهم-".
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (قال: أنبأنا) أي أخبرنا (أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي أنه (سمع البراء -رضي الله عنه- قال: أول من قدم علينا) بالمدينة من المهاجرين (مصعب بن عمير) بضم الميم وسكون الصاد وفتح العين المهملتين آخره موحدة وعمير بضم العين مصغرًا ابن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدري، ونزل على خبيب بن عديّ كما قاله موسى بن عقبة، وكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أمره بالهجرة والإقامة وتعليم من أسلم من أهل المدينة (وابن أم مكتوم) عمرو الأعمى بعد مصعب (ثم قدم علينا عمار بن ياسر) بالتحتية والسين المهملة بينهما ألف، وقد اختلف في عمار هل هاجر الحبشة أم لا فإن يكن فهو ممن هاجر الهجرتين (وبلال) المؤذن (-رضي الله عنهم-).
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في فضائل القرآن.
3925 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانوا يُقْرِئونَ النَّاسَ، فَقَدِمَ بِلاَلٌ وَسَعْدٌ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ. ثُمَّ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَىْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، حَتَّى جَعَلَ الإِمَاءُ يَقُلْنَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَمَا قَدِمَ حَتَّى قَرَأْتُ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} فِي سُوَرٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ".
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (محمد بن بشار) بندار العبدي قال: (حدّثنا غندر) محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي إسحاق) عمرو السبيعي أنه (قال: سمعت البراء بن عازب -رضي الله عنهما-) أنه (قال: أول من قدم علينا) من المهاجرين المدينة (مصعب بن عمير و) بعده (ابن أم مكتوم) عمرو المؤذن واسم أمه عاتكة (وكانا

(6/228)


يقرئان الناس) القرآن بالتثنية فيهما، ولأبي ذر كانوا يقرؤون الناس بلفظ الجمع فيهما بعد ذكر اثنين (فقدم بلال) ْالمؤذن ابن رباح وأمه حمامة مولى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- (وسعد) بسكون العين ابن أبي وقاص -رضي الله عنه- أحد العشرة (وعمار بن ياسر، وقدم عمر بن الخطاب) -رضي الله عنه- (في عشرين من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وسمى منهم ابن إسحاق فيما قرأته في عيون الأثر: زيد بن الخطاب، وعمرًا وعبد الله ابني سراقة بن المعتمر بن أنس بن أداة بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، وخنيس بن حذاقة السهمي، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وواقد بن عبد الله التميمي حليف لهم، وخولي بن أبي خولي، ومالك بن أبي خولي، واسم أبي خولي عمرو بن زهير وبني البكير أربعتهم اياسًا وعاقلاً وعامرًا وخالدًا حلفاؤهم من بني سعد بن ليث، وعياش بن أبي ربيعة، ونزل هؤلاء الثلاثة عشر على رفاعة بن عبد المنذر بن زهير في بني عمرو بن عوف بقباء قال في الفتح: فلعل بقية العشرين كانوا من أتباعهم، وزاد ابن عائذ في مغازيه الزبير.
(ثم قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وأبو بكر وعامر بن فهيرة ونزلوا على كلثوم بن الهدم فيما قاله ابن شهاب فيما حكاه الحاكم ورجحه. (فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم) أي كفرحهم فالنصب على نزع الخافض (برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى جعل الإماء) جمع أمة (يقلن: قدم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). وعند الحاكم عن أنس -رضي الله عنه-: فخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدف وهن يقلن:
نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار
(فما قدم) عليه الصلاة والسلام (حتى قرأت) سورة (سبح اسم ربك الأعلى في سور) أخرى معها (من المفصل) وأوله: الحجرات كما صححه النووي في دقائق منهاجه وغيرها، وجزم
ابن كثير أن سورة {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1] مكية كلها لحديث الباب.
3926 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ. قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلاَلُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَتْ: فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أَقْلَعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ وَيَقُولُ:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ ... وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: لما قدم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة) في الهجرة (وعك) بضم الواو وكسر العين أي حمّ (أبو بكر وبلال) -رضي الله عنهما- (قالت) عائشة: (فدخلت عليهما فقلت: يا أبت كيف تجدك؟) أي تجد نفسك (ويا بلال كيف تجدك؟ قالت): عائشة -رضي الله عنها- (فكان أبو بكر) -رضي الله عنه- (إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبح) بفتح الموحدة المشددة (في أهله والموت أدنى) أقرب إليه (من شراك نعله) بكسر الشين المعجمة سيورها التي على وجهها، والمعنى أن المرء يصاب بالموت صباحًا أو يقال له: صبحك الله بالخير وقد يفجؤه الموت بقية نهاره (وكان بلال إذا أقلع) بفتح الهمزة واللام ولأبي ذر أقلع بضم ثم كسر (عنه الحمى) وسقط لفظ الحمى لأبي ذر (يرفع عقيرته) بفتح العين المهملة وكسر القاف وسكون التحتية وفتح الراء بعدها فوقية أي صوته بالبكاء (ويقول: ألا) بتخفيف اللام (ليت شعري هل أبيتنّ ليلة بواد) هو وادي مكة (وحولي إذخر) بكسر الهمزة وسكون الذال وكسر الخاء المعجمتين حشيش مكة ذو الرائحة الطيبة (وجليل) بالجيم نبت ضعيف يحشى به خصاص البيوت وهو الثمام (وهل أردن) بنون التأكيد الخفيفة (يومًا مياه) بالهاء (مجنة) بفتح الجيم والنون المشددة وتكسر الجيم اسم موضع على أميال من مكة كان به سوق فى الجاهلية (هل يبدون) بنوق التأكيد الخفيفة يظهرن (لي شامة) بالشين المعجمة والميم المخففة (وطفيل) بطاء مهملة مفتوحة وفاء مكسورة بعدها تحتية ساكنة جبلان بقرب مكة أو عينان.
(قالت عائشة): -رضي الله عنها- (فجئت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبرته) بشأنهما (فقال): عليه الصلاة والسلام (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد وصححها وبارك لنا في صاعها ومدّها وانقل حماها فاجعلها بالجحفة) بضم الجيم وسكون الحاء المهملة، وكانت إذ ذاك مسكن اليهود، وهي الآن ميقات مصر وفيه جواز الدعاء على الكفار

(6/229)


بالأمراض والهلاك والدعاء للمسلمين بالصحة وإظهار معجزته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإن الجحفة من يومئذ لا يشرب أحد من مائها إلاّ حمّ، وقد مضى الحديث في الحج.
3927 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيٍّ أَخْبَرَهُ "دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ" ح. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ شُعَيْبٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الخِيَارٍ أَخْبَرَهُ قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ، فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْحَقِّ، وَكُنْتُ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَآمَنَ بِمَا بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ هَاجَرْتُ هِجْرَتَيْنِ، وَكنتُ صِهْرَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَبَايَعْتُهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلاَ غَشَشْتُهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ".
تَابَعَهُ إِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ: "حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ" مِثْلَهُ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (عبد الله بن محمد) المسند قال: (حدّثنا هشام) هو ابن يوسف الصنعاني قال: (أخبرنا معمر) هو ابن رشاد (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه قال: (حدّثني) بالتوحيد (عروة بن الزبير) ثبت ابن الزبير لأبي ذر (أن عبيد الله) بالتصغير (ابن عدي) بتشديد التحتية ولأبي ذر زيادة ابن الخيار (أخبره) فقال: (دخلت) ولأبي ذر: دخل أي أخبرنه أنه دخل (على عثمان ح).
(وقال بشر بن شعيب): بكسر الموحدة وسكون المعجمة وشعيب مصغر مما وصله أحمد في مسنده (حدّثني) بالإفراد (أبي) شعيب (عن الزهري) أنه قال: (حدّثني) بالإفراد (عروة بن الزبير أن عبيد الله بن عدي بن خيار) ولأبي ذر: ابن الخيار (أخبره قال: دخلت) ولأبي ذر: دخل (على عثمان) أي بسبب أخيه لأمه الوليد لما أكثر الناس فيه لشربه الخمر ولم يقم عليه الحدّ فذكرت له ذلك (فتشهد ثم قال: أما بعد فإن الله بعث محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالحق وكنت ممن استجاب لله ولرسوله وآمن بما بعث به محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) سقطت التصلية لأبي ذر (ثم هاجرت هجرتين) هجرة الحبشة وهجرة المدينة وكان ممن رجع من الحبشة فهاجر من مكة إلى المدينة ومعه زوجتة رقية بنت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ونلت) بنون مكسورة فلام ساكنة ففوقية، ولأبي ذر عن الكشميهني وكنت (صهر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبايعته فوالله ما عصيته ولا غششته) بفتح الشين الأولى وسكون الثانية (حتى توفاه الله تعالى).
(تابعه) أي تابع شعيبًا (إسحاق) بن يحيى (الكلبي) الحمصي فيما وصله أبو بكر بن شاذان
فقال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذرّ: حدّثنا (الزهري مثله) وساقه ابن شاذان بتمامه وفيه أنه جلد الوليد أربعين.
وقد سبق ما في ذلك من المبحث في مناقب عثمان والغرض منه هنا قوله ثم هاجرت الهجرتين.
3928 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ ح. وَأَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ وَهْوَ بِمِنًى فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ، فَوَجَدَنِي فَقَالَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ. فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغاءهم، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تُمْهِلَ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ، فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ وَالسَّلاَمَةِ، وَتَخْلُصَ لأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ وَذَوِي رَأْيِهِمْ. قَالَ عُمَرُ: لأَقُومَنَّ فِي أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ".
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن سليمان) الجعفي الكوفي سكن مصر قال: (حدّثني) بالإفراد (ابن وهب) عبد الله قال: (حدّثنا مالك) إمام دار الهجرة قال ابن وهب: (ح).
(وأخبرني) بالإفراد (يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) مصغرًا (ابن عبد الله) بن عتبة بن مسعود (أن ابن عباس) -رضي الله عنهما- ولأبي ذر أن عبد الله بن عباس (أخبره أن عبد الرحمن بن عوف رجع إلى أهله وهو) أي والحال أنه نازل (بمنى في آخر حجة حجها عمر فوجدني) في كتاب المحاربين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كنت أقرئ رجالاً منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في آخر حجة حجها إذ رجع إليّ فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان؟ يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلانًا فوالله ما كانت بيعة أبي بكر -رضي الله عنه- هلا فلتة فتمت فغضب عمر -رضي الله عنه- ثم قال: إني لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم (فقال عبد الرحمن فقلت: يا أمير المؤمنين إن الموسم) أي موسم الحج (يجمع رعاع الناس) بفتح الراء والعين المهملة المخففة وبعد الألف عين أخرى إسقاط الناس وسفلتهم زاد أبو ذر وغوغاءهم بمعجمتين واختلاط أصواتهم باللغط (وإني أرى) بفتح الهمزة في أرى (أن تمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة) وهذا هو مقصود الترجمة من الحديث (و) دار (السنة) ولأبي ذر عن الكشميهني والسلامة بدل قوله والسنة (وتخلص) بضم اللام والنصب عطفًا على تقدم أي تصل (لأهل الفقه وأشراف الناس وذوي رأيهم قال): ولأبي ذر وقال: (عمر لأقومن في أول مقام) بفتح الميم أي في أول قيام (أقومه بالمدينة) أذكر فيه الأحكام والحكم.
وهذا الحديث أخرجه في المغازي والاعتصام وأخرجه في المحاربين مطوّلاً.
3929 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ «أَنَّ أُمَّ الْعَلاَءِ -امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِمْ بَايَعَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-- أَخْبَرَتْهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ طَارَ لَهُمْ فِي السُّكْنَى حِينَ اقْتَرَعَتِ الأَنْصَارُ عَلَى سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ. قَالَتْ أُمُّ الْعَلاَءِ: فَاشْتَكَى عُثْمَانُ عِنْدَنَا، فَمَرَّضْتُهُ حَتَّى تُوُفِّيَ، وَجَعَلْنَاهُ فِي أَثْوَابِهِ. فَدَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، شَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: لاَ أَدْرِي، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ؟ قَالَ: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ وَاللَّهِ الْيَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَمَا أَدْرِي وَاللَّهِ -وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ- مَا يُفْعَلُ بِي. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لاَ أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ. قَالَتْ: فَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ، فَنِمْتُ، فَأُرِيتُ لِعُثْمَانَ عَيْنًا تَجْرِي، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ذَلِكَ عَمَلُهُ».
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري

(6/230)


قال: (حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: (أخبرنا ابن شهاب) الزهري (عن خارجة بن زيد بن ثابت) بالخاء المعجمة والجيم -رضي الله عنه- وثابت بالمثلثة الأنصاري المدني -رضي الله عنه- (أن) أمه (أم العلاء) بفتح العين المهملة ممدودًا بنت الحرث بن ثابت بن خارجة الأنصارية (امرأة من نسائهم) أي نساء الأنصار (بايعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبرته أن عثمان بن مظعون) بالظاء المعجمة الجمحي (طار لهم) أي وقع في سهمهم (في السكنى حين اقترعت الأنصار) بألف الوصل ولأبي ذر بهامش الفرع وأصله مصححًا عليه قرعت بلا ألف. وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- وغيره: كذا وقع ثلاثيًّا والمعروف أقرعت من الرباعي ولعله لم يقف إلا على رواية أبي ذر فقد ثبت بالألف في أصل الفرع والمعنى خرج لهم في القرعة (على سكنى المهاجرين) لما دخلوا عليهم المدينة مهاجرين (قالت أم العلاء: فاشتكى عثمان) أي مرض (عندنا فمرضته حتى توفي) زاد في الجنائز وغسل (وجعلناه في أثوابه) أي كفّناه فيها (فدخل علينا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب) منادى حذفت أداته وبالسين المهملة وهي كنية عثمان بن مظعون (شهادتي عليك) أي لك (لقد أكرمك الله) عز وجل أي أقسم بالله لقد أكرمك الله عز وجل (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(وما يدريك) بكسر الكاف أي من أين علمت (أن الله) عز وجل (أكرمه) (قالت: قلت لا أدري) أفديك (بأبي أنت وأمي يا رسول الله فمن؟) يكرمه الله إذا لم يكن هو من المكرمين مع إيمانه وطاعته (قال): -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أما هو فقد جاءه والله اليقين) أي الموت (والله إني لأرجو الخير وما أدري والله وأنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يفعل بي) بضم أوله وفتح ثالثه، وكان هذا قبل نزول: {ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر} [الفتح: 2] والدليل القطعي أنه خير البرية وأكرمهم ولأبي ذر: ما يفعل به أي بعثمان، وبهذه الرواية يرتفع الأشكال المجاب عنه لكن المحفوظ الرواية الأولى (قالت): أم العلاء (فوالله لا أزكي بعده) أي بعد ابن مظعون (أحدًا) كذا في الفرع والذي في اليونيية أصله أحدًا بعده بالتقديم والتأخير وزاد في الجنائز أبدًا (قالت: فأحزنني ذلك) الذي وقع
في شأن ابن مظعون من عدم الجزم له بالخير (فنمت فأريت) بتقديم الهمزة المضمومة على الراء (لعثمان بن مظعون) سقط ابن مظعون لأبي ذر (عينًا) من ماء (تجري فجئت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبرته) بما رأيته (فقال): (ذلك) بكسر الكاف (عمله) الصالح الذي كان يعمله.
وسبق هذا الحديث في باب الدخول على الميت من كتاب الجنائز.
3930 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "كَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ وَقَدِ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ، وَقُتِلَتْ سَرَاتُهُمْ فِي دُخُولِهِمْ فِي الإِسْلاَمِ".
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالتوحيد (عبيد الله) بالتصغير (ابن سعيد) بكسر العين ابن يحيى أبو قدامة اليشكري السرخسي قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوّام -رضي الله عنه- (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: كان يوم بعاث) بضم الموحدة وبالمثلثة مصروف على أنه اسم قوم ولأبي ذر غير مصروف على أنه اسم بقعة للتأنيث والعلمية (يومًا قدمه الله عز وجل لرسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي لأجله تمهيدًا له لأنه كان به وقعة بين الأوس والخزرج وقتل فيه خلق كثير من رؤسائهم (فقدم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة وقد افترق ملؤهم) أي جماعتهم ولأبي ذر: ملوهم صورة الهمز واو (وقتلت سراتهم) بسين مهملة مفتوحة بغير واو بعد الراء أي أشرافهم (في) أي لأجل (دخولهم) أي دخول من بقي من الأنصار (في الإسلام) فلو كان رؤساؤهم أحياء انقادوا للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيًّا للرئاسة والجار والمجرور يتعلق بقوله قدمه الله عز وجل.
وهذا الحديث قد سبق في مناقب الأنصار -رضي الله عنهم-.
3931 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَهَا يَوْمَ فِطْرٍ -أَوْ أَضْحًى- وَعِنْدَهَا قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَعَازَفَتِ الأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ -مَرَّتَيْنِ- فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَإِنَّ عِيدَنَا هَذَا الْيَوْمُ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد وصحح عليه في الفرع وأصله (محمد بن المثنى) بالمثلثة والنون المشددة العنزي الزمن قال:

(6/231)


(حدّثنا غندر) محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن هشام عن أبيه) عروة (عن عائشة) -رضي الله عنها- (أن أبا بكر) الصديق - رضي الله تعالى عنه - (دخل عليها والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندها يوم فطر أو أضحى) بفتح الهمزة وتنوين الحاء الشك من الراوي والواو في قوله والنبي للحال (و) الحال أن (عندها قينتان) بفتح القاف تثنية قينة أي جارية وضبب على النون الأخيرة من قينتان في اليونينية وفرعها، ولأبي ذر عن الكشميهني والمستملي: قينتا (تغنيان) أي تنشدان. زاد في الصلاة وليستا بمغنيتين والمراد تنزيه منزله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أن يكون فيه غناء من مغنيتين مشهورتين (بما تقاذفت) بالقاف والذال المعجمة أي بما ترامت به (الأنصار)
ولأبي ذر تعازفت بالعين المهملة والزاي بدل تقاذفت من عزف اللهو أي بما ضربوا عليه من المعازف من الأشعار التي قالها الأنصار (يوم بعاث) في هجاء بعضهم بعضًا (فقال: أبو بكر) - رضي الله تعالى عنه - (مزمار الشيطان) استفهام محذوف الأداة في بيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال ذلك (مرتين فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(دعهما) اتركهما (يا أبا بكر إن لكل قوم عيدًا وإن عيدنا هذا اليوم).
ومطابقة هذا الحديث للترجمة، قال العيني -رحمه الله تعالى-: من حيث إنه مطابق للحديث السابق في ذكر يوم بعاث والمطابق للمطابق مطابق. قال: ولم أر أحدًا ذكر له مطابقة كذا قال فليتأمل.
3932 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ ح. وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ يَزِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ الضُّبَعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ نَزَلَ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ، فِي حَىٍّ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى مَلإِ بَنِي النَّجَّارِ، قَالَ: فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِي سُيُوفِهِمْ. قَالَ: وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفَهُ وَمَلأُ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ حَتَّى أَلْقَى بِفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: فَكَانَ يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلإِ بَنِي النَّجَّارِ، فَجَاءُوا. فَقَالَ: يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي حَائِطَكُمْ هَذَا، فَقَالُوا: لاَ وَاللَّهِ لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ. قَالَ: فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ: كَانَتْ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَتْ فِيهِ خِرَبٌ، وَكَانَ فِيهِ نَخْلٌ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، قَالَ فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، قَالَ وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ حِجَارَةً. قَالَ: جَعَلُوا يَنْقُلُونَ ذَاكَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَهُمْ يَقُولُونَ:
اللَّهُمَّ إِنَّهُ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُ الآخِرَة ... فَانْصُرِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَة"
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد (ح).
(وحدّثنا) ولأبي ذر: وحدّثني بالإفراد (إسحاق بن منصور) الكوسج المروزي قال: (أخبرنا عبد الصمد) بن الوارث العنبري مولاهم التنوري بفتح المثناة الفوقية وتشديد النون المضمومة البصري (قال: سمعت أبي) عبد الوارث (يحدث فقال: حدّثنا أبو التياح) بفتح الفوقية والتحتية المشددة وبعد الألف حاء مهملة (يزيد بن حميد) بضم الحاء مصغرًا (الضبعي) بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة (قال: حدّثني) بالإفراد (أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: لما) بتشديد الميم (قدم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة) مهاجرًا (نزل في علو المدينة) بضم العين المهملة وسكون اللام
في قباء وكان ذلك إشارة إلى علوّه وعلوّ دينه (في حيّ يقال لهم بنو عمرو بن عوف) بفتح العين المهملة فيهما ابن مالك الأوسي ابن حارثة (قال): أنس (فأقام فيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى ملأ بني النجار) أي جماعتهم (قال: فجاؤوا) حال كونهم (متقلدي سيوفهم) بالجر لإضافة متقلدي إليه (قال: وكأني أنظر إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على راحلته) أي ناقته القصواء (وأبو بكر) الصديق - رضي الله تعالى عنه - (ردفه) بكسر الراء وسكون الدال المهملة والجملة اسمية حالية ولأبي ذر ردفه بالرفع ولغيره بالنصب (وملأ بني النجار) يمشون (حوله حتى) نزل و (ألقى) رحله (بفناء) بكسر الفاء دار (أبي أيوب) خالد بن زيد الأنصاري - رضي الله تعالى عنه - وهو ما امتدّ من جوانبها (قال) أنس - رضي الله تعالى عنه -: (فكان) عليه الصلاة والسلام (يصلّي حيث أدركته الصلاة ويصلّي في مرابض الغنم) أي مأواها (قال: ثم إنه أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ بني النجار فجاؤوا فقال) لهم:
(يا بني النجار ثامنوني) بالمثلثة أي ساوموني (حائطكم هذا) أي بستانكم وفي الصلاة بحائطكم بحرف الجر (فقالوا): ولأبي ذر: قالو (لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تعالى) أي منه (قال): أنس - رضي الله تعالى عنه - (فكان فيه) أي في البستان (ما أقول لكم كانت فيه قبور المشركين وكانت فيه خرب) بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء مصححًا عليها في الفرع كأصله (وكان فيه نخل فأمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقبور المشركين فنبشت وبالخرب) بكسر ثم فتح مصححًا عليه أيضًا (فسوّيت وبالنخل فقطع) وهو محمول على أنه غير مثمر وجاز قطعه للحاجة (قال): أنس - رضي الله تعالى عنه - (فصفوا النخل قبلة المسجد) أي في جهتها (قال: وجعلوا عضادتيه) بكسر العين

(6/232)


المهملة وفتح الضاد المعجمة أي عضادتي الباب وهما خشبتان من جانبيه (حجارة قال: جعلوا) بغير واو وسقط لأبي ذر لفظ قال. كذا في الفرع والذي في اليونينية قال قال مرتين والثانية ساقطة لأبي ذر أي قال أنس -رضي الله عنه-: جعلوا (ينقلون ذاك) بغير لام ولأبي ذر ذلك (الصخر وهم يرتجزون) تنشيطًا لنفوسهم ليسهل عليهم العمل (ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) يرتجز (معهم) وهم (يقولون): (اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة) وسقطت لفظة أنه لأبي ذر (فانصر الأنصار) الأوس والخزرج (والمهاجرة) بكسر الجيم الذين هاجروا إلى المدينة.
وهذا الحديث قد سبق في باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية من كتاب الصلاة.

47 - باب إِقَامَةِ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ، بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ
(باب) حكم (إقامة المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه) من حج أو عمرة.
3933 - حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَسْأَلُ السَّائِبَ ابْنَ أُخْتِ النَّمِرِ: مَا سَمِعْتَ فِي سُكْنَى مَكَّةَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ الْعَلاَءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ثَلاَثٌ لِلْمُهَاجِرِ بَعْدَ الصَّدَرِ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (إبراهيم بن حمزة) بالحاء المهملة والزاي ابن محمد بن حمزة بن مصعب بن عبد الله بن الزبير بن العوّام المدني قال: (حدّثنا حاتم) هو ابن إسماعيل الكوفي (عن عبد الرحمن بن حميد) بضم الحاء المهملة مصغرًا ابن عبد الرحمن بن عوف (الزهري) أنه (قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يسأل السائب) بن يزيد (ابن أخت النمر) بفتح النون وكسر الميم بعدها راء الكندي (ما سمعت في) حكم (سكنى مكة) للمهاجر (قال: سمعت العلاء بن الحضرمي) الصحابي الجليل -رضي الله عنه- (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ثلاث) أي ثلاث ليال ترخص الإقامة فيها (للمهاجر بعد) طواف (الصدر) بفتح الصاد المهملة والدال وهو بعد الرجوع من منى من غير زيادة وجوّز بعضهم الإقامة بعد الفتح.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الحج.

48 - باب التَّارِيخِ. مِنْ أَيْنَ أَرَّخُوا التَّارِيخَ؟
هذا (باب) بالتنوين من غير ترجمة، ولأبي ذر عن الكشميهني: باب التاريخ وهو تعريف الوقت من حيث هو وقت والإرخ بكسر الهمزة الوقت وفي الاصطلاح قيل هو توقيت الفعل بالزمان ليعلم مقدار ما بين ابتدائه وبين أيّ غاية فرضت له. فإذا قلت: كتبته في يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا وقرئ بعدما كتبته بعد ذلك بسنة مثلاً علم أن ما بين الكتابة وبين قراءتها سنة، وقيل هو أول مدة الشهر ليعلم به مقدار ما مضى، وأما اشتقاقه ففيه خلاف قيل إنه أعجمي فلا اشتقاق فيه، وقيل عربي، واختصت العرب بأنها تؤرخ بالسنة القمرية دون الشمسية فلهذا تقدم الليالي في التاريخ على الأيام لأن الهلال إنما يظهر في الليل (من أين أرخوا التاريخ) أي من أي وقت كان ابتداؤه؟ وعند ابن الجوزي أنه لما كثر بنو آدم أرخوا بهبوط آدم عليه السلام فكان التاريخ به إلى الطوفان، ثم إلى نار الخليل، ثم إلى زمان يوسف، ثم إلى خروج موسى من مصر ببني إسرائيل، ثم إلى زمن داود، ثم إلى زمن سليمان، ثم إلى زمان عيسى عليه السلام، ورواه ابن إسحاق عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وقيل: أرخت اليهود بخراب بيت المقدس والنصارى برفع المسيح، وأما ابتداء تاريخ الإسلام فروي عن ابن شهاب الزهري -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما قدم المدينة أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأول. رواه الحاكم في الإكليل لكن قال في الفتح: إنه معضل والمشهور خلافه.
3934 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: "مَا عَدُّوا مِنْ مَبْعَثِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلاَ مِنْ وَفَاتِهِ، مَا عَدُّوا إِلاَّ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي قال: (حدّثنا عبد العزيز عن أبيه) أبي حازم سلمة بن دينار (عن سهل بن سعد) بسكون الهاء والعين الساعدي أنه (قال: ما عدوا) التاريخ (من) وقت (مبعث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قيل لأن وقته كان مختلفًا فيه بحسب دعوته للحق ودخول الرؤيا
الصالحة فيه فلا يخلو من نزاع في تعيين سنته (ولا من) وقت (وفاته) لما يقع في تذكره من الأسف والتألم على فراقه (ما عدوا) ذلك (إلا من) وقت (مقدمه المدينة) مهاجرًا، وإنما جعلوه من أوّل المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في أول المحرم إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة وهي مقدمة الهجرة فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال محرم، فناسب أن يجعل مبتدأ وكان ذلك في خلافة عمر -رضي الله عنه- سنة سبع عشرة فجمع

(6/233)


الناس فقال بعضهم: أرخ بالمبعث وقال بعضهم: بالهجرة فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها، وبالمحرم لأنه منصرف الناس من حجهم فاتفقوا عليه. رواه الحاكم وغيره، والذي تحصل من مجموع الآثار أن الذي أشار بالمحرم عمر وعثمان وعلي.
وذكر السهيلي أن الصحابة -رضي الله عنهم- أخذوا التاريخ بالهجرة من قوله تعالى: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم} [التوبة: 108] لأنه من المعلوم أنه ليس أول الأيام مطلقًا، فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر وهو أول الزمن الذي عز فيه الإسلام وعبد فيه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ربه آمنًا وابتدئ فيه ببناء المساجد، فوافق رأي الصحابة -رضي الله عنهم- ابتداء التاريخ من ذلك اليوم وفهمنا من فعلهم أن قوله تعالى: {من أول يوم} أنه أول التاريخ الإسلامي.
3935 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "فُرِضَتِ الصَّلاَةُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ هَاجَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا وَتُرِكَتْ صَلاَةُ السَّفَرِ عَلَى الأُولَى". تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يزيد بن زريع) بضم الزاي مصغرًا أبو معاوية البصري قال: (حدثنا معمر) هو ابن راشد الأزدي (عن الزهري) محمد بن مسلم (عن عروة) بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها-) وأنها (قالت: فرضت الصلاة) بمكة (ركعتين) في كتاب الصلاة ركعتين ركعتين بالتكرير لإفادة عموم التثنية لكل صلاة في الحضر والسفر (ثم هاجر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) إلى المدينة (ففرضت أربعًا) أربعًا (وتركت صلاة السفر) ركعتين ركعتين (على) الفريضة (الأولى) بضم الهمزة ولأبي ذر على الأول من عدم وجوب الزائد بخلاف صلاة الحضر فإنه زيد في ثلاث منها ركعتان (تابعه) أي تابع يزيد بن زريع (عبد الرزاق) بن همام الصنعاني (عن معمر) هو ابن راشد السابق وهذه المتابعة وصلها الإسماعيلي.

49 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ» وَمَرْثِيَتِهِ لِمَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (اللهم أمض) بهمزة قطع (لأصحابي هجرتهم) أي تممها لهم ولا تنقصها عليهم (ومرثيته) بفتح الميم وسكون الراء وكسر المثلثة وفتح التحتية المخففة بعدها فوقية
وبالجر عطفًا على المجرور السابق أي وتوجعه عليه الصلاة والسلام (لمن مات بمكة) من المهاجرين.
3936 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «عَادَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ مَرَضٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَ بِي مِنَ الْوَجَعِ مَا تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: فَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ يَا سَعْدُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ ورثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ -قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: أَنْ تَذَرَ ذُرِّيَّتَكَ- وَلَسْتَ بِنَافِقٍ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ آجَرَكَ اللَّهُ بِهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ. قُلْتَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ. اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ. لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ ابْنُ خَوْلَةَ. يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ». وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَمُوسَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ «أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ».
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن قزعة) بالقاف والزاي والعين المهملة المفتوحات وقد تسكن الزاي الحجازي قال: (حدّثنا إبراهيم) بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- (عن الزهري) محمد بن مسلم (عن عامر بن سعد بن مالك عن أبيه) سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنه (قال: عادني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عام حجة الوداع) سنة عشر (من مرض) ولأبي ذر: يعني من وجع بي بدل قوله من مرض وزيادة يعني (أشفيت) بالفاء المفتوحة بعدها تحتية ساكنة أي أشرفت (منه على الموت فقلت: يا رسول الله بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني) من الولد إلا إناث (إلا ابنة لي واحدة) اسمها عائشة (أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال) عليه الصلاة والسلام:
(لا. قال): قلت (فأتصدق) بحذف أداة الاستفهام (بشطره؟ قال: لا) سقط قوله قال: لا لغير أبي ذر (قال: الثلث) يكفيك يا سعد (والثلث كثير) بالمثلثة مبتدأ أو خبر (إنك أن تذر) بالمعجمة وفتح الهمزة تترك (ذريتك) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي ورثتك (أغنياء خير من أن تذرهم عالة) بفتح اللام مخففة فقراء (يتكففون الناس) يطلبون الصدقة من أكف الناس أو يسألونهم بأكفهم.
(قال أحمد بن يونس): هو أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ المؤلّف (عن إبراهيم) بن سعد السابق مما وصله في حجة الوداع (إن) بفتح الهمزة (تذر ورثتك) وسقط من قوله: قال أحمد إلخ هنا لأبي ذر (ولست بنافق) كذا وقع هنا وصحح عليه في الفرع أصله والقياس بمنفق لأنه من أنفق وقال في الفتح: إن في رواية الكشميهني تنفق وهو الصواب (نفقة تبتغي بها وجه الله إلا آجرك الله بها) بمدّ همزة آجرك (حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك قلت: يا رسول الله أُخلَّف)
بضم الهمزة وفتح اللام المشددة وحذف همزة الاستفهام أي أأخلف (بعد أصحابي) بمكة أو في الدنيا (قال) عليه الصلاة والسلام: (إنك لن تخلف) بضم أوله وفتح ثانيه وثالثه المشدّد وروي

(6/234)


أنك أن تخلف وفي كلام الباجي وتفسيره ما يقتضي أن لمن بمعنى أن الشرطية لأنه فسرها بأنك أن ينسأ في أجلك أو أن تخلف بمكة وإنما أراد أن يخرج الكلام على الخبر بالتأويل لأن لن لنفي المستقبل محققًا والمراد هنا احتماله وتوقعه (فتعمل عملاً) صالحًا (تبتغي) تطلب (به وجه الله) عز وجل (إلا ازددت به) بالعمل الصالح ولأبي ذر بها (درجة ورفعة ولعلك تخلف) بأن يطول عمرك (حتى ينتفع بك أقوام) من المسلمين بما يفتحه الله عز وجل على يديك من بلاد الشرك ويأخذه المسلمون من الغنائم (ويضرّ بك آخرون) من المشركين الهالكين على يديك وجنودك وكذا كان فإنه شفي من مرضه ولم يقم بمكة وعاش بعد نيفا وأربعين سنة وولي العراق وفتحها الله عز وجل على يديه فأسلم على يديه خلق كثير فنفعهم الله عز وجل به وقتل وأسر من الكفار كثيرًا فاستضروا به وذلك من جملة أعلام نبوّته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (اللهم أمض) بهمزة قطع أي تمم (لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم) بترك هجرتهم ورجوعهم عن استقامتهم قال الزهري عن إبراهيم بن سعد: (لكن البائس) بالموحدة والهمزة بعدها سين مهملة ولم يهمزه في اليونينية بل بخفض الياء فقط الذي عليه أثر البؤس وهو شدّة الفقر والحاجة (سعد بن خولة) بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو (يرثي) بفتح التحتية وسكون الراء وكسر المثلثة أي يتحزن ويتوجه (له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إن توفي) أي لأجل وفاته ولأبي ذر: أن يتوفى (بمكة) التي هاجر منها وقوله: لكن البائس إلخ ليس بمرفوع بل مدرج من قول الزهري كما أفادته رواية أبي داود الطيالسي لهذا الحديث.
(وقال أحمد بن يونس): المذكور أعلاه فيما وصله المؤلّف في حجة الوداع كما بيناه قريبًا (وموسى) بن إسماعيل المنقري شيخ المؤلّف أيضًا فيما وصله في الدعوات (عن إبراهيم) بن سعد (أن تذر ورثتك) وهذا التعليق ثابت هنا في أكثر الأصول، ولغير أبي ذر بعد قوله يتكففون الناس لكن تعليق أحمد بن يونس فقط كما مرّ.
وأخرج الحديث المؤلّف في الجنائز.

50 - باب كَيْفَ آخَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ أَصْحَابِهِ؟
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: "آخَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ".
وَقَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ: "آخَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ".
هذا (باب) بالتنوين (كيف آخى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين أصحابه) المهاجرين والأنصار.
(وقال عبد الرحمن بن عوف) -رضي الله عنه- مما وصله أوّل البيوع (آخى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيني
وبين سعد بن الربيع) الأنصاري -رضي الله عنه- (لا قدمنا المدينة) من مكة مهاجرين. (وقال أبو جحيفة) بجيم مضمومة فحاء مهملة مفتوحة فتحتية ساكنة ففاء مفتوحة وهب بن عبد الله السوائي من صغار الصحابة -رضي الله عنه- (آخى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين سلمان) الفارسي -رضي الله عنه- (و) بين (أبي الدرداء) وهذا وصله في باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوّع من كتاب الصيام.
3937 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: «قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَآخَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ. فَرَبِحَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ، فَرَآهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ أَيَّامٍ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَهْيَمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: فَمَا سُقْتَ فِيهَا؟ فَقَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) البيكندي قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن حميد) الطويل (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال: قدم عبد الرحمن بن عوف) -رضي الله عنه- زاد أبو ذر المدينة (فآخى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري) -رضي الله عنه- زاد في البيع وكان سعد ذا غنى (فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله) وكان له زوجتان عمرة بنت حرام والأخرى لم تسم (فقال) له (عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك دلني) بضم الدال المهملة وتشديد اللام المفتوحة (على السوق) فدله عليه وذهب إليه (فربح) بفتح الراء وكسر الموحدة (شيئًا من إقط) لبن جامد معروف (وسمن) فأتى به (فرآه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد أيام وعليه وضر) بفتح الواو والضاد المعجمة لطخ (من صفرة) من طيب أو خلوق يسير (فقال) له (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(مهيم) بفتح الميم الأولى وسكون الهاء وفتح التحتية وسكون الميم بعدها أي ما شأنك (يا عبد الرحمن قال: يا رسول الله تزوجت امرأة من الأنصار) بنت أبي الحيسر أنس بن رافع الأويسي ولم تسم (قال): (فما سقت فيها) أي فما أعطيت في مهرها (فقال): أعطيت (وزن نواة) بفتح النون من غير همز أي خمسة دراهم (من ذهب فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

(6/235)


وَسَلَّمَ-) (أولم) ندبا (ولو بشاة) أي مع القدرة.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، وقد كانت المؤاخاة مرتين الأولى بين المهاجرين بعضهم وبعض بمكة قبل الهجرة على الحق والمواساة فآخى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، وبين حمزة وزيد بن حارثة -رضي الله عنهما-، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما-، وبين الزبير وابن مسعود -رضي الله عنهما-، وبين عليّ ونفسه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ولما نزل المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار على المواساة والحق في دار أنس بن مالك -رضي الله عنه- فكانوا يتوارثون
بذلك دون القرابات حتى نزلت وقت وقعة بدر: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض} [الأحزاب: 6] فنسخ ذلك وكانت المؤاخات بعد بناء المسجد وقيل والمسجد يبنى وقال ابن عبد البر: بعد قدومه عليه الصلاة والسلام المدينة بخمسة أشهر، وقال ابن سعد: آخى بين مائة منهم خمسون من المهاجرين وخمسون من الأنصار، وعند ابن إسحاق أنه قال لهم: تآخوا في الله عز وجل أخوين أخوين.
وفي مشروعية التواخي في الله عز وجل بصحبة الصلحاء وأخوّتهم كما قال في قوت الأحياء: عون كبير، وتأمل تأثير الصحبة في كل شيء حتى الحطب بصحبة النجار يعتق من النار فعليك بصحبة الأخيار بشروطها التي منها دوام صفائهم ووفائهم وعقد الأخوّة وأخيتك في الله عز وجل وأسقطنا الحقوق والكلفة ويقول الآخر: مثله ويدعوه بأحب أسمائه ويثني عليه ويذب عنه ويدعو له أبدًا في غيبته ولا يسمع فيه ولا في مسلم سوءًا ولا يصادق عدوّه وتفرّق كل على ودّ صاحبه ورعايته شرط لحديث "ورجلان تحابا في الله عز وجل اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه" وبسط ذلك في موضعه ويكفي ما نقلته إذ هو جامع لأصوله.
وحديث الباب سبق في أوّل البيع.

51 - باب
هذا (باب) بالتنوين بغير ترجمة.
3938 - حَدَّثَنِي حَامِدُ بْنُ عُمَرَ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا أَنَسٌ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلاَمٍ بَلَغَهُ مَقْدَمُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ، فَأَتَاهُ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلاَثٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ نَبِيٌّ: مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَمَا بَالُ الْوَلَدِ يَنْزِعُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي بِهِ جِبْرِيلُ آنِفًا. قَالَ ابْنُ سَلاَمٍ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ. قَالَ: أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ. وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ. وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتِ الْوَلَدَ. قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ، فَاسْأَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلاَمِي، فَجَاءَتِ الْيَهُودُ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا، وَأَفْضَلُنَا وَابْنُ أَفْضَلِنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ؟ قَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ. فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. قَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا، وَتَنَقَّصُوهُ. قَالَ: هَذَا كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (حامد بن عمر) بن حفص البكراوي (عن بشر بن المفضل)
بكسر الموحدة وسكون المعجمة والمفضل بضم الميم وتشديد الضاد المعجمة ابن لاحق الرقاشي قال: (حدّثنا حميد) الطويل قال: (حدّثنا أنس) - رضي الله تعالى عنه - (أن عبد الله بن سلام) بتخفيف اللام الإسرائيلي (بلغه مقدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة فأتاه يسأله عن أشياء فقال: إني سائلك عن ثلاث) من المسائل (لا يعلمهن إلا نبيّ: ما أول أشراط الساعة) أي علاماتها (وما أول طعام يأكله أهل الجنة) فيها (وما بال الولد ينزع) بكسر الزاي (إلى أبيه أو إلى أمه؟) أي يشبههما (قال) عليه الصلاة والسلام:
(أخبرني) بالإفراد (به) بالذي سألت عنه (جبريل آنفًا) بمد الهمزة هذه الساعدة (قال ابن سلام: ذاك) أي جبريل، ولأبي ذر: ذلك باللام (عدوّ اليهود من الملائكة. قال) عليه الصلاة والسلام: (أما أول أشراط) قيام (الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة) فيها (فزيادة كبد الحوت) وهي القطعة المنفردة المتعلقة بالكبد وهي أهنأ طعام وأمرؤه (وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد) بالنصب أي جذبه إليه (وإذا) ولأبي ذر فإذا (سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد) جذبته إليها (قال) ابن سلام: (أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ثم إنه (قال: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت) بضم الموحدة والهاء مصححًا عليها في الفرع كأصله جمع بهيت كقضيب وقضب الذي يبهت القول فيما يفتريه عليه ويختلقه (فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي) ولأبي ذر إسلامي بإسقاط الجار (فجاءت اليهود، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) سقط لفظ النبي إلخ لأبي ذر (أي رجل عبد الله بن سلام فيكم) وسقط ابن سلام لأبي ذر (قالوا: خيرنا وابن خيرنا وأفضلنا وابن أفضلنا. فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أرأيتم) أي أخبروني (إن أسلم عبد الله بن

(6/236)


سلام) تسلموا (قالوا: أعاذه الله) تعالى (من ذلك فأعاد عليهم. فقالوا: مثل ذلك فخرج إليهم عبد الله) من البيت (فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. قالوا: شرنا وابن شرنا وتنقصوه قال) عبد الله: (هذا) الذي قالوه (كنت أخاف يا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
3939 - 3940 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ أَبَا الْمِنْهَالِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُطْعِمٍ قَالَ: "بَاعَ شَرِيكٌ لِي دَرَاهِمَ فِي السُّوقِ نَسِيئَةً، فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَيَصْلُحُ هَذَا؟ فَقُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ بِعْتُهَا فِي السُّوقِ فَمَا عَابَهُ أَحَدٌ. فَسَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ فَقَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَحْنُ نَتَبَايَعُ هَذَا الْبَيْعَ فَقَالَ: مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَلاَ يَصْلُحُ، وَالْقَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فَاسْأَلْهُ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْظَمَنَا تِجَارَةً. فَسَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فَقَالَ مِثْلَهُ". وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: "فَقَالَ قَدِمَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ وَنَحْنُ نَتَبَايَعُ، وَقَالَ: نَسِيئَةً إِلَى الْمَوْسِمِ أَوِ الْحَجِّ".
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن عمرو) بفتح العين ابن دينار أنه (سمع أبا المنهال) بكسر الميم وسكون النون (عبد الرحمن بن مطعم) بكسر العين البناني (قال: باع شريك لي) لم يسم (دراهم في السوق نسيئة) أي متأخرًا من غير تقابض
(فقلت) متعجبًا (سبحان الله أيصلح هذا؟ فقال) شريكي: (سبحان الله والله لقد بعتها في السوق فما عابه) وفي نسخة صحح عليها في الفرع كأصله فما عابها وزاد أبو ذر عن الكشميهني عليّ (أحد فسألت البراء بن عازب) - رضي الله تعالى عنه - عن ذلك (فقال: قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد أبو ذر عن الكشميهني المدينة (ونحن نتبايع هذا البيع) وفي الشركة فجاءنا البراء بن عازب فسألناه فقال: فعلت أنا وشريكي زيد بن أرقم، وسألنا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك (فقال): (ما كان يدًا بيد فليس به بأس وما كان نسيئة فلا يصلح والق) بهمزة وصل أمر من لقي يلقى (زيد بن أرقم) بفتح الهمزة والقاف (فاسأله فإنه كان أعظمنا تجارة، فسألت زيد بن أرقم فقال: مثله) أي مثل قول البراء في أنه لا بدّ في بيع الدراهم بالدراهم من التقابض في المجلس والحلول.
(وقال سفيان) بن عيينة - رضي الله تعالى عنه -: (مرة فقدم) كذا في الفرع والذي رأيته في أصله وكذا الناصرية، وقال سفيان مرة فقال قدم (علينا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة ونحن نتبايع) وقال: (نسيئة إلى الموسم أو الحج) بالشك من الراوي فزاد في هذه تعيين مدة النسيئة.
وهذا الحديث قد سبق في الشركة والمقصود منه هنا قوله قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة ونحن نتبايع.

52 - باب إِتْيَانِ الْيَهُودِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ هَادُوا: صَارُوا يَهُودًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ هُدْنَا: تُبْنَا. هَائِدٌ: تَائِبٌ
(باب إتيان اليهود النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين قدم المدينة هادوا) في قوله تعالى: {ومن الذين هادوا} [المائدة: 41] أي (صاروا يهود) ولأبي ذر يهودا بالصرف (وأما قوله هدنا) فمعناه (تبنا) وسقط قوله من رواية أبي ذر (هايد) أي (تايب) كذا في اليونينية وفي غيرها بالهمز فيهما.
3941 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا قُرَّةُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَوْ آمَنَ بِي عَشَرَةٌ مِنَ الْيَهُودِ لآمَنَ بِي الْيَهُودُ».
وبه قال: (حدّثنا مسلم بن إبراهيم) الفراهيدي قال: (حدّثنا قرة) بضم القاف وتشديد الراء المفتوحة ابن خالد السدوسي وفي الناصرية حدّثنا فروة بالفاء والراء والواو وفي هامشها في النسخ المعتمدة قرة يعني بالقاف (عن محمد) هو ابن سيرين -رضي الله عنه- (عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لو آمن بي عشرة من اليهود) معينين (لآمن بي اليهود) كلهم وعند الإسماعيلي لم يبق يهودي إلا أسلم، وزاد أبو سعد في شرف المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال كعب -رضي الله عنه-: هم الذين سماهم في سورة المائدة.
وقال الكرماني فإن قلت: ما وجه صحة هذه الملازمة وقد آمن به من اليهود عشرة وأكثر منها
أضعافًا مضاعفة ولم يؤمن الجميع؟ وأجاب: بأن لو للمضيّ فمعناه لو آمن في الزمان الماضي كقبل قدومه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة أو عقب قدومه مثلاً عشرة لتابعهم الكل لكن لم يؤمنوا حينئذٍ فلم يتابعهم الكل.
وقال في فتح الباري: والذي يظهر أنهم الذين كانوا حينئذٍ رؤساء ومن عداهم تبعًا لهم فلم يسلم منهم إلا القليل كعبد الله بن سلام -رضي الله عنه-، وكان من المشهورين بالرئاسة في اليهود عند قدوم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من بني النضير أبو ياسر بن أخطب وأخوه حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف، ورافع بن أبي الحقيق. ومن بني قينقاع عبد الله بن حنيف، وفنحاص، ورفاعة بن زيد. ومن قريظة: الزبير بن باطيا، وكعب بن أسد، وشمويل بن زيد فهؤلاء لم يثبت إسلام واحد منهم، وإن كل واحد منهم رئيسًا في اليهود لو أسلم تبعه جماعة منهم.
3942 - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ -أَوْ مُحَمَّدُ- بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْغُدَانِيُّ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَيْسٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه- قَالَ: «دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ وَإِذَا أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ يُعَظِّمُونَ عَاشُورَاءَ وَيَصُومُونَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: نَحْنُ أَحَقُّ بِصَوْمِهِ. فَأَمَرَ بِصَوْمِهِ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر قال: حدّثنا (أحمد أو محمد بن عبيد الله) بالشك في اسمه وذكره في التاريخ فقال أحمد: من غير شك وعبيد بضم العين مصغرًا، وفي أصل ابن الحطية عبد الله بفتح العين مكبرًا وقال في الهامش: من

(6/237)


اليونينية الصواب عبيد الله مصغرًا. قال الحافظ أبو ذر: وهي رواية أبي الهيثم، وفي باب أحمد ذكره الحفاظ أبو نصر وابن طاهر وابن عبد الواحد، وفي باب عبيد الله ذكره جميعهم (الغداليّ) بضم الغين المعجمة وتخفيف الدال المهملة المفتوحة، واسم جده سهيل بضم السين مصغرًا ابن صخر البصريّ، وقيل النيسابوري المتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين قال: (حدّثنا حماد بن أسامة) أبو أسامة القرشي مولاهم الكوفي قال: (أخبرنا أبو عميس) بضم العين المهملة وبعد التحتية الساكنة سين مهملة عتبة بضم العين وسكون الفوقية وفتح الموحدة ابن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الهذلي المسعودي الكوفيّ (عن قيس بن مسلم) الجدلي بفتح الجيم الكوفي العابد (عن طارق بن شهاب) الأحمسي (عن أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري (-رضي الله عنه-) أنه (قال: دخل) ولأبي ذر عن الكشميهني قدم (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة) في الهجرة (وإذا أناس من اليهود يعظمون) يوم (عاشوراء ويصومونه) لشرع سابق (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(نحن أحق بصومه) من اليهود (فأمر) الناس (بصومه).
3943 - حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ وَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ، فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي أَظْفَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَنَحْنُ نَصُومُهُ
تَعْظِيمًا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ. ثُمَّ أَمَرَ بِصَوْمِهِ».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبى ذر حدّثني بالإفراد (زياد بن أيوب) أبو هاشم الطوسي دلوية بفتح الدال المهملة وضم اللام وتخفيف التحتية قال: (حدّثنا هشيم) بضم الهاء مصغرًا ابن بشر الواسطي قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: أخبرنا (أبو بشر) بكسر الموحدة وسكون المعجمة جعفر بن أبي وحشية إياس البصري (عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال: لما قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة) وأقام بها إلى يوم عاشوراء من السنة الثانية (وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسئلوا) بضم السين وكسر الهمزة (عن ذلك) الصوم (فقالوا: هذا هو اليوم) هذا ظاهر ما في الفرع فإنه خرج بعد قوله هذا وكتب بالهامش هو مرقومًا عليه علامة أبي ذر والذي في اليونينية ظاهره أن هو بدل من قوله هذا لأنه جعل التخريجة فوق هذا (الذي أظهر الله فيه موسى) عليه الصلاة والسلام بالهاء بعد الظاء في الفرع والذي في أصله أظفر الله بالفاء بدل الهاء (وبني إسرائيل على فرعون) في كتاب الصوم هذا يوم نجى الله عز وجل بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى عليه الصلاة والسلام وزاد مسلم شكرًا لله عز وجل (ونحن نصومه تعظيمًا له) أي لموسى عليه الصلاة والسلام (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(نحن أولى بموسى منكم ثم أمر) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي وأمر وفي كتاب الصيام فصامه وأمر (بصومه).
ومباحث هذا سبقت في كتاب الصوم.
3944 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَسْدِلُ شَعْرَهُ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسَهُمْ وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ رُءُوسَهُمْ، وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَىْءٍ، ثُمَّ فَرَقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأْسَهُ".
وبه قال: (حدّثنا عبدان) لقب عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد ميمون المروزي البصري الأصل قال: (حدّثنا) ولأبي ذر أخبرنا (عبد الله) بن المبارك المروزي (عن يونس) بن يزيد الأيلي (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) مصغرًا (ابن عبد الله بن عتبة) بن مسعود - رضي الله تعالى عنه - (عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-) سقط لأبي ذر لفظ عبد الله (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يسدل شعره) بفتح التحتية وسكون السين وكسر الدال المهملتين أي يترك شعر ناصيته على جبينه الشريف -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وكان المشركون يفرقون رؤوسهم) بفتح التحتية وسكون الفاء وضم الراء وقد تكسر أي يلقون شعر رأسهم إلى جانبيه ولا يتركون منه شيئًا على جبهتهم (وكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم) بكسر الدال مع فتح أوله (وكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء) لأن ذلك أقرب إلى الحق من المشركين عبدة
الأوثان (ثم فرق النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأسه) أي ألقى شعره إلى جانبي رأسه ولم يترك منه شيئًا على جبهته.
وسبق هذا الحديث في صفته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
3945 - حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ جَزَّءُوهُ أَجْزَاءً، فَآمَنُوا بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ". [الحديث 3945 - طرفاه في: 4705، 4706].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثنا (زياد بن أيوب) دلوية

(6/238)


الطوسي قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر حدّثني (هشيم) هو ابن بشر قال: (أخبرنا أبو بشر) جعفر بن أبي وحشية (عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -) أنه (قال: هم أهل الكتاب) قال: العيني لما ذكر في الحديث السابق أهل الكتاب قال: قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: هم أهل الكتاب الذين (جزؤوه) أي القرآن (أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه) زاد أبو ذر عن الكشميهني يعني قول الله تعالى: {الذين جعلوا القرآن عضين} [الحجر: 91] أي أجزاء جمع عضة وأصلها عضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء حيث قالوا: بعنادهم بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما فاقتسموه إلى حق وباطل وعضوه.

53 - باب إِسْلاَمُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ -رضي الله عنه-
(باب إسلام سلمان الفارسي - رضي الله تعالى عنه -) سقط لفظ باب لأبي ذر حينئذٍ فإسلام رفع.
3946 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ بْنِ شَقِيقٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ أَبِي ح. وَحَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ: "عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ تَدَاوَلَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ رَبٍّ إِلَى رَبٍّ".
وبه قال: (حدّثنا الحسن بن عمر بن شقيق) بفتح الحاء وضم العين الجرمي قال: (حدّثنا معتمر) هو ابن سليمان التيمي (قال أبي) سليمان بن طرخان (ح).
(وحدّثنا) بواو العطف (أبو عثمان) عبد الرحمن بن مل بكسر الميم وضمها النهدي بفتح النون التابعي وعطفه بالواو ويشعر بأنه حدثه غير ذلك أيضًا (عن سلمان الفارسي) - رضي الله تعالى عنه - وسقط لفظ الفارسي لأبي ذر (أنه تداوله) تناوله (بضعة عشر) من ثلاث إلى عشرة (من رب إلى رب) أي أخذه سيد من سيد وكان حرًّا فظلموه وباعوه، وذلك أنه هرب من أبيه لطلب الحق وكان مجوسيًّا فلحق براهب ثم براهب ثم بآخر، وكان يصحب كلٍّ إلى وفاته حتى دله الأخير على ظهور النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقصده مع بعض الأعراب فغدروا به فباعوه في وادي القرى ليهودي ثم اشتراه منه يهودي آخر من بني قريظة، فقدم به المدينة، فلما قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة ورأى علامات النبوّة أسلم فقال له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كاتب عن نفسك" فكاتب على أن يغرس ثلاثمائة نخلة وأربعين أوقية من ذهب فغرس له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيده المباركة الكل وقال: "أعينوا أخاكم" فأعانوه حتى أدى
ذلك كله وعاش مائتين وخمسين سنة بلا خلاف، وقيل ثلاثمائة وخمسين، وقيل أدرك وصيّ عيسى عليه الصلاة والسلام ومات بالمدينة سنة ست وثلاثين.
3947 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَوْفٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ سَلْمَانَ -رضي الله عنه- يَقُولُ: "أَنَا مِنْ رَامَ هُرْمُزَ".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) البيكندي قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن عوف) بالفاء الأعرابي (عن أبي عثمان) النهدي أنه (قال: سمعت سلمان) الفارسي (-رضي الله عنه- يقول: أنا من رام هرمز) بفتح ميم رام من غير همز قبلها وضم هاء هرمز وسكون رائها وضم ميمها وبعدها زاي مدينة مشهورة بأرض فارس مركبة تركيب مزج كمعد يكرب فينبغي كتابة رام منفصلة عن لاحقتها. وفي حديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - عند أحمد أنه من أهل أصبهان، وكان أبوه دهقانًا، وذكر عنه أنه لما سئل عن نسبه قال: أنا ابن الإسلام.
3948 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُدْرِكٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: "فَتْرَةٌ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ".
وبه قال: (حدّثنا الحسن بن مدرك) بضم الميم وكسر الراء قال: (حدّثنا يحيى بن حماد) الشيباني البصري قال: (أخبرنا أبو عوانة) الوضاح اليشكري (عن عصام الأحول عن أبي عثمان) النهدي (عن سلمان) الفارسي - رضي الله تعالى عنه - أنه (قال: فترة) بالفاء والفوقية الساكنة والتنوين (بين) بفتح النون ولأبي ذر فترة بين بكسر النون لإضافة فترة إليه (عيسى ومحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ستمائة سنة) أي المدة التي لم يبعث فيها رسول من الله عز وجل قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: ولا يمتنع أن يكون فيها نبي يدعو إلى شريعة الرسول الأخير اهـ.
وقيل إنه نبئ فيها حنظلة بن صفوان نبي أصحاب الرس وخالد بن سنان العبسي وعند الطبراني من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما ظهر بمكة وفدت عليه ابنة خالد بن سنان وهي عجوز كبيرة فرحب بها وقال: "مرحبًا بابنة أخي" كان أبوها نبيًّا وإنما ضيعه قومه وذكروا غير ذلك، لكن هذا يعارضه حديث الصحيح أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه ليس بيني وبينه نبي" وقد يجاب باحتمال أن يكون مراده نبي مرسل.
ولا

(6/239)


دلالة في الحديث الأوّل على الترجمة إلا أن يقال إن تداوله من يد إلى يد إنما كان لطلب الإسلام، وأما الثاني والثالث فلم يظهر لي وجه المطابقة فيهما فللَّه در المؤلّف ما أدق نظره رحمه الله تعالى وأجزل ثوابه والله تعالى أعلم.