عمدة القاري شرح صحيح البخاري

11 - (بَاب مَا كانَ النبيُّ يَتَخَوَّلُهُمْ بالموْعِظَةِ والعِلْمِ كَي لاَ يَنْفِرُوا)

الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع: الأول: إِن التَّقْدِير: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا كَانَ النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، يَتَخَوَّلُ الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، بِالْمَوْعِظَةِ، وارتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف وَهُوَ مُضَاف إِلَى مَا بعده من الْجُمْلَة، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: بَاب كَون النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام يتخولهم. الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ الْعلم، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب هُوَ التخول بِالْعلمِ. الثَّالِث: قَوْله: يتخولهم، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره اللَّام، مَعْنَاهُ: يتعهدهم، وَهُوَ من التخول، وَهُوَ التعهد

(2/43)


يَعْنِي: كَانَ يتعهدهم ويراعي الْأَوْقَات فِي وعظهم، ويتحرى مِنْهَا مَا كَانَ مَظَنَّة الْقبُول، وَلَا يَفْعَله كل يَوْم لِئَلَّا يسأم. والخائل الْقَائِم المتعهد للْحَال، ذكره الْخطابِيّ. والآن يَأْتِي مزِيد الْكَلَام فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (بِالْمَوْعِظَةِ) قَالَ الصغاني: الْوَعْظ والعظة وَالْمَوْعِظَة مصَادر قَوْلك: وعظته أعظه. والوعظ: هُوَ النصح والتذكير بالعواقب، وَعطف الْعلم على الموعظة من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص، عكس: وَمَلَائِكَته وَجِبْرِيل. وَذكره الموعظة لكَونهَا مَذْكُورَة فِي الحَدِيث، وَأما الْعلم فَإِنَّمَا ذكره استنباطاً. قَوْله: (كي لَا ينفروا) : أَي: لِئَلَّا يملوا عَنهُ ويتباعدوا مِنْهُ، يُقَال: نفر ينفر، من بَاب: ضرب يضْرب، وَنَفر ينفر من بَاب نصر ينصر نفوراً بِالضَّمِّ، ونفار بِالْفَتْح، والنفور أَيْضا جمع نافر كشاهد وشهود، وَيُقَال: فِي الدَّابَّة نفار، بِكَسْر النُّون، وَهُوَ اسْم مثل الحران، والتركيب يدل على تجافٍ وتباعد.

68 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ أخْبَرَنا سُفْيانُ عَن الأعْمَشِ عَن أبي وائِلٍ عنِ ابْنِ مَسْعُودَ قَالَ كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَخَوَّلُنا بالمَوْعِظَةِ فِي الأيَّامِ كَرَاهةَ السَّآمَة عَلَيْنا.
مُطَابقَة الحَدِيث لإحدى الترجمتين وَهِي قَوْله: (بِالْمَوْعِظَةِ) ظَاهِرَة، وَالْبَاب مترجم بترجمتين إِحْدَاهمَا: قَوْله: (بِالْمَوْعِظَةِ) وَالْأُخْرَى: قَوْله: (كي لَا ينفروا) ، فأورد فِيهِ حديثين كل مِنْهُمَا يُطَابق وَاحِدَة مِنْهُمَا.
بَيَان رِجَاله: وهم خسمة: الأول: مُحَمَّد بن يُوسُف، قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين فِي (شَرحه) : هُوَ مُحَمَّد بن يُوسُف بن وَاقد الْفرْيَابِيّ، أَبُو عبد اللَّه الضَّبِّيّ، مَوْلَاهُم، سكن قيسارية من سَاحل الشَّام، أدْرك الْأَعْمَش وروى عَنهُ وَعَن السفيانين وَغَيرهم، وروى عَنهُ أَحْمد بن حَنْبَل وَمُحَمّد الذهلي وَمُحَمّد بن مُسلم ابْن وارة وَغَيرهم، وروى عَنهُ البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع كَثِيرَة، وروى فِي كتاب الصَدَاق عَن إِسْحَاق غير مَنْسُوب عَنهُ، وروى بَقِيَّة الْجَمَاعَة عَن رجل عَنهُ. قَالَ أَحْمد: كَانَ رجلا صَالحا. وَقَالَ النَّسَائِيّ وَأَبُو حَاتِم: ثِقَة. وَقَالَ البُخَارِيّ: كَانَ من أفضل أهل زَمَانه، مَاتَ فِي ربيع الأول سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمِائَتَيْنِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ مُحَمَّد بن يُوسُف أَبُو أَحْمد البيكندي، وَهَذَا وهم، لِأَن البُخَارِيّ حَيْثُ يُطلق مُحَمَّد بن يُوسُف لَا يُرِيد بِهِ، إلاَّ الْفرْيَابِيّ، وَإِن كَانَ يروي أَيْضا عَن البيكندي. فَافْهَم. الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ: فَإِن قلت: مُحَمَّد بن الْفرْيَابِيّ يروي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة أَيْضا كَمَا ذكرنَا، فَمَا الْمُرَجح هَهُنَا لِسُفْيَان الثَّوْريّ؟ قلت: الْفرْيَابِيّ، وَإِن كَانَ يروي عَن السفيانين، وَلكنه حَيْثُ يُطلق لَا يُرِيد بِهِ، إلاَّ الثَّوْريّ. الثَّالِث: سُلَيْمَان بن مهْرَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: أَبُو واثل، شَقِيق بن سَلمَة الْكُوفِي. الْخَامِس: عبد اللَّه بن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان الْأَنْسَاب: الْفرْيَابِيّ، بِكَسْر الْفَاء وَسُكُون الرَّاء بعْدهَا الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة نِسْبَة إِلَى فرياب، اسْم مَدِينَة من نواحي بَلخ. قَالَ الصغاني: فرياب مثل جربال، وَيُقَال: فيرياب مثل: كيمياء، وَيُقَال: فارياب، مثل: قاصعاء، وَأما: فاراب، فَهِيَ نَاحيَة وَرَاء نهر سيحون فِي تخوم بِلَاد التّرْك، وفراب مثل سَحَاب قَرْيَة فِي سفح جبل على ثَمَانِيَة فراسخ من سَمَرْقَنْد، وفراب مثل: كفار، قَرْيَة من قرى أَصْبَهَان. الضَّبِّيّ، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: نِسْبَة إِلَى ضبة بن اد بن طابخة بن الياس بن مُضر، وَفِي قُرَيْش أَيْضا: ضبة بن الْحَارِث بن فهر، ذكره ابْن حبيب. وَفِي هُذَيْل أَيْضا: ضبة بن عَمْرو ابْن الْحَارِث بن تَمِيم بن سعد بن هُذَيْل. البيكندي، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف الساكنة وَفتح الْكَاف وَسُكُون النُّون بعْدهَا الدَّال الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى بيكند، قَرْيَة من قرى بُخَارى.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كوفيون مَا خلا الْفرْيَابِيّ. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ. فَإِن قلت: الْأَعْمَش مُدَلّس وَقد عنعن هُنَا، وَقد روى مُسلم من طَرِيق عَليّ بن مسْهر عَن الْأَعْمَش عَن شَقِيق عَن عبد اللَّه، فَذكر الحَدِيث: قَالَ عَليّ بن مسْهر قَالَ الْأَعْمَش: وحَدثني عَمْرو بن مرّة عَن شَقِيق عَن عبد اللَّه مثله، فقد يُوهم هَذَا أَن الْأَعْمَش دلسه، أَولا عَن شَقِيق، ثمَّ سمى الْوَاسِطَة بَينهمَا. قلت: صرح أَحْمد فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث بِسَمَاع الْأَعْمَش عَن شَقِيق، فَقَالَ: سَمِعت شقيقاً، وَهُوَ أَبُو وَائِل، وَكَذَا صرح الْأَعْمَش بِالتَّحْدِيثِ عِنْد البُخَارِيّ فِي الدَّعْوَات من رِوَايَة حَفْص بن غياث عَنهُ، قَالَ: حَدثنِي شَقِيق، وَزَاد فِي أَوله: إِنَّهُم كَانُوا ينتظرون عبد اللَّه بن مَسْعُود ليخرج إِلَيْهِم فيذكرهم، وَإنَّهُ لما خرج قَالَ: أما إِنِّي أخبر بمكانكم، وَلكنه يَمْنعنِي من الْخُرُوج إِلَيْكُم ... فَذكر الحَدِيث.

(2/44)


بَيَان تعد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير عَن مَنْصُور عَن أبي وَائِل عَن ابْن مَسْعُود بِهِ، وَأخرجه أَيْضا فِي الدَّعْوَات عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه عَن الْأَعْمَش، وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع، وَأَبُو مُعَاوِيَة وَمُحَمّد بن نمير عَن أبي مُعَاوِيَة، وَعَن الْأَشَج عَن ابْن إِدْرِيس، وَعَن منْجَاب عَن عَليّ بن مسْهر، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَابْن خشرم عَن عِيسَى بن يُونُس عَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان، كلهم عَن الْأَعْمَش. زَاد الْأَعْمَش فِي رِوَايَة ابْن مسْهر: وحَدثني عَمْرو بن مرّة عَن شَقِيق عَن عبد اللَّه مثله. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الاسْتِئْذَان عَن مُحَمَّد بن غيلَان عَن أبي أَحْمد الزبيرِي عَن سُفْيَان الثَّوْريّ بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن بشار عَن يحيى بن سعيد عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش بِهِ، وَفِي نُسْخَة عَن مُحَمَّد بن بشار عَن يحيى عَن سُفْيَان عَن الْأَعْمَش بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (يَتَخَوَّلنَا) ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وباللام، من التخول، وَهُوَ: التعهد، من: خَال المَال، وخال على الشَّيْء خولاً، إِذا تعهد، وَيُقَال: خَال المَال يخوله خولاً إِذا ساسه وَأحسن الْقيام عَلَيْهِ، والخائل المتعاهد للشَّيْء المصلح لَهُ، وخول الله الشَّيْء أَي: ملكه إِيَّاه، وخول الرجل حشمه، الْوَاحِد خائل، وَقَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ: الصَّوَاب يتحولهم، بِالْحَاء الْمُهْملَة، أَي: يطْلب أَحْوَالهم الَّتِي ينشطون فِيهَا للموعظة، فيعظهم وَلَا يكثر عَلَيْهِم فيملوا. وَكَانَ الْأَصْمَعِي يرويهِ: يتخوننا، بالنُّون وَالْخَاء الْمُعْجَمَة، أَي: يتعهدنا. حَكَاهُ عَنْهُمَا صَاحب (نِهَايَة الْغَرِيب) . وَفِي (مجمع الغرائب) قَالَ الْأَصْمَعِي: أَظُنهُ يتخونهم، بالنُّون، وَهُوَ بِمَعْنى: التعهد. وَقيل: إِن أَبَا عَمْرو بن الْعَلَاء سمع الْأَعْمَش يحدث هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: يَتَخَوَّلنَا، بِاللَّامِ، فَرده عَلَيْهِ بالنُّون فَلم يرجع لأجل الرِّوَايَة، وكلا اللَّفْظَيْنِ جَائِز، وَالصَّوَاب: بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وباللام، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: مَعْنَاهُ يتخذنا خولاً. وَيُقَال: يناجينا بهَا. وَقيل: يُصْلِحنَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يذللنا بهَا، يُقَال: خول الله لَك أَي: ذلله لَك وسخره. وَقيل: يحبسهم عَلَيْهَا كَمَا يحبس الخول. قَوْله: (كَرَاهِيَة السَّآمَة) من كرهت الشَّيْء أكرهه كَرَاهَة وكراهية، والسآمة مثل الملالة، بِنَاء وَمعنى، وَقَالَ أَبُو زيد: سئمت من الشَّيْء أسأم سأماً وسآمةً وسآماً: إِذا مللته، وَرجل سؤوم.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (النَّبِي) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ اسْم كَانَ. وَقَوله: (يَتَخَوَّلنَا) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل النصب على أَنَّهَا خبر: كَانَ. فَإِن قلت: كَانَ لثُبُوت خَبَرهَا مَاضِيا، و: يَتَخَوَّلنَا، إِمَّا حَال وَإِمَّا اسْتِقْبَال، فَمَا وَجه الْجمع بَينهمَا؟ قلت: كَانَ يُرَاد بِهِ الِاسْتِمْرَار، وَكَذَا الْفِعْل الْمُضَارع، فاجتماعهما يُفِيد شُمُول الْأَزْمِنَة. وَقَالَ الأصوليون: قَوْله: كَانَ حَاتِم يكرم الضَّيْف، يُفِيد تكْرَار الْفِعْل فِي الْأَزْمَان، وَالْبَاء فِي: بِالْمَوْعِظَةِ، تتَعَلَّق: بيتخولنا، قَوْله: (فِي الْأَيَّام) ، صفة لموعظة أَي: بِالْمَوْعِظَةِ الكائنة فِي الْأَيَّام. قَوْله: (كَرَاهِيَة السَّآمَة) ، كَلَام إضافي مَنْصُوب على أَنه مفعول لَهُ، أَي: لأجل كَرَاهِيَة السَّآمَة، وصلَة السَّآمَة محذوفة، لِأَنَّهُ يُقَال: سأمت من الشَّيْء، وَالتَّقْدِير: كَرَاهِيَة السَّآمَة من الموعظة. وَقَوله: (علينا) إِمَّا يتَعَلَّق بالسآمة على تضمين السَّآمَة معنى الْمَشَقَّة، أَي: كَرَاهَة الْمَشَقَّة علينا، إِذْ الْمَقْصُود بَيَان رفق النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، بالأمة وشفقته عَلَيْهِم ليأخذوا مِنْهُ بنشاط وحرص لَا عَن ضجر وملل، وَإِمَّا يَجْعَل صفة، وَالتَّقْدِير: كَرَاهِيَة السَّآمَة الطارئة علينا. وَإِمَّا يَجْعَل حَالا، وَالتَّقْدِير: كَرَاهِيَة السَّآمَة حَال كَونهَا طارئة علينا. وَإِمَّا يتَعَلَّق بالمحذوف، وَالتَّقْدِير: كَرَاهِيَة السَّآمَة شَفَقَة علينا. فَافْهَم.
بَيَان الْمعَانِي: الْمَعْنى: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعظ الصَّحَابَة فِي أَوْقَات مَعْلُومَة، وَلم يكن يسْتَغْرق الْأَوْقَات خوفًا عَلَيْهِم من الْملَل والضجر، كَمَا كَانَ نَهَاهُم بقوله: (لَا يُصَلِّي أحد خاماً وركيه) . وكما قَالَ: (ابدأوا بالعشاء لِئَلَّا تشْغَلُوا عَن الإقبال على الله تَعَالَى بِغَيْرِهِ) . وَعَن الصَّلَاة وَعَن النِّيَّة، وَقد وَصفه الله تَعَالَى بالرفق بأمته فَقَالَ: {عَزِيز عَلَيْهِ ماعنتم} (التَّوْبَة: 128) الْآيَة: فَإِن قلت: أَيجوزُ أَن يكون المُرَاد من السَّآمَة سآمة رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من القَوْل؟ قلت: لَا يجوز، وَيدل عَلَيْهِ السِّيَاق وقرينة الْحَال.

69 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ: حدّثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ قَالَ: حدّثنا شُعْبَةُ قَالَ: حدّثنيأبو التَّيَّاح عَن أنسٍ، رَضِي الله عَنهُ، عَن النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وبشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا) .
(الحَدِيث 69 طرفه فِي: 6125) .
هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة الثَّانِيَة كَمَا ذَكرْنَاهُ.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن بشار، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد

(2/45)


الشين الْمُعْجَمَة، ابْن عُثْمَان بن دَاوُد بن كيسَان الْعَبْدي الْبَصْرِيّ، كنيته أَبُو بكر ولقبه بنْدَار، واشتهر بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ بنداراً فِي الحَدِيث، جمع حَدِيث بَلَده، وَبُنْدَار، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون النُّون وَالدَّال الْمُهْملَة وبالراء: الْحَافِظ. وَقَالَ أَحْمد: كتبت عَنهُ نَحوا من خمسين ألف حَدِيث، روى عَنهُ السِّتَّة وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم الرازيان وَعبد اللَّه بن مُحَمَّد الْبَغَوِيّ وَمُحَمّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة، وَعنهُ قَالَ: كتب عني خَمْسَة قُرُون، وسألوني الحَدِيث وَأَنا ابْن ثَمَان عشرَة سنة. وَقَالَ: ولدت سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَة، وَقَالَ البُخَارِيّ: مَاتَ فِي رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين يَعْنِي وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان الْأَحول. الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: أَبُو التياح، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة، واسْمه يزِيد بن حميد، بِالتَّصْغِيرِ، الضبعِي من أنفسهم، سمع أنسا وَعمْرَان بن حُصَيْن من الصَّحَابَة، وخلقاً من التَّابِعين وَمن بعدهمْ، قَالَ أَحْمد: هُوَ ثِقَة ثَبت. وَقَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ: هُوَ مَعْرُوف ثِقَة، مَاتَ سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الْخَامِس: أنس بن مَالك.
بَيَان الْأَنْسَاب: الْعَبْدي: نِسْبَة إِلَى عبد بن نصر بن كلاب بن مرّة فِي قُرَيْش، وَفِي ربيعَة بن نزار عبد الْقَيْس بن أفصى، وَفِي تَمِيم عبد اللَّه بن دارم، وَفِي خولان عبد اللَّه بن جَبَّار، وَفِي هَمدَان عبد بن غيلَان بن أرحب. الضبعِي، بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: نِسْبَة إِلَى ضبيعة بن زيد بن مَالك فِي الْأَنْصَار، وَفِي ربيعَة بن نزار ضبيعة بن ربيعَة بن نزار، وَفِي بني ثَعْلَبَة ضبيعة بن قيس.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِالْجمعِ والإفراد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَمِنْهَا: أَنهم أَئِمَّة أجلاء.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن آدم عَن شُعْبَة بِهِ، وَرَوَاهُ مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن عبد اللَّه بن معَاذ عَن أَبِيه، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن عبيد بن سعيد، وَعَن مُحَمَّد بن الْوَلِيد عَن غنْدر، كلهم عَن شُعْبَة بِهِ، فَوَقع للْبُخَارِيّ عَالِيا رباعياً من طَرِيق آدم، وآدَم مِمَّن انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ عَن مُسلم، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن بنْدَار بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (يسروا) ، أَمر من: يسر ييسر تيسيراً من الْيُسْر، وَهُوَ نقيض الْعسر. قَوْله: (وَلَا تُعَسِّرُوا) ، من عسر تعسيراً. يُقَال: عسرت الْغَرِيم أعسره عسراً، إِذا طلبت مِنْهُ الدّين على عسرته. وَقَالَ ابْن طريف: هَذَا مِمَّا جَاءَ على فعل وأفعل: كعسرتك عسراً وأعسرتك، إِذا طلبت مِنْك الدّين على عسرة، وعسر الشَّيْء وعسر، بِضَم السِّين وَكسرهَا، عسراً وعسارة، وعسر الرجل: قل سماحه وضاق خلقه، وأعسر الرجل: افْتقر. وَفِي (الْعباب) : قد عسر الْأَمر، بِالضَّمِّ، عسراً فَهُوَ عسر وعسير، وعسر عَلَيْهِ الْأَمر، بِالْكَسْرِ، يعسر عسراً، بِالتَّحْرِيكِ، أَي: التاث، فَهُوَ عسر. وَيُقَال: عسرت النَّاقة بذنبها تعسر عسراً أَو عسراناً، مِثَال: ضرب يضْرب ضربا وضربانا: إِذا شالت بِهِ، وعسرت الْمَرْأَة إِذا عسر ولادها، وعسرني فلَان إِذا جَاءَ على يساري، والمعسور ضد الميسور، والمعسرة ضد الميسرة، وهما مصدران. وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: هما صفتان، والعسرى نقيض الْيُسْرَى. قَوْله: (وبشروا) ، من الْبشَارَة وَهِي الْإِخْبَار بِالْخَيرِ، وَهِي نقيض: النذارة، وَهِي الْإِخْبَار بِالشَّرِّ. يُقَال: بشرت الرجل أُبَشِّرهُ، بِالضَّمِّ، بشرا وبشوراً من الْبشرَة، وَكَذَلِكَ الإبشار والتبشير. يُقَال: أبشر وَبشر. قَالَ الله تَعَالَى: {وابشروا بِالْجنَّةِ} (فصلت: 30) {وبشروا الَّذين آمنُوا} (الْبَقَرَة: 25، وَيُونُس: 2) {ذَلِك الَّذِي يبشر} (الشورى: 23) ثَلَاث لُغَات فِي الْقُرْآن أبشر وَبشر وَبشر بِالتَّخْفِيفِ، وَالِاسْم: الْبشَارَة والبشارة، بِالْكَسْرِ وَالضَّم، تَقول: بَشرته بمولود، وأبشرتك بِالْخَيرِ، وبشرتك. وَقَالَ الصغاني: الْبشَارَة، بِالْكَسْرِ وَالضَّم، أَي حق مَا يعْطى على التبشير. وَقَالَ اللحياني، رَحمَه الله تَعَالَى: الْبشَارَة مَا بشرت من بطن الْأَدِيم، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الْبشَارَة والقشارة والخسارة. إِسْقَاط النَّاس، وبشرت بِكَذَا، بِكَسْر الشين، أبشر، أَي: استبشرت. قَوْله: (وَلَا تنفرُوا) ، من: نفر، بِالتَّشْدِيدِ، تنفيراً. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (يسروا) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل مقول القَوْل. قَوْله: (وَلَا تُعَسِّرُوا) عطف على: يسروا، وَيجوز عطف النَّهْي على الْأَمر كَمَا بِالْعَكْسِ، وَالْخلاف فِي عطف الْخَبَر على الْإِنْشَاء وَبِالْعَكْسِ، كَمَا عرف فِي مَوْضِعه، وَكَذَا الْكَلَام فِي قَوْله: (بشروا وَلَا تنفرُوا) .
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (يسروا) أَمر بالتيسير، لَا يُقَال: الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه، فَمَا الْفَائِدَة فِي قَوْله: (وَلَا تُعَسِّرُوا) ؟ لأَنا نقُول: لَا نسلم ذَلِك، وَلَئِن سلمنَا فالغرض التَّصْرِيح بِمَا لزم ضمنا للتَّأْكِيد. وَيُقَال: لَو اقْتصر على

(2/46)


قَوْله: (يسروا) ، وَهُوَ نكرَة لصدق ذَلِك على من يسر مرّة وعسر فِي مُعظم الْحَالَات، فَإِذا قَالَ: وَلَا تُعَسِّرُوا، انْتَفَى التعسير فِي جَمِيع الْأَحْوَال من جَمِيع الْوُجُوه، وَكَذَلِكَ الْجَواب عَن قَوْله: (وَلَا تنفرُوا) لَا يُقَال: كَانَ يَنْبَغِي أَن يقْتَصر على قَوْله: (وَلَا تُعَسِّرُوا وَلَا تنفرُوا) لعُمُوم النكرَة فِي سِيَاق النَّفْي، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من عدم التعسير ثُبُوت التَّيْسِير، وَلَا من عدم التنفير ثُبُوت التَّيْسِير، فَجمع بَين هَذِه الْأَلْفَاظ لثُبُوت هَذِه الْمعَانِي، لِأَن هَذَا الْمحل يَقْتَضِي الإسهاب، وَكَثْرَة الْأَلْفَاظ لَا الِاخْتِصَار لشبهه بالوعظ، وَالْمعْنَى: وبشروا النَّاس أَو الْمُؤمنِينَ بِفضل الله تَعَالَى وثوابه، وجزيل عطائه وسعة رَحمته، وَكَذَا الْمَعْنى فِي قَوْله: (وَلَا تنفرُوا) يَعْنِي: بِذكر التخويف وأنواع الْوَعيد، فيتألف من قرب إِسْلَامه بترك التَّشْدِيد عَلَيْهِم، وَكَذَلِكَ من قَارب الْبلُوغ من الصّبيان، وَمن بلغ وَتَابَ من الْمعاصِي يتلطف بجميعهم بأنواع الطَّاعَة قَلِيلا قَلِيلا، كَمَا كَانَت أُمُور الْإِسْلَام على التدريج فِي التَّكْلِيف شَيْئا بعد شَيْء، لِأَنَّهُ مَتى يسر على الدَّاخِل فِي الطَّاعَة المريد للدخول فِيهَا، سهلت عَلَيْهِ وتزايد فِيهَا غَالِبا، وَمَتى عسر عَلَيْهِ أوشك أَن لَا يدْخل فِيهَا. وَإِن دخل أوشك أَن لَا يَدُوم أَو لَا يستحملها.
وَفِيه الْأَمر للولاة بالرفق، وَهَذَا الحَدِيث من جَوَامِع الْكَلم لاشْتِمَاله على خيري الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، لِأَن الدُّنْيَا دَار الْأَعْمَال، وَالْآخِرَة دَار الْجَزَاء، فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يتَعَلَّق بالدنيا بالتسهيل، وَفِيمَا يتَعَلَّق بِالآخِرَة بالوعد بِالْخَيرِ والإخبار بالسرور تَحْقِيقا لكَونه رَحْمَة للْعَالمين فِي الدَّاريْنِ.
بَيَان البديع: اعْلَم أَن بَين: (يسروا) ، وَبَين (بشروا) ، جناس خطي، والجناس بَين اللَّفْظَيْنِ تشابههما فِي اللَّفْظ، وَهَذَا من الجناس التَّام الْمُتَشَابه، وَهَذَا بَاب من أَنْوَاع البديع الَّذِي يزِيد فِي كَلَام البليغ حسنا وطلاوة. فَإِن قلت: كَانَ الْمُنَاسب أَن يُقَال بدل: (وَلَا تنفرُوا) وَلَا تنذروا، لِأَن الْإِنْذَار وَهُوَ نقيض التبشير لَا التنفير. قلت: الْمَقْصُود من الْإِنْذَار التنفير، فَصرحَ بِمَا هُوَ الْمَقْصُود مِنْهُ.

12 - (بَاب مَنْ جَعَلَ لأهْلِ العِلْمِ أيَّاماً مَعلُومَةً)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من جعل، فالباب مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى: من، هَذَا رِوَايَة كَرِيمَة. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أَيَّامًا مَعْلُومَات) ، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (يَوْمًا مَعْلُوما) . وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر، لِأَن الْبَاب الأول فِي التخويل بِالْمَوْعِظَةِ وَالْعلم، وَقد ذكرنَا أَن مَعْنَاهُ هُوَ التعهد فِي أَيَّام خوفًا من الْملَل والضجر، وَهَذَا الْبَاب أَيْضا كَذَلِك.
70 - حدّثنا عُثْمانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ: حدّثنا جَرِيرٌ عنْ مَنْصورٍ عنْ أبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمنِ! لَوَدِدْتُ أنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: أمَا إنَّهُ يمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أنِّي أكْرَهُ أنْ أُمِلَّكُم، وإِنِّي أتَخَوَّلُكُم بالمَوعِظَةِ كَمَا كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَخَوَّلُنا بِها مخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.
. [/ محه
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهَا، إِمَّا أَن يكون بِفعل الصَّحَابِيّ عِنْد من يَقُول بِهِ، أَو بالاستنباط من فعل النَّبِي. صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عُثْمَان بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن أبي شيبَة بن عُثْمَان ابْن خواستي، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَبعد الْألف سين مُهْملَة ثمَّ تَاء مثناة من فَوق، أَبُو الْحسن الْعَبْسِي الْكُوفِي، أَخُو أبي بكر وقاسم، وَهُوَ أكبر من أبي بكر بِثَلَاث سِنِين، وَأَبُو بكر أجل مِنْهُ، نزل بَغْدَاد ورحل إِلَى مَكَّة والري، وَكتب الْكثير، روى عَنهُ يحيى بن مُحَمَّد الذهلي وَمُحَمّد بن سعد وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم الرازيان وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه، وروى النَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ، سُئِلَ عَنهُ مُحَمَّد بن عبد اللَّه بن نمير، فَقَالَ: وَمثله يسْأَل عَنهُ؟ وَقَالَ يحيى بن معِين وَأحمد بن عبد اللَّه ثِقَة. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: مَا علمت إلاَّ خيرا، وَأثْنى عَلَيْهِ وَكَانَ يُنكر عَلَيْهِ أَحَادِيث حدث بهَا. مِنْهَا حَدِيث جرير عَن الثَّوْريّ عَن ابْن عقيل عَن جَابر قَالَ: شهد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عيد الْمُشْركين، توفّي لثلاث بَقينَ من الْمحرم سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: جرير بن عبد الحميد بن قرط بن هِلَال، وَقيل: تيري بدل هِلَال، الضَّبِّيّ الْكُوفِي. قَالَ: ولدت سنة مَاتَ الْحسن، وَهِي سنة عشر وَمِائَة، وَتُوفِّي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَة، وَقيل: سبع، روى عَنهُ ابْن الْمُبَارك وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق وَأَبُو بكر، قَالَ مُحَمَّد بن سعد: كَانَ ثِقَة كثير الْعلم يرحل إِلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: ثِقَة. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: صَدُوق من أهل الْعلم روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: مَنْصُور بن

(2/47)


الْمُعْتَمِر بن عبد اللَّه بن ربيعَة، وَيُقَال: ابْن الْمُعْتَمِر بن عتاب بن عبد اللَّه بن ربيعَة، بِضَم الرَّاء، وعتاب، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق، روى عَنهُ أَيُّوب وَالْأَعْمَش ومسعر وَالثَّوْري. وَهُوَ أثبت النَّاس فِيهِ، أخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي الْعلم وَالْوُضُوء وَالْغسْل وَالْحج وَغير مَوضِع عَن شُعْبَة وَالثَّوْري وَابْن عُيَيْنَة وشيبان وروح بن الْقَاسِم وَحَمَّاد بن زيد وَجَرِير بن عبد الحميد عَنهُ عَن أبي وَائِل، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ وَمُجاهد وَالزهْرِيّ ورِبْعِي وَسَالم بن أبي الْجَعْد، أُرِيد على الْقَضَاء فَامْتنعَ. قيل: صَامَ أَرْبَعِينَ سنة وَقَامَ لَيْلهَا، وَقيل: سِتِّينَ سنة، وعمش من الْبكاء، وَمَات سنة ثَلَاث، وَقيل: اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: أَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة. الْخَامِس: عبد اللَّه بن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِي اسناده التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كوفيون. وَمِنْهَا: أَنهم أَئِمَّة أجلاء.
بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (يذكر النَّاس) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا خبر: كَانَ. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ) ، أَي لعبد اللَّه، رجل قيل: إِنَّه يزِيد بن مُعَاوِيَة النَّخعِيّ. قَوْله: (يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن) هُوَ كنية عبد اللَّه بن مَسْعُود. قَوْله: (لَوَدِدْت) اللَّام فِيهِ جَوَاب قسم مَحْذُوف، أَي: وَالله لَوَدِدْت أَي: لاحببت. وَقَول: (أَنَّك) بِفَتْح الْهمزَة، لِأَنَّهُ مفعول وددت. وَقَوله: (ذكرتنا) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ خبر أَن. قَوْله: (كل يَوْم) كَلَام إضافي مَنْصُوب على الظّرْف. قَوْله: (أما) ، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْمِيم، من حُرُوف التَّنْبِيه، قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: أما، هَذِه على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون حرف استفتاح بِمَنْزِلَة أَلا، وَيكثر قبل الْقسم. وَالثَّانِي: أَن يكون بِمَعْنى حَقًا، وَأما، هَهُنَا من الْقسم الأول. قَوْله: (إِنَّه) ، بِكَسْر الْهمزَة، وَالضَّمِير فِيهِ للشأن، وبفتح أَن بعد أما إِذا كَانَ بِمَعْنى حَقًا. قَوْله: (يَمْنعنِي) فعل ومفعول. وَقَوله: (أَنِّي أكره) ، بِفَتْح الْهمزَة من: أَنِّي، فَاعل يَمْنعنِي، و: أكره، جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر أَن. قَوْله: (أَن أَملكُم) أَن: هَذِه مَصْدَرِيَّة، و: أَملكُم، بِضَم الْهمزَة وَكسر الْمِيم وَتَشْديد اللاَّم، وَالتَّقْدِير: أكره إملالكم وضجركم. قَوْله: (وَإِنِّي) بِكَسْر الْهمزَة. قَوْله: (اتخولكم) جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: إِن. قَوْله: (كَمَا كَانَ) الْكَاف للتشبيه، و: مَا، مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (بهَا) أَي بِالْمَوْعِظَةِ. قَوْله: (علينا) يتَعَلَّق بالمخافتة، وَيحْتَمل أَن يتَعَلَّق بالسآمة.
قَالَ ابْن بطال: فِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، من الِاقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والمحافظة على سنته على حسب معاينتهم لَهَا مِنْهُ وتجنب مُخَالفَته لعلمهم بِمَا فِي مُوَافَقَته من عظم الْأجر، وَمَا فِي مُخَالفَته بعكس ذَلِك.

13 - (بَاب مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيْراً يُفَقِّههُ فِي الدِّينِ)

أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان من يرد الله بِهِ خيرا وَمن مَوْصُولَة (وَيرد الله بِهِ خيرا) صلتها وَإِنَّمَا جزم يرد لِأَنَّهُ فعل الشَّرْط لِأَن من يتَضَمَّن معنى الشَّرْط وَخيرا مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول يرد وَقَوله (يفقهه) مجزوم لِأَنَّهُ جَوَاب الشَّرْط قَوْله (فِي الدّين) فِي رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره سَاقِط. وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول شَأْن من يذكر النَّاس فِي أُمُور دينهم بِبَيَان مَا يَنْفَعهُمْ وَمَا يضرهم وَلَيْسَ هَذَا إِلَّا شَأْن الْفَقِيه فِي الدّين وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب هُوَ مدح هَذَا الْفَقِيه وَكَيف لَا يكون ممدوحاً وَقد أَرَادَ الله بِهِ خيرا حَيْثُ جعله فَقِيها فِي دينه عَالما بِأَحْكَام شَرعه.

71 - حدّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حدّثنا ابنُ وَهْبٍ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ: قَالَ حُمَيْدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ مُعاويَةَ خَطِيباً يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: (مَنْ يُردِ الله بهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وإنَّمَا أَنا قاسِمٌ وَالله يُعْطِي ولَنْ تَزَالَ هَذِه الأُمَّةُ قائِمَةً عَلَى أمْر الله لاَ يضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفُمْ حَتَّى يأتِي أمْرُ الله) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَإِنَّهَا كلهَا من عين الحَدِيث. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فِي قَوْله: بَاب من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين، أعلم أَن مثله سمي مُرْسلا عِنْد طَائِفَة وَالْحق وَعَلِيهِ الْأَكْثَر أَنه إِذا ذكر الحَدِيث مثلا، ثمَّ وصل بِهِ إِسْنَاده يكون مُسْندًا لَا مُرْسلا قلت: لَا دخل للإسناد والإرسال فِي مثل هَذَا الْموضع لِأَنَّهُ تَرْجَمَة، وَلَا يقْصد بهَا إِلَّا الْإِشَارَة إِلَى مَا قَصده من وضع هَذَا الْبَاب.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة. الأول: سعيد بن عفير، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء،

(2/48)


وَهُوَ سعيد بن كثير بن عفير بن مُسلم بن يزِيد ابْن حبيب بن الْأسود، أَبُو عُثْمَان الْبَصْرِيّ، سمع مَالِكًا، وَابْن وهب وَاللَّيْث وَآخَرين، روى عَنهُ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي وَالْبُخَارِيّ، وروى مُسلم وَالنَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ، وَقَالَ ابْن حَاتِم فِي كتاب (الْجرْح وَالتَّعْدِيل) : سَمِعت مِنْهُ، أَي: وَقَالَ: لم يكن بالثبت، كَانَ يقْرَأ من كتب النَّاس وَهُوَ صَدُوق. وَقَالَ الْمَقْدِسِي: وَكَانَ سعيد بن عفير من أعلم النَّاس بالأنساب وَالْأَخْبَار الْمَاضِيَة والتواريخ والمناقب أديباً فصيحاً، حَاضر الْحجَّة مليح الشّعْر، توفّي سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد اللَّه بن وهب بن مُسلم الْبَصْرِيّ، أَبُو مُحَمَّد الْقرشِي الفِهري، مولى يزِيد بن رمانة، مولى أبي عبد الرَّحْمَن يزِيد بن أنيس الفِهري. سمع مَالِكًا وَاللَّيْث وَالثَّوْري وَابْن أبي ذِئْب وَابْن جريج وَغَيرهم، وَذكر بَعضهم أَنه روى عَن نَحْو أَرْبَعمِائَة رجل، وَأَن مَالِكًا لم يكْتب إِلَى أحد: الْفَقِيه إلاَّ إِلَيْهِ، وَقَالَ أَحْمد: هُوَ صَحِيح الحَدِيث، يفصل السماع من الْعرض، والتحديث من الحَدِيث، مَا أصح حَدِيثه وَمَا أثْبته. وَقَالَ يحيى بن معِين: ثِقَة. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: نظرت فِي نَحْو ثَمَانِينَ ألف حَدِيث من حَدِيث ابْن وهب بِمصْر وَغير مصر، فَلَا أعلم أَنِّي رَأَيْت حَدِيثا لَا أصل لَهُ. وَقَالَ: صَالح الحَدِيث صَدُوق. وَقَالَ أَحْمد بن صَالح: حدث بِمِائَة ألف حَدِيث، وَقَالَ ابْن بكير بن وهب: أفقه من ابْن الْقَاسِم، ولد فِي ذِي الْقعدَة سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة، وَقيل: سنة أَربع، وفيهَا مَاتَ الزُّهْرِيّ، وَتُوفِّي بِمصْر سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة، لأَرْبَع بَقينَ من شعْبَان، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَلَيْسَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) عبد اللَّه بن وهب غَيره، فَهُوَ من أفرادهما، وَفِي التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه: عبد اللَّه بن وهب الْأَسدي تَابِعِيّ، وَفِي النَّسَائِيّ: عبد اللَّه بن وهب عَن تَمِيم الدَّارِيّ، وَصَوَابه: ابْن موهب، وَفِي الصَّحَابَة عبد اللَّه بن وهب خَمْسَة. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي، وَقد تقدم. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَقد تقدم. الْخَامِس: حميد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله عَنهُ، وَقد تقدم. السَّادِس: مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان: صَخْر بن حَرْب الْأمَوِي، كَاتب الْوَحْي، أسلم عَام الْفَتْح، وعاش ثمانياً وَسبعين سنة، وَمَات سنة سِتِّينَ فِي رَجَب، ومناقبه جمة، وَفِي آخر عمره أَصَابَته لقُوَّة، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام، مائَة حَدِيث وَثَلَاثَة وَسِتُّونَ حَدِيثا، ذكر البُخَارِيّ مِنْهَا ثَمَانِيَة، وَمُسلم خَمْسَة، واتفقا على أَرْبَعَة أَحَادِيث. روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة مُعَاوِيَة بن صَخْر غَيره، وَفِيهِمْ مُعَاوِيَة فَوق الْعشْرين.
بَيَان الطَّائِف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وايلي ومدني. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ. وَمِنْهَا: أَنه قَالَ فِي هَذَا الْإِسْنَاد وَعَن ابْن شهَاب قَالَ: قَالَ حميد بن عبد الرَّحْمَن، وَلم يذكر فِيهِ لفظ السماع. وَهَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النّسخ من البُخَارِيّ، وَجَاء فِي مُسلم فِيهِ عَن ابْن شهَاب حَدثنِي حميد بِلَفْظ التحديث، وَقد اتّفق أَصْحَاب الْأَطْرَاف وَغَيرهم على أَنه من حَدِيث ابْن شهَاب عَن حميد الْمَذْكُور. قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: فَلَا أَدْرِي لم قَالَ فِيهِ: قَالَ حميد، مَعَ الِاتِّفَاق على تحديث ابْن شهَاب عَن حميد الْمَذْكُور. قلت: يُمكن أَن يكون ذَلِك لأجل شهرة تحديث ابْن شهَاب عَنهُ بِهَذَا الحَدِيث اقْتصر فِيهِ على هَذَا القَوْل، وَلِهَذَا قَالَ فِي بَاب الِاعْتِصَام: عَن ابْن شهَاب، أَخْبرنِي حميد. وللبخاري عَادَة بذلك. وَقد قَالَ فِي كتاب التَّوْكِيل فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (رجل آتَاهُ الله الْقُرْآن) ، فَقَالَ فِيهِ: حَدثنَا عَليّ بن عبد اللَّه، ثَنَا سُفْيَان قَالَ الزُّهْرِيّ ... وَذكر الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: سَمِعت من سُفْيَان مرَارًا، لم أسمعهُ يذكر الْخَبَر، وَهُوَ من صَحِيح حَدِيثه، لَكِن يُمكن أَن يُقَال: سُفْيَان مُدَلّس، فَلذَلِك نبه عَلَيْهِ البُخَارِيّ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (من يرد الله) ، بِضَم الْيَاء، مُشْتَقّ من الْإِرَادَة، وَهِي عِنْد الْجُمْهُور صفة مخصصة لأحد طرفِي الْمَقْدُور بالوقوع، وَقيل: إِنَّهَا اعْتِقَاد النَّفْع أَو الضّر، وَقيل: ميل يتبعهُ الِاعْتِقَاد، وَهَذَا لَا يَصح فِي الْإِرَادَة الْقَدِيمَة. قَوْله: (خيرا) أَي: مَنْفَعَة، وَهُوَ ضد: الشَّرّ، وَهُوَ اسْم هَهُنَا، وَلَيْسَ بافعل التَّفْضِيل. قَوْله: (يفقهه) ، أَي يَجعله فَقِيها فِي الدّين. وَالْفِقْه لُغَة: الْفَهم، وَعرفا: الْعلم بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة الفرعية عَن أدلتها التفصيلية بالاستدلال، وَلَا يُنَاسب هُنَا إلاَّ الْمَعْنى اللّغَوِيّ ليتناول فهم كل علم من عُلُوم الدّين. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الْفَقِيه هُوَ الزَّاهِد فِي الدُّنْيَا، الرَّاغِب فِي الْآخِرَة، والبصير بِأَمْر دينه، المداوم على عبَادَة ربه. وَقَالَ ابْن سَيّده فِي (الْمُخَصّص) : فقه الرجل فقاهة وَهُوَ فَقِيه من قوم فُقَهَاء، وَالْأُنْثَى فقيهة. وَقَالَ بَعضهم: فقه الرجل فقها وفقها وفقها، ويعدى فَيُقَال: فقهته، كَمَا يُقَال عَلمته. وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: فقه فقهاً وَهُوَ فَقِيه كعلم علما وَهُوَ عليم، وَقد افقهته وفقهته: عَلمته وفهمته، والتفقه تعلم الْفِقْه، وفقهت عَلَيْهِ فهمت، وَرجل فقه وفقيه، والانثى فقهة. وَيُقَال للشَّاهِد: كَيفَ فقاهتك

(2/49)


لما اشهدناك، وَلَا يُقَال فِي غير ذَلِك. وَالْفِقْه: الفطنة. وَقَالَ عِيسَى بن عمر: قَالَ لي أعرابيّ شهِدت عَلَيْك بالفقه. أَي: بالفطنة. وَفِي (الْمُحكم) : الْفِقْه الْعلم بالشَّيْء والفهم لَهُ، وَغلب على علم الدّين لسيادته وشرفه وفضله على سَائِر أَنْوَاع الْعُلُوم، والانثى: فقيهة من نسْوَة فقهاية، وَحكى اللحياني: من نسْوَة فُقَهَاء، وَهِي نادرة. وَكَأن قَائِل هَذَا من الْعَرَب لم يعْتد بهاء التَّأْنِيث، ونظيرها نسْوَة فُقَرَاء، وَفِي (الموعب) لِابْنِ التيامي: فقه فقهاً مِثَال: حذر إِذا فهم، وافقهته إِذا بيّنت لَهُ. وَقَالَ ثَعْلَب: الْقُرْآن أصل لكل علم بِهِ فقه الْعلمَاء، فَمن قَالَ: فقه فَهُوَ فَقِيه، مِثَال: مرض فَهُوَ مَرِيض، وَفقه فَهُوَ فَقِيه، ككرم وظرف فَهُوَ كريم وظريف. وَفِي (الصِّحَاح) : فاقهته إِذا باحثته فِي الْعلم. وَفِي (الْجَامِع) لأبي عبد اللَّه: فقه الرجل تفقه فقهاً فَهُوَ فَقِيه. وَقيل: أفْصح من هَذَا فقه يفقه مثل علم يعلم علما، وَالْفِقْه علم الدّين، وَقد تفقه الرجل تفقها كثر علمه، وَفُلَان مَا يتفقه وَلَا يفقه، أَي: لَا يعلم وَلَا يفهم، وَقَالُوا: كل عَالم بِشَيْء فَهُوَ فَقِيه بِهِ، وَفِي (الغريبين) : فقه: فهم، وَفقه: صَار فَقِيها. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُقَال للْعلم الْفِقْه لِأَنَّهُ عَن الْفَهم يكون، والعالم فَقِيه لِأَنَّهُ إِنَّمَا يعلم بفهمه على تَسْمِيَة الشَّيْء بِمَا كَانَ لَهُ سَببا. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: قَوْلهم: رجل فَقِيه، مَعْنَاهُ: عَالم. قَوْله: (قَاسم) اسْم فَاعل من قسم الشَّيْء يقسمهُ قسما، بِالْفَتْح، وَالْقسم، بِالْكَسْرِ، الْحَظ والنصيب، وبالفتح أَيْضا هُوَ: الْقِسْمَة بَين النِّسَاء فِي البيتوتة، وَالْقسم، بِفتْحَتَيْنِ: الْيَمين. وَالْقِسْمَة الِاسْم. قَوْله: (وَلنْ تزَال) : الْفرق بَين: زَالَ يزَال، وَزَالَ يَزُول هُوَ أَن الأول من الْأَفْعَال النَّاقِصَة، وَيلْزمهُ النَّفْي بِخِلَاف الثَّانِي، وَالْأمة: الْجَمَاعَة. قَالَ الْأَخْفَش: هُوَ فِي اللَّفْظ وَاحِد، وَفِي الْمَعْنى جمع. وكل جنس من الْحَيَوَان أمة. وَفِي الحَدِيث: (لَوْلَا أَن الْكلاب أمة من الْأُمَم لأمرت بقتلها) . وَالْأمة الْقَامَة، وَالْأمة الطَّرِيقَة وَالدّين. وَقَوله تَعَالَى: {كُنْتُم خير أمة} (آل عمرَان: 110) قَالَ الْأَخْفَش: يُرِيد أهل أمة، أَي: خير أهل دين، وَالْأمة الْحِين. قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُر بعد أمة} (يُوسُف: 45) وَقَالَ: {وَلَئِن أخرنا عَنْهُم الْعَذَاب إِلَى أمة مَعْدُودَة} (هود: 8) وَالْأمة، بِالْكَسْرِ، لُغَة فِي الْأمة، وَالْأمة، بِالْكَسْرِ أَيْضا: النِّعْمَة، وَالْأمة، بِالضَّمِّ: الْملك أَيْضا، وَأَتْبَاع الْأَنْبِيَاء أَيْضا. وَالْأمة: الرجل الْجَامِع للخير أَيْضا، وَالْأمة: الْأُم، وَالْأمة: الرجل الْمُنْفَرد بِرَأْيهِ لَا يُشَارِكهُ فِيهِ أحد.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (سَمِعت مُعَاوِيَة) ، فِيهِ حذف المسموع، لِأَن المسموع هُوَ الصَّوْت لَا الشَّخْص. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: تَقول سَمِعت رجلا يَقُول كَذَا، فتوقع الْفِعْل على الرجل، وتحذف المسموع لِأَنَّك وَصفته بِمَا يسمع، أَو جعلته حَالا عَنهُ فاغناك عَن ذكره، وَلَوْلَا الْوَصْف أَو الْحَال لم يكن مِنْهُ بُد أَن يُقَال: سَمِعت قَول فلَان. قَوْله: (خَطِيبًا) نصب على الْحَال من مُعَاوِيَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: حَال من الْمَفْعُول لَا من الْفَاعِل، لِأَنَّهُ أقرب. وَلِأَن الْخطْبَة تلِيق بالولاة. قلت: لَا يُبَادر الْوَهم قطّ هَهُنَا إِلَى كَون حميد هُوَ الْخَطِيب حَتَّى يُعلل بِهَذَيْنِ التعليلين، وَلَو قَالَ مثل مَا قُلْنَا لَكَانَ كفى. قَوْله: (يَقُول) جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال. وَقَوله: (سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) مقول القَوْل، وَقَوله: يَقُول، أَيْضا حَال. وَقَوله: (من) ، مَوْصُولَة يتَضَمَّن معنى الشَّرْط، فَلذَلِك جزم: يرد، و: يفقه، لِأَنَّهُمَا فعل الشَّرْط وَالْجَزَاء. قَوْله: (إِنَّمَا) ، من أَدَاة الْحصْر، و: أَنا، مُبْتَدأ، و: قَاسم، خَبره. وَقَوله: (وَالله) أَيْضا مُبْتَدأ، وَيُعْطِي خَبره، وَالْجُمْلَة تصح أَن تكون حَالا. قَوْله: (وَلنْ تزَال) كلمة: لن، ناصبة للنَّفْي فِي الِاسْتِقْبَال، وتزال من الْأَفْعَال النَّاقِصَة. وَقَوله: (هَذِه الْأمة) اسْمه: وقائمة، خَبره. قَوْله: (لَا يضرهم) جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول، وَقَوله: (من) فَاعله، وَهِي مَوْصُولَة، و: خالفهم، جملَة صلتها. فَإِن قلت: مَا موقع هَذِه الْجُمْلَة، أَعنِي قَوْله: لَا يضرهم من خالفهم؟ قلت: حَال، وَقد علم أَن الْمُضَارع الْمَنْفِيّ، إِذا وَقع حَالا يجوز فِيهِ الْوَاو وَتَركه. قَوْله: (حَتَّى) غَايَة لقَوْله: لن تزَال، فَإِن قلت: حكم مَا بعد الْغَايَة مُخَالف لما قبلهَا، فَيلْزم مِنْهُ أَن يَوْم الْقِيَامَة لَا تكون هَذِه الْأمة على الْحق، وَهُوَ بَاطِل. قلت: المُرَاد من قَوْله: (على أَمر الله) هُوَ التكاليف، وَيَوْم الْقِيَامَة لَيْسَ زمَان التكاليف، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال: لَيْسَ الْمَقْصُود مِنْهُ معنى الْغَايَة، بل هُوَ مَذْكُور لتأكيد التَّأْبِيد، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض} (هود: 107 108) وَيُقَال: حَتَّى، للغاية على أَصله، وَلكنه غَايَة لقَوْله: لَا يضرهم، لِأَنَّهُ أقرب. وَالْمرَاد من قَوْله: (حَتَّى يَأْتِي أَمر الله) حَتَّى يَأْتِي بلَاء الله فيضرهم حينئذٍ، فَيكون مَا بعْدهَا مُخَالفا لما قبلهَا، أَو يكون ذكره لتأكيد عدم الْمضرَّة، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يضرهم أبدا.، وَالْمرَاد قَوْله: حَتَّى يَأْتِي أَمر الله يَوْم الْقِيَامَة، والمضرة لَا تمكن يَوْم الْقِيَامَة، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يضرهم من خالفهم أصلا. فَإِن قلت: إِذا جَاءَ الدَّجَّال مثلا، وقتلهم فقد ضرهم. قلت: على تَفْسِير أَمر الله ببلاء الله ظَاهر لَا يرد شَيْء، وعَلى التَّفْسِير بِيَوْم الْقِيَامَة، يُقَال: لَيْسَ ذَلِك مضرَّة فِي الْحَقِيقَة، إِذْ

(2/50)


الشَّهَادَة أعظم الْمَنَافِع من جِهَة الْآخِرَة، وَإِن كَانَت مضرَّة بِحَسب الظَّاهِر. فَإِن قلت: هَل يجوز أَن تتَعَلَّق حَتَّى بالفعلين الْمَذْكُورين بِأَن يتنازعا فِيهَا. قلت: لَا مَانع من ذَلِك، لَا من جِهَة الْمَعْنى وَلَا من جِهَة الْإِعْرَاب. فَإِن قلت: إِذا كَانَ: حَتَّى، بِمَعْنى: إِلَى، وَيكون معنى: حَتَّى يَأْتِي أَمر الله: إِلَى أَن يَأْتِي أَمر الله. هَل يكون بَينهمَا فرق؟ قلت: نعم بَينهمَا فرق، لِأَن مجرور: حَتَّى، يجب أَن يكون آخر جُزْء من الشَّيْء أَو مَا يلاقي آخر جُزْء مِنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله: {وَلَو أَنهم صَبَرُوا حَتَّى تخرج إِلَيْهِم} (الحجرات: 5) الْفرق بَينهمَا أَن: حَتَّى، مُخْتَصَّة بالغاية المضروبة، أَي الْمعينَة. تَقول: أكلت السَّمَكَة حَتَّى رَأسهَا، وَلَو قلت: حَتَّى نصفهَا أَو صدرها لم يجز، و: إِلَى، عَامَّة فِي كل غَايَة. فَافْهَم.
بَيَان الْمعَانِي: فِيهِ تنكير قَوْله: خيرا، لفائدة التَّعْمِيم، لِأَن النكرَة فِي سِيَاق الشَّرْط كالنكرة فِي سِيَاق النَّفْي، فَالْمَعْنى: من يرد الله بِهِ جَمِيع الْخيرَات. وَيجوز أَن يكون التَّنْوِين للتعظيم، وَالْمقَام يَقْتَضِي ذَلِك كَمَا فِي قَول الشَّاعِر:
(لَهُ حَاجِب عَن كل أَمر يشينه)

أَي: صَاحب عَظِيم، ومانع قوي. وَفِيه إِنَّمَا الَّتِي تفِيد الْحصْر، وَالْمعْنَى: مَا أَنا إلاَّ قَاسم. فَإِن قلت: كَيفَ يَصح هَذَا وَله صِفَات أُخْرَى مثل كَونه رَسُولا وَمُبشرا وَنَذِيرا. قلت: الْحصْر بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَاد السَّامع، وَهَذَا ورد فِي مقَام كَانَ السَّامع مُعْتَقدًا كَونه معطياً، وَإِن اعْتقد أَنه قَاسم فَلَا يَنْفِي إلاَّ مَا اعتقده السَّامع، لَا كل صفة من الصِّفَات، وحينئذٍ إِن اعْتقد أَنه معطٍ لَا قَاسم فَيكون من بَاب قصر الْقلب، أَي: مَا أَنا إلاَّ قَاسم، أَي: لَا معط، وَإِن اعْتقد أَنه قَاسم ومعط أَيْضا فَيكون من قصر الْإِفْرَاد، أَي: لَا شركَة فِي الوصفين، أَي: بل أَنا قَاسم فَقَط، وَمَعْنَاهُ أَنا أقسم بَيْنكُم، فَألْقى إِلَى كل وَاحِد مَا يَلِيق بِهِ، وَالله يوفق من يَشَاء مِنْكُم لفهمه والتفكر فِي مَعْنَاهُ. وَقَالَ التوربشتى: إعلم أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أعلم أَصْحَابه أَنه لم يفضل فِي قسْمَة مَا أوحى الله إِلَيْهِ أحدا من أمته على أحد، بل سوَّى فِي الْبَلَاغ وَعدل فِي الْقِسْمَة، وَإِنَّمَا التَّفَاوُت فِي الْفَهم وَهُوَ وَاقع من طَرِيق الْعَطاء، وَلَقَد كَانَ بعض الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، يسمع الحَدِيث فَلَا يفهم مِنْهُ إلاّ الظَّاهِر الْجَلِيّ، ويسمعه آخر مِنْهُم، أَو من بعدهمْ، فيستنبط مِنْهُ مسَائِل كَثِيرَة، وَذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يَشَاء. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين فِي شَرحه: (إِنَّمَا أَنا قَاسم) ، يَعْنِي: أَنه لم يستأثر بِشَيْء من مَال الله، وَقَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (مَا لي بِمَا أَفَاء الله عَلَيْكُم إلاَّ الْخمس، وَهُوَ مَرْدُود عَلَيْكُم) . وَإِنَّمَا قَالَ: (أَنا قَاسم) تطييباً لنفوسهم لمفاضلته فِي الْعَطاء، فَالْمَال لله والعباد لله وأَنا قَاسم بِإِذن الله مَاله بَين عباده. قلت: بَين الْكَلَامَيْنِ بونٌ، لِأَن الْكَلَام الأول يشْعر الْقِسْمَة فِي تَبْلِيغ الْوَحْي وَبَيَان الشَّرِيعَة، وَهَذَا الْكَلَام صَرِيح فِي قسْمَة المَال. وَلكُل مِنْهُمَا وَجه. أما الأول: فَإِن نظر صَاحبه إِلَى سِيَاق الْكَلَام فَإِنَّهُ أخبر فِيهِ أَن من أَرَادَ الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين، أَي: فِي دين الْإِسْلَام. قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام} (آل عمرَان: 19) وَقيل: الْفِقْه فِي الدّين الْفِقْه فِي الْقَوَاعِد الْخمس، ويتصل الْكَلَام عَلَيْهَا فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، ثمَّ لما كَانَ فقههم متفاوتاً لتَفَاوت الأفهام أَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: (إِنَّمَا أَنا قَاسم) . يَعْنِي هَذَا التَّفَاوُت لَيْسَ مني، وَإِنَّمَا الَّذِي هُوَ مني هُوَ الْقِسْمَة بَيْنكُم يعْنى: تَبْلِيغ الْوَحْي إِلَيْهِم من غير تَخْصِيص بِأحد، والتفاوت فِي أفهامهم من الله تَعَالَى، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعْطِي، يُعْطي النَّاس على قدر مَا تعلّقت بِهِ إِرَادَته، لِأَن ذَلِك فضل مِنْهُ يؤتيه من يَشَاء. وَأما الثَّانِي: فَإِن نظر صَاحبه إِلَى ظَاهر الْكَلَام، لِأَن الْقِسْمَة حَقِيقَة تكون فِي الْأَمْوَال، وَلَكِن يتَوَجَّه هُنَا السُّؤَال عَن وَجه مُنَاسبَة هَذَا الْكَلَام لما قبله، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن مورد الحَدِيث كَانَ وَقت قسْمَة المَال حِين خصص، عَلَيْهِ السَّلَام، بَعضهم بِالزِّيَادَةِ لحكمة اقْتَضَت ذَلِك، وخفيت عَلَيْهِم، حَتَّى تعرض مِنْهُم بِأَن هَذِه قسْمَة فِيهَا تَخْصِيص لناس، فَرد عَلَيْهِم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَبِقَوْلِهِ: (من يرد الله بِهِ) إِلَى آخِره ... ، يَعْنِي: من أَرَادَ الله بِهِ خيرا يوفقه وَيزِيد لَهُ فِي فهمه فِي أُمُور الشَّرْع، وَلَا يتَعَرَّض لأمر لَيْسَ على وفْق خاطره، إِذْ الْأَمر كُله لله، وهوالذي يُعْطي وَيمْنَع، وَهُوَ الَّذِي يزِيد وَينْقص، وَالنَّبِيّ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَاسم وَلَيْسَ بمعط حَتَّى ينْسب إِلَيْهِ الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان، وَعَن هَذَا فسر أَصْحَاب الْكَلَام الثَّانِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (وَالله يُعْطي) بقَوْلهمْ: أَي: من قسمت لَهُ كثيرا فبقدر الله تَعَالَى، وَمَا سبق لَهُ فِي الْكتاب، وَكَذَا من قسمت لَهُ قَلِيلا فَلَا يزْدَاد لأحد فِي رزقه، كَمَا لَا يزْدَاد فِي أَجله. وَقَالَ الدَّاودِيّ: فِي قَوْله: (إِنَّمَا أَنا قَاسم وَالله يُعْطي) ، دَلِيل على أَنه إِنَّمَا يُعْطي بِالْوَحْي، ثمَّ قَالَ فِي آخر كَلَامه: إِن شَأْن أمته الْقيام على أَمر الله إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وهم الَّذين أَرَادَ الله بهم خيرا، حَتَّى فقهوا فِي الدّين، ونصروا الْحق وَلم يخَافُوا مِمَّن خالفهم، وَلَا أَكثر ثوابهم:

(2/51)


{أُولَئِكَ حزب الله أَلا أَن حزب الله هم المفلحون} (المجادلة: 22) قَوْله: (وَالله يُعْطي) فِيهِ تَقْدِيم لَفْظَة الله لإِفَادَة التقوية عِنْد السكاكي، وَلَا يحْتَمل التَّخْصِيص أَي: الله يُعْطي لَا محَالة، وَأما عِنْد الزَّمَخْشَرِيّ فيحتمله أَيْضا، وحينئذٍ يكون مَعْنَاهُ: الله يُعْطي لَا غَيره. فَإِن قلت: إِذا كَانَت هَذِه الْجُمْلَة حَالية، أَعنِي قَوْله: (وَالله يُعْطي) ، فَمَا يكون معنى الْحصْر حِينَئِذٍ؟ قلت: الْحصْر بإنما دَائِما فِي الْجُزْء الْأَخير فَيكون مَعْنَاهُ: مَا أَنا بقاسم إلاَّ فِي حَال إِعْطَاء الله لَا فِي حَال غَيره، وَفِيه حذف الْمَفْعُول أَعنِي: مفعول يُعْطي، لِأَنَّهُ جعله كاللازم إعلاماً بِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ بَيَان اتخاد هَذِه الْحَقِيقَة، أَي: حَقِيقَة الْإِعْطَاء لَا بَيَان الْمَفْعُول، أَي الْمُعْطِي. قَوْله: (وَلنْ تزَال)
الخ، أَرَادَ بِهِ أَن أمته آخر الْأُمَم، وَأَن عَلَيْهَا تقوم السَّاعَة، وَإِن ظَهرت أشراطها وَضعف الدّين فَلَا بُد أَن يبْقى من أمته من يقوم بِهِ، فَإِن قيل: قَالَ، عَلَيْهِ السَّلَام: (لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى لَا يَقُول أحد الله) ، وَقَالَ أَيْضا: (لَا تقوم السَّاعَة إلاَّ على شرار الْخلق) . قُلْنَا: هَذِه الْأَحَادِيث لَفظهَا الْعُمُوم وَالْمرَاد مِنْهَا الْخُصُوص، فَمَعْنَاه: لَا تقوم على أحد يوحد الله تَعَالَى إلاَّ بِموضع كَذَا، إِذْ لَا يجوز أَن تكون الطَّائِفَة الْقَائِمَة بِالْحَقِّ توَحد الله هِيَ شرار الْخلق، وَقد جَاءَ ذَلِك مُبينًا فِي حَدِيث أبي أُمَامَة، رَضِي الله عَنهُ. أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق لَا يضرهم من خالفهم، قيل: وَأَيْنَ هم يَا رَسُول الله؟ قَالَ: بِبَيْت الْمُقَدّس، أَو أكناف بَيت الْمُقَدّس) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَا مُخَالفَة بَين الْأَحَادِيث، لِأَن المُرَاد من أَمر الله الرّيح اللينة الَّتِي تَأتي قريب الْقِيَامَة، فتأخذ روح كل مُؤمن ومؤمنة، وَهَذَا قبل الْقِيَامَة. وَأما الحديثان الأخيران فهما على ظاهرهما إِذْ ذَلِك عِنْد الْقِيَامَة. فَإِن قلت: من هَؤُلَاءِ الطَّائِفَة؟ قلت: قَالَ البُخَارِيّ: هم أهل الْعلم. وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: إِن لم يَكُونُوا أهل الحَدِيث فَلَا أَدْرِي من هم. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: إِنَّمَا أَرَادَ الإِمَام أَحْمد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل أَن تكون هَذِه الطَّائِفَة مفرقة من أَنْوَاع الْمُؤمنِينَ، فَمنهمْ مُقَاتِلُونَ وَمِنْهُم فُقَهَاء وَمِنْهُم محدثون وَمِنْهُم زهاد إِلَى غَيره ذَلِك.
بَيَان استنبطاط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ دلَالَة على حجية الْإِجْمَاع، لِأَن مفهومة أَن الْحق لَا يعدو الْأمة، وَحَدِيث: لَا تَجْتَمِع أمتِي على الضَّلَالَة، ضَعِيف. الثَّانِي: اسْتدلَّ بِهِ الْبَعْض على امْتنَاع خلو الْعَصْر عَن الْمُجْتَهد. الثَّالِث: فِيهِ فضل الْعلمَاء على سَائِر النَّاس. الرَّابِع: فِيهِ فضل الْفِقْه فِي الدّين على سَائِر الْعُلُوم، وَإِنَّمَا ثَبت فَضله لِأَنَّهُ يَقُود إِلَى خشيَة الله تَعَالَى والتزام طَاعَته. الْخَامِس: فِيهِ إخْبَاره، عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام، بالمغيبات. وَقد وَقع مَا أخبر بِهِ، وَللَّه الْحَمد، فَلم تزل هَذِه الطَّائِفَة من زَمَنه وهلم جراً، وَلَا تَزُول حَتَّى يَأْتِي أَمر الله تَعَالَى.

14 - (بَاب الفَهمِ فِي العِلْمِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْفَهم فِي الْعلم. قَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ الْجَوْهَرِي: فهمت الشَّيْء، أَي: عَلمته، فالفهم وَالْعلم بِمَعْنى وَاحِد، فَكيف يَصح أَن يُقَال: الْفَهم فِي الْعلم؟ ثمَّ أجَاب بقوله: المُرَاد من الْعلم الْمَعْلُوم، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَاب إِدْرَاك المعلومات. قلت: تَفْسِير الْفَهم بِالْعلمِ غير صَحِيح، لِأَن الْعلم عبارَة عَن الْإِدْرَاك الْكُلِّي، والفهم جودة الذِّهْن، والذهن قُوَّة تقتنص الصُّور والمعاني، وتشمل الإدراكات الْعَقْلِيَّة والحسية. وَقَالَ اللَّيْث: يُقَال: فهمت الشَّيْء، أَي: عقلته وعرفته، وَيُقَال: فهم وَفهم، بتسكين الْهَاء وَفتحهَا، وَهَذَا قد فسر الْفَهم بالمعرفة، وَهُوَ غير الْعلم. فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: من حَيْثُ إِن الْفَهم فِي الْعلم دَاخل فِي قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين) . وَقد مر أَن الْفِقْه هُوَ الْفَهم. فَافْهَم.

72 - حدّثناعَلِيٌّ حدّثنا سُفْيانُ قَالَ: قَالَ لِي ابنُ أبي نَجِيحٍ: عَن مُجاهدٍ قَالَ: صَحِبْتُ ابنَ عُمَرَ إلَى المَدِينَةِ فَلْم أسْمَعه يُحدِّثُ عَن رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ حَدِيثاً واحِداً، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأُتَي بِجُمَّارٍ فَقَالَ: (إنّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثلُها كَمثَلِ المُسْلِمِ) ، فَأرَدْتُ أَن أقُولَ: هِيَ النَّخْلَةُ، فإذَا أَنا أصْغَرُ القَوْم، فَسَكَتُّ. قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (هِيَ النَّخْلَةُ) .

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن من الشّجر)
الحَدِيث، كَانَ على سَبِيل الاستعلام مِنْهُم،

(2/52)


وَأَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فهم ذَلِك الْعلم، وَلكنه مَنعه عَن الإبداء حياؤه وصغره.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عَليّ بن عبد اللَّه بن جَعْفَر بن نجيح، بِفَتْح النُّون وَكسر الْجِيم وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة، السَّعْدِيّ، مَوْلَاهُم أَبُو الْحسن الْمَدِينِيّ الإِمَام المبرز فِي هَذَا الشَّأْن. وَقَالَ البُخَارِيّ: مَا استصغرت نَفسِي عِنْد أحد قطّ إلاَّ عِنْد ابْن الْمَدِينِيّ. وَقَالَ: عَليّ خير من عشرَة آلَاف مثل الشَّاذكُونِي. وَقَالَ عبد الرَّحْمَن: عَليّ أعلم النَّاس بِحَدِيث رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، خَاصَّة. وَقَالَ السَّمْعَانِيّ وَغَيره: كَانَ أعلم أهل زَمَانه بِحَدِيث رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، وَعنهُ قَالَ: تركت من حَدِيثي مائَة ألف حَدِيث، مِنْهَا ثَلَاثُونَ ألفا لعباد بن صُهَيْب. وَقَالَ الْأَعْين: رَأَيْت عَليّ بن الْمَدِينِيّ مُسْتَلْقِيا، وَأحمد بن حَنْبَل عَن يَمِينه، وَيحيى بن معِين عَن يسَاره، وَهُوَ يملي عَلَيْهِمَا. روى عَنهُ أَحْمد وَإِسْمَاعِيل القَاضِي والذهلي وَأَبُو حَاتِم وَالْبُخَارِيّ وَغَيرهم، وروى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ عَن رجل عَنهُ، وَلم يخرج لَهُ مُسلم شَيْئا، أخرج البُخَارِيّ عَنهُ عَن ابْن عُيَيْنَة وَابْن علية وَعَن الْقطَّان ومروان بن مُعَاوِيَة وَغَيرهم، ولد سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَة بسامرا، وَقَالَ البُخَارِيّ: مَاتَ بالعسكر لليلتين بَقِيَتَا من ذِي الْقعدَة سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَقد تقدم. الثَّالِث: عبد اللَّه بن يسَار، وكنية يسَار: أَبُو نجيح، مولى الْأَخْنَس بن شريق. قَالَ يحيى الْقطَّان: كَانَ قدرياً. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: مكي ثِقَة، يُقَال فِيهِ: يرى الْقدر صَالح الحَدِيث. وَقَالَ عَليّ: سَمِعت يحيى يَقُول: ابْن أبي نجيح من رُؤَسَاء الدعاة، أخرج البُخَارِيّ فِي الْعلم والجنائز، وَفِي غير مَوضِع عَن شُعْبَة وَالثَّوْري وَابْن عُيَيْنَة وَإِبْرَاهِيم بن نَافِع وَابْن علية عَنهُ عَن عَطاء، وَمُجاهد وَعبد اللَّه بن كثير، وَعَن أَبِيه عَن مُسلم، وَلم يخرج البُخَارِيّ لِأَبِيهِ شَيْئا، توفّي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الرَّابِع: مُجَاهِد بن جبر، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقيل: جُبَير، أَبُو الْحجَّاج المَخْزُومِي، مولى عبد اللَّه بن السَّائِب من الطَّبَقَة الثَّانِيَة من تَابِعِيّ أهل مَكَّة وفقهائها، إِمَام مُتَّفق على جلالته وإمامته وتوثيقه، وَهُوَ إِمَام فِي الْفِقْه وَالتَّفْسِير والْحَدِيث، روى عَن ابْن عَبَّاس وَجَابِر وَأبي هُرَيْرَة، وَأخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي بَاب: إِثْم من قتل معاهداً بِغَيْر جرم، عَن الْحسن بن عمر، وَعنهُ عَن عبد اللَّه بن عَمْرو ابْن الْعَاصِ مَرْفُوعا: (من قتل معاهداً لم يرح رَائِحَة الْجنَّة) . وَهُوَ مُرْسل. كَمَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مُجَاهِد لم يسمع من عبد اللَّه بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَإِنَّمَا سَمعه من جُنَادَة بن أبي أُميَّة عَن ابْن عَمْرو، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مَرْوَان عَن الْحسن بن عَمْرو عَنهُ، وَأنكر شُعْبَة وَابْن أبي حَاتِم سَمَاعه من عَائِشَة، وَكَذَا ابْن معِين: لَكِن حَدِيثه عَنْهَا فِي (الصَّحِيحَيْنِ) ، وَقَالَ مُجَاهِد: قَالَ لي ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: وددت أَن نَافِعًا يحفظ كحفظك. وَقَالَ يحيى الْقطَّان: مرسلات مُجَاهِد أحب إِلَيّ من مرسلات عَطاء. وَقَالَ مُجَاهِد: عرضت الْقُرْآن على ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، ثَلَاثِينَ مرّة. مَاتَ سنة مائَة، وَقيل: اثْنَتَيْنِ، وَقيل: ثَلَاث، وَقيل: أَربع عَن ثَلَاث وَثَمَانِينَ سنة، وَقد رأى هاروت وماروت وَكَاد يتْلف، وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة: مُجَاهِد بن جبر، غير هَذَا. وَفِي مُسلم وَالْأَرْبَعَة: مُجَاهِد بن مُوسَى الْخَوَارِزْمِيّ، شيخ ابْن عُيَيْنَة، وَفِي الْأَرْبَعَة: مُجَاهِد بن وردان عَن عُرْوَة. الْخَامِس: عبد اللَّه ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
بَيَان الْأَنْسَاب: السَّعْدِيّ: فِي قبائل، فَفِي قيس غيلَان: سعد بن بكر بن هوَازن بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة، بن حَفْصَة بن قيس غيلَان. وَفِي كنَانَة: سعد بن لَيْث بن بكر بن عبد منَاف، وَفِي أَسد بن خُزَيْمَة: سعد بن ثَعْلَبَة بن دودان بن أَسد، وَفِي مُرَاد: سعد بن غطيف ابْن عبد اللَّه بن نَاجِية بن مُرَاد، وَفِي طَيء: سعد بن نَبهَان بن عَمْرو بن الْغَوْث بن طي، وَفِي تَمِيم: سعد بن زيد مَنَاة بن تَمِيم، وَفِي خولان قضاعة: سعد بن خولان، وَفِي جذام: سعد بن إِيَاس بن حرَام بن حزَام، وَفِي خثعم: سعد بن مَالك. الْمَدِينِيّ: بِإِثْبَات الْيَاء آخر الْحُرُوف، نِسْبَة إِلَى الْمَدِينَة. وَكَانَ أَصله من الْمَدِينَة وَنزل الْبَصْرَة، وَقَالَ السَّمْعَانِيّ: وَالْأَصْل فِيمَن ينْسب إِلَى مَدِينَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُقَال فِيهِ: مدنِي: بِحَذْف الْيَاء، وَإِلَى غَيرهَا بِإِثْبَات الْيَاء، واستثنوا هَذِه، فَقَالُوا: الْمَدِينِيّ بِإِثْبَات الْيَاء. المَخْزُومِي: نِسْبَة إِلَى مَخْزُوم بن يقظة بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر، وَهُوَ فِي قُرَيْش، وَفِي عبس أَيْضا: مَخْزُوم بن مَالك بن غَالب بن قطيعة بن عبس.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومكي وكوفي. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ سُفْيَان، قَالَ: قَالَ لي ابْن نجيح، وَلم يقل: حَدثنِي، وَفِي (مُسْند الْحميدِي) عَن سُفْيَان: حَدثنِي ابْن أبي نجيح. وَقَالَ الْكرْمَانِي: روى عَن

(2/53)


مُجَاهِد مُعَنْعنًا، وَعَن ابْن أبي نجيح بِلَفْظ: قَالَ، وَالْبُخَارِيّ لَا يذكر المعنعن إلاّ إِذا ثَبت السماع، وَلَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّد إِمْكَان السماع، كَمَا اكْتفى بِهِ مُسلم، فالمعنعن إِذا لم يكن من المدلس كَانَ أَعلَى دَرَجَة من: قَالَ، لِأَن: قَالَ: إِنَّمَا تذكر عِنْد الْمُجَاورَة، لَا على سَبِيل النَّقْل والتحميل، ثمَّ فِي لَفْظَة: لي، إِشَارَة إِلَى أَنه جاور مَعَه وحدة. وَقَالَ البُخَارِيّ: كلما قلت: قَالَ لي فلَان، فَهُوَ عرض ومناولة، فَمَا رُوِيَ عَن سُفْيَان يحْتَمل أَن يكون عرضا لِسُفْيَان أَيْضا.
وَبَقِيَّة مَا فِيهِ من الْكَلَام من تعدد مَوْضِعه. وَمن أخرجه، ولغاته، وَإِعْرَابه ومعانيه، قد مرت فِي أَوَائِل كتاب الْعلم.
قَوْله: (صَحِبت ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا إِلَى الْمَدِينَة) اللَّام فِيهَا للْعهد، أَي: مَدِينَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يذكر مُبْتَدأ الصُّحْبَة. قَالَ الْكرْمَانِي: وَالظَّاهِر أَنه من مَكَّة، وَفِيه الدّلَالَة على أَن ابْن عمر كَانَ متوقياً للْحَدِيث، وَقد كَانَ علم قَول أَبِيه: أقلوا الحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَه ابْن بطال. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: قد يكون تَركه لغير هَذَا الْوَجْه، إِمَّا لعدم نشاط الِاشْتِغَال بمؤونة السّفر وتعبه، أَو لعدم السُّؤَال. قلت: يُمكن التَّوْفِيق بَينهم بِأَنَّهُ كَانَ يتوقى الحَدِيث مَا لم يسْأَل، فَإِذا سُئِلَ أجَاب، واكثر الْجَواب عِنْد كَثْرَة السُّؤَال فَإِنَّهُ كَانَ من المكثرين فِي الحَدِيث. قَوْله: (يحدث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) حَال عَن الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي لم اسْمَعْهُ. قَوْله: (إِلَّا حَدِيثا) أَرَادَ بِهِ الحَدِيث الَّذِي بعده مُتَّصِلا بِهِ. قَوْله: (فَأتي) بِضَم الْهمزَة. قَوْله: (بجمار) ، بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الْمِيم: وَهُوَ شَحم النخيل، وَهُوَ الَّذِي يُؤْكَل مِنْهُ. وَفِي (الْعباب) : وَيُقَال لَهُ الجامور أَيْضا. قَوْله: (مثلهَا) ، بِفَتْح الْمِيم: أَي صفتهاالعجيبة، والمثل، وَإِن كَانَ بِحَسب اللُّغَة الصّفة، لَكِن لَا تسْتَعْمل إلاَّ عِنْد الصّفة العجيبة. قَوْله: (فَأَرَدْت أَن أَقُول) أَي: فِي جَوَاب الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حَيْثُ قَالَ: حَدثُونِي مَا هِيَ! كَمَا علم من سَائِر الرِّوَايَات. قَوْله: (فَسكت) ، بِضَم التَّاء على صِيغَة الْمُتَكَلّم، وسكوته كَانَ استحياء وتعظيماً للأكابر.

15 - (بَاب الاغْتِباطِ فِي العِلْمِ والحِكْمَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الِاغْتِبَاط، وَهُوَ افتعال من: غبطه يغبطه، من بَاب: ضرب يضْرب، غبطاً وغبطةً، وَالْغِبْطَة أَن يتَمَنَّى مثل حَال المغبوط من غير أَن يُرِيد زَوَالهَا عَنهُ، وَلَيْسَ بحسد. والحسد أَن: يتَمَنَّى زَوَال مَا فِيهِ. وَقَالَ ابْن بزرج: غبط يغبط، مِثَال: سمع يسمع، لُغَة فِيهِ. وَبِنَاء بَاب الافتعال مِنْهَا يدل على التَّصَرُّف وَالسَّعْي فِيهَا، وَالْحكمَة معرفَة الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَهِيَ مرادفة للْعلم، فالعطف عَلَيْهِ من بَاب الْعَطف التفسيري، إلاّ أَن يُفَسر الْعلم بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ من الْيَقِين المتناول للظن أَيْضا، أَو تفسر الْحِكْمَة بِمَا يتَنَاوَل سداد الْعَمَل أَيْضا.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي الْبَاب الأول: الْفَهم فِي الْعلم، وَفِي هَذَا الْبَاب: الِاغْتِبَاط فِي الْعلم، وَكلما زَاد فهم الرجل فِي الْعلم زَادَت غبطته فِيهِ، لِأَن من زَاد فهمه وَقَوي يزْدَاد نظره فِيمَن هُوَ أقوى فهما مِنْهُ، ويتمنى أَن يكون مثله، وَهُوَ الْغِبْطَة.
وَقَالَ عُمَرُ: تَفقَّهُوا قَبْلَ أَن تُسَوَّدُوا

الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ لَيْسَ من تَمام التَّرْجَمَة إِذْ لم يذكر بعده شَيْء يكون هَذَا مُتَعَلقا بِهِ، إلاَّ أَن يُقَال: الِاغْتِبَاط فِي الْحِكْمَة على الْقَضَاء لَا يكون إلاَّ قبل كَون الغابط قَاضِيا، وَيَزُول حينئذٍ. وَقَالَ عمر: بِمَعْنى الْمصدر، أَي: قَول عمر، رَضِي الله عَنهُ. قلت: كَيفَ يؤول الْمَاضِي بِالْمَصْدَرِ وَتَأْويل الْفِعْل بِالْمَصْدَرِ لَا يكون إلاَّ بِوُجُود أَن المصدرية؟ وَقَالَ ابْن الْمُنِير: مُطَابقَة قَول عمر، رَضِي الله عَنهُ، للتَّرْجَمَة أَنه جعل السِّيَادَة من ثَمَرَات الْعلم، وَأوصى الطَّالِب باغتنام الزِّيَادَة قبل بُلُوغ دَرَجَة السِّيَادَة، وَذَلِكَ يُحَقّق اسْتِحْقَاق الْعلم بِأَن يغبط صَاحبه، فَإِنَّهُ سَبَب لسيادته. قلت: لَا شكّ أَن الَّذِي يتفقه قبل السِّيَادَة يغبط فِي فقهه وَعلمه، فَيدْخل فِي قَوْله: بَاب الِاغْتِبَاط فِي الْعلم.
الثَّانِي: أَن هَذَا الْأَثر الَّذِي علقه أخرجه أَبُو عمر بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أَحْمد بن مُحَمَّد: ثَنَا مُحَمَّد بن عِيسَى، ثَنَا عَليّ بن عبد الْعَزِيز، ثَنَا أَبُو عبيد، ثَنَا ابْن علية ومعاذ عَن ابْن عون عَن ابْن سِيرِين عَن الْأَحْنَف عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ بِهِ. وَأخرجه الْحَوْزِيِّ فِي كِتَابه: ثَنَا إِسْحَاق بن القعْنبِي، ثَنَا بشر بن أبي الْأَزْهَر، ثَنَا خَارِجَة بن مُصعب عَن ابْن عون عَن ابْن سِيرِين عَن الْأَحْنَف عَنهُ بِهِ،

(2/54)


وخارجة ضَعِيف جدا. وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بِسَنَد مُنْقَطع عَن وَكِيع عَن ابْن عون بِهِ. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابه (الْمدْخل) عَن الروذبازي عَن الصفار عَن سَعْدَان بن نصر، ثَنَا وَكِيع عَن ابْن عون بِهِ.
الثَّالِث: قَوْله: (قبل أَن تسودوا) بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْوَاو، أَي: قبل أَن تصيروا سادة، وتعلموا الْعلم مَا دمتم صغَارًا قبل السِّيَادَة والرياسة، وَقبل أَن ينظر إِلَيْكُم، فَإِن لم تعلمُوا قبل ذَلِك استحييتم أَن تعلمُوا بعد الْكبر، فبقيتم جهلاء. وَفِي (مجمع الغرائب) : يحْتَمل أَن معنى قَول عمر، رَضِي الله عَنهُ: قبل أَن تزوجوا فتصيروا سادة بالتحكم على الْأزْوَاج والاشتغال بِهن لهواً، ثمَّ تمحلاً للتفقه. وَمِنْه الاستياد، وَهُوَ: طلب التسيد من الْقَوْم. وَجزم الْبَيْهَقِيّ فِي (مدخله) بِهَذَا الْمَعْنى، وَلم يذكر غَيره. وَقَالَ: مَعْنَاهُ قبل أَن تزوجوا فتصيروا أَرْبَاب بيُوت. قَالَه شمر. وَيُقَال: مَعْنَاهُ لَا تَأْخُذُوا الْعلم من الأصاغر فيزرى بكم ذَلِك، وَهَذَا أشبه بِحَدِيث عبد اللَّه: (لن يزَال النَّاس بِخَير مَا أخذُوا الْعلم عَن أكابرهم) ثمَّ قَوْله: (تسودوا) من: سود يسود تسويداً، وثلاثيه: سَاد يسود وَفِي (الْمُحكم) : سادهم سُودًا وسودداً وسيادة وسيدودة، فاستادهم كسادهم، وسوده. وَهُوَ. وَقَالَ: والسودد: الشّرف، وَقد يهمز، وَضم الدَّال لُغَة طائية، وَالسَّيِّد: الرئيس. وَقَالَ كرَاع: وَجمعه سادة، وَنَظِيره: قيم وقامة. قلت: السَّادة جمع سائدة، وَالْأُنْثَى بِالْهَاءِ، وَفِي (الْمُخَصّص) : ساودني فسدته. وَقَالُوا: سيد وسائد، وَجمع السَّيِّد سادة. وَحكى الزبيدِيّ فِي كتاب (طَبَقَات النَّحْوِيين) : أَن أَبَا مُحَمَّد العذري الْأَعرَابِي قَالَ لإِبْرَاهِيم بن الْحجَّاج الثابر باشبيلية: تالله أَيهَا الْأَمِير مَا سيدتك الْعَرَب، إلاّ بحقك، فَقَالَهَا بِالْيَاءِ، فَلَمَّا أنكر عَلَيْهِ قَالَ: السوَاد السخام، وأصر على أَن الصَّوَاب مَعَه، ومالأه على ذَلِك الْأَمِير لعظم مَنْزِلَته فِي الْعلم. وَفِي (الْجَامِع) : وَهُوَ مسود عَلَيْهِم إِذا جعل سيدهم، والمسود هُوَ الَّذِي سَاد غَيره. وَفِي (الصِّحَاح) : يجمع السَّيِّد على سيائد، بِالْهَمْزَةِ على غير قِيَاس، لِأَن جمع فيعل فياعل بِلَا همز، وَالدَّال فِي سودد زَائِدَة للإلحاق. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الْعَرَب تَقول: هُوَ سيدنَا، أَي: رئيسنا وَالَّذِي نعظمه فِينَا. وَقَالَ الصغاني: سَاد قومه يسودهم سيادة وسودداً وسؤددا، بِالْهَمْزَةِ وَضم الدَّال الأولى، وَهِي لُغَة طي، وسودا عَن الْفراء، وسيدودة. فَهُوَ سيدهم، وهم سادة. وتقديرها: فعلة بِالتَّحْرِيكِ، لِأَن تَقْدِير: سيد فعيل، وَهُوَ مثل: سري وسراة وَلَا نَظِير لَهَا، يدل على ذَلِك أَنه يجمع على سيائد، بِالْهَمْزَةِ، مِثَال: أفيل وأفائل، وتبيع وتبائع. وَقَالَ أهل الْبَصْرَة: تَقْدِير سيد فيعل، جمع على فعلة كَأَنَّهُمْ جمعُوا سائداً مِثَال: قَائِد وقادة، وزائد وزادة. وَالدَّال فِي سودد زَائِدَة للإلحاق بِبِنَاء فعلل مِثَال: برقع. وَقَالَ الْفراء: يُقَال: هَذَا سيد قومه الْيَوْم، فَإِذا أخْبرت أَنه عَن قَلِيل يكون سيدهم، قلت: هُوَ سائد قومه عَن قَلِيل، وَسيد. وَقَالَ الْكسَائي: السَّيِّد من الْمعز المسن، وَقَالَ ابْن فَارس: سمي السَّيِّد سيداً لِأَن النَّاس يلتجئون إِلَى سوَاده، أَي شخصه، وَقَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى: {وألفيا سَيِّدهَا لَدَى الْبَاب} (يُوسُف: 25) أَي زَوجهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} (آل عمرَان: 39) السَّيِّد الَّذِي يفوق فِي الْخَيْر قومه. وَيُقَال: السَّيِّد الْحَلِيم. (وَجَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجل فَقَالَ: أَنْت سيد قُرَيْش؟ فَقَالَ: السَّيِّد الله تَعَالَى) . قَالَ الْأَزْهَرِي: كره أَن يمدح فِي وَجهه، وَأحب التَّوَاضُع. وَقَالَ عِكْرِمَة: السَّيِّد الَّذِي لَا يغلبه غَضَبه. وَقَالَ قَتَادَة: السَّيِّد العابد. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الْعَرَب تَقول: السَّيِّد كل مقهور مغمور بحلمه. وَقَالَ الْفراء: السَّيِّد الْمَالِك، وَفُلَان أسود من فلَان أَي أَعلَى سودداً مِنْهُ، وساودت الرجل من سَواد اللَّوْن وَمن السودد جَمِيعًا أَي غالبته.
الرَّابِع: قَالَ ابْن بطال: قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ذَلِك لِأَن من سوده النَّاس يستحي أَن يقْعد مقْعد المتعلم خوفًا على رياسته عِنْد الْعَامَّة. وَقَالَ يحيى بن معِين: من عَاجل الرياسة فَاتَهُ علم كثير. وَقيل: إِن السِّيَادَة تحصل بِالْعلمِ، وَكلما زَاد الْعلم زَادَت السِّيَادَة بِهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فِي بعض النّسخ بدل: تفهموا تفقهوا، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى الْأَمر. قلت: الْمَشْهُور من الرِّوَايَة: تفقهوا، فَإِنَّهُ يحث بِهِ على تَحْصِيل الْفِقْه. وَفِي كتاب ابْن عمر: قَالَ ابْن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أفضل النَّاس أفضلهم عملا إِذا فقهوا فِي دينهم) . وَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَلا انبؤكم بالفقيه كل الْفَقِيه؟ قَالُوا: بلَى، قَالَ: من لم يقنط النَّاس من رَحْمَة الله، وَلم يؤيسهم من روح الله، وَلم يؤمنهم من مكر الله، وَلَا يدع الْقُرْآن رَغْبَة عَنهُ إِلَى مَا سواهُ أَلا لَا خير فِي عبَادَة لَيْسَ فِيهَا فقه، وَلَا علم لَيْسَ فِيهِ تفهم، وَلَا قِرَاءَة لَيْسَ فِيهَا تدبر) . قَالَ أَبُو عمر: لم يَأْتِ هَذَا الحَدِيث مَرْفُوعا إلاَّ من هَذَا الْوَجْه، وَأَكْثَرهم يوقفونه على عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَن شَدَّاد بن أَوْس يرفعهُ: (لَا يفقه العَبْد كل الْفِقْه حَتَّى يمقت النَّاس فِي ذَات الله تَعَالَى، وَلَا يفقه العَبْد كل الْفِقْه حَتَّى يرى لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا كَثِيرَة) . وَقَالَ أَبُو عمر: لَا يَصح مَرْفُوعا، وَإِنَّمَا الصَّحِيح أَنه من قَول أبي الدَّرْدَاء. وَصدقَة السمين رَاوِيه مَرْفُوعا مجمع على ضعفه. وَقَالَ قَتَادَة:

(2/55)


من لم يعرف الِاخْتِلَاف لم يشم الْفِقْه بِأَنْفِهِ. وَقَالَ ابْن أبي عرُوبَة: لَا نعده عَالما، وَكَذَا قَالَه عُثْمَان بن عَطاء عَن أَبِيه. وَقَالَ الْحَارِث بن يَعْقُوب: الْفَقِيه من فقه فِي الْقِرَاءَة، وَعرف مكيدة الشَّيْطَان.
قَالَ أبوُ عبْدِ اللَّهِ: وبعْدَ أنْ تُسوَّدُوا، وقدْ تَعَلَّمَ أصْحابُ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كِبَرِ سِنّهِمْ.
هَذِه زيادات جَاءَت فِي رِوَايَة الْكشميهني فَقَط، وَأَرَادَ البُخَارِيّ بقوله: (قَالَ أَبُو عبد اللَّه) ، نَفسه لِأَن كنيته أَبُو عبد اللَّه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَلَا بُد من مُقَدّر يتَعَلَّق بِهِ لفظ: وَبعد، وَالْمُنَاسِب أَن يقدر: لفظ تفهموا، يَعْنِي الْمَاضِي، فَيكون لفظ: (تسودوا) بِفَتْح التَّاء مَاضِيا كَمَا أَنه يحْتَمل أَن يكون: تسودوا، من التسويد الَّذِي من السوَاد، أَي: بعد أَن يسودوا لحيتهم مثلا، أَي: فِي كبرهم، أَو أَي: بعد زَوَال السوَاد أَي فِي الشيب. وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال. قلت: هَذَا كُله تعسف خَارج عَن مَقْصُود البُخَارِيّ، إِذْ مَقْصُوده الْأَمر بالتفقه قبل السِّيَادَة وَبعدهَا. فَقَوله: (وَبعد أَن تسودوا) عطف على قَول عمر، رَضِي الله عَنهُ: قبل أَن تسودوا، وَهُوَ أَيْضا، بِضَم التَّاء كَمَا فِي قَول عمر: رَضِي الله عَنهُ، وَالْمعْنَى: تفقهوا قبل أَن تسودوا وتفقهوا بعد أَن تسودوا، إِذْ لَا يجوز ترك التفقه بعد السِّيَادَة، إِذا فَاتَهُ قبلهَا، وَالدَّلِيل على صِحَة مَا قُلْنَا أَن البُخَارِيّ أكد ذَلِك بقوله: وَقد تعلم أَصْحَاب النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي كبر سنهم، لِأَن النَّاس الَّذين آمنُوا بِالنَّبِيِّ، عَلَيْهِ السَّلَام، وهم كبار مَا تفقهوا إلاَّ فِي كبر سنهم.

73 - حدّثناالحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدثنَا سُفيانُ قَالَ: حدْثني إسْماعِيلُ بنُ أبي خالِدٍ عَلى غيْرِ مَا حدثناهُ الزُّهريُّ قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسَ بنَ أبي حازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لاَ حَسَدَ إلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ الله مَالا فَسُلِّطَ عَلى هَلَكَتهِ فِي الحَقِّ، ورَجُلٌ آتاهُ الله الحكْمَة فَهْوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُها) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن البُخَارِيّ حمل مَا وَقع فِي الحَدِيث من لفظ الْحَسَد على الْغِبْطَة، فَأخْرجهُ عَن ظَاهره وَحمله على الْغِبْطَة، وتمني الْأَعْمَال الصَّالِحَة. وَترْجم الْبَاب عَلَيْهِ.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة، وَالْكل قد ذكرُوا، والْحميدِي: هُوَ أَبُو بكر عبد اللَّه بن الزبير ابْن عِيسَى الْمَكِّيّ، صَاحب الشَّافِعِي، أَخذ عَنهُ ورحل مَعَه إِلَى مصر، وَلما مَاتَ الشَّافِعِي رَجَعَ إِلَى مَكَّة. وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وَقيس بن أبي حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ ثَلَاثَة من التَّابِعين. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين مكي وكوفي. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَقد ذكر أَن الزُّهْرِيّ حَدثهُ بِهَذَا الحَدِيث بِلَفْظ غير اللَّفْظ الَّذِي حَدثهُ بِهِ إِسْمَاعِيل، وَهُوَ معنى قَوْله: حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد على غير مَا حدّثنَاهُ الزُّهْرِيّ، بِرَفْع الزُّهْرِيّ، لِأَنَّهُ فَاعل: حدث، و: نَا، مَفْعُوله، وَالضَّمِير يرجع إِلَى الحَدِيث الَّذِي يدل عَلَيْهِ: حَدثنَا، وَالْغَرَض من هَذَا الْإِشْعَار بِأَنَّهُ سمع ذَلِك من إِسْمَاعِيل على وَجه غير الْوَجْه الَّذِي سمع من الزُّهْرِيّ، إِمَّا مُغَايرَة فِي اللَّفْظ، وَإِمَّا مُغَايرَة فِي الْإِسْنَاد، وَإِمَّا غير ذَلِك. وَفَائِدَته: التقوية وَالتَّرْجِيح بتعداد الطّرق، وَرِوَايَة سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ أخرجهَا البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد عَن عَليّ بن عبد اللَّه عَنهُ، قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيّ عَن سَالم، وَرَوَاهَا مُسلم عَن زُهَيْر بن حَرْب، وَغَيره عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، قَالَ: ثَنَا الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه، سَاقه مُسلم تَاما، وَاخْتَصَرَهُ البُخَارِيّ. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا تَاما فِي فَضَائِل الْقُرْآن من طَرِيق شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: حَدثنِي سَالم بن عبد اللَّه بن عمر، فَذكره.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان. وَأخرجه أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن يحيى الْقطَّان. وَفِي الْأَحْكَام وَفِي الِاعْتِصَام عَن شهَاب بن عباد عَن إِبْرَاهِيم بن حميد الرواسِي. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع، وَعَن مُحَمَّد بن عبد اللَّه بن نمير عَن أَبِيه، وَمُحَمّد بن بشر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن جرير ووكيع وَعَن سُوَيْد بن نصر عَن عبد اللَّه بن الْمُبَارك، ثمانيتهم عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَنهُ بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد عَن مُحَمَّد بن عبد اللَّه بن نمير بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (لَا حسد) ، الْحَسَد: تمني الرجل أَن يحول الله إِلَيْهِ نعْمَة الآخر أَو فضيلته، ويسلبهما عَنهُ.

(2/56)


وَفِي (مجمع الغرائب) : الْحَسَد أَن يرى الْإِنْسَان لِأَخِيهِ نعْمَة فيتمنى أَن تكون لَهُ وتزول عَن أَخِيه، وَهُوَ مَذْمُوم. والغبط: أَن يرى النِّعْمَة فيتمناها لنَفسِهِ من غير أَن تَزُول عَن صَاحبهَا، وَهُوَ مَحْمُود. وَقَالَ ثَعْلَب: المنافسة أَن يتَمَنَّى مثل مَا لَهُ من غير أَن يفْتَقر وَهُوَ مُبَاح. وَيُقَال: الْحَسَد تمني زَوَال النِّعْمَة عَن الْمُنعم عَلَيْهِ، وَبَعْضهمْ خصّه بِأَن يتَمَنَّى ذَلِك لنَفسِهِ، وَالْحق أَنه أَعم. وَقَالَ ابْن سَيّده: يُقَال: حسده يحسده ويحسده حسداً، وَرجل حَاسِد من قوم حسد وَالْأُنْثَى بِغَيْر هَاء، وهم يتحاسدون. وحسده على الشَّيْء وحسده إِيَّاه. وَفِي (الصِّحَاح) : يحسده حسوداً. وَقَالَ الْأَخْفَش: وَبَعْضهمْ يَقُول: يحسده بِالْكَسْرِ، والمصدر حسد بِالتَّحْرِيكِ، وحسادة، وهم قوم حسدة مثل: حَامِل وَحَملَة. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الْحَسَد مَأْخُوذ من الحسود، وَهُوَ القراد، فَهُوَ يقشر الْقلب كَمَا يقشر القراد الْجلد فيمص الدَّم. قَوْله: (آتَاهُ الله) بِالْمدِّ فِي أَوله، أَي: اعطاه الله من الإيتاء وَهُوَ الْإِعْطَاء. قَوْله: (على هَلَكته) ، بِفَتْح اللَّام، أَي: هَلَاكه. وَفِي (الْعباب) : هلك الشَّيْء يهْلك بِالْكَسْرِ هَلَاكًا وهلوكاً ومهلكاً ومهلكاً وتهلوكاً وهلكة وتهلكةً وتهلكة. قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} (الْبَقَرَة: 195) وَقَرَأَ الْخَلِيل: إِلَى التَّهْلُكَة، بِالْكَسْرِ. قَالَ اليزيدي: التَّهْلُكَة، بِضَم اللَّام، من نَوَادِر المصادر وَلَيْسَت مِمَّا يجْرِي على الْقيَاس. وَهلك يهْلك مِثَال: شرك يُشْرك لُغَة فِيهِ. قَوْله: (الْحِكْمَة) المُرَاد بهَا الْقُرْآن، وَالله أعلم. كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (لَا حسد إلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رجل علمه الله الْقُرْآن فَهُوَ يتلوه آنَاء اللَّيْل وَالنَّهَار، وَرجل آتَاهُ الله مَالا فَهُوَ يهلكه) . وَفِي رِوَايَة: (يُنْفِقهُ فِي الْحق) . وَفِي مُسلم نَحوه من حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (لَا حسد) ، كلمة: لَا، لنفي الْجِنْس، و: حسد، اسْمه مَبْنِيّ على الْفَتْح، وَخَبره مَحْذُوف أَي: لَا حسد جَائِز، أَو صَالح، أَو نَحْو ذَلِك. قَوْله: (رجل) ، يجوز فِيهِ الْأَوْجه الثَّلَاثَة من الْإِعْرَاب: الرّفْع على تَقْدِير إِحْدَى الِاثْنَيْنِ خصْلَة رجل، فَلَمَّا حذف الْمُضَاف اكتسى الْمُضَاف إِلَيْهِ إعرابه. وَالنّصب على إِضْمَار: أَعنِي رجلا، وَهِي رِوَايَة ابْن مَاجَه. والجر على أَنه بدل من اثْنَيْنِ. وَأما على رِوَايَة اثْنَتَيْنِ بِالتَّاءِ فَهُوَ بدل أَيْضا على تَقْدِير حذف الْمُضَاف أَي خصْلَة رجل لِأَن الاثنتين مَعْنَاهُ خَصْلَتَيْنِ، على مَا يَجِيء. قَوْله: (آتَاهُ الله مَالا) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، والمفعولين أَحدهمَا الضَّمِير الْمَنْصُوب وَالْآخر: مَالا، وَهِي فِي مَحل الرّفْع أَو الْجَرّ أَو النصب على تَقْدِير إِعْرَاب الرجل، لِأَنَّهَا وَقعت صفته. قَوْله: (فَسلط) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَهِي رِوَايَة أبي ذَر، وَرِوَايَة البَاقِينَ، فَسَلَّطَهُ عطفا على: آتَاهُ. وَعبر بالتسليط لدلالته على قهر النَّفس المجبولة على الشُّح. قَوْله: (وَرجل) عطف على رجل الأول، وَإِعْرَابه فِي الْأَوْجه كإعرابه. قَوْله: (آتَاهُ الله الْحِكْمَة) مثل: (آتَاهُ الله مَالا) . قَوْله: (فَهُوَ يقْضِي بهَا) جملَة من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر عطف على مَا قبلهَا.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ) أَي: لَا حسد فِي شَيْء إلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ، أَي: فِي خَصْلَتَيْنِ، وَكَذَا هُوَ فِي مُعظم الرِّوَايَات بِالتَّاءِ. ويروى: (إِلَّا فِي اثْنَيْنِ) ، أَي: شَيْئَيْنِ. فَإِن قلت: الْحَسَد مَوْجُود فِي الْحَاسِد لَا فِي اثْنَتَيْنِ، فَمَا معنى هَذَا الْكَلَام؟ قلت: الْمَعْنى لَا حسد للرجل إِلَّا فِي شَأْن اثْنَتَيْنِ، لَا يُقَال: قد يكون الْحَسَد فِي غَيرهمَا فَكيف يَصح الْحصْر؟ لأَنا نقُول: المُرَاد لَا حسد جَائِز فِي شَيْء من الْأَشْيَاء إلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ، أَو الْمَعْنى: لَا رخصَة فِي الْحَسَد فِي شَيْء إلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ. فَإِن قلت: مَا فِي هذَيْن الِاثْنَيْنِ غِبْطَة، وَهُوَ غير الْحَسَد، فَكيف يُقَال: لَا حسد؟ قلت: أطلق الْحَسَد وَأَرَادَ الْغِبْطَة، من قبيل إِطْلَاق اسْم الْمُسَبّب على السَّبَب. وَقَالَ الْخطابِيّ: معنى الْحَسَد هَهُنَا شدَّة الْحِرْص وَالرَّغْبَة، كنى بِالْحَسَدِ عَنْهُمَا، لِأَنَّهُمَا سَببه والداعي إِلَيْهِ، وَلِهَذَا سَمَّاهُ البُخَارِيّ اغتباطاً. وَقد جَاءَ فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث مَا يبين ذَلِك، فَقَالَ فِيهِ: (لَيْتَني أُوتيت مثل مَا أُوتِيَ فلَان فَعمِلت مثل مَا يعْمل) . ذكره البُخَارِيّ فِي فَضَائِل الْقُرْآن فِي: بَاب اغتباط صَاحب الْقُرْآن، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، فَلم يتمن السَّلب، وَإِنَّمَا تمنى أَن يكون مثله. وَقد تمنى ذَلِك الصالحون والأخيار، وَفِيه قَول بِأَنَّهُ تَخْصِيص لإباحة نوع من الْحَسَد. وَإِخْرَاج لَهُ عَن جملَة مَا حظر مِنْهُ كَمَا رخص فِي نوع من الْكَذِب. وَإِن كَانَت جملَته محظورة، فَالْمَعْنى لَا إِبَاحَة فِي شَيْء من الْحَسَد إلاَّ فِيمَا كَانَ هَذَا سَبيله، أَي: لَا حسد مَحْمُود إلاَّ هَذَا، وَقيل: إِنَّه اسْتثِْنَاء مُنْقَطع بِمَعْنى: لَكِن فِي اثْنَتَيْنِ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يكون من قبيل قَوْله تَعَالَى: {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا الموتة الأولى} (الدُّخان: 56) أَي: لَا حسد إلاَّ فِي هذَيْن الِاثْنَيْنِ، وَفِيهِمَا: لَا حسد أَيْضا، فَلَا حسد أصلا. قلت: الْمَعْنى فِي الْآيَة: لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت الْبَتَّةَ، فَوَقع قَوْله: إلاَّ الموتة الأولى، موقع ذَلِك، لِأَن الموتة الْمَاضِيَة محَال ذوقها فِي الْمُسْتَقْبل، فَهُوَ من بَاب التَّعْلِيق بالمحال، كَأَنَّهُ قيل: إِن كَانَت الموتة الأولى يَسْتَقِيم ذوقها فِي الْمُسْتَقْبل، فَإِنَّهُم يذوقونها فِي الْمُسْتَقْبل، وَلَا

(2/57)


يَتَأَتَّى هَذَا الْمَعْنى فِي قَوْله: (لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَيْنِ) ، فَكيف يكون من قبيل الْآيَة الْمَذْكُورَة، وَفِي الْآيَة جَمِيع الْمَوْت منفي. بِخِلَاف الْحَسَد، فَإِن جَمِيعه لَيْسَ بمنفي، فَإِن الْحَسَد فِي الْخيرَات ممدوح، وَلِهَذَا نكر الْحَاسِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن شَرّ حَاسِد إِذا حسد} (الفلق: 5) لِأَن كل حَاسِد لَا يضر. قَالَ أَبُو تَمام:
(وَمَا حَاسِد فِي المكرمات بحاسد)

وَكَذَلِكَ نكر الْغَاسِق، لِأَن كل غَاسِق لَا يكون فِيهِ الشَّرّ، وَإِنَّمَا يكون فِي بعض دون بعض، بِخِلَاف النفاثات، فَإِنَّهُ عرف، لِأَن كل نفاثة شريرة. قَوْله: (مَالا) ، إِنَّمَا نكره وَعرف الْحِكْمَة، لِأَن المُرَاد من الْحِكْمَة معرفَة الْأَشْيَاء الَّتِي جَاءَ الشَّرْع بهَا، يَعْنِي الشَّرِيعَة، فَأَرَادَ التَّعْرِيف بلام الْعَهْد، أَو المُرَاد مِنْهُ الْقُرْآن كَمَا ذكرنَا، فَاللَّام للْعهد أَيْضا بِخِلَاف المَال، فَلهَذَا دخل صَاحبه بِأَيّ قدر من المَال أهلكه فِي الْحق تَحت هَذَا الحكم. قَوْله: (فَسلط على هَلَكته) ، فِي هَذِه الْعبارَة مبالغتان: احداهما: التسليط فَإِنَّهُ يدل على الْغَلَبَة وقهر النَّفس المجبولة على الشُّح الْبَالِغ، وَالْأُخْرَى: لفظ: على هَلَكته، فَإِنَّهُ يدل على أَنه لَا يبقي من المَال شَيْئا، وَلما أوهم اللفظان التبذير، وَهُوَ صرف المَال فِيمَا لَا يَنْبَغِي، ذكر قَوْله: (فِي الْحق) ، دفعا لذَلِك الْوَهم. وَكَذَا الْقَرِينَة الْأُخْرَى اشْتَمَلت على مبالغتين إِحْدَاهمَا: الْحِكْمَة، فَإِنَّهَا تدل على علم دَقِيق مُحكم. وَالْأُخْرَى: الْقَضَاء بَين النَّاس وتعليمهم، فَإِنَّهَا من خلَافَة النُّبُوَّة، ثمَّ إِن لفظ الْحِكْمَة إِشَارَة إِلَى الْكَمَال العلمي ويفضي إِلَى الْكَمَال العملي، وبكليهما إِلَى التَّكْمِيل. والفضيلة إِمَّا داخلية، وَإِمَّا خارجية. وأصل الْفَضَائِل الداخلية الْعلم، وأصل الْفَضَائِل الخارجية المَال. ثمَّ الْفَضَائِل، إمَّا تَامَّة، وإمَّا فَوق التَّامَّة، وَالْأُخْرَى أفضل من الأولى لِأَنَّهَا كَامِلَة متعدية، وَهَذِه قَاصِرَة غير متعدية. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَمعنى الحَدِيث التَّرْغِيب فِي طلب الْعلم وتعلمه وَالتَّصَدُّق بِالْمَالِ، وَقيل: إِنَّه تَخْصِيص لإباحة نوع من الْحَسَد، كَمَا رخص فِي نوع من الْكَذِب. قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الْكَذِب لَا يحل إلاَّ فِي ثَلَاث)
الحَدِيث. والحسد على ثَلَاثَة أضْرب: محرم ومباح ومحمود، فالمحرم: تمني زَوَال النِّعْمَة الْمَحْسُود عَلَيْهَا عَن صَاحبهَا وانتقالها إِلَى الْحَاسِد. وَأما القسمان الْآخرَانِ فغبطة، وَهُوَ أَن يتَمَنَّى مَا يرَاهُ من خير بأحدٍ أَن يكون لَهُ مثله، فَإِن كَانَت فِي أُمُور الدُّنْيَا فمباح، وَإِن كَانَت من الطَّاعَات فمحمود. قَالَ النَّوَوِيّ: الأول حرَام بِالْإِجْمَاع. وَقَالَ بعض الْفُضَلَاء: إِذا أنعم الله تَعَالَى على أَخِيك نعْمَة، فكرهتها واحببت زَوَالهَا، فَهُوَ حرَام بِكُل حَال، إلاّ نعْمَة أَصَابَهَا كَافِر أَو فَاجر، أَو من يَسْتَعِين بهَا على فتْنَة أَو فَسَاد.
وَقَالَ ابْن بطال: وَفِيه من الْفِقْه أَن الْغَنِيّ إِذا قَامَ بِشُرُوط المَال، وَفعل مَا يُرْضِي ربه تبَارك وَتَعَالَى فَهُوَ أفضل من الْفَقِير الَّذِي لَا يقدر على مثل هَذَا، وَالله أعلم.

16 - (بَاب مَا ذُكِرَ فِي ذَهابِ مُوسَى صَلَّى الله عَلَيْهِ فِي البَحْرِ إِلى الخضِرِ)

الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: أَن التَّقْدِير: هَذَا بَاب فِي مَا ذكر ... إِلَى آخِره، وارتفاع: بَاب، على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَهُوَ مُضَاف إِلَى مَا بعده: والذهاب، الْفَتْح مصدر ذهب. قَالَ الصغاني: وَذهب مر ذَاهِبًا ومذهباً وذهوباً. وَذهب مذهبا حسنا.
الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ أَن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ الِاغْتِبَاط فِي الْعلم، وَهَذَا الْبَاب فِي التَّرْغِيب فِي احْتِمَال الْمَشَقَّة فِي طلب الْعلم، وَمَا يغتبط فِيهِ يتَحَمَّل فِيهِ الْمَشَقَّة، وَوجه آخر وَهُوَ: أَن المغتبط شَأْنه الِاغْتِبَاط، وَإِن بلغ الْمحل الْأَعْلَى من كل الْفَضَائِل. وَهَذَا الْبَاب فِيهِ أَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يمنعهُ بُلُوغه من السِّيَادَة الْمحل الْأَعْلَى من طلب الْفَضِيلَة والكمال حَتَّى قاسى تَعب الْبر وركوب الْبَحْر.
الثَّالِث: أَن هَذَا التَّرْكِيب يُفِيد أَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ركب الْبَحْر لما توجه فِي طلب الْخضر، مَعَ أَن الَّذِي ثَبت عِنْد البُخَارِيّ وَغَيره أَنه خرج إِلَى الْبر، وَإِنَّمَا ركب الْبَحْر فِي السَّفِينَة هُوَ وَالْخضر بعد أَن التقيا، وَيُمكن أَن يُوَجه هَذَا بتوجيهين: أَحدهمَا: أَن الْمَقْصُود من الذّهاب إِنَّمَا حصل بِتمَام الْقِصَّة، وَمن تَمامهَا أَنه ركب مَعَ الْخضر الْبَحْر. فَأطلق على جَمِيعهَا ذَهَابًا مجَازًا من قبيل إِطْلَاق أسم الْكل على الْبَعْض، أَو من قبيل تَسْمِيَة السَّبَب باسم مَا تسبب عَنهُ. الآخر: أَن الظّرْف، وَهُوَ قَوْله: فِي الْبَحْر، فِي قَوْله: (وَكَانَ يتبع أثر الْحُوت فِي الْبَحْر) ، يحْتَمل أَن يكون لمُوسَى، وَيحْتَمل أَن يكون للحوت، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلَعَلَّهُ قوى عِنْده أحد الِاحْتِمَالَيْنِ بِمَا روى عبد بن حميد عَن أبي الغالية: أَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، التقى بالخضر فِي جَزِيرَة من جزائر الْبَحْر. انْتهى. والتوصل إِلَى جَزِيرَة فِي الْبَحْر لَا يَقع إلاَّ بسلوك الْبَحْر، وَبِمَا رَوَاهُ أَيْضا من طَرِيق الرّبيع بن أنس قَالَ: انجاب المَاء عَن مَسْلَك الْحُوت، فَصَارَ طَاقَة مَفْتُوحَة، فَدَخلَهَا مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على أثر الْحُوت حَتَّى انْتهى إِلَى الْخضر، فهذان

(2/58)


الأثران الموقوفان بِرِجَال ثِقَات يوضحان أَنه ركب الْبَحْر إِلَيْهِ. وَعَن هَذَا قَالَ ابْن رشيد: يحْتَمل أَن يكون ثَبت عِنْد البُخَارِيّ أَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، توجه فِي الْبَحْر لما طلب الْخضر، وَحمل ابْن الْمُنِير كلمة: إِلَى، بِمَعْنى: مَعَ، يَعْنِي: مَعَ الْخضر، وَقَالَ بَعضهم: يحمل قَوْله: إِلَى الْخضر، على أَن فِيهِ حذفا، أَي: إِلَى قصد الْخضر، لِأَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يركب الْبَحْر لحَاجَة نَفسه، وَإِنَّمَا رَكبه تبعا للخضر. قلت: هَذَا لَا يَقع جَوَابا عَن الْإِشْكَال الْمَذْكُور، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَام طائح، وَلَا يخفى ذَلِك.
الرَّابِع: أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ ابْن عمرَان بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يَعْقُوب ابْن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، ولد وعُمِّر عمرَان سَبْعُونَ سنة، وعْمرِّ عمرَان مائَة وَسبعا وَثَلَاثِينَ سنة، وعُمِّر مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، مائَة وَعشْرين سنة. وَقَالَ الْفربرِي: مَاتَ مُوسَى وعمره مائَة وَسِتُّونَ سنة، وَكَانَت وَفَاته فِي التيه فِي سَابِع آذار لمضي ألف سنة وسِتمِائَة وَعشْرين سنة من الطوفان فِي أَيَّام منوجهر الْملك، وَكَانَ عمره لما خرج ببني إِسْرَائِيل من مصر ثَمَانِينَ سنة، وَأقَام بالتيه أَرْبَعِينَ سنة. وَلما مَاتَ الريان بن الْوَلِيد الَّذِي ولَّى يُوسُف على خَزَائِن مصر، وَأسلم على يَدَيْهِ ملك بعده قَابُوس بن مُصعب، فَدَعَاهُ يُوسُف إِلَى الْإِسْلَام فَأبى، وَكَانَ جباراً، وَقبض الله يُوسُف، عَلَيْهِ السَّلَام، وَطَالَ ملكه. ثمَّ هلك وَملك بعده أَخُوهُ الْوَلِيد بن مُصعب بن رَيَّان بن أراشة بن شرْوَان بن عَمْرو بن فاران بن عملاق بن لاوذ بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانَ أَعْتَى من قَابُوس، وامتدت أَيَّام ملكه حَتَّى كَانَ فِرْعَوْن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي بَعثه الله إِلَيْهِ، وَلم يكن فِي الفراعنة أَعْتَى مِنْهُ وَلَا أطول عمرا فِي الْملك مِنْهُ، عَاشَ أَربع مائَة سنة. ومُوسَى مُعرب: موشى، بالشين الْمُعْجَمَة، سمته بِهِ آسِيَة بنت مُزَاحم امْرَأَة فِرْعَوْن لما وجدوه فِي التابوت، وَهُوَ اسْم اقْتَضَاهُ حَاله، لِأَنَّهُ وجد بَين المَاء وَالشَّجر. فمو، بلغَة القبط المَاء، و: شى، الشّجر فعرب فَقيل: مُوسَى، وَقَالَ الصغاني: هُوَ عبراني عرب، وَقَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: مُوسَى اسْم رجل، وَزنه مفعل، فعلى هَذَا يكون مصروفاً فِي النكرَة. وَقَالَ الْكسَائي: وَزنه: فعلى، وَهُوَ لَا ينْصَرف بِحَال. قلت: إِن كَانَ عَرَبيا يكون اشتقاقه من الموس، وَهُوَ حلق الشّعْر، فالميم أَصْلِيَّة. وَيُقَال من: أوسيت رَأسه، إِذا حلقته بِالْمُوسَى، فعلى هَذَا: الْمِيم، زَائِدَة. وَقَالَ ابْن فَارس: النِّسْبَة إِلَيْهِ موسي، وَذَلِكَ لِأَن الْيَاء فِيهِ زَائِدَة، كَذَا قَالَ الْكسَائي، وَقَالَ ابْن السّكيت فِي كتاب (التصغير) : تَصْغِير اسْم رجل مويسي، كَأَن مُوسَى فعلى. وَإِن شِئْت قلت: مويسى، بِكَسْر السِّين، وَإِسْكَان الْيَاء غير منونة. وَيُقَال فِي النكرَة: هَذَا مويسى ومويس آخر، فَلم تصرف الأول لِأَنَّهُ أعجمي معرفَة، وصرفت الثَّانِي لِأَنَّهُ نكرَة. ومُوسَى فِي هَذَا التصغير مفعل. قَالَ: فَأَما مُوسَى الحديدة فتصغيرها: مويسية، فَمن قَالَ: هَذِه مُوسَى ومويس، قَالَ: وَهِي تذكر وتؤنث، وَهِي من الْفِعْل: مفعل، وَالْيَاء أَصْلِيَّة.
الْخَامِس: الْبَحْر خلاف الْبر، قيل: سمي بذلك لعمقه واتساعه، وَالْجمع أبحر وبحار وبحور. وَقَالَ ابْن السّكيت: تَصْغِير بحور وبحار أبيحر. وَلَا يجوز أَن تصغر بحار على لَفظهَا، فَتَقول: بحير لَان ذَلِك مضارع الْوَاحِد فَلَا يكون بَين تَصْغِير الْوَاحِد وتصغير الْجمع إلاَّ التَّشْدِيد، وَالْعرب تنزل المشدد منزلَة المخفف، والتركيب يدل على الْبسط والتوسع. وَاخْتلفُوا فِي الْبَحْرين فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا أَبْرَح حَتَّى أبلغ مجمع الْبَحْرين} (الْكَهْف: 60) فَقيل: هُوَ ملتقي بحري فَارس وَالروم. مِمَّا يَلِي الْمشرق. وَقيل: طنجة. وَقيل: أفريقية. وَذكر السُّهيْلي: أَنَّهَا بَحر الْأُرْدُن وبحر القلزم. وَقيل: بَحر الْمغرب وبحر الزقاق. قلت: بَحر فَارس ينبعث من بَحر الْهِنْد شمالاً بَين مكران، وَهِي على فَم بَحر فَارس من شرقيه، وَبَين عمان وَهِي على فَم بَحر فَارس من غربيه، وبحر الرّوم هُوَ بَحر أفريقية وَالشَّام، يَمْتَد من عِنْد الْبَحْر الْأَخْضَر إِلَى الْمشرق، ويتصل بطرسوس، وبحر طنجة بَينهَا وَبَين سبتة وَغَيرهمَا من بر العدوة من الأندلس. وبحر أفريقية هُوَ بَحر طرابلس الغرب يَمْتَد مِنْهَا شرقاً حَتَّى يتَجَاوَز حُدُود أفريقية، وَهُوَ الَّذِي يتَّصل بإسكندرية، وَالْكل يُسمى بَحر الرّوم. وَإِنَّمَا يُضَاف إِلَى الْبِلَاد عِنْد الِاتِّصَال إِلَيْهَا، وبحر القلزم يَأْخُذ من القلزم، وَهِي بَلْدَة للسودان على طرفه الشمَال جنوباً بميله إِلَى الْمشرق، حَتَّى يصير عِنْد الْقصير، وَهِي فرْصَة قوص، والأردن: بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الرَّاء وَضم الدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَتَشْديد النُّون فِي آخرهَا، بَلْدَة من بِلَاد الْغَوْر من الشَّام، وَلَا أعرف بحراً ينْسب إِلَيْهَا وَإِنَّمَا نسب إِلَيْهَا نهر كَبِير يُسمى نهر الْأُرْدُن، وَهُوَ نهر الْغَوْر، وَيُسمى الشَّرِيعَة أَيْضا، وَآخره يَنْتَهِي إِلَى الْبحيرَة المنتنة، وَهِي بحيرة زغر. وبحر الزقاق بَين طنجة وبر الأندلس، هُنَاكَ يُسمى بَحر الزقاق، وَهُوَ يضيق هُنَاكَ و: وبحر الغرب: وَهُوَ الْبَحْر الْأَخْضَر، الَّذِي لَا يعرف إلاَّ مَا يَلِي الغرب من أقاصي الْحَبَشَة إِلَى خلف بِلَاد الرومية، وَهِي بِحَيْثُ لَا يدْرك آخرهَا، لِأَن المراكب لَا تجْرِي فِيهَا، وَله خليج إِلَى الأندلس وطنجة.
السَّادِس: الْخضر، وَالْكَلَام فِيهِ على

(2/59)


أَنْوَاع. الأول: فِي اسْمه: فَذكر ابْن قُتَيْبَة فِي (المعارف) : عَن وهب بن مُنَبّه أَنه: بليا، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون اللَّام وبالياء آخر الْحُرُوف. وَيُقَال: إبليا، بِزِيَادَة الْهمزَة فِي أَوله، وَقيل اسْمه: خضرون، ذكره أَبُو حَاتِم السجسْتانِي. وَقيل: ارميا، وَقيل: اسْمه: اليسع قَالَه مقَاتل، وَيُسمى بذلك لِأَن علمه وسع سِتّ سموات وست أَرضين، ووهاه ابْن الْجَوْزِيّ، وَالْيَسع اسْم أعجمي لَيْسَ بمشتق. وَقيل اسْمه: أَحْمد، حَكَاهُ الْقشيرِي، ووهاه ابْن دحْيَة، فَإِنَّهُ لم يسم أحد قبل نَبينَا، عَلَيْهِ السَّلَام، بذلك. وَقيل: عَامر، حَكَاهُ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه (مرج الْبَحْرين) ، وَالْأول هُوَ الْمَشْهُور، وَالْخضر، بِفَتْح الْخَاء وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة، لقبه. وَيجوز إسكان الضَّاد مَعَ كسر الْخَاء وَفتحهَا كَمَا فِي نَظَائِره. الثَّانِي: فِي سَبَب تلقيبه بذلك: وَهُوَ مَا جَاءَ فِي الصَّحِيح فِي كتاب الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ: إِنَّمَا سمي الْخضر لِأَنَّهُ جلس على فَرْوَة بَيْضَاء فَإِذا هِيَ تهتز من خَلفه خضراء، والفروة وَجه الأَرْض. وَقيل: النَّبَات الْمُجْتَمع الْيَابِس، وَقيل: سمي بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ إِذا صلى اخضر مَا حوله، قَالَه مُجَاهِد. وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا سمي بِهِ لحسنه وإشراق وَجهه، وكنيته أَبُو الْعَبَّاس. الثَّالِث فِي نسبه: فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ بليا بن ملكان، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون اللَّام، ابْن فالغ بن عَابِر بن شالخ بن أرفخشد بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقيل: خضرون بن عماييل بن الفتر بن الْعيص بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقيل: هُوَ ابْن حلقيا، وَقيل: ابْن قابيل بن آدم، وَذكره أَبُو حَاتِم السجسْتانِي. وَقيل: إِنَّه كَانَ ابْن فِرْعَوْن صَاحب مُوسَى ملك مصر. وَهَذَا غَرِيب جدا. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: رَوَاهُ مُحَمَّد بن أَيُّوب عَن أبي لَهِيعَة وهما ضعيفان. وَقيل: إِنَّه ابْن ملك، وَهُوَ أَخُو الياس، قَالَه السّديّ. وَقيل: ابْن بعض من آمن بإبراهيم الْخَلِيل وَهَاجَر مَعَه، وروى الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر عَن سعيد بن الْمسيب أَنه قَالَ: الْخضر أمه رُومِية، وَأَبوهُ فَارسي. وروى أَيْضا بِإِسْنَادِهِ إِلَى الدَّارَقُطْنِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْفَتْح القلانسي، حَدثنَا الْعَبَّاس بن عبد اللَّه، حَدثنَا دَاوُد بن الْجراح، حَدثنَا مقَاتل بن سُلَيْمَان عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: الْخضر ابْن آدم لصلبه، ونسىء لَهُ فِي أَجله حَتَّى يكذّب الدَّجَّال، وَهَذَا مُنْقَطع غَرِيب. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: قيل: إِنَّه الرَّابِع من أَوْلَاده، وَقيل: إِنَّه من ولد عيصوا، حَكَاهُ ابْن دحْيَة. وروى الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس أَنه من سبط هَارُون، وَكَذَا قَالَ ابْن إِسْحَاق. وَقَالَ عبد اللَّه بن مؤدب: إِنَّه من ولد فَارس. وَقَالَ بعض أهل الْكتاب: إِنَّه ابْن خَالَة ذِي القرنين. الرَّابِع. فِي أَي وَقت كَانَ: قَالَ الطَّبَرِيّ: كَانَ فِي أَيَّام أفريدون، قَالَ: وَقيل: كَانَ مُقَدّمَة ذِي القرنين الْأَكْبَر الَّذِي كَانَ أَيَّام إِبْرَاهِيم الْخَلِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَذُو القرنين عِنْد قوم هُوَ أفريدون. وَيُقَال: إِنَّه كَانَ وَزِير ذِي القرنين، وَإنَّهُ شرب من مَاء الْحَيَاة. وَذكر الثَّعْلَبِيّ اخْتِلَافا أَيْضا: هَل كَانَ فِي زمن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، أم بعده بِقَلِيل أم بِكَثِير، وَذكر بَعضهم أَنه كَانَ فِي زمن سُلَيْمَان. عَلَيْهِ السَّلَام. وَأَنه المُرَاد بقوله: {قَالَ الَّذِي عِنْده علم من الْكتاب} (النَّمْل: 40) حَكَاهُ الدَّاودِيّ: وَيُقَال: كَانَ فِي زمن كستاسب بن لهراسب. قَالَ ابْن جرير: وَالصَّحِيح أَنه كَانَ مقدما على زمن أفريدون حَتَّى أدْركهُ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام. الْخَامِس: هَل كَانَ وليا أَو نَبيا؟ وبالأول جزم الْقشيرِي، وَاخْتلف أَيْضا هَل كَانَ نَبيا مُرْسلا أم لَا؟ على قَوْلَيْنِ. وَأغْرب مَا قيل: إِنَّه من الْمَلَائِكَة. وَالصَّحِيح أَنه نَبِي، وَجزم بِهِ جمَاعَة. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: هُوَ نَبِي على جَمِيع الْأَقْوَال معمر مَحْجُوب عَن الْأَبْصَار، وَصَححهُ ابْن الْجَوْزِيّ أَيْضا فِي كِتَابه، لقَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَنهُ: {وَمَا فعلته عَن امري} (الْكَهْف: 82) فَدلَّ على أَنه نَبِي أُوحِي إِلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ أعلم من مُوسَى فِي علم مَخْصُوص، وَيبعد أَن يكون ولي أعلم من نَبِي وَإِن كَانَ يحْتَمل أَن يكون أُوحِي إِلَى نَبِي فِي ذَلِك الْعَصْر يَأْمر الْخضر بذلك، وَلِأَنَّهُ أقدم على قتل ذَلِك الْغُلَام، وَمَا ذَلِك إلاَّ للوحي إِلَيْهِ فِي ذَلِك. لِأَن الْوَلِيّ لَا يجوز لَهُ الْإِقْدَام على قتل النَّفس بِمُجَرَّد مَا يلقى فِي خلده، لِأَن خاطره لَيْسَ بِوَاجِب الْعِصْمَة. السَّادِس: فِي حَيَاته: فالجمهور على أَنه بَاقٍ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. قيل: لِأَنَّهُ دفن آدم بعد خُرُوجهمْ من الطوفان فنالته دَعْوَة أَبِيه آدم بطول الْحَيَاة. وَقيل: لِأَنَّهُ شرب من عين الْحَيَاة. وَقَالَ ابْن الصّلاح: هُوَ حَيّ عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء وَالصَّالِحِينَ والعامة مَعَهم فِي ذَلِك، وَإِنَّمَا شَذَّ بإنكاره بعض الْمُحدثين، وَنَقله النَّوَوِيّ عَن الْأَكْثَرين. وَقيل: إِنَّه لَا يَمُوت إلاَّ فِي آخر الزَّمَان حَتَّى يرْتَفع الْقُرْآن. وَفِي (صَحِيح مُسلم) ، فِي حَدِيث الدَّجَّال: أَنه يقتل رجلا ثمَّ يحييه. قَالَ إِبْرَاهِيم بن سُفْيَان، رَاوِي كتاب مُسلم: يُقَال لَهُ: إِنَّه الْخضر، وَكَذَلِكَ قَالَ معمر فِي مُسْنده، وَأنكر حَيَاته جمَاعَة مِنْهُم البُخَارِيّ وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَابْن الْمَنَاوِيّ وَابْن الْجَوْزِيّ. فَإِن قيل: خضر علم، فَكيف دخل عَلَيْهِ آلَة التَّعْرِيف؟ قيل لَهُ: قد يتَأَوَّل الْعلم بِوَاحِد من الْأمة المساوية، فَيجْرِي مجْرى رجل وَفرس، فَيجْرِي على إِضَافَته وعَلى إِدْخَال اللَّام

(2/60)


عَلَيْهِ، ثمَّ بعض الْأَعْلَام دُخُول لَام التَّعْرِيف عَلَيْهِ لَازم نَحْو: النَّجْم والثريا، وَبَعضهَا غير لَازم نَحْو: الْحَارِث وَالْخضر من هَذَا الْقسم. قلت: الْعلم إِذا لوحظ فِيهِ معنى الْوَصْف يجوز إِدْخَال اللَّام عَلَيْهِ، كالعباس وَالْحسن، وَغَيرهمَا.
وقوْلِهِ تعالَى {هَلْ أَتَّبِعُكَ علَى أنْ تُعَلِّمَنِي مِمّا عُلِّمْتَ رُشدْاً} (الْكَهْف: 66)

وَقَوله، مجرور عطفا على الْمُضَاف إِلَيْهِ فِي قَوْله: بَاب مَا ذكر ... الخ وَهَذَا أَيْضا من التَّرْجَمَة. وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى شرف الْعلم حَتَّى جَازَت المخاطرة فِي طلبه بركوب الْبَحْر، وَركبهُ الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي طلبه بِخِلَاف ركُوب الْبَحْر فِي طلب الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ يكره عِنْد جمَاعَة، وَإِلَى اتِّبَاع الْعلمَاء لأجل تَحْصِيل الْعُلُوم الَّتِي لَا تُوجد إلاَّ عِنْدهم. قَوْله: (هَل اتبعك) حِكَايَة عَن خطاب مُوسَى الْخضر، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، سَأَلَهُ أَن يُعلمهُ من الْعلم الَّذِي عِنْده، مِمَّا لم يقف عَلَيْهِ مُوسَى، وَكَانَ لَهُ ذَلِك ابتلاء حَيْثُ لم يكل الْعلم إِلَى الله تَعَالَى. قَوْله: (الْآيَة) بِالنّصب على تَقْدِير: تذكر الْآيَة، وَيجوز الرّفْع على أَن يكون مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر، أَي: الْآيَة بِتَمَامِهَا. وَذكر الْأصيلِيّ فِي رِوَايَته بَاقِي الْآيَة، وَهُوَ قَوْله: {مِمَّا علمت رشدا} (الْكَهْف: 66) .
16 - (حَدثنِي مُحَمَّد بن غرير الزُّهْرِيّ قَالَ حَدثنَا يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم قَالَ حَدثنِي أبي عَن صَالح عَن ابْن شهَاب حدث أَن عبيد الله بن عبد الله أخبرهُ عَن ابْن عَبَّاس أَنه تمارى هُوَ وَالْحر بن قيس بن حصن الْفَزارِيّ فِي صَاحب مُوسَى قَالَ ابْن عَبَّاس هُوَ خضر فَمر بهما أَبى بن كَعْب فَدَعَاهُ ابْن عَبَّاس فَقَالَ إِنِّي تماريت أَنا وصاحبي هَذَا فِي صَاحب مُوسَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيل إِلَى لقبه هَل سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذكر شانه قَالَ نعم سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلأ من بني إِسْرَائِيل جَاءَهُ رجال فَقَالَ هَل تعلم أحدا أعلم مِنْك قَالَ مُوسَى لَا فَأوحى الله إِلَى مُوسَى بلَى عَبدنَا خضر فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيل إِلَيْهِ فَجعل الله لَهُ الْحُوت آيَة وَقيل لَهُ إِذا فقدت الْحُوت فَارْجِع فَإنَّك ستلقاه وَكَانَ يتبع أثر الْحُوت وَمَا أنسانيه إِلَّا الشَّيْطَان أَن أذكرهُ قَالَ ذَلِك مَا كُنَّا نبغي فارتدا على آثارهما قصصاً فوجدا خضرًا فَكَانَ من شَأْنهمَا الَّذِي قصّ الله عز وَجل فِي كِتَابه) . مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا فِي ذهَاب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الْخضر وركوبه الْبَحْر وسؤاله مِنْهُ الِاتِّبَاع لأجل التَّعَلُّم والْحَدِيث بَين ذَلِك كُله (بَيَان رِجَاله) وهم تِسْعَة. الأول مُحَمَّد بن غرير بغين مُعْجمَة مَضْمُومَة وَرَاء مكررة بَينهمَا يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة ابْن الْوَلِيد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَبُو عبد الله الْقرشِي الزهدي الْمدنِي نزيل سَمَرْقَنْد يعرف بالفربري روى عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم ومطرف بن عبد الله النَّيْسَابُورِي روى عَنهُ البُخَارِيّ وَأَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن أَحْمد بن نصر التِّرْمِذِيّ وَعبد الله بن شبيب الْمَكِّيّ قَالَ الكلاباذي أخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي الْكتاب فِي عَلامَة مَوَاضِع هُنَا وَالزَّكَاة وَفِي بني إِسْرَائِيل وَلَيْسَ فِي الْكتب وَالسّنة من اسْمه على هَذَا الْمِثَال وَهُوَ من الْأَفْرَاد. النَّبِي يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف ويوسف الْقرشِي الْمدنِي الزُّهْرِيّ سَاكن بَغْدَاد روى عَن أَبِيه وَغَيره وروى عَنهُ أَحْمد وَيحيى بن معِين وعَلى بن الْمَدِينِيّ واسحق وَمُحَمّد بن يحيى الدهلي قَالَ ابْن سعد كَانَ ثِقَة مَأْمُونا وَلم ينزل بِبَغْدَاد ثمَّ خرج إِلَى الْحسن بن سهل بِفَم لصلح فَلم يزل مَعَه حَتَّى توفّي هُنَاكَ فِي شَوَّال سنة ثَمَان وَمِائَتَيْنِ قلت فَلم الصُّلْح بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الْمِيم وَكسر الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وَفِي آخِره حاء مُهْملَة وَهِي بَلْدَة على دجلة قريبَة من وَاسِط وَقيل هُوَ نهر ميبسان. الثَّالِث أَبوهُ أعنى أَبَا يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور وَهُوَ إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَهُوَ من

(2/61)


جملَة شُيُوخ الشَّافِعِي رَحمَه الله وَقد مر ذكره فِي بَاب تفاضل أهل الْإِيمَان. الرَّابِع صَالح بن كيسَان التَّابِعِيّ تقدم ذكره فِي آخر قصَّة هِرقل توفّي وَهُوَ ابْن مائَة ونيف وَسِتِّينَ سنة ابْتَدَأَ بالتعليم وَهُوَ ابْن تسعين سنة الْخَامِس مُحَمَّد بن ابْن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ تقدم غير مرّة السَّادِس عبيد بن عبد الله بتصغير الابْن وتكبير الْأَب ابْن عُيَيْنَة بن مَسْعُود أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة وَقد مر ذكره السَّابِع عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا الثَّامِن الْحر بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء ابْن قيس بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة ابْن حصن بِكَسْر الْحَاء وَسُكُون الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ ابْن حُذَيْفَة بن بدر الْفَزارِيّ بِفَتْح الْفَاء وَالزَّاي نِسْبَة إِلَى فَزَارَة بن شَيبَان بن بغيض بن ريث بن غطفان وَهُوَ ابْن أخي عُيَيْنَة بن حصن كَانَ أحد الْوَفْد الَّذين قدمُوا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرجعه من تَبُوك وَكَانَ من جلساء عمر رَضِي الله عَنهُ التَّاسِع أبي بن كَعْب بن الْمُنْذر الْأنْصَارِيّ اقْرَأ هَذِه الْأمة شهد الْعقبَة وبدرا وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يَقُول أبي سيد الْمُسلمين روى لَهُ عَن رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة وَأَرْبَعَة وَسِتُّونَ حَدِيثا اتفقَا مِنْهَا على ثَلَاثَة أَحَادِيث وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بأَرْبعَة وَمُسلم بسبعة مَاتَ سنة تسع عشرَة وَقيل عشْرين وَقيل ثَلَاثِينَ بِالْمَدِينَةِ روى لَهُ الْجَمَاعَة (بَيَان لطائف اسناده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والاخبار والعنعنة. وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ وَمِنْهَا أَن فِيهِ ثَلَاثَة من التَّابِعين يرْوى بَعضهم عَن بعض وَمِنْهَا أَن فِيهِ أَرْبَعَة زهر بَين وهم مُحَمَّد بن غرير وَيَعْقُوب وَأَبوهُ إِبْرَاهِيم وَابْن شهَاب. وَمِنْهَا أَن سِتَّة مِنْهُم مدنيون وهم الروَاة إِلَى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا. وَمِنْهَا انه قَالَ عَن ابْن شهَاب حدث وَبعده قَالَ اخبره أَن لوحظ الْفرق بَان التحديث عِنْد قِرَاءَة الشَّيْخ وَالْأَخْبَار عِنْد الْقِرَاءَة على الشَّيْخ فَذَاك وَإِلَّا فتغيير الْعبارَة للتفتن فِي الْكَلَام وَحدث بغَيْرهَا رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره حَدثهُ بِالْهَاءِ وَبِغير الْهَاء أَيْضا مَحْمُول على السماع لَان صَالحا غير مُدَلّس وَقَوله حَدثنَا مُحَمَّد بن غرير هَكَذَا بِصِيغَة الْجمع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ حَدثنِي بِصِيغَة الْأَفْرَاد (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخراجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع فَوق الْعشْرَة هُنَا كَمَا ترى وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة السَّلَام عَن عَمْرو بن مُحَمَّد وَفِي الْعلم أَيْضا عَن خَالِد بن خلى عَن مُحَمَّد بن حَرْب فِي التَّوْحِيد عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن أبي عَمْرو كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ بِهِ وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء أَيْضا عَن عَليّ بن الْمدنِي وَفِي النذور وَالتَّفْسِير عَن الْحميدِي وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَن قُتَيْبَة وَفِي الْعلم أَيْضا عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس مُخْتَصرا وَفِي التَّفْسِير والاجارة والشروط عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى عَن هِشَام بن يُوسُف عَن ابْن جريج عَن يعلى بن مُسلم وَعَمْرو بن دِينَار عَن سعيد بِهِ وَأخرجه مُسلم فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ بِهِ وَعَن عَمْرو بن مُحَمَّد النَّاقِد وَابْن رَاهَوَيْه وَعبيد الله بن سعيد وَابْن أبي عمر عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن جُبَير وَعَن النَّاقِد أَيْضا وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن مُعْتَمر عَن أَبِيه عَن رقية عَن أبي أسحق عَن ابْن جُبَير بِهِ وَعَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ عَن مُحَمَّد بن يُوسُف وَعَن عبد بن حميد عَن عبيد الله بن مُوسَى كِلَاهُمَا عَن إِسْرَائِيل عَن أبي أسحق بِهِ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن يحيى ابْن أبي عمر بِهِ وَقَالَ حسن صَحِيح وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَعَن عمرَان بن يزِيد عَن اسمعيل بن عبد الله بن سَمَّاعَة عَن الْأَوْزَاعِيّ بِهِ وَفِي الْعلم عَن أبي الْحُسَيْن أَحْمد بن سُلَيْمَان الرهاوي عَن عبيد الله بن مُوسَى بِهِ (بَيَان اللُّغَات) قَوْله " تماريت " أَي تجادلت من التمارى وَهُوَ التجادل والتنازع وَهُوَ بِمَعْنى ماريت لِابْنِ بَاب المفاعلة لمشاركة اثْنَيْنِ وَبَاب التفاعل لأكْثر مِنْهُمَا يُقَال ماريت الرجل اماريه مراء أَي جادلته ومادته الْمِيم وَالرَّاء وَالْيَاء آخر الْحُرُوف قَوْله " لقِيه بِضَم اللَّام وَكسر الْقَاف وتسديد الْيَاء آخر الْحُرُوف مصدر بِمَعْنى اللِّقَاء يُقَال لَقيته لِقَاء بالمدولقي بِالضَّمِّ وَالْقصر ولقيا بِالتَّشْدِيدِ ولقيانا ولقيانة وَاحِدَة ولقية وَاحِدَة وَلَا تقل لقاة بِالْفَتْح

(2/62)


فَإِنَّهَا مولدة وَلَيْسَت من كَلَام الْعَرَب وَهَذِه سبع مصَادر قَوْله " شانه " أَي قصَّته قَوْله " فِي مَلأ " بِالْقصرِ هِيَ الْجَمَاعَة قَالَه عِيَاض وَقَالَ غَيره الْمَلأ الإشراف وَفِي الْعباب الْمَلأ بِالتَّحْرِيكِ الْجَمَاعَة وَالْمَلَأ أَيْضا الْخلق يُقَال مَا أحسن مَلأ بنى فلَان أَي عشرتهم وأخلاقهم وَالْجمع املاء وَالْمَلَأ أَيْضا الْأَشْرَاف قَوْله " من بني إِسْرَائِيل " هُوَ أَوْلَاد يَعْقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَان إِسْرَائِيل هُوَ اسْم يَعْقُوب وَأَوْلَاده اثْنَا عشر نفسا وهم يُوسُف وبنيامين وداني ويفتالي وزابلون وجاد وَيَسْتَأْخِر واشير وروبيل ويهوذا وشمعون ولاوى وهم الَّذين سماهم الأسباط وَسموا بذلك لَان كل وَاحِد مِنْهُم والدقبيلة والأسباط فِي كَلَام الْعَرَب الشّجر الملتف الْكثير الأغصان والأسباط من بني إِسْرَائِيل كالشعوب من الْعَجم والقبائل من الْعَرَب وَجَمِيع بني إِسْرَائِيل من هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين قَوْله " الْحُوت " السَّمَكَة وَالْجمع الْحيتَان والاحوات والحوتة قَوْله " آيَة " أَي عَلامَة قَوْله " وَكَانَ يتبع أثر الْحَوَادِث " أَي ينْتَظر فقدانه قَوْله " فتاء " أَي صَاحبه وَهُوَ يُوشَع بن نون وَإِنَّمَا قَالَ فتاه لِأَنَّهُ كَانَ يَخْدمه ويتبعه وَقيل كَانَ يَأْخُذ الْعلم عَنهُ قلت يُوشَع بن نون بن اليشامع ابْن عميهوذابن بارص بن بعدان بن ناخر بن تالخ بن راشف بن راقخ بن بريعا بن افراثيم بن يُوسُف بن يَعْقُوب عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام ويوشع بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَنون مَصْرُوف كنوح قَوْله " إِذْ أوينا " بِالْقصرِ من أَوَى فلَان إِلَى منزله يأوي أوياً قَوْله " إِلَى الصَّخْرَة " هِيَ الَّتِي دون نهر الزَّيْت بالمغرب قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ والصخرة فِي اللُّغَة الْحجر الْكَبِير وَالْجمع صَخْر وصخر وصخور وصخورة وصخرات قَوْله " نبغي " أَي نطلب من بغيت الشَّيْء طلبته قَوْله " فارتدا " أَي رجعا على آثارهما هُوَ جمع أثر بِفَتْح الْهمزَة وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة واثر الشَّيْء مَا شخص مِنْهُ قَوْله " قصصا " من قصّ أَثَره يقص قصاً وقصصا أَي تتبعه قَالَ الله تَعَالَى (وَقَالَت لأخته قصه) أَي تتبعي أَثَره وَقَالَ الصغاني قَالَ تَعَالَى (فارتدا على آثارهما قصصا) أَي رجعا من الطَّرِيق الَّذِي سلكاه يقصان الْأَثر (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله " تمارى هُوَ " أبي ابْن عَبَّاس واتى بضمير الْفَصْل لِأَنَّهُ لَا يعْطف على الضَّمِير الْمَرْفُوع الْمُتَّصِل إِلَّا إِذا أكد بالمنفصل فَقَوله " وَالْحر بن قيس " عطف على الضَّمِير الَّذِي فِي تمارى وَحسن ذَلِك تأكيده بقوله هُوَ لِأَنَّهُ بِدُونِهِ يُوهم عطف الِاسْم على الْفِعْل قَوْله " فِي صَاحب مُوسَى " بتعلق بقوله " تمارى " قَوْله " هُوَ خضر " جملَة اسمية وَقعت مقول القَوْل قَوْله " تماريت أَنا وصاحبي " مثل تمارى هُوَ وَالْحر بن قيس حَيْثُ أكد الْمَعْطُوف عَلَيْهِ بالضمير الْمُنْفَصِل لتحسين الْعَطف وَيجوز أَن ينْتَصب على أَن يكون مَفْعُولا مَعَه وَأَرَادَ بقوله " صَاحِبي " هُوَ الْحر بن قيس قَوْله " هَل سَمِعت " استفهم بِهِ ابْن عَبَّاس عَن أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنْهُم قَوْله " يذكر شَأْنه " جملَة حَالية قَوْله " يَقُول " أَيْضا جملَة حَالية قَوْله " بَيْنَمَا " قد مر غير مرّة أَن أَصله بَين زيدت فِيهِ مَا والفصيح فِي جَوَابه ترك إِذْ وَإِذا وَجَوَابه قَوْله " جَاءَهُ رجل " وَفِي بعض الرِّوَايَات " إِذْ جَاءَهُ رجل " قَوْله " اعْلَم " بِالنّصب لِأَنَّهُ صفة أحد قَوْله " بل عندنَا خضر " أَي هُوَ أعلم هَكَذَا هُوَ فِي اكثر الرِّوَايَات وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " بلَى عَبدنَا خضر " وبل للإضراب وَهُوَ من حُرُوف الْعَطف فَإِن قلت مَا الْمَعْطُوف عَلَيْهِ بالمضروب عَنهُ قلت مُقَدّر تَقْدِيره أوحى الله إِلَيْهِ لَا تقل لَا بل عَبدنَا خضر أَي قل إِلَّا علم عَبدك خضر فَإِن قلت فعلى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول بل عبد الله أَو عَبدك قلت ورد عِلّة طَريقَة الْحِكَايَة عَن قَول الله تَعَالَى قَوْله " فَسَأَلَ مُوسَى " أَي سَأَلَ مُوسَى عَن الله تَعَالَى السَّبِيل إِلَى خضر وَالْفَاء فِي فَجعل للتعقيب قَوْله " لَهُ " أَي لأَجله والحوت وَآيَة منصوبان على انهما مَفْعُولا جعل قَوْله " فتاه " فَاعل فَقَالَ قَوْله " أَرَأَيْت " أَي أَخْبرنِي وَهُوَ مقول القَوْل قَوْله " إِذْ " بِمَعْنى حِين وَهَهُنَا حذف تَقْدِيره أَرَأَيْت مَا دهاني (إِذا أوينا إِلَى الصَّخْرَة) قَوْله " فَإِنِّي " الْفَاء فِيهِ تفسيرية يُفَسر بهَا مَا دهاه من نِسْيَان الْحُوت حِين أويا إِلَى الصَّخْرَة قَوْله " وماأنسانيه " أَي أنساني ذكره إِلَّا الشَّيْطَان قَوْله " أَن اذكره " بدل من الْهَاء فِي أنسانيه قَوْله " ذَلِك " فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء قَوْله " مَا كُنَّا نبغي " خَبره وَكلمَة مَا مَوْصُولَة وَقَوله " كُنَّا نبغي " صلتها أَي ذَلِك الَّذِي كُنَّا نطلب والعائد إِلَى الْمَوْصُول مَحْذُوف أَي مَا كُنَّا نبغيه وَيجوز حذف الْيَاء من نبغي للتَّخْفِيف وَهَكَذَا قرئَ ايضافي الْقُرْآن وإثباتها احسن وَهِي قِرَاءَة أبي عمر وَقَوله " قصصا " نصب على تَقْدِير يقصان قصصا أعنى النصب على المصدرية قَوْله " مَا قصّ الله " فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ اسْم كَانَ وَقَوله من شَأْنهمَا مقدما خَبره وَفِي بعض الرِّوَايَة " فَكَانَ من شَأْنهمَا الَّذِي قصّ الله "

(2/63)


(بَيَان الْمعَانِي) قَوْله " تمارى " هُوَ وَالْحر بن قيس وَكَانَ لِابْنِ عَبَّاس فِي هَذِه الْقِصَّة تماريان تمار بَينه وَبَين الْبَحْر ابْن قيس أهوَ الْخضر أَن غَيره وتمار بَينه وَبَين نوف البكالى فِي مُوسَى بن عمرَان الَّذِي أنزلت عَلَيْهِ التَّوْرَاة أم مُوسَى بن مِيشَا بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بعد هاشين مُعْجمَة هَكَذَا قَالَه الْكرْمَانِي فِي التمارى الثَّانِي وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن هَذَا التمارى كَانَ بَين سعيد بن جُبَير وَبَين الْبكالِي على مَا يَجِيء فِي التَّفْسِير وَسِيَاق سعيد بن جُبَير للْحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس أتم من سِيَاق عبيد الله بن عبد الله هَذَا بِشَيْء كثير وَسَيَأْتِي مُبينًا إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَوْله " فِي صَاحب مُوسَى " أَي الَّذِي ذهب مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ هَل اتبعك لفتاه الَّذِي كَانَ رَفِيقه عِنْد الذّهاب قَوْله " فَدَعَاهُ ابْن عَبَّاس " أَي فناداه وَقَالَ ابْن التِّين فِيهِ حذف تَقْدِيره فَقَامَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ لَان الْمَعْرُوف عَن ابْن عَبَّاس التأدب مَعَ من يَأْخُذ عَنهُ وإخباره فِي ذَلِك مَشْهُورَة قَوْله " فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيل إِلَيْهِ " أَي قَالَ فادللني لَان الْمَعْرُوف عَن ابْن عَبَّاس التأدب مَعَ من يَأْخُذ عَنهُ وإخباره فِي ذَلِك مَشْهُورَة قَوْله " فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيل إِلَيْهِ " أَي قَالَ إفادللني اللَّهُمَّ إِلَيْهِ قَوْله " فَقَالَ هَل تعلم أحدا أعلم مِنْك قَالَ مُوسَى لَا " وَجَاء فِي كتاب التَّفْسِير وَغَيره " فَسئلَ أَي النَّاس أعلم فَقَالَ أَنا فعتب الله عَلَيْهِ إِذا لم يرد الْعلم إِلَيْهِ " وَكَذَا جَاءَهُ فِي مُسلم وَفِيه أَيْضا " بَينا مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قومه يذكرهم أَيَّام الله وَأَيَّام الله نعماؤه وبلاؤه إِذْ قَالَ مَا اعْلَم فِي الأَرْض رجلا خيرا وَأعلم مني فَأوحى الله إِلَيْهِ أَن فِي الأَرْض رجلا هُوَ أعلم مِنْك " وَقَالَ المازرى أما على رِوَايَة من روى هَل تعلم أحدا أعلم مِنْك فَقَالَ أَنا فَلَا عتب عَلَيْهِ إِذا خبر عَمَّا يعلم وَأما على رِوَايَة أَي النَّاس أعلم فَقَالَ أَنا أعلم فَقَالَ أَنا أعلم أَي فِيمَا يَقْتَضِيهِ شَاهد الْحَال وَدلَالَة النُّبُوَّة وَيظْهر لي أَن مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ من النُّبُوَّة بِالْمَكَانِ الأرفع وَالْعلم من اعظم الْمَرَاتِب فقد يعْتَقد أَنه أعلم النَّاس بِهَذِهِ الْمرتبَة فَإِذا كَانَ مُرَاده بقوله أَنا أعلم فِي اعتقادي لم يكن خَبره كذبا وَقيل قَول الْمَازرِيّ فَلَا عتب عَلَيْهِ مَرْدُود بقوله عَلَيْهِ السَّلَام " فعتب الله عَلَيْهِ " لَكِن يَنْبَغِي العتب لَهُ أَن لَا ينفى العتب مُطلقًا بل عتب مَخْصُوص وَقَالَ القَاضِي عِيَاض وَقيل مُرَاد مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله أَنا أعلم أَي بوظائف النُّبُوَّة وَأُمُور الشَّرِيعَة وسياسة الْأَمر وَالْخضر أعلم مِنْهُ بِأُمُور أخر من عُلُوم غيبية كَمَا ذكر من خبرهما وَكَانَ مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْلَم على الْجُمْلَة والعموم مِمَّا لَا يُمكن جهل الْأَنْبِيَاء بِشَيْء مِنْهُ وَالْخضر أعلم على الْخُصُوص مِمَّا أ ‘ لم من الغيوب وحوادث الْقدر مِمَّا لَا يعلم الْأَنْبِيَاء مِنْهُ إِلَّا مَا أعلمُوا من غيبَة وَلِهَذَا قَالَ لَهُ الْخضر انك على علم من علم الله علمك لَا أعلمهُ وَأَنا على علم من علم الله علمنه لَا تعلمه " أَلا ترَاهُ لم يعرف مُوسَى بن إِسْرَائِيل حَتَّى عرفه بِنَفسِهِ إِذا لم يعرفهُ الله بِهِ وَهَذَا مثل قَول نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي لَا علم إِلَّا مَا عَلمنِي رَبِّي وَمعنى قَوْله " فعتب الله عَلَيْهِ " أَي لم يرض قَوْله وَآخذه بِهِ وَاصل العتب الْمُؤَاخَذَة يُقَال مِنْهُ عتب عَلَيْهِ إِذا وجده وَذكره لَهُ فالمؤاخذة والعتب فِي حق الله محَال فَمَعْنَى قَوْله " فعتب الله عَلَيْهِ " لم يرض قَوْله شرعا ودينا وَقد عتب الله عَلَيْهِ إِذا لم يرد رد الْمَلَائِكَة (لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا) وَقيل جَاءَ هَذَا تَنْبِيها لمُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتعليماً لمن بعده وَلِئَلَّا يَقْتَدِي بِهِ غَيره فِي تَزْكِيَة نَفسه وَالْعجب بِحَالهِ فَيهْلك وَإِنَّمَا الجيء مُوسَى للخضر لتأديب لَا للتعليم قَوْله " فَجعل الله لَهُ الْحُوت آيَة " أَي عَلامَة لمَكَان الْخضر ولقائه وَذَلِكَ أَنه لما قَالَ مُوسَى أَيْن أطلبه قَالَ الله لَهُ على السَّاحِل عِنْد الصَّخْرَة قَالَ يَا رب كَيفَ لي بِهِ قَالَ تَأْخُذ حوتا فِي مكتل فَحَيْثُ فقدته فَهُوَ هُنَاكَ فَقيل أَخذ سَمَكَة مملوحة قَالَ لفتاه إِذا فقدت الْحُوت فاخبرني وَكَانَ يمشي وَيتبع أثر الْحُوت أَي ينْتَظر فقدانه فرقد مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاضطرب الْحُوت وَوَقع فِي الْبَحْر قيل أَن يُوشَع حمل الْخبز والحوت فِي المكتل فَنزلَا لَيْلَة على شاطئ عين تسمى عين الْحَيَاة فَلَمَّا أصَاب السَّمَكَة روح المَاء وبرده عاشت وَقيل تَوَضَّأ يُوشَع من تِلْكَ الْعين فانتضح المَاء على الْحُوت فَعَاشَ وَوَقع فِي المَاء قَوْله " نسيت الْحُوت " أَي نسيت تفقد أمره وَمَا يكون مِنْهُ مِمَّا جعل امارة على الظفر بالطلبة من لِقَاء الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام قَوْله " قَالَ " أَي مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ذَلِك أَي فقدان الْحُوت هُوَ الَّذِي كُنَّا نبغي أَي نطلب لِأَنَّهُ عَلامَة وجدان الْمَقْصُود قَوْله " فارتدا " أَي رجعا على آثارهما يقصان قصصا أَي يتبعان آثارهما اتبَاعا قَوْله " من شَأْنهمَا " أَي شَأْن الْخضر ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام وَالَّذِي قصّ الله تَعَالَى فِي كِتَابه اشارة إِلَى قَوْله تَعَالَى (هَل أتبعك على أَن تعلمني مِمَّا علمت رشدا) إِلَى قَوْله (ويسألونك عَن ذِي القرنين) (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول قَالَ ابْن بطال فِيهِ جَوَاز التمارى فِي الْعلم إِذا كَانَ كل وَاحِد يطْلب الْحق وَلم يكن تعنتاً الثَّانِي فِيهِ الرُّجُوع إِلَى قَول أهل الْعلم عِنْد التَّنَازُع الثَّالِث فِيهِ أَنه يجب على الْعَالم الرَّغْبَة فِي التزيد من الْعلم والحرص عَلَيْهِ

(2/64)


وَلَا يقنع بِمَا عِنْده كَمَا لم يكتف مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعِلْمِهِ الرَّابِع فِيهِ وجوب التَّوَاضُع لن الله تَعَالَى عَاتب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حِين لم يرد الْعلم إِلَيْهِ وَأَرَادَ من هُوَ أعلم مِنْهُ قلت يَعْنِي فِي علم مَخْصُوص الْخَامِس فِيهِ حمل الزَّاد وأعداده للسَّفر بِخِلَاف قَول الصُّوفِيَّة السَّادِس قَول النَّوَوِيّ فِيهِ أَنه لَا بَأْس على الْعَالم والفاضل أَن يَخْدمه الْمَفْضُول وَيقْضى لَهُ حَاجته وَلَا يكون هَذَا من أَخذ الْعِوَض على تَعْلِيم الْعلم والآداب بل من مروآت الْأَصْحَاب وَحسن المعاشرة وَدَلِيله اتيان فتاه غداءهما السَّابِع فِيهِ الرحلة وَالسّفر لطلب الْعلم برا وبحراً الثَّامِن فِيهِ قبُول خبر الْوَاحِد الصدوق وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.