طرح التثريب في
شرح التقريب [بَابُ الْوَصِيَّةِ]
[حَدِيث مَا حَقُّ امْرِئٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ
يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ
عِنْدَهُ]
(بَابُ الْوَصِيَّةِ) عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا حَقُّ امْرِئٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي
فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ
مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» .
(فِيهِ) فَوَائِدُ:
(الْأُولَى) أَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ
الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ «لَهُ
(6/185)
لِلْبَيْهَقِيِّ «لَهُ مَالٌ يُرِيدُ أَنْ
يُوصِيَ فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ
لَيْسَتْ وَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةً عِنْدَهُ» .
وَفِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ «لَا
يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مَالٌ يُوصِي فِيهِ»
الْحَدِيثَ. قَالَ وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَى هَذِهِ
اللَّفْظَةِ يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَوْنٍ..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[طرح التثريب]
شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ» وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
وَالتِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيُّ بِلَفْظِ «لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ
يُوصِيَ فِيهِ» وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ بِلَفْظِ «لَهُ مَالٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ
فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ لَيْسَتْ
وَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةً عِنْدَهُ» وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِشَامِ
بْنِ سَعْدٍ كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ
الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ
«وَيَبِيتُ ثَلَاثَ لَيَالٍ» (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْت
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ ذَلِكَ وَعِنْدِي وَصِيَّتِي) وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ لَا خِلَافَ عَنْ مَالِكٍ فِي
لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا فِي إسْنَادِهِ، وَقَالَ
فِيهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «مَا حَقُّ امْرِئٍ يُؤْمِنُ بِالْوَصِيَّةِ»
وَفَسَّرَهُ فَقَالَ يُؤْمِنُ بِأَنَّهَا حَقٌّ قَالَ
فِيهِ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مَالٌ يُوصِي
فِيهِ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ لَيْلَتَانِ إلَّا
وَعِنْدَهُ وَصِيَّةٌ» وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ
عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ
مُسْلِمٍ لَهُ مَالٌ يُوصِي فِيهِ» الْحَدِيثَ. قَالَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَكَذَا قَالَ لَا يَحِلُّ وَلَمْ
يُتَابَعْ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرِوَايَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ رَوَاهَا الشَّافِعِيُّ عَنْهُ وَمِنْ
طَرِيقِهِ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ.
(الثَّانِيَةُ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ
قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعْنَى
الْحَدِيثِ مَا الْحَزْمُ وَالِاحْتِيَاطُ لِلْمُسْلِمِ
إلَّا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةً عِنْدَهُ
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ
الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ مَا حَقُّ
امْرِئٍ يَحْتَمِلُ، مَا لِامْرِئٍ أَنْ يَبِيتَ
لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ
وَيَحْتَمِلُ مَا الْمَعْرُوفُ فِي الْأَخْلَاقِ إلَّا
هَذَا لَا مِنْ وَجْهِ الْفَرْضِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ:
مَعْنَاهُ مَا حَقُّهُ مِنْ جِهَةِ الْحَزْمِ
وَالِاحْتِيَاطِ إلَّا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّتُهُ
مَكْتُوبَةً عِنْدَهُ
(6/186)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[طرح التثريب]
إذَا كَانَ لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ
فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَتَى تُوَافِيهِ مَنِيَّتُهُ
فَتَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُ مِنْ ذَلِكَ.
انْتَهَى. وَقَوْلُهُ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ الظَّاهِرُ
أَنَّ أَصْلَهُ أَنْ يَبِيتَ لِيُؤَوَّلَ بِالْمَصْدَرِ
أَيْ مَا حَقُّهُ بَيْتُوتَتُهُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَهُوَ
بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ تَصْرِيحُهُ
بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ مِنْ طَرِيقِ
فُضَيْلٍ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ فِيهَا «أَنْ
يَبِيتَ» .
[فَائِدَة الْحَثُّ عَلَى الْوَصِيَّةِ] 1
(الثَّالِثَةُ) فِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَقَدْ
أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْأَمْرِ بِهَا لَكِنَّ
مَذْهَبَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي
حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورِ أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ لَا
وَاجِبَةٌ، وَذَهَبَ دَاوُد وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمَا
مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ إلَى وُجُوبِهَا وَحَكَاهُ ابْنُ
الْمُنْذِرِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ الزُّهْرِيُّ
وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ
الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ
لِغَيْرِهِ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ رَوَيْنَا إيجَابَ
الْوَصِيَّةِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَكَانَ طَلْحَةُ
وَالزُّبَيْرُ يُشَدِّدَانِ فِي الْوَصِيَّةِ وَهُوَ
قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى وَطَلْحَةَ بْنِ
مُصَرِّفٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ.
انْتَهَى. وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إجْمَاعَ
الْعُلَمَاءِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَجَعَلَ
الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ شَاذِّينَ لَا يُعَدُّونَ
خِلَافًا وَتَمَسَّكَ الْمُوجِبُونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ
وَلَا دَلَالَةَ لَهُمْ فِيهِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا
اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ كَيْفَ وَفِي
رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ «يُرِيدُ أَنْ
يُوصِيَ فِيهِ» فَجَعَلَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا
بِإِرَادَتِهِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ
كَذَلِكَ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا اللَّفْظِ
مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ فَقَدْ قَيَّدَهُ فِي كُلِّ
الرِّوَايَاتِ بِقَوْلِهِ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ
وَذَلِكَ هُوَ الدُّيُونُ الَّتِي تَكُونُ عَلَيْهِ فَهُوَ
الشَّيْءُ الَّذِي يُوصَى فِيهِ وَلَوْ نَظَرْنَا إلَى
الرِّوَايَةِ الَّتِي لَفْظُهَا «مَالٌ يُوصَى فِيهِ»
فَالدَّيْنُ الَّذِي عَلَيْهِ مَالٌ وَأَمَّا قَوْلُ
اللَّهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ
لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا
عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] فَإِنَّهَا
مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ كَانَ يَجِبُ عَلَى
الْمُحْتَضَرِ أَنْ يُوصِيَ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ بِمَا أَرَادَ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:
11] الْآيَاتِ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ وَكَانَتْ
الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ
ذَلِكَ مَا أَحَبَّ فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسَ وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ
وَالرُّبُعَ وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ وَحَكَاهُ
ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعِكْرِمَةَ
وَمُجَاهِدٍ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.
قَالَ
(6/187)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[طرح التثريب]
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ نُسِخَ الْوَالِدَانِ بِالْفَرْضِ
لَهُمَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَبَقِيَ الْأَقْرَبُونَ
مِمَّنْ لَا يَرِثُ؛ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ جَائِزَةٌ
حَرَّضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى ذَلِكَ هَكَذَا قَالَ
إِسْحَاقُ وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فَرَضَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ
يُوصِيَ لِقَرَابَتِهِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ إمَّا
مُطْلَقًا أَوْ لِحَاجِبٍ أَوْ لِمَانِعٍ بِمَا طَابَتْ
بِهِ نَفْسُهُ لِأَحَدٍ فِي ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ
أَعْطَوْا مَا رَآهُ الْوَرَثَةُ أَوْ الْوَصِيُّ قَالَ
وَبِوُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَةِ الَّذِينَ لَا
يَرِثُونَ يَقُولُ إِسْحَاقُ وَأَبُو سُلَيْمَانَ وَحَكَى
ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ
لِلْقَرَابَةِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ جَائِزَةٌ ثُمَّ حَكَى
خِلَافًا فِيمَا إذَا تَرَكَ الْوَصِيَّةَ لَهُمْ
وَأَوْصَى لِأَجْنَبِيٍّ فَحَكَى عَنْ الْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ وَعَوَامِّ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ
وَصِيَّتَهُ حَيْثُ جَعَلَهَا وَعَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ
وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يَعْلَى أَنَّهَا تُنْزَعُ مِنْ
الْأَجْنَبِيِّ وَتُرَدُّ عَلَى الْقَرَابَةِ وَعَنْ ابْنِ
الْمُسَيِّبِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ يُعْطَى
الْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ الْوَصِيَّةِ وَالْقَرَابَةُ
ثُلُثَيْهَا.
[فَائِدَة مِقْدَارِ الْمَالِ الَّذِي يُسْتَحَبُّ فِيهِ
الْوَصِيَّةُ أَوْ تَجِبُ] 1
(الرَّابِعَةُ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلُ مَنْ
قَالَ مَالٌ أَوْلَى عِنْدِي مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ
شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَلِيلُ الْمَالِ وَكَثِيرُهُ،
وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ
يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا الْيَسِيرُ التَّافِهُ مِنْ
الْمَالِ أَنَّهُ لَا يُنْدَبُ إلَى الْوَصِيَّةِ ثُمَّ
قَالَ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مِقْدَارِ الْمَالِ
الَّذِي يُسْتَحَبُّ فِيهِ الْوَصِيَّةُ أَوْ تَجِبُ
عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَهَا فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ
أَوْ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ لَيْسَ بِمَالٍ فِيهِ
وَصِيَّةٌ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ أَلْفُ دِرْهَمٍ
مَالٍ فِيهِ وَصِيَّةٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا وَصِيَّةَ فِي ثَمَانِمِائَةِ
دِرْهَمٍ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ فِي امْرَأَةٍ لَهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ
الْوَلَدِ وَلَهَا ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ لَا
وَصِيَّةَ فِي مَالِهَا وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ
أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَالَ
قَتَادَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا}
[البقرة: 180] الْخَيْرُ أَلْفٌ فَمَا فَوْقَهَا وَعَنْ
عَلِيٍّ مَنْ تَرَكَ مَالًا يَسِيرًا فَلْيَدَعْهُ
لِوَرَثَتِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ.
وَعَنْ عَائِشَةَ فِيمَنْ تَرَكَ ثَمَانَمِائَةٍ لَمْ
يَتْرُكْ خَيْرًا فَلَا يُوصِي أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنْ
الْقَوْلِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَهَذَا كُلُّهُ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْوَصِيَّةِ فِي
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى النَّدْبِ دُونَ
الْإِيجَابِ، وَلَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً فِي
الْكِتَابِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ كَانَتْ
مَنْسُوخَةً بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ. انْتَهَى.
وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ
فِيمَنْ تَرَكَ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ مَا فِي هَذَا
فَضْلٌ عَنْ وَلَدِهِ وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ
السَّرَخْسِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَنْ قَلَّ
مَالُهُ وَكَثُرَ عِيَالُهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا
يُفَوِّتَهُ عَلَيْهِمْ بِالْوَصِيَّةِ
(6/188)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[طرح التثريب]
وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
اسْتِحْبَابُ الْوَصِيَّةِ لِمَنْ لَهُ مَالٌ مُطْلَقًا.
[فَائِدَة الْوَصِيَّةِ بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ]
(الْخَامِسَةُ) هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ حَمْلِ
الْأَمْرِ بِالْوَصِيَّةِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ هُوَ فِي
غَيْرِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ أَمَّا إذَا كَانَ عِنْدَ
الْإِنْسَانِ وَدِيعَةٌ أَوْ فِي ذِمَّتِهِ حَقٌّ لِلَّهِ
تَعَالَى كَزَكَاةٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ دَيْنٍ لِآدَمِيٍّ
فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِهِ وَقَالَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ كَانَ
الْحَدِيثُ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى هَذَا النَّوْعِ
وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الرَّافِعِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي
الْكَلَامِ عَلَى الْوَصَايَا أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ فِي
رَدِّ الْمَظَالِمِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَتَنْفِيذِ
الْوَصَايَا وَأُمُورِ الْأَطْفَالِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ
لِمَا تَقَرَّرَ فِي كَلَامِهِ وَكَلَامِ غَيْرِهِ مِنْ
وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ
وَحَمَلَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْمَظَالِمِ وَقَضَاءِ
الدُّيُونِ عَلَى مَا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِمَا فِي
الْحَالِ فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهُمَا وَجَبَ عَلَيْهِ
أَنْ يُوصِيَ بِهِمَا وَعِنْدِي أَنَّ الِاسْتِحْبَابَ
الَّذِي فِي كَلَامِ الرَّافِعِيِّ هُنَا إنَّمَا
مَرْجِعُهُ إلَى تَعْيِينِ شَخْصٍ يُسْنَدُ تَعَاطِي
ذَلِكَ إلَيْهِ فَأَمَّا الْإِعْلَامُ بِهِ إذَا لَمْ
يَكُنْ بِهِ إشْهَادٌ مُتَقَدِّمٌ فَهُوَ وَاجِبٌ وَلَيْسَ
فِي كَلَامِهِ مَا يُخَالِفُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(السَّادِسَةُ) هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ
الْوَصِيَّةِ بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ مَحِلُّهُ مَا
إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ غَيْرُهُ فَأَمَّا إذَا عَلِمَ
بِهِ غَيْرُهُ فَلَا تَجِبُ كَذَا عَبَّرَ بِهِ
الرَّافِعِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ
الْمُرَادُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ مَنْ يَثْبُتُ
بِقَوْلِهِ وَقَصَدَ بِذَلِكَ إخْرَاجَ الْكَافِرِ
وَالْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ
فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي عِلْمُهُمْ مَعَ دُخُولِهِمْ فِي
تَعْبِيرِ الرَّافِعِيِّ قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ
جَمَالُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْإِسْنَوِيُّ:
وَهُوَ غَيْرُ كَافٍ أَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَ الْوَرَثَةِ
كَافٍ فِي الثُّبُوتِ مَعَ أَنَّ الْمُتَّجَهَ أَنَّ
عِلْمَهُمْ لَا يَكْفِي لِأَنَّهُمْ الْغُرَمَاءُ فَلَا
بُدَّ مِنْ حُجَّةٍ تَقُومُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ
إنْكَارِهِمْ.
قَالَ: وَأَيْضًا فَإِنَّ كَلَامَهُ يَقْتَضِي أَنَّ
الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ لَا يَكْفِي فَإِنَّ الْحَقَّ لَا
يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ فَلَا نِزَاعَ لَكِنَّ
الْقِيَاسَ يُخْرِجُهُ عَلَى مَا إذَا وَكَّلَهُ فِي
قَضَاءِ دِينِهِ فَقَضَاهُ بِحَضْرَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ
وَالصَّحِيحُ فِيهِ الِاكْتِفَاءُ بِذَلِكَ حَتَّى لَا
يَضْمَنَ الْوَكِيلُ عِنْدَ إنْكَارِ الْقَابِضِ
وَدَعْوَاهُ عِنْدَ قَاضٍ لَا يَرَى الْحُكْمَ
بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ. قَالَ: وَأَيْضًا فَإِنَّ
الْوَكِيلَ الْمَذْكُورَ لَوْ أَشْهَدَ عَلَى الْأَدَاءِ
رَجُلَيْنِ ظَاهِرُهُمَا الْعَدَالَةُ فَإِنَّ الصَّحِيحَ
أَنَّهُ كَافٍ أَيْضًا فِي عَدَمِ الضَّمَانِ، وَقِيَاسُهُ
أَنْ يَكُونَ هُنَا مِثْلُهُ أَيْضًا مَعَ أَنَّ الْحَقَّ
لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا فَهُوَ وَارِدٌ عَلَيْهِ.
انْتَهَى.
[فَائِدَة هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى] 1
(السَّابِعَةُ)
(6/189)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[طرح التثريب]
فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ
قَالَ سَأَلْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى هَلْ
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَوْصَى فَقَالَ لَا، فَقُلْت كَيْفَ كَتَبَ
عَلَى النَّاسِ الْوَصِيَّةَ أَوْ أُمِرُوا بِالْوَصِيَّةِ
قَالَ أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ» فَذَكَرَ ابْنُ أَبِي
أَوْفَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
لَمْ يُوصِ فَلَمَّا أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَيْفَ
تَرَكَ الْوَصِيَّةَ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهَا أَجَابَ
بِأَنَّهُ أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ فَعَلِمَ أَنَّهُ
أَرَادَ أَوَّلًا وَصِيَّةً خَاصَّةً وَهِيَ إمَّا
وَصِيَّتُهُ فِي أَمْرِ الْأَمْوَالِ، وَإِمَّا
وَصِيَّتُهُ لِعَلِيٍّ بِالْخِلَافَةِ كَمَا ادَّعَتْهُ
الشِّيعَةُ، وَقَدْ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لَمَّا
ذَكَرُوا عِنْدَهَا أَنَّ عَلِيًّا كَانَ وَصِيًّا
فَقَالَتْ مَتَى أَوْصَى إلَيْهِ، وَقَدْ كُنْت
مُسْنِدَتُهُ إلَى صَدْرِي فَدَعَا بِالطَّسْتِ فَلَقَدْ
انْخَنَثَ فِي حِجْرِي فَمَا شَعَرْت بِهِ أَنَّهُ قَدْ
مَاتَ، فَمَتَى أَوْصَى إلَيْهِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي
صَحِيحِهِ، وَقَدْ أَوْصَى بِأُمُورٍ.
(مِنْهَا) أَنَّهُ كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّتِهِ عِنْدَ
الْمَوْتِ «الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» . وَ
(مِنْهَا) «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ أَخْرِجُوا الْيَهُودَ مِنْ
جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا
كُنْتُ أُجِيزُهُمْ» وَأَمَّا الْأَمْوَالُ «فَلَمْ يَكُنْ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبْقِي
عَلَى مَالٍ مِنْ النُّقُودِ وَالْعُرُوضِ
وَالْحَيَوَانَاتِ وَنَحْوِهَا حَتَّى يُوصِيَ فِيهِ بَلْ
كَانَ يُؤْثِرُ بِمَا يَمْلِكُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَمَا
كَانَ عَلَى مِلْكِهِ مِنْ الْأَرْضِ وَنَحْوِهَا فَقَدْ
وَقَفَهُ» وَأَعْلَمَ بِأَنَّهُ لَا يُوَرَّثُ وَأَنَّ
جَمِيعَ أَمْوَالِهِ صَدَقَةٌ فَفِي.
صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ
خَتْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَخِي جُوَيْرَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ مَوْتِهِ
دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا وَلَا عَبْدًا وَلَا أَمَةً
وَلَا شَيْئًا إلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلَاحَهُ
وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً» . وَلَا يُشْتَرَطُ فِي
الْوَصِيَّةِ أَنْ تَكُونَ فِي الْمَرَضِ بَلْ الْقَوِيُّ
الِاسْتِعْدَادِ يُوصِي بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي
الصِّحَّةِ وَلَا يَحْتَاجُ فِي الْمَرَضِ إلَى تَجْدِيدِ
وَصِيَّةٍ، وَقَدْ كَانَ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلَمْ يَحْتَجْ فِي مَرَضِهِ إلَى
تَجْدِيدِ وَصِيَّةٍ بِشَيْءٍ أَصْلًا فَكَيْفَ بِمَنْ
هُوَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْهُ مِنْ صُلَحَاءِ هَذِهِ
الْأُمَّةِ وَعُلَمَائِهِمْ وَسَلَفِهِمْ الْأَوَّلِ
فَكَيْفَ بِالسَّيِّدِ الْكَامِلِ الْمُفَضَّلِ عَلَى
جَمِيعِ الْخَلْقِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَإِنْ قُلْت قَدْ «تُوُفِّيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِيَهُودِيٍّ» فَكَيْفَ
لَمْ يُوصِ بِهِ، وَقَدْ قَرَّرْتُمْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ
بِالدُّيُونِ وَاجِبَةٌ (قُلْت) «كَانَتْ دِرْعُهُ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَرْهُونَةً عِنْدَ
ذَلِكَ الْيَهُودِيِّ» فَكَانَ الرَّهْنُ حُجَّةً
لِلْيَهُودِيِّ، وَلَمْ يَحْتَجْ لِلْوَصِيَّةِ بِهِ مَعَ
أَنَّ عِلْمَهُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُخْتَصًّا بِهِ فَقَدْ
عَلِمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَلِهَذَا أَخْبَرَتْ بِهِ
عَائِشَةُ
(6/190)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[طرح التثريب]
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
[فَائِدَة تَأَخُّرِ كِتَابَة الْوَصِيَّة] 1
(الثَّامِنَةُ) قَوْلُهُ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ فِيهِ
اغْتِفَارُ تَأَخُّرِ ذَلِكَ يَسِيرًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ
وَالْعُسْرِ فَإِنَّهُ قَدْ تَتَزَاحَمُ أَشْغَالٌ
تَقْتَضِي التَّأْخِيرَ، وَقَدْ يَحْتَاجُ تَذَكُّرَ مَا
عَلَيْهِ وَضَبْطَ مِقْدَارِهِ إلَى زَمَنٍ وَتَفْرِيغِ
خَاطِرٍ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ
«ثَلَاثَ لَيَالٍ» وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ
«لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ» وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ
ذِكْرَ اللَّيْلَتَيْنِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الضَّبْطِ
وَالتَّحْدِيدِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ
التَّقْرِيبِ وَالتَّوَسُّعِ وَالْإِشَارَةِ إلَى
اغْتِفَارِ الزَّمَنِ الْيَسِيرِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ
عُمَرَ مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْت
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ ذَلِكَ إلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي وَكَانَ
الثَّلَاثُ غَايَةً لِلتَّأْخِيرِ فَيُبَادِرُ بِحَسَبِ
التَّيَسُّرِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَائِدَة الشَّيْءِ الَّذِي جَرَتْ الْعَادَةُ
بِتَدَايُنِهِ وَرَدِّهِ هَلْ يَجِبُ الْوَصِيَّةُ بِهِ]
(التَّاسِعَةُ) قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي
شَرْحِ الْعُمْدَةِ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي الشَّيْءِ
الْيَسِيرِ الَّذِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَدَايُنِهِ
وَرَدِّهِ مَعَ الْقُرْبِ هَلْ يَجِبُ الْوَصِيَّةُ بِهِ
عَلَى التَّضْيِيقِ وَالْفَوْرِ وَكَأَنَّهُ رُوعِيَ فِي
ذَلِكَ الْمَشَقَّةُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ
مُسْلِمٍ: قَالُوا وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يَكْتُبَ كُلَّ
يَوْمٍ مُحَقَّرَاتِ الْمُعَامَلَاتِ وَجَرَيَانِ
الْأُمُورِ الْمُتَكَرِّرَةِ.
[فَائِدَة الْخَطَّ فِي الْوَصِيَّةِ] 1
(الْعَاشِرَةُ) اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ اعْتَمَدَ عَلَى
الْخَطِّ وَالْكِتَابَةِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ؛
لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اعْتَمَدَ
الْكِتَابَةَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا فَدَلَّ
عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِهَا. وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ
اعْتَمَدَ الْخَطَّ فِي الْوَصِيَّةِ خَاصَّةً وَبِهِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ مِنْ
أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ عَمَلًا بِظَاهِرِ هَذَا
الْحَدِيثِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَمِدْ الْكِتَابَةَ فِي
غَيْرِهَا وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
فَقَالَ مَنْ وُجِدَتْ لَهُ وَصِيَّةٌ بِخَطِّهِ عُمِلَ
بِهَا لَكِنَّهُ قَالَ أَيْضًا إنْ كَتَبَ وَصِيَّتَهُ
وَخَتَمَهَا وَقَالَ اشْهَدُوا بِمَا فِيهَا لَمْ يَصِحَّ
فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ الْمَسْأَلَةَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ:
لَا يُعْتَمَدُ الْخَطُّ فِي ذَلِكَ وَقَالُوا مَعْنَى
قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
«وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ» أَنَّهُ أَشْهَدَ عَلَيْهِ
بِهَا فَإِنَّهُ الَّذِي يُفِيدُ وَيُعْمَلُ بِهِ
وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْكِتَابَةَ؛ لِأَنَّ فِيهَا ضَبْطَ
الْمَشْهُودِ بِهِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ
بِالْمُرَادِ الْكِتَابَةُ بِشَرْطِهَا وَيَأْخُذُونَ
الشَّرْطَ مِنْ خَارِجٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ
اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] الْآيَةَ.
فَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ الشَّهَادَةِ فِي الْوَصِيَّةِ
بَلْ عَلَى إشْهَادِ اثْنَيْنِ وَذَلِكَ يَنْفِي إشْهَادَ
(6/191)
(كِتَابُ الْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَصُحْبَةِ
الْمَمَالِيكِ) عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[طرح التثريب]
وَاحِدٍ وَيَنْفِي الِاقْتِصَارَ عَلَى الْكِتَابَةِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَائِدَة وَصِيَّةُ الْكَافِرِ] 1
(الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ) قَوْلُهُ «مَا حَقُّ امْرِئٍ»
كَذَا وَقَعَ فِي أَصْلِنَا مِنْ الْأَحْكَامِ وَهُوَ فِي
الْمُوَطَّإِ وَالْكُتُبِ السِّتَّةِ بِزِيَادَةِ مُسْلِمٍ
وَكَذَا هُوَ فِي أَصْلِنَا مِنْ مُوَطَّإِ أَبُو مُصْعَبٍ
وَتَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ لَمْ
يَخْتَلِفْ عَنْ مَالِكٍ فِي لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ
وَلَا فِي إسْنَادِهِ وَوَصْفُ الْمَرْءِ بِالْإِسْلَامِ
خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ أَوْ
ذُكِرَ لِلتَّهْيِيجِ لِتَقَعَ الْمُبَادَرَةُ
لِامْتِثَالِهِ لِمَا يُشْعَرُ بِهِ مِنْ نَفْيِ
الْإِسْلَامِ عَنْ تَارِكِ ذَلِكَ. وَوَصِيَّةُ الْكَافِرِ
جَائِزَةٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ
وَغَيْرِهِمْ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ إجْمَاعِ
أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ يُحْفَظُ عَنْهُمْ
وَالْمُعْتَبَرُ فِيمَنْ تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ الْعَقْلُ
وَالْحُرِّيَّةُ فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ مَجْنُونٍ
وَعَبْدٍ. وَفِي صِحَّةِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ
الْمُمَيِّزِ خِلَافٌ جَوَّزَهَا مَالِكٌ إذَا عَقَلَ
الْقُرْبَةَ وَلَمْ يَخْلِطْ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
إذَا جَاوَزَ الْعَشْرَ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ
إذَا جَاوَزَ السَّبْعَ وَحَكَى عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ
إذَا كَانَ ابْنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. وَمَنَعَهَا
أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ
وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَدَ وَعَنْ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّ
وَصِيَّتَهُ صَحِيحَةٌ. وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ
بِالسَّفَهِ فَوَصِيَّتُهُ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ
وَمِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ.
[فَائِدَة لَا فَرْقَ فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ بَيْنَ
الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ]
(الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ) الْمَرْءُ هُوَ الرَّجُلُ
وَالتَّعْبِيرُ بِهِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ أَيْضًا
فَلَا فَرْقَ فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ بَيْنَ الرَّجُلِ
وَالْمَرْأَةِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً أَوْ
غَيْرَ مُتَزَوِّجَةٍ أَذِنَ زَوْجُهَا أَوْ لَمْ يَأْذَنْ
وَلَوْ كَانَتْ بِكْرًا وَلَمْ يَأْذَنْ أَبُوهَا لَا
يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ تَحْصِيلُ
قُرْبَةٍ أُخْرَوِيَّةٍ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعُمُرِ فِي
قَدْرِ مَا دُونَ فِيهِ شَرْعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. |