شرح النووي على مسلم

 (

كتاب الجنة وصفة نعيمها واهلها)
(

[2822]

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ) هَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ حفت ووقع فى البخارى حفت ووقع فيه أَيْضًا حُجِبَتْ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا مِنْ بَدِيعِ الْكَلَامِ وَفَصِيحِهِ وَجَوَامِعِهِ الَّتِي أُوتِيَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّمْثِيلِ الْحَسَنِ ومعناه لايوصل الْجَنَّةَ إِلَّا بِارْتِكَابِ الْمَكَارِهِ وَالنَّارَ بِالشَّهَوَاتِ وَكَذَلِكَ هُمَا مَحْجُوبَتَانِ بِهِمَا فَمَنْ هَتَكَ الْحِجَابَ وَصَلَ إِلَى الْمَحْجُوبِ فَهَتْكُ حِجَابِ الْجَنَّةِ بِاقْتِحَامِ الْمَكَارِهِ وَهَتْكُ حِجَابِ النَّارِ بِارْتِكَابِ الشَّهَوَاتِ فَأَمَّا الْمَكَارِهُ فَيَدْخُلُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهَا وَالصَّبْرُ عَلَى مَشَاقِّهَا وَكَظْمُ الْغَيْظِ وَالْعَفْوُ وَالْحِلْمُ وَالصَّدَقَةُ وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْمُسِيءِ وَالصَّبْرُ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَأَمَّا الشَّهَوَاتُ الَّتِي النَّارُ مَحْفُوفَةٌ بِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا الشَّهَوَاتُ الْمُحَرَّمَةُ كَالْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالنَّظَرِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْغِيبَةِ وَاسْتِعْمَالِ الْمَلَاهِي وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَمَّا الشَّهَوَاتُ الْمُبَاحَةُ فَلَا تَدْخُلُ فِي هَذِهِ لَكِنْ يُكْرَهُ الْإِكْثَارُ مِنْهَا مَخَافَةَ أَنْ يَجُرَّ إِلَى الْمُحَرَّمَةِ أَوْ يُقَسِّي الْقَلْبَ أَوْ يَشْغَلَ عَنِ الطَّاعَاتِ أَوْ يُحْوَجَ إِلَى الِاعْتِنَاءِ بتحصيل الدنيا)

(17/165)


للصرف فيها ونحوذلك

[2824] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ (أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاعين رأت ولاأذن سمعت ولاخطر عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ذُخْرًا بَلْهَ مَا أَطْلَعَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَطْلَعْتُكُمْ عَلَيْهِ هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ ذخرافى جَمِيعِ النُّسَخِ وَأَمَّا رِوَايَةُ هَارُونَ بْنِ سَعِيدٍ الْأَيْلِيِّ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا فَفِيهَا ذِكْرٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَذُخْرًا كَالْأَوَّلِ فِي بَعْضِهَا قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ أَبْيَنُ كَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قال والأولى رواية الفارسى فأمابله فَبِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَمَعْنَاهَا دَعْ عَنْكَ مَا أَطْلَعَكُمْ عَلَيْهِ فَاَلَّذِي لَمْ يُطْلِعْكُمْ عليه اعظم وكانه اضر ب عنه استقلالاله فى جنب مالم يُطْلِعْ عَلَيْهِ وَقِيلَ مَعْنَاهَا غَيْرُ وَقِيلَ مَعْنَاهَا كَيْفَ

[2826]

[2827] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(17/166)


(إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظلها مائة سنة لايقطعها) وَفِي رِوَايَةٍ يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادُ الْمُضَمَّرُ السَّرِيعُ مِائَةَ عَامٍ مَا يَقْطَعُهَا قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْمُرَادُ بِظِلِّهَا كَنَفُهَا وَذَرَاهَا وَهُوَ مَا يَسْتُرُ أَغْصَانَهَا وَالْمُضَمَّرُ بِفَتْحِ الضَّادِ وَالْمِيمِ الْمُشَدَّدَةِ الَّذِي ضُمِّرَ لِيَشْتَدَّ جَرْيُهُ وَسَبَقَ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ صِفَةُ التَّضْمِيرِ قَالَ الْقَاضِي وَرَوَاهُ بَعْضُهُمُ الْمُضَمِّرُ بِكَسْرِ الميم الثانية صفة للراكب المضمر لفرسه

(17/167)


وَالْمَعْرُوفُ هُوَ الْأَوَّلُ

[2829] قَوْلُهُ تَعَالَى (أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي) قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ أُنْزِلُهُ بِكُمْ وَالرِّضْوَانُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا قُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْعِ وَالْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ فِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ قُرِئَ بِهِنَّ فِي السَّبْعِ الْأَكْثَرُونَ دُرِّيٌّ بِضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ بِلَا هَمْزٍ وَالثَّانِيَةُ بِضَمِّ الدَّالِ مَهْمُوزٌ مَمْدُودٌ وَالثَّالِثَةُ بِكَسْرِ الدَّالِ مَهْمُوزٌ مَمْدُودٌ وَهُوَ الْكَوْكَبُ الْعَظِيمُ قِيلَ سُمِّيَ دُرِّيًّا لِبَيَاضِهِ كَالدُّرِّ وَقِيلَ لِإِضَاءَتِهِ وَقِيلَ لِشَبَهِهِ بِالدُّرِّ فِي كَوْنِهِ أَرْفَعُ مِنْ بَاقِي النُّجُومِ كَالدُّرِّ أَرْفَعُ الجواهر

[2831] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ أَهْلَ الجنة

(17/168)


لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ مِنَ الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ) هَكَذَا هُوَ فى عامةالنسخ مِنَ الْأُفُقِ قَالَ الْقَاضِي لَفْظَةُ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي الْأُفُقِ قَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ الصَّوَابُ قَالَ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أن من فى رواية مسلم لانتهاءالغاية وَقَدْ جَاءَتْ كَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ رَأَيْتُ الْهِلَالَ مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا صَحِيحٌ وَلَكِنْ حَمْلُهُمْ لَفْظَةَ مِنْ هُنَا عَلَى انْتِهَاءِ الْغَايَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلْ هِيَ عَلَى بَابِهَا أَيْ كَانَ ابْتِدَاءُ رُؤْيَتِهِ إِيَّاهُ رُؤْيَتَهُ مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ وَمِنَ الْأُفُقِ قَالَ وَقَدْ جَاءَ فِي رواية عن بن مَاهَانَ عَلَى الْأُفُقِ الْغَرْبِيِّ وَمَعْنَى الْغَابِرِ الذَّاهِبُ الْمَاشِي أَيْ الَّذِي تَدَلَّى لِلْغُرُوبِ وَبَعُدَ عَنِ الْعُيُونِ وَرُوِيَ فِي غَيْرِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ الْغَارِبُ بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ وَهُوَ بِمَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَرُوِيَ الْعَازِبُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ وَمَعْنَاهُ الْبَعِيدُ فِي الأفق

(17/169)


وكلها راجعة إلى معنى واحد

[2833] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمْعَةٍ فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ فَتَحْثُو فِي وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ فَيَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالًا) الْمُرَادُ بِالسُّوقِ مَجْمَعٌ لَهُمْ يَجْتَمِعُونَ كَمَا يَجْتَمِعُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا فِي السُّوقِ وَمَعْنَى يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ أَيْ فِي مِقْدَارِ كُلِّ جُمْعَةٍ أَيْ أُسْبُوعٍ وَلَيْسَ هُنَاكَ حَقِيقَةً أُسْبُوعٌ لِفَقْدِ الشَّمْسِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالسُّوقُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وهو أفصح وريح الشَّمَالِ بِفَتْحِ الشِّينِ وَالْمِيمِ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ هَكَذَا الرِّوَايَةُ قَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ هِيَ الشَّمَالُ وَالشَّمْأَلُ باسكان الميم مهموز والشأملة بِهَمْزَةٍ قَبْلَ الْمِيمِ وَالشَّمَلُ بِفَتْحِ الْمِيمِ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَالشَّمُولُ بِفَتْحِ الشِّينِ وَضَمِّ الْمِيمِ وَهِيَ الَّتِي تَأْتِي مِنْ دُبُرِ الْقِبْلَةِ قَالَ الْقَاضِي وَخَصَّ رِيحَ الْجَنَّةِ بِالشَّمَالِ لِأَنَّهَا رِيحُ الْمَطَرِ عِنْدَ الْعَرَبِ كَانَتْ

(17/170)


تَهُبُّ مِنْ جِهَةِ الشَّامِ وَبِهَا يَأْتِي سَحَابُ الْمَطَرِ وَكَانُوا يَرْجُونَ السَّحَابَةَ الشَّامِيَّةَ وَجَاءَتْ فِي الْحَدِيثِ تَسْمِيَةُ هَذِهِ الرِّيحِ الْمُثِيرَةِ أَيِ الْمُحَرِّكَةِ لِأَنَّهَا تُثِيرُ فِي وُجُوهِهِمْ مَا تُثِيرُهُ مِنْ مسك أرض الجنة وغيره من نعيمها

[2834] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ هِيَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ ليلة البدر والتى تليها على أضوء كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ مَا فِي الْجَنَّةِ أَعْزَبُ) الزُّمْرَةُ الْجَمَاعَةُ وَالدُّرِّيُّ تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ وَبَيَانُهُ قَرِيبًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (زَوْجَتَانِ) هَكَذَا فِي الرِّوَايَاتِ بِالتَّاءِ وَهِيَ لُغَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ فِي الْأَحَادِيثِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ وَالْأَشْهَرُ حَذْفُهَا وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ وَأَكْثَرُ الْأَحَادِيثَ قَوْلُهُ (وَمَا فِي الْجَنَّةِ أَعْزَبُ) هَكَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا أَعْزَبُ بِالْأَلِفِ وَهِيَ لُغَةٌ وَالْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ عَزَبَ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَنَقَلَ الْقَاضِي أَنَّ جَمِيعَ رُوَاتِهِمْ رَوَوْهُ وَمَا فى الجنة عزب بغير ألف الاالعذرى

(17/171)


فَرَوَاهُ بِالْأَلِفِ قَالَ الْقَاضِي وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَالْعَزَبُ من لازوجة لَهُ وَالْعُزُوبُ الْبُعْدُ وَسُمِّي عَزَبًا لِبُعْدِهِ عَنِ النِّسَاءِ قَالَ الْقَاضِي ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النِّسَاءَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّهُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ قَالَ فَيَخْرُجُ مِنْ مَجْمُوعِ هَذَا أَنَّ النِّسَاءَ أَكْثَرُ وَلَدِ آدَمَ قال وهذا كله فى الآدميات والافقد جَاءَ لِلْوَاحِدِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ) أَيْ عَرَقُهُمْ (وَمَجَامِرُهُمُ الْأَلُوَّةُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ اللَّامِ أَيْ الْعُودُ الْهِنْدِيُّ وَسَبَقَ بَيَانُهُ مَبْسُوطًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَخْلَاقُهُمْ عَلَى خُلُقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ) قَدْ ذَكَرَ مسلم فى الكتاب اختلاف بن أَبِي شَيْبَةَ وَأَبِي كُرَيْبٍ فِي ضَبْطِهِ فَإِنَّ بن أبى شيبة يرويه بضم الحاء واللام وأبو كريب بفتح الحاء وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ رُوَاةُ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَيُرَجَّحُ الضَّمُّ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغُضَ قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ وَقَدْ يُرَجَّحُ الْفَتْحُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَمَامِ الْحَدِيثِ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ أَوْ عَلَى طُولِهِ قوله صلى الله عليه وسلم (ولا يمتخطون

(17/172)


وَلَا يَتْفِلُونَ) هُوَ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَضَمِّهَا حَكَاهُمَا الجوهرى وغيره وفى رواية لايبصقون وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَبْزُقُونَ وَكُلُّهُ بِمَعْنًى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أَيْ قَدْرَهُمَا

[2835] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ) مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ يَتَنَعَّمُونَ بِذَلِكَ وَبِغَيْرِهِ من ملاذ وأنواع نعيمها تنعما دائما لاآخر له ولاانقطاع أَبَدًا وَإِنَّ تَنَعُّمَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى هَيْئَةِ تَنَعُّمِ أهل الدنيا الاما بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاضُلِ فِي اللَّذَّةِ وَالنَّفَاسَةِ الَّتِي لايشارك نعيم الدنيا الافى التَّسْمِيَةِ وَأَصْلِ الْهَيْئَةِ وَإِلَّا فِي أَنَّهُمْ لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَتَمَخَّطُونَ وَلَا يَبْصُقُونَ وَقَدْ دَلَّتْ دَلَائِلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي هَذِهِ الأحاديث

(17/173)


الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ دَائِمٌ لَا انْقِطَاعَ لَهُ أَبَدًا

[2836] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ يَنْعَمُ لايبأس) وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا أَيْ لَا يُصِيبُكُمْ بَأْسٌ وَهُوَ شِدَّةُ الْحَالِ وَالْبَأْسُ وَالْبُؤْسُ وَالْبَأْسَاءُ وَالْبُؤَسَاءُ بِمَعْنًى وينعم وتنعم بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالْعَيْنِ أَيْ يَدُومُ

(17/174)


لَكُمُ النَّعِيمُ

[2838] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فِي الْجَنَّةِ خَيْمَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلًا فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ) وَفِي رِوَايَةٍ طُولُهَا فِي السَّمَاءِ سِتُّونَ مِيلًا أَمَّا الْخَيْمَةُ فَبَيْتٌ مُرَبَّعٌ مِنْ بُيُوتِ الْأَعْرَابِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ هَكَذَا هُوَ فِي عَامَّةِ النُّسَخِ مُجَوَّفَةٍ بِالْفَاءِ قَالَ الْقَاضِي وَفِي رِوَايَةِ السَّمَرْقَنْدِيِّ مُجَوَّبَةٍ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَهِيَ الْمَثْقُوبَةُ وَهِيَ بِمَعْنَى الْمُجَوَّفَةِ والزاويةالجانب وَالنَّاحِيَةِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلًا وَفِي الثَّانِيَةِ طُولُهَا فِي السَّمَاءِ سِتُّونَ مِيلًا ولامعارضة بَيْنَهُمَا فَعَرْضُهَا فِي مِسَاحَةِ

(17/175)


أَرْضِهَا وَطُولُهَا فِي السَّمَاءِ أَيْ فِي الْعُلُوِّ مُتَسَاوِيَانِ

[2839] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ) اعْلَمْ أَنَّ سَيْحَانَ وَجَيْحَانَ غَيْرُ سَيْحُونَ وَجَيْحُونَ فَأَمَّا سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ الْمَذْكُورَانِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ اللَّذَانِ هُمَا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فِي بِلَادِ الأرمن فجيحان نهر المصيصة وسيحان نهر إذنه وَهُمَا نَهْرَانِ عَظِيمَانِ جِدًّا أَكْبَرْهُمَا جَيْحَانُ فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي مَوْضِعِهِمَا وَأَمَّا قَوْلُ الْجَوْهَرِيِّ فى صحاحه جيحان نهر بالشام فَغَلَطٌ أَوْ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَجَازَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بِبِلَادِ الْأَرْمَنِ وَهِيَ مُجَاوِرَةٌ لِلشَّامِ قَالَ الْحَازِمِيُّ سَيْحَانُ نَهْرٌ عِنْدَ الْمُصَيِّصَةِ قَالَ وَهُوَ غَيْرُ سَيْحُونَ وَقَالَ صَاحِبُ نِهَايَةِ الْغَرِيبِ سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ نَهْرَانُ بِالْعَوَاصِمِ عِنْدَ الْمُصَيِّصَةِ وَطُرْسُوسُ وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ جَيْحُونَ بِالْوَاوِ نَهْرٌ وَرَاءَ خُرَاسَانَ عِنْدَ بَلْخٍ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَيْحَانَ وَكَذَلِكَ سَيْحُونُ غَيْرُ سَيْحَانَ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَاضِي عِيَاضُ هَذِهِ الْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ أَكْبَرُ أَنْهَارِ بلاد الاسلام

(17/176)


فَالنِّيلُ بِمِصْرَ وَالْفُرَاتُ بِالْعِرَاقِ وَسَيْحَانُ وَجَيْحَانُ وَيُقَالُ سَيْحُونَ وَجَيْحُونَ بِبِلَادِ خُرَاسَانَ فَفِي كَلَامِهِ إِنْكَارٌ مِنْ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا قَوْلُهُ الْفُرَاتُ بِالْعِرَاقِ وَلَيْسَ بِالْعِرَاقِ بَلْ هُوَ فَاصِلٌ بَيْنَ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَالثَّانِي قَوْلُهُ سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ وَيُقَالُ سَيْحُونُ وَجَيْحُونُ فَجَعَلَ الْأَسْمَاءَ مُتَرَادِفَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ سَيْحَانُ غَيْرُ سَيْحُونَ وَجَيْحَانُ غَيْرُ جَيْحُونَ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ كما سبق الثالث أَنَّهُ بِبِلَادِ خُرَاسَانَ وَأَمَّا سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ بِبِلَادِ الْأَرْمَنِ بِقُرْبِ الشَّامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الْأَنْهَارُ مِنْ مَاءِ الْجَنَّةِ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي عِيَاضُ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِيمَانَ عَمَّ بِلَادَهَا أَوِ الْأَجْسَامُ الْمُتَغَذِّيَةِ بِمَائِهَا صَائِرَةٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَأَنَّ لَهَا مَادَّةٌ مِنَ الْجَنَّةِ وَالْجَنَّةُ مَخْلُوقَةٌ موجودة اليوم عندأهل السنة وقد ذكر مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ الْفُرَاتَ وَالنِّيلَ يَخْرُجَانِ مِنَ الْجَنَّةِ وَفِي البخارى من أصل سدرة المنتهى

[2840] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَقْوَامٌ أَفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أَفْئِدَةِ الطَّيْرِ) قِيلَ مِثْلُهَا فِي رِقَّتِهَا وَضَعْفِهَا كَالْحَدِيثِ الْآخَرِ أَهْلُ الْيَمَنِ أَرَقُّ قُلُوبًا وَأَضْعَفُ أَفْئِدَةً وَقِيلَ فِي الْخَوْفِ وَالْهَيْبَةِ وَالطَّيْرُ أَكْثَرُ الْحَيَوَانِ خَوْفًا وَفَزَعًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عباده العلماء وَكَأَنَّ الْمُرَادَ قَوْمٌ غَلَبَ عَلَيْهِمُ الْخَوْفُ كَمَا جَاءَ عَنْ جَمَاعَاتٍ مِنَ السَّلَفِ فِي شِدَّةِ خَوْفِهِمْ وَقِيلَ الْمُرَادُ مُتَوَكِّلُونَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِي سَلِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) هَكَذَا وَقَعَ هَذَا الْإِسْنَادُ فِي عَامَّةِ النُّسَخِ وَوَقَعَ فِي بَعْضِهَا حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ فَزَادَ الزُّهْرِيَّ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ وَالصَّوَابُ هُوَ الْأَوَّلُ قَالَ وَكَذَلِكَ خَرَّجَهُ أَبُو مَسْعُودٍ فِي الْأَطْرَافِ قَالَ وَلَا أَعْلَمُ لِسَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ رِوَايَةً عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فىكتاب الْعِلَلِ لَمْ يُتَابِعْ أَبُو النَّضْرِ عَلَى وَصْلِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ وَالْمَحْفُوظُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ مُرْسَلًا كَذَا رَوَاهُ يَعْقُوبُ وَسَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ وَالْمُرْسَلُ الصَّوَابُ هَذَا كَلَامُ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالصَّحِيحُ أن هذا الذى ذكره لايقدح فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ فَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الْحَدِيثَ إِذَا رُوِيَ مُتَّصِلًا وَمُرْسَلًا كَانَ مَحْكُومًا

(17/177)


بِوَصْلِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ لِأَنَّ مَعَ الْوَاصِلِ زِيَادَةٌ عُلِمَ حِفْظُهَا وَلَمْ يَحْفَظْهَا مَنْ أَرْسَلَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

[2841] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا) هَذَا الْحَدِيثُ سَبَقَ شَرْحُهُ وَبَيَانُ تَأْوِيلِهِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي صورته عائد إلى آدم وأن المرادأنه خُلِقَ فِي أَوَّلِ نَشْأَتِهِ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي الْأَرْضِ وَتُوُفِّيَ عَلَيْهَا وَهِيَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا وَلَمْ يَنْتَقِلْ أَطْوَارًا كَذُرِّيَّتِهِ وَكَانَتْ صُورَتُهُ فِي الْجَنَّةِ هِيَ صُورَتُهُ فِي الْأَرْضِ لَمْ تَتَغَيَّرْ قَوْلُهُ (قَالَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ وَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ فَذَهَبَ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ) فِيهِ أَنَّ الْوَارِدَ عَلَى جُلُوسٍ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَلَوْ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَفَاهُ وَأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ زِيَادَةً عَلَى الِابْتِدَاءِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ فِي الرَّدِّ أَنْ يَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

(بَاب جهنم أعاذنا الله منها

[2842] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ خَالِدٍ الْكَاهِلِيِّ عَنْ شَقِيقِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْحَدِيثَ) هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا اسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِمٍ وَقَالَ رَفْعُهُ وَهَمٌ رواه الثورى ومروان وغيرهما عن)

(17/178)


العلاءابن خالد مؤقوفا قُلْتُ وَحَفْصٌ ثِقَةٌ حَافِظٌ إِمَامٌ فَزِيَادَتُهُ الرَّفْعَ مَقْبُولَةٌ كَمَا سَبَقَ نَقْلُهُ عَنِ الْأَكْثَرِينَ وَالْمُحَقِّقِينَ

[2844] قَوْلُهُ (سَمِعَ وَجْبَةً) هِيَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ وَهِيَ السَّقْطَةُ قَوْلُهُ (فِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَقَالَ هَذَا وَقَعَ فِي أَسْفَلِهَا فَسَمِعْتُمْ وَجْبَتَهَا) هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ وَهُوَ صَحِيحٌ فِيهِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ أَيْ هَذَا حَجَرٌ وَقَعَ أَوْ هَذَا حِينُ

(17/179)


وَنَحْوِ ذَلِكَ

[2845] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ يَعْنِي النَّارُ إِلَى حُجْزَتِهِ) هِيَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ وَهِيَ مَعْقِدُ الازار والسراويل وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى تَرْقُوتِهِ هِيَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْقَافِ وَهِيَ الْعَظْمُ الَّذِي بَيْنَ ثَغْرَةِ النَّحْرِ وَالْعَاتِقِ وَفِي رِوَايَةٍ حَقْوَيْهِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا وَهُمَا

(17/180)


معقد الازار والمراد هنا ما يخاذى ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ جَنْبَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تَحَاجَّتِ النَّارُ وَالْجَنَّةُ) إِلَى آخِرِهِ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي النَّارِ وَالْجَنَّةِ تَمْيِيزًا تُدْرَكَانِ بِهِ فتحاجتا ولايلزم مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّمْيِيزُ فِيهِمَا دَائِمًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَقَالَتِ الْجَنَّةُ فَمَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ وَعَجَزُهُمْ) أَمَّا سَقَطُهُمْ فَبِفَتْحِ السِّينِ والقاف أى ضعفاؤهم والمتحقرون منهم وأما عجزهم فبفتح الْعَيْنِ وَالْجِيمِ جَمْعُ عَاجِزٍ أَيْ الْعَاجِزُونَ عَنْ طَلَبِ الدُّنْيَا وَالتَّمَكُّنِ فِيهَا وَالثَّرْوَةِ وَالشَّوْكَةِ وَأَمَّا الرِّوَايَةُ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ فَفِيهَا لَا يدخلنى الاضعاف النَّاسِ وَغِرَّتُهُمْ فَرُوِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ حَكَاهَا الْقَاضِي وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي النُّسَخِ إِحْدَاهَا غَرَثُهُمْ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ شُيُوخِنَا وَمَعْنَاهَا أَهْلُ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ وَالْجُوعِ وَالْغَرَثُ الْجُوعُ وَالثَّانِي عَجَزَتُهُمْ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَجِيمٍ وَزَايٍ وَتَاءٍ جَمْعُ عَاجِزٍ كَمَا سَبَقَ وَالثَّالِثُ غِرَّتُهُمْ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ وَرَاءٍ مُشَدَّدَةٍ وَتَاءٍ مُثَنَّاةٍ فَوْقُ وَهَكَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا أَيْ الْبُلْهُ الْغَافِلُونَ الَّذِينَ لَيْسَ بِهِمْ فَتْكٌ وَحِذْقٌ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَهُوَ نَحْوُ الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ قَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ سَوَادُ الناس وعامتهم من أهل الايمان الذين لايفطنون لِلسُّنَّةِ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِمِ الْفِتْنَةُ أَوْ يُدْخِلُهُمْ فِي البدعة أو غيرها فهم ثابتوا الايمان وصحيحوا الْعَقَائِدِ وَهُمْ أَكْثَرُ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَمَّا الْعَارِفُونَ وَالْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ وَالصَّالِحُونَ الْمُتَعَبِّدُونَ فَهُمْ قَلِيلُونَ وَهُمْ أَصْحَابُ الدَّرَجَاتِ قَالَ وَقِيلَ مَعْنَى الضُّعَفَاءِ هُنَا وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَهْلُ الْجَنَّةُ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ أَنَّهُ الْخَاضِعُ لِلَّهِ تَعَالَى الْمُذِلُّ نَفْسَهُ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ضِدُّ المتجبر المستكبر

(17/181)


قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَتَقُولُ قَطْ قط فهنالك تمتلىء وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ) مَعْنَى يُزْوَى يُضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَتَجْتَمِعُ وَتَلْتَقِي عَلَى مَنْ فِيهَا وَمَعْنَى قَطْ حَسْبِي أَيْ يَكْفِينِي هَذَا وَفِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ قَطْ قَطْ بِإِسْكَانِ الطَّاءِ فِيهِمَا وَبِكَسْرِهَا مُنَوَّنَةٌ وَغَيْرُ مُنَوَّنَةٍ قَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وسلم فأما النار فلا تمتلىء حَتَّى يَضَعَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رِجْلَهُ) وَفِي الرواية التى بعدها لاتزال جَهَنَّمُ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رَبُّ الْعِزَّةِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدَمَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَيَضَعُ قَدَمَهُ عَلَيْهَا هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مَشَاهِيرِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَقَدْ سَبَقَ مَرَّاتٍ بَيَانُ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا عَلَى مَذْهَبَيْنِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وطائفة من المتكلمين أنه لايتكلم فِي تَأْوِيلِهَا بَلْ نُؤْمِنُ أَنَّهَا حَقٌّ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ وَلَهَا مَعْنَى يَلِيقُ بِهَا وَظَاهِرُهَا غَيْرُ مُرَادٍ وَالثَّانِي

(17/182)


وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهَا تُتَأَوَّلُ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهَا فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْقَدَمِ هُنَا الْمُتَقَدِّمُ وَهُوَ شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ وَمَعْنَاهُ حَتَّى يَضَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مَنْ قَدَّمَهُ لَهَا مِنْ أَهْلِ الْعَذَابِ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَالْقَاضِي هَذَا تأويل النضر بن شميل ونحوه عن بن الْأَعْرَابِيِّ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ قَدَمُ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينِ فَيَعُودُ الضَّمِيرُ فِي قَدَمِهِ إِلَى ذَلِكِ الْمَخْلُوقِ الْمَعْلُومِ الثَّالِثُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا يُسَمَّى بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا يَضَعُ اللَّهُ فِيهَا رِجْلَهُ فَقَدْ زَعَمَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنِ فَوْرَكَ أَنَّهَا غَيْرُ ثَابِتَةٍ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ وَلَكِنْ قَدْ رَوَاهَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ فَهِيَ صَحِيحَةٌ وَتَأْوِيلُهَا كَمَا سَبَقَ فِي الْقَدَمِ وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُرَادَ بِالرِّجْلِ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ كَمَا يُقَالُ رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ أَيْ قِطْعَةٌ مِنْهُ قَالَ الْقَاضِي أَظْهَرُ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ اسْتَحَقُّوهَا وَخُلِقُوا لَهَا قَالُوا ولابد مِنْ صَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ الْعَقْلِيِّ عَلَى اسْتِحَالَةِ الْجَارِحَةِ عَلَى اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ولايظلم اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا) قَدْ سَبَقَ مَرَّاتٍ بَيَانُ أَنَّ الظُّلْمَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تعالى فمن عذبه بذنب أو بلاذنب فَذَلِكَ عَدْلٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ ينشىء لَهَا خَلْقًا) هَذَا دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الثَّوَابَ لَيْسَ مُتَوَقِّفًا عَلَى الْأَعْمَالِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُخْلَقُونَ حِينَئِذٍ وَيُعْطَوْنَ فِي الْجَنَّةِ مَا يُعْطَوْنَ بِغَيْرِ عَمَلٍ وَمِثْلُهُ أَمْرُ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينَ الَّذِينَ لَمْ يَعْمَلُوا طَاعَةً قَطُّ فَكُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلِهِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ

(17/183)


دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ سَعَةِ الْجَنَّةِ فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ لِلْوَاحِدِ فِيهَا مِثْلُ الدُّنْيَا وَعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا ثُمَّ يَبْقَى فِيهَا شَيْءٌ لِخَلْقٍ يُنْشِئُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى

[2849] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُذْبَحُ ثُمَّ يُقَالُ خلود فلاموت) قَالَ الْمَازِرِيُّ الْمَوْتُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَرَضٌ يُضَادُّ الْحَيَاةِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ لَيْسَ بِعَرَضٍ بَلْ مَعْنَاهُ عَدَمُ الْحَيَاةِ وَهَذَا خَطَأ لِقَوْلِهِ تعالى خلق الموت

(17/184)


والحياة فَأَثْبَتَ الْمَوْتَ مَخْلُوقًا وَعَلَى الْمَذْهَبَيْنِ لَيْسَ الْمَوْتُ بِجِسْمٍ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَوْ غَيْرِهِ فَيُتَأَوَّلُ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ هَذَا الْجِسْمَ ثم يذبح مثالا لأن الموت لايطرأ عَلَى أَهْلِ الْآخِرَةِ وَالْكَبْشُ الْأَمْلَحُ قِيلَ هُوَ الأبيض الخالص قاله بن الْأَعْرَابِيُّ وَقَالَ الْكِسَائِيُّ هُوَ الَّذِي فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ وَبَيَاضُهُ أَكْثَرُ وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي الضَّحَايَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَيَشْرَئِبُّونَ) بِالْهَمْزِ أى يرفعون رؤسهم إلى المنادى

(17/185)


[2851]

[2852] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ضِرْسُ الْكَافِرِ مِثْلُ أُحُدٍ وَغِلَظِ جِلْدِهِ مَسِيرَةُ ثَلَاثٍ وَمَا بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ) مَسِيرَةُ ثَلَاثٍ هَذَا كُلُّهُ لِكَوْنِهِ أَبْلَغَ فِي إِيلَامِهِ وَكُلُّ هَذَا مَقْدُورٌ لِلَّهِ تَعَالَى يَجِبُ الْإِيمَانِ بِهِ لِإِخْبَارِ الصَّادِقِ بِهِ

[2853] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ (كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعَّفٍ) ضَبَطُوا قَوْلَهُ مُتَضَعَّفٍ

(17/186)


بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا الْمَشْهُورُ الْفَتْحُ وَلَمْ يَذْكُرِ الأكثرون غيره ومعناه يستضعفه الناس ويحتقرو وَيَتَجَبَّرُونَ عَلَيْهِ لِضَعْفِ حَالِهِ فِي الدُّنْيَا يُقَالُ تَضَعَّفَهُ وَاسْتَضْعَفَهُ وَأَمَّا رِوَايَةُ الْكَسْرِ فَمَعْنَاهَا مُتَوَاضِعٌ مُتَذَلِّلٌ خَامِلٌ وَاضِعٌ مِنْ نَفْسِهِ قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ يَكُونُ الضَّعْفُ هُنَا رِقَّةُ الْقُلُوبِ وَلِينُهَا وَإِخْبَاتُهَا لِلْإِيمَانِ وَالْمُرَادُ أَنَّ أَغْلَبَ أَهْلِ الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ كَمَا أَنَّ مُعْظَمَ أَهْلِ النَّارِ الْقِسْمُ الْآخَرُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الِاسْتِيعَابَ فِي الطَّرَفَيْنِ وَمَعْنَى الْأَشْعَثِ مُتَلَبِّدُ الشَّعْرِ مُغَبَّرُهُ الَّذِي لَا يَدْهُنُهُ وَلَا يُكْثِرُ غَسْلَهُ وَمَعْنَى مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ أَنَّهُ لايؤذن لَهُ بَلْ يُحْجَبُ وَيُطْرَدُ لِحَقَارَتِهِ عِنْدَ النَّاسِ قوله صلى الله عليه وسلم (لوأقسم عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ) مَعْنَاهُ لَوْ حَلَفَ يَمِينًا طَمَعًا فِي كَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِبْرَارِهِ لَأَبَرَّهُ وَقِيلَ لَوْ دَعَاهُ لَأَجَابَهُ يُقَالُ أَبْرَرْتُ قَسَمَهُ وَبَرَرْتُهُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ النَّارِ (كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ) وَفِي رِوَايَةٍ كُلُّ جَوَّاظٍ زَنِيمٍ متكبرا أَمَّا الْعُتُلُّ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالتَّاءِ

(17/187)


فَهُوَ الْجَافِي الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ وَقِيلَ الْجَافِي الْفَظُّ الْغَلِيظُ وَأَمَّا الْجَوَّاظُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَبِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ فَهُوَ الْجَمُوعُ الْمَنُوعُ وَقِيلَ كَثِيرُ اللَّحْمِ الْمُخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ وَقِيلَ الْقَصِيرُ الْبَطِينِ وَقِيلَ الْفَاخِرُ بِالْخَاءِ وَأَمَّا الزَّنِيمُ فَهُوَ الدَّعِيُّ فِي النَّسَبِ الْمُلْصَقِ بِالْقَوْمِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ شُبِّهَ بِزَنَمَةِ الشَّاةِ وَأَمَّا الْمُتَكَبِّرُ وَالْمُسْتَكْبِرُ فَهُوَ صَاحِبُ الْكِبْرِ وَهُوَ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ

[2855] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ (عَزِيزٌ عَارِمٌ) الْعَارِمُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ هُوَ الشِّرِّيرُ الْمُفْسِدُ الخبيث وقيل القوى الشرس وقد عرم بضم الراء وفتحها وكسرها عرامة بفتح العين وعراما بضمها فهو عارم وعرم وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ لِغَيْرِ ضَرُورَةِ التَّأْدِيبِ وَفِيهِ النَّهْيُ عَنِ الضَّحِكِ مِنَ الضَّرْطَةِ يَسْمَعُهَا مِنْ غَيْرِهِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَغَافَلَ عَنْهَا وَيَسْتَمِرَّ عَلَى حَدِيثِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ وَلَا غَيْرِهِ وَيُظْهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ وَفِيهِ حُسْنُ الْأَدَبِ وَالْمُعَاشَرَةِ

[2856] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمْعَةَ بْنِ خِنْدِفَ أَبَا بَنِي كَعْبٍ هَؤُلَاءِ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيِّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ

(17/188)


أَمَّا قَمْعَةُ ضَبَطُوهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَشْهَرُهَا قِمَّعَةُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمِيمِ الْمُشَدَّدَةِ وَالثَّانِي كَسْرُ الْقَافِ وَالْمِيمِ الْمُشَدَّدَةِ حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ رواية الباجي عن بن مَاهَانَ وَالثَّالِثُ فَتْحُ الْقَافِ مَعَ إِسْكَانِ الْمِيمِ وَالرَّابِعُ فَتْحُ الْقَافِ وَالْمِيمِ جَمِيعًا وَتَخْفِيفُ الْمِيمِ قَالَ الْقَاضِي وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِينَ وَأَمَّا خِنْدِفُ فَبِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالدَّالِ هَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ وَحَكَى الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ فِيهِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا هَذَا وَالثَّانِي كَسْرُ الْخَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ وَآخِرُهَا فَاءٌ وَهِيَ اسْمُ الْقَبِيلَةِ فَلَا تَنْصَرِفُ وَاسْمُهَا لَيْلَى بِنْتُ عِمْرَانَ بْنِ الْجَافِّ بْنِ قُضَاعَةَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَبَا بَنِي كَعْبٍ) كَذَا ضَبَطْنَاهُ أَبَا بِالْبَاءِ وَكَذَا هُوَ فِي كَثِيرِ مِنْ نُسَخِ بِلَادِنَا وَفِي بَعْضِهَا أَخَا بِالْخَاءِ وَنَقَلَ الْقَاضِي هَذَا عَنْ أَكْثَرِ رواة الجلودي قال والأول رواية بن مَاهَانَ وَبَعْضُ رُوَاةِ الْجُلُودِيِّ قَالَ وَهُوَ الصَّوَابُ قال وكذا ذكر الحديث بن أَبِي خَيْثَمَةَ وَمُصْعَبُ الزُّبَيْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا لِأَنَّ كَعْبًا هُوَ أَحَدُ بُطُونِ خُزَاعَةَ وَابْنَهُ وَأَمَّا لُحَيُّ فَبِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَأَمَّا قُصْبَهُ فَبِضَمِّ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ يَعْنِي أَمْعَاءَهُ وَقَالَ أَبُو عَبِيدٍ الْأَمْعَاءُ وَاحِدُهَا قَصَبٌ أَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ فَقَالَ الْقَاضِي الْمَعْرُوفُ فِي نَسَبِ بن خُزَاعَةَ عَمْرُو بْنُ لُحَيِّ بْنِ قَمْعَةَ كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَهُوَ قَمْعَةُ بْنُ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ وَإِنَّمَا عَامِرٌ عَمُّ أَبِيهِ أَبِي قَمْعَةَ وَهُوَ مُدْرِكَةُ بْنُ إِلْيَاسَ هَذَا قَوْلُ نُسَّابِ الْحِجَازِيِّينَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُمْ مِنَ الْيَمَنِ مِنْ وَلَدِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ وَأَنَّهُ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ وَاسْمُهُ رَبِيعَةُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ وَقَدْ

(17/189)


يَحْتَجُّ قَائِلٌ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ

[2128] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لايدخلن الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَتُوجَدُ من مسيرة كذاوكذا) هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ فَقَدْ وَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا أَصْحَابُ السِّيَاطِ فَهُمْ غِلْمَانُ وَالِي الشُّرْطَةِ أَمَّا الْكَاسِيَاتُ فَفِيهِ أَوْجُهٌ أَحَدُهَا مَعْنَاهُ كَاسِيَاتٌ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَارِيَاتٌ مِنْ شُكْرِهَا وَالثَّانِي كَاسِيَاتٌ مِنَ الثِّيَابِ عَارِيَاتٌ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ

(17/190)


وَالِاهْتِمَامِ لِآخِرَتِهِنَّ وَالِاعْتِنَاءِ بِالطَّاعَاتِ وَالثَّالِثُ تَكْشِفُ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهَا إِظْهَارًا لِجَمَالِهَا فَهُنَّ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ وَالرَّابِعُ يَلْبَسْنَ ثِيَابًا رِقَاقًا تَصِفُ مَا تَحْتَهَا كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ فِي الْمَعْنَى وَأَمَّا مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ فَقِيلَ زَائِغَاتٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يَلْزَمُهُنَّ مِنْ حِفْظِ الْفُرُوجِ وَغَيْرِهَا وَمُمِيلَاتٌ يُعَلِّمْنَ غَيْرَهُنَّ مِثْلَ فِعْلِهِنَّ وَقِيلَ مَائِلَاتٌ مُتَبَخْتِرَاتٌ فِي مِشْيَتِهِنَّ مُمِيلَاتٌ أَكْتَافُهُنَّ وَقِيلَ مَائِلَاتٌ يَتَمَشَّطْنَ الْمِشْطَةَ الْمَيْلَاءِ وَهِيَ مِشْطَةُ الْبَغَايَا مَعْرُوفَةٌ لَهُنَّ مُمِيلَاتٌ يُمَشِّطْنَ غَيْرَهُنَّ تِلْكَ الْمِشْطَةِ وَقِيلَ مَائِلَاتٌ إِلَى الرِّجَالِ مُمِيلَاتٌ لَهُمْ بِمَا يُبْدِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وغيرها وأما رؤوسهن كأسنمة البخت فمعناه يعظمن رؤوسهن بِالْخُمُرِ وَالْعَمَائِمِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُلَفُّ عَلَى الرَّأْسِ حَتَّى تُشْبِهُ أَسْنِمَةَ الْإِبِلِ الْبُخْتِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ يَطْمَحْنَ إِلَى الرِّجَالِ وَلَا يَغْضُضْنَ عنهم ولا ينكسن رؤوسهن وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّ الْمَائِلَاتِ تُمَشِّطْنَ الْمِشْطَةَ الْمَيْلَاءِ قَالَ وَهِيَ ضَفْرُ الْغَدَائِرِ وَشَدُّهَا إِلَى فَوْقُ وَجَمْعُهَا فِي وَسَطِ الرَّأْسِ فَتَصِيرُ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ قَالَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّشْبِيهِ بِأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ إِنَّمَا هُوَ لِارْتِفَاعِ الْغَدَائِرِ فَوْقَ رؤوسهن وَجَمْعُ عَقَائِصِهَا هُنَاكَ وَتُكْثِرُهَا بِمَا يُضَفِّرْنَهُ حَتَّى تَمِيلَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ جَوَانِبِ الرَّأْسِ كَمَا يميل السنام قال بن دُرَيْدٍ يُقَالُ نَاقَةٌ مَيْلَاءُ إِذَا كَانَ سَنَامُهَا يَمِيلُ إِلَى أَحَدِ شِقَّيْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لايدخلن الْجَنَّةَ) يُتَأَوَّلُ التَّأْوِيلَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي نَظَائِرِهِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ اسْتَحَلَّتْ حَرَامًا مِنْ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهَا بِتَحْرِيمِهِ فَتَكُونُ كَافِرَةٌ مُخَلَّدَةٌ فى النار لاتدخل الجنة أبدا والثانى يحمل على أنها لاتدخلها أَوَّلَ الْأَمْرِ مَعَ الْفَائِزِينَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

(17/191)


(باب فناء الدنيا وبيان الحشر يَوْمَ الْقِيَامَةِ

[2858] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَاَللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ) وَفِي رِوَايَةٍ وَأَشَارَ إِسْمَاعِيلُ بِالْإِبْهَامِ هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا بالابهام وهى الأصبع العظمى المعروفة كذا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جَمِيعِ الرُّوَاةِ إِلَّا السَّمَرْقَنْدِيَّ فَرَوَاهُ الْبِهَامُ قَالَ وَهُوَ تَصْحِيفٌ قَالَ الْقَاضِي وَرِوَايَةُ السَّبَّابَةِ أَظْهَرُ مِنْ رِوَايَةِ الْإِبْهَامِ وَأَشْبَهُ بالتمثيل لأن العادة الاشارة بها لا بِالْإِبْهَامِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ مَرَّةً وَهَذِهِ مَرَّةً وَالْيَمُّ الْبَحْرُ وَقَوْلُهُ بِمَ تَرْجِعُ ضَبَطُوا تَرْجِعُ بِالْمُثَنَّاةِ فَوْقُ وَالْمُثَنَّاةِ تَحْتُ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَمَنْ رَوَاهُ بِالْمُثَنَّاةِ تَحْتُ أَعَادَ الضَّمِيرَ إِلَى أَحَدِكُمِ وَالْمُثَنَّاةُ فَوْقُ أَعَادَهُ عَلَى الْأُصْبُعِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَمَعْنَاهُ لَا يَعْلَقُ بِهَا كَثِيرُ شَيْءٍ مِنَ الْمَاءِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ مَا الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ فِي قِصَرِ مُدَّتِهَا وَفَنَاءِ لَذَّاتِهَا ودوام الآخرة ودوام)

(17/192)


لذاتها ونعيمها إلاكنسبة الْمَاءِ الَّذِي يَعْلَقُ بِالْأُصْبُعِ إِلَى بَاقِي الْبَحْرِ

[2859] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا) الْغُرْلُ بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ مَعْنَاهُ غَيْرُ مَخْتُونِينَ جَمْعُ أَغْرَلَ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُخْتَنْ وَبَقِيَتْ مَعَهُ غُرْلَتُهُ وَهِيَ قُلْفَتُهُ وَهِيَ الْجِلْدَةُ الَّتِي تُقْطَعُ فِي الْخِتَانِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ هُوَ الْأَغْرَلُ وَالْأَرْغَلُ وَالْأَغْلَفُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ فِي الثَّلَاثَةِ وَالْأَقْلَفُ وَالْأَعْرَمُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَجَمْعُهُ غُرَلٌ وَرُغَلٌ وَغُلَفٌ وَقُلَفٌ وَعُرَمٌ وَالْحُفَاةُ جَمْعُ حَافٍ وَالْمَقْصُودُ أنهم يحشرون كما خلقوا لاشىء مَعَهُمْ وَلَا يُفْقَدُ مِنْهُمْ شَيْءٌ حَتَّى الْغُرْلَةُ تَكُونُ مَعَهُمْ قَوْلُهُ صَلَّى

(17/193)


اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي إِلَى آخِرِهِ) هَذَا الْحَدِيثُ قَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةِ تُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ هُنَاكَ الْمُرَادُ بِهِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ

[2861] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ وَعَشْرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ وَتَحْشُرُ بَقِيَّتُهُمُ النَّارُ تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا وَتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا) قَالَ الْعُلَمَاءُ وَهَذَا الْحَشْرُ فِي آخِرِ الدُّنْيَا قُبَيْلَ الْقِيَامَةِ

(17/194)


وَقُبَيْلَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى الله عليه وسلم بَقِيَّتُهُمُ النَّارُ تَبِيتُ مَعَهُمْ وَتَقِيلُ وَتُصْبِحُ وَتُمْسِي وَهَذَا آخِرُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ كَمَا ذَكَرَ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا فِي آيَاتِ السَّاعَةِ قَالَ وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ تَرْحَلُ الناس وفى رواية تطرد الناس إلى محشر هم وَالْمُرَادُ بِثَلَاثِ طَرَائِقَ ثَلَاثُ فِرَقٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْجِنِّ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا أَيْ فِرَقًا مُخْتَلِفَةَ الْأَهْوَاءِ

(بَاب فِي صِفَةِ يوم القيامة أعاننا الله على أهواله)
[2862] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ) وَفِي رِوَايَةٍ فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ قَالَ الْقَاضِي وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ عَرَقُ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ وَيُحْتَمَلُ عَرَقُ نَفْسِهِ خَاصَّةً وَسَبَبُ كَثْرَةِ العرق تراكم الأهوال ودنو الشمس من رؤسهم ورحمة بعضهم بعضا

(17/195)


(باب الصفات التى يعرف بها فى الدنيا أهل الجنة وأهل النَّارِ)

[2865] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ) مَعْنَى نَحَلْتُهُ أَعْطَيْتُهُ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كُلُّ مَالٍ أَعْطَيْتُهُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي فَهُوَ لَهُ حَلَالٌ وَالْمُرَادُ إِنْكَارُ مَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ السَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْبَحِيرَةِ وَالْحَامِي وَغَيْرِ ذَلِكَ وَأَنَّهَا لَمْ تصرحوا حَرَامًا بِتَحْرِيمِهِمْ وَكُلُّ مَالٍ مَلَكَهُ الْعَبْدُ فَهُوَ لَهُ حَلَالٌ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ) أَيْ مُسْلِمِينَ وَقِيلَ طَاهِرِينَ مِنَ الْمَعَاصِي وَقِيلَ مُسْتَقِيمِينَ مُنِيبِينَ لِقَبُولِ الْهِدَايَةِ وَقِيلَ الْمُرَادُ حِينَ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ فِي الذَّرِّ وَقَالَ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالوا بلى قَوْلُهُ تَعَالَى (وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ) هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا فَاجْتَالَتْهُمْ بِالْجِيمِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ وعن رواية الحافظ أبى على الغسانى فاجتالتهم بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ قَالَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَوْضَحُ أَيْ اسْتَخَفُّوهُمْ فَذَهَبُوا بِهِمْ وَأَزَالُوهُمْ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ وَجَالُوا مَعَهُمْ فِي الْبَاطِلِ كَذَا فَسَّرَهُ الْهَرَوِيُّ وَآخَرُونَ وَقَالَ شَمِرُ اجْتَالَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ ذَهَبَ بِهِ وَاجْتَالَ أَمْوَالَهُمْ سَاقَهَا وَذَهَبَ بِهَا قَالَ الْقَاضِي وَمَعْنَى فَاخْتَالُوهُمْ بِالْخَاءِ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَاهُ أَيْ يَحْبِسُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَيَصُدُّونَهُمْ عَنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وعجمهم الابقايا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) الْمَقْتُ أَشَدُّ الْبُغْضِ وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْمَقْتِ وَالنَّظَرِ مَا قَبْلَ بَعْثَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

(17/197)


عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ بِبَقَايَا أَهْلِ الْكِتَابِ الْبَاقُونَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِدِينِهِمُ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلٍ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِي بِكَ) مَعْنَاهُ لِأَمْتَحِنَكَ بِمَا يَظْهَرُ مِنْكَ مِنْ قِيَامِكَ بِمَا أَمَرْتُكَ بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْجِهَادِ فِي اللَّهِ حَقِّ جِهَادِهِ وَالصَّبْرِ فِي اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرِ ذَلِكَ وَأَبْتَلِي بِكَ مَنْ أَرْسَلْتُكَ إِلَيْهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُظْهِرُ إِيمَانَهُ وَيُخْلِصُ فِي طَاعَاتِهِ وَمَنْ يَتَخَلَّفُ وَيَتَأَبَّدُ بِالْعَدَاوَةِ وَالْكُفْرِ وَمَنْ يُنَافِقُ وَالْمُرَادُ أَنْ يَمْتَحِنَهُ لِيَصِيرَ ذَلِكَ وَاقِعًا بَارِزًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا يُعَاقِبُ الْعِبَادَ عَلَى مَا وَقَعَ منهم لاعلى مَا يَعْلَمُهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَإِلَّا فَهُوَ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهَا وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِهِ ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ أَيْ نَعْلَمُهُمْ فَاعِلِينَ ذَلِكَ مُتَّصِفِينَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تقرأه نائما ويقظان) أما قوله تعالى لايغسله الماء فمعناه محفوظ فى الصدور لايتطرق إِلَيْهِ الذَّهَابُ بَلْ يَبْقَى عَلَى مَرِّ الْأَزْمَانِ وأما قوله تعالى تقرأه نَائِمًا وَيَقْظَانَ فَقَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ يَكُونُ مَحْفُوظًا لك فى حالتى النوم واليقظة وقيل تقرأه فِي يُسْرٍ وَسُهُولَةٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقُلْتُ رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً) هِيَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ يَشْدَخُوهُ وَيَشُجُّوهُ كَمَا يُشْدَخُ الْخُبْزُ أَيْ يُكْسَرُ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ) بِضَمِّ النُّونِ أَيْ نُعِينُكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٍ مُتَصَدِّقٍ مُوَفَّقٍ وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ) فَقَوْلُهُ وَمُسْلِمٍ مَجْرُورٌ مَعْطُوفٌ عَلَى ذِي قُرْبَى وَقَوْلُهُ مُقْسِطٍ أَيْ عَادِلٍ قَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وسلم

(17/198)


(الضعيف الذى لازبر له الذين هم فيكم تبعا لايبتغون أَهْلًا وَلَا مَالًا) فَقَوْلُهُ زَبْرَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَإِسْكَانِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ لَا عَقْلَ لَهُ يَزْبُرُهُ ويمنعه مما لاينبغى وقيل هو الذى لامال لَهُ وَقِيلَ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَعْتَمِدُهُ وقوله لايتبعون بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مُخَفَّفٌ وَمُشَدَّدٌ مِنَ الِاتِّبَاعِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَبْتَغُونَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ لايطلبون قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَالْخَائِنُ الَّذِي لايخفى له طمع وإن دق الاخانة) معنى لا يخفى لايظهر قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ خَفَيْتَ الشَّيْءَ إِذَا أَظْهَرْتَهُ وَأَخْفَيْتَهُ إِذَا سَتَرْتَهُ وَكَتَمْتَهُ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ فِيهِمَا جَمِيعًا قَوْلُهُ (وَذَكَرَ الْبُخْلَ وَالْكَذِبَ) هِيَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ أَوِ الْكَذِبِ بِأَوْ وَفِي بَعْضِهَا وَالْكَذِبَ بِالْوَاوِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا وَقَالَ القاضي روايتنا عن جميع شيوخنا بالواو والا بن أَبِي جَعْفَرِ عَنِ الطَّبَرِيِّ فَبِأَوْ وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ وَلَعَلَّهُ الصَّوَابُ وَبِهِ تَكُونُ الْمَذْكُورَاتُ خَمْسَةً وَأَمَّا الشِّنْظِيرُ فَبِكَسْرِ الشِّينِ وَالظَّاءِ الْمُعْجَمَتَيْنِ

(17/199)


وَإِسْكَانِ النُّونِ بَيْنَهُمَا وَفَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ الفحاش وهو السىء الخلق قوله (فيكون ذلك ياأبا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ وَاَللَّهِ لَقَدْ أَدْرَكْتُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى آخِرِهِ) أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هُوَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَائِلُ لَهُ قَتَادَةُ وَقَوْلُهُ لَقَدْ أَدْرَكْتُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَعَلَّهُ يريد أواخر أمرهم وآثار الجاهلية والافمطرف صَغِيرٌ عَنْ إِدْرَاكِ زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ حَقِيقَةً وَهُوَ يَعْقِلُ

(بَاب عَرْضِ مَقْعَدِ الْمَيِّتِ مِنْ الْجَنَّةِ أَوْ النَّارِ عَلَيْهِ وَإِثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ وَالتَّعَوُّذِ مِنْهُ اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ إِثْبَاتُ عَذَابِ الْقَبْرِ وَقَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ دَلَائِلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غدوا وعشيا الْآيَةَ وَتَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ)

(17/200)


عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فى مواطن كثيرة ولايمتنع فِي الْعَقْلِ أَنْ يُعِيدَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَيَاةَ فِي جُزْءٍ مِنَ الْجَسَدِ وَيُعَذِّبُهُ وَإِذَا لَمْ يَمْنَعْهُ الْعَقْلُ وَوَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَجَبَ قَبُولُهُ وَاعْتِقَادُهُ وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ هُنَا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً فِي إِثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ وَسَمَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ مَنْ يُعَذَّبُ فِيهِ وَسَمَاعِ الْمَوْتَى قَرْعَ نِعَالِ دَافِنِيهِمْ وَكَلَامِهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْقَلِيبِ وَقَوْلِهُ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ الْمَيِّتَ وَإِقْعَادِهِمَا إِيَّاهُ وَجَوَابِهُ لَهُمَا وَالْفَسْحِ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَعَرْضِ مَقْعَدِهِ عَلَيْهِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ وَسَبَقَ مُعْظَمُ شَرْحِ هَذَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَكِتَابِ الْجَنَائِزِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ إِثْبَاتُ عَذَابِ الْقَبْرِ كَمَا ذَكَرْنَا خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ وَمُعْظَمِ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضُ الْمُرْجِئَةِ نَفَوْا ذَلِكَ ثُمَّ الْمُعَذَّبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ الْجَسَدُ بِعَيْنِهِ أَوْ بَعْضُهُ بَعْدَ إِعَادَةِ الرُّوحِ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى جُزْءٍ مِنْهُ وَخَالَفَ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بن كرام وطائفة فقالوا لايشترط إِعَادَةُ الرُّوحِ قَالَ أَصْحَابُنَا هَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الْأَلَمَ وَالْإِحْسَاسَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْحَيِّ قَالَ أصحابنا ولايمنع من ذلك كون الميت قد تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ كَمَا نُشَاهِدُ فِي الْعَادَةِ أَوْ أَكَلَتْهُ السِّبَاعُ أَوْ حِيتَانُ الْبَحْرِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَكَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعِيدُهُ لِلْحَشْرِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ فَكَذَا يُعِيدُ الْحَيَاةَ إِلَى جُزْءٍ مِنْهُ أَوْ أَجْزَاءٍ وَإِنْ أَكَلَتْهُ السِّبَاعُ وَالْحِيتَانُ فَإِنْ قِيلَ فَنَحْنُ نُشَاهِدُ الْمَيِّتَ عَلَى حَالِهِ فِي قَبْرِهِ فَكَيْفَ يسأل ويقعد ويضرب بمطارق من حديد ولايظهر لَهُ أَثَرٌ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ بَلْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْعَادَةِ وَهُوَ النَّائِمُ فانه يجد لذة وآلاما لانحس نَحْنُ شَيْئًا مِنْهَا وَكَذَا يَجِدُ الْيَقْظَانُ لَذَّةً وآلما لما يسمعه أو يفكر فيه ولايشاهد ذلك جليسه مِنْهُ وَكَذَا كَانَ جِبْرَائِيلُ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم فيخبره بالوحى الكريم ولايدركه الْحَاضِرُونَ وَكُلُّ هَذَا ظَاهِرٌ جَلِيٌّ قَالَ أَصْحَابُنَا وَأَمَّا إِقْعَادُهُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالْمَقْبُورِ دُونَ الْمَنْبُوذِ وَمَنْ أَكَلَتْهُ السِّبَاعُ وَالْحِيتَانُ وَأَمَّا ضَرْبُهُ بِالْمَطَارِقِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُوَسَّعَ لَهُ فِي قَبْرِهِ فَيُقْعَدُ وَيُضْرَبُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

[2866] قَوْلُهُ (مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ) هذا تنعيم

(17/201)


للمؤمن وتعذيب للكافر

[2867] قوله (حادث بِهِ بَغْلَتُهُ) أَيْ مَالَتْ عَنِ الطَّرِيقِ وَنَفَرَتْ وقرع النعال

(17/202)


وخفقها هو ضربها وَصَوْتُهَا فِيهَا

[2870] قَوْلُهُ (مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ) يَعْنِي بِالرَّجُلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا يَقُولُهُ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ التى ليس فيها تعظيم امتحانا للمسؤل لِئَلَّا يَتَلَقَّنَ تَعْظِيمَهُ مِنْ عِبَارَةِ السَّائِلِ ثُمَّ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا

[2870] قَوْلُهُ (يُفْسَحُ لَهُ فى قبره ويملأ عليه خضراالى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) الْخَضِرُ ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ وَالثَّانِي بِضَمِّ

(17/203)


الْخَاءِ وَفَتْحِ الضَّادِ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَمَعْنَاهُ يمْلَأُ نِعَمًا غَضَّةً نَاعِمَةً وَأصْلُهُ مِنْ خَضِرَةِ الشَّجَرِ هَكَذَا فَسَّرُوهُ قَالَ الْقَاضِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفَسْحُ لَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّهُ يُرْفَعُ عن بصره ما يجاوره من الحجب الكثيفة بحيث لاتناله ظلمة القبر ولاضيقة إِذَا رُدَّتْ إِلَيْهِ رُوحُهُ قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ضَرْبِ الْمَثَلِ وَالِاسْتِعَارَةِ لِلرَّحْمَةِ وَالنَّعِيمِ كَمَا يُقَالُ سَقَى اللَّهُ قَبْرَهُ وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

(17/204)


[2872] قَوْلُهُ فِي رُوحِ الْمُؤْمِنِ (ثُمَّ يَقُولُ انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الْأَجَلِ ثُمَّ قَالَ فِي رُوحِ الْكَافِرِ فَيُقَالُ انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الْأَجَلِ) قَالَ الْقَاضِي الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ انْطَلِقُوا بِرُوحِ الْمُؤْمِنِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَالْمُرَادُ بِالثَّانِي انْطَلِقُوا بِرُوحِ الْكَافِرِ إِلَى سِجِّينٍ فَهِيَ مُنْتَهَى الْأَجَلِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ إِلَى انْقِضَاءِ أَجَلِ الدُّنْيَا قَوْلُهُ (فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَيْطَةً كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْفِهِ) الرَّيْطَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ وَهُوَ ثَوْبٌ رَقِيقٌ وَقِيلَ هِيَ الْمُلَاءَةُ وَكَانَ سَبَبُ رَدِّهَا عَلَى الْأَنْفِ بِسَبَبِ مَا ذَكَرَ مِنْ نَتْنِ رِيحِ رُوحِ الْكَافِرِ

[2873] قَوْلُهُ (حَدِيدُ الْبَصَرِ) بِالْحَاءِ أَيْ نَافِذُهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ قوله

(17/205)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِلَى آخِرِهِ) هَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظَّاهِرَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلَى بدر (ماأنتم بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ) قَالَ الْمَازِرِيُّ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ الْمَيِّتُ يَسْمَعُ عَمَلًا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ ثُمَّ أَنْكَرَهُ الْمَازِرِيُّ وَادَّعَى أَنَّ هَذَا خَاصٌّ فِي هَؤُلَاءِ وَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَاضِي عِيَاضُ وَقَالَ يُحْمَلُ سَمَاعُهُمْ عَلَى مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ سَمَاعُ الْمَوْتَى فِي أَحَادِيثَ عَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَتِهِ التى لامدفع لَهَا وَذَلِكَ بِإِحْيَائِهِمْ أَوْ إِحْيَاءِ جُزْءٍ مِنْهُمْ يَعْقِلُونَ بِهِ وَيَسْمَعُونَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُ اللَّهُ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ أَحَادِيثُ

(17/206)


السَّلَامِ عَلَى الْقُبُورِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

[2874] قَوْلُهُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا) هَكَذَا هُوَ فِي عَامَّةِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا مِنْ غَيْرِ نُونٍ وَهِيَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةَ الِاسْتِعْمَالِ وَسَبَقَ بَيَانُهَا مَرَّاتٍ وَمِنْهَا الْحَدِيثُ السَّابِقُ فِي كتاب الايمان لاتدخلوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَقَوْلُهُ جَيَّفُوا أَيْ أَنْتَنُوا وَصَارُوا جِيَفًا يُقَالُ جَيَّفَ الْمَيِّتُ وَجَافَ وَأَجَافَ وَأَرْوَحَ وَأَنْتَنَ بِمَعْنًى قَوْلُهُ (فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ الْقَلِيبُ وَالطَّوِيُّ بِمَعْنًى وَهِيَ الْبِئْرُ الْمَطْوِيَّةُ بِالْحِجَارَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَهَذَا السَّحْبُ إلى القليب ليس دفنا لهم ولاصيانة وَحُرْمَةً بَلْ لِدَفْعِ رَائِحَتِهِمُ الْمُؤْذِيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

(17/207)


بَاب إِثْبَاتِ الْحِسَابِ

[2876] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ) معنى نوقش استقصى عليه قال الْقَاضِي وَقَوْلُهُ عُذِّبَ لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ نَفْسَ الْمُنَاقَشَةِ وَعَرْضَ الذُّنُوبِ وَالتَّوْقِيفَ عَلَيْهَا هُوَ التَّعْذِيبُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّوْبِيخِ وَالثَّانِي أَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى الْعَذَابِ بِالنَّارِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ

(17/208)


فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى هَلَكَ مَكَانَ عُذِّبَ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ التَّقْصِيرَ غَالِبٌ فِي الْعِبَادِ فَمَنِ اُسْتُقْصِيَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُسَامَحْ هَلَكَ وَدَخَلَ النَّارَ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْفُو وَيَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ لِمَنْ يَشَاءُ قَوْلُهُ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ) هَذَا مِمَّا اسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَقَالَ اختلف العلماء عن بن أَبِي مُلَيْكَةَ فَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ عَائِشَةَ وَرُوِيَ عَنْهُ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْهَا وَهَذَا اسْتِدْرَاكٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ الْقَاسِمِ عن عائشة وسمعه أيضا منها بلاواسطة فرواه بالوجهين وقد سبقت نظائر هذا

(باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت

[2877] قوله صلى الله عليه وسلم (لايموتن أحدكم الاوهو يحسن بالله الظن) وفى رواية الاوهو يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا تَحْذِيرٌ مِنَ الْقُنُوطِ وَحَثٌّ عَلَى الرَّجَاءِ عِنْدَ الْخَاتِمَةِ وَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ)

(17/209)


قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَى حُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ يَرْحَمُهُ وَيَعْفُو عَنْهُ قَالُوا وَفِي حَالَةِ الصِّحَّةِ يَكُونُ خَائِفًا رَاجِيًا وَيَكُونَانِ سَوَاءً وَقِيلَ يَكُونُ الْخَوْفُ أَرْجَحَ فَإِذَا دَنَتْ أَمَارَاتُ الْمَوْتِ غَلَّبَ الرَّجَاءَ أَوْ مَحْضَهُ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْخَوْفِ الِانْكِفَافُ عَنِ الْمَعَاصِي وَالْقَبَائِحِ وَالْحِرْصُ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْأَعْمَالِ وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ أَوْ مُعْظَمُهُ فِي هَذَا الْحَالِ فَاسْتُحِبَّ إِحْسَانُ الظَّنِّ الْمُتَضَمِّنُ لِلِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِذْعَانِ لَهُ وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ بعث كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ وَلِهَذَا عَقَّبَهُ مُسْلِمٌ لِلْحَدِيثِ الْأَوَّلِ قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ يُبْعَثُ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا وَمِثْلُهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ بَعْدَهُ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى نِيَّاتِهِمْ

(17/210)