عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 8 - (بَاب حُبُّ الرَّسولِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مِنَ الإِيمَانِ)
يجوز فِي بَاب الرّفْع مَعَ التَّنْوِين على أَنه خبر
مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هَذَا بَاب، وَيجوز بِالْإِضَافَة
إِلَى الْجُمْلَة الَّتِي بعده، لِأَن قَوْله: حب
الرَّسُول، كَلَام إضافي مُبْتَدأ، أَو قَوْله: من
الْإِيمَان خَبره، وَيجوز فِيهِ الْوَقْف. لِأَن
الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بالتركيب. وَجه الْمُنَاسبَة
بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ اشْتِمَال كل مِنْهُمَا على
وجوب محبَّة كائنة من الْإِيمَان، وَاللَّام فِي:
الرَّسُول، للْعهد، وَالْمرَاد بِهِ: سيدنَا مُحَمَّد صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لَا جنس الرَّسُول وَلَا
الِاسْتِغْرَاق بِقَرِينَة. قَوْله: (حَتَّى أكون أحب)
وَإِن كَانَت محبَّة الْكل وَاجِبَة.
14 - حدّثنا أبُو اليَمانِ قالَ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قالَ
حَدثنَا أبُو الزِّنادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ أنَّ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قالَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ
يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتَّى أكُونَ أحَبَّ إليهِ مِنْ
والِدِهِ وَوَلَدِهِ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
(بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول: أَبُو الْيَمَان
الحكم بن نَافِع وَقد ذكر. الثَّانِي: شُعَيْب ابْن أبي
حَمْزَة الْحِمصِي، وَقد مر ذكره. الثَّالِث: أَبُو
الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وبالنون، وَهُوَ عبد الله بن
ذكْوَان الْمدنِي الْقرشِي، وَكَانَ يغْضب من هَذِه الكنية
لَكِن اشْتهر بهَا، ويكنى أَيْضا، بِأبي عبد الرَّحْمَن،
وَقد اتّفق على إِمَامَته وجلالته، وَكَانَ الثَّوْريّ
يُسَمِّيه: أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث. وَقَالَ
أَبُو حَاتِم: هُوَ ثِقَة صَاحب سنة وَهُوَ مِمَّن تقوم
بِهِ الْحجَّة إِذْ روى عَنهُ الثِّقَات، وَشهد مَعَ عبد
الله بن جَعْفَر جَنَازَة
(1/142)
فَهُوَ إِذن تَابِعِيّ صَغِير، وروى عَنهُ
جماعات من التَّابِعين وَهَذَا من فضائله، لِأَنَّهُ لم
يسمع من الصَّحَابَة، وروى عَنهُ التابعون، وولاه عمر بن
عبد الْعَزِيز خراج الْعرَاق، وَقَالَ اللَّيْث بن سعد:
رَأَيْت أَبَا الزِّنَاد وَخَلفه ثَلَاثمِائَة تَابع من
طَالب علم وَفقه وَشعر وصنوف، ثمَّ لم يلبث أَن بَقِي
وَحده، وَأَقْبلُوا على ربيعَة، وَكَانَ ربيعَة يَقُول:
شبر من خطْوَة خير من ذِرَاع من علم، وَقَالَ أَحْمد:
أَبُو الزِّنَاد افقه من ربيعَة. قَالَ الْوَاقِدِيّ:
مَاتَ أَبُو الزِّنَاد فَجْأَة فِي مغتسله سنة ثَلَاثِينَ
وَمِائَة وَهُوَ ابْن سِتّ وَسِتِّينَ سنة. وَقَالَ
البُخَارِيّ: أصح أَسَانِيد أبي هُرَيْرَة: أَبُو
الزِّنَاد، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة. روى لَهُ
الْجَمَاعَة. الرَّابِع: الْأَعْرَج وَهُوَ أَبُو دَاوُد
عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، تَابِعِيّ مدنِي قرشي، مولى
ربيعَة بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب، روى عَن أبي سَلمَة
وَعبد الرَّحْمَن بن الْقَارِي، روى عَنهُ: الزُّهْرِيّ
وَيحيى الْأنْصَارِيّ وَيحيى بن أبي كثير وَآخَرُونَ
وَاتَّفَقُوا على توثيقه، مَاتَ بالإسكندرية سنة سبع عشرَة
وَمِائَة على الصَّحِيح، روى لَهُ الْجَمَاعَة. وَاعْلَم
أَن مَالِكًا لم يرو عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز هَذَا
إلاَّ بِوَاسِطَة، وَأما عبد الله بن يزِيد بن هُرْمُز فقد
روى عَنهُ مَالك، وَأخذ عَنهُ الْفِقْه وَهُوَ عَالم من
عُلَمَاء الْمَدِينَة قَلِيل الرِّوَايَة جدا، توفّي سنة
ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة، فَحَيْثُ يذكر مَالك بن
هُرْمُز ويحكى عَنهُ فَإِنَّمَا يُرِيد: عبد الله بن يزِيد
هَذَا الْفَقِيه، لِأَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، صَاحب
أبي الزِّنَاد الْمُحدث، هَذَا، إِنَّمَا يحدث عَنهُ
بِوَاسِطَة ذَلِك، ووفاته سنة: سبع عشرَة وَمِائَة على مَا
ذكرنَا، وَهَذَا وَفَاته سنة: ثَمَان وَأَرْبَعين
وَمِائَة، وَهَذَا مَوضِع التباس على كثير من النَّاس
ذكرته للْفرق بَينهمَا، فَافْهَم. الْخَامِس: أَبُو
هُرَيْرَة وَقد مضى ذكره.
(بَيَان لطائف إِسْنَاده) : مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
والعنعنة، وَفِي بعض النّسخ: أخبرنَا شُعَيْب، فعلى هَذَا
يكون فِيهِ: الْإِخْبَار أَيْضا، والتفريق بَين حَدثنَا
وَأخْبرنَا لَا يَقُول بِهِ البُخَارِيّ كَمَا سَيَجِيءُ
فِي الْعلم. وَمِنْهَا: أَن إِسْنَاده مُشْتَمل على حمصيين
ومدنيين. وَمِنْهَا: أَنه قد وَقع فِي (غرائب مَالك)
للدارقطني إِدْخَال رجل، وَهُوَ أَبُو سَلمَة بن عبد
الرَّحْمَن، بَين الْأَعْرَج وَأبي هُرَيْرَة فِي هَذَا
الحَدِيث، وَهِي زِيَادَة شَاذَّة، فقد رَوَاهُ
الْإِسْمَاعِيلِيّ بِدُونِهَا من حَدِيث مَالك وَمن حَدِيث
إِبْرَاهِيم بن طهْمَان، وروى ابْن مَنْدَه من طَرِيق أبي
حَاتِم الرَّازِيّ عَن أبي الْيَمَان شيخ البُخَارِيّ
هَذَا الحَدِيث مُصَرحًا فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ فِي جَمِيع
الاسناد، وَكَذَا للنسائي من طَرِيق عَليّ بن عَيَّاش، عَن
شُعَيْب.
(بَيَان من أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن أبي
هُرَيْرَة وَأنس رَضِي الله عَنْهُمَا، وَأخرجه
النَّسَائِيّ أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة، وَأخرجه مُسلم فِي
الْإِيمَان عَن ابْن الْمثنى، وَابْن بشار عَن غنْدر عَن
شُعْبَة، وَرَوَاهُ عَن زُهَيْر عَن ابْن علية، وَعَن
شَيبَان بن فروخ عَن عبد الْوَارِث، كِلَاهُمَا عَن عبد
الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس، وَأخرجه النَّسَائِيّ،
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى للنسائي: (حَتَّى أكون أحب
إِلَيْهِ من مَاله وَأَهله وَالنَّاس أَجْمَعِينَ) .
(بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله: (وَالَّذِي) الْوَاو: فِيهِ
للقسم، وَالَّذِي، صفة موصوفه مَحْذُوف تَقْدِيره: وَالله
الَّذِي. قَوْله: (نَفسِي) مُبْتَدأ و (بِيَدِهِ) خَبره،
وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الأول أَعنِي: الَّذِي.
قَوْله: (لَا يُؤمن) نفي وَهُوَ جَوَاب الْقسم. قَوْله:
(حَتَّى) للغاية هُنَا (وأكون) مَنْصُوب بِتَقْدِير:
حَتَّى أَن أكون، وَقد علم أَن الْفِعْل بعد حَتَّى لَا
ينْتَصب إلاَّ إِذا كَانَ مُسْتَقْبلا، ثمَّ إِن كَانَ
استقباله بِالنّظرِ إِلَى زمن الْمُتَكَلّم فالنصب وَاجِب
نَحْو: {لن نَبْرَح عَلَيْهِ عاكفين حَتَّى يرجع إِلَيْنَا
مُوسَى} (طه: 91) وَإِن كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا
قبلهَا خَاصَّة فالوجهان نَحْو: {وزلزلوا حَتَّى يَقُول
الرَّسُول} (الْبَقَرَة: 214) الْآيَة، فَإِن قَوْلهم:
إِنَّمَا هُوَ مُسْتَقْبل بِالنّظرِ إِلَى الزلزال لَا
بِالنّظرِ إِلَى زمن قصّ ذَلِك علينا. قَوْله: (أحب) نصب
لِأَنَّهُ خبر أكون، وَلَفظه: أحب، أفعل التَّفْضِيل
بِمَعْنى الْمَفْعُول، وَهُوَ على خلاف الْقيَاس، وَإِن
كَانَ كثيرا إِذْ الْقيَاس أَن يكون بِمَعْنى الْفَاعِل،
وَقَالَ ابْن مَالك: إِنَّمَا يشذ بِنَاؤُه للْمَفْعُول
إِذا خيف اللّبْس بالفاعل، فَإِن أَمن بِأَن لم يسْتَعْمل
الْفِعْل للْفَاعِل، أَو قرن بِهِ مَا يشْعر بِأَنَّهُ
للْمَفْعُول لَا يشذ كَقَوْلِهِم: هُوَ أشغل من ذَات
النحيين وَهُوَ أكسر من البصل. وَعبد الله بن أبي ألعن من
لعن على لِسَان دَاوُد وَعِيسَى، وَلَا أحرم مِمَّن عدم
الْإِنْصَاف، وَلَا أظلم من قَتِيل كربلا، وَهُوَ أزهى من
الديك، وأرجى، وأخوف، وأهيب وَلَا يقْتَصر على السماع
لِكَثْرَة مَجِيئه. فَإِن قلت: لَا يجوز الْفَصْل بَين
الْفِعْل ومعموله لِأَنَّهُ كالمضاف والمضاف إِلَيْهِ،
فَكيف وَقع لَفْظَة: إِلَيْهِ، هَهُنَا فصلا بَينهمَا؟
قلت: الْفَصْل بالأجنبي مَمْنُوع لَا مُطلقًا والظرف فِيهِ
توسع فَلَا يمْنَع.
(بَيَان الْمعَانِي) فَائِدَة القَسَم، تَأْكِيد الْكَلَام
بِهِ، وَيُسْتَفَاد مِنْهُ جَوَاز الْقسم على الْأَمر
الْمُبْهم توكيداً، وَإِن لم يكن هُنَاكَ من
(1/143)
يَسْتَدْعِي الْحلف، وَلَفظ الْيَد من
المتشابهات، فَفِي مثل هَذَا افترق الْعلمَاء على
فرْقَتَيْن: إِحْدَاهمَا: مَا تسمى مفوضة: وهم الَّذين
يفوضون الْأَمر فِيهَا إِلَى الله تَعَالَى قائلين: {وَمَا
يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله} (آل عمرَان: 7) وَالْأُخْرَى:
تسمى مؤولة، وهم الَّذين يؤولون مثل هَذَا، كَمَا يُقَال:
المُرَاد من الْيَد الْقُدْرَة، عاطفين {والراسخون فِي
الْعلم} (آل عمرَان: 7) على: الله وَالْأول أسلم،
وَالثَّانِي أحكم. قلت: ذكر أَبُو حنيفَة أَن تَأْوِيل
الْيَد بِالْقُدْرَةِ، وَنَحْو ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى
التعطيل، فَإِن الله تَعَالَى أثبت لنَفسِهِ يدا، فَإِذا
أولت بِالْقُدْرَةِ يصير عين التعطيل، وَإِنَّمَا الَّذِي
يَنْبَغِي فِي مثل هَذَا أَن نؤمن بِمَا ذكره الله من
ذَلِك على مَا أَرَادَهُ، وَلَا نشتغل بتأويله، فَنَقُول:
لَهُ يَد على مَا أَرَادَهُ لَا كيد المخلوقين، وَكَذَلِكَ
فِي نَظَائِر ذَلِك. قَوْله: (لَا يُؤمن) أَي: إِيمَانًا
كَامِلا، وَيُقَال المُرَاد من الحَدِيث: بذل النَّفس دونه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: فِي قَوْله تَعَالَى:
{يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله وَمن اتبعك من
الْمُؤمنِينَ} (الْأَنْفَال: 64) أَي: وحسبك من اتبعك من
الْمُؤمنِينَ، ببذل أنفسهم دُونك. وَقَالَ ابْن بطال:
قَالَ أَبُو الزِّنَاد: هَذَا من جَوَامِع الْكَلم الَّذِي
أوتيه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِذْ أَقسَام
الْمحبَّة ثَلَاثَة: محبَّة إجلال وإعظام كمحبة الْوَالِد،
ومحبة رَحْمَة وإشفاق كمحبة الْوَلَد، ومحبة مشاكلة
واستحسان كمحبة النَّاس بَعضهم بَعْضًا، فَجمع عَلَيْهِ
السَّلَام، ذَلِك كُله. قَالَ القَاضِي: وَمن محبته:
نصْرَة سنته، والذب عَن شَرِيعَته، وتمني حُضُور حَيَاته،
فيبذل نَفسه وَمَاله دونه، وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن
حَقِيقَة الْإِيمَان لَا تتمّ إلاَّ بِهِ، وَلَا يَصح
الْإِيمَان إلاَّ بتحقيق إنافة قدر النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ومنزلته على كل وَالِد وَولد ومحسن ومتفضل،
وَمن لم يعْتَقد ذَلِك واعتقد سواهُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِن،
وَاعْتَرضهُ الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد
الْقُرْطُبِيّ الْمَالِكِي، صَاحب (الْمُفْهم) فَقَالَ:
ظَاهر كَلَام القَاضِي عِيَاض صرف الْمحبَّة إِلَى
اعْتِقَاد تَعْظِيمه وإجلاله، وَلَا شكّ فِي كفر من لَا
يعْتَقد ذَلِك، غير أَنه لَيْسَ المُرَاد بِهَذَا الحَدِيث
اعْتِقَاد الأعظمية إِذْ اعْتِقَاد الأعظمية لَيْسَ بمحبة
وَلَا مستلزماً لَهَا، إِذْ قد يحمد الْإِنْسَان إعظام
شَيْء مَعَ خلوه عَن محبته، قَالَ: فعلى هَذَا من لم يجد
من نَفسه ذَلِك لم يكمل إيمَانه على أَن كل من آمن
إِيمَانًا صَحِيحا لَا يَخْلُو من تِلْكَ الْمحبَّة، وَقد
قَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ، رَضِي الله عَنهُ، وَمَا كَانَ
أحد أحب إِلَيّ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَلَا أجل فِي عَيْني مِنْهُ، وَمَا كنت أُطِيق أَن أملأ
عَيْني مِنْهُ إجلالاً لَهُ، وَأَن عمر رَضِي الله عَنهُ،
لما سمع هَذَا الحَدِيث، قَالَ: يَا رَسُول الله أَنْت أحب
إِلَيّ من كل شَيْء إلاَّ من نَفسِي، فَقَالَ: وَمن نَفسك
يَا عمر، فَقَالَ: وَمن نَفسِي. فَقَالَ: الْآن يَا عمر.
وَهَذِه الْمحبَّة لَيست باعتقاد تَعْظِيم بل ميل قلب،
وَلَكِن النَّاس يتفاوتون فِي ذَلِك، قَالَ الله تَعَالَى:
{فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}
(الْمَائِدَة: 54) وَلَا شكّ أَن حَظّ الصَّحَابَة رَضِي
الله عَنْهُم، من هَذَا الْمَعْنى أتم، لِأَن الْمحبَّة
ثَمَرَة الْمعرفَة، وهم بِقَدرِهِ ومنزلته أعلم، وَالله
أعلم. وَيُقَال: الْمحبَّة إِمَّا اعْتِقَاد النَّفْع، أَو
ميل يتبع ذَلِك، أَو صفة مخصصة لأحد الطَّرفَيْنِ بالوقوع،
ثمَّ الْميل قد يكون بِمَا يستلذه بحواسه كحسن الصُّورَة،
وَلما يستلذه بعقله كمحبة الْفضل وَالْجمال، وَقد يكون
لإحسانه إِلَيْهِ وَدفع المضار عَنهُ، وَلَا يخفى أَن
الْمعَانِي الثَّلَاثَة كلهَا مَوْجُودَة فِي رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما جمع من جمال الظَّاهِر
وَالْبَاطِن، وَكَمَال أَنْوَاع الْفَضَائِل، وإحسانه
إِلَى جَمِيع الْمُسلمين بهدايتهم إِلَى الصِّرَاط
الْمُسْتَقيم ودوام النعم، وَلَا شكّ أَن الثَّلَاثَة
فِيهِ أكمل مِمَّا فِي الْوَالِدين لَو كَانَت فيهمَا،
فَيجب كَونه أحب مِنْهُمَا، لِأَن الْمحبَّة ثَابِتَة
لذَلِك، حَاصِلَة بحسبها، كَامِلَة بكمالها. وَأعلم أَن
محبَّة الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام، إِرَادَة فعل
طَاعَته وَترك مُخَالفَته، وَهِي من وَاجِبَات الْإِسْلَام
قَالَ الله تَعَالَى: {قل إِن كَانَ آباؤكم وأبناؤكم}
إِلَى قَوْله: {حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره} (التَّوْبَة:
24) وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ تلميح إِلَى قَضِيَّة
النَّفس الأمَّارة بالسوء والمطمئنة، فَإِن من رجح جَانب
المطمئنة كَانَ حب النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، راجحاً،
وَمن رجح جَانب الْإِمَارَة، كَانَ حكمه بِالْعَكْسِ.
(بَيَان الأسئلة والأجوبة) . مِنْهَا: مَا قيل: لِمَ مَا
ذكر نفس الرجل أَيْضا وَإِنَّمَا يجب أَن يكون الرَّسُول
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحب إِلَيْهِ من نَفسه قَالَ
تَعَالَى: {النَّبِي أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم}
(الْأَحْزَاب: 33) وَأجِيب: بِأَنَّهُ إِنَّمَا خصص
الْوَالِد وَالْولد بِالذكر لِكَوْنِهِمَا أعز خلق الله
تَعَالَى على الرجل غَالِبا، وَرُبمَا يكونَانِ أعز من نفس
الرجل على الرجل، فذكرهما إِنَّمَا هُوَ على سَبِيل
التَّمْثِيل، فَكَأَنَّهُ قَالَ: حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ
من أعزته، وَيعلم مِنْهُ حكم غير الأعزة، لِأَنَّهُ يلْزم
فِي غَيرهم بِالطَّرِيقِ الأولى، أَو اكْتفى بِمَا ذكر فِي
سَائِر النُّصُوص الدَّالَّة على وجوب كَونه أحب من نَفسه
أَيْضا، كالرواية الَّتِي بعده. وَمِنْهَا مَا قيل: هَل
يتَنَاوَل لفظ الْوَالِد الْأُم كَمَا أَن لفظ الْوَلَد
يتَنَاوَل الذّكر وَالْأُنْثَى؟ وَأجِيب: بِأَن الْوَالِد
إِمَّا أَن يُرَاد بِهِ ذَات لَهُ ولد، وَإِمَّا أَن يكون
بِمَعْنى ذُو ولد نَحْو لِابْنِ وتامر، فيتناولهما،
وَإِمَّا أَن يكْتَفى بِأَحَدِهِمَا عَن الآخر كَمَا
يكْتَفى بِأحد الضدين عَن الآخر. قَالَ تَعَالَى: {سرابيل
تقيكم الْحر} (النَّحْل: 81) وَإِمَّا
(1/144)
أَن يكون حكمه حكم النَّفس فِي كَونه
مَعْلُوما من النُّصُوص الْأُخَر. وَمِنْهَا مَا قيل:
الْمحبَّة أَمر طبيعي غريزي لَا يدْخل تَحت الِاخْتِيَار،
فَكيف يكون مُكَلّفا بِمَا لَا يُطَاق عَادَة؟ وَأجِيب:
بِأَنَّهُ لم يرد بِهِ حب الطَّبْع بل حب الِاخْتِيَار
الْمُسْتَند إِلَى الْإِيمَان؟ فَمَعْنَاه: لَا يُؤمن
حَتَّى يُؤثر رضاي على هوى الْوَالِدين، وَإِن كَانَ فِيهِ
هلاكهما. وَمِنْهَا مَا قيل: مَا وَجه تَقْدِيم الْوَالِد
على الْوَلَد؟ وَأجِيب: بِأَن ذَلِك للأكثرية، لِأَن كل
أحد لَهُ وَالِد من غير عكس. قلت: الأولى أَن يُقَال:
إِنَّمَا قدم هَهُنَا الْوَالِد نظرا إِلَى جَانب
التَّعْظِيم، وَقدم الْوَلَد على الْوَالِد فِي حَدِيث أنس
فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ نظرا إِلَى جَانب الشَّفَقَة
والترحم.
15 - حدّثنا يعَقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حَدثنَا
ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ
أنَسٍ عَن النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ح وَحدثنَا
آدَمُ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أنِسٍ
قالَ قالَ النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يُؤْمِنُ
أحَدُكُمْ حَتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ
وَوَلَدِهِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ.
هَذَانِ الإسنادان عطف أَحدهمَا على الآخر قبل أَن يَسُوق
الْمَتْن فِي الأول، وَذَلِكَ يُوهم استواءهما وَلَيْسَ
كَذَلِك، فَإِن لفظ قَتَادَة مثل لفظ حَدِيث أبي
هُرَيْرَة، غير أَن فِيهِ زِيَادَة وَهِي قَوْله:
(وَالنَّاس أَجْمَعِينَ) ، وَلَفظ عبد الْعَزِيز بن
صُهَيْب مثله إلاَّ أَنه قَالَ: كَمَا رَوَاهُ ابْن
خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم شيخ
البُخَارِيّ بِهَذَا الْإِسْنَاد: (من أَهله وَمَاله) ،
بدل: (من وَالِده وَولده) وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم من
طَرِيق ابْن علية، وَكَذَا الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق
عبد الْوَارِث بن سعيد عَن عبد الْعَزِيز، وَلَفظه: (لَا
يُؤمن الرجل) ، وَهُوَ اشمل من جِهَة، وَلَفظ: (أحدكُم)
أشمل من جِهَة، وأشمل مِنْهُمَا رِوَايَة الْأصيلِيّ: (لَا
يُؤمن أحد) ، فَإِن النكرَة فِي سِيَاق النَّفْي نعم.
فَإِن قلت: إِذا كَانَ لفظ عبد الْعَزِيز مغايراً للفظ
قَتَادَة، فلِمَ سَاق البُخَارِيّ كَلَامه بِمَا يُوهم
اتحادهما فِي الْمَعْنى؟ قلت: البُخَارِيّ كثيرا مَا يصنع
ذَلِك نظرا إِلَى أصل الحَدِيث لَا إِلَى خُصُوص
أَلْفَاظه، فَإِن قلت: لم اقْتصر على لفظ قَتَادَة، وَمَا
الْمُرَجح فِي ذَلِك؟ قلت: لِأَن لفظ قَتَادَة مُوَافق
للفظ أبي هُرَيْرَة فِي الحَدِيث السَّابِق. فَإِن قلت:
قَتَادَة مُدَلّس وَلم يُصَرح بِالسَّمَاعِ؟ قلت: رِوَايَة
شُعْبَة عَنهُ دَلِيل على السماع لِأَنَّهُ لم يكن يسمع
مِنْهُ إلاَّ مَا سَمعه، على أَنه قد وَقع التَّصْرِيح
بِهِ فِي هَذَا الحَدِيث فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ.
(بَيَان رجالهما) وهم سَبْعَة: الأول: أَبُو يُوسُف
يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن كثير بن زيد بن أَفْلح
الدَّوْرَقِي الْعَبْدي، أَخُو أَحْمد بن إِبْرَاهِيم،
وَكَانَ الْأَكْبَر صنف الْمسند، وَكَانَ ثِقَة حَافِظًا
متقناً، رأى اللَّيْث، وَسمع: ابْن عُيَيْنَة وَالْقطَّان
وَيحيى بن أبي كثير وخلقاً. روى عَنهُ: أَخُوهُ وَأَبُو
زرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَالْجَمَاعَة. مَاتَ سنة
اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: ابْن علية،
بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء
آخر الْحُرُوف، وَهُوَ إِسْمَاعِيل، وَعليَّة أمه،
وَأَبوهُ إِبْرَاهِيم بن سهل بن مقسم الْبَصْرِيّ
الْأَسدي، أَسد خُزَاعَة، مَوْلَاهُم، أَصله من الْكُوفَة،
قَالَ شُعْبَة فِيهِ سيد الْمُحدثين، سمع عبد الْعَزِيز بن
صُهَيْب، وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ، وَسمع من مُحَمَّد بن
الْمُنْكَدر أَرْبَعَة أَحَادِيث، وَسمع خلقا غَيرهم.
وَقَالَ أَحْمد: إِلَيْهِ الْمُنْتَهى فِي التثبت
بِالْبَصْرَةِ، اتّفق على جلالته وتوثيقه، ولي صدقَات
الْبَصْرَة والمظالم بِبَغْدَاد فِي آخر خلَافَة هَارُون،
توفّي بِبَغْدَاد، وَدفن فِي مَقَابِر عبد الله بن مَالك،
وَصلى عَلَيْهِ ابْنه إِبْرَاهِيم فِي سنة أَربع وَتِسْعين
وَمِائَة، وَكَانَت أمه علية نبيلة عَاقِلَة، وَكَانَ
صَالح الْمزي وَغَيره من وُجُوه أهل الْبَصْرَة وفقهائها
يدْخلُونَ فَتبرز لَهُم وتحادثهم وتسائلهم، روى لَهُ
الْجَمَاعَة. الثَّالِث: عبد الْعَزِيز الْبنانِيّ،
مَوْلَاهُم، تَابِعِيّ، سمع أنسا، روى عَنهُ شُعْبَة،
وَقَالَ: هُوَ عِنْدِي فِي أنس أحب إِلَيّ من قَتَادَة،
اتّفق على توثيقه، روى لَهُ الْجَمَاعَة، قَالَ ابْن
قُتَيْبَة: هُوَ وَأَبوهُ كَانَا مملوكين، وَأَجَازَ
إِيَاس بن مُعَاوِيَة شَهَادَة عبد الْعَزِيز وَحده.
الرَّابِع: آدم بن أبي إِيَاس، وَقد مر ذكره. الْخَامِس:
شُعْبَة بن الْحجَّاج. السَّادِس: قَتَادَة بن دعامة.
السَّابِع: أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ، وَقد ذكرُوا
فِيمَا مضى.
(بَيَان الْأَنْسَاب) الدَّوْرَقِي: نِسْبَة إِلَى دورق،
بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح
الرَّاء وَفِي آخِره قَاف، وَهِي قلانس كَانُوا يلبسونها
فنسبوا إِلَيْهَا، وَفِي (الْمطَالع) : دورق أرَاهُ فِي
بِلَاد فَارس، وَقيل: بل لصنعة قلانس تعرف بالدورقة نسبت
إِلَى ذَلِك الْموضع، وَقَالَ الرشاطي: دورق من كور
الأهواز. وَقَالَ ابْن خرداذبه: كور الأهواز رام هُرْمُز،
وَمِنْهَا: ايزح
(1/145)
وعسكر مكرم وتستر وسوس وسرق، وَهِي دورق،
وَذكر غير ذَلِك. قَالَ: وَمن سرق الأهواز إِلَى دورق فِي
المَاء ثَمَانِيَة عشر فرسخاً، وعَلى الظَّاهِر أَرْبَعَة
وَعِشْرُونَ. والعبدي: فِي قبائل، فَفِي قُرَيْش: عبد بن
قصي بن كلاب بن مرّة، وَفِي ربيعَة ابْن نزار: عبد
الْقَيْس بن قصي بن دعمي، ينْسب إِلَيْهِ، عَبدِي، على
الْقيَاس، وعبقسي، على غير الْقيَاس؛ وَفِي تَمِيم ينْسب
إِلَى عبد الله بن دارم، وَقد يُقَال: عبدلي، على غير
قِيَاس؛ وَفِي خولان ينْسب إِلَى عبد الله بن الْخِيَار،
وَفِي هَمدَان ينْسب إِلَى عبد بن عليان بن أرحب.
والبناني: بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وبالنونين، نِسْبَة
إِلَى: بنانة، بطن من قُرَيْش، وبنانة كَانَت زَوْجَة سعد
بن لؤَي بن غَالب، نسب إِلَيْهَا بنوها، وَقيل: كَانَت أمة
لَهُ حضنت بنيه، وَقيل: كَانَت حاضنة لِبَنِيهِ فَقَط،
وَيُقَال: نِسْبَة إِلَى سكَّة بنانة بِالْبَصْرَةِ،
فَافْهَم.
(بَيَان الْمعَانِي) . قَوْله: (وَالنَّاس أَجْمَعِينَ) من
بَاب عطف الْعَام على الْخَاص، كَقَوْلِه تَعَالَى:
{وَلَقَد آتيناك سبعا من المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم}
(الْحجر: 87) وَهُوَ عكس قَوْله تَعَالَى: {وَمَلَائِكَته
وَرُسُله وَجِبْرِيل وميكال} (الْبَقَرَة: 98) فَإِنَّهُ
تَخْصِيص بعد تَعْمِيم، فَإِن قيل: هَل يدْخل فِي لفظ
النَّاس نفس الرجل أَو يكون إِضَافَة الْمحبَّة إِلَيْهِ
تَقْتَضِي خُرُوجه مِنْهُم، فَإنَّك إِذا قلت: جَمِيع
النَّاس أحب إِلَى زيد من غُلَامه، يفهم مِنْهُ خُرُوج زيد
مِنْهُم؟ قلت: لَا يخرج لِأَن اللَّفْظ عَام، وَمَا ذكر
ثمَّ لَيْسَ من المخصصات. وَاعْلَم أَنه قد يُوجد فِي بعض
النّسخ قبل حَدثنَا آدم لَفْظَة: (ح) إِشَارَة إِلَى
الْحول من الْإِسْنَاد الأول إِلَى إِسْنَاد آخر، وَفِي
بَعْضهَا لَا يُوجد، وعَلى النسختين فَفِيهِ تحول من
إِسْنَاد إِلَى آخر قبل ذكر الحَدِيث، وَقَوله: أخبرنَا
يَعْقُوب، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: حَدثنَا.
9 - (بَاب حَلاَوَةِ الإِيمَانِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حلاوة الْإِيمَان، وارتفاعه
على الخبرية للمبتدأ الْمَحْذُوف، وَجه الْمُنَاسبَة بَين
الْبَابَيْنِ من حَيْثُ أَن الْبَاب الأول مُشْتَمل على
أَن كَمَال الْإِيمَان لَا يكون إلاَّ إِذا كَانَ
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أحب إِلَيْهِ من
سَائِر الْخلق، وَهَذَا الْبَاب يبين أَن ذَلِك من جملَة
حلاوة الْإِيمَان، وَلِأَن هَذَا الْبَاب مُشْتَمل على
ثَلَاثَة أَشْيَاء، وَالْبَاب الَّذِي قبله جُزْء من هَذِه
الثَّلَاثَة، وَهَذَا أقوى وُجُوه الْمُنَاسبَة.
16 - حدّثنا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى قالَ حَدثنَا
عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقفِيُّ قَالَ حَدثنَا أيُّوبُ
عَنْ أبِي قِلاَبَةَ عَنْ أنَسٍ عَنِ النَّبي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قالَ ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ
حَلاَوَةَ الإِيمَانِ أنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ
الْمَرَءَ لاَ يُحِبُّهُ إلاَّ لِلَّهِ وَأنْ يَكَرَهُ أنْ
يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكَرَهَ أنْ يُقْذَفَ فِي
النَّارِ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
(بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول: مُحَمَّد بن
الْمثنى، بِلَفْظ الْمَفْعُول من التَّثْنِيَة
بِالْمُثَلثَةِ، ابْن عبيد بن قيس بن دِينَار، أَبُو
مُوسَى الْعَنزي الْبَصْرِيّ الْمَعْرُوف بالزمن، سمع:
ابْن عُيَيْنَة ووكيع بن الْجراح وَإِسْمَاعِيل بن علية
وَالْقطَّان وَغَيرهم، روى عَنهُ: أَبُو زرْعَة وَأَبُو
حَاتِم وَمُحَمّد بن يحيى الذهلي والمحاملي. قَالَ
الْخَطِيب: كَانَ ثِقَة ثبتاً يحْتَج سَائِر الْأَئِمَّة
بحَديثه، وَقدم بَغْدَاد وَحدث بهَا، ثمَّ رَجَعَ إِلَى
الْبَصْرَة فَمَاتَ بهَا، قَالَ غَيره: سنة اثْنَتَيْنِ
وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وَولد هُوَ وَبُنْدَار بِالسنةِ
الَّتِي مَاتَ فِيهَا حَمَّاد بن سَلمَة، سنة سبع
وَسِتِّينَ وَمِائَة، روى عَنهُ الْجَمَاعَة، وروى
التِّرْمِذِيّ أَيْضا عَن رجل عَنهُ، وَقَالَ: لَا بَأْس
بِهِ. الثَّانِي: عبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد بن
الصَّلْت بن أبي عبيد بن الحكم بن أبي الْعَاصِ بن بشر بن
عبد الله بن دهمان بن عبد همام بن أبان بن يسَار مَالك بن
خطيط بن جشم بن قسي، وَهُوَ ثَقِيف بن مُنَبّه بن بكر بن
هوَازن بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن حَفْصَة بن قيس غيلَان
الثَّقَفِيّ الْبَصْرِيّ، سمع: يحيى الْأنْصَارِيّ وَأَيوب
السّخْتِيَانِيّ وخلقاً. روى عَنهُ: مُحَمَّد بن إِدْرِيس
الشَّافِعِي وَالْإِمَام أَحْمد وَابْن معِين وَابْن
الْمَدِينِيّ، وَثَّقَهُ يحيى وَالْعجلِي، وَقَالَ ابْن
سعد: كَانَ ثِقَة وَفِيه ضعف، ولد سنة ثَمَان وَمِائَة
وَتُوفِّي سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة، وَقَالَ خَليفَة
بن خياط: اخْتَلَط قبل مَوته بِثَلَاث سِنِين، أَو أَربع
سِنِين، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: أَيُّوب بن أبي
تَمِيمَة، واسْمه كيسَان السّخْتِيَانِيّ الْبَصْرِيّ،
مولى عزة، وَيُقَال جُهَيْنَة، ومواليه حلفاء بني جريش،
رأى أنس بن مَالك، وَسمع: عمر بن سَلمَة الْجرْمِي وَأَبا
عُثْمَان
(1/146)
النَّهْدِيّ وَالْحسن وَمُحَمّد بن سِيرِين
وَأَبا قلَابَة عبد الله بن زيد الْجرْمِي ومجاهداً وخلقاً
كثيرا. روى عَنهُ: مُحَمَّد بن سِيرِين وَعَمْرو بن
دِينَار وَقَتَادَة وَالْأَعْمَش وَمَالك والسفيانان
والحمادان، وروى عَنهُ الإِمَام أَبُو حنيفَة رَضِي الله
عَنهُ، أَيْضا، وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: لَهُ نَحْو
ثَمَان مائَة حَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: ثِقَة ثَبت.
وَقَالَ إِسْمَاعِيل بن علية: ولد سنة سِتّ وَسِتِّينَ،
وَقَالَ البُخَارِيّ عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ: مَاتَ
بِالْبَصْرَةِ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، زَاد
غَيره: وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ، روى لَهُ
الْجَمَاعَة. الرَّابِع: أَبُو قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف
وبالباء الْمُوَحدَة، واسْمه عبد الله بن زيد بن عَمْرو،
وَقيل: عَامر بن نائل بن مَالك الْجرْمِي الْبَصْرِيّ،
سمع: ثَابت بن قيس بن الضَّحَّاك الْأنْصَارِيّ وَأنس بن
مَالك الْأنْصَارِيّ وَغَيرهم من الصَّحَابَة، روى: عَن
أَيُّوب وَقَتَادَة وَيحيى ابْن أبي كثير، اتّفق على
توثيقه، توفّي بِالشَّام سنة أَربع وَمِائَة، روى لَهُ
الْجَمَاعَة. الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَقد مر ذكره.
(بَيَان الْأَنْسَاب) الْعَنزي، بِفَتْح الْعين
الْمُهْملَة وَالنُّون وبالزاي، نِسْبَة إِلَى عنزة بن
أَسد بن ربيعَة بن نزار بن معد بن عدنان حَيّ من ربيعَة.
والثقفي: بالثاء الْمُثَلَّثَة وَالْقَاف بعْدهَا الْفَاء
نِسْبَة إِلَى ثَقِيف، وَهُوَ: قسي بن مُنَبّه، وَقد
ذَكرْنَاهُ الْآن. والسختياني: بِفَتْح السِّين
الْمُهْملَة نِسْبَة إِلَى بيع السختيان، وَهُوَ الْجلد؛
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: سمي بذلك لِأَنَّهُ كَانَ يَبِيع
الْجُلُود قَالَ صَاحب الْمطَالع: وَمِنْهُم من يضم
السِّين؛ وَقَالَ بَعضهم: حُكيَ بِضَم السِّين وَكسرهَا.
قلت: هَذَا اللَّفْظ أعجمي؟ وَلم يسمع مِنْهُم إلاَّ فتح
السِّين. والجرمي: بِفَتْح الْجِيم فِي قبائل، فَفِي قضاعة
جرم بن رَيَّان بن حلوان بن عمرَان بن الحاف بن قضاعة،
وَفِي بجيلة جرم بن عَلْقَمَة بن عبقر، وَفِي عاملة جرم بن
شعل بن مُعَاوِيَة، وَفِي طي جرم وَهُوَ ثَعْلَبَة بن
عَمْرو بن الْغَوْث بن طي.
(بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَمِنْهَا:
أَن كلهم أَئِمَّة أجلاء على مَا ذكرنَا.
(بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه
البُخَارِيّ هُنَا، وَمُسلم أَيْضا كِلَاهُمَا عَن
مُحَمَّد بن الْمثنى إِلَى آخِره بِهَذَا الْإِسْنَاد،
وَأخرجه فِي هَذَا الْبَاب أَيْضا بعد ثَلَاثَة أَبْوَاب،
من طَرِيق شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن أنس، وَاسْتدلَّ بِهِ
على فضل من أكره عى الْكفْر فَترك التقية إِلَى أَن قتل،
وَأخرجه من هَذَا الْوَجْه فِي الْأَدَب فِي فضل الْحبّ
فِي الله، وَلَفظ هَذِه الرِّوَايَة: (وَحَتَّى أَن يقذف
فِي النَّار أحب إِلَيْهِ أَن يرجع إِلَى الْكفْر بعد أَن
أنقذه الله مِنْهُ) . وَهِي أبلغ من لفظ حَدِيث الْبَاب،
لِأَنَّهُ سوى فِيهِ بَين الْأَمريْنِ، وَهنا جعل
الْوُقُوع فِي نَار الدُّنْيَا أولى من الْكفْر الَّذِي
أنقذه الله بِالْخرُوجِ مِنْهُ من نَار الْأُخْرَى،
وَكَذَا رَوَاهُ مُسلم من هَذَا الْوَجْه، وَفِي رِوَايَة
للْبُخَارِيّ وَمُسلم: (من كَانَ أَن يلقى فِي النَّار أحب
إِلَيْهِ من أَن يرجع يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا) .
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ أَيْضا فِي رِوَايَة
أُخْرَى: (ثَلَاث من كن فِيهِ وجد حلاوة الْإِيمَان وطعمه:
أَن يكون الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا،
وَأَن يحب فِي الله وَيبغض فِي الله، وَأَن يُوقد نَار
عَظِيمَة فَيَقَع فِيهَا أحب إِلَيْهِ من أَن يُشْرك
بِاللَّه شَيْئا) .
(بَيَان اللُّغَات) قَوْله: (حلاوة الْإِيمَان)
الْحَلَاوَة مصدر: حلا الشَّيْء يحلو، وَهُوَ نقيض المر،
واحلولى مثله، وأحليت الشَّيْء: جعلته حلواً، وأحليته
أَيْضا: وجدته حلواً وحاليته أَي: طايبته. والحلوى نقيض
المرى، يُقَال: خُذ الْحَلْوَى وأعطه المرى، وتحالت
الْمَرْأَة: إِذا أظهرت حلاوة وعجباً. وَأما حلوت فلَانا
على كَذَا مَالا، فَأَنا أحلوه حلواً وحلواناً،
فَمَعْنَاه: وهبت لَهُ شَيْئا على شَيْء يَفْعَله لَك غير
الْأُجْرَة، وَأما: حليت الْمَرْأَة أحليها حليا، وحلوتها
فمعناها: جلعت لَهَا حليًّا، وَيُقَال: حلي فلَان بعيني
بِالْكَسْرِ، وَفِي عَيْني، وبصدري أَو فِي صَدْرِي: يحلى
حلاوة إِذا أعْجبك، قَالَ الراجز:
(إِن سِرَاجًا لكريم مفخرة ... تحلى بِهِ الْعين إِذا مَا
تجهره)
وَهَذَا من المقلوب، وَالْمعْنَى: يحلى بِالْعينِ،
وَكَذَلِكَ حلا فلَان يَعْنِي وَفِي عَيْني: يحلو حلاوة.
وَقَالَ الْأَصْمَعِي: حلى فِي عَيْني بِالْكَسْرِ، وحلا
فِي فمي بِالْفَتْح، وحليت الرجل: وصفت حليته، وحليت
الشَّيْء فِي عين صَاحبه، وحليت الطَّعَام: جعلته حلواً،
والحلواء الَّتِي تُؤْكَل تمد وتقصر. وَأما معنى: الحلوة،
فِي الحَدِيث. فَقَالَ التَّيْمِيّ: حسنه، وَقَالَ
النَّوَوِيّ: معنى حلاوة الْإِيمَان استلذاذ
(1/147)
الطَّاعَات، وَتحمل المشاق فِي الدّين،
وإيثار ذَلِك على أَعْرَاض الدُّنْيَا ومحبة العَبْد الله
تَعَالَى بِفعل طَاعَته وَترك مُخَالفَته، وَكَذَلِكَ
محبَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت:
تَفْسِير التَّيْمِيّ: من الْحَلَاوَة الَّتِي بَابهَا من
حلى فلَان بعيني حلاوة، إِذا حسن، وَتَفْسِير النَّوَوِيّ:
من حلا الشَّيْء يحلو حلواً وحلاوة، وَهُوَ نقيض المر،
وَلكُل مِنْهُمَا وَجه وَالْأَظْهَر الثَّانِي على مَا لَا
يخفى. قَوْله: (يكره) من: كرهت الشَّيْء أكرهه كَرَاهَة
وكراهية، فَهُوَ شَيْء كريه ومكروه، وَمَعْنَاهُ: عدم
الرضى. قَوْله: (أَن يقذف) من الْقَذْف بِمَعْنى:
الرَّمْي، وَقَالَ الصغاني: التَّرْكِيب يدل على الرَّمْي
والطرح، وَالْقَذْف بِالْحِجَارَةِ: الرَّمْي بهَا، وَقذف
المحصنة قذفا أَي: رَمَاهَا. وَيُقَال: هم بَين خاذف
وقاذف، فالخاذف بالحصى والقاذف بِالْحِجَارَةِ.
(بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله: (ثَلَاث) مَرْفُوع على أَنه
مُبْتَدأ. فَإِن قلت: هُوَ نكرَة كَيفَ يَقع مُبْتَدأ؟
قلت: النكرَة تقع مُبتَدأَة بالمسوغ، وَهَهُنَا ثَلَاثَة
وُجُوه. الأول: أَن يكون التَّنْوِين فِي ثَلَاث عوضا عَن
الْمُضَاف إِلَيْهِ، تَقْدِيره: ثَلَاث خِصَال، فحينئذٍ
يقرب من الْمعرفَة. الثَّانِي: أَن يكون هَذَا صفة لموصوف
مَحْذُوف تَقْدِيره: خِصَال ثَلَاث، والموصوف هُوَ
الْمُبْتَدَأ فِي الْحَقِيقَة، فَلَمَّا حذف قَامَت الصّفة
مقَامه. الثَّالِث: يجوز أَن يكون ثَلَاث مَوْصُوفا
بِالْجُمْلَةِ الشّرطِيَّة الَّتِي بعده، وَالْخَبَر على
هَذَا الْوَجْه هُوَ قَوْله: (أَن يكون) ، وَأَن
مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: كَون الله وَرَسُوله أحب
إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا. وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ
الْأَوَّلين الْخَبَر هُوَ الْجُمْلَة الشّرطِيَّة، لِأَن
قَوْله: من مُبْتَدأ مَوْصُول يتَضَمَّن معنى الشَّرْط،
وَقَوله: كن فِيهِ، جملَة صلته. وَقَوله: وجد، خَبره.
وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الأول. فَإِن قلت:
الْجُمْلَة إِذا وَقعت خَبرا فَلَا بُد من ضمير فِيهَا
يعود إِلَى الْمُبْتَدَأ، لِأَن الْجُمْلَة مُسْتَقلَّة
بذاتها فَلَا يربطها بِمَا قبلهَا إلاَّ الضَّمِير،
وَلَيْسَ هَهُنَا ضمير يعود إِلَيْهِ، وَالضَّمِير فِي
فِيهِ يرجع إِلَى: من، لَا إِلَى ثَلَاث؟ قلت: الْعَائِد
هَهُنَا مَحْذُوف تَقْدِيره: ثَلَاث من كن فِيهِ مِنْهَا
وجد حلاوة الْإِيمَان، كَمَا فِي قَوْلك: الْبر الكربستين
أَي: مِنْهُ، وَقَالَ ابْن يعِيش فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَلمن صَبر وَغفر إِن ذَلِك لمن عزم الْأُمُور} (الشورى:
43) إِن من مُبْتَدأ، وصلته صَبر، وَخَبره: إِن
الْمَكْسُورَة مَعَ مَا بعْدهَا، والعائد مَحْذُوف
تَقْدِيره: إِن ذَلِك مِنْهُ. فَإِن قلت: إِذا جعلت
الْجُمْلَة خَبرا، فَمَا يكون إِعْرَاب قَوْله: (أَن يكون
الله) ؟ قلت: يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ: أَحدهمَا: أَن يكون
بَدَلا من ثَلَاث، وَالْآخر: أَن يكون خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف، أَي: أحد الَّذين فيهم الْخِصَال الثَّلَاث أَن
يكون الله ... الخ. قَوْله: (وجد) بِمَعْنى أصَاب،
فَلذَلِك اكْتفى بمفعول وَاحِد، وَهُوَ قَوْله: (حلاوة
الْإِيمَان) . قَوْله: (وَرَسُوله) : بِالرَّفْع عطف على
لَفْظَة: الله، الَّذِي هُوَ اسْم يكون، قَوْله: (أحب)
بِالنّصب لِأَنَّهُ خبر يكون. فَإِن قلت: كَانَ يَنْبَغِي
أَن يثني: أحب، حَتَّى يُطَابق اسْم كَانَ، وَهُوَ
اثْنَان. قلت: أفعل التَّفْضِيل إِذا اسْتعْمل: بِمن،
فَهُوَ مُفْرد مُذَكّر لَا غير فَلَا يحْتَاج إِلَى
الْمُطَابقَة. فَإِن قلت: أفعل التَّفْضِيل مَعَ: من،
كالمضاف والمضاف إِلَيْهِ، فَلَا يجوز الْفَصْل بَينهمَا.
قلت: أُجِيز ذَلِك بالظرف للاتساع. قَوْله: (وَأَن يحب
الْمَرْء) عطف على أَن يكون الله. قَوْله: (يحب) جملَة من
الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَهُوَ الضَّمِير فِيهِ الَّذِي
يرجع إِلَى: من وَقَوله: (الْمَرْء) بِالنّصب مَفْعُوله.
قَوْله: (لَا يُحِبهُ إلاَّ لله) جملَة وَقعت حَالا
بِدُونِ الْوَاو، وَقد علم أَن الْفِعْل الْمُضَارع إِذا
وَقع حَالا وَكَانَ منفياً يجوز فِيهِ الْوَاو وَتَركه،
نَحْو: جَاءَنِي زيد لَا يركب، أَو: وَلَا يركب. قَوْله:
(وَأَن يكره) عطف على: أَن يحب، قَوْله: (أَن يعود) جملَة
فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول لقَوْله: يكره، وَأَن
يكره: وَأَن مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: وَأَن يكره الْعود.
فَإِن قلت: الْمَشْهُور أَن يُقَال: عَاد إِلَيْهِ، معدى
بإلى لَا بفي. قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: قد ضمن فِيهِ معنى
الِاسْتِقْرَار، كَأَنَّهُ قَالَ: أَن يعود مُسْتَقرًّا
فِيهِ، وَهَذَا تعسف، وَإِنَّمَا: فِي هَذَا بِمَعْنى:
إِلَى، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أَو لتعودن فِي ملتنا}
(الْأَعْرَاف: 288) أَي: تصيرن إِلَى ملتنا. قَوْله:
(كَمَا يكره) : الْكَاف للتشبيه بِمَعْنى: مثل، و: مَا،
مَصْدَرِيَّة، أَي: مثل كرهه. قَوْله: (أَن يقذف) فِي مَحل
النصب، لِأَنَّهُ مفعول: يكره، وَأَن مَصْدَرِيَّة أَي:
الْقَذْف، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول. فَافْهَم.
(بَيَان الْمعَانِي) : قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا حَدِيث
عَظِيم، أصل من أصُول الْإِسْلَام، قلت: كَيفَ لَا، وَفِيه
محبَّة الله وَرَسُوله الَّتِي هِيَ أصل الْإِيمَان بل
عينه، وَلَا تصح محبَّة الله وَرَسُوله حَقِيقَة، وَلَا حب
لغير الله وَلَا كَرَاهَة الرُّجُوع فِي الْكفْر إلاَّ لمن
قوي الْإِيمَان فِي نَفسه وانشرح لَهُ صَدره وخالطه دَمه
ولحمه، وَهَذَا هُوَ الَّذِي وجد حلاوته، وَالْحب فِي الله
من ثَمَرَات الْحبّ لله. وَقَالَ ابْن بطال: محبَّة
العَبْد لخالقه الْتِزَام طَاعَته، والانتهاء عَمَّا نهى
عَنهُ، ومحبة الرَّسُول كَذَلِك، وَهِي الْتِزَام
(1/148)
شَرِيعَته. وَقَالَ بَعضهم: الْمحبَّة
مواطأة الْقلب على مَا يُرْضِي الرب سُبْحَانَهُ، فيحب مَا
أحبَّ وَيكرهُ مَا يكره. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَمعنى حب
الله الاسْتقَامَة فِي طَاعَته، والتزام أوامره ونواهيه
فِي كل شَيْء. وَالْمرَاد ثَمَرَات الْمحبَّة، فَإِن أصل
الْمحبَّة الْميل لما يُوَافق المحبوب، وَالله سُبْحَانَهُ
منزه أَن يمِيل أَو يمال إِلَيْهِ، وَأما محبَّة الرَّسُول
فَيصح فِيهَا الْميل، إِذْ ميل الْإِنْسَان لما يُوَافقهُ
إِمَّا للاستحسان كالصورة الجميلة والمطاعم الشهية
وشبههما، أَو لما يستلذه بعقله من الْمعَانِي والأخلاق
كمحبة الصَّالِحين وَالْعُلَمَاء وَإِن لم يكن فِي زمانهم،
أَو لمن يحسن إِلَيْهِ وَيدْفَع الْمضرَّة عَنهُ، وَهَذِه
الْمعَانِي كلهَا مَوْجُودَة فِي حق النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم من كَمَال الظَّاهِر وَالْبَاطِن، وَجمعه
الْفَضَائِل وإحسانه إِلَى جَمِيع الْمُسلمين بهدايته
إيَّاهُم وإبعادهم عَن الْجَحِيم. قَوْله: (وَأَن يحب
الْمَرْء لَا يُحِبهُ إِلَّا لله) هَذَا حث على التحاب فِي
الله، لأجل أَن الله جعل الْمُؤمنِينَ أخوة قَالَ الله
تَعَالَى: {فأصبحتم بنعمته إخْوَانًا} (آل عمرَان: 103)
وَمن محبته ومحبة رَسُوله محبَّة أهل مِلَّته، فَلَا تحصل
حلاوة الْإِيمَان إلاَّ أَن تكون خَالِصَة لله تَعَالَى،
غير مشوبة بالأغراض الدُّنْيَوِيَّة وَلَا الحظوظ البشرية،
فَإِن من أحب لذَلِك انْقَطَعت تِلْكَ الْمحبَّة عِنْد
انْقِطَاع سَببهَا، قَوْله: (وَأَن يكره) إِلَى آخِره.
مَعْنَاهُ أَن هَذِه الْكَرَاهَة إِنَّمَا تُوجد عِنْد
وجود سَببهَا، وَهُوَ مَا دخل قلبه من نور الْإِيمَان،
وَمن كشف لَهُ عَن محَاسِن الْإِسْلَام وقبح الجهالات
والكفران، وَقيل: الْمَعْنى أَن من وجد حلاوة الْإِيمَان
وَعلم أَن الْكَافِر فِي النَّار يكره الْكفْر لكراهته
لدُخُول النَّار. قلت: وَقَائِل هَذَا الْمَعْنى حَافظ على
بَقَاء لفظ الْعود على مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ،
وَمَعْنَاهُ هُنَا معنى الصيرورة، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا
يكون لنا أَن نعود فِيهَا} (الْأَعْرَاف: 89) .
(بَيَان الْبَيَان) قَوْله: (حلاوة الْإِيمَان) فِيهِ
اسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ، وَذَلِكَ لِأَن الْحَلَاوَة
إِنَّمَا تكون فِي المطعومات، وَالْإِيمَان لَيْسَ
مطعوماً، فَظهر أَن هَذَا مجَاز، لِأَنَّهُ شبه الْإِيمَان
بِنَحْوِ الْعَسَل، ثمَّ طوى ذكر الْمُشبه بِهِ، لِأَن
الِاسْتِعَارَة هِيَ أَن يذكر أحد طرفِي التَّشْبِيه
مُدعيًا دُخُول الْمُشبه فِي جنس الْمُشبه بِهِ، فالمشبه:
إِيمَان، والمشبه بِهِ: عسل وَنَحْوه، والجهة الجامعة
وَهُوَ وَجه الشّبَه الَّذِي بَينهمَا: هُوَ الالتذاذ وميل
الْقلب إِلَيْهِ فَهَذِهِ هِيَ الإستعارة بِالْكِنَايَةِ،
ثمَّ لما ذكر الْمُشبه أضَاف إِلَيْهِ مَا هُوَ من خَواص
الْمُشبه بِهِ ولوازمه، وَهُوَ: الْحَلَاوَة على سَبِيل
التخيل، وَهِي اسْتِعَارَة تخييلية، وترشيح للاستعارة.
قَوْله: (كَمَا يكره أَن يقذف فِي النَّار) تَشْبِيه
وَلَيْسَ باستعارة، لِأَن الطَّرفَيْنِ مذكوران. فالمشبه
هُوَ: العَوْد فِي الْكفْر، والمشبه بِهِ وَهُوَ: الْقَذْف
فِي النَّار، وَوجه الشّبَه هُوَ: وجدان الْأَلَم
وَكَرَاهَة الْقلب إِيَّاه.
(الأسئلة والأجوبة) : مِنْهَا: مَا قيل: مَا الْحِكْمَة
فِي كَون حلاوة الْإِيمَان فِي هَذِه الْأَشْيَاء
الثَّلَاثَة؟ وَأجِيب: بِأَن هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة
هِيَ عنوان كَمَال الْإِيمَان المحصل لتِلْك الذة،
لِأَنَّهُ لَا يتم إِيمَان امرىء حَتَّى يتَمَكَّن فِي
نَفسه أَن الْمُنعم بِالذَّاتِ هُوَ الله، سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى، وَلَا مانح وَلَا مَانع سواهُ، وَمَا عداهُ،
تَعَالَى وسائط لَيْسَ لَهَا فِي ذَاتهَا إِضْرَار وَلَا
انفاع، وَأَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ
العطوف السَّاعِي فِي صَلَاح شَأْنه، وَذَلِكَ يَقْتَضِي
أَن يتَوَجَّه بكليته نَحوه، وَلَا يحب مَا يُحِبهُ إلاَّ
لكَونه وسطا بَينه وَبَينه، وَأَن يتَيَقَّن أَن جملَة مَا
أوعد ووعد حق تَيَقنا يخيل إِلَيْهِ الْمَوْعُود كالواقع،
والاشتغال بِمَا يؤول إِلَى الشَّيْء مُلَابسَة بِهِ،
فيحسب مجَالِس الذّكر رياض الْجنَّة، وَأكل مَال الْيَتِيم
أكل النَّار، وَالْعود إِلَى الْكفْر إِلْقَاء فِي
النَّار. وَمِنْهَا مَا قيل: لم عبر عَن هَذِه الْحَالة
بالحلاوة؟ وَأجِيب: لِأَنَّهَا أظهر اللَّذَّات المحسوسة،
وَإِن كَانَ لَا نِسْبَة بَين هَذِه اللَّذَّة
وَاللَّذَّات الحسية. وَمِنْهَا مَا قيل: لم قيل: مِمَّا
سواهُمَا، وَلم يقل: مِمَّن سواهُمَا؟ وَأجِيب: بِأَن:
مَا، أَعم بِخِلَاف: من فَإِنَّهَا للعقلاء فَقَط.
وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ قَالَ: سواهُمَا، بإشراك
الضَّمِير بَينه وَبَين الله عز وَجل، وَالْحَال أَنه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أنكر على من فعل ذَلِك وَهُوَ
الْخَطِيب الَّذِي قَالَ: وَمن يعصهما فقد غوى فَقَالَ:
(بئس الْخَطِيب أَنْت) ؟ وَأجِيب: بِأَن هَذَا لَيْسَ من
هَذَا، لِأَن المُرَاد فِي الْخطب الْإِيضَاح، وَأما هُنَا
فَالْمُرَاد الإيجاز فِي اللَّفْظ ليحفظ، وَمَا يدل
عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي سنَن أبي دَاوُد: (وَمن يطع الله
وَرَسُوله فقد رشد وَمن يعصهما فَلَا يضر إلاَّ نَفسه) .
وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَأما تَثْنِيَة الضَّمِير
هَهُنَا فللإيماء يماء على أَن الْمُعْتَبر، هُوَ
الْمَجْمُوع الْمركب من المحبتين لَا كل وَاحِدَة،
فَإِنَّهَا وَحدهَا ضائعة لاغية وَأمر بِالْإِفْرَادِ فِي
حَدِيث الْخَطِيب، إشعاراً بِأَن كل وَاحِد من العصيانين
مُسْتَقل باستلزامه الغواية، إِذْ الْعَطف فِي تَقْرِير
التكرير، وَالْأَصْل اسْتِقْلَال كل من المعطوفين فِي
الحكم. وَقَالَ الأصوليون: أَمر بِالْإِفْرَادِ لِأَنَّهُ
أَشد تَعْظِيمًا، وَالْمقَام يَقْتَضِي ذَلِك، وَيُقَال
إِنَّه من الخصائص فَيمْتَنع من غير النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا يمْتَنع مِنْهُ، لِأَن غَيره إِذا
جمع أوهم
(1/149)
اطلاقه التَّسْوِيَة، بِخِلَاف النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن منصبه لَا يتَطَرَّق
إِلَيْهِ إِيهَام ذَلِك، وَيُقَال: إِن كَلَامه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم هُنَا جملَة وَاحِدَة فَلَا يحسن إِقَامَة
الظَّاهِر فِيهَا مقَام الْمُضمر، وَكَلَام الَّذِي خطب
جملتان لَا يكره إِقَامَة الظَّاهِر فِيهَا مقَام
الْمُضمر، وَيُقَال: إِن الْمُتَكَلّم لَا يتَوَجَّه تَحت
خطاب نَفسه إِذا وَجهه لغيره، وَيُقَال: إِن الله تَعَالَى
أَمر نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يشرف من شَاءَ
بِمَا شَاءَ، كَمَا أقسم بِكَثِير من مخلوقاته، وَكَذَلِكَ
لَهُ أَن يَأْذَن لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويحجره
على غَيره، وَيُقَال: الْعَمَل بِخَبَر الْمَنْع أولى،
لِأَن الْخَبَر الآخر يحْتَمل الْخُصُوص، وَلِأَنَّهُ
ناقل، وَالْآخر مَبْنِيّ فِي الأَصْل، وَلِأَنَّهُ قَول،
وَالثَّانِي فعل.
10 - (بَاب عَلاَمَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الانْصَارِ)
أَي: هَذَا بَاب، وَيجوز بِالْإِضَافَة إِلَى الْجُمْلَة
وَالتَّقْدِير: بَاب فِيهِ عَلامَة الْإِيمَان حب
الْأَنْصَار. وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ أَن
هَذَا الْبَاب دَاخل فِي نفس الْأَمر فِي الْبَاب الأول،
لِأَن حب الْأَنْصَار دَاخل فِي قَوْله: (وَأَن يحب
الْمَرْء لَا يُحِبهُ إلاَّ لله) ، فَإِن قلت: فَمَا
فَائِدَة التَّخْصِيص؟ قلت: الاهتمام بشأنهم والعناية
بتخصيصهم فِي إفرادهم بِالذكر.
17 - حدّثنا أبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ
أخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَالَ
جَبرٍ سَمْعتُ أنَساً عَن النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ وآيَةُ
النِّفَاق بُغْضُ الأَنْصارِ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
(بَيَان رِجَاله) وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو الْوَلِيد
الطَّيَالِسِيّ، هِشَام بن عبد الْملك الْبَصْرِيّ، مولى
باهلة، سمع: مَالِكًا وَشعْبَة والحمادين وسُفْيَان بن
عُيَيْنَة وَآخَرين، روى عَنهُ: أَبُو زرْعَة وَأَبُو
حَاتِم وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَمُحَمّد بن يحيى
وَمُحَمّد بن مُسلم بن وارة. قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل:
متقن، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: اِدَّرَكَ الْوَلِيد نصف
الْإِسْلَام وَكَانَ إِمَامًا فِي زَمَانه جَلِيلًا عِنْد
النَّاس، وَقَالَ أَحْمد بن عبد الله: هُوَ ثِقَة فِي
الحَدِيث يروي عَن سبعين امْرَأَة، وَكَانَت الرحلة بعد
أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ إِلَيْهِ، ولد سنة سِتّ
وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، وَمَات سنة سبع وَعشْرين
وَمِائَتَيْنِ، روى عَنهُ: البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد،
وروى الْبَاقُونَ عَن رجل عَنهُ. الثَّانِي: شُعْبَة بن
الْحجَّاج. الثَّالِث: عبد الله بن عبد الله بن جبر،
بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره
رَاء، ابْن عتِيك الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، أهل الْمَدِينَة
يَقُولُونَ: جَابر والعراقيون: جبر، سمع: عمر وأنساً، روى
عَنهُ: مَالك ومسعر وَشعْبَة، روى لَهُ: البُخَارِيّ
وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ. الرَّابِع: أنس
بن مَالك رَضِي الله عَنهُ.
(بَيَان الْأَنْسَاب) : الطَّيَالِسِيّ نِسْبَة إِلَى بيع
الطيالسة، وَهُوَ جمع طيلسان، بِفَتْح اللَّام وَقيل
بِكَسْرِهَا أَيْضا، وَالْفَتْح أَعلَى، وَالْهَاء فِي
الْجمع للعجمة، لِأَنَّهُ فَارسي مُعرب قَالَ
الْأَصْمَعِي: أَصله تالشان، والأنصاري، لَيْسَ بِنِسْبَة
لأَب وَلَا لأم، بل الْأَنْصَار قبيل عَظِيم من الأزد سميت
بذلك لنصرتهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَالنِّسْبَة إِنَّمَا تكون إِلَى الْوَاحِد، وَوَاحِد
الْأَنْصَار نَاصِر، مثل: أَصْحَاب وَصَاحب، وَكَانَ
الْقيَاس فِي النِّسْبَة إِلَى الْأَنْصَار ناصري،
فَقَالُوا: أَنْصَارِي، كَأَنَّهُمْ جعلُوا الْأَنْصَار
اسْم الْمَعْنى. وَالْمَدَنِي: نِسْبَة إِلَى مَدِينَة
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَمَا يُقَال فِي
النِّسْبَة إِلَى ربيع: ربعي، وَفِي جذيمة: جذمي، وَقد
تنْسب هَذِه النِّسْبَة إِلَى غَيرهَا من المدن. قَالَ
الرشاطي: قَالُوا فِي الرجل وَالثَّوْب إِذا نسب إِلَى
الْمَدِينَة مدنِي، وَالطير وَنَحْوه: مديني؛ وَفِي
(مُخْتَصر الْعين) يُقَال: رجل مدنِي، وحمام مديني.
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: إِذا نسبت إِلَى مَدِينَة الرَّسُول
عَلَيْهِ السَّلَام، قلت: مدنِي، وَإِلَى مَدِينَة
مَنْصُور قلت: مديني وَإِلَى مَدَائِن كسْرَى قلت: مدائني،
للْفرق بَين النّسَب لِئَلَّا تختلط.
(بَيَان لطائف أسناده) : وَمِنْهَا: أَن هَذَا الْإِسْنَاد
من رباعيات البُخَارِيّ، فَوَقع عَالِيا، وَوَقع لمُسلم
خماسياً. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار بِالْجمعِ
والإفراد وَالسَّمَاع وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رَاوِيا وَافق
اسْمه اسْم أَبِيه.
(بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه
البُخَارِيّ هَهُنَا، وَأخرجه أَيْضا فِي فَضَائِل
الْأَنْصَار عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن شُعْبَة بِهِ،
وَأخرجه مُسلم، عَن ابْن الْمثنى، عَن عبد الرَّحْمَن ابْن
مهْدي، عَن شُعْبَة بِهِ. وَلَفظ مُسلم: (آيَة الْمُنَافِق
وَآيَة الْمُؤمن) . وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا.
(1/150)
(بَيَان اللُّغَات) قَوْله: (آيَة
الْإِيمَان) أَي: عَلامَة الْإِيمَان، واصلها: أوية،
بِالتَّحْرِيكِ، قلبت الْوَاو ألفا لتحركها وانفتاح مَا
قبلهَا، قَالَ سِيبَوَيْهٍ: مَوضِع الْعين من الْآيَة
وَاو، لِأَن مَا كَانَ مَوضِع الْعين واواً وَمَوْضِع
اللَّام يَاء أَكثر مِمَّا مَوضِع الْعين وَاللَّام ياآن،
مثل: شويث أَكثر من: جبيت، وَتَكون النِّسْبَة إِلَيْهِ:
أوي. قَالَ الْفراء: هِيَ من الْفِعْل: فاعلة وَإِنَّمَا
ذهبت مِنْهُ اللاَّم، وَلَو جَاءَت تَامَّة لجاءت: آيية،
وَلكنهَا خففت، وَجمع الْآيَة: آي وأياي وآيات. وَيُقَال
فِي النِّسْبَة إِلَى آيَة: آيي، وَالْمَشْهُور أَن عينهَا
يَاء، ووزنها فاعة. لِأَن الأَصْل: آيية، فحذفوا الْيَاء
الثَّانِيَة الَّتِي هِيَ لَام، ثمَّ فتحُوا الَّتِي هِيَ
عين لأجل تَاء التَّأْنِيث. قَوْله: (الْأَنْصَار) جمع
نَاصِر، كالأصحاب جمع صَاحب، وَيُقَال جمع نصير: كشريف
وأشراف، وَالْأَنْصَار سموا بِهِ لنصرتهم النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ ولد الْأَوْس والخزرج ابْنا
حَارِثَة أَو ثَعْلَبَة العنقاء، لطول عُنُقه، ابْن عَمْرو
بن مزيقيا بن عَامر بن مَاء السَّمَاء بن حَارِثَة الغطريف
بن امرىء الْقَيْس البطريق بن ثَعْلَبَة البهلول بن
مَازِن، وَهُوَ جماع غَسَّان بن الأزد، واسْمه دراء، على
وزن فعال، ابْن الْغَوْث بن نبت يعرب بن يقطن وَهُوَ
قحطان، وَإِلَى قحطان جماع الْيمن، وَهُوَ أَبُو الْيمن
كلهَا. وَمِنْهُم من ينْسبهُ إِلَى إِسْمَاعِيل فَيَقُول:
قحطان بن الهميسع بن تيم بن نبت بن إِسْمَاعِيل. هَذَا
قَول الْكَلْبِيّ، وَمِنْهُم من ينْسبهُ إِلَى غَيره،
فَيَقُول: قحطان بن فالخ بن عَابِر بن شالخ بن أرفخشد بن
سَام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام، فعلى الأول الْعَرَب
كلهَا من ولد إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وعَلى
الثَّانِي من ولد إِسْمَاعِيل وقحطان، وَقَالَ حسان بن
ثَابت.
(أما سَأَلت فَإنَّا معشرٌ نجبٌ الأزد نسبتنا، والماءُ
غَسَّان)
وغسان: مَاء كَانَ شرباً لولد مَازِن بن الأزد، وَكَانَ
الْأَنْصَار الَّذين هم الْأَوْس والخزرج يعْرفُونَ قبل
ذَلِك: بإبنيْ قَيْلة، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء
آخر الْحُرُوف، وَهِي الام الَّتِي تجمع القبيلتين، فسماهم
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْأَنْصَار، فَصَارَ
ذَلِك علما عَلَيْهِم، وَأطلق أَيْضا على أَوْلَادهم
وحلفائهم ومواليهم. وَيُقَال: سماهم الله تَعَالَى بذلك
فَقَالَ: {وَالَّذين آووا ونصروا أُولَئِكَ هم
الْمُؤْمِنُونَ حَقًا} (الْأَنْفَال: 74) . قَوْله:
(النِّفَاق) هُوَ إِظْهَار الْإِيمَان وإبطان الْكفْر،
وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: فِي الاعتلال فِي تَسْمِيَة
الْمُنَافِق منافقاً ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه سمي
بِهِ لِأَنَّهُ يستر كفره ويغيبه، فَشبه بِالَّذِي يدْخل
النفق، وَهُوَ: السرب، يسْتَتر فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنه
نَافق كاليربوع، فَشبه بِهِ لِأَنَّهُ يخرج من الْإِيمَان
من غير الْوَجْه الَّذِي دخل فِيهِ. وَالثَّالِث: أَنه
إِنَّمَا سمي بِهِ لإظهاره غير مَا يضمر، تَشْبِيها
باليربوع، فَكَذَلِك الْمُنَافِق ظَاهره إِيمَان وباطنه
كفر. ونافق اليربوع أَخذ فِي نافقائه، ونفق اليربوع أَي
استخرجه، والنافقاء إِحْدَى حجرَة اليربوع، يكتمها وَيظْهر
غَيره، وَهُوَ مَوضِع يرققه، فَإِذا أَتَى من قبل
القاصعاء، ضرب النافقاء بِرَأْسِهِ فانتفق أَي: خرج. ثمَّ
أعلم أَن النِّفَاق هُوَ، بِكَسْر النُّون، وَأما
النِّفَاق، بِالْفَتْح، فَهُوَ من: نفق البيع نفَاقًا إِي:
راج، ونفقت الدَّابَّة نفوقاً أَي: مَاتَت، والنفاق
بِالْكَسْرِ أَيْضا جمع النَّفَقَة من الدَّرَاهِم
وَغَيرهَا، مِثَال ثَمَرَة وثمار، ونفِقت نِفاق الْقَوْم
بِالْكَسْرِ ينْفق نفقاً بِالتَّحْرِيكِ، أَي: فنيت،
وَأنْفق الرجل مَاله وانفق الْقَوْم نفقت سوقهم، وَقَالَ
تَعَالَى: {خشيَة الانفاق} (الْإِسْرَاء: 100) أَي: خشيَة
الفناء والنفاد، وَقَالَ قَتَادَة: أَي خشيَة إِنْفَاقه.
وَقَالَ الصغاني: التَّرْكِيب يدل على انْقِطَاع الشَّيْء
وذهابه، وعَلى إخفاء شَيْء وإغماضه.
(بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله: (آيَة الْإِيمَان) كَلَام
إضافي مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره قَوْله: (حب
الْأَنْصَار) ، وَمثل هَذِه تسمى قَضِيَّة ثنائية، وَأهل
الْمَعْقُول يشترطون الرابطة وَيَقُولُونَ: التَّقْدِير
فِي مثلهَا آيَة الْإِيمَان هِيَ حب الْأَنْصَار، كَمَا
يقدرُونَ فِي نَحْو: زيد قَائِم زيد: هُوَ قَائِم،
ويسمونها: قَضِيَّة ثلاثية، وَقد ضبط أَبُو الْبَقَاء
العكبري: إِنَّه الْإِيمَان حب الْأَنْصَار، بِهَمْزَة
مَكْسُورَة، وَنون مُشَدّدَة، وهاء الضَّمِير، وبرفع
الْإِيمَان فاعربه، فَقَالَ: إِن للتَّأْكِيد، وَالْهَاء
ضمير الشان، وَالْإِيمَان مُبْتَدأ، وَمَا بعده خَبره،
وَالتَّقْدِير: إِن الشان الْإِيمَان حب الْأَنْصَار،
وَهَذَا مُخَالف لجَمِيع الرِّوَايَات الَّتِي وَقعت فِي
الصِّحَاح وَالسّنَن وَالْمَسَانِيد، وَمَا أقربه أَن يكون
تصحيفاً قَوْله: (وَآيَة النِّفَاق) أَيْضا: كَلَام إضافي
مُبْتَدأ، وَقَوله: (بغض الْأَنْصَار) خَبره.
(بَيَان الْمعَانِي) فِيهِ مَا قَالَ أهل الْمعَانِي من:
إِن الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر إِذا كَانَا معرفتين تفِيد
الْحصْر، وَلَكِن هَذَا لَيْسَ بحصر حَقِيقِيّ، بل هُوَ
حصر ادعائي تَعْظِيمًا لحب الْأَنْصَار، كَانَ الدَّعْوَى
أَنه؛ لَا عَلامَة لإيمان إلاَّ حبهم، وَلَيْسَ حبهم إلاَّ
علامته، وَيُؤَيِّدهُ مَا قد جَاءَ فِي صَحِيح مُسلم:
(آيَة الْمُؤمن من حب الْأَنْصَار) ، بِتَقْدِيم الْآيَة
(وَحب الْأَنْصَار آيَة الْإِيمَان) بِتَقْدِيم الْحبّ.
فَإِن
(1/151)
قلت: إِذا كَانَ حب الْأَنْصَار آيَة
الْإِيمَان فبغضهم آيَة عَدمه، لِأَن حكم نقيض الشَّيْء
نقيض حكم الشَّيْء، فَمَا الْفَائِدَة فِي ذكر (آيَة
النِّفَاق بغض الْأَنْصَار) ؟ قلت: هَذَا التَّقْرِير
مَمْنُوع، وَلَئِن سلمنَا فالفائدة فِي ذكره التَّصْرِيح
بِهِ والتأكيد عَلَيْهِ، وَالْمقَام يَقْتَضِي ذَلِك،
لِأَن الْمَقْصُود من الحَدِيث الْحَث على حب الْأَنْصَار
وَبَيَان فَضلهمْ لما كَانَ مِنْهُم من إعزاز الدّين وبذل
الْأَمْوَال والأنفس، والإيثار على أنفسهم، والإيواء
والنصر وَغير ذَلِك، قَالُوا: وَهَذَا جَار فِي أَعْيَان
الصَّحَابَة: كالخلفاء وَبَقِيَّة الْعشْرَة والمهاجرين،
بل فِي كل الصَّحَابَة، إِذْ كل وَاحِد مِنْهُم لَهُ
سَابِقَة وسالفة وغناء فِي الدّين، وأثرحسن فِيهِ، فحبهم
لذَلِك الْمَعْنى مَحْض الْإِيمَان وبغضهم مَحْض
النِّفَاق، وَيدل عَلَيْهِ مَا رُوِيَ مَرْفُوعا فِي فضل
أَصْحَابه كلهم: (من أحبهم فبحبي أحبهم وَمن أبْغضهُم
فببغضي أبْغضهُم) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَأما من
أبْغض، وَالْعِيَاذ بِاللَّه، أحدا مِنْهُم، من غير تِلْكَ
الْجِهَة، لأمر طَار من حدث وَقع لمُخَالفَة غَرَض، أَو
لضَرَر وَنَحْوه، لم يصر بذلك منافقاً وَلَا كَافِرًا، فقد
وَقع بَينهم حروب ومخالفات وَمَعَ ذَلِك لم يحكم بَعضهم
على بعض بالنفاق، وَإِنَّمَا كَانَ حَالهم فِي ذَلِك حَال
الْمُجْتَهدين فِي الْأَحْكَام، فإمَّا أَن يُقَال: كلهم
مُصِيب، أَو الْمُصِيب وَاحِد والمخطىء مَعْذُور مَعَ أَنه
مُخَاطب بِمَا يرَاهُ ويظنه، فَمن وَقع لَهُ بغض فِي أحدٍ
مِنْهُم، وَالْعِيَاذ بِاللَّه، لشَيْء من ذَلِك، فَهُوَ
عاصٍ تجب عَلَيْهِ التَّوْبَة ومجاهدة نَفسه بِذكر سوابقهم
وفضائلهم وَمَا لَهُم على كل من بعدهمْ من الْحُقُوق، إِذْ
لم يصل أحد من بعدهمْ لشَيْء من الدّين وَالدُّنْيَا إلاَّ
بهم وبسببهم، قَالَ الله تَعَالَى: {وَالَّذين جاؤوا من
بعدهمْ} (الْحَشْر: 10) الْآيَة، وَقد أجَاب بَعضهم عَن
الْحصْر الْمَذْكُور بِأَن الْعَلامَة كالخاصة تطرد وَلَا
تنعكس، ثمَّ قَالَ: وَإِن أَخذ من طَرِيق الْمَفْهُوم،
فَهُوَ مَفْهُوم لقب لَا عِبْرَة بِهِ. قلت: هَذَا الْحصْر
يُفِيد حصر الْمُبْتَدَأ على الْخَبَر، ويفيد حصر الْخَبَر
على الْمُبْتَدَأ، وَهُوَ نَظِير قَوْلك: الضاحك
الْكَاتِب، فَإِن مَعْنَاهُ حصر الضاحك على الْكَاتِب،
وَحصر الْكَاتِب على الضاحك، وَكَيف يَدعِي فِيهِ الاطراد
دون الانعكاس، فَإِن آيَة الْإِيمَان كَمَا هِيَ محصورة
على حب الْأَنْصَار كَذَلِك حب الْأَنْصَار مَحْصُور على
آيَة الْإِيمَان بِمُقْتَضى هَذَا الْحصْر، وَلَكِن قد
قُلْنَا: إِن هَذَا حصر ادعائي، فَلَا يلْزم مِنْهُ
الْمَحْذُور.
(الأسئلة والأجوبة) مِنْهَا مَا قيل: الْأَنْصَار جمع
قلَّة، فَلَا يكون لما فَوق الْعشْرَة لكِنهمْ كَانُوا
أَضْعَاف الآلاف؟ وَأجِيب: بِأَن الْقلَّة وَالْكَثْرَة
إِنَّمَا تعتبران فِي نكرات الجموع، وَأما فِي المعارف
فَلَا فرق بَينهمَا. وَمِنْهَا مَا قيل: الْمُطَابقَة
تَقْتَضِي أَن يُقَابل الْإِيمَان بالْكفْر، بِأَن يُقَال:
آيَة الْكفْر كَذَا، فَلم عدل عَنهُ؟ وَأجِيب: بِأَن
الْبَحْث فِي الَّذين ظَاهِرهمْ الْإِيمَان، وَهَذَا
الْبَيَان مَا يتَمَيَّز بِهِ الْمُؤمن الظَّاهِرِيّ عَن
الْمُؤمن الْحَقِيقِيّ، فَلَو قيل: آيَة الْكفْر بغضهم،
لَا يَصح، إِذْ هُوَ لَيْسَ بِكَافِر ظَاهرا. وَمِنْهَا
مَا قيل: هَل يَقْتَضِي ظَاهر الحَدِيث أَن من لم
يُحِبهُمْ لَا يكون مُؤمنا؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا
يَقْتَضِي إِذْ لَا يلْزم من عدم الْعَلامَة عدم مَا لَهُ
الْعَلامَة، أَو المُرَاد: كَمَال الْإِيمَان. وَمِنْهَا
مَا قيل: هَل يلْزم مِنْهُ أَن من أبْغضهُم يكون منافقاً،
وَإِن كَانَ مُصدقا بِقَلْبِه؟ وَأجِيب: بِأَن الْمَقْصُود
بغضهم من جِهَة أَنهم أنصار لرَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا يُمكن اجتماعه مَعَ التَّصْدِيق
لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
11 - (بَاب)
كَذَا وَقع: بَاب، فِي كل النّسخ، وغالب الرِّوَايَات
بِلَا تَرْجَمَة، وَسقط عِنْد الْأصيلِيّ بِالْكُلِّيَّةِ،
فَالْوَجْه على عَدمه هُوَ: أَن الحَدِيث الَّذِي فِيهِ من
جملَة التَّرْجَمَة الَّتِي قبله؛ وعَلى وجوده هُوَ: أَنه
لما ذكر الْأَنْصَار فِي الْبَاب الَّذِي قبله أَشَارَ فِي
هَذَا الْبَاب إِلَى ابْتِدَاء السَّبَب فِي تلقيبهم
بالأنصار، لِأَن أول ذَلِك كَانَ لَيْلَة الْعقبَة، لما
توافقوا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عِنْد
عقبَة منى فِي الْمَوْسِم، وَلِأَن الْأَبْوَاب
الْمَاضِيَة كلهَا فِي أُمُور الدّين، وَمن جُمْلَتهَا
كَانَ حب الْأَنْصَار، والنقباء كَانُوا مِنْهُم،
ولمبايعتهم أثر عَظِيم فِي إعلاء كلمة الدّين، فَلَا جرم
ذكرهم عقيب الْأَنْصَار، وَلما لم يكن لَهُ تَرْجَمَة على
الْخُصُوص، وَكَانَ فِيهِ تعلق بِمَا قبله، فصل بَينهمَا
بقوله: بَاب، كَمَا يفعل بِمثل هَذَا فِي مصنفات المصنفين
بقَوْلهمْ: فصل كَذَا مُجَردا. فَإِن قلت: أهوَ مُعرب أم
لَا؟ قلت: كَيفَ يكون معرباً، وَالْإِعْرَاب لَا يكون
إلاَّ بالتركيب، وَإِنَّمَا حكمه حكم الْأَسَامِي الَّتِي
تعد بِلَا تركيب بَعْضهَا بِبَعْض. فَافْهَم.
(1/152)
18 - حدّثنا أبُو اليَمَان قَالَ أخبْرَنَا
شُعَيْبٌ عَن الزُّهْرِيّ قَالَ أخْبَرَنِي أبُو إدْرِيسَ
عَائِذُ اللَّهِ بِنُ عبدِ اللَّهِ أنْ عُبادَةَ بنَ
الصَّامِتِ رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ شَهِدَ بَدْراً وهُو
أحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ أنَّ رسولَ
اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وحَوْلَهُ عِصابَةٌ
مِنْ أصْحَابِهِ بايِعُونِي على أَن لاَ تُشْرِكُوا
باللَّهِ شَيْئاً ولاَ تَسْرِقوا لاَ تَزْنُوا وَلاَ
تَقْتلُوا أوْلاَدَكُمْ وَلاَ تَأتُوا بِبُهْتَانٍ
تَفْترُونَهُ بَيْنَ أيْدِيكُمْ وأرْجُلِكُمْ وَلَا
تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ فمنْ وَفَى مِنْكُمْ فأجْرُهُ على
اللَّهِ وَمَنْ أَصابَ مِن ذلكَ شَيْئاً فَعُوقِبَ فِي
الدُّنيْا فَهُوَ كفَّارَةٌ لَهُ وَمنْ أصابَ مِنْ ذلكَ
شَيْئاً ثمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إلَى اللَّهِ إِن
شاءَ عَفَا عَنْه وَإِن شاءَ عَاقَبَهُ فَبَايَعْناهُ على
ذلكَ..
وَجه تَخْصِيص الذّكر بِهَذَا الحَدِيث هُنَا، أَن الانصار
هم المبتدئون بالبيعة على إعلاء تَوْحِيد الله وشريعته
حَتَّى يموتوا على ذَلِك، فحبهم عَلامَة الْإِيمَان مجازاة
لَهُم على حبهم من هَاجر إِلَيْهِم ومواساتهم لَهُم فِي
أَمْوَالهم، كَمَا وَصفهم الله تَعَالَى، واتباعاً لحب
الله لَهُم قَالَ الله تَعَالَى: {قل إِن كُنْتُم تحبون
الله فَاتبعُوني يحببكم الله} (آل عمرَان: 31) وَكَانَ
الْأَنْصَار مِمَّن تبعه أَولا، فَوَجَبَ لَهُم محبَّة
الله، وَمن أحب الله وَجب على الْعباد حبه.
(بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول: أَبُو الْيَمَان
الحكم بن نَافِع الْحِمصِي. الثَّانِي: شُعَيْب بن أبي
حَمْزَة الْقرشِي. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم
الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: أَبُو إِدْرِيس، عَائِذ الله
بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة بن عبد الله بن عمر الْخَولَانِيّ
الدِّمَشْقِي، روى عَن: عبد الله بن مَسْعُود وَعَن معَاذ
على الْأَصَح، وَسمع: عبَادَة بن الصَّامِت وَأَبا
الدَّرْدَاء وخلقاً كثيرا، ولد يَوْم حنين، وَقَالَ ابْن
مَيْمُونَة ولاه عبد الْملك الْقَضَاء بِدِمَشْق، وَكَانَ
من عباد الشَّام وقرائهم، مَاتَ سنة ثَمَانِينَ، روى لَهُ
الْجَمَاعَة. الْخَامِس: عبَادَة، بِضَم الْعين، ابْن
الصَّامِت بن قيس بن أحرم بن فهر بن ثَعْلَبَة بن غنم
وَهُوَ قوقل بن عَوْف بن عَمْرو بن عَوْف بن الْخَزْرَج
الْوَلِيد الْأنْصَارِيّ الخزرجي، شهد الْعقبَة الأولى
وَالثَّانيَِة وبدراً وأُحداً وبيعة الرضْوَان والمشاهد
كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رُوِيَ
لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة وَأحد
وَثَمَانُونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على سِتَّة
أَحَادِيث، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بحديثين، وَمُسلم
بحديثين، وَهُوَ أول من ولي قَضَاء فلسطين، وَكَانَ طَويلا
جسيماً جميلاً فَاضلا، توفّي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ،
وَفِي (الِاسْتِيعَاب) : وَجهه عمر رَضِي الله عَنهُ،
إِلَى الشَّام قَاضِيا ومعلماً، فَأَقَامَ بحمص، ثمَّ
انْتقل إِلَى فلسطين، وَمَات بهَا وَدفن بِبَيْت
الْمُقَدّس، وقبره بهَا مَعْرُوف، وَقيل: توفّي بالرملة.
وَاعْلَم أَن عبَادَة بن الصَّامِت فَرد فِي الصَّحَابَة،
رَضِي الله عَنْهُم، وَفِيهِمْ عبَادَة بِدُونِ ابْن
الصَّامِت اثْنَي عشر نفسا.
(بَيَان الْأَنْسَاب) الْخَولَانِيّ، فِي قبائل، حكى
الْهَمدَانِي فِي كتاب (الأكليل) قَالَ: خولان بن عَمْرو
بن الحاف بن قضاعة، وخولان بن عَمْرو بن مَالك بن
الْحَارِث بن مرّة بن ادد قَالَ: وخولان حُضُور، وخولان
ردع هُوَ ابْن قحطان. وَفِي كتاب (المعارف) : خولان بن سعد
بن مذْحج، وَأَبُو إِدْرِيس من خولان ابْن عَمْرو بن مَالك
بن الْحَارِث بن مرّة بن ادد، وَكَذَلِكَ مِنْهُم أَبُو
مُسلم الْخَولَانِيّ واسْمه عبد الرَّحْمَن بن مشْكم،
وخولان فعلان من: خَال يخول، يُقَال مِنْهُ: فلَان خائل
إِذا كَانَ حسن الْقيام على المَال والخزرجي نِسْبَة إِلَى
الْخَزْرَج، وَهُوَ أَخ الْأَوْس، وَقَالَ ابْن دُرَيْد
الْخَزْرَج الرّيح العاصف.
(بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا: أَن الأسناد كُله
شَامِيُّونَ. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار
والعنعنة، وَقد مر الْكَلَام بَين: حَدثنَا وَأخْبرنَا.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة القَاضِي عَن القَاضِي،
وهما: أَبُو إِدْرِيس وَعبادَة بن الصَّامِت. وَمِنْهَا:
أَن فِيهِ رِوَايَة من رأى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام،
عَمَّن رأى النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، وَذَلِكَ لِأَن
أَبَا إِدْرِيس من حَيْثُ الرِّوَايَة تَابِعِيّ كَبِير،
وَمَعَ هَذَا قد ذكر فِي الصَّحَابَة لِأَن لَهُ رِوَايَة،
وَأَبوهُ عبد الله بن عَمْرو الْخَولَانِيّ صَحَابِيّ.
(بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه
البُخَارِيّ فِي خَمْسَة مَوَاضِع هُنَا، وَفِي
الْمَغَازِي وَالْأَحْكَام عَن أبي الْيَمَان عَن شُعْبَة،
وَفِي وُفُود الْأَنْصَار عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن
يَعْقُوب عَن أبي أخي الزُّهْرِيّ، وَعَن عَليّ عَن ابْن
عُيَيْنَة قَالَ البُخَارِيّ عَقِيبه: وَتَابعه عبد
الرَّزَّاق عَن معمر، وَفِي الْحُدُود عَن ابْن يُوسُف عَن
معمر، وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن يحيى
(1/153)
بن يحيى وَابْن بكر النَّاقِد وَإِسْحَاق
بن نمير عَن ابْن عُيَيْنَة وَعَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر
كلهم عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ مثل
إِحْدَى رِوَايَات البُخَارِيّ، وَمُسلم قَالَ: (كُنَّا
مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مجْلِس
فَقَالَ: تُبَايِعُونِي على أَن لَا تُشْرِكُوا بِاللَّه
شَيْئا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تقتلُوا
النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ) ، وَأخرجه
النَّسَائِيّ، وَلَفظه قَالَ: (بَايَعت رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْعقبَة فِي رَهْط، فَقَالَ
أُبَايِعكُم على أَن لَا تُشْرِكُوا بِاللَّه شَيْئا،
وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تشْربُوا وَلَا
تقتلُوا أَوْلَادكُم وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَان تفترونه
بَين أَيْدِيكُم وأرجلكم، وَلَا تعصوني فِي مَعْرُوف، فَمن
وفى مِنْكُم فَأَجره على الله، وَمن أصَاب من ذَلِك شَيْئا
فَأخذ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ وطهور،
وَمن ستره الله فَذَلِك إِلَى الله تَعَالَى، إِن شَاءَ
عذبه وَإِن شَاءَ غفر لَهُ) . وَله فِي الْأُخْرَى نَحْو
رِوَايَة التِّرْمِذِيّ.
(بَيَان اللُّغَات) قَوْله: (وَكَانَ شهد) أَي: حضر، وأصل
الشُّهُود الْحُضُور، يُقَال: شهده شُهُودًا، أَي: حَضَره
وَهُوَ من بَاب: علم يعلم، وَجَاء شهد بالشَّيْء، بِضَم
الْهَاء، يشْهد بِهِ من الشَّهَادَة، قَالَ فِي (الْعباب)
هَذِه لُغَة فِي شهد يشْهد. وَقَرَأَ الْحسن الْبَصْرِيّ
{وَمَا شَهِدنَا إلاَّ بِمَا علمنَا} (يُوسُف: 81) بِضَم
الْهَاء، وَقوم شُهُود أَي: حُضُور، وَهُوَ فِي الأَصْل
مصدر كَمَا ذكرنَا. وَشهد لَهُ بِكَذَا شَهَادَة. أَي:
أدّى مَا عِنْده من الشَّهَادَة، وَشهد الرجل على كَذَا
شَهَادَة، وَهُوَ خبر قَاطع. قَوْله: (بَدْرًا) وَهُوَ
مَوضِع الْغَزْوَة الْكُبْرَى الْعُظْمَى لرَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، يذكر وَيُؤَنث، مَاء مَعْرُوف على
نَحْو أَرْبَعَة مراحل من الْمَدِينَة، وَقد كَانَ لرجل
يدعى بَدْرًا، فسميت باسمه. قلت: بدر اسْم بِئْر حفرهَا
رجل من بني النجار، اسْمه بدر، وَفِي (الْعباب) : فَمن
ذكَّر قَالَ: هُوَ اسْم قليب، وَمن أنثَّهُ قَالَ: هُوَ
اسْم بِئْر، وَقَالَ الشّعبِيّ: بدر بِئْر كَانَت لرجل سمي
بَدْرًا، أَو قَالَ أهل الْحجاز: هُوَ بدر بن قُرَيْش بن
الْحَارِث بن يخلد بن النَّضر، وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ:
هُوَ رجل من جُهَيْنَة. قَوْله: (أحد النُّقَبَاء) جمع:
نقيب، وَهُوَ النَّاظر على الْقَوْم وضمينهم وعريفهم، وَقد
نقب على قومه ينقب نقابة، مِثَال: كتب يكْتب كِتَابَة،
إِذا صَار نَقِيبًا وَهُوَ: العريف، قَالَ الْفراء: إِذا
أردْت أَنه لم يكن نَقِيبًا بِفعل، قلت: نقب نقابة،
بِالضَّمِّ؛ نقابة، بِالْفَتْح، ونقب، بِالْكَسْرِ لُغَة؛
قَالَ سِيبَوَيْهٍ: النقابة، بِالْكَسْرِ: اسْم، وبالفتح:
الْمصدر، مثل الْولَايَة وَالْولَايَة. قَوْله: (لَيْلَة
الْعقبَة) أَي: الْعقبَة الَّتِي تنْسب إِلَيْهَا جَمْرَة
الْعقبَة الَّتِي بمنى، وَعقبَة الْجَبَل مَعْرُوفَة
وَهُوَ الْموضع الْمُرْتَفع العالي مِنْهُ، وَفِي
(الْعباب) : التَّرْكِيب يدل على ارْتِفَاع وَشدَّة
وصعوبة. قَوْله: (وَحَوله) يُقَال: حوله وحواله وحواليه
وحوليه، بِفَتْح اللَّام فِي كلهَا، أَي: يحيطون بِهِ.
قَوْله: (عِصَابَة) ، بِكَسْر الْعين، وَهِي الْجَمَاعَة
من النَّاس لَا وَاحِد لَهَا، وَهُوَ مَا بَين الْعشْرَة
إِلَى الْأَرْبَعين وأُخذ إِمَّا من العصب الَّذِي
بِمَعْنى الشدَّة، كَأَنَّهُمْ يشد بَعضهم بَعْضًا،
وَمِنْه الْعِصَابَة أَي الْخِرْقَة تشد على الْجَبْهَة،
وَمِنْه العصب لِأَنَّهُ يشد الْأَعْضَاء بِمَعْنى
الْإِحَاطَة، يُقَال: عصب فلَان بفلان إِذا أحَاط بِهِ.
قَوْله: (بايعوني) من الْمُبَايعَة، والمبايعة على
الْإِسْلَام عبارَة عَن المعاقدة والمعاهدة عَلَيْهِ، سميت
بذلك تَشْبِيها بالمعاوضة الْمَالِيَّة. كَأَن كل وَاحِد
مِنْهُمَا يَبِيع مَا عِنْده من صَاحبه، فَمن طرف رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعد الثَّوَاب وَمن طرفهم
الْتِزَام الطَّاعَة؛ وَقد تعرف بِأَنَّهَا عقد الإِمَام
الْعَهْد بِمَا يَأْمر النَّاس بِهِ، وَفِي بَاب وُفُود
الْأَنْصَار: تَعَالَوْا بايعوني. قَوْله: (لَا تُشْرِكُوا
بِاللَّه شَيْئا) أَي: وحدوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى،
وَهَذَا هُوَ أصل الْإِيمَان وأساس الْإِسْلَام، فَلذَلِك
قدمه على أخوته. قَوْله: (شَيْئا) عَام لِأَنَّهُ نكرَة
فِي سِيَاق النَّهْي لِأَنَّهُ كالنفي، قَوْله:
(بِبُهْتَان) الْبُهْتَان، بِالضَّمِّ: الْكَذِب الَّذِي
يبهت سامعه، أَي يدهشه لفظاعته، يُقَال: بَهته بهتاناً
إِذا كذب عَلَيْهِ بِمَا يبهته من شدَّة نكره، وَزعم
الْبنانِيّ أَن أَبَا زيد قَالَ: بَهته يبهته بهتاناً:
رَمَاه فِي وَجهه، أَو من وَرَائه بِمَا لم يكن، والبهَّات
الَّذِي يعيب النَّاس بِمَا لم يَفْعَلُوا، وَقَالَ
يَعْقُوب وَالْكسَائِيّ: هُوَ الْكَذِب. وَقَالَ صَاحب
(الْعين) : البهت استقبالك بِأَمْر تقذفه بِهِ وَهُوَ
مِنْهُ بَرِيء لايعلمه، وَالِاسْم: الْبُهْتَان. والبهت
أَيْضا: الْحيرَة، وَقَالَ الزّجاج وقطرب: بهت الرجل
انْقَطع وتحير. وَبِهَذَا الْمَعْنى بهت وبهت. قَالَ:
والبهتان الْكَذِب الَّذِي يتحير من عظمه وشأنه، وَقد
بَهته إِذا كذب عَلَيْهِ؛ زَاد قطرب: بهاتة وبهتا، وَفِي
(الْمُحكم) : باهته استقلبه بِأَمْر يقذفه بِهِ وَهُوَ
مِنْهُ بَرِيء لَا يُعلمهُ، والبهيتة: الْبَاطِل الَّذِي
يتحير من بُطْلَانه، والبهوت: المباهت، وَالْجمع: بهت
وبهوت، وَعِنْدِي أَن بهوتاً جمع باهت لَا جمع بهوت،
وَقِرَاءَة السَّبع {فبهت الَّذِي كفر} (يُوسُف: 258)
وَقِرَاءَة ابْن حَيْوَة: فبهت، بِضَم الْهَاء، لُغَة فِي
بهت. وَقَالَ ابْن جني: وَقد يجوز أَن يكون بهت بِالْفَتْح
لُغَة فِي بهت، وَقَالَ الْأَخْفَش: قِرَاءَة بهت كدهش
وحزن، قَالَ: وبهت، بِالضَّمِّ أَكثر من بهت بِالْكَسْرِ،
يَعْنِي أَن الضمة تكون للْمُبَالَغَة. وَفِي
(الْمُنْتَهى) لأبي الْمَعَالِي: بَهته يبهته بهتاً إِذا
أَخذه بَغْتَة، وبهته بهتاً وبهتاناً وبهتا فَهُوَ بهاة
إِذا قَالَ عَلَيْهِ مَا لم يَفْعَله مُوَاجهَة، وَهُوَ
مبهوت، والبهت لَا يكون إلاَّ مُوَاجهَة بِالْكَذِبِ على
الْإِنْسَان،
(1/154)
وَأما قَول أبي النَّجْم:
(سبى الحماة وابهتوا عَلَيْهَا)
فإنَّ على، مقحمة، وَإِنَّمَا الْكَلَام بَهته، وَلَا
يُقَال: بهت عَلَيْهِ؛ وَفِي (الصِّحَاح) : بهت الرجل
بِالْكَسْرِ إِذا دهش تحير، وبهت بِالضَّمِّ مثله، وأفصح
مِنْهُمَا: بهت، لِأَنَّهُ يُقَال: رجل مبهوت، وَلَا
يُقَال: باهت وَلَا بهيت، قَالَه الْكسَائي. قلت: فِيهِ
نظر لما مر، وَلقَوْل الْقَزاز: بهت يبهت، وَفِيه لُغَة
أُخْرَى وَهِي: بهت يبهت بهتاً. قَالَ هُوَ وَابْن دُرَيْد
فِي (الجمهرة) : هُوَ رجل باه وبهات؛ وَقَالَ الْهَرَوِيّ:
{وَلَا يَأْتِين بِبُهْتَان} (الممتحنة: 12) أَي: لَا
يَأْتِين بِولد عَن معارضته فتنسبه إِلَى الزَّوْج كَانَ
ذَلِك بهتان وفرية، وَيُقَال كَانَت الْمَرْأَة تلْتَقط
الْوَلَد فتتبناه. وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ هَهُنَا
قذف الْمُحْصنَات وَهُوَ من الْكَبَائِر، وَيدخل فِيهِ
الاغتياب لَهُنَّ ورميهن بالمعصية. وَقَالَ أَيْضا: لَا
تبهتوا النَّاس بالمعايب كفاحاً ومواجهة، وَهَذَا كَمَا
يَقُول الرجل: فعلت هَذَا بَين يَديك، أَي: بحضرتك.
قَوْله: (تفترونه) من الافتراء وَهُوَ الاختلاق، والفرية:
الْكَذِب. يُقَال: فرى فلَان كَذَا، إِذا أختلقه، وافتراه:
اختلقه، وَالِاسْم: الْفِرْيَة، وَفُلَان يفري الفرى، إِذا
كَانَ يَأْتِي بالعجب فِي عمله، قَالَ تَعَالَى: {لقد
جِئْت شَيْئا فرياً} (مَرْيَم: 27) أَي: مصنوعاً مختلقاً،
وَيُقَال: عَظِيما. قَوْله: (وَلَا تعصوا) ، وَفِي بَاب
وُفُود الْأَنْصَار: وَلَا تعصوني، والعصيان خلاف
الطَّاعَة، قَوْله: (فِي مَعْرُوف) أَي: حسن، وَهُوَ مَا
لم ينْه الشَّارِع فِيهِ، أَو مَعْنَاهُ مَشْهُور أَي: مَا
عرف فعله من الشَّارِع واشتهر مِنْهُ، وَيُقَال: فِي
مَعْرُوف، أَي: فِي طَاعَة الله تَعَالَى، وَيُقَال: فِي
كل بر وتقوى. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: الْمَعْرُوف مَا عرف
من الشَّارِع حسنه، وَقَالَ الزّجاج: أَي الْمَأْمُور
بِهِ، وَفِي (النِّهَايَة) : هُوَ اسْم جَامع لكل مَا عرف
من طَاعَة الله تَعَالَى وَالْإِحْسَان إِلَى النَّاس، وكل
مَا ندب إِلَيْهِ الشَّرْع وَنهى عَنهُ من المحسنات
والمقبحات. قَوْله: (فَمن وفى مِنْكُم) أَي: ثَبت على مَا
بَايع عَلَيْهِ، يُقَال بتَخْفِيف الْفَاء وتشديدها،
يُقَال: وفى بالعهد وأوفى ووفي ثلاثي ورباعي، ووفى
بالشَّيْء ثلاثي، ووفت ذِمَّتك أَيْضا و: أوفى الشَّيْء
ووفي، و: أوفي الْكَيْل ووفاه، وَلَا يُقَال فيهمَا وفى
قَوْله: (وَمن أصَاب من ذَلِك شَيْئا) : من، هِيَ
التبعيضية، وشيئاً، عَام لِأَنَّهُ نكرَة فِي سِيَاق
الشَّرْط، وَصرح ابْن الْحَاجِب بِأَنَّهُ كالنفي فِي
إِفَادَة الْعُمُوم كنكرة وَقعت فِي سِيَاقه قَوْله:
(كَفَّارَة) الْكَفَّارَة: الفعلة الَّتِي من شَأْنهَا أَن
تكفر الْخَطِيئَة، أَي: تسترها، يُقَال: كفرت الشَّيْء
أكفر، بِالْكَسْرِ، كفرا أَي: سترته، ورماد مكفور إِذا سفت
الرّيح التُّرَاب عَلَيْهِ حَتَّى غطته، وَمِنْه الْكَافِر
لِأَنَّهُ ستر الْإِيمَان وغطاه.
(بَيَان الْإِعْرَاب) : قَوْله: (عَائِذ الله) عطف بَيَان
عَن قَوْله أَبُو إِدْرِيس، وَلِهَذَا ارْتَفع. قَوْله:
(إِن عبَادَة) أَصله بِأَن عبَادَة، قَوْله: (وَكَانَ شهد
بَدْرًا) الْوَاو فِيهِ هِيَ الْوَاو الدَّاخِلَة على
الْجُمْلَة الْمَوْصُوف بهَا لتأكيد لصوقها بموصوفها.
وإفادة أَن اتصافه بهَا أَمر ثَابت، وَكَذَلِكَ الْوَاو
فِي قَوْله: (وَهُوَ أحد النُّقَبَاء) وَلَا شكّ أَن كَون
شُهُود عبَادَة بَدْرًا، وَكَونه من النُّقَبَاء صفتان من
صِفَاته، وَلَا يجوز أَن تكون الواوان للْحَال وَلَا
للْعَطْف على مَا لَا يخفى على من لَهُ ذوق سليم، قَوْله:
(بَدْرًا) مَنْصُوب بقوله: شهد، وَلَيْسَ هُوَ مفعول
فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مفعول بِهِ، لِأَن تَقْدِيره شهد
الْغَزْوَة الَّتِي كَانَت ببدر، قَوْله: (وَهُوَ)
مُبْتَدأ وَخَبره: أحد النُّقَبَاء، و (لَيْلَة الْعقبَة)
نصب على الظَّرْفِيَّة، قَوْله: (أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) أَصله: بِأَن، فَإِن قلت: كَيفَ هَذَا
التَّرْكِيب: أَن عبَادَة بن الصَّامِت أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا شكّ أَن قَوْله: وَكَانَ
شهد بَدْرًا إِلَى قَوْله: إِن، معترض؟ قلت: تَقْدِيره:
أَن عبَادَة بن الصَّامِت قَالَ أَو أخبر أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ سَاقِط من أصل
الرِّوَايَة، وَسُقُوط هَذَا غير جَائِز، وَإِنَّمَا جرت
عَادَة أهل الحَدِيث بِحَذْف: قَالَ، إِذا كَانَ مكرراً
نَحْو: قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَمَعَ هَذَا ينطقون بهَا عِنْد الْقِرَاءَة، وَأما هُنَا
فَلَا وَجه لجَوَاز الْحَذف، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه
ثَبت فِي رِوَايَة البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث
بِإِسْنَادِهِ هَذَا فِي بَاب: من شهد بَدْرًا،
وَالظَّاهِر أَنَّهَا سَقَطت من النساخ من بعده، فاستمروا
عَلَيْهِ، وَقد روى أَحْمد بن حَنْبَل عَن أبي الْيَمَان
بِهَذَا الْإِسْنَاد: أَن عبَادَة حَدثهُ. قَوْله: (قَالَ)
جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: إِن، قَوْله:
(وَحَوله عِصَابَة) جملَة اسمية وَقعت حَالا، وَقَوله:
عِصَابَة، هِيَ الْمُبْتَدَأ، و: حوله، نصب على
الظَّرْفِيَّة مقدما خَبره، قَوْله: (من أَصْحَابه) جملَة
فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة للعصابة، أَي: عِصَابَة
كائنة من أَصْحَابه، من، للتَّبْعِيض، وَيجوز أَن تكون
للْبَيَان، قَوْله: (بايعوني) : جملَة مقول القَوْل،
قَوْله: (على أَن) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: على ترك
الْإِشْرَاك بِاللَّه شَيْئا، قَوْله: (وَلَا تَسْرِقُوا)
وَمَا بعده كلهَا عطف على: لَا تُشْرِكُوا، قَوْله:
(تفترونه) ، جملَة فِي مَحل الْجَرّ على أَنَّهَا صفة
لبهتان، قَوْله: (وَلَا تعصوا) أَيْضا عطف على الْمَنْفِيّ
فِيمَا قبله، قَوْله: (فَمن وفى) كلمة: من، شَرْطِيَّة
مُبْتَدأ، ووفى جملَة صلتها، قَوْله: (فَأَجره) مُبْتَدأ
ثَان، وَقَوله: (على الله) خَبره، وَالْجُمْلَة خبر
الْمُبْتَدَأ الأول، وَدخلت الْفَاء لتضمن الْمُبْتَدَأ
الشَّرْط، قَوْله:
(1/155)
(وَمن) ، مُبْتَدأ مَوْصُولَة تَتَضَمَّن
معنى الشَّرْط، و (أصَاب) ، جملَة صلتها، (شَيْئا) مفعولة.
قَوْله: (فَعُوقِبَ) على صِيغَة الْمَجْهُول عطف على
قَوْله: أصَاب، قَوْله: (فَهُوَ) مُبْتَدأ ثَان، وَقَوله:
(كَفَّارَة) خَبره، وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الأول،
وَالْفَاء لأجل الشَّرْط، قَوْله: (وَمن أصَاب) الخ إعرابه
مثل إِعْرَاب مَا قبله. فَإِن قلت: فَلم قَالَ فِي قَوْله:
فَعُوقِبَ، بِالْفَاءِ وَفِي قَوْله: ثمَّ ستره الله، بثم؟
قلت: الْفَاء هَهُنَا للتعقيب، ثمَّ التعقيب فِي كل شَيْء
بِحَسبِهِ، فَيجوز هَهُنَا أَن يكون بَين الْإِصَابَة
وَالْعِقَاب مُدَّة طَوِيلَة أَو قَصِيرَة وَذَلِكَ بِحَسب
الْوُقُوع، وَيجوز أَن تكون الْفَاء للسَّبَبِيَّة كَمَا
فِي قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن الله أنزل من
السَّمَاء مَاء فَتُصْبِح الأَرْض مخضرة} (الْحَج: 63)
وَأما: ثمَّ، فَإِن وَضعهَا للتراخي، وَقد يتَخَلَّف،
وَهَهُنَا: ثمَّ لَيست على بَابهَا، لِأَن السّتْر عِنْد
إِرَادَة الله تَعَالَى تكون عقيب الْإِصَابَة وَلَا
يتراخى. فَافْهَم.
(بَيَان الْمعَانِي) . قَوْله: (وَكَانَ شهد بَدْرًا) قد
قُلْنَا إِنَّه صفة لعبادة، و: الْوَاو، لتأكيد لصوقها
بالموصوف. فَإِن قلت: هَذَا كَلَام من؟ قلت: يجوز أَن يكون
من كَلَام أبي إِدْرِيس، فَيكون مُتَّصِلا إِذا حمل على
أَنه سمع ذَلِك من عبَادَة، وَيجوز أَن يكون من كَلَام
الزُّهْرِيّ، فَيكون مُنْقَطِعًا، وَكَذَا الْكَلَام فِي
قَوْله: (وَهُوَ أحد النُّقَبَاء) . وَالْمرَاد من
النُّقَبَاء: نقباء الْأَنْصَار، وهم الَّذين تقدمُوا لأخذ
الْبيعَة لنصرة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لَيْلَة الْعقبَة، وهم اثْنَي عشر رجلا، وهم الْعِصَابَة
الْمَذْكُورَة: أسعد بن زُرَارَة. وعَوْف بن الْحَارِث.
وَأَخُوهُ معَاذ وهما ابْنا عفراء. وذكوان بن عبد قيس،
وَذكر ابْن سعد فِي طبقاته أَنه مُهَاجِرِي أَنْصَارِي.
وَرَافِع بن مَالك الزرقيان. وَعبادَة بن الصَّامِت. وعباس
بن عبَادَة بن نَضْلَة. وَيزِيد بن ثَعْلَبَة من بلَى.
وَعقبَة بن عَامر. وَقُطْبَة بن عَامر، فَهَؤُلَاءِ عشرَة
من الْخَزْرَج. وَمن الْأَوْس: أَبُو الْهَيْثَم بن
التيهَان من بلي. وعويم بن سَاعِدَة. اعْلَم أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعرض نَفسه على قبائل
الْعَرَب فِي كل موسم، فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْد الْعقبَة
إِذا لَقِي رهطاً من الْخَزْرَج، فَقَالَ: أَلا تجلسون
أكلمكم؟ قَالُوا: بلَى، فجلسوا فَدَعَاهُمْ إِلَى الله
تَعَالَى وَعرض عَلَيْهِم الْإِسْلَام، وتلى عَلَيْهِم
الْقُرْآن، وَكَانُوا قد سمعُوا من الْيَهُود أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أظل زَمَانه. فَقَالَ بَعضهم
لبَعض: وَالله إِنَّه لذاك، فَلَا تسبقن الْيَهُود
عَلَيْكُم، فَأَجَابُوهُ، فَلَمَّا انصرفوا إِلَى
بِلَادهمْ وذكروه لقومهم فَشَا أَمر رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فيهم، فَأتى فِي الْعَام الْقَابِل اثْنَا
عشر رجلا إِلَى الْمَوْسِم من الْأَنْصَار، أحدهم عبَادَة
بن الصَّامِت، فَلَقوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِالْعقبَةِ، وَهِي بيعَة الْعقبَة الأولى
فَبَايعُوهُ بيعَة النِّسَاء يَعْنِي، مَا قَالَ الله
تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا جَاءَك الْمُؤْمِنَات
يبايعنك على أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا وَلَا
يَسْرِقن وَلَا يَزْنِين وَلَا يقتلن أَوْلَادهنَّ وَلَا
يَأْتِين بِبُهْتَان يَفْتَرِينَهُ بَين أَيْدِيهنَّ
وَأَرْجُلهنَّ وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوف فبايعهن}
(الممتحنة: 12) ثمَّ انصرفوا وَخرج فِي الْعَام الآخر
سَبْعُونَ رجلا مِنْهُم إِلَى الْحَج، فواعدهم رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَوسط أَيَّام التَّشْرِيق، قَالَ
كَعْب بن مَالك: لما كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي وعدنا
فِيهَا بتنا أول اللَّيْل مَعَ قَومنَا، فَلَمَّا استثقل
النَّاس من النّوم تسللنا من فرشنا حَتَّى اجْتَمَعنَا
بِالْعقبَةِ، فَأَتَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مَعَ عَمه الْعَبَّاس لَا غير، فَقَالَ الْعَبَّاس:
يَا معشر الْخَزْرَج إِن مُحَمَّدًا منا حَيْثُ علمْتُم،
وَهُوَ فِي مَنْعَة ونصرة من قومه وعشيرته، وَقد أبي إلاَّ
الِانْقِطَاع إِلَيْكُم، فَإِن كُنْتُم وافين بِمَا
عاهدتموه فَأنْتم وَمَا تحملتم، وإلاَّ فاتركوه فِي قومه.
فَتكلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دَاعيا إِلَى
الله مرغباً فِي الْإِسْلَام تالياً لِلْقُرْآنِ، فأجبناه
بِالْإِيمَان، فَقَالَ: إِنِّي أُبَايِعكُم على أَن
تَمْنَعُونِي مِمَّا منعتم بِهِ أبناءكم، فَقُلْنَا:
ابْسُطْ يدك نُبَايِعك عَلَيْهِ، فَقَالَ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: أخرجُوا إِلَيّ مِنْكُم اثْنَتَيْ عشر
نَقِيبًا، فاخرجنا من كل فرقة نَقِيبًا، وَكَانَ عبَادَة
نقيب بني عَوْف، فَبَايعُوهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَهَذِه بيعَة الْعقبَة الثَّانِيَة: وَله بيعَة ثَالِثَة
مَشْهُورَة وَهِي الْبيعَة الَّتِي وَقعت بِالْحُدَيْبِية
تَحت الشَّجَرَة عِنْد توجهه من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة،
تسمى: بيعَة الرضْوَان، وَهَذِه بعد الْهِجْرَة، بِخِلَاف
الْأَوليين: وَعبادَة شَهِدَهَا أَيْضا فَهُوَ من
الْمُبَايِعين فِي الثَّلَاث رَضِي الله عَنهُ، قَوْله:
(وَلَا تَسْرِقُوا) فِيهِ حذف الْمَفْعُول ليدل على
الْعُمُوم، قَوْله: (فَعُوقِبَ) فِيهِ حذف أَيْضا
تَقْدِيره: فَعُوقِبَ بِهِ، وَهَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة
أَحْمد. قَوْله: (فَهُوَ) أَي: الْعقَاب، وَهَذَا مثل هُوَ
فِي قَوْله تَعَالَى: {اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى}
(الْمَائِدَة: 8) فَإِنَّهُ يرجع إِلَى الْعدْل الَّذِي
دلّ عَلَيْهِ: اعدلوا، وَكَذَلِكَ قَوْله: فَعُوقِبَ، يدل
على الْعقَاب، وَقَوله: هُوَ، يرجع إِلَيْهِ، قَوْله:
(كَفَّارَة) ، فِيهِ حذف أَيْضا تَقْدِيره: كَفَّارَة
لَهُ، وَهَكَذَا فِي رِوَايَة أَحْمد. وَكَذَا فِي
رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي بَاب الْمَشِيئَة من كتاب
التَّوْحِيد، وَزَاد أَيْضا: (وطهور) . قَالَ النَّوَوِيّ:
عُمُوم هَذَا الحَدِيث مَخْصُوص بقوله تَعَالَى: {إِن الله
لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ} (النِّسَاء: 48 و 116) فالمرتد
إِذا قتل على الرِّدَّة لَا يكون الْقَتْل
(1/156)
لَهُ كَفَّارَة. قلت: أَو يكون مَخْصُوصًا
بالاجماع. أَو لفظ ذَلِك إِشَارَة إِلَى غير الشّرك
بِقَرِينَة السّتْر، فَإِنَّهُ يَسْتَقِيم فِي الْأَفْعَال
الَّتِي يُمكن إظهارها واخفاؤها. وَأما الشّرك. أَي:
الْكفْر، فَهُوَ من الْأُمُور الْبَاطِنَة، فَإِنَّهُ ضد
الْإِيمَان وَهُوَ التَّصْدِيق القلبي على الْأَصَح.
وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: قَالُوا: المُرَاد مِنْهُ
الْمُؤْمِنُونَ خَاصَّة لِأَنَّهُ مَعْطُوف على قَوْله:
(فَمن وفى) ، وَهُوَ خَاص بهم لقَوْله: (مِنْكُم) .
تَقْدِيره: وَمن أصَاب مِنْكُم أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ من
ذَلِك شَيْئا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا أَي أقيم الْحَد
عَلَيْهِ، لم يكن لَهُ عُقُوبَة لأجل ذَلِك الْقيام،
وَهُوَ ضَعِيف، لِأَن الْفَاء فِي: فَمن، لترتب مَا
بعْدهَا على مَا قبلهَا، وَالضَّمِير فِي: مِنْكُم،
للعصابة الْمَعْهُودَة، فَكيف يخصص الشّرك بِالْغَيْر؟
فَالصَّحِيح أَن المُرَاد بالشرك الرِّيَاء لِأَنَّهُ
الشّرك الْخَفي قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا يُشْرك
بِعبَادة ربه أحدا} (الْكَهْف: 110) وَيدل عَلَيْهِ تنكير
شَيْئا، أَي: شركا أياً مَا كَانَ، وَفِيه نظر، لِأَن عرف
الشَّارِع يَقْتَضِي أَن لَفْظَة: الشّرك، عِنْد
الْإِطْلَاق تحمل على مُقَابل التَّوْحِيد، سِيمَا فِي
أَوَائِل الْبعْثَة وَكَثْرَة عَبدة الْأَصْنَام،
وَأَيْضًا عقيب الْإِصَابَة بالعقوبة فِي الدُّنْيَا،
والرياء لَا عُقُوبَة فِيهِ. فَتبين أَن المُرَاد الشّرك،
وَأَنه مَخْصُوص.
وَقَالَ الشَّيْخ الْفَقِيه عبد الْوَاحِد السفاقسي فِي
(شَرحه للْبُخَارِيّ) فِي قَوْله: (فَعُوقِبَ بِهِ فِي
الدُّنْيَا) يُرِيد بِهِ الْقطع فِي السّرقَة، وَالْحَد
فِي الزِّنَا. وَأما قتل الْوَلَد فَلَيْسَ لَهُ عُقُوبَة
مَعْلُومَة، إلاَّ أَن يُرِيد قتل النَّفس، فكنى بالأولاد
عَنهُ، وعَلى هَذَا إِذا قتل الْقَاتِل كَانَ كَفَّارَة
لَهُ. وَحكي عَن القَاضِي إِسْمَاعِيل وَغَيره: أَن قتل
الْقَاتِل حد وإرداع لغيره، وَأما فِي الْآخِرَة فالطلب
للمقتول قَائِم لِأَنَّهُ لم يصل إِلَيْهِ حق، وَقيل:
يبْقى لَهُ حق التشفي. قلت: وَردت أَحَادِيث تدل صَرِيحًا
أَن حق الْمَقْتُول يصل إِلَيْهِ بقتل الْقَاتِل. مِنْهَا:
مَا رَوَاهُ ابْن حبَان وَصَححهُ: (أَن السَّيْف محاء
للخطايا) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن
ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: (إِذا جَاءَ
الْقَتْل محى كل شَيْء) ، وَرُوِيَ عَن الْحسن بن عَليّ
رَضِي الله عَنْهُمَا، نَحوه. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ
الْبَزَّار عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، مَرْفُوعا:
(لَا يمر الْقَتْل بذنب إلاَّ محاه) ، وَقَوله: إِن قتل
الْقَاتِل حد وإرداع. الخ فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ لَو كَانَ
كَذَلِك لم يجز الْعَفو عَن الْقَاتِل. وَقَالَ القَاضِي
عِيَاض: ذهب أَكثر الْعلمَاء إِلَى الْحُدُود كَفَّارَة
لهَذَا الحَدِيث، وَمِنْهُم من وقف لحَدِيث أبي هُرَيْرَة
رَضِي الله عَنهُ، أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: (لَا
أَدْرِي الْحُدُود كَفَّارَة لأَهْلهَا أم لَا) لَكِن
حَدِيث عبَادَة أصح، إِسْنَادًا، وَيُمكن، يَعْنِي على
طَرِيق الْجمع بَينهمَا، أَن يكون حَدِيث أبي هُرَيْرَة
ورد أَولا قبل أَن يعلم، ثمَّ أعلمهُ الله تَعَالَى آخرا.
وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: وَاحْتج من وفْق بقوله
تَعَالَى: {ذَلِك لَهُم خزي فِي الدُّنْيَا وَلَهُم فِي
الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم} (الْمَائِدَة: 33) لَكِن من
قَالَ: إِن الْآيَة فِي الْكَفَّارَة فَلَا حجَّة فِيهَا.
وَأَيْضًا، يُمكن أَن يكون حَدِيث عبَادَة مُخَصّصا
لعُمُوم الْآيَة، أَو مُبينًا أَو مُفَسرًا لَهَا. فَإِن
قيل: حَدِيث عبَادَة هَذَا كَانَ بِمَكَّة لَيْلَة
الْعقبَة لما بَايع الْأَنْصَار رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الْبيعَة الأولى بمنى، وَأَبُو هُرَيْرَة
إِنَّمَا أسلم بعد ذَلِك بِسبع سِنِين عَام خَيْبَر، فَكيف
يكون حَدِيثه مُتَقَدما؟ قيل: يُمكن أَن يكون أَبُو
هُرَيْرَة مَا سَمعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَإِنَّمَا سَمعه من صَحَابِيّ آخر كَانَ سَمعه من
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدِيما وَلم يسمع من
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد ذَلِك: إِن
الْحُدُود كَفَّارَة، كَمَا سَمعه عبَادَة، وَقَالَ
بَعضهم: فِيهِ تعسف ويبطله أَن أَبَا هُرَيْرَة رَضِي الله
عَنهُ، صرح بِسَمَاعِهِ، وَأَن الْحُدُود لم تكن نزلت إِذْ
ذَاك، وَالْحق عِنْدِي أَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة صَحِيح،
وَهُوَ سَابق على حَدِيث عبَادَة والمبايعة الْمَذْكُورَة
فِي حَدِيث عبَادَة على الصّفة الْمَذْكُورَة، لم تقع
لَيْلَة الْعقبَة، وَإِنَّمَا نَص بيعَة الْعقبَة مَا ذكره
ابْن إِسْحَاق وَغَيره من أهل الْمَغَازِي: أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لمن حضر من الْأَنْصَار
أُبَايِعكُم على أَن تَمْنَعُونِي مِمَّا تمْنَعُونَ
مِنْهُ نساءكم وأبناءكم، فَبَايعُوهُ على ذَلِك، وعَلى أَن
يرحل إِلَيْهِم هُوَ وَأَصْحَابه، ثمَّ صدرت مبايعات
أُخْرَى: مِنْهَا هَذِه الْبيعَة، وَإِنَّمَا وَقعت بعد
فتح مَكَّة بعد أَن نزلت الْآيَة الَّتِي فِي الممتحنة،
وَهِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا جَاءَك
الْمُؤْمِنَات يبايعنك} (الممتحنة: 12) ونزول هَذِه
الْآيَة مُتَأَخّر بعد قصَّة الْحُدَيْبِيَة بِلَا خلاف،
وَالدَّلِيل على ذَلِك عِنْد البُخَارِيّ، فِي كتاب
الْحُدُود، من طَرِيق سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن
الزُّهْرِيّ فِي حَدِيث عبَادَة هَذَا: أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لما بايعهم قَرَأَ الْآيَة كلهَا،
وَعِنْده فِي تَفْسِير الممتحنة من هَذَا الْوَجْه قَالَ:
قَرَأَ آيَة النِّسَاء. وَلمُسلم من طَرِيق معمر عَن
الزُّهْرِيّ: قَالَ فَتلا علينا آيَة النِّسَاء أَن لَا
يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا، وللنسائي، من طَرِيق
الْحَارِث بن فُضَيْل عَن الزُّهْرِيّ أَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أَلا تبايعونني على مَا بَايع
عَلَيْهِ النِّسَاء: أَن لَا تُشْرِكُوا بِاللَّه شَيْئا)
؟ الحَدِيث. وللطبراني من وَجه آخر عَن الزُّهْرِيّ
بِهَذَا السَّنَد: (بَايعنَا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم على مَا بَايع عَلَيْهِ النِّسَاء يَوْم
فتح مَكَّة) ، وَلمُسلم من طَرِيق أبي الْأَشْعَث عَن
عبَادَة فِي هَذَا الحَدِيث: (أَخذ علينا رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا
(1/157)
أَخذ على النِّسَاء) ، فَهَذِهِ أَدِلَّة
صَرِيحَة فِي أَن هَذِه الْبيعَة إِنَّمَا صدرت بعد نزُول
الْآيَة، بل بعد فتح مَكَّة، وَذَلِكَ بعد إِسْلَام أبي
هُرَيْرَة وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن أبي
خَيْثَمَة، عَن أَبِيه، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن
الطفَاوِي، عَن أَيُّوب، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن
أَبِيه، عَن جده قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (أُبَايِعكُم على أَن لَا تُشْرِكُوا
بِاللَّه شَيْئا) . فَذكر مثل حَدِيث عبَادَة، وَرِجَاله
ثِقَات. وَقد قَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: إِذا صَحَّ
الْإِسْنَاد إِلَى عَمْرو بن شُعَيْب فَهُوَ كأيوب عَن
نَافِع عَن ابْن عمر انْتهى.
وَإِذا كَانَ عبد الله بن عمر وَاحِد من حضر هَذِه
الْبيعَة وَلَيْسَ هُوَ من الْأَنْصَار، وَلَا مِمَّن حضر
بيعتهم بمنى، صَحَّ تغاير البيعتين: بيعَة الْأَنْصَار
لَيْلَة الْعقبَة وَهِي قبل الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة،
وبيعة أُخْرَى وَقعت بعد فتح مَكَّة وشهدها عبد الله بن
عمر وَكَانَ إِسْلَامه بعد الْهِجْرَة، وَإِنَّمَا حصل
الالتباس من جِهَة أَن عبَادَة بن الصَّامِت حضر البيعتين
مَعًا، وَكَانَت بيعَة الْعقبَة من أجل مَا يتمدح بِهِ،
فَكَانَ يذكرهَا إِذا حدث تنويهاً بسابقته، فَلَمَّا ذكر
هَذِه الْبيعَة الَّتِي صدرت على مثل بيعَة النِّسَاء عقب
ذَلِك، توهم من لم يقف على حَقِيقَة الْحَال أَن الْبيعَة
الأولى وَقعت على ذَلِك. انْتهى كَلَامه.
قلت: فِيهِ نظر من وُجُوه. الأول: أَن قَوْله: ويبطله، أَن
أَبَا هُرَيْرَة صرح بِسَمَاعِهِ غير مُسلم من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا، أَنه يحْتَمل أَن يكون أَبُو هُرَيْرَة رَضِي
الله عَنهُ، سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بَعْدَمَا سَمعه من صَحَابِيّ آخر، فَلذَلِك صرح
بِالسَّمَاعِ، وَهَذَا غير مَمْنُوع وَلَا محَال؛
وَالْآخر: أَنه يحْتَمل أَنه صرح بِالسَّمَاعِ لتوثقه
بِالسَّمَاعِ من صَحَابِيّ آخر، فَإِن الصَّحَابَة كلهم
عدُول لَا يتَوَهَّم فيهم الْكَذِب. الثَّانِي: أَن
قَوْله: وَإِن الْحُدُود لم تكن نزلت إِذْ ذَاك، لَا يلْزم
من عدم نزُول الْحُدُود فِي تِلْكَ الْحَالة انْتِفَاء
كَون الْحُدُود كَفَّارَات فِي الْمُسْتَقْبل، غَايَة مَا
فِي الْبَاب أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر
فِي حَدِيث عبَادَة أَن من أصَاب مِمَّا يجب فِيهِ
الْحُدُود الَّتِي تنزل عَلَيْهَا بعد هَذَا، ثمَّ عُوقِبَ
بِسَبَب ذَلِك بِأَن أَخذ مِنْهُ الْحَد، فَإِن ذَلِك
الْحَد يكون كَفَّارَة لَهُ، وَلَا شكّ أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعلم قبل نزُول الْحُدُود أَن
حَال أمته لَا تستقيم إلاَّ بالحدود، فَأخْبر فِي حَدِيث
عبَادَة بِنَاء على مَا كَانَ على مَا كَانَ علمه قبل
الْوُقُوع. الثَّالِث: أَن قَوْله: وَالْحق عِنْدِي أَن
حَدِيث أبي هُرَيْرَة صَحِيح، غير مُسلم، لِأَن الحَدِيث
أخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَالْبَزَّار فِي
(مُسْنده) من رِوَايَة معمر عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن سعيد
المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح
على شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَقد علم مساهلة الْحَاكِم فِي
بَاب التَّصْحِيح، على أَن الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ: إِن
عبد الرَّزَّاق تفرد بوصله، وَإِن هِشَام بن يُوسُف
رَوَاهُ عَن معمر فَأرْسلهُ، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك
فَمَتَى يُسَاوِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة حَدِيث عبَادَة بن
الصَّامِت حَتَّى يَقع بَينهمَا تعَارض فَيحْتَاج إِلَى
الْجمع والتوفيق؟ فَإِن قلت: قد وَصله آدم بن أبي إِيَاس،
عَن ابْن أبي ذِئْب أخرجه الْحَاكِم أَيْضا. قلت: وَلَو
وَصله، هُوَ أَو غَيره، فَإِن قطع غَيره مِمَّا يُورث عدم
التَّسَاوِي بِحَدِيث عبَادَة، وَصِحَّة حَدِيث عبَادَة
مُتَّفق عَلَيْهَا بِخِلَاف حَدِيث أبي هُرَيْرَة على مَا
نَص عَلَيْهِ القَاضِي عِيَاض وَغَيره، فَلَا تَسَاوِي،
فَلَا تعَارض، فَلَا احْتِيَاج إِلَى التَّكَلُّف
بِالْجمعِ والتوفيق. الرَّابِع: أَن قَوْله: والمبايعة
الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث عبَادَة على الصّفة
الْمَذْكُورَة لم تقع لَيْلَة الْعقبَة، غير مُسلم، لِأَن
القَاضِي عِيَاض وَجَمَاعَة من الْأَئِمَّة الأجلاء قد
جزموا بِأَن حَدِيث عبَادَة هَذَا كَانَ بِمَكَّة لَيْلَة
الْعقبَة لما بَايع الْأَنْصَار رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الْبيعَة الأولى بمنى.
وَنُقِيم بِصِحَّة مَا قَالُوا دَلَائِل. مِنْهَا: أَنه
ذكر فِي هَذَا الحَدِيث: (وَحَوله عِصَابَة) . وفسروا أَن
الْعِصَابَة هم النُّقَبَاء الأثني عشر، وَلم يكن غَيرهم
هُنَاكَ، وَالدَّلِيل على صِحَة هَذَا مَا فِي رِوَايَة
النَّسَائِيّ فِي حَدِيث عبَادَة هَذَا: (قَالَ: بَايَعت
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْعقبَة فِي
رَهْط) ، الحَدِيث: وَقد قَالَ أهل اللُّغَة: إِن
الرَّهْط: مَا دون الْعشْرَة من الرِّجَال لَا يكون فيهم
امْرَأَة. قَالَ الله تَعَالَى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَة
تِسْعَة رَهْط} (النَّمْل: 48) قَالَ ابْن دُرَيْد رُبمَا
جَاوز ذَلِك قَلِيلا، قَالَه فِي (الْعباب) والقليل ضد
الْكثير، وَأَقل الْكثير ثَلَاثَة، وَأكْثر الْقَلِيل
اثْنَان، فَإِذا أضفنا الْإِثْنَيْنِ إِلَى التِّسْعَة
يكون أحد عشر، وَكَانَ المُرَاد من الرَّهْط هُنَا أحد عشر
نَقِيبًا، وَمَعَ عبَادَة يكونُونَ اثْنَي عشر نَقِيبًا،
فَإِذا ثَبت هَذَا فقد دلّ قطعا أَن هَذِه الْمُبَايعَة
كَانَت بِمَكَّة لَيْلَة الْعقبَة الْبيعَة الأولى، لِأَن
الْبيعَة الَّتِي وَقعت بعد فتح مَكَّة على زعم هَذَا
الْقَائِل كَانَ فِيهَا الرِّجَال وَالنِّسَاء وَكَانُوا
بعد كثير. وَالثَّانِي: أَن قَوْله لَيْلَة الْعقبَة
دَلِيل على أَن هَذِه الْبيعَة كَانَت هِيَ الأولى،
لِأَنَّهُ لم يذكر فِي بَقِيَّة الْأَحَادِيث لَيْلَة
الْعقبَة، وَإِنَّمَا ذكر فِي حَدِيث الطَّبَرَانِيّ يَوْم
فتح مَكَّة، وَلَا يلْزم
(1/158)
من كَون الْبيعَة يَوْم فتح مَكَّة أَن
تكون الْبيعَة الْمَذْكُورَة هِيَ إِيَّاهَا غَايَة
الْأَمر أَن عبَادَة قد أخبر أَنه وَقعت بيعَة أُخْرَى
يَوْم فتح مَكَّة، وَكَانَ هُوَ فِيمَن بَايعُوهُ عَلَيْهِ
السَّلَام. وَالثَّالِث: أَن مَا وَقع فِي الصَّحِيحَيْنِ
من طَرِيق الصنَابحِي عَن عبَادَة، رَضِي الله عَنهُ،
قَالَ: (إِنِّي من النُّقَبَاء الَّذين بَايعُوا رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ: بَايَعْنَاهُ على
أَن لَا نشْرك بِاللَّه شَيْئا) . الحَدِيث يدل على أَن
الْمُبَايعَة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث الْمَذْكُور
كَانَت لَيْلَة الْعقبَة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أخبر فِيهِ
أَنه كَانَ من النُّقَبَاء الَّذين بَايعُوا رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْعقبَة، وَأخْبر أَنهم
بَايعُوهُ، وَلم يثبت لنا أَن أحدا بَايعه عَلَيْهِ
السَّلَام، قبلهم، فَدلَّ على أَن بيعتهم أول المبايعات،
وَأَن الحَدِيث الْمَذْكُور كَانَ لَيْلَة الْعقبَة. وَأما
احتجاج هَذَا الْقَائِل فِي دَعْوَاهُ بِمَا وَقع فِي
الْأَحَادِيث الَّتِي ذكرهَا من قِرَاءَة النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْآيَاتِ الْمَذْكُورَة على مَا
ذكره فَلَا يتم لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن عبَادَة لما حضر
البيعات مَعَ النَّبِي زسمع مِنْهُ قِرَاءَة الْآيَات
الْمَذْكُورَة فِي البيعات الَّتِي وَقعت بعد
الْحُدَيْبِيَة أَو بعد فتح مَكَّة، ذكرهَا فِي حَدِيثه،
بِخِلَاف حَدِيث الْبيعَة الأولى فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ
قِرَاءَة شَيْء من الْآيَات. وَتمسك هَذَا الْقَائِل
أَيْضا بِمَا زَاد فِي رِوَايَة الصنَابحِي فِي الحَدِيث
الْمَذْكُور، وَلَا ننتهب على أَن هَذِه الْبيعَة
مُتَأَخِّرَة، لِأَن الْجِهَاد عِنْد بيعَة الْعقبَة لم
يكن فرضا، وَالْمرَاد بالانتهاب: مَا يَقع بعد الْقِتَال
فِي الْمَغَانِم، وَهَذَا اسْتِدْلَال فَاسد، لِأَن
الانتهاب أَعم من أَن يكون فِي الْمَغَانِم وَغَيرهَا،
وتخصيصه بالمغانم تحكم ومخالف للغة.
(استنباط الْأَحْكَام) : وَهُوَ على وُجُوه. الأول: أَن
آخر الحَدِيث يدل على أَن الله لَا يجب عَلَيْهِ عِقَاب
عاصٍ، وَإِذا لم يجب عَلَيْهِ هَذَا لَا يجب عَلَيْهِ
ثَوَاب مُطِيع أصلا، إِذْ لَا قَائِل بِالْفَصْلِ.
الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: (فَهُوَ إِلَى الله) أَي:
حكمه من الْأجر وَالْعِقَاب مفوض إِلَى الله تَعَالَى،
وَهَذَا يدل على أَن من مَاتَ من أهل الْكَبَائِر قبل
التَّوْبَة، إِن شَاءَ الله عَفا عَنهُ وَأدْخلهُ الْجنَّة
أول مرّة، وَإِن شَاءَ عذبه فِي النَّار ثمَّ يدْخلهُ
الْجنَّة وَهَذَا مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة،
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: صَاحب الْكَبِيرَة إِذا مَاتَ
بِغَيْر التَّوْبَة لَا يُعْفَى عَنهُ فيخلد فِي النَّار،
وَهَذَا الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم، لأَنهم يوجبون الْعقَاب
على الْكَبَائِر قبل التَّوْبَة وَبعدهَا الْعَفو عَنْهَا.
الثَّالِث: قَالَ الْمَازرِيّ: فِيهِ رد على الْخَوَارِج
الَّذين يكفرون بِالذنُوبِ. الرَّابِع: قَالَ
الطَّيِّبِيّ: فِيهِ إِشَارَة إِلَى الْكَفّ عَن
الشَّهَادَة بالنَّار على أحد وبالجنة لأحد إلاَّ من ورد
النَّص فِيهِ بِعَيْنِه. الْخَامِس: فِيهِ أَن الْحُدُود
كَفَّارَات، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ من الصَّحَابَة
غير وَاحِد مِنْهُم: عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ،
أخرج حَدِيثه التِّرْمِذِيّ، وَصَححهُ الْحَاكِم وَفِيه:
(وَمن أصَاب ذَنبا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَالله
أكْرم أَن يثني بالعقوبة على عَبده فِي الْآخِرَة) ،
وَمِنْهُم: أَبُو تَمِيمَة الْجُهَنِيّ أخرج حَدِيثه
الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد حسن بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور،
وَمِنْهُم: خُزَيْمَة بن ثَابت، أخرج حَدِيثه أَحْمد
بِإِسْنَاد حسن وَلَفظه: (من أصَاب ذَنبا أقيم الْحَد على
ذَلِك الذَّنب فَهُوَ كَفَّارَته) . وَمِنْهُم: ابْن عمر،
أخرج حَدِيثه الطَّبَرَانِيّ مَرْفُوعا: (مَا عُوقِبَ رجل
على ذَنْب إِلَّا جعله الله كَفَّارَة لما أصَاب من ذَلِك
الذَّنب) .
(الأسئلة والأجوبة) : مِنْهَا مَا قيل: قتل غير
الْأَوْلَاد أَيْضا مَنْهِيّ إِذا كَانَ بِغَيْر حق،
فتخصيصه بِالذكر يشْعر بِأَن غَيره لَيْسَ مَنْهِيّا.
وَأجِيب: بِأَن هَذَا مَفْهُوم اللقب وَهُوَ مَرْدُود على
أَنه لَو كَانَ من بَاب المفهومات الْمُعْتَبرَة المقبولة
فَلَا حكم لَهُ هَهُنَا، لِأَن اعْتِبَار جَمِيع المفاهيم،
إِنَّمَا هُوَ إِذا لم يكن خرج مخرج الْأَغْلَب، وَهَهُنَا
هُوَ كَذَلِك، لأَنهم كَانُوا يقتلُون الْأَوْلَاد غَالِبا
خشيَة الإملاق، فخصص الْأَوْلَاد بِالذكر لِأَن الْغَالِب
كَانَ كَذَلِك. قَالَ التَّيْمِيّ: خص الْقَتْل بالأولاد
لمعنيين: أَحدهمَا: أَن قَتلهمْ هُوَ أكبر من قتل غَيرهم،
وَهُوَ الوأد، وَهُوَ أشنع الْقَتْل. وَثَانِيهمَا: أَنه
قتل وَقَطِيعَة رحم، فصرف الْعِنَايَة إِلَيْهِ أَكثر.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَا معنى الإطناب فِي قَوْله: وَلَا
تَأْتُوا بِبُهْتَان تفترونه بَين أَيْدِيكُم وأرجلكم،
حَيْثُ قيل: تَأْتُوا وَوصف الْبُهْتَان بالافتراء،
والافتراء والبهتان من وَاد واحدٍ وَزيد عَلَيْهِ: بَين
أَيْدِيكُم وأرجلكم، وهلا اقْتصر على: وَلَا تبهتوا
النَّاس؟ وَأجِيب: بِأَن مَعْنَاهُ مزِيد التَّقْرِير
وتصوير بشاعة هَذَا الْفِعْل. وَمِنْهَا مَا قيل: فَمَا
معنى إِضَافَته إِلَى الْأَيْدِي والأرجل؟ وَأجِيب: بِأَن
مَعْنَاهُ: وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَان من قبل أَنفسكُم،
وَالْيَد وَالرجل كنايتان عَن الذَّات، لِأَن مُعظم
الْأَفْعَال يَقع بهما، وَقد يُعَاقب الرجل بِجِنَايَة
قولية فَيُقَال لَهُ: هَذَا بِمَا كسبت يداك، أَو
مَعْنَاهُ: وَلَا تغشوه من ضمائركم، لِأَن المفتري إِذا
أَرَادَ اخْتِلَاق قَول فَإِنَّهُ يقدره ويقرره أَولا فِي
ضَمِيره، ومنشأ ذَلِك مَا بَين الْأَيْدِي والأرجل من
الْإِنْسَان
(1/159)
وَهُوَ الْقلب، وَالْأول: كِنَايَة عَن
إِلْقَاء الْبُهْتَان من تِلْقَاء أنفسهم، وَالثَّانِي:
عَن إنْشَاء الْبُهْتَان من دخيلة قُلُوبهم مَبْنِيا على
الْغِشّ المبطن. وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ: لَا
تبهتوا النَّاس بالمعايب كفاحاً مُوَاجهَة، وَهَذَا كَمَا
يَقُول الرجل: فعلت هَذَا بَين يَديك، أَي: بحضرتك.
وَقَالَ التَّيْمِيّ: هَذَا غير صَوَاب من حَيْثُ إِن
الْعَرَب، وَإِن قَالَت: فعلته بَين أَيدي الْقَوْم، أَي:
بحضرتهم لم تقل: فعلته بَين أَرجُلهم، وَلم ينْقل عَنْهُم
هَذَا أَلْبَتَّة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ صَوَاب،
إِذْ لَيْسَ الْمَذْكُور الأرجل فَقَط، بل المُرَاد
الْأَيْدِي، وَذكر الأرجل تَأْكِيدًا لَهُ وتابعاً لذَلِك،
فالمخطىء مخطىء وَيُقَال: يحْتَمل أَن يُرَاد بِمَا بَين
الْأَيْدِي والأرجل الْقلب، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يترجم
اللِّسَان عَنهُ، فَلذَلِك نسب إِلَيْهِ الافتراء،، فَإِن
الْمَعْنى: لَا ترموا أحدا بكذب تزوِّرونه فِي أَنفسكُم
ثمَّ تبهتون صَاحبكُم بألسنتكم. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن
أبي جَمْرَة: يحْتَمل أَن يكون قَوْله: بَين أَيْدِيكُم،
أَي: فِي الْحَال، قَوْله: وأرجلكم أَي: فِي
الْمُسْتَقْبل، لِأَن السَّعْي من أَفعَال الأرجل. وَقَالَ
غَيره: أصل هَذَا كَانَ فِي بيعَة النِّسَاء، وكنى بذلك
كَمَا قَالَ الْهَرَوِيّ فِي (الغريبين) عَن نِسْبَة
الْمَرْأَة الْوَلَد الَّذِي تَزني بِهِ أَو تلتقطه إِلَى
زَوجهَا، ثمَّ لما اسْتعْمل هَذَا اللَّفْظ فِي بيعَة
الرِّجَال احْتِيجَ إِلَى حمله على غير مَا ورد فِيهِ
أَولا. قلت: وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة لمُسلم: وَلَا نقْتل
أَوْلَادنَا، وَلَا يعضه بَعْضنَا بَعْضًا، أَي: لَا يسخر.
وَقيل: لَا يَأْتِي بِبُهْتَان، يُقَال: عضهت الرجل رميته
بالعضيهة؛ قَالَ الْجَوْهَرِي: العضيهة البهيتة، وَهُوَ
الْإِفْك والبهتان، تَقول يَا للعضيهة. بِكَسْر اللَّام،
وَهِي استغاثة، وَأَصله من: عضهه عضهاً بِالْفَتْح،
وَقَالَ الْكسَائي: العضه الْكَذِب، وَجَمعهَا عضون، مثل:
عزة وعزون، وَيُقَال نقصانه الْهَاء وَأَصله عضهة.
وَمِنْهَا مَا قيل: لم قيد قَوْله: (وَلَا تعصوا) ، بقوله:
(فِي مَعْرُوف) ؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ قَيده بذلك تطييباً
لنفوسهم، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام، لَا يَأْمر إلاَّ
بِالْمَعْرُوفِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل فِي معنى
الحَدِيث: وَلما تعصوني، وَلَا أجد عَلَيْكُم أولى من
اتباعي إِذا أَمرتكُم بِالْمَعْرُوفِ، فَيكون التَّقْيِيد
بِالْمَعْرُوفِ عَائِدًا إِلَى الِاتِّبَاع، وَلِهَذَا
قَالَ: لَا تعصوا وَلم يقل وَلَا تعصوني. قلت: فِي
رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ، فِي بَاب وُفُود الْأَنْصَار:
وَلَا تعصوني، فحينئذٍ الْأَحْسَن هُوَ الْجَواب الأول.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فِي آيَة المبايعات: فَإِن قلت:
لَو اقْتصر على قَوْله: لَا يَعْصِينَك، فقد علم أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا يَأْمر إلاَّ
بِالْمَعْرُوفِ. قلت: نبه بذلك على أَن طَاعَة الْمَخْلُوق
فِي مَعْصِيّة الْخَالِق جديرة بغاية التوقي والاجتناب.
وَمِنْهَا مَا قيل: قد ذكر فِي الاعتقاديات والعمليات
كلتيهما، فلِمَ اكْتفى فِي الاعتقاديات بِالتَّوْحِيدِ؟
وَأجِيب: بِأَنَّهُ هُوَ الأَصْل والأساس. وَمِنْهَا مَا
قيل: فلِمَ مَا ذكر الْإِتْيَان بالواجبات وَاقْتصر على
ترك المنهيات؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لم يقْتَصر حَيْثُ
قَالَ: وَلَا تعصوا فِي مَعْرُوف، إِذْ الْعِصْيَان
مُخَالفَة الْأَمر، أَو اقْتصر لِأَن هَذِه الْمُبَايعَة
كَانَت فِي أَوَائِل الْبعْثَة وَلم تشرع الْأَفْعَال بعد.
وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ قدم ترك المنهيات على فعل
المأمورات؟ وَأجِيب: بِأَن التخلي عَن الرذائل مقدم على
التحلي بالفضائل. وَمِنْهَا مَا قيل: فلِمَ ترك سَائِر
المنهيات وَلم يقل مثلا {وَلَا تقربُوا مَال الْيَتِيم}
(الْأَنْعَام: 152، والإسراء: 34) وَغير ذَلِك؟ وَأجِيب:
بِأَنَّهُ لم يكن فِي ذَلِك الْوَقْت حرَام آخر، أَو
اكْتفى بِالْبَعْضِ ليقاس الْبَاقِي عَلَيْهِ، أَو
لزِيَادَة الاهتمام بالمذكورات. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن
قَوْله: (فَأَجره على الله) يشْعر بِالْوُجُوب على الله
لكلمة: على وَأجِيب: بِأَن هَذَا وَارِد على سَبِيل
التفخيم نَحْو قَوْله تَعَالَى: {فقد وَقع أجره على الله}
(النِّسَاء: 100) وَيتَعَيَّن حمله على غير ظَاهره للأدلة
القاطعة على أَنه لَا يجب على الله شَيْء. وَمِنْهَا مَا
قيل: لفظ الْأجر مشْعر بِأَن الثَّوَاب إِنَّمَا هُوَ
مُسْتَحقّ كَمَا هُوَ مَذْهَب الْمُعْتَزلَة لَا مُجَرّد
فضل كَمَا هُوَ مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة،
وَأجِيب: بِأَنَّهُ إِنَّمَا أطلق الْأجر لِأَنَّهُ مشابه
لِلْأجرِ، صُورَة لترتبه عَلَيْهِ.
12 - (بَاب مِنَ الدِّينِ الفِرَارُ مِنَ الفِتَنِ)
أَي: هَذَا بَاب، وَلَا يجوز فِيهِ الْإِضَافَة. وَجه
الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن معنى
الْبَاب الأول مُتَضَمّن معنى هَذَا الْبَاب، وَذَلِكَ
لِأَن النُّقَبَاء من الْأَنْصَار، والانصار كلهم خيروا
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبذلوا أَرْوَاحهم
وَأَمْوَالهمْ فِي محبته فِرَارًا بدينهم من فتن الْكفْر
والضلال، وَكَذَلِكَ هَذَا الْبَاب يبين فِيهِ ترك
الْمُسلم الِاخْتِلَاط بِالنَّاسِ ومعاشرتهم، واختياره
الْعُزْلَة والانقطاع فِرَارًا بِدِينِهِ من فتن النَّاس
والاختلاط بهم. فَإِن قلت: لِمَ لَمْ يقل: بَاب من
الْإِيمَان الْفِرَار من الْفِتَن، كَمَا ذكر هَكَذَا فِي
أَكثر الْأَبْوَاب الْمَاضِيَة والأبواب الْآتِيَة،
وَأَيْضًا عقد الْكتاب فِي الْإِيمَان؟ قلت: إِنَّمَا
قَالَ ذَلِك ليطابق التَّرْجَمَة الحَدِيث الَّذِي يذكرهُ
فِي
(1/160)
الْبَاب، فَإِن الْمَذْكُور فِيهِ
الْفِرَار بِالدّينِ من الْفِتَن، وَلَا يحْتَاج أَن
يُقَال: لما كَانَ الْإِيمَان وَالْإِسْلَام مترادفين
عِنْده. وَقَالَ الله تَعَالَى: {إِن الدّين عِنْد الله
الْإِسْلَام} (آل عمرَان: 19) أطلق الدّين فِي مَوضِع
الْإِيمَان. فَإِن قلت: قَالَ النَّوَوِيّ: فِي
الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة نظر،
لِأَنَّهُ لَا يلْزم من لفظ الحَدِيث عد الْفِرَار دينا،
وَإِنَّمَا هُوَ صِيَانة للدّين، قلت: لم يرد بِكَلَامِهِ
الْحَقِيقَة، لِأَن الْفِرَار لَيْسَ بدين، وَإِنَّمَا
المُرَاد أَن الْفِرَار للخوف على دينه من الْفِتَن
شُعْبَة من شعب الدّين، وَلِهَذَا ذكره: بِمن، التبعيضية،
وَتَقْدِير الْكَلَام: بَاب الْفِرَار من الْفِتَن شُعْبَة
من شعب الدّين.
19 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بنِ أبي صَعْصَعَةَ عنْ أبِيهِ عَن أبِي
سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أنَّهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يُوشِكُ أَن يَكُونَ خَيْرَ مالِ
المُسِلِم غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبالِ
ومَوَاقِعَ القَطْرِ يَفِرُّ بدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ.
الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة ظَاهِرَة على مَا
ذكرنَا.
(بَيَان رِجَاله) : وهم خَمْسَة. الأول: عبد الله بن
مسلمة، بِفَتْح الْمِيم وَاللَّام وَسُكُون السِّين
الْمُهْملَة، ابْن قعنب أَبُو عبد الرَّحْمَن الْحَارِثِيّ
الْبَصْرِيّ، وَكَانَ مجاب الدعْوَة، روى عَن: مَالك
وَاللَّيْث بن سعد ومخرمة بن بكير وَابْن أبي ذِئْب، وَسمع
من أَحَادِيث شُعْبَة حَدِيثا وَاحِدًا اتّفق على توثيقه
وجلالته، وَأَنه حجَّة ثَبت رجل صَالح، وَقيل لمَالِك: إِن
عبد الله قدم، فَقَالَ: قومُوا بِنَا إِلَى خير أهل
الأَرْض. روى عَنهُ: البُخَارِيّ وَمُسلم وأكثرا، وروى
التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ، وروى مُسلم
عَن عبد بن حميد عَنهُ حَدِيثا وَاحِدًا فِي الْأَطْعِمَة،
مَاتَ سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ بِمَكَّة.
الثَّانِي: مَالك بن أنس إِمَام دَار الْهِجْرَة.
الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن
بن أبي صعصعة، واسْمه عَمْرو بن زيد بن عَوْف بن منذول بن
عَمْرو بن غنم بن مَازِن بن النجار بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو
بن الْخَزْرَج الْأنْصَارِيّ الْمَازِني الْمدنِي، ذكره
ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) مَاتَ سنة تسع وَثَلَاثِينَ
وَمِائَة، روى لَهُ البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن
مَاجَه. وَقَالَ الْخَطِيب فِي كِتَابه (رَافع الارتياب) :
إِن الصَّوَاب عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أبي صعصعة،
قَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: وَوهم ابْن عُيَيْنَة حَيْثُ
قَالَ: عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة. وَقَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ: لِمَ يخْتَلف على مَالك فِي اسْمه؟ قلت:
فِي (الثِّقَات) لِابْنِ حبَان خالفهم مَالك، فَقَالَ: عبد
الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة. الرَّابِع: أَبوهُ
عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الْأنْصَارِيّ، وَثَّقَهُ
النَّسَائِيّ وَابْن حبَان، وروى لَهُ البُخَارِيّ وَأَبُو
دَاوُد، وَكَانَ جده شهد أحدا وَقتل يَوْم الْيَمَامَة
شَهِيدا مَعَ خَالِد بن الْوَلِيد رَضِي الله عَنهُ،
وَأَبوهُ عَمْرو مَاتَ فِي الْجَاهِلِيَّة، قَتله بردع بن
زيد بن عَامر بن سَواد بن ظفر من الْأَوْس، ثمَّ أسلم بردع
وَشهد أحدا. الْخَامِس: أَبُو سعيد سعد بن مَالك بن سِنَان
بن عبيد، وَقيل: عبد بن ثَعْلَبَة بن عبيد بن الأبجر،
وَهُوَ خدرة بن عَوْف بن الْحَارِث بن الْخَزْرَج
الْأنْصَارِيّ، وَزعم بَعضهم أَن خدرة هِيَ أم الأبجر،
استصغر يَوْم أحد فرُدَّ، وغزا بعد ذَلِك اثْنَتَيْ عشرَة
غَزْوَة مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَاسْتشْهدَ أَبوهُ يَوْم أحد، رُوِيَ لَهُ ألف حَدِيث
وَمِائَة وَسَبْعُونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على سِتَّة
وَأَرْبَعين، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِسِتَّة عشر،
وَمُسلم بِاثْنَتَيْنِ وَخمسين. روى عَن جمَاعَة من
الصَّحَابَة، مِنْهُم: الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة ووالده
مَالك وَأَخُوهُ لأمه، قَتَادَة بن النُّعْمَان، وروى
عَنهُ جمَاعَة من الصَّحَابَة. مِنْهُم: ابْن عمر وَابْن
عَبَّاس وَخلق من التَّابِعين، توفّي بِالْمَدِينَةِ سنة
أَربع وَسِتِّينَ، وَقيل: أَربع وَسبعين. روى لَهُ
الْجَمَاعَة، وَاعْلَم أَن مِنْهُم من قَالَ: إِن اسْم أبي
سعيد هَذَا: سِنَان بن مَالك بن سِنَان، وَالأَصَح مَا
ذَكرْنَاهُ انه: سعد بن مَالك بن سِنَان، وَفِي
الصَّحَابَة أَيْضا: سعد بن أبي وَقاص مَالك وَسعد بن
مَالك العذري قدم فِي وَفد عذرة.
(بَيَان الْأَنْسَاب) القعْنبِي: هُوَ عبد الله بن مسلمة،
شيخ البُخَارِيّ، ونسبته إِلَى جده قعنب، والقعنب، فِي
اللُّغَة: الشَّديد، وَمِنْه يُقَال للأسد، القعنب،
وَيُقَال: القعنب: الثَّعْلَب الذّكر. والمازن فِي قبائل،
فَفِي قيس بن غيلَان: مَازِن بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن
حَفْصَة بن قيس بن غيلَان، وَفِي قيس بن غيلَان أَيْضا:
مَازِن بن صعصعة. وَفِي فَزَارَة: مَازِن بن فَزَارَة،
وَفِي ضبة: مَازِن بن كَعْب، وَفِي مذْحج: مَازِن بن
ربيعَة، وَفِي الْأَنْصَار: مَازِن بن النجار بن ثَعْلَبَة
بن عَمْرو بن الْخَزْرَج، وَفِي تَمِيم: مَازِن بن مَالك،
وَفِي شَيبَان بن ذهل: مَازِن بن شَيبَان، وَفِي هُذَيْل:
مَازِن بن مُعَاوِيَة، وَفِي الأزد: مَازِن بن الأزد.
والخدري، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة
(1/161)
وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة، نِسْبَة
إِلَى خدرة: أحد أجداد أبي سعيد، وَقَالَ ابْن حبَان فِي
(ثقاته) فِي تَرْجَمَة أبي سعيد: إِن خدرة من الْيمن،
وَمرَاده أَن الْأَنْصَار من الْيمن فهم بطن من
الْأَنْصَار، وهم نفر قَلِيل بِالْمَدِينَةِ، وَقَالَ
أَبُو عمر: خدرة وخدارة بطْنَان من الْأَنْصَار، فَأَبُو
مَسْعُود الْأنْصَارِيّ من خدارة، وَأَبُو سعيد من خدرة،
وهما إبنا عَوْف بن الْحَارِث كَمَا تقدم، وَضبط أَبُو
عمر: خدارة بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَهُوَ خلاف مَا
قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ من كَونه بِالْجِيم
الْمَكْسُورَة، وَصَوَّبَهُ الرّشاطي، وَكَذَا نَص
عَلَيْهِ العسكري فِي الصَّحَابَة، والحافظ أَبُو الْحسن
الْمَقْدِسِي. وَاعْلَم أَن الْخُدْرِيّ، بِالضَّمِّ،
يشْتَبه بالخدري، بِالْكَسْرِ، نِسْبَة إِلَى: خدرة، بطن
من ذهل بن شَيبَان، وبالخدري، بِفَتْح الْخَاء وَالدَّال،
وَهُوَ مُحَمَّد بن حسن مُتَأَخّر، روى عَن أبي حَاتِم،
وبالجدري بِفَتْح الْجِيم وَالدَّال، وَهُوَ عُمَيْر بن
سَالم، وبكسر الْجِيم وَسُكُون الدَّال: الجدري، نِسْبَة
إِلَى جدرة بطن من كَعْب.
(بَيَان لطائف الْإِسْنَاد) : مِنْهَا: أَن هَذَا الاسناد
كُله مدنيون، وَمِنْهَا: أَن فِيهِ فَرد تحديث وَالْبَاقِي
عنعنة، وَمِنْهَا: أَن فِيهِ صَحَابِيّ ابْن صَحَابِيّ.
(بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) : هَذَا من
أَفْرَاد البُخَارِيّ عَن مُسلم، وَرَوَاهُ هَهُنَا عَن
القعْنبِي، وَفِي الْفِتَن عَن ابْن يُوسُف، وَفِي
إِسْنَاد الْكتاب عَن إِسْمَاعِيل ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك
بِهِ، وَفِي الرقَاق وعلامات النُّبُوَّة عَن أبي نعيم عَن
الْمَاجشون عَن عبد الرَّحْمَن بِهِ، وَهُوَ من أَحَادِيث
مَالك فِي الْمُوَطَّأ، وَزعم الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي
(مستخرجه) أَن إِسْحَاق بن مُوسَى الْأنْصَارِيّ رَوَاهُ
عَن معن عَن مَالك، فَجعله من قَول أبي سعيد لم
يُجَاوِزهُ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: أسْندهُ ابْن وهب
التنيسِي، وسُويد وَغَيرهم والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ أَيْضا.
(بَيَان اللُّغَات) قَوْله: (يُوشك) ، بِضَم الْيَاء وَكسر
الشين الْمُعْجَمَة. أَي: يقرب، وَيُقَال فِي ماضيه: أوشك،
وَمن أنكر اسْتِعْمَاله مَاضِيا فقد غلط، فقد كثر
اسْتِعْمَاله. قَالَ الْجَوْهَرِي: أوشك فلَان يُوشك:
إيشاكاً أَي: أسْرع، قَالَ جرير:
(إِذا جهل اللَّئِيم وَلم يقدر ... لبَعض الْأَمر أوشك أَن
يصابا)
قَالَ: والعامة تَقول: يُوشك، بِفَتْح الشين، وَهِي لُغَة
رَدِيئَة. وَقَالَ ابْن السّكيت: واشك يواشك وشاكاً. مثل:
أوشك، وَيُقَال: إِنَّه مواشك أَي: مسارع. وَفِي (الْعباب)
قَوْلهم: وَشك ذَا خُرُوجًا بِالضَّمِّ يُوشك أَي: يسْرع،
وَقَالَ ابْن دُرَيْد: الوشك السرعة، وَيُقَال: الوشك
والوشك، وَدفع الْأَصْمَعِي الوشك يَعْنِي: بِالْكَسْرِ،
وَقَالَ الْكسَائي: عجبت من وشكان ذَلِك الْأَمر، وَمن
وشكانه أَي: من سرعته، وَفِي الْمثل: وشكان مَاذَا إذابةً
وحقناً أَي: مَا أسْرع مَا أذيب هَذَا السّمن وحقن، وَنصب
إذابة، وحقناً على الْحَال، وَإِن كَانَا مصدرين كَمَا
يُقَال: سرع ذَا مذاباً ومحقوناً، وَيجوز أَن يحمل على
التَّمْيِيز، كَمَا يُقَال: حسن زيد وَجها يضْرب فِي سرعَة
وُقُوع الْأَمر، وَلمن يخبر بالشَّيْء قبل أَوَانه،
وَيُقَال: وشكان ذَا إهالة. فَإِن قلت: هَل يسْتَعْمل اسْم
الْفَاعِل؟ قلت: نعم، وَلكنه نَادِر، قَالَ كثير بن عبد
الرَّحْمَن:
(فَإنَّك موشك أَن لَا ترَاهَا ... وتغدو دون غاضرة
العوادي)
وغاضرة، بالمعجمتين، اسْم جَارِيَة أم الْبَنِينَ بنت عبد
الْعَزِيز بن مَرْوَان، أُخْت عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي
الله عَنهُ، والعوادي: عوائق الدَّهْر وموانعه. قَوْله:
(غنم) الْغنم اسْم مؤنث مَوْضُوع للْجِنْس، يَقع على
الذُّكُور وَالْإِنَاث جَمِيعًا، وعَلى الذُّكُور وحدهم
وعَلى الأناث وَحدهَا. فَإِذا صغرتها الحقتها الْهَاء،
فَقلت: غنيمَة، لِأَن أَسمَاء الجموع الَّتِي لَا وَاحِد
لَهَا من لَفظهَا إِذا كَانَت لغير الْآدَمِيّين، فالتأنيث
لَازم لَهَا، وَيُقَال: لَهَا خمس من الْغنم ذُكُور، فيؤنث
الْعدَد لِأَن الْعدَد يجْرِي على تذكيره وتأنيثه على
اللَّفْظ لَا على الْمَعْنى، قَوْله: (يتبع) بتَشْديد
التَّاء وتخفيفها، فَالْأول: من بَاب الافتعال من: اتبع
اتبَاعا، وَالثَّانِي: من تبع بِكَسْر الْبَاء يتبع
بِفَتْحِهَا تبعا بِفتْحَتَيْنِ وتباعة بِالْفَتْح،
يُقَال: تبِعت الْقَوْم إِذا مَشى خَلفهم، أَو مروا بِهِ
فَمضى مَعَهم، قَوْله: (شعف الْجبَال) بشين مُعْجمَة
مَفْتُوحَة وَعين مُهْملَة مَفْتُوحَة، جمع: شعفة،
بِالتَّحْرِيكِ، رَأس الْجَبَل، وَيجمع أَيْضا على شعوف
وشعاف وشعفات قَالَه فِي (الْعباب) . وَفِي (الموعب) عَن
الْأَصْمَعِي: إِن الشعاف بِالْكَسْرِ، وَعَن ابْن
قُتَيْبَة شعفة كل شي أَعْلَاهُ. قَوْله: (ومواقع الْقطر)
أَي: الْمَطَر، والمواقع جمع موقع بِكَسْر الْقَاف، وَهُوَ
مَوضِع نزُول الْمَطَر. قَوْله: (يفر) من فر يفر فِرَارًا
ومفراً، إِذا
(1/162)
هرب، والمفر بِكَسْر الْفَاء مَوضِع
الْفِرَار، والفتن جمع فتْنَة، وأصل الْفِتْنَة الاختبار،
يُقَال: فتنت الْفضة على النَّار، إِذا خلصتها، ثمَّ
اسْتعْملت فِيمَا أخرجه الاختبار للمكروه، ثمَّ كثر
اسْتِعْمَاله فِي أَبْوَاب الْمَكْرُوه، فجَاء مرّة
بِمَعْنى الْكفْر، كَقَوْلِه تَعَالَى: {والفتنة أكبر من
الْقَتْل} (الْبَقَرَة: 217) وَيَجِيء للإثم، كَقَوْلِه
تَعَالَى: {أَلا فِي الْفِتْنَة سقطوا} (التَّوْبَة: 49)
وَيكون بِمَعْنى الإحراق، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِن
الَّذين فتنُوا الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} (البروج:
10) أَي: حرقوهم، وَيَجِيء بِمَعْنى الصّرْف عَن الشَّيْء،
كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَك}
(الْإِسْرَاء: 73) .
(بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله: (يُوشك) من أَفعَال المقاربة
عِنْد النُّحَاة وضع لدنو الْخَبَر أخذا فِيهِ، وَهُوَ
مثل: كَاد وَعَسَى فِي الِاسْتِعْمَال، فَيجوز: أوشك زيد
يَجِيء، وَأَن يَجِيء، وأوشك أَن يَجِيء زيد على الْأَوْجه
الثَّلَاثَة، وَخَبره يكون فعلا مضارعاً مَقْرُونا بِأَن
وَقد يسند إِلَى: أَن، كَمَا قُلْنَا فِي الْأَوْجه
الثَّلَاثَة، والْحَدِيث من هَذَا الْقَبِيل حَيْثُ أسْند
يُوشك إِلَى أَن، وَالْفِعْل الْمُضَارع، فسد ذَلِك مسد
اسْمه وَخَبره، وَمثله قَول الشَّاعِر:
(يُوشك أَن يبلغ مُنْتَهى الْأَجَل ... فالبر لَازم برجا
ووجل)
قَوْله: (خير) يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع
فعلى الِابْتِدَاء وَخَبره، قَوْله: (غنم) ، وَيكون: فِي
يكون، ضمير الشَّأْن لِأَنَّهُ كَلَام تضمن تحذيراً
وتعظيماً لما يتَوَقَّع، وَأما النصب فعلى كَونه خبر يكون
مقدما على اسْمه، وَهُوَ قَوْله: (غنم) . وَلَا يضركون غنم
نكرَة لِأَنَّهَا وصفت بقوله: (يتبع بهَا) وَقد روى غنما
بِالنّصب وَهُوَ ظَاهر، وَالْأَشْهر فِي الرِّوَايَة نصب
خبر، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ بِالرَّفْع، وَالضَّمِير
فِي: بهَا، يرجع إِلَى الْغنم، وَقد ذكرنَا أَنه اسْم جنس
يجوز تأنيثه بِاعْتِبَار معنى الْجمع، قَوْله: (شعف
الْجبَال) كَلَام إضافي مَنْصُوب على أَنه مفعول يتبع؛
قَوْله: (ومواقع الْقطر) أَيْضا، كَلَام إضافي مَنْصُوب
عطفا على شعف الْجبَال. قَوْله: (يفر بِدِينِهِ من
الْفِتَن) أَي: من فَسَاد ذَات الْبَين وَغَيرهَا،
وَقَوله: يفر جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَهُوَ
الضَّمِير الْمُسْتَتر فِيهِ الَّذِي يرجع إِلَى الْمُسلم،
وَهِي فِي مَحل النصب على الْحَال، أما من الضَّمِير
الَّذِي فِي يتبع أَو من الْمُسلم، وَيجوز وُقُوع الْحَال
من الْمُضَاف إِلَيْهِ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {فَاتبع
مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا} (النِّسَاء: 125) فَإِن قلت:
إِنَّمَا يَقع الْحَال من الْمُضَاف إِلَيْهِ إِذا كَانَ
الْمُضَاف جزأ من الْمُضَاف إِلَيْهِ أَو فِي حكمه كَمَا
فِي: رَأَيْت وَجه هِنْد قَائِمَة، فَإِنَّهُ يجوز، وَلَا
يجوز قَوْلك: رَأَيْت غُلَام هِنْد قَائِمَة، وَالْمَال
لَيْسَ بِجُزْء للْمُسلمِ. قلت: المَال لشدَّة ملابسته
بِذِي المَال كَأَنَّهُ جُزْء مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْملَّة
لَيْسَ بِجُزْء لإِبْرَاهِيم حَقِيقَة، وَإِنَّمَا هِيَ
بِمَنْزِلَة الْجُزْء مِنْهُ. وَيجوز أَن تكون هَذِه
الْجُمْلَة استئنافية، وَهِي فِي الْحَقِيقَة جَوَاب سُؤال
مُقَدّر، وَيقدر ذَلِك بِحَسب مَا يَقْتَضِيهِ الْمقَام،
وَالْبَاء فِي (بِدِينِهِ) للسَّبَبِيَّة، وَكلمَة: من فِي
قَوْله: (من الْفِتَن) ابتدائية تَقْدِيره: يفر بِسَبَب
دينه ومنشأ فراره الدّين، وَيجوز أَن تكون الْبَاء،
للمصاحبة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {اهبط بِسَلام} (هود:
48) أَي: مَعَه.
(بَيَان استنباط الْفَوَائِد) : وَهُوَ على وُجُوه. الأول:
فِيهِ فضل الْعُزْلَة فِي أَيَّام الْفِتَن إلاَّ أَن يكون
الْإِنْسَان مِمَّن لَهُ قدرَة على إِزَالَة الْفِتْنَة،
فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ السَّعْي فِي إِزَالَتهَا، إِمَّا
فرض عين وَإِمَّا فرض كِفَايَة بِحَسب الْحَال والإمكان،
وَأما فِي غير أَيَّام الْفِتْنَة فَاخْتلف الْعلمَاء فِي
الْعُزْلَة والاختلاط أَيهمَا أفضل؟ قَالَ النَّوَوِيّ:
مَذْهَب الشَّافِعِي والأكثرين إِلَى تَفْضِيل الْخلطَة
لما فِيهَا من اكْتِسَاب الْفَوَائِد، وشهود شَعَائِر
الْإِسْلَام، وتكثير سَواد الْمُسلمين، وإيصال الْخَيْر
إِلَيْهِم وَلَو بعيادة المرضى، وتشييع الْجَنَائِز،
وإفشاء السَّلَام، وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي
عَن الْمُنكر، والتعاون على الْبر وَالتَّقوى، وإعانة
الْمُحْتَاج، وَحُضُور جماعاتهم وَغير ذَلِك مِمَّا يقدر
عَلَيْهِ كل أحد، فَإِن كَانَ صَاحب علم أَو زهد تَأَكد
فضل اخْتِلَاطه. وَذهب آخَرُونَ إِلَى تَفْضِيل الْعُزْلَة
لما فِيهَا من السَّلامَة المحققة، لَكِن بِشَرْط أَن يكون
عَارِفًا بوظائف الْعِبَادَة الَّتِي تلْزمهُ وَمَا يُكَلف
بِهِ، قَالَ: وَالْمُخْتَار تَفْضِيل الْخلطَة لمن لَا
يغلب على ظَنّه الْوُقُوع فِي الْمعاصِي. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: الْمُخْتَار فِي عصرنا تَفْضِيل الانعزال
لندور خلو المحافل عَن الْمعاصِي. قلت: أَنا مُوَافق لَهُ
فِيمَا قَالَ، فَإِن الِاخْتِلَاط مَعَ النَّاس فِي هَذَا
الزَّمَان لَا يجلب إِلَّا الشرور. الثَّانِي: فِيهِ
الِاحْتِرَاز عَن الْفِتَن، وَقد خرجت جمَاعَة من السّلف
عَن أوطانهم وتغربوا خوفًا من الْفِتْنَة، وَقد خرج سَلمَة
بن الْأَكْوَع إِلَى الربذَة فِي فتْنَة عُثْمَان رَضِي
الله عَنهُ. الثَّالِث: فِيهِ دلَالَة على فَضِيلَة الْغنم
واقتنائها على مَا نقُول عَن قريب إِن شَاءَ الله
تَعَالَى. الرَّابِع: فِيهِ إِخْبَار بِأَنَّهُ يكون فِي
آخر الزَّمَان فتن وَفَسَاد بَين النَّاس، وَهَذَا من
جملَة معجزاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(1/163)
(الأسئلة والأجوبة) . مِنْهَا مَا قيل:
لِمَ قيد بالغنم؟ وَأجِيب: بِأَن هَذَا النَّوْع من المَال
نموه وزيادته أبعد من الشوائب الْمُحرمَة كالربا والشبهات
الْمَكْرُوهَة، وخصت الْغنم بذلك لما فِيهَا من السكينَة
وَالْبركَة، وَقد رعاها الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم
الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَعَ أَنَّهَا سهلة الانقياد
خَفِيفَة المؤونة كَثِيرَة النَّفْع. وَمِنْهَا مَا قيل:
لِمَ قيد الِاتِّبَاع بالمواضع الخالية مثل شعف الْجبَال
وَنَحْوهَا؟ وَأجِيب: بِأَنَّهَا أسلم غَالِبا من
المعادلات المؤدية إِلَى الكدورات. وَمِنْهَا مَا قيل: مَا
وَجه كَون الْغنم خير مَال الْمُسلم؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ
لما كَانَ فِيهَا الْجمع بَين الرِّفْق وَالرِّبْح وصيانة
الدّين، كَانَت خير الْأَمْوَال الَّتِي يعْنى بهَا
الْمُسلم، وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ قيد الِاتِّبَاع
الْمَذْكُور بقوله: (يفر بِدِينِهِ) من الْفِتَن وَأجِيب:
للإشعار بِأَن هَذَا الِاتِّبَاع يَنْبَغِي أَن يكون
استعصاماً للدّين لَا لِلْأَمْرِ الدنيوي كَطَلَب كَثْرَة
الْعلف وَقلة أطماع النَّاس فِيهِ. وَمِنْهَا مَا قيل:
كَيفَ يجمع بَين مُقْتَضى هَذَا الحَدِيث من اخْتِيَار
الْعُزْلَة، وَبَين مَا ندب إِلَيْهِ الشَّارِع من
اخْتِلَاط أهل الْمحلة لإِقَامَة الْجَمَاعَة، وَأهل
السوَاد مَعَ أهل الْبَلدة للعيد وَالْجُمُعَة، وَأهل
الْآفَاق لوقوف عَرَفَة؟ وَفِي الْجُمْلَة اهتمام
الشَّارِع بالاجتماع مَعْلُوم، وَلِهَذَا قَالَ
الْفُقَهَاء: يجوز نقل اللَّقِيط من الْبَادِيَة إِلَى
الْقرْيَة وَمن الْقرْيَة إِلَى الْبَلَد لاعكسهما؛
وَأجِيب: بِأَن ذَلِك عِنْد عدم الْفِتْنَة وَعدم وُقُوعه
فِي الْمعاصِي وَعند الِاجْتِمَاع بالجلساء الصلحاء، وَأما
اتِّبَاع الشعف والمقاطر وَطلب الْخلْوَة والانقطاع
إِنَّمَا هُوَ فِي أضداد هَذِه الْحَالَات.
13 - (بَاب قَوْلِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّه، وأنَّ المَعْرِفَةَ فِعْلُ
القَلْبِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {ولَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} )
أَي: هَذَا بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَالْإِضَافَة هَهُنَا متعينة. وَقَوله: (أَنا أعلمكُم
بِاللَّه) مقول القَوْل، كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر،
وَهُوَ لفظ الحَدِيث الَّذِي أوردهُ فِي جَمِيع طرقه،
وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: أعرفكُم، فَعَن قريب يَأْتِي
الْفرق بَين الْمعرفَة وَالْعلم.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ: أَن الْبَاب الأول
يبين فِيهِ أَن من الدّين الْفِرَار من الْفِتَن، وَهَذَا
لَا يكون إلاَّ على قدر قُوَّة دين الرجل حَيْثُ يحفظ دينه
ويعتزل النَّاس خوفًا من الْفِتَن، وَقُوَّة الدّين تدل
على قُوَّة الْمعرفَة بِاللَّه تَعَالَى، فَكلما كَانَ
الرجل أقوى فِي دينه كَانَ أقوى فِي معرفَة ربه، وَمن
هَذَا الْبَاب يبين أَن أعرف النَّاس بِاللَّه تَعَالَى
هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَا جرم هُوَ
أقوى دينا من الْكل. وَبَقِي الْكَلَام هَهُنَا فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. الأول: أَن هَذَا كتاب الْإِيمَان،
فَمَا وَجه تعلق هَذِه التَّرْجَمَة بِالْإِيمَان.
وَالثَّانِي: مَا مُنَاسبَة قَوْله: (وَأَن الْمعرفَة فعل
الْقلب) بِمَا قبله، وَلَا تعلق للْحَدِيث بِهِ أصلا وَلَا
دلَالَة لَهُ عَلَيْهِ لَا عقلا وَلَا وضعا. وَالثَّالِث:
مَا مُنَاسبَة ذكر قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِن يُؤَاخِذكُم
بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ} (الْبَقَرَة: 225) هَهُنَا فَلَا
تعلق لَهُ بِالْإِيمَان لِأَنَّهُ فِي الْإِيمَان، وَلَا
تعلق لَهُ بِالْبَابِ أَيْضا. قلت: أما وَجه الأول: فَهُوَ
أَن الْمعرفَة بِاللَّه تَعَالَى وَالْعلم بِهِ من
الْإِيمَان، فحينئذٍ دخل فِي كتاب الْإِيمَان، وَفِيه رد
على الكرامية لأَنهم يَقُولُونَ: إِن الْإِيمَان مُجَرّد
الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ، وَزَعَمُوا أَن الْمُنَافِق
مُؤمن فِي الظَّاهِر وَكَافِر فِي السريرة، فَيثبت لَهُ
حكم الْمُؤمنِينَ فِي الدُّنْيَا وَحكم الْكَافرين فِي
الْآخِرَة، وَأَشَارَ البُخَارِيّ بِالرَّدِّ عَلَيْهِم:
بِأَن الْإِيمَان، هُوَ أَو بعضه، فعل الْقلب بِالْحَدِيثِ
الْمَذْكُور. وَأما وَجه الثَّانِي: فَهُوَ أَن
الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، لما أَرَادوا أَن
يزِيدُوا أَعْمَالهم على عمل رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُم: لَا يتهيأ لكم لِأَنِّي
أعلمكُم، وَالْعلم من جملَة الْأَفْعَال، بل من أشرفها
لِأَنَّهُ عمل الْقلب، فَنَاسَبَ قَوْله: (وَأَن الْمعرفَة
فعل الْقلب) بِمَا قبله. وَأما وَجه الثَّالِث: فَهُوَ
أَنه أَرَادَ أَن يسْتَدلّ بِالْآيَةِ على أَن الْإِيمَان
بالْقَوْل وَحده لَا يتم، وَلَا بُد من انضمام العقيدة
إِلَيْهِ، وَلَا شكّ أَن الِاعْتِقَاد فعل الْقلب فَهُوَ
مُنَاسِب لقَوْله: (وَأَن الْمعرفَة فعل الْقلب) . وَلَا
يضر استدلاله كَون مورد الْآيَة فِي الْأَيْمَان
بِالْفَتْح، لِأَن مدَار الْعلم فِيهَا أَيْضا على عمل
الْقلب، فنبه البُخَارِيّ هَهُنَا على شَيْئَيْنِ:
أَحدهمَا: الرَّد على الكرامية الَّذِي هُوَ مُتَّفق
عَلَيْهِ بِالْوَجْهِ الَّذِي ذكرنَا وَالْآخر: الدَّلِيل
على زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه على مُقْتَضى مذْهبه،
لِأَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَنا أعلمكُم
بِاللَّه) يدل ظَاهرا على أَن النَّاس متفاوتون فى معرفَة
الله تَعَالَى، وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
هُوَ أعلمهم، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يكون الْإِيمَان قَابلا
للزِّيَادَة وَالنُّقْصَان. قَوْله: (وَأَن الْمعرفَة)
بِفَتْح الْهمزَة عطفا على القَوْل لَا على الْمَقُول،
وإلاَّ لَكَانَ تَكْرَارا، إِذْ الْمَقُول وَمَا عطف
عَلَيْهِ حكمهمَا وَاحِد، وَيجوز كسر: إِن وَيكون كلَاما
مستأنفاً، قَوْله: (لقَوْل الله تَعَالَى) اسْتِدْلَال
(1/164)
بِهَذِهِ الْآيَة على أَن الْإِيمَان
بالْقَوْل وَحده لَا يتم. قَوْله: (بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ)
أَي: بِمَا عزمت عَلَيْهِ قُلُوبكُمْ وقصدتموه، إِذْ كسب
الْقلب عزمه وَنِيَّته، وَفِي الْآيَة دَلِيل لما عَلَيْهِ
الْجُمْهُور، أَن أَفعَال الْقُلُوب إِذا اسْتَقَرَّتْ
يُؤَاخذ بهَا، وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: (إِن الله
تجَاوز لأمتي مَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا مَا لم يتكلموا أَو
يعملوا بِهِ) ، مَحْمُول على مَا إِذا لم يسْتَقرّ،
وَذَلِكَ مَعْفُو عَنهُ بِلَا شكّ، لِأَنَّهُ لَا يُمكن
الانفكاك عَنهُ بِخِلَاف الِاسْتِقْرَار. فَإِن قلت: مَا
حَقِيقَة الْمعرفَة؟ قلت: فِي اللُّغَة الْمعرفَة: مصدر
عَرفته أعرفهُ، وَكَذَلِكَ الْعرْفَان، وَأما فِي
اصْطِلَاح أهل الْكَلَام فَهِيَ معرفَة الله تَعَالَى
بِلَا كَيفَ وَلَا تَشْبِيه. وَالْفرق بَينهمَا وَبَين
الْعلم: أَن الْمعرفَة عبارَة عَن الْإِدْرَاك الجزئي،
وَالْعلم عَن الْإِدْرَاك الْكُلِّي. وَبِعِبَارَة
أُخْرَى: الْعلم إِدْرَاك المركبات، والمعرفة إِدْرَاك
البسائط وَهَذَا مُنَاسِب لما يَقُوله أهل اللُّغَة من:
أَن الْعلم يتَعَدَّى إِلَى مفعولين، والمعرفة إِلَى مفعول
وَاحِد. وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: أجمع الْعلمَاء على
وجوب معرفَة الله تَعَالَى، وَقد اسْتدلَّ عَلَيْهِ بقوله
تَعَالَى: {فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إلاَّ الله}
(مُحَمَّد: 19) وَاخْتلف فِي أول وَاجِب على الْمُكَلف،
فَقيل: معرفَة الله تَعَالَى، وَقيل: النّظر، وَقيل:
الْقَصْد إِلَى النّظر الصَّحِيح. وَقَالَ الإِمَام:
الَّذِي أرَاهُ أَنه لَا اخْتِلَاف بَينهمَا، فَإِن أول
وَاجِب خطابا ومقصوداً: الْمعرفَة، وَأول وَاجِب اشتغالاً
واداءً: الْقَصْد فَإِن مَا لَا يتَوَصَّل إِلَى الْوَاجِب
إلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِب، وَلَا يتَوَصَّل إِلَى المعارف
إلاَّ بِالْقَصْدِ.
20 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ سَلاَمٍ قَالَ أخْبَرَنَا
عَبْدَةُ عنْ هِشامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ قالتْ كانَ
رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أَمَرَهُمْ
أمَرَهُمْ مِنَ الأَعْمَالِ بِما يُطِيقُونَ قَالُوا إنَّا
لسْنَا كَهْيَئتِكَ يَا رسولَ اللَّهِ إنّ اللَّهَ قَدْ
غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأخَّرَ
فَيَغْضَبُ حَتى يُعْرَفَ الغَضَبُ فِي وجْهِهِ ثمَّ
يَقُولُ إنَّ أَتْقاكُمْ وأَعْلَمَكُمْ باللَّهِ أَنَا.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَإِنَّهَا
جُزْء مِنْهُ.
(بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول: أَبُو عبد الله
مُحَمَّد بن سَلام بن الْفرج السّلمِيّ، مَوْلَاهُم،
البُخَارِيّ البيكندي، سمع ابْن عُيَيْنَة وَابْن
الْمُبَارك وَغَيرهمَا من الْأَعْلَام، وَعنهُ الْأَعْلَام
الْحفاظ: كالبخاري وَنَحْوه، انفق فِي الْعلم أَرْبَعِينَ
ألفا، وَمثلهَا فِي نشره، وَيُقَال: إِن الْجِنّ كَانَت
تحضر مَجْلِسه، وَقَالَ: أدْركْت مَالِكًا وَلم أسمع
مِنْهُ، وَكَانَ أَحْمد يعظمه، وَعنهُ أحفظ أَكثر من
خَمْسَة آلَاف حَدِيث كذب، وَله رحْلَة ومصنفات فِي
أَبْوَاب من الْعلم، وانكسر قلمه فِي مجْلِس شيخ فَأمر أَن
يُنَادى: قلم بِدِينَار، فطارت إِلَيْهِ الأقلام، توفّي
سنة خمس وَعشْرين ومائيتن، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِهِ
عَن الْكتب السِّتَّة. ثمَّ اعْلَم أَن: سَلاما، وَالِد
مُحَمَّد الْمَذْكُور بِالتَّخْفِيفِ على الصَّوَاب، وَبِه
قطع الْمُحَقِّقُونَ، مِنْهُم: الْخَطِيب وَابْن
مَاكُولَا، وَهُوَ مَا ذكره غبخار فِي (تَارِيخ بخاري) ،
وَهُوَ أعلم ببلاده، وَحَكَاهُ أَيْضا عَنهُ فَقَالَ:
قَالَ سهل بن المتَوَكل: سَمِعت مُحَمَّد بن سَلام يَقُول:
أَنا مُحَمَّد بن سَلام، بِالتَّخْفِيفِ، وَلست بِمُحَمد
بن سَلام، وَذكر بعض الْحفاظ أَن تشديده لحن، وَأما صَاحب
(الْمطَالع) فَادّعى أَن التَّشْدِيد رِوَايَة
الْأَكْثَرين، وَلَعَلَّه أَرَادَ أَكثر شُيُوخ بَلَده.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَا يُوَافق على هَذِه الدَّعْوَى،
فَإِنَّهَا مُخَالفَة للمشهور. الثَّانِي: أَبُو مُحَمَّد
عَبدة، بِسُكُون الْبَاء، ابْن سُلَيْمَان بن حَاجِب بن
زُرَارَة بن عبد الرَّحْمَن بن صرد بن سمير بن مليك بن عبد
الله بن أبي بكر بن كلاب الْكلابِي الْكُوفِي، هَكَذَا
نسبه مُحَمَّد بن سعد فِي (الطَّبَقَات) ، وَقيل: اسْمه
عبد الرَّحْمَن، وَعَبدَة لقبه، سمع جمَاعَة من
التَّابِعين، مِنْهُم: هِشَام وَالْأَعْمَش، وَعنهُ
الْأَعْلَام: أَحْمد وَغَيره. قَالَ أَحْمد: ثِقَة ثِقَة
وَزِيَادَة مَعَ صَلَاح، وَقَالَ الْعجلِيّ: ثِقَة رجل
صَالح صَاحب قُرْآن، توفّي بِالْكُوفَةِ فِي جُمَادَى،
وَقيل: فِي رَجَب سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَة؛ قَالَ
التِّرْمِذِيّ: وَقَالَ البُخَارِيّ: سنة سبع، روى لَهُ
الْجَمَاعَة. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة. الرَّابِع:
أَبُو عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: عَائِشَة
رَضِي الله عَنْهَا، وَقد ذكرُوا فِي بَاب الْوَحْي.
(بَيَان الْأَنْسَاب) السّلمِيّ، بِضَم السِّين وَفتح
اللَّام، فِي قيس غيلَان، وَفِي الأزد، فَالَّذِي فِي قيس
غيلَان: سليم بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن حَفْصَة بن قيس
بن غيلَان، وَالَّذِي فِي الأزد: سليم بن بهم بن غنم بن
دوس، وَهُوَ من شَاذ النّسَب، وَقِيَاسه: سليمي.
البُخَارِيّ: نِسْبَة إِلَى بُخَارى، بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة، مَدِينَة مَشْهُورَة بِمَا وَرَاء النَّهر،
خرجت مِنْهَا
(1/165)
الْعلمَاء والصلحاء، ويشتمل على بُخَارى
وعَلى قراها ومزارعها سور وَاحِد نَحْو اثْنَي عشر فرسخاً،
فِي مثلهَا، وَقَالَ ابْن حوقل: ورساتيق بُخَارى تزيد على
خَمْسَة عشر رستاقاً، جَمِيعهَا دَاخل الْحَائِط
الْمَبْنِيّ على بلادها، وَلها خَارج الْحَائِط أَيْضا
عدَّة مدن مِنْهَا: فربر وَغَيرهَا. البيكندي: بباء
مُوَحدَة مكسوة ثمَّ يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة ثمَّ كَاف
مَفْتُوحَة ثمَّ نون سَاكِنة، نِسْبَة إِلَى بيكند،
بَلْدَة من بِلَاد بُخَارى على مرحلة مِنْهَا، خربَتْ،
وَيُقَال: الباكندي أَيْضا، وَيُقَال بِالْفَاءِ أَيْضا:
الفاكندي، وينسب إِلَيْهَا ثَلَاثَة أنفس انْفَرد
البُخَارِيّ بهم، أحدهم: مُحَمَّد بن سَلام الْمَذْكُور،
وثانيهم: مُحَمَّد بن يُوسُف، وثالثهم: يحيى بن جَعْفَر
الْكلابِي فِي قيس غيلَان ينْسب إِلَى: كلاب بن ربيعَة بن
عَامر بن صعصعة بن مُعَاوِيَة بن بكر بن هوزان بن مَنْصُور
بن عِكْرِمَة بن حَفْصَة بن قيس بن غيلَان.
(بَيَان لطائف أسناده) : مِنْهَا: أَن فِيهِ تحديثاً
وإخباراً وعنعنة، والإخبار فِي قَوْله: أخبرنَا عُبَيْدَة
بن سُلَيْمَان، وفى رِوَايَة الْأصيلِيّ، حَدثنَا.
وَمِنْهَا: أَن إِسْنَاده مُشْتَمل على: بخاري وكوفي
ومدني، وَمِنْهَا: أَن رُوَاته أَئِمَّة أجلاء.
(بَيَان من أخرجه) هَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ
عَن مُسلم، وَهُوَ من غرائب الصَّحِيح، لَا يعرف إلاَّ من
هَذَا الْوَجْه، وَهُوَ مَشْهُور عَن هِشَام، فَرد مُطلق
من حَدِيثه، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة.
(بَيَان اللُّغَات) قَوْله: (بِمَا يُطِيقُونَ) من: أطَاق
يُطيق إطاقة، وطوقتك الشَّيْء أَي: كلفتك بِهِ. قَوْله
(كهيئتك) الْهَيْئَة الْحَالة وَالصُّورَة، وَفِي
(الْعباب) الْهَيْئَة الشاردة، وَفُلَان حسن الْهَيْئَة،
والهيئة بِالْفَتْح وَالْكَسْر، والهيء على فيعل: الْحسن
الْهَيْئَة من كل شَيْء يُقَال: هَاء يهاء هَيْئَة.
قَوْله: (إِن الله قد غفر) الغفر فِي اللُّغَة السّتْر.
وَفِي (الْعباب) : الغفر التغطية، والغفر والغفران
وَالْمَغْفِرَة وَاحِد، ومغفرة الله لعَبْدِهِ إلباسه
إِيَّاه الْعَفو، وَستر ذنُوبه. قَوْله: (فيغضب) من غضب
عَلَيْهِ غَضبا ومغضبة أَي: سخط، وَقَالَ ابْن عَرَفَة
الْغَضَب من المخلوقين شَيْء يداخل قُلُوبهم، وَيكون
مِنْهُ مَحْمُود ومذموم، والمذموم مَا كَانَ فِي غير
الْحق، وَأما غضب الله تَعَالَى فَهُوَ إِنْكَاره على من
عَصَاهُ فيعاقبه. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله: إِن
الله يغْضب ويرضى لَا كَأحد من الورى، قَالَ فِي (الْعباب)
: وأصل التَّرْكِيب يدل على شدَّة وَقُوَّة.
(بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله: (رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) اسْم كَانَ، وَخَبره قَوْله: إِذا أَمرهم،
قَوْله: (قَالُوا) جَوَاب: إِذا، قَوْله: (لسنا كهيئتك) ،
لَيْسَ المُرَاد نفي تَشْبِيه ذواتهم بحالته عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلَا بُد من تَأْوِيل فِي أحد
الطَّرفَيْنِ، فَقيل: المُرَاد كهيئتك: كمثلك، أَي: كذاتك،
أَو: كنفسك، وَزيد لفظ الْهَيْئَة للتَّأْكِيد، نَحْو:
مثلك لَا يبخل أَو التَّقْدِير فِي لسنا: لَيْسَ حَالنَا،
فَحذف الْحَال وأقيم الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه، واتصل
الْفِعْل بالضمير فَقيل: لسنا، فالنون اسْم لَيْسَ،
وَخَبره قَوْله: كهيئتك، قَوْله: (مَا تقدم) جملَة فِي
مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول غفر، وَكلمَة: من،
بَيَانِيَّة وَقَوله: (وَمَا تَأَخّر) عطف عَلَيْهِ،
وَالتَّقْدِير: وَمَا تَأَخّر من ذَنْبك. قَوْله: (فيغضب)
على صُورَة الْمُضَارع، فَهُوَ وَإِن كَانَ بِلَفْظ
الْمُضَارع وَلَكِن الْمَقْصُود حِكَايَة الْحَال
الْمَاضِيَة، واستحضار تِلْكَ الصُّورَة الْوَاقِعَة
للحاضرين، وَفِي أَكثر النّسخ: فَغَضب، بِلَفْظ الْمَاضِي،
قَوْله: (حَتَّى يعرف الْغَضَب) على صِيغَة الْمَجْهُول،
وَالْغَضَب مَرْفُوع بِهِ، وَإِمَّا يعرف فَإِنَّهُ
مَنْصُوب بِتَقْدِير: أَن، أَي: حَتَّى أَن يعرف الْغَضَب،
وَالنّصب هُوَ الرِّوَايَة، وَيجوز فِيهِ الرّفْع بِأَن
يكون عطفا على: فيغضب، فَافْهَم. قَوْله: (إِن أَتْقَاكُم)
أَي: أَكْثَرَكُم تقوى وخشية من الله تَعَالَى، واتقاكم:
اسْم إِن، و: أعلمكُم، عطف عَلَيْهِ، وَقَوله: أَنا،
خَبره، وَفِي كتاب أبي نعيم: (وَأعْلمكُمْ بِاللَّه لأَنا)
بِزِيَادَة لَام التَّأْكِيد.
(بَيَان الْمعَانِي) : قَوْله: (إِذا أَمرهم من
الْأَعْمَال) أَي: إِذا أَمر النَّاس بِعَمَل أَمرهم بِمَا
يُطِيقُونَ ظَاهره أَنه كَانَ يكلفهم بِمَا يُطَاق فعله،
لَكِن السِّيَاق دلّ على أَن المُرَاد أَنه يكلفهم بِمَا
يُطَاق الدَّوَام على فعله، وَوَقع فِي مُعظم
الرِّوَايَات: (كَانَ إِذا أَمرهم أَمرهم من الْأَعْمَال)
بتكرار أَمرهم، وَفِي بَعْضهَا أَمرهم مرّة وَاحِدَة،
وَهُوَ الَّذِي وَقع فِي طرق هَذَا الحَدِيث من طَرِيق
عَبدة، وَكَذَا من طَرِيق ابْن نمير وَغَيره، عَن هِشَام
عِنْد أَحْمد، وَكَذَا ذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة
أبي أُسَامَة، عَن هِشَام وَلَفظه: (كَانَ إِذا أَمر
النَّاس بالشَّيْء قَالُوا) ، وَالْمعْنَى على التكرير:
كَانَ إِذا أَمرهم بِعَمَل من الْأَعْمَال أَمرهم بِمَا
يُطِيقُونَ الدَّوَام عَلَيْهِ، فَأَمرهمْ: الثَّانِي يكون
جَوَاب الشَّرْط. فَإِن قلت: فعلى هَذَا مَا يكون قَوْله:
قَالُوا؟ قلت: يكون جَوَابا ثَانِيًا. قَوْله
(1/166)
(إِنَّا لسنا كهيأتك) أَرَادوا بِهَذَا الْكَلَام طلب
الْإِذْن فِي الزِّيَادَة من الْعِبَادَة، وَالرَّغْبَة
فِي الْخَيْر يَقُولُونَ: أَنْت مغْفُور لَك لَا تحْتَاج
إِلَى عمل، وَمَعَ هَذَا أَنْت مواظب على الْأَعْمَال،
فَكيف بِنَا وذنوبنا كَثِيرَة، فَرد عَلَيْهِم، وَقَالَ:
أَنا أولى بِالْعَمَلِ لِأَنِّي أعلمكُم وأخشاكم. قَوْله:
(إِن الله قد غفر لَك) اقتباس من قَوْله تَعَالَى: {ليغفر
لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} (الْفَتْح: 2)
وَقد عرفت مَا فِي هَذَا التَّرْكِيب من المؤكدات. فَإِن
قلت: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعْصُوم عَن
الْكَبَائِر والصغائر فَمَا ذَنبه الَّذِي غفر لَهُ؟ قلت:
المُرَاد مِنْهُ ترك الأولى وَالْأَفْضَل بالعدول إِلَى
الْفَاضِل، وَترك الْأَفْضَل كَأَنَّهُ ذَنْب لجلالة قدر
الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، وَيُقَال: المُرَاد
مِنْهُ ذَنْب أمته. قَوْله: (اتقاكم) إِشَارَة إِلَى
كَمَال الْقُوَّة العملية، وَأعْلمكُمْ إِلَى كَمَال
الْقُوَّة العلمية وَلما كَانَ، عَلَيْهِ السَّلَام،
جَامعا لأقسام التَّقْوَى حاوياً لأقسام الْعُلُوم، مَا
خصص التَّقْوَى وَلَا الْعلم، وَأطلق، وَهَذَا قريب مِمَّا
قَالَ عُلَمَاء الْمعَانِي، قد يقْصد بالحذف إِفَادَة
الْعُمُوم والاستغراق، وَيعلم مِنْهُ أَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، كَمَا أَنه أفضل من كل وَاحِد
وَأكْرم عِنْد الله وأكمل، لِأَن كَمَال الْإِنْسَان منحصر
فِي الحكمتين العلمية والعملية، وَهُوَ الَّذِي بلغ
الدرجَة الْعليا والمرتبة القصوى مِنْهُمَا، يجوز أَن يكون
أفضل وَأكْرم وأكمل من الْجَمِيع حَيْثُ قَالَ: (اتقاكم
وَأعْلمكُمْ) خطابا للْجَمِيع.
(بَيَان استنباط الْفَوَائِد) وَهُوَ على وُجُوه. الأول:
أَن الْأَعْمَال الصَّالِحَة ترقي صَاحبهَا إِلَى
الْمَرَاتِب السّنيَّة من: رفع الدَّرَجَات ومحو الخطيئات،
لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام، لم يُنكر عَلَيْهِم
استدلالهم من هَذِه الْجِهَة، بل من جِهَة أُخْرَى.
الثَّانِي: أَن الْعِبَادَة الأولى فِيهَا الْقَصْد
وملازمة مَا يُمكن الدَّوَام عَلَيْهِ. الثَّالِث: أَن
الرجل الصَّالح يَنْبَغِي أَن لَا يتْرك الِاجْتِهَاد فِي
الْعَمَل إعتماداً على صَلَاحه. الرَّابِع: أَن الرجل يجوز
لَهُ الْإِخْبَار بفضيلته إِذا دعت إِلَى ذَلِك حَاجَة.
الْخَامِس: أَنه يَنْبَغِي أَن يحرص على كتمانها فَإِنَّهُ
يخَاف من إشاعتها زَوَالهَا. السَّادِس: فِيهِ جَوَاز
الْغَضَب عِنْد رد أَمر الشَّرْع ونفوذ الحكم فِي حَال
الْغَضَب والتغير، السَّابِع: فِيهِ دَلِيل على رفق
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بأمته، وَأَن الدّين
يسر، وَأَن الشَّرِيعَة حنيفية سَمْحَة. الثَّامِن: فِيهِ
الْإِشَارَة إِلَى شدَّة رَغْبَة الصَّحَابَة فِي
الْعِبَادَة، وطلبهم الازدياد من الْخَيْر. |