عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 8 - (بابٌ المصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْمُصَلِّي يُنَاجِي ربه، من
ناجاه يناجيه مُنَاجَاة فَهُوَ مناج، وَهُوَ الْمُخَاطب
لغيره والمحدث لَهُ، وثلاثيه من نجا ينجو نجاة: إِذا
أسْرع، وَنَجَا من الْأَمر، إِذا خلص، وأنجاه غَيره.
ومناسبة هَذَا الْبَاب بالأبواب الَّتِي قبله الَّتِي
تضمنها كتاب مَوَاقِيت الصَّلَاة من حَيْثُ إِن فِيهِ
بَيَان أَن أَوْقَات أَدَاء الصَّلَاة أَوْقَات مُنَاجَاة
الله تَعَالَى، ومناجاة الله تَعَالَى لَا تحصل للْعَبد
إلاَّ فِيهَا خَاصَّة، وَالْأَحَادِيث السَّابِقَة دلّت
على مدح من صلى فِي وَقتهَا وذم من أَخّرهَا عَن وَقتهَا.
وَأورد البُخَارِيّ أَحَادِيث هَذَا الْبَاب ترغيبا
للْمُصَلِّي فِي تَحْصِيل هَذِه الْفَضِيلَة على الْوَجْه
الْمَذْكُور فِي أَحَادِيث هَذَا الْبَاب لِئَلَّا يحرم
عَن هَذِه الْمنزلَة السّنيَّة الَّتِي يخْشَى فَوَاتهَا
على المقصر فِي ذَلِك.
531 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا
هِشَامٌ عنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ النَّبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ أحَدَكُمْ إذَا صَلَّى
يُنَاجِي رَبَّهُ فَلاَ يَتْفِلَنَّ عنْ يَمِينِهِ
وَلَكِنْ تَحْتَ قَدَمِهِ اليُسْرَى.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا الْإِسْنَاد
بِعَيْنِه قد مر فِي الحَدِيث الأول فِي بَاب زِيَادَة
الْإِيمَان ونقصانه، حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا مُسلم ابْن
إِبْرَاهِيم أخبرنَا هِشَام أخبرنَا قَتَادَة عَن أنس
قَالَ (يخرج من النَّار من قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله)
الحَدِيث، وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم أَبُو عَمْرو
الْبَصْرِيّ، وَهِشَام ابْن أبي عبد الله الدستوَائي،
بِفَتْح الدَّال. وَقَتَادَة ابْن دعامة، وَهَذَا الحَدِيث
قد مضى فِي بَاب حك البزاق بِالْيَدِ من الْمَسْجِد بأطول
مِنْهُ، رَوَاهُ عَن قُتَيْبَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن
حميد عَن أنس (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى
نخامة) الحَدِيث. وَأخرجه أَيْضا فِي بَاب لَا يبصق عَن
يَمِينه فِي الصَّلَاة عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد
الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَأخرجه
أَيْضا عَن أنس من حَدِيث شُعْبَة عَن قَتَادَة عَنهُ من
طرق مُخْتَلفَة، وَأخرجه أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة، وَقد
مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوْفِي.
وقالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ لاَ يَتْفِلْ قُدَّامَهُ أوْ
بَيْنَ يَدَيْهِ ولَكِنْ عنْ يَسَارِهِ أوْ تَحْتَ
قَدَمَيْهِ.
سعيد هُوَ ابْن أبي عرُوبَة أَي: قَالَ سعيد عَن قَتَادَة
بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَطَرِيقه مَوْصُولَة عِنْد
الإِمَام أَحْمد وَابْن حبَان. قَوْله: (أَو بَين
يَدَيْهِ) ، شكّ من الرَّاوِي وَمَعْنَاهُ: قدامه.
وقالَ شُعْبَةُ لاَ يَبْزُقْ بيْنَ يَدَيْهِ ولاَ عَنْ
يَمِينِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أوْ تَحْتَ قَدَمِهِ
أَي: قَالَ شُعْبَة بن الْحجَّاج عَن قَتَادَة
بِالْإِسْنَادِ أَيْضا، وَقد أوصله البُخَارِيّ أَيْضا
فِيمَا تقدم عَن آدم عَنهُ.
وَقَالَ حَمَيْدٌ عَنْ أنَسٍ عَنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لَا يَبْزُقْ فِي القِبْلَةِ ولاَ عَنْ
يَمِينِهِ ولَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أوْ تَحْتَ قَدَمِهِ
أوصله البُخَارِيّ أَيْضا فِيمَا تقدم، وَلَكِن لَيْسَ فِي
تِلْكَ الطَّرِيقَة. قَوْله: (وَلَا عَن يَمِينه) .
وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذِه تعليقات لَكِنَّهَا لَيست
مَوْقُوفَة على شُعْبَة وَلَا على قَتَادَة، وَيحْتَمل
الدُّخُول تَحت الْإِسْنَاد السَّابِق بِأَن يكون
مَعْنَاهُ مثلا: حَدثنَا مُسلم حَدثنَا شُعْبَة عَن
قَتَادَة عَن أنس عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،.
قلت: كلهَا مَوْصُولَة على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ،
فَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر الِاحْتِمَال.
531 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا
هِشَامٌ عنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ النَّبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ أحَدَكُمْ إذَا صَلَّى
يُنَاجِي رَبَّهُ فَلاَ يَتْفِلَنَّ عنْ يَمِينِهِ
وَلَكِنْ تَحْتَ قَدَمِهِ اليُسْرَى.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا الْإِسْنَاد
بِعَيْنِه قد مر فِي الحَدِيث الأول فِي بَاب زِيَادَة
الْإِيمَان ونقصانه، حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا مُسلم ابْن
إِبْرَاهِيم أخبرنَا هِشَام أخبرنَا قَتَادَة عَن أنس
قَالَ (يخرج من النَّار من قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله)
الحَدِيث، وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم أَبُو عَمْرو
الْبَصْرِيّ، وَهِشَام ابْن أبي عبد الله الدستوَائي،
بِفَتْح الدَّال. وَقَتَادَة ابْن دعامة، وَهَذَا الحَدِيث
قد مضى فِي بَاب حك البزاق بِالْيَدِ من الْمَسْجِد بأطول
مِنْهُ، رَوَاهُ عَن قُتَيْبَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن
حميد عَن أنس (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى
نخامة) الحَدِيث. وَأخرجه أَيْضا فِي بَاب لَا يبصق عَن
يَمِينه فِي الصَّلَاة عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد
الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَأخرجه
أَيْضا عَن أنس من حَدِيث شُعْبَة عَن قَتَادَة عَنهُ من
طرق مُخْتَلفَة، وَأخرجه أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة، وَقد
مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوْفِي.
وقالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ لاَ يَتْفِلْ قُدَّامَهُ أوْ
بَيْنَ يَدَيْهِ ولَكِنْ عنْ يَسَارِهِ أوْ تَحْتَ
قَدَمَيْهِ.
سعيد هُوَ ابْن أبي عرُوبَة أَي: قَالَ سعيد عَن قَتَادَة
بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَطَرِيقه مَوْصُولَة عِنْد
الإِمَام أَحْمد وَابْن حبَان. قَوْله: (أَو بَين
يَدَيْهِ) ، شكّ من الرَّاوِي وَمَعْنَاهُ: قدامه.
وقالَ شُعْبَةُ لاَ يَبْزُقْ بيْنَ يَدَيْهِ ولاَ عَنْ
يَمِينِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أوْ تَحْتَ قَدَمِهِ
أَي: قَالَ شُعْبَة بن الْحجَّاج عَن قَتَادَة
بِالْإِسْنَادِ أَيْضا، وَقد أوصله البُخَارِيّ أَيْضا
فِيمَا تقدم عَن آدم عَنهُ.
وَقَالَ حَمَيْدٌ عَنْ أنَسٍ عَنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لَا يَبْزُقْ فِي القِبْلَةِ ولاَ عَنْ
يَمِينِهِ ولَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أوْ تَحْتَ قَدَمِهِ
أوصله البُخَارِيّ أَيْضا فِيمَا تقدم، وَلَكِن لَيْسَ فِي
تِلْكَ الطَّرِيقَة. قَوْله: (وَلَا عَن يَمِينه) .
وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذِه تعليقات لَكِنَّهَا لَيست
مَوْقُوفَة على شُعْبَة وَلَا على قَتَادَة، وَيحْتَمل
الدُّخُول تَحت الْإِسْنَاد السَّابِق بِأَن يكون
مَعْنَاهُ مثلا: حَدثنَا مُسلم حَدثنَا شُعْبَة عَن
قَتَادَة عَن أنس عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،.
قلت: كلهَا مَوْصُولَة على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ،
فَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر الِاحْتِمَال.
(5/18)
532 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ قالَ
حدَّثنا يَزِيدُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا قَتَادَةُ
عنْ أنَسٍ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ ولاَ يَبْسُطْ ذِرَاعَيْهِ
كالْكَلْبِ وإذَا بَزَقَ فَلاَ يَبْزُقَنَّ بَيْنَ
يَدَيْهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي
رَبَّهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَرِجَاله تقدمُوا.
وَفِي إِسْنَاده: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع، والعنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل.
قَوْله: (اعتدلوا فِي السُّجُود) ، الْمَقْصُود من
الِاعْتِدَال فِيهِ أَن يضع كَفه على الأَرْض وَيرْفَع
مرفقيه عَنْهَا، وَعَن جَنْبَيْهِ وَيرْفَع الْبَطن عَن
الْفَخْذ، وَالْحكمَة فِيهِ أَنه أشبه بالتواضع وأبلغ فِي
تَمْكِين الْجَبْهَة من الأَرْض وَأبْعد من هيئات الكسالى،
فَإِن المنبسط يشبه الْكَلْب ويشعر حَاله بالتهاون
بالصلوات وَقلة الاعتناء بهَا، والإقبال عَلَيْهَا،
والاعتدال من: عدلته فَعدل، أَي: قومته فاستقام. قَالَه
الْجَوْهَرِي. قَوْله: (وَلَا يبسط ذِرَاعَيْهِ) ،
بِسُكُون الطَّاء، وفاعله مُضْمر أَي الْمُصَلِّي، وَفِي
بعض النّسخ: (لَا يبسط أحدكُم) بِإِظْهَار الْفَاعِل،
والذراع: الساعد. قَوْله: (فَإِنَّمَا يُنَاجِي ربه) وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني: (فَإِنَّهُ يُنَاجِي ربه) ، وَسَأَلَ
الْكرْمَانِي هَهُنَا مَا ملخصه: إِن فِيمَا مضى جعل
الْمُنَاجَاة عِلّة لنهي البزاق فِي القدام فَقَط لَا فِي
الْيَمين حَيْثُ قَالَ: (فَلَا يبصق أَمَامه فَإِنَّهُ
يُنَاجِي ربه) ، وَقَالَ: (وَلَا عَن يَمِينه فَإِن عَن
يَمِينه ملكا) ، وَأجَاب بِأَنَّهُ لَا مَحْذُور بِأَن
يُعلل الشَّيْء الْوَاحِد بعلتين منفردتين أَو مجتمعتين،
لِأَن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة معرفَة، وَجَاز تعدد
المعرفات فعلل نهي البزاق عَن الْيَمين بالمناجاة، وَبِأَن
ثمَّ ملكا، وَقَالَ أَيْضا عَادَة المناجي أَن يكون فِي
القدام، وَأجَاب بِأَن المناجي الشريف قد يكون قداما وَقد
يكون يَمِينا.
9 - (بابُ الإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الحَرِّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْإِبْرَاد بِصَلَاة
الظّهْر عِنْد شدَّة الْحر، وسنفسر الْإِبْرَاد فِي
الحَدِيث، وَإِنَّمَا قدم الْإِبْرَاد بِالظّهْرِ على بَاب
وَقت الظّهْر للاهتمام بِهِ.
12 - (حَدثنَا أَيُّوب بن سُلَيْمَان قَالَ حَدثنَا أَبُو
بكر عَن سُلَيْمَان قَالَ صَالح بن كيسَان حَدثنَا
الْأَعْرَج عبد الرَّحْمَن وَغَيره عَن أبي هُرَيْرَة
وَنَافِع مولى عبد الله بن عمر عَن عبد الله بن عمر
أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ إِذا اشْتَدَّ الْحر
فأبردوا بِالصَّلَاةِ فَإِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم)
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن المُرَاد بقوله "
فأبردوا بِالصَّلَاةِ " هِيَ صَلَاة الظّهْر لِأَن
الْإِبْرَاد إِنَّمَا يكون فِي وَقت يشْتَد الْحر فِيهِ
وَذَلِكَ وَقت الظّهْر وَلِهَذَا صرح بِالظّهْرِ فِي
حَدِيث أبي سعيد حَيْثُ قَالَ " أبردوا بِالظّهْرِ فَإِن
شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم " على مَا يَأْتِي فِي آخر
هَذَا الْبَاب فَالْبُخَارِي حمل الْمُطلق على الْمُقَيد
فِي هَذِه التَّرْجَمَة. (ذكر رِجَاله) وهم ثَمَانِيَة.
الأول أَيُّوب بن سُلَيْمَان بن بِلَال الْمدنِي مَاتَ سنة
أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي أَبُو بكر
واسْمه عبد الحميد بن أبي أويس الأصبحي توفّي سنة
ثِنْتَيْنِ وَمِائَة. الثَّالِث سُلَيْمَان بن بِلَال
وَالِد أَيُّوب الْمَذْكُور. الرَّابِع صَالح بن كيسَان.
الْخَامِس الْأَعْرَج وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
السَّادِس نَافِع مولى ابْن عمر. السَّابِع أَبُو
هُرَيْرَة. الثَّامِن عبد الله بن عمر رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة التَّثْنِيَة من
الْمَاضِي فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه العنعنة فِي أَرْبَعَة
مَوَاضِع وَفِيه القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن
رُوَاته كلهم مدنيون وَفِيه صحابيان وَثَلَاثَة من
التَّابِعين وهم صَالح بن كيسَان فَإِنَّهُ رأى عبد الله
بن عمر قَالَه الْوَاقِدِيّ والأعرج وَنَافِع. وَفِيه أَن
أَبَا بكر من أَقْرَان أَيُّوب قَوْله " وَغَيره " أَي
وَغير الْأَعْرَج الظَّاهِر أَنه أَبُو سَلمَة بن عبد
الرَّحْمَن وروى أَبُو نعيم هَذَا الحَدِيث فِي
الْمُسْتَخْرج من طَرِيق
(5/19)
آخر عَن أَيُّوب بن سُلَيْمَان وَلم يقل
فِيهِ وَغَيره قَوْله " وَنَافِع " بِالرَّفْع عطف على
قَوْله الْأَعْرَج (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أَنَّهُمَا
حَدَّثَاهُ " أَي أَن أَبَا هُرَيْرَة وَابْن عمر حَدثا من
حدث صَالح بن كيسَان وَيحْتَمل أَن يعود الضَّمِير فِي
أَنَّهُمَا إِلَى الْأَعْرَج وَنَافِع أَي أَن الْأَعْرَج
ونافعا حَدَّثَاهُ أَي صَالح بن كيسَان عَن شيخيهما بذلك
وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " أَنَّهُمَا حَدثا
" بِغَيْر ضمير فَلَا يحْتَاج إِلَى التَّقْدِير
الْمَذْكُور قَوْله " إِذا اشْتَدَّ " من الاشتداد من بَاب
الافتعال وَأَصله اشتدد أدغمت الدَّال الأولى فِي
الثَّانِيَة قَوْله " فأبردوا " بِفَتْح الْهمزَة من
الْإِبْرَاد قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي الْفَائِق حَقِيقَة
الْإِبْرَاد الدُّخُول فِي الْبرد وَالْبَاء للتعدية
وَالْمعْنَى إِدْخَال الصَّلَاة فِي الْبرد وَيُقَال
مَعْنَاهُ افعلوها فِي وَقت الْبرد وَهُوَ الزَّمَان
الَّذِي يتَبَيَّن فِيهِ شدَّة انكسار الْحر لِأَن شدته
تذْهب الْخُشُوع وَقَالَ السفاقسي أبردوا أَي ادخُلُوا فِي
وَقت الْإِبْرَاد مثل أظلم دخل فِي الظلام وَأمسى دخل فِي
الْمسَاء. وَقَالَ الْخطابِيّ الْإِبْرَاد انكسار شدَّة حر
الظهيرة وَذَلِكَ أَن فتور حرهَا بِالْإِضَافَة إِلَى وهج
الهاجرة برد وَلَيْسَ ذَلِك بِأَن يُؤَخر إِلَى آخر برد
النَّهَار وَهُوَ برد العشى إِذْ فِيهِ الْخُرُوج عَن قَول
الْأَئِمَّة قَوْله " بِالصَّلَاةِ " وَفِي حَدِيث أبي ذَر
الَّذِي يَأْتِي بعد هَذَا الحَدِيث " عَن الصَّلَاة "
وَالْفرق بَينهمَا أَن الْبَاء هُوَ الأَصْل وَأما عَن
فَفِيهِ تضمين معنى التَّأْخِير أَي أخروا عَنْهَا مبردين
وَقيل هما بِمَعْنى وَاحِد لِأَن عَن تَأتي بِمَعْنى
الْبَاء كَمَا يُقَال رميت عَن الْقوس أَي بِالْقَوْسِ
وَقيل الْبَاء زَائِدَة وَالْمعْنَى أبردوا بِالصَّلَاةِ
وَقَوله " بِالصَّلَاةِ " بِالْبَاء هُوَ رِوَايَة
الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " عَن الصَّلَاة "
كَمَا فِي حَدِيث أبي ذَر وَقَالَ بَعضهم فِي قَوْله "
بِالصَّلَاةِ " الْبَاء للتعدية وَقيل زَائِدَة وَمعنى
أبردوا أخروا على سَبِيل التَّضْمِين (قلت) قَوْله للتعدية
غير صَحِيح لِأَنَّهُ لَا يجمع فِي تَعديَة اللَّازِم بَين
الْهمزَة وَالْبَاء وَقَوله على سَبِيل التَّضْمِين أَيْضا
غير صَحِيح لِأَن معنى التَّضْمِين فِي رِوَايَة عَن كَمَا
ذكرنَا لَا فِي رِوَايَة الْبَاء فَافْهَم وَقد ذكرنَا أَن
المُرَاد من الصَّلَاة هِيَ صَلَاة الظّهْر قَوْله " فَإِن
شدَّة الْحر " الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل أَرَادَ أَن
عِلّة الْأَمر بالإبراد هِيَ شدَّة الْحر وَاخْتلف فِي
حِكْمَة هَذَا التَّأْخِير فَقيل دفع الْمَشَقَّة لكَون
شدَّة الْحر مِمَّا يذهب الْخُشُوع وَقيل لِأَنَّهُ وَقت
تسجر فِيهِ جَهَنَّم كَمَا روى مُسلم من حَدِيث عَمْرو بن
عبسة حَيْثُ قَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - " اقصر عَن الصَّلَاة عِنْد اسْتِوَاء
الشَّمْس فَإِنَّهَا سَاعَة تسجر فِيهَا جَهَنَّم " انْتهى
فَهَذِهِ الْحَالة ينتشر فِيهَا الْعَذَاب (فَإِن قلت)
الصَّلَاة سَبَب الرَّحْمَة وإقامتها مَظَنَّة دفع
الْعَذَاب فَكيف أَمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - بِتَرْكِهَا فِي هَذِه الْحَالة (قلت) أُجِيب عَنهُ
بجوابين أَحدهمَا قَالَه الْيَعْمرِي بِأَن التَّعْلِيل
إِذا جَاءَ من جِهَة الشَّارِع وَجب قبُوله وَإِن لم يفهم
مَعْنَاهُ وَالْآخر من جِهَة أهل الْحِكْمَة وَهُوَ أَن
هَذَا الْوَقْت وَقت ظُهُور الْغَضَب فَلَا ينجع فِيهِ
الطّلب إِلَّا مِمَّن أذن لَهُ كَمَا فِي حَدِيث
الشَّفَاعَة حَيْثُ اعتذر الْأَنْبِيَاء كلهم عَلَيْهِم
السَّلَام للأمم بذلك سوى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّهُ أذن لَهُ فِي ذَلِك.
قَوْله " من فيح جَهَنَّم " بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة وَهُوَ
سطوع الْحر وفورانه وَيُقَال بِالْوَاو فوح وفاحت
الْقُدْرَة تفوح إِذا غلت وَقَالَ ابْن سَيّده فاح الْحر
يفيح فيحا سَطَعَ وهاج وَيُقَال هَذَا خَارج مخرج
التَّشْبِيه والتمثيل أَي كَأَنَّهُ فار جَهَنَّم فِي
حرهَا وَيُقَال هُوَ حَقِيقَة وَهُوَ أَن نثار وهج الْحر
فِي الأَرْض من فيح جَهَنَّم حَقِيقَة ويقوى هَذَا حَدِيث
" اشتكت النَّار إِلَى رَبهَا " كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ
الله تَعَالَى وَأما لفظ جَهَنَّم فقد قَالَ قطرب زعم
يُونُس أَنه اسْم أعجمي وَفِي الزَّاهِر لِابْنِ
الْأَنْبَارِي قَالَ أَكثر النَّحْوِيين هِيَ أَعْجَمِيَّة
لَا تجْرِي للتعريف والعجمة وَقَالَ أَنه عَرَبِيّ وَلم
تجر للتعريف والتأنيث وَفِي المغيث هِيَ نعريب كهنام
بالعبرانية وَذكره فِي الصِّحَاح فِي الرباعي ثمَّ قَالَ
هُوَ مُلْحق بالخماسي لتشديد الْحَرْف الثَّالِث وَفِي
الْمُحكم سميت جَهَنَّم لبعد قعرها وَلم يَقُولُوا فِيهَا
جهنام وَيُقَال بِئْر جهنام بعيدَة القعر وَبِه سميت
جَهَنَّم وَقَالَ أَبُو عَمْرو جهنام اسْم وَهُوَ الغليظ
الْبعيد القعر (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ) وَهُوَ على وُجُوه.
الأول أَن فِيهِ الْأَمر بالإبراد فِي صَلَاة الظّهْر
وَاخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة هَذَا الْأَمر فَحكى القَاضِي
عِيَاض وَغَيره أَن بَعضهم ذهب إِلَى أَن الْأَمر فِيهِ
للْوُجُوب وَقَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) ظَاهر الْأَمر
للْوُجُوب فَلم قلت للاستحباب (قلت) للْإِجْمَاع على عَدمه
وَقَالَ بَعضهم وغفل الْكرْمَانِي فَنقل الْإِجْمَاع على
عدم الْوُجُوب (قلت) لَا يُقَال أَنه غفل بل الَّذين نقل
عَنْهُم فِيهِ الْإِجْمَاع كَأَنَّهُمْ لم يعتبروا كَلَام
من ادّعى الْوُجُوب فَصَارَ كَالْعدمِ وَأَجْمعُوا على أَن
الْأَمر للاستحباب (فَإِن قلت) مَا الْقَرِينَة الصارفة
(5/20)
عَن الْوُجُوب وَظَاهر الْكَلَام
يَقْتَضِيهِ (قلت) لما كَانَت الْعلَّة فِيهِ دفع
الْمَشَقَّة عَن الْمُصَلِّي لشدَّة الْحر وَكَانَ ذَلِك
للشفقة عَلَيْهِ فَصَارَ من بَاب النَّفْع لَهُ فَلَو
كَانَ للْوُجُوب يصير عَلَيْهِ وَيعود الْأَمر على
مَوْضِعه بِالنَّقْضِ وَفِي التَّوْضِيح اخْتلف
الْفُقَهَاء فِي الْإِبْرَاد بِالصَّلَاةِ فَمنهمْ من لم
يره وَتَأَول الحَدِيث على إيقاعها فِي برد الْوَقْت
وَهُوَ أَوله وَالْجُمْهُور من الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ وَغَيرهم على القَوْل بِهِ ثمَّ اخْتلفُوا
فَقيل أَنه عَزِيمَة وَقيل وَاجِب تعويلا على صِيغَة
الْأَمر وَقيل رخصَة وَنَصّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيّ
وَصَححهُ الشَّيْخ أَبُو عَليّ من الشَّافِعِيَّة وَأغْرب
النَّوَوِيّ فوصفه فِي الرَّوْضَة بالشذوذ لكنه لم يحكه
قولا وبنوا على ذَلِك أَن من صلى فِي بَيته أَو مَشى فِي
كن إِلَى الْمَسْجِد هَل يسن لَهُ الْإِبْرَاد إِن قُلْنَا
رخصَة لم يسن لَهُ إِذْ لَا مشقة عَلَيْهِ فِي التَّعْجِيل
وَإِن قُلْنَا سنة أبرد وَهُوَ الْأَقْرَب لوُرُود الْأَثر
بِهِ مَعَ مَا اقْترن بِهِ من الْعلَّة من أَن شدَّة الْحر
من فيح جَهَنَّم وَقَالَ صَاحب الْهِدَايَة من أَصْحَابنَا
يسْتَحبّ الْإِبْرَاد بِالظّهْرِ فِي أَيَّام الصَّيف
وَيسْتَحب تَقْدِيمه فِي أَيَّام الشتَاء (فَإِن قلت)
يُعَارض حَدِيث الْإِبْرَاد حَدِيث إِمَامَة جِبْرِيل
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَن إِمَامَته فِي
الْعَصْر فِي الْيَوْم الأول فِيمَا إِذا صَار ظلّ كل
شَيْء مثله فَدلَّ ذَلِك على خُرُوج وَقت الظّهْر وَحَدِيث
الْإِبْرَاد دلّ على عدم خُرُوج وَقت الظّهْر لِأَن امتداد
الْحر فِي دِيَارهمْ فِي ذَلِك الْوَقْت (قلت) الْآثَار
إِذا تَعَارَضَت لَا يَنْقَضِي الْوَقْت الثَّابِت
بِيَقِين بِالشَّكِّ وَمَا لم يكن ثَابتا بِيَقِين هُوَ
وَقت الْعَصْر لَا يثبت بِالشَّكِّ (فَإِن قلت) هَل فِي
الْإِبْرَاد تَحْدِيد (قلت) روى أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم من حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ كَانَ قدر صَلَاة رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الظّهْر فِي الصَّيف
ثَلَاثَة أَقْدَام إِلَى خَمْسَة أَقْدَام وَفِي الشتَاء
خَمْسَة أَقْدَام إِلَى سَبْعَة أَقْدَام فَهَذَا يدل على
التَّحْدِيد. اعْلَم أَن هَذَا الْأَمر مُخْتَلف فِي
الأقاليم والبلدان وَلَا يَسْتَوِي فِي جَمِيع المدن
والأمصار وَذَلِكَ لِأَن الْعلَّة فِي طول الظل وقصره هُوَ
زِيَادَة ارْتِفَاع الشَّمْس فِي السَّمَاء وانحطاطها
فَكلما كَانَت أَعلَى وَإِلَى محاذاة الرؤس فِي مجْراهَا
أقرب كَانَ الظل أقصر وَكلما كَانَت أَخفض وَمن محاذاة
الرؤس أبعد كَانَ الظل أطول وَلذَلِك ظلال الشتَاء ترَاهَا
أبدا أطول من ظلال الصَّيف فِي كل مَكَان وَكَانَت صَلَاة
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
بِمَكَّة وَالْمَدينَة وهما من الإقليم الثَّانِي ثَلَاثَة
أَقْدَام ويذكرون أَن الظل فيهمَا فِي أول الصَّيف فِي شهر
أدَار ثَلَاثَة أَقْدَام وَشَيْء وَيُشبه أَن تكون صلَاته
إِذا اشْتَدَّ الْحر مُتَأَخِّرَة عَن الْوَقْت
الْمَعْهُود قبله فَيكون الظل عِنْد ذَلِك خَمْسَة
أَقْدَام وَأما الظل فِي الشتَاء فَإِنَّهُم يذكرُونَ أَنه
فِي تشرين الأول خَمْسَة أَقْدَام وَشَيْء وَفِي الكانون
سَبْعَة أَقْدَام أَو سَبْعَة وَشَيْء فَقَوْل ابْن
مَسْعُود منزل على هَذَا التَّقْدِير فِي ذَلِك الإقليم
دون سَائِر الأقاليم والبلدان الَّتِي هِيَ خَارِجَة عَن
الإقليم الثَّانِي وَفِي التَّوْضِيح اخْتلف فِي مِقْدَار
وقته فَقيل أَن يُؤَخر الصَّلَاة عَن أول الْوَقْت
مِقْدَار مَا يظْهر للحيطان ظلّ وَظَاهر النَّص أَن
الْمُعْتَبر أَن ينْصَرف مِنْهَا قبل آخر الْوَقْت
وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث أبي ذَر " حَتَّى رَأينَا فَيْء
التلول " وَقَالَ مَالك أَنه يُؤَخر الظّهْر إِلَى أَن
يصير الْفَيْء ذِرَاعا وَسَوَاء فِي ذَلِك الصَّيف والشتاء
وَقَالَ أَشهب فِي مدونته لَا يُؤَخر الظّهْر إِلَى آخر
وَقتهَا وَقَالَ ابْن بزيزة ذكر أهل النَّقْل عَن مَالك
أَنه كره أَن يصلى الظّهْر فِي أول الْوَقْت وَكَانَ
يَقُول هِيَ صَلَاة الْخَوَارِج وَأهل الْأَهْوَاء
وَأَجَازَ ابْن عبد الحكم التَّأْخِير إِلَى آخر الْوَقْت
وَحكى أَبُو الْفرج عَن مَالك أول الْوَقْت أفضل فِي كل
صَلَاة إِلَّا الظّهْر فِي شدَّة الْحر وَعَن أبي حنيفَة
والكوفيين وَأحمد واسحق يؤخرها حَتَّى يبرد الْحر الْوَجْه
الثَّانِي أَن بعض النَّاس استدلوا بقوله " فأبردوا
بِالصَّلَاةِ " على أَن الْإِبْرَاد يشرع فِي يَوْم
الْجُمُعَة أَيْضا لِأَن لفظ الصَّلَاة يُطلق على الظّهْر
وَالْجُمُعَة وَالتَّعْلِيل مُسْتَمر فِيهَا وَفِي
التَّوْضِيح اخْتلف فِي الْإِبْرَاد بِالْجمعَةِ على
وَجْهَيْن لِأَصْحَابِنَا أصَحهمَا عِنْد جمهورهم لَا يشرع
وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالك أَيْضا فَإِن التبكير سنة
فِيهَا انْتهى (قلت) مَذْهَبنَا أَيْضا التبكير يَوْم
الْجُمُعَة لما ثَبت فِي الصَّحِيح أَنهم كَانُوا يرجعُونَ
من صَلَاة الْجُمُعَة وَلَيْسَ للحيطان ظلّ يَسْتَظِلُّونَ
بِهِ من شدَّة التبكير لَهَا أول الْوَقْت فَدلَّ على عدم
الْإِبْرَاد وَالْمرَاد بِالصَّلَاةِ فِي الحَدِيث الظّهْر
كَمَا ذكرنَا فعلى هَذَا لَا يبرد بالعصر إِذا اشْتَدَّ
الْحر فِيهِ وَقَالَ ابْن بزيزة إِذا اشْتَدَّ الْحر فِي
الْعَصْر هَل يبرد بهَا أم لَا الْمَشْهُور نفي
الْإِبْرَاد بهَا وَتفرد أَشهب بإبراده وَقَالَ أَيْضا
وَهل يبرد الفذام لَا وَالظَّاهِر أَن الْإِبْرَاد
مَخْصُوص بِالْجَمَاعَة وَهل يبرد فِي زمن الشتَاء أم لَا
فِيهِ قَولَانِ وَالظَّاهِر نَفْيه وَهل يبرد بِالْجمعَةِ
أم لَا الْمَشْهُور نَفْيه الْوَجْه الثَّالِث فِيهِ
دَلِيل على وجود جَهَنَّم الْآن
(5/21)
535 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ
قَالَ حدَّثنا غُنْدَرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنِ
المُهَاجِرِ أبي الحَسَنِ سَمِعَ زَيْدَ بنَ وَهَبٍ عنْ
أبي ذَرٍّ قَالَ أذَّنَ مُؤَذِّنُ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الظُّهْرَ فَقَالَ أبْرِدْ أَبْرِدْ أوْ
قَالَ انْتَظِرْ انْتَظِرْ وَقَالَ شِدَّة الحَرِّ مِنْ
فَيْحِ جَهَنَّمَ فإذَ اشْتَدَّ الحَرُّ فأَبْرِدُوا عنِ
الصَّلاَةِ حَتى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن بشار الملقب
ببندار، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: غنْدر، وَهُوَ لقب
مُحَمَّد بن جَعْفَر، ابْن امْرَأَة شُعْبَة، وَقد تقدم.
الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: المُهَاجر،
بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل من بَاب المفاعلة، ويكنى بِأبي
الْحسن. الْخَامِس: زيد بن وهب أَبُو سُلَيْمَان
الْهَمدَانِي الْجُهَنِيّ. قَالَ: رحلت إِلَى رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقبض وَأَنا فِي الطَّرِيق،
مَاتَ زمن الْحجَّاج. السَّادِس: أَبُو ذَر الْغِفَارِيّ
الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور، واسْمه: جُنْدُب بن جُنَادَة
على الْمَشْهُور.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
السماع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي.
وَفِيه: ذكر أحد الروَاة بلقبه وَالْآخر بكنيته وَهُوَ
المُهَاجر. فَإِن كنيته أَبُو الْحسن ذكرت للتمييز، فَإِن
فِي الروَاة الْمُهَاجِرين مِسْمَار الْمدنِي من أَفْرَاد
مُسلم، وَالْألف وَاللَّام فِيهِ للمح الصّفة، كَمَا فِي:
الْعَبَّاس، فَإِنَّهُ فِي الأَصْل صفة وَلكنه صَار علما.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن آدم وَعَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم،
وَفِي صفة النَّار عَن أبي الْوَلِيد، كلهم عَن شُعْبَة
عَن مهَاجر أبي الْحسن وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن
أبي مُوسَى عَن غنْدر بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ
عَن أبي الْوَلِيد بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن
مَحْمُود بن غيلَان عَن أبي دَاوُد عَن شُعْبَة
بِمَعْنَاهُ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أذن مُؤذن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) هُوَ: بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
لِأَنَّهُ جَاءَ فِي بعض طرفَة: أذن بِلَال، أخرجه أَبُو
عوَانَة. وَفِي أُخْرَى لَهُ: (فَأَرَادَ أَن يُؤذن
فَقَالَ: مَه يَا بِلَال) . قَوْله: (الظّهْر) بِالنّصب،
أَي: وَقت الظّهْر، وَلما حذف الْمُضَاف الْمَنْصُوب على
الظَّرْفِيَّة اقيم الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه. قَوْله:
(فَقَالَ: أبرد أبرد) يَعْنِي مرَّتَيْنِ، وَفِي لفظ أبي
دَاوُد: (فَأَرَادَ الْمُؤَذّن أَن يُؤذن الظّهْر،
فَقَالَ: أبرد ثمَّ أبرد، ثمَّ أَرَادَ أَن يُؤذن فَقَالَ:
أبرد، مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) . قَوْله: (عَن الصَّلَاة)
، قد ذكرنَا وَجه: عَن، هُنَا فِي الحَدِيث السَّابِق،
قَوْله: (حَتَّى رَأينَا فَيْء التلول) ، التلول جمع: تل.
قَالَ ابْن سَيّده: من التُّرَاب مَعْرُوف، والتل من
الرمل: كومة مِنْهُ، وَكِلَاهُمَا من التل الَّذِي هُوَ
القاذي جثة، والتل الرابية. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز:
التل من التُّرَاب وَهِي الرابية مِنْهُ تكون مكدوسا
وَلَيْسَ بِحَلقَة، والفيء فِيمَا ذكره ثَعْلَب فِي
(الفصيح) يكون بالْعَشي، كَمَا أَن الظل يكون
بِالْغَدَاةِ، وَأنْشد:
(فَلَا الظل من برد الضُّحَى تستطيعه ... وَلَا الْفَيْء
من برد الْعشي تذوق)
قَالَ: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: قَالَ رؤبة بن العجاج: كل
مَا كَانَت عَلَيْهِ الشَّمْس فَزَالَتْ فَهُوَ فَيْء وظل،
وَمَا لم يكن عَلَيْهِ شمس فَهُوَ ظلّ. وَعَن ابْن
الْأَعرَابِي: الظل مَا نسخته الشَّمْس، والفيء مَا نسخ
الشَّمْس. وَقَالَ الْقَزاز: الْفَيْء رُجُوع الظل من
جَانب الْمشرق إِلَى جَانب الْمغرب. وَفِي (الْمُخَصّص) و:
الْجمع أفياء وفيوء، وَقد فَاء الْفَيْء فيأَ: تحول،
وَهُوَ مَا كَانَ شمسا، فنسخه الظل. وَقيل: الْفَيْء لَا
يكون إلاَّ بعد الزَّوَال، وَأما الظل فيطلق على مَا قبل
الزَّوَال، وَأما بعده، وروى فِيهِ: فِي، بتَشْديد
الْيَاء. وَاعْلَم أَن كلمة: حَتَّى، للغاية، وَلَا بُد
لَهَا من المغيا وَهُوَ مُتَعَلق: بقال، أَي: كَانَ يَقُول
إِلَى زمَان الرُّؤْيَة أبرد مرّة بعد أُخْرَى، أَو هُوَ
مُتَعَلق بالإبراد، أَي: أبرد إِلَى أَن ترى الْفَيْء
وانتظر إِلَيْهِ، وَيجوز أَن يكون مُتَعَلقا بمقدر
مَحْذُوف تَقْدِيره: أخرنا حَتَّى رَأينَا فَيْء التلول.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: دلَالَة على أَن الْأَمر
بالإبراد كَانَ بعد التأذين، وَلَكِن فِي لفظ آخر
للْبُخَارِيّ: (فَأَرَادَ أَن يُؤذن لِلظهْرِ) . وَظَاهر
هَذَا الْأَمر بالإبراد وَقع قبل الْأَذَان. وَقَالَ
بَعضهم: يجمع بَينهمَا على أَنه شرع فِي الآذان، فَقيل
لَهُ: أبرد، فَترك. فَمَعْنَى: أذن، شرع فِي الْأَذَان،
وَمعنى: أَرَادَ أَن يُؤذن، أَي: يتم بِهِ الْأَذَان. قلت:
هَذَا غير سديد لِأَنَّهُ لَا يُؤمر بِتَرْكِهِ بعد
الشُّرُوع، وَلَكِن مَعْنَاهُ: أَرَادَ أَن يشرع فِي
الْأَذَان، فَقيل لَهُ: أبرد، فَترك الشُّرُوع.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ لفظ أَبُو عوَانَة: فَأَرَادَ أَن
(5/22)
يُؤذن، فَقَالَ: مَه يَا بِلَال. كَمَا
ذَكرْنَاهُ، وَمَعْنَاهُ: اسْكُتْ لَا تشرع فِي الْأَذَان،
وَالْأَقْرَب فِي هَذَا أَن يحمل اللفظان على حالتين فَلَا
يحْتَاج إِلَى ذكر الْجمع بَينهمَا.
536 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ عَنْ
سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عَن النبيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا اشْتَدَّ الحَرُّ
فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ
فَيْحِ جَهَنَّمَ (انْظُر الحَدِيث 533) . واشتكت النَّار
إِلَى رَبهَا فَقَالَت يَا رب أكل بَعْضِي بَعْضًا فَأذن
لَهَا بنفسين نفس فِي الشتَاء وَنَفس فِي الصَّيف فَهُوَ
أَشد مَا تَجِدُونَ من الْحر وَأَشد مَا تَجِدُونَ من
الزَّمْهَرِير) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (ذكر
رِجَاله) وهم خَمْسَة ذكرُوا غير مرّة وسُفْيَان هُوَ ابْن
عُيَيْنَة وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب. (ذكر
لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين وَفِيه القَوْل وَالْحِفْظ وَفِي رِوَايَة
الْإِسْمَاعِيلِيّ حَدثنَا الزُّهْرِيّ وَرِوَايَة
البُخَارِيّ أبلغ لِأَن حفظ الحَدِيث عَن شيخ فَوق مُجَرّد
سَمَاعه مِنْهُ وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
(ذكر من أخرجه غَيره) أخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة
أَيْضا عَن قُتَيْبَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله
كِلَاهُمَا عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ (ذكر مَعْنَاهُ
وَإِعْرَابه) قَوْله " اشتكت النَّار " قيل أَنه مَوْقُوف
وَقيل أَنه مُعَلّق وَهُوَ غير صَحِيح بل هُوَ دَاخل فِي
الْإِسْنَاد الْمَذْكُور وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن فِي
رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ قَالَ " واشتكت النَّار " أَي
قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اشتكت النَّار وشكوى النَّار إِلَى رَبهَا يحْتَمل
وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يكون بطرِيق الْحَقِيقَة
وَإِلَيْهِ ذهب عِيَاض وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ لَا إِحَالَة
فِي حمل اللَّفْظ على الْحَقِيقَة لِأَن الْمخبر الصَّادِق
بِأَمْر جَائِز لَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيله فَحَمله على
حَقِيقَته أولى وَقَالَ النَّوَوِيّ نَحْو ذَلِك ثمَّ
قَالَ حمله على حَقِيقَته هُوَ الصَّوَاب وَقَالَ نَحْو
ذَلِك الشَّيْخ التوربشتي (قلت) قدرَة الله تَعَالَى أعظم
من ذَلِك لِأَنَّهُ يخلق فِيهَا آلَة الْكَلَام كَمَا خلق
لهدهد سُلَيْمَان مَا خلق من الْعلم والإدراك كَمَا أخبر
الله تَعَالَى عَن ذَلِك فِي كِتَابه الْكَرِيم وَحكى عَن
النَّار حَيْثُ تَقول {هَل من مزِيد} وَورد أَن الْجنَّة
إِذا سَأَلَهَا عبد أمنت على دُعَائِهِ وَكَذَا النَّار
وَقَالَ ابْن الْمُنِير حمله على الْحَقِيقَة هُوَ
الْمُخْتَار لصلاحية الْقُدْرَة لذَلِك وَلِأَن
اسْتِعَارَة الْكَلَام للْحَال وَإِن عهِدت وَسمعت لَكِن
الشكوى وتفسيرها وَالتَّعْلِيل لَهُ وَالْإِذْن
وَالْقَبُول والتنفس وقصره على اثْنَيْنِ فَقَط بعيد من
الْمجَاز خَارج عَمَّا ألف من اسْتِعْمَاله وَقَالَ
الدَّاودِيّ وَهُوَ يدل على أَن النَّار تفهم وتعقل وَقد
جَاءَ أَنه لَيْسَ شَيْء أسمع من الْجنَّة وَالنَّار وَقد
ورد أَن النَّار تخاطب سيدنَا مُحَمَّدًا رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وتخاطب الْمُؤمن
بقولِهَا " جز يَا مُؤمن فقد أطفأ نورك لهبي " وَالْوَجْه
الثَّانِي أَن يكون بِلِسَان الْحَال كَمَا قَالَ عنترة
(وشكى إِلَيّ بعبرة وتحمحم ... )
وَقَالَ الآخر
(يشكو إِلَيّ جملي طول السرى ... مهلا رويدا فكلانا مبتلى)
وَرجع الْبَيْضَاوِيّ حمله على الْمجَاز فَقَالَ شكوها
مجَاز عَن غليانها وأكلها بَعْضهَا بَعْضًا مجَاز عَن
ازدحام أَجْزَائِهَا وتنفسها مجَاز عَن خُرُوج مَا يبرز
مِنْهَا قَوْله " بنفسين " تَثْنِيَة نفس بِفَتْح الْفَاء
وَهُوَ مَا يخرج من الْجوف وَيدخل فِيهِ من الْهَوَاء
قَوْله " نفس " فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالْجَرِّ على
الْبَدَل أَو الْبَيَان وَيجوز فيهمَا الرّفْع على أَنه
خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف وَالتَّقْدِير أَحدهمَا نفس فِي
الشتَاء وَالْآخر نفس فِي الصَّيف وَيجوز فيهمَا النصب على
تَقْدِير أَعنِي نفسا فِي الشتَاء ونفسا فِي الصَّيف
قَوْله " أَشد مَا تَجِدُونَ " بجر أَشد على أَنه بدل من
نفس أَو بَيَان ويروى بِالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف أَي هُوَ أَشد مَا تَجِدُونَ وَقَالَ
الْبَيْضَاوِيّ هُوَ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره
فَذَلِك أَشد وَقَالَ الطَّيِّبِيّ جعل أَشد مُبْتَدأ
مَحْذُوف الْخَبَر أولى وَالتَّقْدِير أَشد مَا تَجِدُونَ
من الْحر من ذَلِك النَّفس انْتهى وَيُؤَيّد الْوَجْه
الأول رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من هَذَا الْوَجْه
بِلَفْظ فَهُوَ أَشد وَيُؤَيّد الْوَجْه الثَّانِي
رِوَايَة النَّسَائِيّ من وَجه آخر بِلَفْظ " فأشد مَا
تَجِدُونَ من الْحر من حر جَهَنَّم " وَفِي اللَّفْظ
الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ لف وَنشر على غير التَّرْتِيب
وَلَا مَانع من حُصُول الزَّمْهَرِير من نفس النَّار لِأَن
المُرَاد من النَّار محلهَا وَهُوَ جَهَنَّم وفيهَا طبقَة
زمهريرية وَيُقَال لَا مُنَافَاة فِي الْجمع بَين الْحر
وَالْبرد فِي النَّار لِأَن النَّار عبارَة عَن جَهَنَّم
وَقد ورد أَن فِي بعض زواياها نَارا وَفِي الْأُخْرَى
الزَّمْهَرِير وَلَيْسَ محلا وَاحِدًا يَسْتَحِيل أَن
يجتمعا فِيهِ (قلت) الَّذِي خلق الْملك من ثلج ونار قَادر
على جمع الضدين فِي مَحل وَاحِد وَأَيْضًا فَالنَّار من
أُمُور الْآخِرَة وَأُمُور الْآخِرَة لَا تقاس على أُمُور
الدُّنْيَا وَفِي التَّوْضِيح
(5/23)
قَالَ ابْن عَبَّاس خلق الله النَّار على
أَرْبَعَة فَنَار تَأْكُل وتشرب ونار لَا تَأْكُل وَلَا
تشرب ونار تشرب وَلَا تَأْكُل وَعَكسه فَالْأولى الَّتِي
خلقت مِنْهَا الْمَلَائِكَة وَالثَّانيَِة الَّتِي فِي
الْحِجَارَة وَقيل الَّتِي رؤيت لمُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَام لَيْلَة الْمُنَاجَاة وَالثَّالِثَة الَّتِي فِي
الْبَحْر وَقيل الَّتِي خلقت مِنْهَا الشَّمْس
وَالرَّابِعَة نَار الدُّنْيَا ونار جَهَنَّم تَأْكُل
لحومهم وعظامهم وَلَا تشرب دموعهم وَلَا دِمَاءَهُمْ بل
يسيل ذَلِك إِلَى طين الخبال وَأخْبر الشَّارِع أَن عصارة
أهل النَّار شراب من مَاتَ مصرا على شرب الْخمر وَالَّذِي
فِي الصَّحِيح أَن نَار الدُّنْيَا خلقت من نَار جَهَنَّم.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس ضربت بِالْمَاءِ سبعين مرّة
وَلَوْلَا ذَلِك مَا انْتفع بهَا الْخَلَائق وَإِنَّمَا
خلقهَا الله تَعَالَى لِأَنَّهَا من تَمام الْأُمُور
الدُّنْيَوِيَّة وفيهَا تذكرة لنار الْآخِرَة وتخويف من
عَذَابهَا (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ اسْتِحْبَاب
الْإِبْرَاد بِالظّهْرِ عِنْد اشتداد الْحر فِي الصَّيف
وَفِيه أَن جَهَنَّم مخلوقة الْآن خلافًا لمن يَقُول من
الْمُعْتَزلَة أَنَّهَا تخلق يَوْم الْقِيَامَة. وَفِيه
أَن الشكوى تتَصَوَّر من جماد وَمن حَيَوَان أَيْضا كَمَا
جَاءَ فِي معجزات النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - شكوى الْجذع وشكوى الْجمل على مَا عرف فِي
مَوْضِعه. وَفِيه أَن المُرَاد من قَوْله " فأبردوا
بِالصَّلَاةِ " هُوَ صَلَاة الظّهْر كَمَا ذَكرْنَاهُ
538 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ
حدَّثنا الأعْمَش قَالَ حدَّثنا أبُو صَالِحٍ عنْ أبِي
سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فإنَّ شِدَّةَ الحَرِّ منْ فَيْحِ
جَهَنَّمَ. (الحَدِيث 538 طرفه فِي: 3259) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد تقدمُوا غير
مرّة، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان بن مهْرَان وَأَبُو
صَالح ذكْوَان.
وَمن لطائف إِسْنَاده أَن فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع
فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، والعنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه:
القَوْل. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْجمع بَين هَذِه الْأَحَادِيث
الْمَذْكُورَة، وَبَين حَدِيث خباب (شَكَوْنَا إِلَى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حر الرمضاء فَلم يشكنا)
، رَوَاهُ مُسلم؛ فَقَالَ بَعضهم: الْإِبْرَاد رخصَة
والتقديم أفضل، وَقَالَ بَعضهم: حَدِيث خباب مَنْسُوخ
بالإبراد، وَإِلَى هَذَا مَال أَبُو بكر الْأَثْرَم فِي
كتاب (النَّاسِخ والمنسوخ) وَأَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ،
وَقَالَ: وجدنَا ذَلِك فِي حديثين أَحدهمَا حَدِيث
الْمُغيرَة: (كُنَّا نصلي بالهاجرة فَقَالَ لنا صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أبردوا) . فَتبين بهَا أَن الْإِبْرَاد
كَانَ بعد التهجير، وَحَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، إِذا كَانَ الْبرد بَكرُوا، وَإِذا كَانَ الْحر
أبردوا. وَحمل بَعضهم حَدِيث خباب على أَنهم طلبُوا
تَأْخِيرا زَائِدا على قدر الْإِبْرَاد. وَقَالَ أَبُو عمر
فِي قَول خباب: فَلم يشكنا، يَعْنِي: لم يحوجنا إِلَى
الشكوى، وَقيل: لم يزل شكوانا، وَيُقَال: حَدِيث خباب
كَانَ بِمَكَّة، وَحَدِيث الْإِبْرَاد بِالْمَدِينَةِ،
فَإِن فِيهِ من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة. وَقَالَ الْخلال
فِي (علله) عَن أَحْمد: آخر الْأَمريْنِ من النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِبْرَاد.
تابَعَهُ سُفْيَانُ وَيَحْيَى وأبُو عَوَانَةَ عنِ
الأَعْمَشِ
أَي: تَابع حَفْص بن غياث وَالِد عمر الْمَذْكُور سُفْيَان
الثَّوْريّ، وَقد وَصله البُخَارِيّ فِي صفة الصَّلَاة عَن
الْفرْيَابِيّ عَن سُفْيَان ابْن سعيد. قَوْله: (وَيحيى) ،
أَي: تَابع حفصا أَيْضا يحيى بن سعيد الْقطَّان، وَقد
وَصله أَحْمد فِي (مُسْند) عَنهُ بِلَفْظ: الصَّلَاة،
وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي يعلى عَن الْمقدمِي
عَن يحيى بِلَفْظ: بِالظّهْرِ، وروى الْخلال عَن
الْمَيْمُونِيّ عَن أَحْمد عَن يحيى وَلَفظه: (فوح
جَهَنَّم) . وَقَالَ أَحْمد: مَا أعرف أَن أحدا قَالَ:
بِالْوَاو، وَغير الْأَعْمَش. قَوْله: (وَأَبُو عوَانَة)
أَي: تَابع حفصا أَيْضا أَبُو عوَانَة الوضاح ابْن عبد
الله، وَأَرَادَ بمتابعة سُفْيَان الثَّوْريّ وَيحيى
الْقطَّان وَأبي عوَانَة لحفص بن غياث فِي روايتهم عَن
الْأَعْمَش فِي لفظ: (أبردوا بِالظّهْرِ) .
10 - (بابُ الإبْرَادِ بِالظُهْرِ فِي السفَرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْإِبْرَاد بِصَلَاة الظّهْر
فِي حَالَة السّفر، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن
الْإِبْرَاد بِالظّهْرِ لَا يخْتَص بالحضر.
539 - حدَّثنا آدَمُ بنُ إياسٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ
قَالَ حدَّثنا مُهاجرٌ أبُو الحَسَنِ مَولًى لِ بَنِي
تَيْمِ الله قَالَ سَمِعتُ زَيْدَ بنَ وَهَبٍ عنْ أبِي
ذَرٍّ الغِفَارِيِّ قَالَ كُنَّا مَعَ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم
(5/24)
فِي سَفَرٍ فأرَادَ المُؤذِّنُ أنْ
يُؤَذِّنَ لِلظُّهْرِ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أبْرِدْ ثُمَّ أرَادَ أنْ يُؤَذِّنَ فقالَ لَهُ
أبْرِدْ حتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ فَقَالَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ شِدَّةَ الحَرِّ
مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فإذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فأَبْرِدُوا
بالصَّلاةِ.
هَذَا الحَدِيث مضى فِي الْبَاب الَّذِي قبله، غير أَن
هُنَاكَ أخرجه عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر عَن
شُعْبَة، وَهَهُنَا عَن آدم بن أبي إِيَاس، وَهُوَ من
أَفْرَاد البُخَارِيّ عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج، وَفِي
هَذَا من الزِّيَادَة مَا لَيست هُنَاكَ فاعتبرها، وَهَذَا
مُقَيّد بِالسَّفرِ، وَذَلِكَ مُطلق. وَأَشَارَ بذلك إِلَى
أَن الْمُطلق مَحْمُول على الْمُقَيد لِأَن المُرَاد من
الْإِبْرَاد التسهيل وَدفع الْمَشَقَّة، فَلَا تفَاوت بَين
السّفر والحضر. قَوْله: (فَأَرَادَ الْمُؤَذّن) وَهُوَ:
بِلَال، وَفِي رِوَايَة أبي بكر بن أبي شيبَة عَن شَبابَة،
ومسدد عَن أُميَّة بن خَالِد، وَالتِّرْمِذِيّ من طَرِيق
أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، وَأَبُو عوَانَة من طَرِيق
حَفْص بن عَمْرو وهب بن جرير، والطَّحَاوِي والجوزقي من
طَرِيق وهب أَيْضا، كلهم عَن شُعْبَة التَّصْرِيح
بِأَنَّهُ بِلَال. قَوْله: (ثمَّ أَرَادَ أَن يُؤذن
فَقَالَ لَهُ: أبرد) وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن أبي
الْوَلِيد عَن شُعْبَة، (مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) وَفِي
رِوَايَة البُخَارِيّ عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم فِي بَاب
الْأَذَان للمسافرين فِي هَذَا الحَدِيث: (فَأَرَادَ
الْمُؤَذّن أَن يُؤذن فَقَالَ لَهُ: أبرد، ثمَّ أَرَادَ
أَن يُؤذن فَقَالَ لَهُ: أبرد، ثمَّ أَرَادَ أَن يُؤذن
فَقَالَ لَهُ: أبرد، حَتَّى سَاوَى الظل التلول) . وَقَالَ
الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْإِبْرَاد إِنَّمَا هُوَ فِي
الصَّلَاة لَا فِي الْأَذَان؟ قلت: كَانَت عَادَتهم أَنهم
لَا يتخلفون عِنْد سَماع الْأَذَان عَن الْحُضُور إِلَى
الْجَمَاعَة، فالإبراد بِالْأَذَانِ إِنَّمَا هُوَ لغَرَض
الْإِبْرَاد بِالصَّلَاةِ، أَو المُرَاد بِالتَّأْذِينِ
الْإِقَامَة. قلت: يشْهد للجواب الثَّانِي رِوَايَة
التِّرْمِذِيّ حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا مَحْمُود بن غيلَان،
قَالَ: حَدثنَا أَبُو دَاوُد، قَالَ: أَنبأَنَا شُعْبَة
عَن مهَاجر أبي الْحسن عَن زيد ابْن وهب عَن أبي ذَر أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي سفر،
وَمَعَهُ بِلَال، فَأَرَادَ أَن يُقيم فَقَالَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أبرد، ثمَّ أَرَادَ أَن يُقيم
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أبرد فِي
الظّهْر، قَالَ: حَتَّى رَأينَا فَيْء التلول، ثمَّ
أَقَامَ فصلى. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: إِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم فأبردوا عَن
الصَّلَاة) . قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن
صَحِيح. فَإِن قلت: فِي (صَحِيح أبي عوَانَة) من طَرِيق
حَفْص بن عمر عَن شُعْبَة: (فَأَرَادَ بِلَال أَن يُؤذن
بِالظّهْرِ) ، وَفِيه بعد. قَوْله: (فَيْء التلول ثمَّ
أمره فَأذن وَأقَام) . قلت: التَّوْفِيق بَينهمَا بِأَن
إِقَامَته مَا كَانَت تتخلف عَن الْأَذَان، فرواية
التِّرْمِذِيّ: (فَأَرَادَ أَن يُقيم) ، يَعْنِي: بعد
الْأَذَان، وَرِوَايَة أبي عوَانَة: (فَأَرَادَ بِلَال أَن
يُؤذن) ، يَعْنِي: أَن يُؤذن ثمَّ يُقيم. وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ فِي (جَامعه) وَقد اخْتَار قوم من أهل
الْعلم تَأْخِير صَلَاة الظّهْر فِي شدَّة الْحر، وَهُوَ
قَول ابْن الْمُبَارك وَأحمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ
الشَّافِعِي: إِنَّمَا الْإِبْرَاد بِصَلَاة الظّهْر إِذا
كَانَ مَسْجِدا ينتاب أَهله
(5/25)
من الْبعد، فَأَما الْمُصَلِّي وَحده،
وَالَّذِي يُصَلِّي فِي مَسْجِد قومه، فَالَّذِي أحب لَهُ
أَن لَا يُؤَخر الصَّلَاة فِي شدَّة الْحر. قَالَ أَبُو
عِيسَى ومعن، من ذهب إِلَى تَأْخِير الظّهْر فِي شدَّة
الْحر فَهُوَ أولى وأشبه بالاتباع، وَأما مَا ذهب إِلَيْهِ
الشَّافِعِي أَن الرُّخْصَة لمن ينتاب من الْبعد وللمشقة
على النَّاس فَإِن فِي حَدِيث أبي ذَر مَا يدل على خلاف
مَا قَالَه الشَّافِعِي. قَالَ أَبُو ذَر: (كُنَّا مَعَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر فَأذن بِلَال
بِصَلَاة الظّهْر، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: يَا بِلَال أبرد ثمَّ أبرد) فَلَو كَانَ الْأَمر
على مَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي لم يكن للإبراد فِي
ذَلِك الْوَقْت معنى لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي السّفر،
فَكَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ أَن ينتابوا من الْبعد،
وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَقُول: لَا نسلم إجتماعهم لِأَن
الْعَادة فِي القوافل سِيمَا فِي العساكر الْكَثِيرَة
تفرقهم فِي أَطْرَاف الْمنزل لمصَالح مَعَ التَّخْفِيف على
الاصحاب، وَطلب المرعى وَغَيره، خُصُوصا إِذا كَانَ فِيهِ
سُلْطَان جليل الْقدر فَإِنَّهُم يتباعدون عَنهُ احتراما
وتعظيما لَهُ. قلت: هَذَا لَيْسَ برد موجه لكَلَام
التِّرْمِذِيّ فَإِن كَلَامه على الْغَالِب، وَالْغَالِب
فِي الْمُسَافِرين اجْتِمَاعهم فِي مَوضِع وَاحِد لِأَن
السّفر مَظَنَّة الْخَوْف، سِيمَا إِذا كَانَ عَسْكَر
خَرجُوا لأجل الْحَرْب مَعَ الْأَعْدَاء. وَقَالَ بَعضهم،
عقيب كَلَام الْكرْمَانِي: وَأَيْضًا فَلم تجر عَادَتهم
باتخاذ خباء كَبِير يجمعهُمْ، بل كَانُوا يتفرقون فِي ظلال
الشّجر، لَيْسَ هُنَاكَ كن يَمْشُونَ فِيهِ، فَلَيْسَ فِي
سِيَاق الحَدِيث مَا يُخَالف مَا قَالَه الشَّافِعِي،
وغايته أَنه استنبط من النَّص الْعَام معنى يَخُصُّهُ.
انْتهى. قلت: هَذَا أَكثر بعدا من كَلَام الْكرْمَانِي
لِأَن فِيهِ إِسْقَاط الْعَمَل بِعُمُوم النُّصُوص
الْوَارِدَة فِي الْإِبْرَاد بِالظّهْرِ بأَشْيَاء ملفقة
من الْخَارِج. وَقَوله: فَلَيْسَ فِي سِيَاق الحَدِيث ...
إِلَى آخِره، غير صَحِيح، لِأَن الْخلاف لظَاهِر الحَدِيث
صَرِيح لَا يخفى، لِأَن ظَاهره عَام، وَالتَّقْيِيد
بِالْمَسْجِدِ الَّذِي ينتاب أَهله من الْبعد خلاف ظَاهر
الحَدِيث، والاستنباط من النَّص الْعَام معنى يخصصه لَا
يجوز عِنْد الْأَكْثَرين، وَلَئِن سلمنَا فَلَا بُد من
دَلِيل للتخصيص، وَلَا دَلِيل لذَلِك. هَهُنَا.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضِيَ الله عَنْهُمَا تَتَفَيَّأُ
تَتَمَيَّلُ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى:
{يتفيأ ظلاله} (النَّحْل: 48) . أَن مَعْنَاهُ: يتميل،
كَأَنَّهُ أَرَادَ أَن الْفَيْء سمي بِهِ لِأَنَّهُ ظلّ
مَال إِلَى جِهَة غير الْجِهَة الأولى. وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: تفيأت الظلال، أَي: تقلبت، ويتفيؤ،
بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف أَي، وفاعله مَحْذُوف تَقْدِيره:
يتفيأ الظل، ويروى تتفيأ: بِالتَّاءِ، الْمُثَنَّاة من
فَوق أَي: الظلال.
ومناسبة ذكر هَذَا عَن ابْن عَبَّاس لأجل مَا فِي حَدِيث
الْبَاب: (حَتَّى رَأينَا فَيْء التلول) ، وَهَذَا
تَعْلِيق وَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وكريمة، وَقد
وَصله ابْن أبي حَاتِم فِي تَفْسِيره.
11 - (بابٌ وَقْتُ الظهْرِ عِنْدَ الزَّوَال)
أَي: هَذَا بَاب، وَيجوز فِي: بَاب، التَّنْوِين على أَنه
خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، كَمَا قدرناه. وَيجوز أَن يكون
بِالْإِضَافَة وَالتَّقْدِير: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن
وَقت الظّهْر، أَي: ابتداؤه عِنْد زَوَال الشَّمْس عَن كبد
السَّمَاء وميلها إِلَى جِهَة الْمغرب.
وَقَالَ جابرٌ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يُصَلِّي بِالْهَاجِرَةِ
هَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث جَابر ذكره البُخَارِيّ
مَوْصُولا فِي بَاب وَقت الْمغرب، رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن
بشار، وَفِيه: (فسألنا جَابر بن عبد الله فَقَالَ: كَانَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الظّهْر
بالهاجرة) والهاجرة: نصف النَّهَار عِنْد اشتداد الْحر،
وَلَا يُعَارض هَذَا حَدِيث الْإِبْرَاد لِأَنَّهُ ثَبت
بِالْفِعْلِ، وَحَدِيث الْإِبْرَاد بِالْفِعْلِ،
وَالْقَوْل، فيرجح على ذَلِك. وَقيل: إِنَّه مَنْسُوخ
بِحَدِيث الْإِبْرَاد لِأَنَّهُ مُتَأَخّر عَنهُ. وَقَالَ
الْبَيْضَاوِيّ: الْإِبْرَاد تَأْخِير الظّهْر أدنى
تَأْخِير بِحَيْثُ يَقع الظل، وَلَا يخرج بذلك عَن حد
التهجير، فَإِن الهاجرة تطلق على الْوَقْت إِلَى أَن يقرب
الْعَصْر. قلت: بِأَدْنَى التَّأْخِير لَا يحصل
الْإِبْرَاد، وَلم يقل أحد: إِن الهاجرة تمتد إِلَى قرب
الْعَصْر.
540 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي أنَسُ بنُ مَالِكٍ أنَّ
رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ
الشَّمْسُ فَصَلَّى الظُّهْرَ فَقَامَ عَلَى المنْبَرِ
فَذَكَرَ السَّاعَةَ فَذَكَرَ أنَّ فِيهَا أُمُورا عِظَاما
ثُمَّ قَالَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عنْ شَيْءٍ
فَلْيَسْأَلْ فَلاَ تَسْأَلُونِي عنْ شَيْءٍ إلاَّ
أخْبَرْتُكُمْ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا فأَكْثَرَ
النَّاسُ فِي البُكَاءِ وأكْثَرَ أنْ يَقُولَ سَلُونِي
فَقَامَ عَبْدُ الله بنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ فَقَالَ
مَنْ أبي قَالَ أبُوكَ حَذافةُ ثُمَّ أكْثَرَ أنْ يَقُولَ
سَلُونِي فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فقالَ
رَضِينَا بِالله رَبّا وبِالإسْلاَمِ دِينا وبِمُحَمَّدٍ
نَبِيَّا فَسَكَتَ ثُمَّ قالَ عُرِضَتْ عَلَيَّ الجَنَّةُ
والنَّارُ آنِفا فِي عُرْضِ هَذَا الحَائِطِ فَلَمْ أرَ
كَالْخَيْرِ والشَّرِّ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (خرج حِين زاغت الشَّمْس
فصلى الظّهْر) ، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه مضى فِي
كتاب الْعلم فِي بَاب من برك على رُكْبَتَيْهِ عِنْد
الإِمَام أَو الْمُحدث، وَمتْن الحَدِيث أَيْضا مُخْتَصرا،
وَالزِّيَادَة هُنَا من قَوْله: (خرج حِين زاغت الشَّمْس)
إِلَى قَوْله: (فَقَامَ عبد الله بن حذافة) وَكَذَا
قَوْله: (ثمَّ قَالَ عرضت) إِلَى آخِره. قَوْله: (حِين
زاغت) أَي: حِين مَالَتْ، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ
بِلَفْظ زَالَت، وَهَذَا يَقْتَضِي أَن زَوَال الشَّمْس
أول وَقت الظّهْر، إِذا لم ينْقل عَنهُ أَنه صلى قبله،
وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ الْإِجْمَاع.
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع الْعلمَاء على أَن وَقت
الظّهْر زَوَال الشَّمْس، وَذكر ابْن بطال عَن الْكَرْخِي
عَن أبي حنيفَة: أَن الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت تقع نفلا،
قَالَ: وَالْفُقَهَاء بأسرهم على خلاف قَوْله. قلت: ذكر
أَصْحَابنَا أَن هَذَا قَول ضَعِيف نقل عَن
(5/26)
بعض أَصْحَابنَا، وَلَيْسَ مَنْقُولًا عَن
أبي حنيفَة أَن الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت تقع نفلا،
وَالصَّحِيح عندنَا أَن الصَّلَاة تجب بِأول الْوَقْت
وجوبا موسعا. وَذكر القَاضِي عبد الْوَهَّاب فِي الْكتاب
(الفاخر) ، فِيمَا ذكره ابْن بطال وَغَيره عَن بعض
النَّاس: يجوز أَن يفتح الظّهْر قبل الزَّوَال، وَقَالَ
شمس الْأَئِمَّة فِي (الْمَبْسُوط) : لَا خلاف أَن أول
وَقت الظّهْر يدْخل بِزَوَال الشَّمْس إلاَّ شَيْء نقل عَن
بعض النَّاس أَنه يدْخل إِذا صَار الْفَيْء بِقدر الشرَاك،
وَصَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين زاغت
الشَّمْس دَلِيل على أَن ذَلِك من وَقتهَا. قَوْله:
(فليسأل) أَي: فليسألني عَنهُ. قَوْله: (فَلَا
تَسْأَلُونِي) ، بِلَفْظ النَّفْي، وَحذف نون الْوِقَايَة
مِنْهُ جَائِز. قَوْله: (إلاَّ أَخْبَرتكُم) أَي: إلاَّ
أخْبركُم، فَاسْتعْمل الْمَاضِي مَوضِع الْمُسْتَقْبل
إِشَارَة إِلَى تحَققه، وَأَنه كالواقع. وَقَالَ الْمُهلب:
إِنَّمَا خطب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعد
الصَّلَاة، وَقَالَ هُوَ: سلوني، لِأَنَّهُ بلغه أَن قوما
من الْمُنَافِقين يسْأَلُون مِنْهُ ويعجزونه عَن بعض مَا
يسألونه، فتغيظ وَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي عَن شَيْء إلاَّ
أَخْبَرتكُم بِهِ. قَوْله: (فَأكْثر النَّاس فِي الْبكاء)
إِنَّمَا كَانَ بكاؤهم خوفًا من نزُول عَذَاب لغضبه، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، كَمَا كَانَ ينزل على الْأُمَم عِنْد
ردهم على أَنْبِيَائهمْ، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام،
والبكاء يمد وَيقصر، إِذا مددت أردْت الصَّوْت الَّذِي
يكون مَعَ الْبكاء، وَإِذا قصرت أردْت الدُّمُوع وخروجها.
قَوْله: (وَأكْثر أَن يَقُول) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة
تَقْدِيره: وَأكْثر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
القَوْل بقوله: سلوني، وَأَصله: اسألوني، فنقلت حَرَكَة
الْهمزَة إِلَى السِّين، فحذفت واستغني عَن همزَة
الْوَصْل، فَقيل: سلوني، على وزن: فلوني. قَوْله: (فَقَامَ
عبد الله بن حذافة) ، قَالَ الْوَاقِدِيّ: إِن عبد الله بن
حذافة كَانَ يطعن فِي نسبه، فَأَرَادَ أَن يبين لَهُ
ذَلِك، فَقَالَت أمه: أما خشيت أَن أكون قارفت بعض مَا
كَانَ يصنع فِي الْجَاهِلِيَّة، أَكنت فاضحي عِنْد رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَ: وَالله لَو
ألحقني بِعَبْد للحقت بِهِ. قَوْله: (آنِفا) ، أَي: فِي
أول وَقت يقرب مني، وَمَعْنَاهُ هُنَا: الْآن، وانتصابه
على الظَّرْفِيَّة لِأَنَّهُ يتَضَمَّن معنى الظّرْف.
قَوْله: (فِي عرض هَذَا الْحَائِط) ، بِضَم الْعين
الْمُهْملَة، يُقَال: عرض الشَّيْء، بِالضَّمِّ: ناحيته من
أَي وَجه جِئْته. قَوْله: (فَلم أر كالخير) أَي: مَا
أَبْصرت قطّ مثل هَذَا الْخَيْر الَّذِي هُوَ الْجنَّة،
وَهَذَا الشَّرّ الَّذِي هُوَ النَّار. أَو: مَا أَبْصرت
شَيْئا مثل الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة فِي سَبَب دُخُول
الْجنَّة وَالنَّار.
541 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ قَالَ حدَّثنا شعْبَةُ
عنْ أبي المِنْهَالِ عَنْ أبي بَرْزَةَ كَانَ النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الصُّبْحَ وَأَحَدُنَا
يَعْرِفُ جلِيسَهُ وَيَقْرَأ فِيهَا مَا بَيْنَ
السِّتِّينَ إِلَى المائَةِ وَكَانَ يُصَلِّي الظهْرَ إذَا
زَالَتِ الشَّمْسُ وَالعَصْرَ وأَحَدُنا يَذْهَبُ إلَى
أَقْصَى المَدِينَةِ رَجَعَ والشَّمْسُ حَيَّةٌ ونَسِيتُ
مَا قَالَ فِي المَغْرِبِ ولاَ يُبَالِي بِتَأْخِيرِ
العِشَاءِ إلَى ثُلِثِ اللَّيْلِ ثُمَّ إلَى شَطْرِ
الليْلِ. وَقَالَ مُعَاذُ قالَ شُعْبَةُ ثُمَّ لَقِيتُهُ
مَرَّةً فَقَالَ أوْ ثُلُثِ اللَّيْلِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَيُصلي الظّهْر إِذا
زَالَت الشَّمْس) .
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: حَفْص بن غياث، تكَرر ذكره،
وَكَذَلِكَ شُعْبَة بن الْحجَّاج، وَأَبُو الْمنْهَال،
بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون النُّون واسْمه سيار بن سَلامَة
الريَاحي، بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة: الْبَصْرِيّ، وَأَبُو
بَرزَة بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء ثمَّ
بالزاي: الْأَسْلَمِيّ، واسْمه: نَضْلَة، بِفَتْح النُّون
وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة بن عبيد مُصَغرًا، أسلم
قَدِيما وَشهد فتح مَكَّة، وَلم يزل يَغْزُو مَعَ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَتَّى قبض فتحول وَنزل
الْبَصْرَة، ثمَّ غزا خُرَاسَان وَمَات بمرو أَو
بِالْبَصْرَةِ أَو بمفازة سجستان سنة أَربع وَسِتِّينَ،
روى لَهُ البُخَارِيّ أَرْبَعَة أَحَادِيث.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين، والعنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل، وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني: حَدثنَا أَبُو الْمنْهَال. وَفِيه:
أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وواسطي، وَيجوز أَن يُقَال:
كلهم بصريون، لِأَن شُعْبَة وَإِن كَانَ من وَاسِط فقد سكن
الْبَصْرَة وَنسب إِلَيْهَا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن شُعْبَة، وَعَن مُحَمَّد
بن مقَاتل عَن عبد الله، وَعَن مُسَدّد عَن يحيى،
كِلَاهُمَا عَن عَوْف نَحوه. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن يحيى
بن حبيب، وَعَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه، كِلَاهُمَا
عَن شُعْبَة، وَعَن أبي كريب عَن سُوَيْد بن عَمْرو
الْكَلْبِيّ.
(5/27)
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن حَفْص بن
عمر بِتَمَامِهِ، وَفِي مَوضِع آخر بِبَعْضِه. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى، وَعَن
مُحَمَّد بن بشار، وَعَن سُوَيْد بن نصر. وَأخرجه ابْن
ماجة فِيهِ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن بنْدَار بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (واحدنا) الْوَاو فِيهِ للْحَال.
قَوْله: (جليسه) ، الجليس على وزن: فعيل، بِمَعْنى:
الْمجَالِس، وَأَرَادَ بِهِ الَّذِي إِلَى جنبه، وَفِي
رِوَايَة الجوزقي من طَرِيق وهب عَن شُعْبَة: (فَينْظر
الرجل إِلَى جليسه إِلَى جنبه) . وَفِي رِوَايَة أَحْمد:
(فَيَنْصَرِف الرجل فَيعرف وَجه جليسه) . وَفِي رِوَايَة
لمُسلم: (وبعضنا يعرف وَجه بعض) . قَوْله: (مَا بَين
السِّتين إِلَى الْمِائَة) يَعْنِي: من) آيَات الْقُرْآن
الْحَكِيم. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت لفظ: بَين،
يَقْتَضِي دُخُوله على مُتَعَدد، فَكَانَ الْقيَاس أَن
يُقَال: وَالْمِائَة، بِدُونِ حرف الِانْتِهَاء؟ قلت:
تَقْدِيره مَا بَين السِّتين وفوقها إِلَى الْمِائَة،
فَحذف لفظ: فَوْقهَا، لدلَالَة الْكَلَام عَلَيْهِ.
قَوْله: (وَالْعصر) بِالنّصب أَي، وَيُصلي الْعَصْر، و:
الْوَاو، فِي: وأحدنا، للْحَال. قَوْله: (إِلَى أقْصَى
الْمَدِينَة) أَي: إِلَى آخرهَا. قَوْله: (رَجَعَ) ، كَذَا
وَقع بِلَفْظ الْمَاضِي بِدُونِ: الْوَاو، وَفِي رِوَايَة
أبي ذَر والأصيلي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (وَيرجع) ،
بواو الْعَطف وَصِيغَة الْمُضَارع، وَمحله الرّفْع على
أَنه خبر للمبتدأ الَّذِي هُوَ قَوْله: (وأحدنا) ، فعلى
هَذَا يكون لفظ: يذهب، حَالا بِمَعْنى: ذَاهِبًا، وَيجوز
أَن يكون: يذهب، فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر لقَوْله:
(أَحَدنَا) ، وَقَوله: رَجَعَ، يكون فِي مَحل النصب على
الْحَال و: قد، فِيهِ مقدرَة لِأَن الْجُمْلَة الفعلية
الْمَاضِيَة، إِذا وَقعت حَالا فَلَا بُد مِنْهَا من كلمة:
قد إِمَّا ظَاهِرَة وَإِمَّا مقدرَة، كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى: {أوجاؤكم حصرت صُدُورهمْ} (النِّسَاء: 90) .
أَي: قد حصرت، وَلَكِن تكون حَالا منتظرة مقدرَة،
وَالتَّقْدِير: وأحدنا يذهب إِلَى أقْصَى الْمَدِينَة حَال
كَونه مُقَدرا الرُّجُوع إِلَيْهَا وَالْحَال أَن الشَّمْس
حَيَّة. وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن تكون: الْوَاو، فِي
قَوْله: وأحدنا، بِمَعْنى ثمَّ. وَفِيه تَقْدِيم
وَتَأْخِير، وَالتَّقْدِير: ثمَّ يذهب أَحَدنَا، أَي
مِمَّن صلى مَعَه، وَأما قَوْله: رَاجع، فَيحْتَمل أَن
يكون بِمَعْنى: يرجع، وَيكون بَيَانا لقَوْله: يذهب. قلت:
هَذَا فِيهِ ارْتِكَاب الْمَحْذُور من وُجُوه. الأول:
كَون: الْوَاو، بِمَعْنى: ثمَّ، وَلم يقل بِهِ أحد.
وَالثَّانِي: إِثْبَات التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير من غير
احْتِيَاج إِلَيْهِ. وَالثَّالِث: قَوْله: يرجع، بَيَان
لقَوْله: يذهب، فَلَا يَصح ذَلِك لِأَن معنى: يرجع، لَيْسَ
فِيهِ غموض حَتَّى يُبينهُ بقوله: يذهب، ومحذور آخر وَهُوَ
أَن يكون الْمَعْنى: واحدنا يرجع إِلَى أقْصَى
الْمَدِينَة، وَهُوَ مخل بِالْمَقْصُودِ. وَزعم
الْكرْمَانِي أَن فِيهِ وَجها آخر، وَفِيه تعسف جدا،
وَهُوَ أَن: رَجَعَ، بِمَعْنى: يرجع، عطف على: يذهب، و:
الْوَاو، مقدرَة وَفِيه مَحْذُور آخر أقوى من الأول،
وَهُوَ أَن المُرَاد بِالرُّجُوعِ هُوَ: الرُّجُوع إِلَى
أقْصَى الْمَدِينَة لَا الرُّجُوع إِلَى الْمَسْجِد، فعلى
هَذَا التَّقْدِير يكون الرُّجُوع إِلَى الْمَسْجِد،
وَالدَّلِيل على أَن المُرَاد هُوَ الذّهاب إِلَى أقْصَى
الْمَدِينَة وَالرُّجُوع إِلَيْهَا رِوَايَة عَوْف
الْأَعرَابِي عَن سيار بن سَلامَة الْآتِيَة عَن قريب،
ثمَّ يرجع أَحَدنَا إِلَى رحْلَة فِي أقْصَى الْمَدِينَة
وَالشَّمْس حَيَّة. وَاقْتصر هَهُنَا على ذكر الرُّجُوع
لحُصُول الِاكْتِفَاء بِهِ لِأَن المُرَاد بِالرُّجُوعِ
الذّهاب إِلَى الْمنزل، وَإِنَّمَا سمي رُجُوعا لِأَن
ابْتِدَاء الْمَجِيء كَانَ من الْمنزل إِلَى الْمَسْجِد،
فَكَانَ الذّهاب مِنْهُ إِلَى الْمنزل رُجُوعا. قَوْله:
(وَالشَّمْس حَيَّة) وحياة الشَّمْس عبارَة عَن بَقَاء
حرهَا لم يُغير، وَبَقَاء لَوْنهَا لم يتَغَيَّر،
وَإِنَّمَا يدخلهَا التَّغَيُّر بدنو المغيب، كَأَنَّهُ
جعل مغيبها موتا لَهَا. قَوْله: (ونسيت) أَي: قَالَ أَبُو
الْمنْهَال: (نسيت مَا قَالَه أَبُو بَرزَة فِي (الْمغرب)
. قَوْله: (وَلَا يُبَالِي) عطف على قَوْله: (يُصَلِّي)
أَي: وَلَا يُبَالِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَهُوَ من المبالاة وَهُوَ الاكتراث بالشَّيْء. قَوْله:
(إِلَى شطر اللَّيْل) أَي: نصفه، وَلَا يُقَال: إِن
الَّذِي يفهم مِنْهُ أَن وَقت الْعشَاء لَا يتَجَاوَز
النّصْف، لِأَن الْأَحَادِيث الاخر تدل على بَقَاء وَقتهَا
إِلَى الصُّبْح، وَإِنَّمَا المُرَاد بِالنِّصْفِ هَهُنَا
هُوَ الْوَقْت الْمُخْتَار، وَقد اخْتلف فِيهِ، وَالأَصَح
الثُّلُث. قَوْله: (قبلهَا) ، أَي: قبل الْعشَاء. قَوْله:
(قَالَ معَاذ) هُوَ: معَاذ بن معَاذ بن نصر بن حسان
الْعَنْبَري التَّمِيمِي، قَاضِي الْبَصْرَة، سمع من
شُعْبَة وَغَيره، مَاتَ سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة.
قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا تَعْلِيق قطعا، لِأَن
البُخَارِيّ لم يُدْرِكهُ. قلت: هُوَ مُسْند فِي (صَحِيح
مُسلم) ، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن معَاذ عَن أَبِيه عَن
شُعْبَة ... فَذكره. قَوْله: (ثمَّ لَقيته) ، أَي: أَبَا
الْمنْهَال مرّة أُخْرَى بعد ذَلِك. قَوْله: (فَقَالَ: أَو
ثلث اللَّيْل) . تردد بَين الشّطْر وَالثلث.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الْحجَّة للحنفية لِأَن
قَوْله: (وأحدنا يعرف جليسه) ، يدل على الْأَسْفَار،
وَلَفظ النَّسَائِيّ والطَّحَاوِي فِيهِ: (كَانَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينْصَرف من الصُّبْح فَينْظر
الرجل إِلَى الجليس الَّذِي يعرفهُ فيعرفه) . وَلَكِن
قَوْله: (وَيقْرَأ فِيهَا مَا بَين السِّتين إِلَى
الْمِائَة) يدل على أَنه كَانَ يشرع فِي الْغَلَس ويمدها
بِالْقِرَاءَةِ إِلَى وَقت الْإِسْفَار، وَإِلَيْهِ ذهب
(5/28)
الطَّحَاوِيّ. وَفِيه: أَن وَقت الظّهْر من
زَوَال الشَّمْس عَن كبد السَّمَاء. وَفِيه: أَن الْوَقْت
الْمُسْتَحبّ للعصر أَن يُصَلِّي مَا دَامَت الشَّمْس
حَيَّة، وَهَذَا يدل على أَن الْمُسْتَحبّ تَعْجِيلهَا،
كَمَا ذهب إِلَيْهِ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَفِي
رِوَايَة أبي دَاوُد: (كَانَ يُصَلِّي الْعَصْر وَالشَّمْس
بَيْضَاء مُرْتَفعَة حَيَّة، وَيذْهب الذَّاهِب إِلَى
العوالي وَالشَّمْس مُرْتَفعَة) . والعوالي أَمَاكِن
بِأَعْلَى أَرَاضِي الْمَدِينَة. قَالَ ابْن الْأَثِير:
وَأَدْنَاهَا من الْمَدِينَة على أَرْبَعَة أَمْيَال،
وأبعدها من جِهَة نجد ثَمَانِيَة، وَلَكِن فِي رِوَايَة
الزُّهْرِيّ: (أدناها من الْمَدِينَة على ميلين) ، كَمَا
ذكره أَبُو دَاوُد. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَأَرَادَ
بِهَذَا الحَدِيث الْمُبَادرَة بِصَلَاة الْعَصْر فِي أول
وَقتهَا، لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يذهب بعد صَلَاة
الْعَصْر ميلين وَثَلَاثَة، وَالشَّمْس بعد لم تَتَغَيَّر،
ثمَّ قَالَ: وَفِيه دَلِيل لمَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد
وَالْجُمْهُور: أَن وَقت الْعَصْر يدْخل إِذا صَار ظلّ كل
شَيْء مثله. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يدْخل حَتَّى يصير
ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، وَهَذَا حجَّة (للْجَمَاعَة
عَلَيْهِ. قُلْنَا: الْجَواب من جِهَة أبي حنيفَة أَنه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بإبراد الظّهْر بقوله: أبردوا
بِالظّهْرِ، يَعْنِي: صلوها إِذا سكنت شدَّة الْحر،
واشتداد الْحر فِي دِيَارهمْ يكون فِي وَقت صيرورة ظلّ كل
شَيْء مثله، وَلَا يفتر الْحر إلاَّ بعد المثلين، فَإِذا
تَعَارَضَت الْآثَار يبْقى مَا كَانَ على مَا كَانَ، وَوقت
الظّهْر ثَابت بِيَقِين فَلَا يَزُول بِالشَّكِّ، وَوقت
الْعَصْر مَا كَانَ ثَابتا فَلَا يدْخل بِالشَّكِّ.
وَفِيه: أَن الْوَقْت الْمُسْتَحبّ للعشاء تَأْخِيره إِلَى
ثلث اللَّيْل أَو إِلَى شطره وَهُوَ حجَّة على من فضل
التَّقْدِيم. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: تَأْخِير الْعشَاء
إِلَى ثلث اللَّيْل مُسْتَحبّ، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد
وَأكْثر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ قَالَه
التِّرْمِذِيّ. وَإِلَى النّصْف مُبَاح، وَمَا بعده
مَكْرُوه. وَحكى ابْن الْمُنْذر: أَن الْمَنْقُول عَن ابْن
مَسْعُود وَابْن عَبَّاس إِلَى مَا قبل ثلث اللَّيْل،
وَهُوَ مَذْهَب إِسْحَاق وَاللَّيْث أَيْضا، وَبِه قَالَ
الشَّافِعِي فِي كتبه الجديدة، وَفِي الْإِمْلَاء،
وَالْقَدِيم تَقْدِيمهَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَهُوَ
الْأَصَح. وَفِيه: كَرَاهَة النّوم قبل الْعشَاء لِأَنَّهُ
تعرض لفواتها باستغراق النّوم. وَفِيه: كَرَاهِيَة
الحَدِيث بعْدهَا، وَذَلِكَ لِأَن السهر فِي اللَّيْل
سَبَب للكسل فِي النّوم عَمَّا يتَوَجَّه من حُقُوق النّوم
والطاعات ومصالح الدّين. قَالُوا: الْمَكْرُوه مِنْهُ مَا
كَانَ فِي الْأُمُور الَّتِي لَا مصلحَة فِيهَا، أما مَا
فِيهِ مصلحَة وَخير فَلَا كَرَاهَة فِيهِ، وَذَلِكَ
كمدارسة الْعلم، وحكايات الصَّالِحين، ومحادثة الضَّيْف
والعروس للتأنيس، ومحادثة الرجل أَهله وَأَوْلَاده
للملاطفة وَالْحَاجة، ومحادثة الْمُسَافِرين لحفظ
مَتَاعهمْ أَو أنفسهم، والْحَدِيث فِي الْإِصْلَاح بَين
النَّاس والشفاعة إِلَيْهِم فِي خير، وَالْأَمر
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر والإرشاد إِلَى
مصلحَة وَنَحْو ذَلِك، وكل ذَلِك لَا كَرَاهَة فِيهِ.
542 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابنَ مُقَاتِلٍ قَالَ
أخبرنَا عبْدُ الله قَالَ أخبرنَا خالِدُ بنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ قَالَ حدَّثني غالِبٌ القَطانُ عنْ بَكْرِ بنِ
عَبْدِ اللهِ المُزَنِي عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ قَالَ
كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِالظَّهَائِرِ فَسَجَدْنَا عَلَى
ثِيَابِنَا إتِّقَاءَ الحَرِّ. (انْظُر الحَدِيث 385
وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن صلَاتهم خلف النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالظهائر، تدل على أَنهم كَانُوا
يصلونَ الظّهْر فِي أول وقته، وَهُوَ وَقت اشتداد الْحر
عِنْد زَوَال الشَّمْس، كَمَا مر فِي أول الْبَاب عَن
جَابر، قَالَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يُصَلِّي بالهاجرة) . وَلَا يُعَارض هَذَا حَدِيث الْأَمر
بالإبراد، لِأَن هَذَا الْبَيَان الْجَوَاز، وَحَدِيث
الْأَمر بالإبراد لبَيَان الْفضل.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن مقَاتل،
بِضَم الْمِيم: أَبُو الْحسن الْمروزِي. الثَّانِي: عبد
الله بن الْمُبَارك الْحَنْظَلِي الْمروزِي. الثَّالِث:
خَالِد بن عبد الرَّحْمَن ابْن بكير السّلمِيّ
الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: غَالب، بالغين الْمُعْجَمَة: ابْن
خطَّاف الْمَشْهُور بِابْن أبي غيلَان، بِفَتْح الْغَيْن
الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: الْقطَّان،
تقدم فِي بَاب السُّجُود على الثَّوْب. الْخَامِس: بكر بن
عبد الله الْمُزنِيّ، تقدم فِي بَاب عرق الْجنب.
السَّادِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْإِفْرَاد بِصِيغَة الْمَاضِي فِي
مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: مُحَمَّد
بن مقَاتل من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَوَقع للأصيلي
وَغَيره: حَدثنَا مُحَمَّد من غير نِسْبَة، وَفِي رِوَايَة
أبي ذَر: حَدثنَا مُحَمَّد بن مقَاتل، بنسبته إِلَى
أَبِيه. وَفِيه: وَقع خَالِد بن عبد الرَّحْمَن على هَذِه
الصُّورَة وَهُوَ السّلمِيّ وَاسم جده بكير، كَمَا
ذَكرْنَاهُ. وَفِي طبقته: خَالِد بن عبد الرَّحْمَن
الْخُرَاسَانِي نزيل دمشق، وخَالِد
(5/29)
ابْن عبد الرَّحْمَن الْكُوفِي الْعَبْدي،
وَلم يخرج لَهما البُخَارِيّ شَيْئا، وَأما خَالِد
السّلمِيّ الْمَذْكُور هُنَا فَلَيْسَ لَهُ ذكر فِي هَذَا
الْكتاب إِلَّا فِي هَذَا الْموضع، وَهُوَ من أَفْرَاد
البُخَارِيّ. وَفِيه: أَن راوييه مروزيان والبقية بصريون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن أبي الْوَلِيد هِشَام بن عبد
الْملك ومسدد، فرقهما، كِلَاهُمَا عَن بشر بن الْمفضل.
وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد ابْن مُحَمَّد عَن ابْن
الْمُبَارك وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن نصر
عَن ابْن الْمُبَارك. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن
إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم عَن بشر بن الْمفضل.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بالظهائر) جمع: ظهيرة، وَهِي
الهاجرة. وَأَرَادَ بهَا: الظّهْر، وَجَمعهَا نظرا إِلَى
ظهر الْأَيَّام. قَوْله: (سجدنا على ثيابنا) ، كَذَا فِي
رِوَايَة أبي ذَر، والأكثرين، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة:
(فسجدنا) ، بِالْفَاءِ العاطفة على مُقَدّر نَحْو: فرشنا
الثِّيَاب فسجدنا عَلَيْهَا. قَوْله: (اتقاء الْحر) أَي:
لأجل اتقاء الْحر، وانتصابه على التَّعْلِيل، والاتقاء:
مصدر من: اتَّقى، يَتَّقِي، وَأَصله: اوتقى، لِأَنَّهُ من:
وقى. فَنقل إِلَى بَاب الافتعال، ثمَّ قلبت: الْوَاو تَاء
وأدغمت التَّاء فِي التَّاء، فَصَارَ: اتَّقى، وأصل
الاتقاء: الاوتقاء، فَفعل بِهِ مَا فعل بِفِعْلِهِ.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: والاتقاء مُشْتَقّ من الْوِقَايَة،
أَي: وقاية لأنفسنا من الْحر، أَي: احْتِرَازًا مِنْهُ.
قلت: الْمصدر يشتق مِنْهُ الْأَفْعَال وَلَا يُقَال لَهُ:
مُشْتَقّ، لِأَنَّهُ مَوضِع صُدُور الْفِعْل، كَمَا تقرر
فِي مَوْضِعه. وَقد ذكرنَا مَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ
الَّتِي فِيهِ فِي بَاب السُّجُود على الثَّوْب فِي شدَّة
الْحر.
12 - (بابُ تَأْخِيرِ الظُّهْرِ إلَى العَصَرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَأْخِير صَلَاة الظّهْر إِلَى
أول وَقت الْعَصْر، وَالْمرَاد أَنه لما فرغ من صَلَاة
الظّهْر دخل وَقت صَلَاة الْعَصْر وَلَيْسَ المُرَاد أَنه
جمع بَينهمَا فِي وَقت وَاحِد.
543 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادٌ
هُوَ ابنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عنْ جَابِرِ
بنِ زَيْدٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم صلى بِالمَدِينَةِ سَبْعا وَثَمَانِيا
الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ والمَغْرِبَ والعِشَاءَ فَقَالَ
أيُّوبُ لعَلَّهُ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ قَالَ عَسَى.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (سبعا وثمانيا) ، لِأَن
المُرَاد من قَوْله: (سبعا) الْمغرب وَالْعشَاء، وَمن
قَوْله: (ثمانيا) الظّهْر وَالْعصر، على مَا نذكرهُ، إِن
شَاءَ الله تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنه أخر الْمغرب إِلَى آخر
وقته، فحين فرغ مِنْهُ دخل وَقت الْعشَاء، وَكَذَلِكَ أخر
الظّهْر إِلَى آخر وقته، فَلَمَّا صلاهَا خرج وقته وَدخل
وَقت الْعَصْر صلى الْعَصْر، فَهَذَا الْجمع الَّذِي
قَالَه أَصْحَابنَا: إِنَّه جمع فعلا لَا وقتا. وَقيل:
أَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى إِثْبَات القَوْل باشتراك
الْوَقْتَيْنِ. قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن من تَأْخِير
الظّهْر إِلَى الْعَصْر لَا يفهم ذَلِك وَلَا يستلزمه.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو النُّعْمَان
مُحَمَّد بن الْفضل. الثَّانِي: حَمَّاد بن زيد.
الثَّالِث: عَمْرو بن دِينَار. الرَّابِع: جَابر بن زيد
أَبُو الشعْثَاء، تقدم فِي بَاب الْغسْل بالصاع.
الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
أَن رُوَاته بصريون مَا خلا عَمْرو بن دِينَار، فَإِنَّهُ
مكي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه أَيْضا فِي
صَلَاة اللَّيْل عَن عَليّ بن عبد الله. وَأخرجه مُسلم
فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن
أبي الرّبيع الزهْرَانِي عَن حَمَّاد. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِيهِ عَن سُلَيْمَان ابْن حَرْب ومسدد وَعَمْرو بن
عون، ثَلَاثَتهمْ عَن حَمَّاد بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن حَمَّاد
بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد عَن
ابْن جريج عَن عَمْرو بن دِينَار نَحوه، وَعَن أبي عَاصِم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سبعا) أَي: سبع رَكْعَات،
ثَلَاثًا للمغرب وأربعا للعشاء، وثمان رَكْعَات لِلظهْرِ
وَالْعصر، وَفِي الْكَلَام لف وَنشر. قَوْله: (الظّهْر)
وَمَا عطف عَلَيْهِ، منصوبات إِمَّا بدل أَو عطف بَيَان
أَو على الِاخْتِصَاص أَو على نزع الخافص: أَي: لِلظهْرِ
وَالْعصر. قَوْله: (أَيُّوب) هُوَ: أَيُّوب
السّخْتِيَانِيّ، وَالْمقول لَهُ هُوَ جَابر بن زيد.
قَوْله: (لَعَلَّه) أَي: لَعَلَّ هَذَا التَّأْخِير كَانَ
فِي لَيْلَة
(5/30)
مطيرة، بِفَتْح الْمِيم وَكسر الطَّاء،
أَي: كَثِيرَة الْمَطَر. قَوْله: (قَالَ: عَسى) أَي: قَالَ
جَابر بن زيد: عَسى ذَلِك كَانَ فِي اللَّيْلَة
الْمَطِيرَة، فاسم عَسى وَخَبره محذوفان.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: تَكَلَّمت الْعلمَاء فِي هَذَا
الحَدِيث، فأوله بَعضهم على أَنه جمع بِعُذْر الْمَطَر،
وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا
القعْنبِي عَن مَالك عَن أبي الزبير الْمَكِّيّ عَن سعيد
بن جُبَير عَن عبد الله بن عَبَّاس، قَالَ: (صلى رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظّهْر وَالْعصر جَمِيعًا
وَالْمغْرب وَالْعشَاء جَمِيعًا فِي غير خوف وَلَا سفر.
قَالَ مَالك: أرى ذَلِك كَانَ فِي مطر) . وَأخرجه مُسلم
وَالنَّسَائِيّ، وَلَيْسَ فِيهِ كَلَام مَالك، رَحمَه
الله. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَقد اخْتلف النَّاس فِي جَوَاز
الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ للمطر فِي الْحَضَر
فَأَجَازَهُ جمَاعَة من السّلف، رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن
عمر، وَفعله عُرْوَة بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم، وَابْن الْمسيب وَعمر ابْن عبد الْعَزِيز وَأَبُو
بكر بن عبد الرَّحْمَن وَأَبُو سَلمَة وَعَامة فُقَهَاء
الْمَدِينَة، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن
حَنْبَل، غير أَن الشَّافِعِي اشْترط فِي ذَلِك أَن يكون
الْمَطَر قَائِما فِي وَقت افْتِتَاح الصَّلَاتَيْنِ
مَعًا، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو ثَوْر وَلم يشْتَرط ذَلِك
غَيرهمَا. وَكَانَ مَالك يرى أَن يجمع الممطور فِي الطين
وَفِي حَالَة الظلمَة، وَهُوَ قَول عمر بن عبد الْعَزِيز.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي: يُصَلِّي
الممطور كل صَلَاة فِي وَقتهَا. قلت: هَذَا التَّأْوِيل
ترده الرِّوَايَة الْأُخْرَى (من غير خوف وَلَا مطر) وأوله
بَعضهم على أَنه كَانَ فِي غيم فصلى الظّهْر، ثمَّ
انْكَشَفَ وَبَان أَن أول وَقت الْعَصْر دخل فَصلاهَا،
وَهَذَا بَاطِل لِأَنَّهُ وَإِن كَانَ فِيهِ أدنى
احْتِمَال فِي الظّهْر وَالْعصر فَلَا احْتِمَال فِيهِ فِي
الْمغرب وَالْعشَاء، وأوله آخَرُونَ على أَنه كَانَ
بِعُذْر الْمَرَض أَو نَحوه مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ من
الْأَعْذَار. وَقَالَ النَّوَوِيّ وَهُوَ قَول أَحْمد
وَالْقَاضِي حُسَيْن من أَصْحَابنَا، وَاخْتَارَهُ
الْخطابِيّ وَالْمُتوَلِّيّ وَالرُّويَانِيّ من
أَصْحَابنَا، وَهُوَ الْمُخْتَار لتأويله لظَاهِر
الحَدِيث، وَلِأَن الْمَشَقَّة فِيهِ أشق من الْمَطَر.
قلت: هَذَا أَيْضا ضَعِيف لِأَنَّهُ مُخَالف لظَاهِر
الحَدِيث، وتقييده بِعُذْر الْمَطَر تَرْجِيح بِلَا
مُرَجّح وَتَخْصِيص بِلَا مُخَصص، وَهُوَ بَاطِل، وَأحسن
التأويلات فِي هَذَا وأقربها إِلَى الْقبُول أَنه على
تَأْخِير الأولى إِلَى آخر وَقتهَا فَصلاهَا فِيهِ،
فَلَمَّا فرغ عَنْهَا دخلت الثَّانِيَة فَصلاهَا،
وَيُؤَيّد هَذَا التَّأْوِيل وَيبْطل غَيره مَا رَوَاهُ
البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود،
قَالَ: (مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
صلى صَلَاة لغير وَقتهَا إلاَّ بِجمع، فَإِنَّهُ جمع بَين
الْمغرب وَالْعشَاء بِجمع، وَصلى صَلَاة الصُّبْح من
الْغَد قبل وَقتهَا) . وَهَذَا الحَدِيث يبطل الْعَمَل
بِكُل حَدِيث فِيهِ جَوَاز الْجمع بَين الظّهْر وَالْعصر
وَالْمغْرب وَالْعشَاء، سَوَاء كَانَ فِي حضر أَو سفر أَو
غَيرهمَا. فَإِن قلت: فِي حَدِيث ابْن عمر: (إِذا جد بِهِ
السّير جمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء بعد أَن يغيب الشَّفق)
، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره، وَهَذَا صَرِيح فِي
الْجمع فِي وَقت إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: وَفِيه إبِْطَال تَأْوِيل الْحَنَفِيَّة فِي
قَوْلهم إِن المُرَاد بِالْجمعِ تَأْخِير الأولى إِلَى آخر
وَقتهَا، وَتَقْدِيم الثَّانِيَة إِلَى أول وَقتهَا،
وَمثله فِي حَدِيث أنس: إِذا ارتحل قبل أَن تزِيغ الشَّمْس
أخر الظّهْر إِلَى وَقت الْعَصْر، ثمَّ نزل فَجمع
بَينهمَا، وَهُوَ صَرِيح فِي الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ
فِي وَقت الثَّانِيَة، وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى أوضح
دلَالَة وَهِي قَوْله: إِذا أَرَادَ أَن يجمع بَين
الصَّلَاتَيْنِ فِي السّفر أخر الظّهْر حَتَّى يدْخل أول
وَقت الْعَصْر، ثمَّ يجمع بَينهمَا. وَفِي الرِّوَايَة
الْأُخْرَى: (وَيُؤَخر الْمغرب حَتَّى يجمع بَينهَا وَبَين
الْعشَاء حَتَّى يغيب الشَّفق) . قلت: الْجَواب عَن الأول:
أَن الشَّفق نَوْعَانِ: أَحْمَر وأبيض، كَمَا اخْتلف
الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَغَيرهم فِيهِ، وَيحْتَمل أَنه
جمع بَينهمَا بعد غياب الْأَحْمَر فَتكون الْمغرب فِي
وَقتهَا على قَول من يَقُول الشَّفق هُوَ الْأَبْيَض،
وَكَذَلِكَ الْعشَاء تكون فِي وَقتهَا على قَول من يَقُول
الشَّفق هُوَ الْأَحْمَر، وَيُطلق عَلَيْهِ أَنه جمع
بَينهمَا بعد غياب الشَّفق، وَالْحَال أَنه صلى كل
وَاحِدَة مِنْهُمَا فِي وَقتهَا على اخْتِلَاف
الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْسِير الشَّفق، وَهَذَا مِمَّا فتح
لي من الْفَيْض الإلهي.
وَفِيه: إبِْطَال لقَوْل من ادّعى بطلَان تَأْوِيل
الْحَنَفِيَّة فِي الحَدِيث الْمَذْكُور. وَالْجَوَاب عَن
الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: أخر الظّهْر إِلَى وَقت
الْعَصْر أَخّرهُ إِلَى وقته الَّذِي يتَّصل بِهِ وَقت
الْعَصْر فصلى الظّهْر فِي آخر وقته، ثمَّ صلى الْعَصْر
مُتَّصِلا بِهِ فِي أول وَقت الْعَصْر، فيطلق عَلَيْهِ
أَنه جمع بَينهمَا، لكنه فعلا لَا وقتا. وَالْجَوَاب عَن
الثَّالِث: أَن أول وَقت الْعَصْر مُخْتَلف فِيهِ كَمَا
عرف، وَهُوَ إِمَّا بصيرورة ظلّ كل شَيْء مثله أَو
مثلَيْهِ، فَيحْتَمل أَنه أخر الظّهْر إِلَى أَن صَار ظلّ
كل شَيْء مثله ثمَّ صلاهَا وَصلى عقيبها الْعَصْر، فَيكون
قد صلى الظّهْر فِي وَقتهَا على قَول من يرى أَن آخر وَقت
الظّهْر بصيرورة ظلّ كل شَيْء مثله، وَيكون قد صلى
الْعَصْر فِي وَقتهَا على قَول من يرى أَن أول
(5/31)
وَقتهَا بصيرورة ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ،
وَيصدق على من فعل هَذَا أَنه جمع بَينهمَا فِي أول وَقت
الْعَصْر، وَالْحَال أَنه قد صلى كل وَاحِدَة مِنْهُمَا
فِي وَقتهَا على اخْتِلَاف الْقَوْلَيْنِ فِي أول وَقت
الْعَصْر، وَمثل هَذَا لَو فعل الْمُقِيم يجوز فضلا عَن
الْمُسَافِر الَّذِي يحْتَاج إِلَى التَّخْفِيف. فَإِن
قلت: قد ذكر الْبَيْهَقِيّ فِي بَاب الْجمع بَين
الصَّلَاتَيْنِ فِي السّفر: عَن حَمَّاد بن زيد عَن
أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر: (أَنه سَار حَتَّى غَابَ
الشَّفق فَنزل فَجمع بَينهمَا) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَغَيره، وَفِيه: أخر الْمغرب (بعد ذهَاب الشَّفق حَتَّى
ذهب هُوَ أَي: سَاعَة من اللَّيْل، ثمَّ نزل فصلى الْمغرب
وَالْعشَاء) قلت: لم يذكر سَنَده حَتَّى ينظر فِيهِ، وروى
النَّسَائِيّ خلاف هَذَا وَفِيه: (كَانَ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِذا جد بِهِ أَمر أَو جد بِهِ السّير جمع بَين
الْمغرب وَالْعشَاء) . فَإِن قلت: قد قَالَ الْبَيْهَقِيّ:
وَرَوَاهُ يزِيد بن هَارُون عَن يحيى بن سعيد
الْأنْصَارِيّ عَن نَافِع، فَذكر أَنه سَار قَرِيبا من ربع
اللَّيْل، ثمَّ نزل فصلى قلت: أسْندهُ فِي (الخلافيات) من
حَدِيث يزِيد بن هَارُون بِسَنَدِهِ الْمَذْكُور وَلَفظه:
(فسرنا أميالاً ثمَّ نزل فصلى) . قَالَ يحيى: فَحَدثني
نَافِع هَذَا الحَدِيث مرّة أُخْرَى فَقَالَ: (سرنا حَتَّى
إِذا كَانَ قَرِيبا من ربع اللَّيْل نزل فصلى) . فلفظه
مُضْطَرب كَمَا ترى، قد رُوِيَ على وَجْهَيْن فاقتصر
الْبَيْهَقِيّ فِي (السّنَن) على مَا يُوَافق مَقْصُوده،
وَاسْتدلَّ جمَاعَة من الْأَئِمَّة إِلَى الْأَخْذ
بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث على جَوَاز الْجمع فِي الْحَضَر
للْحَاجة، لَكِن بِشَرْط أَن لَا يتَّخذ عَادَة، وَمِمَّنْ
قَالَ بِهِ: ابْن سِيرِين وَرَبِيعَة وَأَشْهَب وَابْن
الْمُنْذر والقفال الْكَبِير، وَحَكَاهُ الْخطابِيّ عَن
جمَاعَة من أَصْحَاب الحَدِيث، وَاسْتدلَّ لَهُم بِمَا
وَقع عِنْد مُسلم فِي هَذَا الحَدِيث من طَرِيق سعيد بن
جُبَير، قَالَ: (فَقلت لِابْنِ عباسِ: لِمَ فعل ذَلِك؟
قَالَ: أَرَادَ أَن لَا يُحرج أحد من أمته) . وللنسائي من
طَرِيق عَمْرو بن هرم: عَن أبي الشعْثَاء أَن ابْن عَبَّاس
صلى بِالْبَصْرَةِ الأولى وَالْعصر لَيْسَ بَينهمَا شَيْء،
وَالْمغْرب وَالْعشَاء لَيْسَ بَينهمَا شَيْء، فعل ذَلِك
من شغل. وروى مُسلم من طَرِيق عبد الله بن شَقِيق أَن شغل
ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور كَانَ بِالْخطْبَةِ، وَأَنه خطب
بعد صَلَاة الْعَصْر إِلَى أَن بَدَت النُّجُوم، ثمَّ جمع
بَين الْمغرب وَالْعشَاء، وَالَّذِي ذكره ابْن عَبَّاس من
التَّعْلِيل بِنَفْي الْحَرج جَاءَ مثله عَن ابْن مَسْعُود
مَرْفُوعا، أخرجه الطَّبَرَانِيّ، وَلَفظه: (جمع رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين الظّهْر وَالْعصر
وَبَين الْمغرب وَالْعشَاء، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك،
فَقَالَ: صنعت هَذَا لِئَلَّا تُحرج أمتِي) . قلت: قَالَ
الْخطابِيّ فِي هَذَا الحَدِيث: رَوَاهُ مُسلم عَن ابْن
عَبَّاس، هَذَا حَدِيث لَا يَقُول بِهِ أَكثر الْفُقَهَاء.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: لَيْسَ فِي كتابي حَدِيث أَجمعت
الْعلمَاء على ترك الْعَمَل بِهِ إلاَّ حَدِيث ابْن
عَبَّاس فِي الْجمع بِالْمَدِينَةِ من غير خوف وَلَا مطر،
وَحَدِيث قتل شَارِب الْخمر فِي الْمرة الرَّابِعَة. وَأما
الَّذِي أخرجه الطَّبَرَانِيّ فَيردهُ مَا رَوَاهُ
البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث ابْن مَسْعُود: (مَا
رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى صَلَاة
لغير وَقتهَا) الحَدِيث، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
13 - (بابُ وَقْتِ العَصْرِ. وقَالَ أبُو أُسامَةَ عنْ
هِشَامٍ منْ قَعْرِ حُجْرَتِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وَقت صَلَاة الْعَصْر.
والمناسبة بَين هَذِه الْأَبْوَاب ظَاهِرَة، خُصُوصا بَين
هَذَا الْبَاب وَالَّذِي قبله.
544 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا
أنَسُ بنُ عَيَّاضٍ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ أنَّ عائِشَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كانَ رسُولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي العَصْرَ والشَّمْسُ لَمْ
تَخْرُجْ مِنْ حُجْرَتِهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي
بَاب مَوَاقِيت الصَّلَاة فِي آخر حَدِيث الْمُغيرَة بن
شُعْبَة مُعَلّقا حَيْثُ قَالَ: قَالَ عُرْوَة: (وَلَقَد
حَدَّثتنِي عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي
الْعَصْر وَالشَّمْس فِي حُجْرَتهَا قبل أَن تظهر) ، وَقد
ذكرنَا هُنَاكَ معنى الحَدِيث، وَهِشَام فِيهِ هُوَ:
هِشَام بن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير بن
الْعَوام عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ. قَوْله:
(وَالشَّمْس) الْوَاو: فِيهِ للْحَال. قَوْله: (من
حُجْرَتهَا) أَي: من حجرَة عَائِشَة، وَكَانَ الْقيَاس أَن
يُقَال: من حُجْرَتي، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ نوع
الْتِفَات. قلت: لَيْسَ الْتِفَات هُنَا، وَلَا يصدق
عَلَيْهِ حد الِالْتِفَات، وَإِنَّمَا هُوَ من بَاب
التَّجْرِيد، فَكَأَنَّهَا جردت وَاحِدَة من النِّسَاء
وأثبتت لَهَا حجرَة وأخبرت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَانَ يُصَلِّي الْعَصْر وَالشَّمْس لم تخرج من
حُجْرَتهَا، وَفِيه: الْمجَاز أَيْضا، لِأَن المُرَاد من
الشَّمْس ضوؤها، لِأَن عين الشَّمْس لَا تدخل حَتَّى تخرج.
.
(5/32)
545 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قالَ
حدَّثنااللَّيْثُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ
عَائِشَةَ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
صَلَّى العَصْرَ والشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا لَمْ يَظْهَرِ
الْفَيْءُ منْ حُجْرَتِهَا. .
قُتَيْبَة هُوَ ابْن سعيد، وَاللَّيْث بن سعد، وأبن شهَاب
مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعُرْوَة بن الزبير، كلهم
قد ذكرُوا غير مرّة.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والعنعنة
فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَرُوَاته مَا بَين بلخي وبصري
ومدني.
قَوْله: (وَالشَّمْس فِي حُجْرَتهَا) أَي: بَاقِيَة، و:
الْوَاو، فِيهِ للْحَال. قَوْله: (لم يظْهر الْفَيْء) أَي:
الظل، فِي الْموضع الَّذِي كَانَت الشَّمْس فِيهِ، وَقد مر
فِي بَاب الْمَوَاقِيت وَالشَّمْس فِي حُجْرَتهَا قبل أَن
تظهر، وَمعنى الظُّهُور هُنَا الصعُود. يُقَال: ظَهرت على
الشَّيْء إِذا علوته، وحجرة عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، كَانَت ضيقَة الرقعة، وَالشَّمْس تقلص عَنْهَا
سَرِيعا، وَمَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يُصَلِّي الْعَصْر قبل أَن تصعد الشَّمْس عَنْهَا. فَإِن
قلت: مَا المُرَاد بِظُهُور الشَّمْس وبظهور الْفَيْء؟
قلت: المُرَاد بِظُهُور الشَّمْس: خُرُوجهَا من
الْحُجْرَة، وبظهور الْفَيْء: انبساطه فِي الْحُجْرَة،
وَلَيْسَ بَين الرِّوَايَتَيْنِ اخْتِلَاف، لِأَن انبساط
الْفَيْء لَا يكون، إلاَّ بعد خُرُوج الشَّمْس، وَاسْتدلَّ
بِهِ الشَّافِعِي وَمن تبعه على تَعْجِيل صَلَاة الْعَصْر
فِي أول وَقتهَا. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لَا دلَالَة فِيهِ
على التَّعْجِيل لاحْتِمَال أَن الْحُجْرَة كَانَت
قَصِيرَة الْجِدَار، فَلم تكن الشَّمْس تحتجب عَنْهَا
إلاَّ بِقرب غُرُوبهَا، فَيدل على التَّأْخِير لَا على
التَّعْجِيل. وَقَالَ بَعضهم: وَتعقب بِأَن الَّذِي ذكره
من الِاحْتِمَال إِنَّمَا يتَصَوَّر مَعَ اتساع
الْحُجْرَة، وَقد عرف بالاستفاضة والمشاهدة أَن حجر
أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم تكن متسعة،
وَلَا يكون ضوء الشَّمْس بَاقِيا فِي قَعْر الْحُجْرَة
الصَّغِيرَة إلاَّ وَالشَّمْس قَائِمَة مُرْتَفعَة، وإلاَّ
مَتى مَالَتْ جدا ارْتَفع ضوؤها عَن قاع الْحُجْرَة، وَلَو
كَانَت الْجدر قَصِيرَة. قلت: لَا وَجه للتعقب فِيهِ لِأَن
الشَّمْس لَا تحتجب عَن الْحُجْرَة القصيرة الْجِدَار
إلاَّ بِقرب غُرُوبهَا، وَهَذَا يعلم بِالْمُشَاهَدَةِ،
فَلَا يحْتَاج إِلَى المكابرة، وَلَا دخل هُنَا لاتساع
الْحُجْرَة وَلَا لضيقها، وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي قصر
جدرها، وبالنظر على هَذَا فَالْحَدِيث حجَّة على من يرى
تَعْجِيل الْعَصْر فِي أول وَقتهَا. فَإِن قلت: عقد
البُخَارِيّ بَابا لوقت الْعَصْر وَذكر فِيهِ أَحَادِيث
لَا يدل وَاحِد مِنْهَا على أَن أول وقته بِمَاذَا يكون؟
بصيرورة ظلّ كل شَيْء مثله أَو مثلَيْهِ؟ قلت: قَالَ
بَعضهم: لم يَقع لَهُ حَدِيث فِي شَرطه على تعْيين ذَلِك،
فَذكر الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة الدَّالَّة على ذَلِك
بطرِيق الاستنباط قلت: لَا يلْزم من عدم وُقُوعه لَهُ أَن
لَا يَقع لغيره فِي تعْيين ذَلِك.
وَقد روى جمَاعَة من الصَّحَابَة فِي هَذَا الْبَاب،
مِنْهُم ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أمني
جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عِنْد الْبَيْت
مرَّتَيْنِ) الحَدِيث. وَفِيه: (صلى بِي الْعَصْر حِين
كَانَ ظله مثله) . هَذَا فِي الْمرة الأولى، وَقَالَ فِي
الثَّانِيَة: (وَصلى بِي الْعَصْر حِين كَانَ ظله
مثلَيْهِ) . أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وَقَالَ:
حَدِيث حسن. وَأخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم
فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم
يخرجَاهُ. وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه، وَقَالَ
ابْن عبد الْبر فِي (التَّمْهِيد) : وَقد تكلم بعض النَّاس
فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا بِكَلَام لَا وَجه لَهُ،
وَرُوَاته كلهم مَشْهُورُونَ بِالْعلمِ. قلت: هَذَا
الحَدِيث هُوَ الْعُمْدَة فِي هَذَا الْبَاب. وَقَوله:
(حِين كَانَ ظله مثلَيْهِ) ، بالتثنية، وَهَذَا آخر وَقت
الظّهْر عِنْد أبي حنيفَة، لِأَن عِنْده: إِذا صَار ظلّ كل
شَيْء مثلَيْهِ سوى فَيْء الزَّوَال يخرج وَقت الظّهْر،
وَيدخل وَقت الْعَصْر، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: إِذا
صَار ظلّ كل شَيْء مثله يخرج وَقت الظّهْر وَيدخل وَقت
الْعَصْر، وَهِي رِوَايَة الْحسن بن زِيَاد عَنهُ، وَبِه
قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَالثَّوْري
وَإِسْحَاق، وَلَكِن قَالَ الشَّافِعِي: آخر وَقت الْعَصْر
إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ لمن لَيْسَ لَهُ عذر،
وَأما أَصْحَاب الْعذر والضرورات فآخر وَقتهَا لَهُم غرُوب
الشَّمْس. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: خَالف النَّاس كلهم
أَبَا حنيفَة فِيمَا قَالَه حَتَّى أَصْحَابه. قلت: إِذا
كَانَ اسْتِدْلَال أبي حنيفَة بِالْحَدِيثِ فَمَا يضرّهُ
مُخَالفَة النَّاس لَهُ، وَيُؤَيِّدهُ مَا قَالَه أَبُو
حنيفَة حَدِيث عَليّ بن شَيبَان، قَالَ: (قدمنَا على
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة فَكَانَ
يُؤَخر الْعَصْر مَا دَامَت الشَّمْس بَيْضَاء نقية) .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه، وَهَذَا يدل على أَنه
كَانَ يُصَلِّي الْعَصْر عِنْد صيرورة ظلّ كل شَيْء
مثلَيْهِ، وَهُوَ حجَّة على خَصمه. وَحَدِيث جَابر: (صلى
بِنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَصْر حِين
صَار ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ قدر مَا يسير الرَّاكِب إِلَى
ذِي الحليفة الْعُنُق) ، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بِسَنَد
لَا بَأْس بِهِ.
(5/33)
وَقَالَ أبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ منْ
قَعْرِ حُجْرَتِهَا
هَذَا التَّعْلِيق وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر والأصيلي
وكريمة على رَأس الحَدِيث الَّذِي عقيب الْبَاب،
وَالصَّوَاب وُقُوعه هَهُنَا، وأسنده الْإِسْمَاعِيلِيّ
عَن ابْن مَاجَه، وَغَيره عَن أبي عبد الرَّحْمَن، قَالَ:
حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن
عَائِشَة. قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يُصَلِّي صَلَاة الْعَصْر وَالشَّمْس فِي قَعْر
حُجْرَتي) ، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة
اللَّيْثِيّ، وَهِشَام بن عُرْوَة.
546 - حدَّثنا أبُو نَعِيمٍ قَالَ أخبرنَا ابنُ عُيَيْنَةَ
عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ عنْ عَائِشَةَ قالَتْ كانَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي صَلاَةَ
العَصْرِ والشَّمْسُ طالِعَةٌ فِي حُجْرَتِي لَمْ يَظْهَرِ
الْفَيْءُ بَعْدُ. .
أَبُو نعيم: الْفضل بن دُكَيْن، وَابْن عُيَيْنَة هُوَ:
سُفْيَان. وَفِي (مُسْند الْحميدِي) عَن ابْن عُيَيْنَة:
حَدثنَا الزُّهْرِيّ، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد ابْن
مَنْصُور عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن سُفْيَان: (سمعته
أذناي ووعاه قلبِي من الزُّهْرِيّ) ، وَالزهْرِيّ هُوَ:
مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وَعُرْوَة بن الزبير بن
الْعَوام. قَوْله: (وَالشَّمْس طالعة) أَي: ظَاهِرَة، و:
الْوَاو، فِيهِ للْحَال. قَوْله: (بعد) مَبْنِيّ على
الضَّم لِأَنَّهُ من الغايات الْمَقْطُوع عَنْهَا
الْإِضَافَة الْمَنوِي بهَا، وَلَو لم تنو الْإِضَافَة
لَقلت من بعد التَّنْوِين.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله وَقَالَ مالِكٌ وَيَحْيَى بنُ
سَعِيدٍ وَشُعَيْبٌ وابنُ أبي حَفْصَةَ والشَّمْسُ قَبْلَ
أنْ تَظْهَرَ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَأَشَارَ بِهَذَا
إِلَى أَن هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورين رووا
الحَدِيث الْمَذْكُور بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَعِنْدهم:
(وَالشَّمْس قبل أَن تظهر) ، فالظهور فِي روايتهم للشمس،
وَفِي رِوَايَة سُفْيَان بن عُيَيْنَة الظُّهُور للفيء،
وَقد ذكرنَا عَن قريب طَريقَة الْجمع بَينهمَا، وَيحيى بن
سعيد الْأنْصَارِيّ وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة
بِالْمُهْمَلَةِ، وَابْن أبي حَفْصَة مُحَمَّد بن ميسرَة
أَبُو سَلمَة الْبَصْرِيّ. وَأما طَرِيق مَالك فقد أوصله
البُخَارِيّ فِي بَاب الْمَوَاقِيت، وَأما طَرِيق يحيى بن
سعيد فَعِنْدَ الذهلي مَوْصُولا وَأما طَرِيق شُعَيْب
فَعِنْدَ الطَّبَرَانِيّ فِي (مُسْند الشاميين) وَأما
طَرِيق ابْن أبي حَفْصَة فَعِنْدَ إِبْرَاهِيم بن طهْمَان
من طَرِيق ابْن عدي.
547 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ قالَ أخبرنَا
عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا عَوْفٌ عَنْ سَيَّار بنِ
سَلاَمَةَ قالَ دَخَلْتُ أنَا وَأبي عَلَى أبي بَرْزَةَ
الأَسْلَمِي فَقَالَ لَهُ أبي كَيْفَ كَانَ رسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي المَكْتُوبَةَ فَقَالَ كانَ
يُصَلِّي الهَجِرَةَ الَّتي تَدْعُونَهَا الأُولي حِين
تَدْحَضُ الشَّمْسُ ويُصَلِّي العَصْرَ ثُمَّ يَرْجِعُ
أحَدُنَا إلَى رَحْلِهِ فِي أقْصَى المَدِينَةِ والشَّمْسُ
حَيّةٌ ونَسِيتُ مَا قَالَ فِي المَغْرِبِ وكانَ
يَسْتَحِبُّ أنْ يُؤَخِّرَ العِشَاءَ الَّتي تَدْعُونَهَا
العَتَمَةَ وكانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا والحَدِيثَ
بَعْدَهَا وكانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلاةِ الغَدَاةِ حِينَ
يَعْرِفُ الرَّجلُ جَلِيسَهُ ويَقْرَأ بِالسِّتِّين إِلَى
المِائَةَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَيُصلي الْعَصْر ثمَّ
يرجع أَحَدنَا إِلَى رَحْله فِي أقْصَى الْمَدِينَة) .
وَأخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي بَاب وَقت
الظّهْر عِنْد الزَّوَال: عَن حَفْص بن عمر عَن شُعْبَة
عَن أبي الْمنْهَال، وَهُوَ سيار بن سَلامَة، وَهَهُنَا:
عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد الله بن الْمُبَارك عَن
عَوْف الْأَعرَابِي عَن سيار بن سَلامَة عَن أبي بَرزَة
نَضْلَة بن عبيد، وَفِيه تَقْدِيم وَتَأْخِير وَزِيَادَة
ونقصان، وَيظْهر ذَلِك بالمقابلة. وَقد ذكرنَا هُنَاكَ مَا
فِيهِ الْكِفَايَة. وَنَذْكُر هَهُنَا مَا لم نذْكر
هُنَاكَ. قَوْله: (قَالَ دخلت أَنا وَأبي) الْقَائِل هُوَ:
سيار وَأَبوهُ سَلامَة، وَحكى عَنهُ (ابْنه هُنَا، ولابنه
عَنهُ رِوَايَة فِي الطَّبَرَانِيّ (الْكَبِير) فِي ذكر
الْحَوْض، وَكَانَ دخولهما على أبي بَرزَة زمن أخرج ابْن
زِيَاد من الْبَصْرَة، قَالَه الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَكَانَ
ذَلِك فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ. وَقَالَ
الْإِسْمَاعِيلِيّ: لما كَانَ زمن أخرج ابْن زِيَاد، ووثب
مَرْوَان بِالشَّام، قَالَ أَبُو الْمنْهَال: (انْطلق أبي
إِلَى أبي بَرزَة وَانْطَلَقت مَعَه، فَإِذا هُوَ قَاعد
فِي ظلّ علوله من قصب فِي يَوْم شَدِيد الْحر ... فَذكر
الحَدِيث. قَوْله: (الْمَكْتُوبَة) أَي: الصَّلَوَات
الْمَفْرُوضَة الَّتِي كتبهَا الله تَعَالَى على
(5/34)
عباده. وَقَالَ بَعضهم: اسْتدلَّ بِهِ على
أَن الْوتر لَيْسَ من الْمَكْتُوبَة، لكَون أبي بَرزَة لم
يذكرهُ. قلت: عدم ذكره إِيَّاه لَا يسْتَلْزم نفي وجوب
الْوتر، وَقد ثَبت وُجُوبه بدلائل أُخْرَى. قَوْله:
(يُصَلِّي الهجير) ، وَهُوَ الهاجرة، أَي: صَلَاة الهجير،
وَهُوَ وَقت شدَّة الْحر، وَسمي الظّهْر بذلك لِأَن
وَقتهَا يدْخل حِينَئِذٍ. قَوْله: (الَّتِي تدعونها
الأولى) ، وتأنيث الضَّمِير إِمَّا بِاعْتِبَار الهاجرة
وَإِمَّا بِاعْتِبَار الصَّلَاة، ويروى: (يُصَلِّي
الهجيرة) . وَإِنَّمَا قيل لَهَا: الأولى، لِأَنَّهَا أول
صَلَاة صليت عِنْد إِمَامَة جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: لِأَنَّهَا أول صَلَاة
النَّهَار قَوْله: (حِين تدحض) أَي: حِين تَزُول عَن وسط
السَّمَاء إِلَى جِهَة الْمغرب من: الدحض وَهُوَ: الزلق.
وَمُقْتَضى ذَلِك أَنه كَانَ يُصَلِّي الظّهْر فِي أول
وَقتهَا، وَلَكِن لَا يُعَارض حَدِيث الْأَمر بالإبراد لما
ذكرنَا وَجه ذَلِك مستقصىً. قَوْله: (إِلَى رَحْله) ،
بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة: وَهُوَ
مسكن الرجل وَمَا يستصحبه من الأثاث. قَوْله: (فِي أقْصَى
الْمَدِينَة) صفة لرحل، وَلَيْسَ بظرف للْفِعْل. قَوْله:
(وَالشَّمْس حَيَّة) أَي: بَيْضَاء نقية، و: الْوَاو،
فِيهِ للْحَال، وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) بِإِسْنَاد
صَحِيح: عَن خَيْثَمَة التَّابِعِيّ، قَالَ: حَيَاتهَا أَن
تَجِد حرهَا) . قَوْله: (ونسيت مَا قَالَ) قَائِل ذَلِك
هُوَ: سيار، بَينه أَحْمد فِي رِوَايَته عَن حجاج عَن
شُعْبَة بِهِ. قَوْله: (وَكَانَ) ، أَي: رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (أَن يُؤَخر الْعشَاء) ،
أَي: صَلَاة الْعشَاء. قَوْله: (الَّتِي تدعونها
الْعَتَمَة) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالتَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق، وَالْعَتَمَة من اللَّيْل بعد
غيبوبة الشَّفق، وَقد أعتم اللَّيْل أَي: أظلم، وَفِيه
إِشَارَة إِلَى ترك تَسْمِيَتهَا بذلك. قَوْله:
(والْحَدِيث بعْدهَا) ، أَي: التحدث. قَوْله: (وَكَانَ
يَنْفَتِل) أَي: ينْصَرف من الصَّلَاة، أَو يلْتَفت إِلَى
الْمَأْمُومين. قَوْله: (صَلَاة الْغَدَاة) أَي: الصُّبْح،
وَفِيه أَنه لَا كَرَاهَة فِي تَسْمِيَة الصُّبْح بذلك.
قَوْله: (يقْرَأ) أَي: فِي الصُّبْح، (بالستين إِلَى
الْمِائَة) أَي: من الْآي، وقدرها الطَّبَرَانِيّ بِسُورَة
الحاقة وَنَحْوهَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا الحَدِيث
حجَّة على الْحَنَفِيَّة حَيْثُ قَالُوا: لَا يدْخل وَقت
الْعَصْر حَتَّى يصير ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ. قلت: لَا
نسلم أَن الْحَنَفِيَّة قَالُوا ذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ
رِوَايَة أَسد بن عَمْرو عَن أبي حنيفَة وَحده، وروى
الْحسن عَنهُ أَن أول وَقت الْعَصْر إِذا صَار ظلّ كل
شَيْء مثله، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَزفر،
وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ، وروى الْمُعَلَّى عَن أبي
يُوسُف عَن أبي حنيفَة: إِذا صَار الظل أقل من قامتين يخرج
وَقت الظّهْر، وَلَا يدْخل وَقت الْعَصْر حَتَّى يصير
قامتين، وَصَححهُ الْكَرْخِي، وَفِي رِوَايَة الْحسن
أَيْضا: إِذا صَار ظلّ كل شَيْء قامة خرج وَقت الظّهْر
وَلَا يدْخل وَقت الْعَصْر حَتَّى يصير قامتين، وَبَينهمَا
وَقت مهمل، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه النَّاس: بَين
الصَّلَاتَيْنِ. وَحكى ابْن قدامَة فِي (المغنى) : عَن
ربيعَة أَن وَقت الظّهْر وَالْعصر إِذا زَالَت الشَّمْس،
وَعَن عَطاء وطاووس: إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثله، دخل
وَقت الظّهْر، وَمَا بَينهمَا وَقت لَهما على سَبِيل
الِاشْتِرَاك حَتَّى تغرب الشَّمْس. وَقَالَ ابْن
رَاهَوَيْه والمزني وَأَبُو ثَوْر وَالطَّبَرَانِيّ: إِذا
صَار ظلّ كل شَيْء مثله دخل وَقت الْعَصْر، وَيبقى وَقت
الظّهْر قدر مَا يُصَلِّي أَربع رَكْعَات، ثمَّ يتمحض
الْوَقْت للعصر، وَبِه قَالَ مَالك.
548 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُسْلَمَةَ عنْ مَالِكٍ عنْ
إسْحاقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي طَلْحَةَ عَنْ أنَسِ
ابنِ مالِكٍ قَالَ كُنَّا نُصَلِّي العَصْرَ ثُمَّ
يَخْرُجُ الإنْسَانُ إلَى بنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ
فَنَجِدُهُمْ يُصَلُّونَ العَصْرَ. .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث، ومطابقة بَقِيَّة أَحَادِيث
هَذَا الْبَاب للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن دلالتها على
تَعْجِيل الْعَصْر، وتعجيله لَا يكون إلاَّ فِي أول وقته،
وَهُوَ عِنْد صيرورة ظلّ كل شَيْء مثله أَو مثلَيْهِ على
الْخلاف.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: عبد الله بن مسلمة القعْنبِي،
وَمَالك بن أنس وَإِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة
واسْمه: زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ ابْن أخي أنس بن مَالك،
يكنى: أَبَا يحيى، مَاتَ سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة،
قَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَ مَالك لَا يقدم عَلَيْهِ أحدا
فِي الحَدِيث.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وَاحِد، والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
القَوْل. فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث مُسْند أَو مَوْقُوف؟
قلت: قَول الصَّحَابِيّ: كُنَّا نَفْعل كَذَا، فِيهِ خلاف،
فَذهب بَعضهم إِلَى أَنه مُسْند، وَهُوَ اخْتِيَار
الْحَاكِم، وإيراد البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث مشْعر
بِأَنَّهُ مُسْند، وَإِن لم يُصَرح بإضافته إِلَى زمن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ والخطيب وَآخَرُونَ: إِنَّه مَوْقُوف،
وَالصَّوَاب أَن يُقَال: إِن مثل هَذَا مَوْقُوف لفظا،
مَرْفُوع حكما، لِأَن الصَّحَابِيّ أوردهُ فِي مقَام
الِاحْتِجَاج فَيحمل على أَنه أَرَادَ كَونه فِي زمن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد روى ابْن
الْمُبَارك هَذَا الحَدِيث عَن مَالك، فَقَالَ
(5/35)
فِيهِ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الْعَصْر) ، الحَدِيث أخرجه
النَّسَائِيّ.
ذكر تعدد موضه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا
عَن عبد الله بن يُوسُف. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي
الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ
عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بني عَمْرو بن عَوْف) ، بِفَتْح
الْعين وَسُكُون الْوَاو وبالفاء، وَكَانَت مَنَازِلهمْ
على ميلين من الْمَدِينَة بقباء. قَوْله: (فيجدهم يصلونَ
الْعَصْر) أَي: عصر ذَلِك الْيَوْم، وَهَذَا يدل على أَنهم
كَانُوا يؤخرون عَن أول الْوَقْت، لأَنهم كَانُوا عمالاً
فِي أراضيهم وحروثهم. وَقَالَ بَعضهم: فَدلَّ هَذَا
الحَدِيث على تَعْجِيل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِصَلَاة الْعَصْر فِي أول وَقتهَا، قلت: إِنَّمَا يدل
ذَلِك على مَا ذكره إِذا كَانَ الحَدِيث مَرْفُوعا قطعا،
وَقد ذكرنَا عَن قريب أَن فِي مثل هَذَا خلافًا، هَل هُوَ
مَوْقُوف أَو فِي حكم الْمَرْفُوع؟
549 - حدَّثنا ابنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله
قَالَ أخبرنَا أبُو بَكْرِ بنُ عُثْمانَ بنِ سَهْلِ بنِ
حُنَيْفٍ قَالَ سمِعْتُ أَبَا امامَةَ يَقُولُ صَلَّيْنَا
مَعَ عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيزِ الظُّهْرَ ثُمَّ
خَرَجْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أنَسِ بنِ مالِكٍ
فَوَجَدْنَاهُ يُصَلِّي العَصْرَ فَقُلْتُ يَا عَمِّ مَا
هَذِهِ الصَّلاَةُ الَّتِي صَلَّيْتَ قَالَ العَصْرُ
وهَذِهِ صَلاَةُ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التِي
كُنَّا نُصَلِّي مَعَهُ.
ابْن مقَاتل هُوَ: مُحَمَّد بن مقَاتل أَبُو الْحسن
الْمروزِي، المجاور بِمَكَّة. وَعبد الله هُوَ: ابْن
الْمُبَارك، وَأَبُو بكر بن عُثْمَان بن سهل ابْن حنيف،
بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح النُّون وَسُكُون الْيَاء
آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره فَاء: الْأنْصَارِيّ الأوسي،
سمع عَمه أَبَا أُمَامَة، بِضَم الْهمزَة، واسْمه: أسعد بن
سهل، الْمَوْلُود فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَهُوَ صَحَابِيّ على الْأَصَح. مَاتَ سنة مائَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وَاحِد، والإخبار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه:
القَوْل والسماعوفيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن
الصَّحَابِيّ. وَفِيه: راويان مروزيان والبقية مدنيون.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن
مَنْصُور بن مُزَاحم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
سُوَيْد بن نصر، كِلَاهُمَا عَن عبد الله بن الْمُبَارك.
ذكر مَعْنَاهُ. قَوْله: (دَخَلنَا على أنس بن مَالك) ،
وداره كَانَت بِجنب الْمَسْجِد. قَوْله: (يَا عَم) ،
بِكَسْر الْمِيم، وَأَصله: يَا عمي، فحذفت الْيَاء،
وَهَذَا من بَاب التوقير وَالْإِكْرَام لأنس، لِأَنَّهُ
لَيْسَ عَمه على الْحَقِيقَة. قَوْله: (مَا هَذِه
الصَّلَاة؟) أَي: مَا هَذِه الصَّلَاة فِي هَذَا الْوَقْت؟
وَالْإِشَارَة فِيهِ بِحَسب وَقت تِلْكَ الصَّلَاة لَا
بِحَسب شخصها. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا الحَدِيث صَرِيح
فِي التبكير لصَلَاة الْعَصْر فِي أول وَقتهَا، فَإِن
وَقتهَا يدْخل بمصير ظلّ كل شَيْء مثله، وَلِهَذَا كَانَ
الْآخرُونَ يؤخرون الظّهْر إِلَى ذَلِك الْوَقْت،
وَإِنَّمَا أَخّرهَا عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، على عَادَة الْأُمَرَاء قبل أَن تبلغه
السّنة فِي تَقْدِيمهَا قبله، وَيحْتَمل أَنه أَخّرهَا
لعذر عرض لَهُ، وَهَذَا كَانَ حِين ولي الْمَدِينَة
نِيَابَة، لَا فِي خِلَافَته، لِأَن أنسا توفّي قبل
خِلَافَته بِنَحْوِ تسع سِنِين. انْتهى. قلت: لَيْسَ فِيهِ
تَصْرِيح فِي التبكير لصَلَاة الْعَصْر، وَمثل عمر بن عبد
الْعَزِيز كَانَ يتبع الْأُمَرَاء وَيتْرك السّنة؟
550 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني أنسُ بنُ مالِكٍ قَالَ كانَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي العَصْرَ
والشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ فَيَذْهَبُ الذاهِبُ إلَى
العَوَالِي فَيَأْتِيهِمْ والشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ
وَبَعْضُ العَوَالِي مِنَ المَدِينَةِ عَلَى أرْبَعَةِ
أمْيَالٍ أوْ نَحْوِهِ.
أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع البهراني الْحِمصِي،
وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي
مَوضِع آخر. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل.
وَفِيه: من الروَاة حمصيان ومدني.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم عَن هَارُون بن سعيد عَن
ابْن وهب عَن عَمْرو بن الْحَارِث عَن الزُّهْرِيّ
(5/36)
عَن أنس. وَأخرجه أَيْضا عَن قُتَيْبَة
وَمُحَمّد بن رمح. وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ
عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد ابْن
رمح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَالشَّمْس مُرْتَفعَة) ،
الْوَاو: فِيهِ للْحَال، وَقد مر تَفْسِير قَوْله: حَيَّة.
قَوْله: (العوالي) ، جمع: عالية وَهِي الْقرى الَّتِي حول
الْمَدِينَة من جِهَة نجد، وَأما من جِهَة تهَامَة
فَيُقَال لَهَا: السافلة. قَوْله: (فيأتيهم وَالشَّمْس
مُرْتَفعَة) أَي: دون ذَلِك الِارْتفَاع. قَوْله: (وَبَعض
العوالي) ، إِلَى آخِره، قَالَ الْكرْمَانِي: إِمَّا
كَلَام البُخَارِيّ وَإِمَّا كَلَام أنس أَو هُوَ
لِلزهْرِيِّ، كَمَا هُوَ عَادَته فِي الإدراجات. قلت:
الظَّاهِر أَنه من الزُّهْرِيّ، يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ
عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ فِي هَذَا
الحَدِيث، فَقَالَ فِيهِ، بعد قَوْله: (وَالشَّمْس حَيَّة)
، قَالَ الزُّهْرِيّ: والعوالي من الْمَدِينَة على ميلين
أَو ثَلَاثَة. وروى الْبَيْهَقِيّ حَدِيث الْبَاب من
طَرِيق أبي بكر الصَّنْعَانِيّ عَن أبي الْيَمَان، شيخ
البُخَارِيّ، وَقَالَ فِي آخِره: وَبعد العوالي، بِضَم
الْبَاء الْمُوَحدَة وبالدال الْمُهْملَة، وَكَذَلِكَ
أخرجه البُخَارِيّ فِي الِاعْتِصَام تَعْلِيقا، وَوَصله
الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق اللَّيْث: عَن يُونُس عَن
الزُّهْرِيّ، لَكِن قَالَ: أَرْبَعَة أَمْيَال أَو
ثَلَاثَة. وروى هَذَا الحَدِيث أَبُو عوَانَة فِي
(صَحِيحه) وَأَبُو الْعَبَّاس السراج جَمِيعًا عَن أَحْمد
بن الْفرج أبي عتبَة عَن مُحَمَّد بن حمير عَن إِبْرَاهِيم
بن أبي عبلة عَن الزُّهْرِيّ، وَلَفظه: (والعوالي من
الْمَدِينَة على ثَلَاثَة أَمْيَال) وَأخرجه
الدَّارَقُطْنِيّ عَن الْمحَامِلِي عَن أبي عتبَة
الْمَذْكُور بِسَنَدِهِ الْمَذْكُور، فَوَقع عَنهُ: (على
سِتَّة أَمْيَال) . وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن
الزُّهْرِيّ فَقَالَ فِيهِ: (على ميلين أَو ثَلَاثَة) .
وَوَقع فِي (الْمُدَوَّنَة) عَن مَالك، رَحمَه الله
تَعَالَى: أبعد العوالي مَسَافَة ثَلَاثَة أَمْيَال. قَالَ
عِيَاض: كَأَنَّهُ أَرَادَ مُعظم عمارتها، وإلاَّ فأبعدها
ثَمَانِيَة أَمْيَال. قلت: علم من هَذِه الاختلافات أَن
أقرب العوالي من الْمَدِينَة مَسَافَة ميلين، وأبعدها
ثَمَانِيَة أَمْيَال، وَأما الثَّلَاثَة وَالْأَرْبَعَة
والستة فباعتبار الْقرب والبعد من الْمَدِينَة، فَبِهَذَا
الْوَجْه يحصل التَّوْفِيق بَين هَذِه الرِّوَايَات،
والميل: ثلث فَرسَخ، أَرْبَعَة آلَاف ذِرَاع بِذِرَاع
مُحَمَّد بن فرج الشَّاشِي، طولهَا أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ
إصبعا بِعَدَد حُرُوف: لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد
رَسُول الله، وَعرض الإصبع: سِتّ حبات شعير ملصقة ظهرا
لبطن، وزنة الْحبَّة من الشّعير: سَبْعُونَ حَبَّة
خَرْدَل. وَفسّر أَبُو شُجَاع الْميل: بِثَلَاثَة آلَاف
ذِرَاع، وَخَمْسمِائة ذِرَاع، إِلَى أَرْبَعَة آلَاف
ذِرَاع. وَفِي (الْيَنَابِيع) الْميل: ثلث الفرسخ،
أَرْبَعَة آلَاف خطْوَة، كل خطْوَة ذِرَاع وَنصف بِذِرَاع
الْعَامَّة، وَهُوَ أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ إصبعا.
551 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنِ ابنِ شَهَابٍ عَن أنَس بنِ مالِكٍ قَالَ كنَّا
نُصَلِّي العَصْرَ ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ مِنَّا إلَى
قُبَاءٍ فَيَأْتِيهِمْ والشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ
قد تكَرر ذكر هَؤُلَاءِ الروَاة.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد،
والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي
موضِعين. وَفِيه: القَوْل.
قَوْله: (كُنَّا نصلي الْعَصْر) أَي: مَعَ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ
خَالِد بن مخلد عَن مَالك، كَذَلِك مُصَرحًا بِهِ أخرجه
الدَّارَقُطْنِيّ فِي (غَرَائِبه) . قَوْله: (إِلَى قبَاء)
، قَالَ أَبُو عمر: قَول مَالك، قبَاء، وهم لَا شكّ فِيهِ
وَلم يُتَابِعه أحد فِيهِ عَن ابْن شهَاب، وَقَالَ
النَّسَائِيّ: لم يُتَابع مَالك على قَوْله: (قبَاء) ،
وَالْمَعْرُوف: العوالي، وَكَذَا قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ
فِي آخَرين: إِلَى العوالي، وَأخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم
وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حدديث
الزُّهْرِيّ، وَقَالَ التَّيْمِيّ: الصَّحِيح بدل قبَاء
العوالي، كَذَلِك رَوَاهُ أَصْحَاب ابْن شهَاب كلهم غير
مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) فَإِنَّهُ تفرد بِذكر: قبَاء،
وَهُوَ مِمَّا يعد على مَالك أَنه وهم فِيهِ. قلت: تَابع
مَالِكًا ابْن أبي ذِئْب، فَإِنَّهُ روى عَن الزُّهْرِيّ:
إِلَى قبَاء، كَمَا قَالَه مَالك، نَقله الْبَاجِيّ عَن
الدَّارَقُطْنِيّ، فنسبة الْوَهم إِلَى مَالك غير موجه،
وَلَئِن سلمنَا أَنه وهم، وَلَكِن لَا نسلم أَن يكون ذَلِك
من مَالك قطعا، فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يكون من الزُّهْرِيّ
حِين حدث بِهِ مَالِكًا. وَقَالَ ابْن بطال: روى خَالِد بن
مخلد عَن مَالك فَقَالَ فِيهِ: إِلَى العوالي، كَمَا
قَالَه الْجَمَاعَة، فَهَذَا يدل على أَن الْوَهم فِيهِ
مِمَّن دون مَالك. ورد هَذَا بِأَن مَالِكًا أثْبته فِي
(الْمُوَطَّأ) بِاللَّفْظِ الَّذِي رَوَاهُ عَنهُ كَافَّة
أَصْحَابه، فرواية خَالِد عَنهُ شَاذَّة، وَلَئِن سلمنَا
الْوَهم فِيهِ، فَهُوَ إِمَّا من مَالك كَمَا جزم بِهِ
الْبَزَّار وَالدَّارَقُطْنِيّ وَمن تبعهما، أَو من
الزُّهْرِيّ حِين حدث بِهِ، وَمَعَ هَذَا كُله فقباء من
العوالي، فَلَعَلَّ مَالِكًا رأى فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ
إِجْمَالا وفسرها بقباء، فعلى هَذَا لَا يحْتَاج إِلَى
نِسْبَة الْوَهم إِلَى أحد. فَافْهَم. قَوْله: (فيأتيهم)
أَي: فَيَأْتِي أهل قبَاء، و: الْوَاو، فِي: (وَالشَّمْس)
للْحَال.
14 -
(5/37)
(بابُ إثْمِ مَنْ فَاتَهُ العَصْرُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم من فَاتَتْهُ صَلَاة
الْعَصْر، وَالْمرَاد بفواتها تَأْخِيرهَا عَن وَقت
الْجَوَاز بِغَيْر عذر، لِأَن ترَتّب الْإِثْم على ذَلِك.
552 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ أنَّ رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاَةُ
العَصْرِ كأنَّمَا وُتِرَ أهْلَهُ ومالَهُ.
رجال هَذَا الحَدِيث ولطائف إِسْنَاده قد مَرَرْت غير
مرّة.
وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا من
طَرِيق مَالك، وَأخرجه الْكشِّي من حَدِيث حَمَّاد بن
سَلمَة عَن نَافِع، وَزَاد فِي آخِره: وَهُوَ قَاعد،
وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن نَوْفَل بن مُعَاوِيَة
كَرِوَايَة ابْن عمر، وَفِي (الْأَوْسَط) للطبراني: إِن
نوفلاً رَوَاهُ عَن أَبِيه مُعَاوِيَة بِلَفْظ: (لِأَن
يُوتر أحدكُم أَهله وَمَاله خير لَهُ من أَن تفوته صَلَاة
الْعَصْر) . وَقَالَ الذَّهَبِيّ: نَوْفَل بن مُعَاوِيَة
الديلِي، شهد الْفَتْح وَتُوفِّي بِالْمَدِينَةِ سنة
يزِيد، روى عَنهُ جمَاعَة، وَقَالَ فِي بَاب الْمِيم:
مُعَاوِيَة بن نَوْفَل الديلِي صَحَابِيّ روى عَنهُ ابْنه.
قَوْله: (صَلَاة الْعَصْر) فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي
رِوَايَة غَيره: (يفوتهُ الْعَصْر) . قَوْله: (كَأَنَّمَا)
، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني: (فَكَأَنَّمَا) بِالْفَاءِ، والمبتدأ إِذا
تضمن معنى الشَّرْط جَازَ فِي خَبره: الْفَاء، وَتركهَا.
قَوْله: (وتر أَهله وَمَاله) بِنصب اللاَّمين فِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين لِأَنَّهُ مفعول ثَان لقَوْله: (وتر) ،
وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع
إِلَى قَوْله: (الَّذِي تفوته صَلَاة الْعَصْر) ، وَهُوَ
الْمَفْعُول الأول. فَإِن قلت: الْفِعْل الَّذِي يَقْتَضِي
المفعولين يكون من أَفعَال الْقُلُوب، ووتر لَيْسَ
مِنْهَا. قلت: إِذا كَانَ أحد المفعولين غير صَرِيح
يَأْتِي أَيْضا من غير أَفعَال الْقُلُوب، وَهَهُنَا
كَذَلِك، ووتر هَهُنَا مُتَعَدٍّ إِلَى إِلَى مفعولين
بِهَذَا الْوَجْه، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:
{لن يتركم أَعمالكُم} (مُحَمَّد: 35) . أَي: لن ينقصكم
أَعمالكُم، فعلى هَذَا الْمَعْنى فِي: وتر، نقص من: وترته،
إِذا نقصته فكأنك جعلته: وترا بعد أَن كَانَ كثيرا. وَقيل:
مَعْنَاهُ هَهُنَا: سلب أَهله وَمَاله، فَبَقيَ وترا
لَيْسَ لَهُ أهل وَلَا مَال. وَقَالَ النَّوَوِيّ: رُوِيَ
بِرَفْع الَّلامين، قلت: هِيَ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي،
وَجههَا أَنه لَا يضمر شَيْء فِي: وتر، بل يقوم: الْأَهْل،
مقَام مَا لم يسم فَاعله، و: مَاله، عطف عَلَيْهِ. وَقَالَ
ابْن الْأَثِير: من رد النَّقْص إِلَى الرجل نصبهما، وَمن
رده إِلَى الْأَهْل وَالْمَال رفعهما. وَقيل: مَعْنَاهُ
وتر فِي أَهله، فَلَمَّا حذف الْخَافِض انتصب، وَقيل:
إِنَّه بدل اشْتِمَال أَو بدل بعض، وَمَعْنَاهُ: انتزع
مِنْهُ أَهله وَمَاله. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الموتر:
الَّذِي قتل لَهُ قَتِيل فَلم يدْرك بدمه، تَقول مِنْهُ:
وتره يتره وترا ووترا وترة. قلت: أصل: ترة وتر، فحذفت
مِنْهَا الْوَاو تبعا لفعله الْمُضَارع، وَهُوَ: يتر،
لِأَن أَصله يُوتر، فحذفت الْوَاو لوقوعها بَين يَاء
وكسرة، فَلَمَّا حذفت الْوَاو فِي الْمصدر عوض عَنْهَا:
التَّاء، كَمَا فِي: عدَّة.
وَتَكَلَّمُوا فِي معنى هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ
الْخطابِيّ: نقص هُوَ أَهله وَمَاله وسلبهم، فَبَقيَ بِلَا
أهل وَلَا مَال، فليحذر من يفوتها كحذره من ذهَاب أَهله
وَمَاله. وَقَالَ أَبُو عمر: مَعْنَاهُ كَالَّذي يصاب
بأَهْله وَمَاله إِصَابَة يطْلب بهَا وترا، وَهِي
الْجِنَايَة الَّتِي تطلب ثأرها، فيجتمع عَلَيْهِ غمان: غم
الْمُصِيبَة، وغم مقاساة طلب الثأر. وَقَالَ الدَّاودِيّ:
يتَوَجَّه عَلَيْهِ من الاسترجاع مَا يتَوَجَّه على من فقد
أَهله وَمَاله، فَيتَوَجَّه عَلَيْهِ النَّدَم والأسف
لتفويته الصَّلَاة. وَقيل: مَعْنَاهُ فَاتَهُ من الثَّوَاب
مَا يلْحقهُ من الأسف، كَمَا يلْحق من ذهب أَهله وَمَاله.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي المُرَاد بِفَوَات الْعَصْر فِي هَذَا
الحَدِيث، فَقَالَ ابْن وهب وَغَيره: هُوَ فِيمَن لم يصلها
فِي وَقتهَا الْمُخْتَار. وَقَالَ الْأصيلِيّ وَسَحْنُون:
هُوَ أَن تفوته بغروب الشَّمْس. وَقيل: أَن يفوتها إِلَى
أَن تصفر الشَّمْس، وَقد ورد مُفَسرًا فِي رِوَايَة
الْأَوْزَاعِيّ فِي هَذَا الحَدِيث. قَالَ: وفواتها أَن
تدخل الشَّمْس صفرَة. وروى سَالم عَن أَبِيه أَنه قَالَ:
هَذَا فِيمَن فَاتَتْهُ نَاسِيا، وَقَالَ الدَّاودِيّ:
هَذَا فِي الْعَامِد، وَكَأَنَّهُ أظهر لما فِي
البُخَارِيّ: (من ترك صَلَاة الْعَصْر حَبط عمله) .
وَهَذَا ظَاهر فِي الْعمد. وَقَالَ الْمُهلب: هُوَ
فَوَاتهَا فِي الْجَمَاعَة لما يفوتهُ من شُهُود
الْمَلَائِكَة الليلية والنهارية، وَلَو كَانَ فَوَاتهَا
بغيبوبة أَو اصفرار لبطل الِاخْتِصَاص، لِأَن ذهَاب
الْوَقْت كُله مَوْجُود فِي كل صَلَاة، وَقَالَ أَبُو عمر:
يحْتَمل أَن يكون تَخْصِيص الْعَصْر لكَونه جَوَابا
بالسائل سَأَلَ عَن صَلَاة الْعَصْر، وعَلى هَذَا يكون حكم
من فَاتَهُ الصُّبْح بِطُلُوع الشَّمْس، وَالْعشَاء
بِطُلُوع الْفجْر، كَذَلِك. وخصت الْعَصْر لفضلها ولكونها
مَشْهُودَة. وَقيل: خصت بذلك تَأْكِيدًا وحضا على المثابرة
عَلَيْهَا لِأَنَّهَا تَأتي فِي وَقت اشْتِغَال النَّاس،
وَقيل: يحْتَمل أَنَّهَا خصت بذلك لِأَنَّهَا
(5/38)
على الصَّحِيح أَنَّهَا الصَّلَاة
الْوُسْطَى، وَبهَا تختم الصَّلَوَات. وَاعْترض
النَّوَوِيّ لِابْنِ عبد الْبر فِي قَوْله: فعلى هَذَا
يكون حكم من فَاتَهُ الصُّبْح. . إِلَى آخِره، فَإِن غير
الْمَنْصُوص إِنَّمَا يلْحق بالمنصوص إِذا عرفت الْعلَّة
واشتركا فِيهَا. قَالَ: وَالْعلَّة فِي هَذَا الحكم لم
تتَحَقَّق فَلَا يلْحق غير الْعَصْر بهَا. انْتهى. قلت:
لقَائِل أَن يحْتَج لِابْنِ عبد الْبر بِمَا رَوَاهُ ابْن
أبي شيبَة وَغَيره من طَرِيق أبي قلَابَة عَن أبي
الدَّرْدَاء مَرْفُوعا: (من ترك صَلَاة مَكْتُوبَة حَتَّى
تفوته) الحَدِيث، ورد بِأَن فِي إِسْنَاده انْقِطَاعًا،
لِأَن أَبَا قلَابَة لم يسمع من أبي الدَّرْدَاء، وَقد روى
أَحْمد حَدِيث أبي الدَّرْدَاء بِلَفْظ: (من ترك الْعَصْر)
، فَرجع حَدِيث أبي الدَّرْدَاء إِلَى تعْيين الْعَصْر.
قلت: روى ابْن حبَان وَغَيره عَن نَوْفَل بن مُعَاوِيَة
مَرْفُوعا: (من فَاتَتْهُ الصَّلَاة فَكَأَنَّمَا وتر
أَهله وَمَاله) . وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَهَذَا
يَشْمَل جَمِيع الصَّلَوَات المكتوبات، وَلَكِن روى
الطَّبَرَانِيّ هَذَا الحَدِيث أَعنِي حَدِيث الْبَاب من
وَجه آخر، وَزَاد فِيهِ عَن الزُّهْرِيّ: (قلت لأبي بكر
يَعْنِي ابْن عبد الرَّحْمَن، وَهُوَ الَّذِي حَدثهُ بِهِ
مَا هَذِه الصَّلَاة؟ قَالَ: الْعَصْر) . رَوَاهُ ابْن أبي
خَيْثَمَة من وَجه آخر، فَصرحَ بِكَوْنِهَا الْعَصْر فِي
نفس الْخَبَر، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من
وَجه آخر فصرحا بِكَوْنِهَا الْعَصْر فِي نفس الْخَبَر،
وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من وَجه آخر، وَفِيه: إِن
التَّفْسِير من قَول ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، وَاعْترض ابْن الْمُنِير على قَول الْمُهلب
الْمَذْكُور عَن قريب بِأَن الْفجْر أَيْضا فِيهَا شُهُود
الْمَلَائِكَة الليلية والنهارية، فَلَا يخْتَص الْعَصْر
بذلك. قَالَ: وَالْحق أَن الله تَعَالَى يخص مَا شَاءَ من
الصَّلَوَات بِمَا شَاءَ من الْفَضِيلَة. وَبَوَّبَ
التِّرْمِذِيّ على حَدِيث الْبَاب مَا جَاءَ فِي السَّهْو
عَن وَقت الْعَصْر فَحَمله على الساهي. قلت: لَا تطابق
بَين تَرْجَمته وَبَين الحَدِيث، فَإِن لفظ الحَدِيث:
الَّذِي تفوته، أَعم من أَن يكون سَاهِيا أَو عَامِدًا،
وتخصيصه بالساهي لَا وَجه لَهُ، بل الْقَرِينَة دَالَّة
على أَن المُرَاد بِهَذَا الْوَعيد فِي الْعَامِد دون
الساهي.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله يَتِرُكُمْ أعْمَالُكُمْ وَتَرْتُ
الرَّجُلَ إذَا قَتَلْتُ لَهُ قَتِيلاً أوْ أخَذْتُ لَهُ
مَالا
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، وَأَشَارَ بذلك إِلَى
أَن لَفْظَة: يتركم فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلنْ يتركم}
(مُحَمَّد: 35) . أَنه مُتَعَدٍّ إِلَى مفعولين، وَهَذَا
يُؤَيّد نصب اللاَّمين فِي الحَدِيث، وَأَشَارَ بقوله
(وترت الرجل) ، إِلَى أَنه يتَعَدَّى إِلَى مفعول وَاحِد،
وَهُوَ يُؤَيّد رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي.
15 - (بابُ إثْمِ مَنْ تَرَكَ العَصْرَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم من ترك صَلَاة الْعَصْر.
قيل: لَا فَائِدَة فِي هَذَا التَّبْوِيب لِأَن الْبَاب
السَّابِق يُغني عَنهُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر حَدِيث
هَذَا الْبَاب فِي الْبَاب الَّذِي قبله، لِأَن كلا
مِنْهُمَا فِي الْوَعيد، قلت: بَينهمَا فرق دَقِيق، وَهُوَ
أَنهم قد اخْتلفُوا فِي المُرَاد من معنى التفويت على مَا
ذكرنَا، وَالتّرْك لَا خلاف فِيهِ أَن مَعْنَاهُ: إِذا
كَانَ عَامِدًا.
553 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا
هِشَامٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ أبي كَثِيرٍ عنْ أبِي
قِلاَبَةَ عنْ أبي المَلِيحِ قالَ كُنَّا مَعَ بُرَيْدَةَ
فِي غَزْوَةٍ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ فَقَالَ بِكِّرُوا
بِصَلاَةِ العَصْرِ فَإِنَّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قالَ مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ
عَمَلُهُ. ((الحَدِيث 553 طرفه فِي: 594) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الحَدِيث يتَضَمَّن
حَبط الْعَمَل عِنْد التّرْك، والترجمة فِي إِثْم التّرْك.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُسلم بن ابراهيم
الْأَزْدِيّ الفراهيدي الْبَصْرِيّ القصاب، يكنى أَبَا
عَمْرو. الثَّانِي: هِشَام بن عبد الله الدستوَائي.
الثَّالِث: يحيى ابْن أبي كثير. الرَّابِع: أَبُو قلَابَة،
بِكَسْر الْقَاف: عبد الله بن زيد الحرمي. الْخَامِس:
أَبُو الْمليح، بِفَتْح الْمِيم وَكسر اللَّام
وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة: واسْمه عَامر بن أُسَامَة
الْهُذلِيّ، مَاتَ سنة ثَمَان وَتِسْعين. السَّادِس:
بُرَيْدَة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة: ابْن
الْحصيب، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الصَّاد
الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره
بَاء مُوَحدَة: الْأَسْلَمِيّ، رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة حَدِيث وَأَرْبَعَة وَسِتُّونَ
حَدِيثا، للْبُخَارِيّ مِنْهَا ثَلَاث، مَاتَ غازيا بمرو،
وَهُوَ آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة بخراسان سنة
اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ.
(5/39)
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث
بِصِيغَة الْجمع بِاتِّفَاق الروَاة عَن مُسلم بن
إِبْرَاهِيم. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع عَن هِشَام
عِنْد أبي ذَر، وَعند غَيره. أخبرنَا بِصِيغَة الْجمع.
وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع عَن يحيى عِنْد أبي
ذَر، وَعند غَيره: حَدثنَا. وَفِيه: العنعنة عَن أبي
قلَابَة عَن أبي الْمليح، وَعند ابْن خُزَيْمَة: من طَرِيق
أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن هِشَام عَن يحيى: أَن أَبَا
قلَابَة حَدثهُ، وَعند البُخَارِيّ فِي بَاب التبكير
بِالصَّلَاةِ فِي يَوْم الْغَيْم: عَن معَاذ بن فضَالة عَن
هِشَام عَن يحيى عَن أبي قلَابَة: أَن أَبَا الْمليح
حَدثهُ. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين على الْوَلَاء.
وَفِيه: أَن الروَاة كلهم بصريون. وَفِيه: القَوْل فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا عَن معَاذ بن فضَالة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الصَّلَاة أَيْضا عَن عبيد الله بن سعيد عَن يحيى عَن
هِشَام بِهِ. وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة كَمَا رَوَاهُ
البُخَارِيّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه وَابْن حبَان من حَدِيث
الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي قلَابَة عَن
أبي المُهَاجر عَنهُ، قَالَ ابْن حبَان: وهم
الْأَوْزَاعِيّ فِي تصحيفه عَن يحيى، فَقَالَ: عَن أبي
المُهَاجر، وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو الْمُهلب عَم أبي
قلَابَة عَن عَمه عَنهُ، على الصَّوَاب. وَاعْترض عَلَيْهِ
الضياء الْمَقْدِسِي، فَقَالَ: الصَّوَاب أَبُو الْمليح
عَن أبي بُرَيْدَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ذِي غيم) ، صفة يَوْم وَمحل: (فِي
غَزْوَة) و: (فِي يَوْم) نصب على الْحَال، وَإِنَّمَا خص
يَوْم الْغَيْم لِأَنَّهُ مَظَنَّة التَّأْخِير، لِأَنَّهُ
رُبمَا يشْتَبه عَلَيْهِ فَيخرج الْوَقْت بغروب الشَّمْس.
قَوْله: (بَكرُوا) أَي: أَسْرعُوا وعجلوا وَبَادرُوا وكل
من بَادر إِلَى الشَّيْء فقد بكر، وأبكر إِلَيْهِ أَي وَقت
كَانَ، يُقَال: بَكرُوا بِصَلَاة الْمغرب أَي: صلوها عِنْد
سُقُوط القرص. قَوْله: (من ترك) كلمة من، مَوْصُولَة
تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط فِي مَحل الرّفْع على
الِابْتِدَاء وَخَبره: (فقد حَبط عمله) . وَدخُول:
الْفَاء، فِيهِ لأجل تضمن الْمُبْتَدَأ معنى الشَّرْط. و:
حَبط، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: بَطل، يُقَال:
حَبط يحبط من بَاب: علم يعلم، يُقَال: حَبط عمله وأحبطه
غَيره، وَهُوَ من قَوْلهم: حبطت الدَّابَّة حَبطًا
بِالتَّحْرِيكِ إِذا أَصَابَت مرعى طيبا، فأفرطت فِي
الْأكل حَتَّى تنتفخ فتموت، وَزَاد معمر فِي رِوَايَة
هَذَا الحَدِيث لفظ: مُتَعَمدا، وَكَذَا أخرجه أَحْمد من
حَدِيث أبي الدَّرْدَاء. وَفِي رِوَايَة معمر: (أحبط الله
عمله) ، وَسقط من رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي لفظ: فقد.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ وَهُوَ على وُجُوه: الأول:
احْتج بِهِ أَصْحَابنَا على أَن الْمُسْتَحبّ تَعْجِيل
الْعَصْر يَوْم الْغَيْم. الثَّانِي: احْتج بِهِ
الْخَوَارِج على تَكْفِير أهل الْمعاصِي، قَالُوا: وَهُوَ
نَظِير قَوْله تَعَالَى: {وَمن يكفر بِالْإِيمَان فقد حَبط
عمله} (الْمَائِدَة: 5) . ورد عَلَيْهِم أَبُو عمر بِأَن
مَفْهُوم الْآيَة أَن من لم يكفر بِالْإِيمَان لم يحبط
عمله، فيتعارض مَفْهُوم الْآيَة ومنطوق الحَدِيث، فَإِذا
كَانَ كَذَلِك يتَعَيَّن تَأْوِيل الحَدِيث، لِأَن الْجمع
إِذا كَانَ مُمكنا كَانَ أولى من التَّرْجِيح، وَنَذْكُر
عَن قريب وَجه الْجمع، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الثَّالِث: احْتج بِهِ بعض الْحَنَابِلَة: أَن تَارِك
الصَّلَاة يكفر، ورد بِأَن ظَاهره مَتْرُوك، وَالْمرَاد
بِهِ التَّغْلِيظ والتهديد، وَالْكفْر ضد الْإِيمَان وتارك
الصَّلَاة لَا يَنْفِي عَنهُ الْإِيمَان، وَأَيْضًا لَو
كَانَ الْأَمر كَمَا قَالُوا لما اخْتصّت الْعَصْر بذلك.
وَأما وَجه اخْتِصَاص الْعَصْر بذلك فَلِأَنَّهُ وَقت
ارْتِفَاع الْأَعْمَال، وَوقت اشْتِغَال النَّاس بِالْبيعِ
وَالشِّرَاء فِي هَذَا الْوَقْت بِأَكْثَرَ من وَقت غَيره،
وَوقت نزُول مَلَائِكَة اللَّيْل. وَأما وَجه الْجمع
فَهُوَ أَن الْجُمْهُور تأولوا الحَدِيث فافترقوا على فرق:
فَمنهمْ من أول سَبَب التّرْك فَقَالُوا: المُرَاد من
تَركهَا جاحدا لوُجُوبهَا، أَو معترفا لَكِن مستخفا
مستهزئا بِمن أَقَامَهَا، وَفِيه نظر، لِأَن الَّذِي فهمه
الرَّاوِي الصَّحَابِيّ إِنَّمَا هُوَ التَّفْرِيط،
وَلِهَذَا أَمر بالتبكير والمبادرة إِلَيْهَا وفهمه أولى
من فهم غَيره. وَمِنْهُم من قَالَ: المُرَاد بِهِ من
تَركهَا متكاسلاً، لَكِن خرج الْوَعيد مخرج الزّجر
الشَّديد، وَظَاهره غير مُرَاد كَقَوْلِه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤمن) .
وَمِنْهُم من أول سَبَب الحبط، فَقيل: هُوَ من مجَاز
التَّشْبِيه، كَأَن الْمَعْنى: فقد أشبه من حَبط عمله.
قيل: مَعْنَاهُ كَاد أَن يحبط، وَقيل: المُرَاد من الحبط
نُقْصَان الْعَمَل فِي ذَلِك الْوَقْت الَّذِي ترفع فِيهِ
الْأَعْمَال إِلَى الله تَعَالَى، وَكَانَ المُرَاد
بِالْعَمَلِ الصَّلَاة خَاصَّة أَي: لَا يحصل على أجر من
صلى الْعَصْر، وَلَا يرْتَفع لَهُ عَملهَا حِينَئِذٍ،
وَقيل: المُرَاد بالحبط الْإِبْطَال، أَي: بَطل انتفاعه
بِعَمَلِهِ فِي وَقت ينْتَفع بِهِ غَيره فِي ذَلِك
الْوَقْت. وَفِي (شرح التِّرْمِذِيّ) ذكر أَن الحبط على
قسمَيْنِ: حَبط إِسْقَاط وَهُوَ: إحباط الْكفْر للْإيمَان
وَجَمِيع الْحَسَنَات، وحبط موازنة وَهُوَ: إحباط
الْمعاصِي للِانْتِفَاع بِالْحَسَنَاتِ عِنْد رُجْحَانهَا
عَلَيْهَا إِلَى أَن تحصل النجَاة، فَيرجع إِلَيْهِ جَزَاء
حَسَنَاته. وَقيل: المُرَاد بِالْعَمَلِ فِي الحَدِيث
الْعَمَل الَّذِي كَانَ سَببا لترك الصَّلَاة، بِمَعْنى
أَنه: لَا ينْتَفع بِهِ وَلَا يتمتع وَأقرب الْوُجُوه فِي
هَذَا مَا قَالَه ابْن بزيزة: إِن هَذَا على وَجه
التَّغْلِيظ، وَإِن ظَاهره غير مُرَاد، وَالله تَعَالَى
أعلم، لِأَن الْأَعْمَال لَا يحبطها إلاَّ الشّرك.
16 -
(5/40)
(بابُ فَضْلِ صَلاَةِ العَصْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْعَصْر. والمناسبة بَين
هَذِه الْأَبْوَاب ظَاهِرَة.
554 - حدَّثنا الحُمَيْدِي قَالَ حدَّثنا مَرْوَانُ بنُ
مُعَاوِيَةَ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ عنْ قَيْسٍ عنْ
جَرِير قَالَ كُنَّا عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَنَظَرَ إلَى القَمَرِ لَيْلَةً يَعْنِي البَدْرَ
فَقَالَ إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَما تَرَوْنَ
هَذَا القَمَرَ لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فإنِ
اسْتَطَعْتُمْ أنْ لاَ تُغْلَوْا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فافْعَلُوا ثمَّ
قَرَأَ وَسَبِّح بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ. قالَ إسْمَاعِيلُ افْعَلوا
لاَ تَفُوتَنَّكُمْ. . [/ نه
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَقبل
غُرُوبهَا) ، أَي: قبل غرُوب الشَّمْس، وَالصَّلَاة فِي
هَذَا الْوَقْت هِيَ صَلَاة الْعَصْر، وَلَو قَالَ: بَاب
فضل الصَّلَاة الْفجْر وَالْعصر لَكَانَ أولى، لِأَن
الْمَذْكُور فِي الحَدِيث وَالْآيَة صَلَاة الْفجْر
وَالْعصر كلتاهما. وَقَالَ بَعضهم: بَاب فضل صَلَاة
الْعَصْر، أَي: على جَمِيع الصَّلَوَات، إلاَّ قلت هَذَا
التَّقْدِير الْمَذْكُور فِي الحَدِيث فِيهِ تعسف، وَلِأَن
جَمِيع الصَّلَوَات مُشْتَركَة فِي الْفضل غَايَة مَا فِي
الْبَاب أَن لصلاتي الْفجْر وَالْعصر مزية على غَيرهمَا،
وَإِنَّمَا خصص الْعَصْر بِالذكر للاكتفاء، كَمَا فِي
قَوْله تَعَالَى: {سرابيل تقيكم الْحر} (لنحل: 81) . أَي:
وَالْبرد أَيْضا. وَقيل: إِنَّمَا خص الْعَصْر لِأَن فِي
وقته ترْتَفع الْأَعْمَال وَتشهد فِيهِ مَلَائِكَة
اللَّيْل، وَلِهَذَا ذكر فِي الحَدِيث: (فَإِن
اسْتَطَعْتُم) . الحَدِيث. قلت: وَفِي الْفجْر أَيْضا تشهد
فِيهِ مَلَائِكَة النَّهَار، وَالْأَوْجه فِي الْجَواب مَا
ذكرته الْآن. وَقَالَ بَعضهم: وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد
أَن الْعَصْر ذَات فَضِيلَة لَا ذَات أَفضَلِيَّة. قلت: كل
الصَّلَوَات ذَوَات فَضِيلَة، والترجمة أَيْضا تنبىء عَن
ذَلِك.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: الْحميدِي، بِضَم الْحَاء
الْمُهْملَة: واسْمه عبد الله بن الزبير بن عِيسَى بن عبد
الله بن الزبير بن عبد الله بن حميد، ونسبته إِلَى جده:
حميد الْقرشِي الْمَكِّيّ، مَاتَ سنة تسع عشرَة وماتين.
الثَّانِي: مَرْوَان بن مُعَاوِيَة بن الْحَارِث
الْفَزارِيّ، مَاتَ بِدِمَشْق سنة ثَلَاث وَتِسْعين
وَمِائَة، قبل التَّرويَة بِيَوْم فجاة. الثَّالِث:
إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة.
الرَّابِع: قيس بن أبي حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة.
الْخَامِس: جُبَير بن عبد الله بن جَابر البَجلِيّ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
القَوْل، وَوَقع عِنْد أبي مرْدَوَيْه من طَرِيق شُعْبَة
عَن إِسْمَاعِيل التَّصْرِيح بِسَمَاع إِسْمَاعِيل من قيس،
وَسَمَاع قيس عَن جرير. وَفِيه: ذكر الْحميدِي بنسبته
إِلَى أحد أجداده، وَأَنه من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مكي وكوفي. وَفِيه: رِوَايَة
التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، وهما: إِسْمَاعِيل وَقيس.
وَفِيه: أَن أحد الروَاة من المخضرمين، وَهُوَ: قيس،
فَإِنَّهُ قدم الْمَدِينَة بَعْدَمَا قبض النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، مَاتَ سنة أَربع وَثَمَانِينَ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد فِي الصَّلَاة أَيْضا
وَأخرجه فِي التَّفْسِير عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن
جرير، وَفِي التَّوْحِيد عَن عَمْرو بن عون عَن خَالِد
وهشيم وَعَن يُوسُف ابْن مُوسَى عَن عَاصِم وَعَن عَبدة بن
عبد الله. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن زُهَيْر بن
حَرْب عَن مَرْوَان بِهِ وَعَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة عَن
عبد الله بن نمير وَأبي اسامة ووكيع ثَلَاثَتهمْ عَن
اسماعيل بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن
عُثْمَان بن ابي شيبَة عَن جرير ووكيع وَأبي أُسَامَة
بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن يحيى بن كثير وَعَن
يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة
عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن أَبِيه ووكيع وَعَن
عَليّ بن مُحَمَّد عَن خَالِد ويعلى بن عبيد ووكيع وَأبي
مُعَاوِيَة، أربعتهم عَن إِسْمَاعِيل بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَيْلَة) ، قَالَ الْكرْمَانِي:
الظَّاهِر أَنه من بَاب تنَازع الْفِعْلَيْنِ عَلَيْهِ.
قلت: الظَّاهِر أَن: لَيْلَة، نصب على الظَّرْفِيَّة،
وَالتَّقْدِير: نظر إِلَى الْقَمَر فِي لَيْلَة من
اللَّيَالِي، وَهَذِه اللَّيْلَة كَانَت لَيْلَة الْبَدْر.
وَبِه صرح فِي رِوَايَة مُسلم، وَسَنذكر اخْتِلَاف
الرِّوَايَات فِيهِ. قَوْله: (لَا تضَامون) ، رُوِيَ بِضَم
التَّاء وبتخفيف الْمِيم: من الضيم، وَهُوَ التَّعَب،
وبتشديدها من: الضَّم.
(5/41)
وبفتح التَّاء وَتَشْديد الْمِيم، قَالَ
الْخطابِيّ: يرْوى على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: مَفْتُوحَة
التَّاء مُشَدّدَة الْمِيم، وَأَصله: تتضامون، حذفت
إِحْدَى التائين، أَي: لَا يضام بَعْضكُم بَعْضًا كَمَا
تَفْعَلهُ النَّاس فِي طلب الشَّيْء الْخَفي الَّذِي لَا
يسهل دركه فيتزاحمون عِنْده، يُرِيد أَن كل وَاحِد مِنْهُم
وادع مَكَانَهُ لَا ينازعه فِي رُؤْيَته أحد. وَالْآخر:
لَا تضَامون من: الضيم، أَي: لَا يضيم بَعْضكُم بَعْضًا
فِي رُؤْيَته. وَقَالَ التَّيْمِيّ: لَا تضَامون، بتَشْديد
الْمِيم، مُرَاده: أَنكُمْ لَا تختلفون إِلَى بعض فِيهِ
حَتَّى تجتمعوا للنَّظَر، وينضم بَعْضكُم إِلَى بعض
فَيَقُول وَاحِد: هُوَ ذَاك، وَيَقُول الآخر: لَيْسَ ذَاك،
كَمَا تَفْعَلهُ النَّاس عِنْد النّظر إِلَى الْهلَال أول
الشَّهْر، وبتخفيفها، مَعْنَاهُ: لَا يضيم بَعْضكُم
بَعْضًا بِأَن يَدْفَعهُ عَنهُ أَو يستأثر بِهِ دونه.
وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي أَي: لَا يَقع لكم فِي
الرُّؤْيَة ضيم وَهُوَ الذل، وَأَصله: تضيمون فالقيت
حَرَكَة الْيَاء على الضَّاد فَصَارَت الْيَاء ألفا
لانفتاح مَا قبلهَا. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: لَا
تضَامون، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَخْفِيف
الْمِيم، وَعَلِيهِ أَكثر الروَاة، وَالْمعْنَى لَا ينالكم
ضيم، والضيم أَصله: الظُّلم، وَهَذَا الضيم يلْحق
الرَّائِي من وَجْهَيْن: أَحدهمَا من مزاحمة الناظرين
لَهُ، أَي: لَا تزدحمون فِي رُؤْيَته فيراه بَعْضكُم دون
بعض، وَلَا يظلم بَعْضكُم بَعْضًا. وَالثَّانِي: من
تَأَخره عَن مقَام النَّاظر الْمُحَقق، فَكَأَن
الْمُتَقَدِّمين ضاموه، ورؤية الله عز وَجل يَسْتَوِي
فِيهَا الْكل، فَلَا ضيم وَلَا ضَرَر وَلَا مشقة. وَفِي
رِوَايَة: (لَا تضَامون، أَو لَا تضاهون) . يَعْنِي: على
الشَّك، أَي: لَا يشْتَبه عَلَيْكُم وترتابون فيعارض
بَعْضكُم بَعْضًا فِي رُؤْيَته. وَقيل: لَا تشبهونه فِي
رُؤْيَته بِغَيْرِهِ من المرئيات. وَرُوِيَ: (تضَارونَ) ،
بالراء الْمُشَدّدَة وَالتَّاء مَفْتُوحَة ومضمومة.
وَقَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُمَا لَا تتضارون أَي: لَا يضار
بَعْضكُم بَعْضًا فِي رُؤْيَته بالمخالفة. وَعَن ابْن
الْأَنْبَارِي: هُوَ تتفاعلون من الضرار، أَي: لَا
تتنازعون وتختلفون. وَرُوِيَ إيضا: لَا تضَارونَ، بِضَم
التَّاء وَتَخْفِيف الرَّاء، أَي: لَا يَقع للمرء فِي
رُؤْيَته ضير مَا بالمخالفة أَو الْمُنَازعَة أَو الخفأ.
وَرُوِيَ: تمارون، برَاء مُخَفّفَة يَعْنِي: تجادلون أَي
لَا يدخلكم شكّ قَوْله (فان اسْتَطَعْتُم ان لَا تغلبُوا)
بِلَفْظ الْمَجْهُول وَكلمَة ان مَصْدَرِيَّة
وَالتَّقْدِير ان لاتغلبوا أَي: من الْغَلَبَة بِالنَّوْمِ
والاشتغال بِشَيْء من الْأَشْيَاء الْمَانِعَة عَن
الصَّلَاة قبل طُلُوع الشَّمْس، وَقبل غُرُوبهَا قَوْله:
(فافعلوا) أَي: الصَّلَاة فِي هذَيْن الْوَقْتَيْنِ،
وَزَاد مُسلم بعد قَوْله: قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل
غُرُوبهَا يَعْنِي الْعَصْر وَالْفَجْر وَفِي رِوَايَة
ابْن مردوية من وَجه آخر عَن اسماعيل (قبل طُلُوع الشَّمْس
صَلَاة الصُّبْح، وَقبل غُرُوبهَا صَلَاة الْعَصْر) .
وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا المُرَاد بِلَفْظ:
إفعلوا؟ إِذْ لَا يَصح أَن يُرَاد إفعلوا الِاسْتِطَاعَة،
أَو إفعلوا عدم المغلوبية؟ قلت: عدم المغلوبية كِنَايَة
عَن الْإِتْيَان بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ لَازم
الْإِتْيَان، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَأتوا بِالصَّلَاةِ
فاعلين لَهَا. انْتهى. قلت: لَو وَقدر مفعول: إفعلوا، مثل
مَا قَدرنَا لَكَانَ اسْتغنى عَن هَذَا السُّؤَال
وَالْجَوَاب. قَوْله: (ثمَّ قَرَأَ) لم يبين فَاعل:
قَرَأَ، من هُوَ فِي جَمِيع رِوَايَات البُخَارِيّ.
وَقَالَ بَعضهم: الظَّاهِر أَنه النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قلت: هَذَا تخمين وحسبان. وَقَالَ
الشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي فِي شَرحه: لم يبين أحد فِي
رِوَايَته من قَرَأَ، ثمَّ سَاق من طَرِيق أبي نعيم فِي
(مستخرجه) أَن جَرِيرًا قَرَأَهُ. قلت: وَقع عِنْد مُسلم
عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن مَرْوَان بن مُعَاوِيَة
بِإِسْنَاد هَذَا الحَدِيث، ثمَّ قَرَأَ جرير، أَي
الصَّحَابِيّ. وَكَذَا أخرجه أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه)
: من طَرِيق يعلى بن عبيد عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد،
فالعجب من الشَّيْخ قطب الدّين كَيفَ ذهل عَن عُرْوَة
إِلَى مُسلم. قَوْله: (فسبح) التِّلَاوَة، وَسبح:
بِالْوَاو، لَا: بِالْفَاءِ، المُرَاد بالتسبيح:
الصَّلَاة. قَوْله: (افعلوا) ، أَي: افعلوا هَذِه
الصَّلَاة لَا تفوتكم، وَالضَّمِير الْمَرْفُوع فِيهِ يرجع
إِلَى الصَّلَاة، وَهُوَ بنُون التَّأْكِيد، وَهُوَ مدرج
من كَلَام إِسْمَاعِيل، كَذَلِك ثمَّ قَرَأَ مدرج.
ذكر الرِّوَايَات فِي قَوْله: (إِنَّكُم سَتَرَوْنَ ربكُم
كَمَا ترَوْنَ هَذَا الْقَمَر لَا تضَامون فِي رُؤْيَته) ،
وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ: (إِذْ نظر إِلَى الْقَمَر لَيْلَة
الْبَدْر، فَقَالَ: أما أَنكُمْ سَتَرَوْنَ ربكُم كَمَا
ترَوْنَ هَذَا، لَا تضَامون، أَو لَا تضاهون فِي رُؤْيَته)
. وَفِي كتاب التَّوْحِيد: (أَنكُمْ سَتَرَوْنَ ربكُم
عيَانًا) . وَفِي التَّفْسِير: (فَنظر إِلَى الْقَمَر
لَيْلَة أَربع عشرَة) ، وَعَن اللالكائي عَن البُخَارِيّ:
(أَنكُمْ ستعرضون على ربكُم وترونه كَمَا ترَوْنَ هَذَا
الْقَمَر) . وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: وَقَالَ زيد بن أبي
أنيسَة: (فتنظرون إِلَيْهِ كَمَا تنْظرُون إِلَى هَذَا
الْقَمَر) ، وَقَالَ وَكِيع: (ستعاينون) ، وَسَيَأْتِي
عِنْد البُخَارِيّ: عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد: (هَل
تضَارونَ فِي رُؤْيَة الشَّمْس فِي الظهيرة لَيست فِي
سَحَابَة؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: هَل تضَارونَ فِي رُؤْيَة
الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر لَيْسَ فِيهِ سَحَابَة؟) .
قَالُوا: لَا. قَالَ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا
تضَارونَ فِي رُؤْيَته إِلَّا كَمَا تضَارونَ فِي رُؤْيَة
أَحدهمَا) . وَعَن أبي مُوسَى عِنْده بِنَحْوِهِ، وَعَن
أبي رزين الْعقيلِيّ: (قلت: يَا رَسُول الله أكلنَا يرى
ربه منجليا بِهِ يَوْم الْقِيَامَة؟ . قَالَ: نعم. قَالَ:
وَمَا آيَة ذَلِك فِي خلقه؟ قَالَ: يَا أَبَا رزين،
أَلَيْسَ كلكُمْ يرى الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر منجليا
بِهِ؟ قَالَ:
(5/42)
فَالله أعظم وَأجل، وَذَلِكَ آيَة فِي
خلقه) . وَعند ابْن مَاجَه عَن جَابر: (بَينا أهل الْجنَّة
فِي نعيمهم إِذْ سَطَعَ لَهُم نور فَرفعُوا رؤوسهم فَإِذا
الرب قد أشرف عَلَيْهِم، فَينْظر إِلَيْهِم وَيَنْظُرُونَ
إِلَيْهِ) . وَعَن صُهَيْب عِنْد مُسلم، فَذكر حَدِيثا
فِيهِ: (فَيكْشف الْحجاب فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ،
فوَاللَّه مَا أَعْطَاهُم الله تَعَالَى شَيْئا أحب
إِلَيْهِم من النّظر إِلَيْهِ) . وَفِي (سنَن اللالكائي) :
عَن أنس وَأبي بن كَعْب وَكَعب بن عجْرَة: (سُئِلَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الزِّيَادَة فِي كتاب
الله تَعَالَى، قَالَ: النّظر إِلَى وَجهه) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ وَهُوَ على وُجُوه. الأول:
اسْتدلَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيث وَبِالْقُرْآنِ وَإِجْمَاع
الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ على إِثْبَات رُؤْيَة الله فِي
الْآخِرَة للْمُؤْمِنين، وَقد روى أَحَادِيث الرُّؤْيَة
أَكثر من عشْرين صحابيا، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم: روى
رُؤْيَة الْمُؤمنِينَ لرَبهم عز وَجل فِي الْقِيَامَة:
أَبُو بكر وَعلي بن أبي طَالب ومعاذ بن جبل وَابْن
مَسْعُود وَأَبُو مُوسَى وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر
وَحُذَيْفَة وَأَبُو أُمَامَة وَأَبُو هُرَيْرَة وَجَابِر
وَأنس وعمار بن يَاسر وَزيد بن ثَابت وَعبادَة بن
الصَّامِت وَبُرَيْدَة بن حصيب وجنادة بن أبي أُميَّة
وفضالة بن عبيد وَرجل لَهُ صُحْبَة بِالنَّبِيِّ، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ ذكر أَحَادِيثهم بأسانيد غالبها جيد،
وَذكر أَبُو نعيم الْحَافِظ فِي (كتاب تثبيت النّظر) أَبَا
سعيد الْخُدْرِيّ وَعمارَة بن رؤيبة وَأَبا رزين
الْعقيلِيّ وَأَبا بَرزَة. وَزَاد الْآجُرِيّ فِي (كتاب
الشَّرِيعَة) وَأَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد
الْمَعْرُوف بِأبي الشَّيْخ فِي (كتاب السّنة الْوَاضِحَة)
تأليفهما: عدي بن حَاتِم الطَّائِي بِسَنَد جيد، والرؤية
مُخْتَصَّة بِالْمُؤْمِنِينَ مَمْنُوعَة من الْكفَّار.
وَقيل: يرَاهُ مُنَافِقُو هَذِه الْأمة، وَهَذَا ضَعِيف،
وَالصَّحِيح أَن الْمُنَافِقين كالكفار بِاتِّفَاق
الْعلمَاء وَعَن ابْن عمر وَحُذَيْفَة: من أهل الْجنَّة من
ينظر إِلَى وَجهه غدْوَة وَعَشِيَّة.
وَمنع من ذَلِك الْمُعْتَزلَة والخوارج وَبَعض المرجئة،
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِوُجُوه: الأول: قَوْله تَعَالَى:
{لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَهُوَ يدْرك الْأَبْصَار}
(الْأَنْعَام: 103) . وَقَالُوا: يلْزم من نفي الْإِدْرَاك
بالبصر نفي الرُّؤْيَة. الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {لن
تراني} (الْأَعْرَاف: 143) . و: لن، للتأييد بِدَلِيل
قَوْله تَعَالَى: {قل لن تتبعونا} (الْفَتْح: 15) . وَإِذا
ثَبت فِي حق مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عدم
الرُّؤْيَة ثَبت فِي حق غَيره، الثَّالِث: قَوْله
تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا
أَو من وَرَاء حجاب أَو يُرْسل رَسُولا} (الشورى: 51) .
فالآية دلّت على أَن كل من يتَكَلَّم الله مَعَه فَإِنَّهُ
لَا يرَاهُ، فَإِذا ثَبت عدم الرُّؤْيَة فِي وَقت
الْكَلَام ثَبت فِي غير وَقت الْكَلَام ضَرُورَة، أَنه لَا
قَائِل بِالْفَصْلِ. الرَّابِع: أَن الله تَعَالَى مَا ذكر
فِي طلب الرُّؤْيَة فِي الْقُرْآن إلاَّ وَقد استعظمه وذم
عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي آيَات: مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى:
{وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لن نؤمن لَك حَتَّى نرى الله
جهرة فأخذتكم الصاعقة وَأَنْتُم تنْظرُون} (الْبَقَرَة:
55) . الْخَامِس: لَو صحت رُؤْيَة الله تَعَالَى لرأيناه
الْآن، والتالي بَاطِل، والمقدم مثله.
وَلأَهل السّنة مَا ذَكرْنَاهُ من الْأَحَادِيث
الصَّحِيحَة. قَوْله تَعَالَى: {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة
إِلَى رَبهَا ناظرة} (الْقِيَامَة: 22) . وَقَوله
تَعَالَى: {كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون}
(المطففين: 55) .، بِهَذَا يدل على أَن الْمُؤمنِينَ لَا
يكونُونَ محجوبين، وَالْجَوَاب عَن قَوْله تَعَالَى: لَا
تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} (الْأَنْعَام: 103) . أَن المُرَاد
من الْإِدْرَاك الْإِحَاطَة، وَنحن أَيْضا نقُول بِهِ،
وَعَن قَوْله: {لن تراني} (الْأَعْرَاف: 143) . أَنا لَا
نسلم أَن: لن، تدل على التَّأْبِيد، بِدَلِيل قَوْله
تَعَالَى: {وَلنْ يَتَمَنَّوْهُ أبدا} (الْبَقَرَة: 95) .
مَعَ أَنهم يتمنونه فِي الْآخِرَة. وَعَن قَوْله: {وَمَا
كَانَ لبشر} (الشورى: 51) . الْآيَة أَن الْوَحْي كَلَام
يسمع بالسرعة، وَلَيْسَ فِيهِ دلَالَة على كَون
الْمُتَكَلّم محجوبا عَن نظر السَّامع أَو غير مَحْجُوب
عَن نظره، وَعَن قَوْله: {وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى}
(الْبَقَرَة: 55) . الْآيَة أَن الاستعظام لِمَ لَا يجوز
أَن يكون لأجل طَلَبهمْ الرُّؤْيَة على سَبِيل التعنت
والعناد؟ بِدَلِيل الاستعظام فِي نزُول الْمَلَائِكَة فِي
قَوْله: {لَوْلَا أنزل علينا الْمَلَائِكَة} (الْفرْقَان:
21) . وَلَا نزاع فِي جَوَاز ذَلِك، وَالْجَوَاب عَن
قَوْلهم: لَو صحت رُؤْيَة الله تَعَالَى ... إِلَخ أَن عدم
الْوُقُوع لَا يسْتَلْزم عدم الْجَوَاز، فَإِن قَالُوا:
الرُّؤْيَة لَا تتَحَقَّق إِلَّا بِثمَانِيَة أَشْيَاء:
سَلامَة الحاسة، وَكَون الشَّيْء بِحَيْثُ يكون جَائِز
الرُّؤْيَة، وَأَن يكون المرئي مُقَابلا للرائي، أَو فِي
حكم الْمُقَابل، فَالْأول كالجسم المحاذي للرائي
وَالثَّانِي كالأعراض المرئية، فَإِنَّهَا لَيست مُقَابلَة
للرائي إِذْ الْعرض لَا يكون مُقَابلا للجسم، وَلكنهَا
حَالَة فِي الْجِسْم الْمُقَابل للرائي فَكَانَ فِي حكم
الْمُقَابل، وَأَن لَا يكون المرئي فِي غَايَة الْقرب
وَلَا فِي غَايَة الْبعد، وَأَن لَا يكون فِي غَايَة الصغر
وَلَا فِي غَايَة اللطافة، وَأَن لَا يكون بَين الرَّائِي
والمرئي حجاب. قُلْنَا: الشَّرَائِط السِّتَّة الْأَخِيرَة
لَا يُمكن اعْتِبَارهَا إلاَّ فِي رُؤْيَة الْأَجْسَام،
وَالله تَعَالَى لَيْسَ بجسم، فَلَا يُمكن اعْتِبَار هَذِه
الشَّرَائِط فِي رُؤْيَته، وَلَا يعْتَبر فِي حُصُول
الرُّؤْيَة إلاَّ أَمْرَانِ: سَلامَة الحاسة، وَكَونه
بِحَيْثُ يَصح أَن يرى، وَهَذَانِ الشرطان حاصلان. فَإِن
قلت: الْكَاف، فِي: كَمَا ترَوْنَ، للتشبيه، وَلَا بُد أَن
تكون مُنَاسبَة بَين الرَّائِي والمرئي؟ قلت: معنى
التَّشْبِيه فِيهِ أَنكُمْ تَرَوْنَهُ رُؤْيَة مُحَققَة
لَا شكّ فِيهَا وَلَا مشقة وَلَا خَفَاء، كَمَا ترَوْنَ
الْقَمَر
(5/43)
كَذَلِك فَهُوَ تَشْبِيه للرؤية
بِالرُّؤْيَةِ لَا المرئي بالمرئي.
الْوَجْه الثَّانِي: فِيهِ زِيَادَة شرف الصَّلَاتَيْنِ،
وَذَلِكَ لتعاقب الْمَلَائِكَة فِي وقتيهما، وَلِأَن وَقت
صَلَاة الصُّبْح وَقت لَذَّة النّوم كَمَا قيل:
(ألذ الْكرَى عِنْد الصَّباح يطيب)
وَالْقِيَام فِيهِ أشق على النَّفس من الْقيام فِي غَيره،
وَصَلَاة الْعَصْر وَقت الْفَرَاغ عَن الصناعات وإتمام
الْوَظَائِف، وَالْمُسلم إِذا حَافظ عَلَيْهَا مَعَ مَا
فِيهِ من التثاقل والتشاغل فَلِأَن يحافظ على غَيرهَا
بِالطَّرِيقِ الأولى.
الْوَجْه الثَّالِث: مَا قَالَه الْخطابِيّ إِن قَوْله:
(إفعلوا) ، يدل على أَن الرُّؤْيَة قد يُرْجَى نيلها
بالمحافظة على هَاتين الصَّلَاتَيْنِ.
555 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُف قَالَ حدَّثنا
مالِكٌ عنْ أبي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أَبي
هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رَسُولَ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ
مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ ومَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ
وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ وَصَلاَةِ العَصْرِ
ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ باتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ
وهْوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي
فَيَقُولُونَ تَرَكْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ
وَأَتَيْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ويجتمعون فِي صَلَاة
الْفجْر وَصَلَاة الْعَصْر) وَقد ذكرنَا أَن اقْتِصَاره
فِي التَّرْجَمَة على الْعَصْر من بَاب الإكتفاء.
1 - ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة، وَقد ذكرُوا غير مرّة،
وَأبي الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد
الرَّحْمَن ابْن هُرْمُز.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع، والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَرُوَاته مدنيون مَا خلا عبد الله بن
يُوسُف فَإِنَّهُ تنيسي، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن إِسْمَاعِيل وقتيبة. وَأخرجه
مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْبعُوث عَن قُتَيْبَة وَعَن
الْحَارِث بن مِسْكين عَن ابْن الْقَاسِم، الْكل عَن
مَالك.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه: قَوْله: (يتعاقبون فِيكُم
مَلَائِكَة) فَاعل: يتعاقبون، مُضْمر وَالتَّقْدِير:
مَلَائِكَة يتعاقبون. وَقَوله: (مَلَائِكَة) بدل من
الضَّمِير الَّذِي فِيهِ، إو بَيَان كَأَنَّهُ قيل: من هم؟
فَقيل: مَلَائِكَة. وَهَذَا مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ فِيهِ
وَفِي نَظَائِره، وَقَالَ الْأَخْفَش وَمن تَابعه: إِن
إِظْهَار ضمير الْجمع والتثنية فِي الْفِعْل إِذا تقدم
جَائِز، وَهِي لُغَة بني الْحَارِث. وَقَالُوا: هُوَ
نَحْو: أكلوني البراغيث. وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {وأسروا
النَّجْوَى الَّذين ظلمُوا} (الْأَنْبِيَاء: 3) . وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: هَذِه لُغَة فَاشِية وَلها وَجه فِي
الْقيَاس صَحِيح، وَعَلَيْهَا حمل الْأَخْفَش قَوْله
تَعَالَى: {وأسروا النَّجْوَى الَّذين ظلمُوا}
(الْأَنْبِيَاء: 3) . وَقيل: هَذَا الطَّرِيق الْمَذْكُور
هُنَا اخْتَصَرَهُ الرَّاوِي، وَأَصله: الْمَلَائِكَة
يتعاقبون مَلَائِكَة بِاللَّيْلِ وملائكة بِالنَّهَارِ،
وَبِهَذَا اللَّفْظ رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي بَدْء الْخلق
من طَرِيق شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن أبي الزِّنَاد: (إِن
الْمَلَائِكَة يتعاقبون فِيكُم) . فَاخْتلف فِيهِ عَن أبي
الزِّنَاد. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا من طَرِيق مُوسَى
بن عقبَة عَن أبي الزِّنَاد بِلَفْظ: (إِن الْمَلَائِكَة
يتعاقبون فِيكُم) . فَاخْتلف فِيهِ على أبي الزِّنَاد
فَالظَّاهِر أَنه كَانَ تَارَة يذكرهُ هَكَذَا، وَتارَة
هَكَذَا، وَهَذَا يُقَوي قَول هَذَا الْقَائِل، وَيُؤَيّد
ذَلِك أَن غير الْأَعْرَج من أَصْحَاب أبي هُرَيْرَة قد
رَوَوْهُ تَاما، فَأخْرجهُ أَحْمد وَمُسلم من طَرِيق همام
بن مُنَبّه عَن أبي هُرَيْرَة مثل رِوَايَة مُوسَى بن
عقبَة، لَكِن بِحَذْف: إِن، من أَوله. وَأخرجه ابْن
خُزَيْمَة والسراج من طَرِيق أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة
بِلَفْظ: (إِن لله مَلَائِكَة يتعاقبون) ، وَهَذِه
الطَّرِيقَة أخرجهَا الْبَزَّار أَيْضا. وَأخرجه أَبُو
نعيم فِي (الْحِلْية) بِإِسْنَاد صَحِيح من طَرِيق أبي
يُونُس عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (إِن لله مَلَائِكَة
فِيكُم يتعاقبون) . وَمعنى: يتعاقبون، تَأتي طَائِفَة عقيب
طَائِفَة، وَمِنْه: تعقيب الجيوش، وَهُوَ أَن يذهب قوم
وَيَأْتِي آخَرُونَ. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَإِنَّمَا
يكون التَّعَاقُب بَين طائفتين أَو رجلَيْنِ بِأَن يَأْتِي
هَذَا مرّة ويعقبه هَذَا، وَمِنْه: تعقيب الجيوش، أَن
يُجهز الْأَمِير بعثا إِلَى مُدَّة، ثمَّ يَأْذَن لَهُم
فِي الرُّجُوع بعد أَن يُجهز غَيرهم إِلَى مُدَّة، ثمَّ
يَأْذَن لَهُم فِي الرُّجُوع بعد أَن يُجهز الْأَوَّلين
فَإِن قلت: مَا وَجه تَكْرِير تنكيره مَلَائِكَة؟ قلت:
ليدل على أَن الثَّانِيَة غير الأولى. كَقَوْلِه تَعَالَى:
{غدوها شهر ورواحها شهر} (سبأ: 12) . وَأما الْمَلَائِكَة
فَعِنْدَ أَكثر الْعلمَاء هم الْحفظَة، فسؤاله لَهُم
إِنَّمَا هُوَ سُؤال عَمَّا أَمرهم بِهِ من حفظهم
(5/44)
لأعمالهم وكتبهم إِيَّاهَا عَلَيْهِم.
وَقَالَ عِيَاض، رَحمَه الله: وَقيل: يحْتَمل أَن
يَكُونُوا غير الْحفظَة، فسؤاله لَهُم إِنَّمَا هُوَ على
جِهَة التوبيخ لمن قَالَ: {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد
فِيهَا} (الْبَقَرَة: 30) . وَإنَّهُ اظهر لَهُم مَا سبق
فِي علمه بقوله (اني اعْلَم مَا لَا تعلمُونَ) وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: وَهَذِه حِكْمَة اجْتِمَاعهم فِي هَاتين
الصَّلَاتَيْنِ، أَو يكون سُؤَاله لَهُم استدعاءً لشهادتهم
لَهُم، وَلذَلِك قَالُوا: (أتيناهم وهم يصلونَ وتركناهم
وهم يصلونَ) . وَهَذَا من خَفِي لطفه وَجَمِيل ستره، إِذا
لم يطلعهم إلاَّ على حَال عِبَادَتهم، وَلم يطلعهم على
حَالَة شهواتهم وَمَا يشبهها. انْتهى. هَذَا الَّذِي
قَالَه يُعْطي أَنهم غير الْحفظَة، لِأَن الْحفظَة يطلعون
على أَحْوَالهم كلهَا، اللَّهُمَّ إلاَّ أَن تكون الْحفظَة
غير الْكَاتِبين، فَيتَّجه مَا قَالَه. وَالظَّاهِر أَنهم
غَيرهمَا، لِأَنَّهُ قد جَاءَ فِي بعض الْأَحَادِيث: (إِذا
مَاتَ العَبْد جلس كاتباه عِنْد قَبره يستغفران لَهُ
ويصليان عَلَيْهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة) . يُوضحهُ مَا
رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر بِسَنَد لَهُ عَن أبي عُبَيْدَة بن
عبد الله عَن أَبِيه أَنه كَانَ يَقُول: (يتداول الحارسان
من مَلَائِكَة الله تَعَالَى: حارس اللَّيْل وحارس
النَّهَار، عِنْد طُلُوع الْفجْر) . وَعَن الضَّحَّاك فِي
قَوْله تَعَالَى: {وَقُرْآن الْفجْر} (الْإِسْرَاء: 78) .
قَالَ: (تشهد مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة النَّهَار
يشْهدُونَ أَعمال بني آدم) . وَفِي تَفْسِير ابْن أبي
حَاتِم: تشهده الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ.
قَوْله: (ويجتمعون فِي صَلَاة الْفجْر وَصَلَاة الْعَصْر)
اجْتِمَاعهم فِي هَاتين الصَّلَاتَيْنِ لطف من الله
تَعَالَى بعباده الْمُؤمنِينَ، إِذْ جعل اجْتِمَاعهم
عِنْدهم ومفارقتهم لَهُم فِي أَوْقَات عِبَادَتهم،
واجتماعهم على طَاعَة رَبهم، فَتكون شَهَادَتهم لَهُم
بِمَا شاهدوه من الْخَيْر. وَقَالَ ابْن حبَان فِي
(صَحِيحه) : فِيهِ بَيَان أَن مَلَائِكَة اللَّيْل تنزل
وَالنَّاس فِي صَلَاة الْعَصْر، وَحِينَئِذٍ تصعد
مَلَائِكَة النَّهَار، وَهَذَا ضد قَول من زعم: أَن
مَلَائِكَة اللَّيْل تنزل بعد غرُوب الشَّمْس. فَإِن قلت:
مَا وَجه ذكر هَاتين الصَّلَاتَيْنِ عِنْد ذكر الرُّؤْيَة
(؟ قلت: لما ثَبت لَهما من الْفضل على غَيرهمَا من
اجْتِمَاع الْمَلَائِكَة فيهمَا وَرفع الْأَعْمَال وَغير
ذَلِك، ناسب أَن يجازي المحافظ عَلَيْهِمَا بِأَفْضَل
العطايا، وَهُوَ النّظر إِلَى الله تَعَالَى. وَالله أعلم.
فَإِن قلت: التَّعَاقُب مُغَاير للاجتماع فَيكون بَين
قَوْله: (يتعاقبون) ، وَبَين قَوْله: (يَجْتَمعُونَ)
مُنَافَاة؟ قلت: كل مِنْهُمَا فِي حَالَة، فَلَا
مُنَافَاة. فَإِن قلت: شهودهم مَعَهم الصَّلَاة فِي
الْجَمَاعَة أم مُطلقًا؟ قلت: اللَّفْظ يحْتَمل
للْجَمَاعَة وَغَيرهم، وَلَكِن الظَّاهِر أَن ذَلِك فِي
الْجَمَاعَة. قَوْله: (ثمَّ يعرج) ، من: عرج يعرج عروجا،
من بَاب: نصر ينصر: والعروج: الصعُود، وَيُقَال: عرج يعرج
عرجانا إِذا عجز عَن شَيْء أَصَابَهُ، وعرج يعرج عرجا:
إِذا صَار أعرج أَو كَانَ خلقه فِيهِ، وعرج بِالتَّشْدِيدِ
تعريجا: إِذا قَامَ. قَوْله: (الَّذين باتوا فِيكُم) ،
الْخطاب فِيهِ وَفِي قَوْله: (يتعاقبون فِيكُم) ، للمصلين.
وَقَالَ بَعضهم: أَي: الْمُصَلِّين أَو مُطلق الْمُؤمنِينَ
قلت: لَا يَصح أَن يكون مُطلق الْمُؤمنِينَ، لِأَن هَذِه
الْفَضِيلَة للمصلين، وَالدَّلِيل على ذَلِك قَوْله:
(يَجْتَمعُونَ فِي صَلَاة الْفجْر وَصَلَاة الْعَصْر) .
وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه التَّخْصِيص
بالذين باتوا وَترك الَّذين ظلوا؟ قلت: إِمَّا للاكتفاء
بِذكر أَحدهمَا عَن الآخر، كَقَوْلِه تَعَالَى: {سرابيل
تقيكم الْحر} (النَّحْل: 81) . وَإِمَّا لِأَن اللَّيْل
مَظَنَّة الْمعْصِيَة ومظنة الاسْتِرَاحَة، فَلَمَّا لم
يعصوا وَاشْتَغلُوا بِالطَّاعَةِ فالنهار أولى بذلك،
وَإِمَّا لِأَن حكم طرفِي النَّهَار يعلم من طرفِي
اللَّيْل، فَذكره يكون تَكْرَارا. انْتهى. وَقيل:
الْحِكْمَة فِي ذَلِك أَن مَلَائِكَة اللَّيْل إِذا صلوا
الْفجْر عرجوا فِي الْحَال، وملائكة النَّهَار إِذا صلوا
الْعَصْر لَبِثُوا إِلَى آخر النَّهَار لضبط بَقِيَّة عمل
النَّهَار. وَقَالَ بَعضهم: وَهَذَا ضَعِيف، لِأَنَّهُ
يَقْتَضِي أَن مَلَائِكَة النَّهَار لَا يسْأَلُون، وَهُوَ
خلاف ظَاهر الحَدِيث. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره ضَعِيف،
لِأَن لبث مَلَائِكَة النَّهَار لضبط بَقِيَّة عمل
النَّهَار لَا يسْتَلْزم عدم السُّؤَال. وَقيل: الْحِكْمَة
فِي ذَلِك بِنَاء على أَن الْمَلَائِكَة هم الْحفظَة أَنهم
لَا يبرحون عَن مُلَازمَة بني آدم، وملائكة اللَّيْل هم
الَّذين يعرجون ويتعاقبون، ويؤيدها مَا رَوَاهُ أَبُو نعيم
فِي (كتاب الصَّلَاة) لَهُ، من طَرِيق الْأسود بن يزِيد
النَّخعِيّ، قَالَ: (يلتقي الحارسان) ، أَي: مَلَائِكَة
اللَّيْل وملائكة النَّهَار، (عِنْد صَلَاة الصُّبْح
فَيسلم بَعضهم على بعض فتصعد مَلَائِكَة اللَّيْل وتلبث
مَلَائِكَة النَّهَار) . وَقيل: يحْتَمل أَن يكون العروج
إِنَّمَا يَقع عِنْد صَلَاة الْفجْر خَاصَّة، وَأما
النُّزُول فَيَقَع فِي الصَّلَاتَيْنِ مَعًا، وَفِيه
التَّعَاقُب، وَصورته أَن تنزل طَائِفَة عِنْد الْعَصْر،
وتبيت ثمَّ تنزل طَائِفَة ثَانِيَة عِنْد الْفجْر، فتجتمع
الطائفتان فِي صَلَاة الْفجْر، ثمَّ يعرج الَّذين باتوا
فَقَط، وَيسْتَمر الَّذين نزلُوا وَقت الْفجْر إِلَى
الْعَصْر، فتنزل الطَّائِفَة الْأُخْرَى فَيحصل
اجْتِمَاعهم عِنْد الْعَصْر أَيْضا، وَلَا يصعد مِنْهُم
أحد، بل تبيت الطائفتان أَيْضا ثمَّ تعرج إِحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ، وَيسْتَمر ذَلِك، فَتَصِح صُورَة
التَّعَاقُب مَعَ اخْتِصَاص النُّزُول بالعصر، والعروج
بِالْفَجْرِ، فَلهَذَا خص السُّؤَال بالذين باتوا. وَقيل:
إِن قَوْله: فِي هَذَا الحَدِيث، أَعنِي: حَدِيث الْبَاب.
(ويجتمعون فِي صَلَاة الْفجْر وَصَلَاة الْعَصْر) وهم،
لِأَنَّهُ ثَبت من طرق كَثِيرَة
(5/45)
أَن الِاجْتِمَاع فِي صَلَاة الْفجْر من
غير ذكر صَلَاة الْعَصْر، كَمَا فِي (الصَّحِيحَيْنِ) من
طَرِيق سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة فِي اثناء
حَدِيث، قَالَ فِيهِ: (ويجتمع مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة
النَّهَار فِي صَلَاة الْفجْر) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَة:
واقرأوا إِن شِئْتُم: {وَقُرْآن الْفجْر إِن قُرْآن
الْفجْر كَانَ مشهودا} (الْإِسْرَاء: 78) : وَفِي
التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من وَجه آخر بِإِسْنَاد
صَحِيح عَن أبي هُرَيْرَة فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن
قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا} (الْإِسْرَاء: 78) . قَالَ:
تشهده مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة النَّهَار. وروى ابْن
مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء
مَرْفُوعا نَحوه، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لَيْسَ فِي
هَذَا دفع للرواية الَّتِي ذكر فِيهَا الْعَصْر. قلت:
مُحَصل كَلَامه أَن ذكر الْفجْر فِي الحَدِيث الَّذِي
اسْتدلَّ بِهِ الْقَائِل الْمَذْكُور على أَن ذكر الْعَصْر
وهم غير صَحِيح، لِأَن ذكر الْفجْر لَا يسْتَلْزم نفي ذكر
الْعَصْر، وَلَا وَجه لنسبة الرَّاوِي الثِّقَة إِلَى
الْوَهم مَعَ إِمْكَان التَّوْفِيق بَين الرِّوَايَات،
مَعَ أَن الزِّيَادَة من الثِّقَة الْعدْل مَقْبُولَة، أَو
يكون الِاقْتِصَار فِي الْفجْر لكَونهَا جهرية، وَلقَائِل
أَن يَقُول: لِمَ لَا يجوز أَن يكون تَقْصِير من بعض
الروَاة فِي تَركهم سُؤال الَّذين أَقَامُوا فِي
النَّهَار؟ ولِمَ لَا يجوز أَن يحمل قَوْله: الَّذين
باتوا، على مَا هُوَ أَعم من الْمبيت بِاللَّيْلِ
وبالإقامة بِالنَّهَارِ، فَلَا يخْتَص ذَلِك حِينَئِذٍ
بلَيْل دون نَهَار، وَلَا نَهَار دون ليل، بل كل طَائِفَة
مِنْهُم إِذا صعدت سُئِلت؟ وَيكون فِيهِ اسْتِعْمَال لفظ:
بَات، فِي أَقَامَ مجَازًا، وَيكون قَوْله: فيسألهم، أَي:
كلاًّ من الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْوَقْت الَّذِي تصعد
فِيهِ؟ وَيدل على هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي
(صَحِيحه) والسراج فِي (مُسْنده) جَمِيعًا عَن يُوسُف بن
مُوسَى عَن جرير عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي
هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (تَجْتَمِع مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة النَّهَار
فِي صَلَاة الْفجْر وَصَلَاة الْعَصْر، فيجتمعون فِي
صَلَاة الْفجْر، فتصعد مَلَائِكَة اللَّيْل وَتثبت
مَلَائِكَة النَّهَار، ويجتمعون فِي صَلَاة الْعَصْر،
فتصعد مَلَائِكَة النَّهَار وتبيت مَلَائِكَة اللَّيْل،
فيسألهم رَبهم: كَيفَ تركْتُم عبَادي؟) الحَدِيث، وَهَذَا
فِيهِ التَّصْرِيح بسؤال كل من الطَّائِفَتَيْنِ. قَوْله:
(فيسألهم) الْحِكْمَة فِيهِ استدعاء شَهَادَتهم لبني آدم
بِالْخَيرِ، واستعطافهم بِمَا يَقْتَضِي الْعَطف
عَلَيْهِم، وَقيل: كَانَ ذَلِك لإِظْهَار الْحِكْمَة فِي
خلق بني آدم فِي مُقَابلَة من قَالَ من الْمَلَائِكَة
{أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا} (الْبَقَرَة: 30) .
الْآيَة وَالْمعْنَى: أَنه قد وجد فيهم من يسبح ويقدس
مثلكُمْ بِنَصّ شهادتكم. وَقَالَ عِيَاض: هَذَا السُّؤَال
على سَبِيل التَّعَبُّد للْمَلَائكَة، كَمَا أمروا أَن
يكتبوا أَعمال بني آدم، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أعلم من الْجَمِيع بِالْجَمِيعِ. قَوْله: (كَيفَ تركْتُم؟)
قَالَ ابْن أبي حَمْزَة: وَقع السُّؤَال عَن آخر
الْأَعْمَال، لِأَن الْأَعْمَال بخواتيمها. قَالَ: والعباد
المسؤول عَنْهُم هم الَّذين ذكرُوا فِي قَوْله تَعَالَى:
{إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان} (الْحجر: 242
والإسراء: 65) . قَوْله: (تركناهم وهم يصلونَ وأتيناهم وهم
يصلونَ) . فَإِن قلت: كَانَ مُقْتَضى الْحَال أَن يبدؤا
أَولا بالإتيان ثمَّ بِالتّرْكِ، وَلم يراعوا التَّرْتِيب؟
قلت: لِأَن الْمَقْصُود هُوَ الْإِخْبَار عَن صلَاتهم،
والأعمال بخواتيمها، فَنَاسَبَ أَن يخبروا عَن آخر
أَعْمَالهم قبل أَولهَا. وَقَالَ ابْن التِّين: الْوَاو،
فِي قَوْله: (وهم يصلونَ) وَاو الْحَال، أَي: تركناهم على
هَذِه الْحَال. فَإِن قلت: يلْزم من هَذَا أَنهم فارقوهم
قبل انْقِضَاء الصَّلَاة، فَلم يشهدوها مَعَهم، وَالْخَبَر
نَاطِق بِأَنَّهُم شهدوها. قلت: الْخَبَر مَحْمُول على
أَنهم شهدُوا الصَّلَاة مَعَ من صلاهَا فِي أول وَقتهَا،
وشهدوا من دخل فِيهَا بعد ذَلِك، وَمن شرع فِي إسباب
ذَلِك. فَإِن قيل: مَا الْفَائِدَة فِي قَوْلهم (وأتيناهم)
؟ وَكَانَ السُّؤَال عَن كَيْفيَّة التّرْك؟ وَأجِيب:
بِأَنَّهُم زادوا فِي الْجَواب إِظْهَارًا لبَيَان
فضيلتهم، وحرصا على ذكر مَا يُوجب مغفرتهم، كَمَا هُوَ
وظيفتهم فِيمَا أخبر الله عَنْهُم بقوله:
{وَيَسْتَغْفِرُونَ للَّذين آمنُوا} (غَافِر: 7)
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن الصَّلَاة أَعلَى
الْعِبَادَات، لِأَنَّهُ عَلَيْهَا وَقع السُّؤَال
وَالْجَوَاب. وَفِيه: التَّنْبِيه على أَن الْفجْر
وَالْعصر من أعظم الصَّلَوَات، كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَفِيه:
الْإِشَارَة إِلَى شرف هذَيْن الْوَقْتَيْنِ، وَقد ورد أَن
الرزق يقسم بعد صَلَاة الصُّبْح، وَأَن الْأَعْمَال ترفع
آخر النَّهَار، فَمن كَانَ حِينَئِذٍ فِي طَاعَة بورك فِي
رزقه وَفِي عمله. وَفِيه: إِشَارَة إِلَى تشريف هَذِه
الْأمة على غَيرهَا، وَيلْزم من ذَلِك تشريف نَبينَا على
غَيره من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام. وَفِيه:
الإيذان بِأَن الْمَلَائِكَة تحب هَذِه الْأمة ليزدادوا
فيهم حبا ويتقربون بذلك إِلَى الله تَعَالَى. وَفِيه:
الدّلَالَة على أَن الله تَعَالَى يتَكَلَّم مَعَ
مَلَائكَته. وَفِيه: الْحَث على المثابرة على صَلَاة
الْعَصْر، لِأَنَّهَا تَأتي فِي وَقت اشْتِغَال النَّاس،
وَقَالَ بَعضهم: اسْتدلَّ بعض الْحَنَفِيَّة بقوله: (ثمَّ
يعرج الَّذين باتوا فِيكُم) على اسْتِحْبَاب تَأْخِير
صَلَاة الْعَصْر، ليَقَع عروج الْمَلَائِكَة إِذا فرغ
مِنْهَا آخر النَّهَار، ثمَّ قَالَ: وَتعقب بِأَن ذَلِك
غير لَازم، إِذْ لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يَقْتَضِي أَنهم
لَا يصعدون إِلَّا سَاعَة الْفَرَاغ من الصَّلَاة، بل
جَائِز أَن تفرغ الصَّلَاة ويتأخروا بعد ذَلِك إِلَى آخر
النَّهَار، وَلَا مَانع أَيْضا من أَن تصعد مَلَائِكَة
النَّهَار وَبَعض النَّهَار بَاقٍ، وَيُقِيم مَلَائِكَة
اللَّيْل. انْتهى. قلت هَذَا
(5/46)
الْقَائِل ذكر فِي هَذَا الْموضع نَاقِلا
عَن الْبَعْض أَن مَلَائِكَة اللَّيْل إِذا صلوا الْفجْر
عرجوا فِي الْحَال، وملائكة النَّهَار إِذا صلوا الْعَصْر
لَبِثُوا إِلَى آخر النَّهَار لضبط بَقِيَّة عمل
النَّهَار، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا ضَعِيف لِأَنَّهُ
يَقْتَضِي أَن مَلَائِكَة النَّهَار لَا يسْأَلُون، وَهُوَ
خلاف ظَاهر الحَدِيث، وَالْعجب مِنْهُ أَنه نَاقض كَلَامه
الَّذِي ذكره فِي التعقيب على مَا لَا يخفى، وبمثل هَذَا
التَّصَرُّف لَا يتَوَجَّه الرَّد على المستدلي بقوله:
(ثمَّ يعرج الَّذين باتوا فِيكُم) على اسْتِحْبَاب
تَأْخِير صَلَاة الْعَصْر.
17 - (بابُ منْ أدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ العَصْرِ قَبْلَ
الغُرُوبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من أدْرك رَكْعَة من
صَلَاة الْعَصْر قبل غرُوب الشَّمْس. قيل: جَوَاب: من،
الَّتِي تضمن معنى الشَّرْط مَحْذُوف. قلت: لَا نسلم أَن:
من، هَهُنَا شَرْطِيَّة، وَلكنهَا مَوْصُولَة، يُوضح ذَلِك
مَا قدرناه. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا لم يَأْتِ المُصَنّف
فِي التَّرْجَمَة بِجَوَاب الشَّرْط لما فِي لفظ الْمَتْن
الَّذِي أوردهُ من الِاحْتِمَال، وَهُوَ قَوْله: (فليتم
صلَاته) ، فَإِن الْأَمر بالإتمام أَعم من أَن يكون مَا
يتمه أَدَاء أَو قَضَاء. قلت: لَا بُد للشّرط من جَوَاب،
سَوَاء كَانَ ملفوظا أَو مُقَدرا، وَالْجَوَاب فِي
الحَدِيث مَذْكُور، وَكَون الْأَمر بالإتمام أَعم لَيست
قرينَة لترك جَوَاب الشَّرْط فِي التَّرْجَمَة، وَكَانَ
يَنْبَغِي أَن يَقُول: جَوَاب الشَّرْط فِي التَّرْجَمَة
مَحْذُوف تَقْدِيره: فليتم، ويبينه جَوَاب الشَّرْط
الَّذِي فِي متن الحَدِيث، وَلَكِن التَّقْدِير الَّذِي
قدرناه لَا يحوجنا إِلَى تَقْدِير جَوَاب الشَّرْط وَلَا
إِلَى القَوْل بِأَن: من، شَرْطِيَّة.
556 - حدَّثنا أبُو نَعِيمٍ قَالَ حدَّثنا شَيْبَانُ عَنْ
يَحْيَى عنْ أبي سَلَمَةَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِذا أَدْرَكَ أحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلاَةِ
العَصْرِ قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ
صَلاَتَهُ وَإِذَا أدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلاَةِ
الصُّبْحِ قَبْلَ أنْ تَطْلَعُ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ
صَلاَتَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (إِذا أدْرك
أحدكُم سَجْدَة من صَلَاة الْعَصْر) . (فَإِن قلت:
الْمَذْكُور فِي التَّرْجَمَة رَكْعَة، وَفِي الحَدِيث:
سَجْدَة، والترجمة فِي الْإِدْرَاك من الْعَصْر،
والْحَدِيث فِي: الْعَصْر وَالصُّبْح، فَلَا تطابق؟ قلت:
المُرَاد من السَّجْدَة الرَّكْعَة على مَا يَجِيء إِن
شَاءَ الله تَعَالَى، وَترك الصُّبْح فِيهَا من بَاب
الِاكْتِفَاء.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن،
وشيبان بن عبد الرَّحْمَن التَّمِيمِي، وَيحيى بن أبي
كثير، وَأَبُو سَلمَة عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن
عَوْف.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
القَوْل. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وبصري
ومدني.
ذكر الِاخْتِلَاف فِي أَلْفَاظ الحَدِيث الْمَذْكُور:
أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: (من أدْرك من الصُّبْح رَكْعَة قبل أَن تطلع
الشَّمْس فقد أدْرك الصُّبْح، وَمن أدْرك رَكْعَة من
الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فقد أدْرك الْعَصْر) .
أخرجه فِي بَاب من أدْرك من الْفجْر رَكْعَة، وَفِي
رِوَايَة النَّسَائِيّ (إِذا أدْرك أحدكُم أول السَّجْدَة
من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فليتم صلَاته) .
وَكَذَا أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) ، وَرَوَاهُ
أَحْمد بن منيع وَلَفظه: (من أدْرك مِنْكُم أول رَكْعَة من
صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فليتم صلَاته، وَمن
أدْرك رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس
فقد أدْرك) . وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (إِذا أدْرك
أحدكُم أول السَّجْدَة من صَلَاة الْعَصْر) وَعند السراج:
(من صلى بِسَجْدَة وَاحِدَة من الْعَصْر قبل غرُوب
الشَّمْس ثمَّ صلى مَا بَقِي بعد غرُوب الشَّمْس فَلم يفته
الْعَصْر، وَمن صلى سَجْدَة وَاحِدَة من الصُّبْح قبل
طُلُوع الشَّمْس ثمَّ صلى مَا بَقِي بعد طُلُوعهَا فَلم
يفته الصُّبْح) . وَفِي لفظ: (من أدْرك رَكْعَة من الْفجْر
قبل أَن تطلع الشَّمْس وركعة بعد مَا تطلع فقد أدْرك) .
وَفِي لفظ: (من صلى رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح ثمَّ طلعت
الشَّمْس فليتم صلَاته) . وَفِي لفظ: (من أدْرك رَكْعَة من
الْجُمُعَة فَليصل إِلَيْهَا أُخْرَى) . وَفِي لفظ: (من
صلى سَجْدَة وَاحِدَة من الْعَصْر قبل غرُوب الشَّمْس،
ثمَّ صلى مَا بَقِي بعد الْغُرُوب فَلم يفته الْعَصْر) .
وَفِي لفظ: (من أدْرك قبل طُلُوع الشَّمْس سَجْدَة فقد
أدْرك الصَّلَاة، وَمن أدْرك قبل غرُوب الشَّمْس سَجْدَة
فقد أدْرك الصَّلَاة) . وَفِي لفظ: (من أدْرك رَكْعَة أَو
رَكْعَتَيْنِ من صَلَاة الْعَصْر) ، وَفِي لفظ:
(رَكْعَتَيْنِ) ، من غير تردد. غير أَنه مَوْقُوف، وَهُوَ
عِنْد ابْن خُزَيْمَة مَرْفُوع بِزِيَادَة: (أَو رَكْعَة
من صَلَاة
(5/47)
الصُّبْح) وَهُوَ عِنْد الطَّيَالِسِيّ:
(من أدْرك من الْعَصْر رَكْعَتَيْنِ أَو رَكْعَة الشَّك من
أبي بشر قبل أَن تغيب الشَّمْس فقد أدْرك، وَمن أدْرك من
الصُّبْح رَكْعَة قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك) .
وَعند أَحْمد: (من أدْرك رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح قبل
أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك، وَمن أدْرك رَكْعَة أَو
رَكْعَتَيْنِ من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس
فقد أدْرك) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (من أدْرك من
صَلَاة رَكْعَة فقد أدْرك) . وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: (قبل
أَن يُقيم الإِمَام صلبه فقد أدْركهَا) ، وَعِنْده أَيْضا:
(فقد أدْرك الْفَضِيلَة وَيتم مَا بَقِي) ، وَضَعفه وَفِي
(سنَن) الكبحي: (من أدْرك من صَلَاة رَكْعَة فقد أدْركهَا)
، وَفِي (الصَّلَاة) لأبي نعيم: (وَمن أدْرك رَكْعَتَيْنِ
قبل أَن تغرب الشَّمْس، وَرَكْعَتَيْنِ بعد أَن غَابَتْ
الشَّمْس فَلم تفته الْعَصْر) . وَعند مُسلم: (من أدْرك
رَكْعَة من الصَّلَاة مَعَ الإِمَام فقد أدْرك الصَّلَاة)
. وَعند النَّسَائِيّ بِسَنَد صَحِيح: (من أدْرك رَكْعَة
من الصَّلَاة فقد أدْرك الصَّلَاة كلهَا إلاَّ أَنه يقْضِي
مَا فَاتَهُ) ، وَعند الطَّحَاوِيّ: (من أدْرك رَكْعَة من
الصَّلَاة فقد أدْرك الصَّلَاة وفضلها) . قَالَ: وَأكْثر
الروَاة لَا يذكرُونَ: فَضلهَا، قَالَ: وَهُوَ الْأَظْهر.
وَعند الطَّحَاوِيّ: من حَدِيث عَائِشَة نَحْو حَدِيث أبي
هُرَيْرَة، وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا أدْرك) كلمة: إِذا،
تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط، فَلذَلِك دخلت: الْفَاء، فِي
جوابها، وَهُوَ قَوْله: (فليتم صلَاته) . قَوْله:
(سَجْدَة) أَي: رَكْعَة، يدل عَلَيْهِ الرِّوَايَة
الْأُخْرَى للْبُخَارِيّ: (من أدْرك من الصُّبْح رَكْعَة)
. وَكَذَلِكَ فَسرهَا فِي رِوَايَة مُسلم: حَدثنِي أَبُو
الطَّاهِر وحرملة، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب، والسياق
لحرملة، قَالَ: أَخْبرنِي يُونُس عَن ابْن شهَاب أَن
عُرْوَة بن الزبير حَدثهُ عَن عَائِشَة رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (من أدْرك من الْعَصْر سَجْدَة قبل أَن
تغرب الشَّمْس، أَو من الصُّبْح قبل أَن تطلع، فقد
أدْركهَا) . والسجدة إِنَّمَا هِيَ الرَّكْعَة، وفسرها
حَرْمَلَة، وَكَذَا فسر فِي (الْأُم) أَنه يعبر بِكُل
وَاحِد مِنْهُمَا عَن الآخر، وأيا مَا كَانَ، فَالْمُرَاد:
بعض الصَّلَاة، وَإِدْرَاك شَيْء مِنْهَا، وَهُوَ يُطلق
على الرَّكْعَة والسجدة وَمَا دونهَا، مثل: تَكْبِيرَة
الْإِحْرَام. وَقَالَ الْخطابِيّ؛ قَوْله: (سَجْدَة) ،
مَعْنَاهَا: الرَّكْعَة بركوعها وسجودها، والركعة إِنَّمَا
يكون تَمامهَا بسجودها، فسميت على هَذَا الْمَعْنى
سَجْدَة: فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين قَوْله: (من أدْرك من
الصُّبْح سَجْدَة؟) وَبَين قَوْله: (من أدْرك سَجْدَة من
الصُّبْح؟) قلت: رِوَايَة تقدم السَّجْدَة هِيَ السَّبَب
الَّذِي بِهِ الْإِدْرَاك، وَمن قدم الصُّبْح أَو الْعَصْر
قبل الرَّكْعَة فَلِأَن هذَيْن الإسمين هما اللَّذَان
يدلان على هَاتين الصَّلَاتَيْنِ دلَالَة خَاصَّة
تتَنَاوَل جَمِيع أوصافها، بِخِلَاف السَّجْدَة فَإِنَّهَا
تدل على بعض أَوْصَاف الصَّلَاة، فَقدم اللَّفْظ الْأَعَمّ
الْجَامِع.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ من الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن
فِيهِ دَلِيلا صَرِيحًا فِي أَن من صلى رَكْعَة من
الْعَصْر، ثمَّ خرج الْوَقْت قبل سَلَامه لَا تبطل صلَاته،
بل يُتمهَا، وَهَذَا بِالْإِجْمَاع. وَأما فِي الصُّبْح
فَكَذَلِك عِنْد الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد. وَعند أبي
حنيفَة: تبطل صَلَاة الصُّبْح بِطُلُوع الشَّمْس فِيهَا،
وَقَالُوا: الحَدِيث حجَّة على أبي حنيفَة. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: قَالَ أَبُو حنيفَة: تبطل صَلَاة الصُّبْح
بِطُلُوع الشَّمْس فِيهَا، لِأَنَّهُ دخل وَقت النَّهْي
عَن الصَّلَاة، بِخِلَاف الْغُرُوب، والْحَدِيث حجَّة
عَلَيْهِ. قلت: من وقف على مَا أسس عَلَيْهِ أَبُو حنيفَة
عرف أَن الحَدِيث لَيْسَ بِحجَّة عَلَيْهِ، وَعرف أَن غير
هَذَا الحَدِيث من الْأَحَادِيث حجَّة عَلَيْهِم،
فَنَقُول: لَا شكّ أَن الْوَقْت سَبَب للصَّلَاة وظرف
لَهَا، وَلَكِن لَا يُمكن أَن يكون كل الْوَقْت سَببا،
لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك يلْزم تَأْخِير الْأَدَاء عَن
الْوَقْت، فَتعين أَن يَجْعَل بعض الْوَقْت سَببا، وَهُوَ
الْجُزْء الأول لسلامته عَن المزاحم، فَإِن اتَّصل بِهِ
الْأَدَاء تقررت السَّبَبِيَّة وإلاَّ تنْتَقل إِلَى
الْجُزْء الثَّانِي وَالثَّالِث وَالرَّابِع وَمَا بعده
إِلَى أَن يتَمَكَّن فِيهِ من عقد التَّحْرِيمَة إِلَى آخر
جُزْء من أَجزَاء الْوَقْت، ثمَّ هَذَا الْجُزْء إِن كَانَ
صَحِيحا، بِحَيْثُ لم ينْسب إِلَى الشَّيْطَان وَلم يُوصف
بِالْكَرَاهَةِ كَمَا فِي الْفجْر، وَجب عَلَيْهِ كَامِلا،
حَتَّى لَو اعْترض الْفساد فِي الْوَقْت بِطُلُوع الشَّمْس
فِي خلال الصَّلَاة فَسدتْ، خلافًا لَهُم، لِأَن مَا وَجب
كَامِلا لَا يتَأَدَّى بالناقص، كَالصَّوْمِ الْمَنْذُور
الْمُطلق وَصَوْم الْقَضَاء لَا يتَأَدَّى فِي أَيَّام
النَّحْر والتشريق، وَإِذا كَانَ هَذَا الْجُزْء نَاقِصا
كَانَ مَنْسُوبا إِلَى الشَّيْطَان: كالعصر وَقت الاحمرار
وَجب نَاقِصا، لِأَن نُقْصَان السَّبَب مُؤثر فِي نُقْصَان
الْمُسَبّب، فيتأدى بِصفة النُّقْصَان لِأَنَّهُ أدّى
كَمَا لزم، كَمَا إِذا أنذر صَوْم النَّحْر وَأَدَّاهُ
فِيهِ، فَإِذا غربت الشَّمْس فِي أثْنَاء الصَّلَاة لم
تفْسد الْعَصْر، لِأَن مَا بعد الْغُرُوب كَامِل فيتأدى
فِيهِ، لِأَن مَا وَجب نَاقِصا يتَأَدَّى كَامِلا
بِالطَّرِيقِ الأولى. فَإِن قلت: يلْزم أَن تفْسد الْعَصْر
إِذا شرع فِيهِ فِي الْجُزْء الصَّحِيح ومدها إِلَى أَن
غربت. قلت: لما كَانَ الْوَقْت متسعا جَازَ لَهُ شغل كل
الْوَقْت، فيعفى الْفساد الَّذِي يتَّصل بِهِ
بِالْبِنَاءِ، لِأَن الِاحْتِرَاز عَنهُ مَعَ الإقبال على
الصَّلَاة مُتَعَذر، وَأما الْجَواب عَن الحَدِيث
الْمَذْكُور فَهُوَ مَا ذكره الإِمَام الْحَافِظ أَبُو
جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، وَهُوَ:
(5/48)
أَنه يحْتَمل أَن يكون معنى الْإِدْرَاك
فِي الصّبيان الَّذين يدركون، يَعْنِي يبلغون قبل طُلُوع
الشَّمْس، وَالْحيض اللَّاتِي يطهرن، وَالنَّصَارَى
الَّذين يسلمُونَ، لِأَنَّهُ لما ذكر فِي هَذَا
الْإِدْرَاك وَلم يذكر الصَّلَاة فَيكون هَؤُلَاءِ الَّذين
سميناهم وَمن أشبههم مدركين لهَذِهِ الصَّلَاة، فَيجب
عَلَيْهِم قَضَاؤُهَا، وَإِن كَانَ الَّذِي بَقِي
عَلَيْهِم من وَقتهَا أقل من الْمِقْدَار الَّذِي يصلونها
فِيهِ. فَإِن قلت: فَمَا تَقول فِيمَا رَوَاهُ أَبُو
سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أدْرك أحدكُم سَجْدَة من
صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فليتم صلَاته،
وَإِذا أدْرك سَجْدَة من صَلَاة الصُّبْح قبل أَن تطلع
الشَّمْس فليتم صلَاته) . رَوَاهُ البُخَارِيّ
والطَّحَاوِي أَيْضا فَإِنَّهُ صَرِيح فِي ذكر الْبناء بعد
طُلُوع الشَّمْس؟ قلت: قد تَوَاتَرَتْ الْآثَار عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنَّهْي عَن
الصَّلَاة عِنْد طُلُوع الشَّمْس مَا لم تتواتر بِإِبَاحَة
الصَّلَاة عِنْد ذَلِك، فَدلَّ ذَلِك على أَن مَا كَانَ
فِيهِ الْإِبَاحَة كَانَ مَنْسُوخا بِمَا كَانَ فِيهِ
التَّوَاتُر بِالنَّهْي. فَإِن قلت: مَا حَقِيقَة النّسخ
فِي هَذَا وَالَّذِي تذكره احْتِمَال؟ وَهل يثبت النّسخ
بِالِاحْتِمَالِ؟ قلت: حَقِيقَة النّسخ هُنَا أَنه اجْتمع
فِي هَذَا الْموضع محرم ومبيح، وَقد تَوَاتَرَتْ
الْأَخْبَار والْآثَار فِي بَاب الْمحرم مَا لم تتواتر فِي
بَاب الْمُبِيح، وَقد عرف من الْقَاعِدَة أَن الْمحرم
والمبيح إِذا اجْتمعَا يكون الْعَمَل للْمحرمِ، وَيكون
الْمُبِيح مَنْسُوخا، وَذَلِكَ لِأَن النَّاسِخ هُوَ
الْمُتَأَخر، وَلَا شكّ أَن الْحُرْمَة مُتَأَخِّرَة عَن
الْإِبَاحَة لِأَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْإِبَاحَة،
وَالتَّحْرِيم عَارض، وَلَا يجوز الْعَكْس لِأَنَّهُ يلْزم
النّسخ مرَّتَيْنِ. فَافْهَم. فَإِنَّهُ كَلَام دَقِيق قد
لَاحَ لي من الْأَنْوَار الإلهية. فان قلت إِنَّمَا ورد
النَّهْي الْمَذْكُور عَن الصَّلَاة فِي التَّطَوُّع
خَاصَّة وَلَيْسَ بنهي عَن قَضَاء الْفَرَائِض قلت: دلّ
حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ
وَمُسلم وَغَيرهمَا على أَن الصَّلَاة الْفَائِتَة قد دخلت
فِي النَّهْي عَن الصَّلَاة عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَعند
غُرُوبهَا، وَعَن عمرَان أَنه قَالَ: (سرينا مَعَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة، أَو قَالَ: فِي
سَرِيَّة، فَلَمَّا كَانَ آخر السحر عرسنا، فَمَا استيقظنا
حَتَّى أيقظنا حر الشَّمْس) الحَدِيث، وَفِيه أَنه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أخر صَلَاة الصُّبْح حَتَّى فَاتَت
عَنْهُم إِلَى أَن ارْتَفَعت الشَّمْس، وَلم يصلها قبل
الإرتفاع، فَدلَّ ذَلِك أَن النَّهْي عَام يَشْمَل
الْفَرَائِض والنوافل، والتخصيص بالتطوع تَرْجِيح بِلَا
مُرَجّح.
وَمِنْهَا: أَي: من الْأَحْكَام: أَن أَبَا حنيفَة وَمن
تبعه استدلوا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور أَن آخر وَقت
الْعَصْر هُوَ غرُوب الشَّمْس، لِأَن من أدْرك مِنْهُ
رَكْعَة أَو رَكْعَتَيْنِ مدرك لَهُ، فَإِذا كَانَ مدْركا
يكون ذَلِك الْوَقْت من وَقت الْعَصْر لِأَن معنى قَوْله:
(فقد أدْرك) ، أدْرك وُجُوبهَا، حَتَّى إِذا أدْرك
الصَّبِي قبل غرُوب الشَّمْس أَو أسلم الْكَافِر أَو
أَفَاق الْمَجْنُون أَو طهرت الْحَائِض تجب عَلَيْهِ
صَلَاة الْعَصْر، وَلَو كَانَ الْوَقْت الَّذِي أدْركهُ
جزأ يَسِيرا لَا يسع فِيهِ الْأَدَاء، وَكَذَلِكَ الحكم
قبل طُلُوع الشَّمْس. وَقَالَ زفر: لَا يجب مَا لم يجد
وقتا يسع الْأَدَاء، وَكَذَلِكَ الحكم قبل طُلُوع
الشَّمْس. وَقَالَ زفر: لَا يجب مَا لم يجد وقتا يسع
الْأَدَاء فِيهِ حَقِيقَة، وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ
فِيمَا إِذا أدْرك دون رَكْعَة كتكبيرة مثلا: أَحدهمَا:،
لَا يلْزمه، وَالْآخر: يلْزمه، وَهُوَ أصَحهمَا.
وَمِنْهَا: أَنهم اخْتلفُوا فِي معنى الْإِدْرَاك. هَل
هُوَ للْحكم أَو للفضل أَو للْوَقْت فِي أقل من رَكْعَة؟
فَذهب مَالك وَجُمْهُور الْأَئِمَّة، وَهُوَ أحد قولي
الشَّافِعِي: إِلَى أَنه لَا يدْرك شَيْئا من ذَلِك
بِأَقَلّ من رَكْعَة، مُتَمَسِّكِينَ بِلَفْظ الرَّكْعَة،
وَبِمَا فِي (صَحِيح) ابْن حبَان عَن أبي هُرَيْرَة: (إِذا
جئْتُمْ إِلَى الصَّلَاة وَنحن سُجُود فاسجدوها وَلَا
تعدوها شَيْئا، وَمن أدْرك الرَّكْعَة فقد أدْرك
الصَّلَاة) . وَذهب أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف
وَالشَّافِعِيّ فِي قَول: إِلَى أَنه يكون مدْركا لحكم
الصَّلَاة. فَإِن قلت: قيد فِي الحَدِيث بِرَكْعَة
فَيَنْبَغِي أَن لَا يعْتَبر أقل مِنْهَا؟ قلت: قيد
الرَّكْعَة فِيهِ خرج مخرج الْغَالِب، فَإِن غَالب مَا
يُمكن معرفَة الْإِدْرَاك بِهِ رَكْعَة أَو نَحْوهَا،
حَتَّى قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: إِنَّمَا أَرَادَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذكر الرَّكْعَة الْبَعْض
من الصَّلَاة، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنهُ: (من أدْرك رَكْعَة
من الْعَصْر) و: (من أدْرك رَكْعَتَيْنِ من الْعَصْر) ،
(وَمن أدْرك سَجْدَة من الْعَصْر) ، فَأَشَارَ إِلَى بعض
الصَّلَاة مرّة: بِرَكْعَة، وَمرَّة: بِرَكْعَتَيْنِ،
وَمرَّة بِسَجْدَة. وَالتَّكْبِيرَة فِي حكم الرَّكْعَة
لِأَنَّهَا بعض الصَّلَاة، فَمن أدْركهَا فَكَأَنَّهُ
أدْرك رَكْعَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَاتفقَ هَؤُلَاءِ،
يَعْنِي أَبَا حنيفَة وَأَبا يُوسُف وَالشَّافِعِيّ فِي
قَول، على إدراكهم الْعَصْر بتكبيرة قبل الْغُرُوب،
وَاخْتلفُوا فِي الظّهْر، فَعِنْدَ الشَّافِعِي فِي قَول:
هُوَ مدرك بتكبيرة لَهَا لاشْتِرَاكهمَا فِي الْوَقْت،
وَعنهُ أَنه بِتمَام الْقيام لِلظهْرِ يكون قَاضِيا لَهَا
بعد، وَاخْتلفُوا فِي الْجُمُعَة، فَذهب مَالك وَالثَّوْري
وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَزفر وَمُحَمّد
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد إِلَى أَن: من أدْرك مِنْهَا
رَكْعَة أضَاف إِلَيْهَا أُخْرَى. وَقَالَ أَبُو حنيفَة
وَأَبُو يُوسُف: إِذا أحرم فِي الْجُمُعَة قبل سَلام
الإِمَام صلى رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ
وَالْحكم وَحَمَّاد، وَأغْرب عَطاء وَمَكْحُول وطاووس
وَمُجاهد فَقَالُوا: إِن من فَاتَتْهُ الْخطْبَة يَوْم
الْجُمُعَة يُصَلِّي أَرْبعا، لِأَن الْجُمُعَة إِنَّمَا
قصرت من أجل الْخطْبَة:
(5/49)
وَحمل أَصْحَاب مَالك قَوْله: (من أدْرك
رَكْعَة من الْعَصْر) على أَصْحَاب الْأَعْذَار: كالحائض
والمغمى عَلَيْهِ وشبههما، ثمَّ هَذِه الرَّكْعَة الَّتِي
يدركون بهَا الْوَقْت هِيَ بِقدر مَا يكبر فِيهَا
للْإِحْرَام وَيقْرَأ أم الْقُرْآن قِرَاءَة معتدلة ويركع
وَيسْجد سَجْدَتَيْنِ يفصل بَينهمَا ويطمئن فِي كل ذَلِك،
على قَول من أوجب الطُّمَأْنِينَة، وعَلى قَول من لَا
يُوجب قِرَاءَة أم الْقُرْآن فِي كل رَكْعَة، يَكْفِيهِ
تَكْبِيرَة الْإِحْرَام وَالْوُقُوف لَهَا. وَأَشْهَب لَا
يُرَاعِي إِدْرَاك السَّجْدَة بعد الرَّكْعَة، وَسبب
الْخلاف: هَل الْمَفْهُوم من اسْم الرَّكْعَة
الشَّرْعِيَّة أَو اللُّغَوِيَّة؟
وَأما الَّتِي يدْرك بهَا فَضِيلَة الْجَمَاعَة فَحكمهَا
بِأَن يكبر لإحرامها ثمَّ يرْكَع، وَيُمكن يَدَيْهِ من
رُكْبَتَيْهِ قبل رفع الإِمَام رَأسه، وَهَذَا مَذْهَب
الْجُمْهُور، وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه: لَا يعْتد
بالركعة مَا لم يدْرك الإِمَام قَائِما قبل أَن يرْكَع،
وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَن أَشهب، وَرُوِيَ عَن جمَاعَة من
السّلف أَنه: مَتى أحرم وَالْإِمَام رَاكِع أَجزَأَهُ،
وَإِن لم يدْرك الرُّكُوع وَركع بعد الإِمَام. وَقيل:
يجْزِيه وَإِن رفع الإِمَام رَأسه مَا لم يرفع النَّاس،
وَنَقله ابْن بزيزة عَن الشّعبِيّ، قَالَ: وَإِذا انْتهى
إِلَى الصَّفّ الآخر وَلم يرفعوا رؤوسهم، أَو بَقِي
مِنْهُم وَاحِد لم يرفع رَأسه، وَقد رفع الإِمَام رَأسه
فَإِنَّهُ يرْكَع وَقد أدْرك الصَّلَاة، لِأَن الصَّفّ
الَّذِي هُوَ فِيهِ إِمَامه، وَقَالَ ابْن أبي ليلى وَزفر
وَالثَّوْري: إِذا كبر قبل أَن يرفع الإِمَام رَأسه فقد
أدْرك، وَإِن رفع الإِمَام قبل أَن يضع يَدَيْهِ على
رُكْبَتَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يعْتد بهَا. وَقَالَ ابْن
سِيرِين: إِذا أدْرك تَكْبِيرَة يدْخل بهَا فِي الصَّلَاة
وَتَكْبِيرَة للرُّكُوع فقد أدْرك تِلْكَ الرَّكْعَة.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَقيل: يجْزِيه إِن أحرم قبل
سُجُود الإِمَام. وَقَالَ ابْن بزيزة: قَالَ أَبُو
الْعَالِيَة: إِذا جَاءَ وهم سُجُود يسْجد مَعَهم، فَإِذا
سلم الإِمَام قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَة وَلَا يسْجد، ويعتد
بِتِلْكَ الرَّكْعَة. وَعَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، أَنه كَانَ إِذا جَاءَ وَالْقَوْم سُجُود سجد
مَعَهم، فَإِذا رفعوا رؤوسهم سجد أُخْرَى، وَلَا يعْتد
بهَا. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: إِذا ركع ثمَّ مَشى فَدخل
فِي الصَّفّ قبل أَن يرفعوا رؤوسهم اعْتد بهَا، وَإِن
رفعوا رؤوسهم قبل أَن يصل إِلَى الصَّفّ فَلَا يعْتد بهَا.
وَأما حكم هَذِه الصَّلَاة: فَالصَّحِيح أَنَّهَا كلهَا
أَدَاء، قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: كلهَا قَضَاء، وَقَالَ
بَعضهم: تِلْكَ الرَّكْعَة أَدَاء، وَمَا بعْدهَا قَضَاء،
وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِي مُسَافر نوى الْعَصْر وَصلى
رَكْعَة فِي الْوَقْت، فَإِن قُلْنَا: الْجَمِيع أَدَاء،
فَلهُ قصرهَا. وَإِن قُلْنَا: كلهَا قَضَاء، أَو:
بَعْضهَا، وَجب إِتْمَامهَا أَرْبعا إِن قُلْنَا: إِن
فَائِتَة السّفر إِذا قَضَاهَا فِي السّفر يجب
إِتْمَامهَا، وَهَذَا كُله إِذا أدْرك رَكْعَة فِي
الْوَقْت، فَإِن كَانَ دون رَكْعَة، فَقَالَ الْجُمْهُور:
كلهَا قَضَاء.
557 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ
حدَّثني إبْرَاهِيمُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَالِم بنِ
عَبْدِ الله عنْ أبِيهِ أنَّهُ أخْبَرَهُ أنَّهُ سَمِعَ
رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إنَّمَا
بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ كَمَا
بَيْنَ صَلاَةِ العَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ أوتِيَ
أهْلُ التوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا حَتَّى إذَا
انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا فأُعْطُوا قِيرَاطا
قِيرَاطا ثُمَّ أُوتِيَ أهْل الإِنْجِيلِ الإنْجِيلَ
فَعَمِلُوا إلَى صَلاَةِ العَصْرِ ثُمَّ عَجَزُوا
فَأُعْطُوا قِيراطا قِيرَاطا ثُمَّ أوتِينَا القُرْآنَ
فَعَمِلْنَا إلَى غُرُوب الشمْسِ فَأُعْطِينَا
قِيرَاطَيْنِ فقَالَ أهْلُ الكِتَابَيْنِ أيْ رَبَّنَا
أعْطَيْتَ هَؤُلاَءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ
وأعْطَيْتَنَا قِيرَاطا قِيرَاطا وَنَحْنُ كُنَّا أكْثَرَ
عَمَلاً قَالَ قَالَ الله عَزَّ وجلَّ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ
مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شيءٍ قالُوا لاَ قالَ فَهُوَ فَضْلِي
أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ. .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِلَى
غرُوب الشَّمْس) ، فَدلَّ على أَن وَقت الْعَصْر إِلَى
غرُوب الشَّمْس، وَأَن من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر قبل
الْغُرُوب فقد أدْرك وَقتهَا، فليتم مَا بَقِي، وَهَذَا
الْمِقْدَار بطرِيق الِاسْتِئْنَاس الإقناعي، لَا بطرِيق
الْأَمر البرهاني، وَلِهَذَا قَالَ ابْن الْمُنِير: هَذَا
الحَدِيث مِثَال لمنازل الْأُمَم عِنْد الله تَعَالَى،
وَإِن هَذِه الْأمة أقصرها عمرا وأقلها عملا وَأَعْظَمهَا
ثَوابًا.
ويستنبط مِنْهُ للْبُخَارِيّ بتكلف فِي قَوْله: (فعملنا
إِلَى غرُوب الشَّمْس،) ، فَدلَّ أَن وَقت الْعَمَل ممتد
إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَأَنه لَا يفوت، وَأقرب
الْأَعْمَال الْمَشْهُور بِهَذَا الْوَقْت صَلَاة
الْعَصْر، وَهُوَ من قبيل الْأَخْذ بِالْإِشَارَةِ، لَا من
(5/50)
صَرِيح الْعبارَة، فَإِن الحَدِيث مِثَال
وَلَيْسَ المُرَاد عملا خَاصّا بِهَذَا الْوَقْت، بل
المُرَاد سَائِر أَعمال الْأمة من سَائِر الصَّلَوَات،
وَغَيرهَا من سَائِر الْعِبَادَات فِي سَائِر مُدَّة
بَقَاء الْأمة إِلَى قيام السَّاعَة، وَكَذَا قَالَ أَبُو
الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ: بِأَن الْأَحْكَام لَا
تتَعَلَّق بالأحاديث الَّتِي تَأتي لضرب الْأَمْثَال
فَإِنَّهُ مَوضِع تجوز. وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا أَدخل
البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث، والْحَدِيث الَّذِي بعده، فِي
هَذَا الْبَاب لقَوْله: (ثمَّ أوتينا الْقُرْآن فعملنا
إِلَى غرُوب الشَّمْس فأعطينا قيراطين قيراطين) ، ليدل على
أَنه قد يسْتَحق بِعَمَل الْبَعْض أجر الْكل، مثل الَّذِي
أعطي من الْعَصْر إِلَى اللَّيْل أجر النَّهَار كُله،
فَمثله كَالَّذي أعطي على رَكْعَة أدْرك وَقتهَا أجر
الصَّلَاة كلهَا فِي آخر الْوَقْت. وَقَالَ صَاحب
(التَّلْوِيح) : فِيهِ بعد، لِأَنَّهُ لَو قَالَ: إِن
(هَذِه الْأمة أَعْطَيْت ثَلَاثَة قراريط لَكَانَ أشبه،
وَلكنهَا مَا أَعْطَيْت إلاَّ بعض أجر جَمِيع النَّهَار،
نعم عملت هَذِه الْأمة قَلِيلا وَأخذت كثيرا، ثمَّ هُوَ
أَيْضا منفك عَن مَحل الِاسْتِدْلَال، لِأَن عمل هَذِه
الْأمة آخر النَّهَار كَانَ أفضل من عمل الْمُتَقَدِّمين
قبلهَا، وَلَا خلاف أَن صَلَاة الْعَصْر مُتَقَدّمَة أفضل
من صلَاتهَا مُتَأَخِّرَة، ثمَّ هَذَا من الخصائص
المستثناة عَن الْقيَاس، فَكيف يُقَاس عَلَيْهِ؟ أَلا ترى
أَن صِيَام آخر النَّهَار لَا يقوم مقَام جملَته، وَكَذَا
سَائِر الْعِبَادَات؟ انْتهى. قلت: كل مَا ذكرُوا هَهُنَا
لَا يَخْلُو عَن تعسف، وَقَوله: لَا خلاف، غير موجه، لِأَن
الْخلاف مَوْجُود فِي تَقْدِيم صَلَاة الْعَصْر وتأخيرها،
وَقِيَاسه على الصَّوْم كَذَلِك، لِأَن وَقت الصَّوْم لَا
يتجزى، بِخِلَاف الصَّلَاة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الْعَزِيز الأويسي،
بِضَم الْهمزَة، مر فِي كتاب الْحِرْص على الحَدِيث،
ونسبته إِلَى أويس أحد أجداده. الثَّانِي: ابراهيم بن سعد
بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ
الْقرشِي الْمدنِي. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب
الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: سَالم بن عبد الله بن عمر بن
الْخطاب. الْخَامِس: أَبوهُ عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
الْإِخْبَار بِصِيغَة الافراد من الْمَاضِي. وَفِيه:
القَوْل. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم
مدنيون. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده.
وَفِيه: رِوَايَة التابعة عَن التَّابِعِيّ. وهما: ابْن
شهَاب وَسَالم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي بَاب الْإِجَارَة إِلَى نصف النَّهَار عَن
سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن نَافِع
بِهِ، وَأخرجه أَيْضا فِي بَاب فضل الْقُرْآن عَن مُسَدّد
عَن يحيى عَن سُفْيَان عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن
عمر، وَأخرجه أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن أبي الْيَمَان
عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم بن عبد الله،
وَأخرجه أَيْضا فِي بَاب مَا ذكر عَن بني إِسْرَائِيل عَن
قُتَيْبَة عَن لَيْث عَن نَافِع بِهِ. وَأخرجه مُسلم
وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِنَّمَا بقاؤكم فِيمَا سلف من
الْأُمَم قبلكُمْ) ، ظَاهره لَيْسَ بِمُرَاد، لِأَن ظَاهره
أَن بَقَاء هَذِه الْأمة وَقع فِي زمَان الْأُمَم السالفة،
وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَن نسبتكم
إِلَيْهِم كنسبة وَقت الْعَصْر إِلَى تَمام النَّهَار،
وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (إِنَّمَا أجلكم فِي أجل من
خلا من الْأُمَم كَمَا بَين صَلَاة الْعَصْر إِلَى مغرب
الشَّمْس) . قَوْله: (إِلَى غرُوب الشَّمْس) ، كَانَ
الْقيَاس أَن يُقَال: وغروب الشَّمْس، بِالْوَاو، لِأَن:
بَين، يَقْتَضِي دُخُوله على مُتَعَدد، وَلَكِن المُرَاد
من الصَّلَاة وَقت الصَّلَاة، وَله أَجزَاء، فَكَأَنَّهُ
قَالَ: بَين أَجزَاء وَقت صَلَاة الْعَصْر. قَوْله:
(أُوتِيَ أهل التَّوْرَاة) ، أُوتِيَ: على صِيغَة
الْمَجْهُول، أَي: أعطي، فالتوراة الأولى مجرورة
بِالْإِضَافَة، وَالثَّانيَِة مَنْصُوبَة على أَنه مفعول
ثَان، قيل: اشتقاق التَّوْرَاة من الوري، ووزنها: تفعلة،
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل إسمان
أعجميان، وتكلف اشتقاقهما من الوري والنجل، ووزنهما: تفعلة
وإفعيل، إِنَّمَا يَصح بعد كَونهمَا عربيين. وَقَرَأَ
الْحسن: الأنجيل، بِفَتْح الْهمزَة، وَهُوَ دَلِيل على
العجمة، لِأَن: أفعيل، بِفَتْح الْهمزَة عديم فِي أوزان
الْعَرَب. قَوْله: (عجزوا) ، قَالَ الدَّاودِيّ: قَالَه
أَيْضا فِي النَّصَارَى، فَإِن كَانَ المُرَاد من مَاتَ
مِنْهُم مُسلما فَلَا يُقَال: عجزوا، لِأَنَّهُ عمل مَا
أَمر بِهِ، وَإِن كَانَ قَالَه فِيمَن آمن ثمَّ كفر فَكيف
يعْطى القيراط من حَبط عمله بِكفْر؟ وَأجِيب: بِأَن
المُرَاد: من مَاتَ مِنْهُم مُسلما قبل التَّغْيِير
والتبديل، وَعبر بِالْعَجزِ لكَوْنهم لم يستوفوا عمل
النَّهَار كُله، وَإِن كَانُوا قد استوفوا مَا قدر لَهُم،
فَقَوله: عجزوا، أَي: عَن إِحْرَاز الْأجر الثَّانِي دون
الأول، لَكِن من أدْرك مِنْهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وآمن بِهِ أعطي الْأجر مرَّتَيْنِ. قَوْله: (قيراطا)
هُوَ نصف دانق، وَالْمرَاد مِنْهُ: النَّصِيب والحصة، وَقد
اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب اتِّبَاع
الْجَنَائِز من الْإِيمَان، وَإِنَّمَا كرر لفظ القيراط
ليدل على تَقْسِيم القراريط على جَمِيعهم، كَمَا هُوَ
عَادَة كَلَامهم، حَيْثُ أَرَادوا تَقْسِيم الشَّيْء
(5/51)
على مُتَعَدد. قَوْله: (ثمَّ أُوتِيَ أهل
الْإِنْجِيل الْإِنْجِيل) الأول مجرور بِالْإِضَافَة،
وَالثَّانِي مَنْصُوب على المفعولية. قَوْله: (فَقَالَ أهل
الْكِتَابَيْنِ) أَي: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل. قَوْله:
أَي رَبنَا) ، كلمة: أَي، من حُرُوف النداء، يَعْنِي: يَا
رَبنَا، وَلَا تفَاوت فِي إِعْرَاب المنادى بَين حُرُوفه.
قَوْله: (وَنحن كُنَّا أَكثر عملا) ، قَالَ
الْإِسْمَاعِيلِيّ: إِنَّمَا قَالَت النَّصَارَى (: نَحن
أَكثر عملا لأَنهم آمنُوا بمُوسَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمَا
الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: النَّصَارَى لم يُؤمنُوا
بمُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على ذَلِك جمَاعَة
الإخباريين، وَأَيْضًا قَوْله: (وَنحن كُنَّا أَكثر عملا)
حِكَايَة عَن قَول أهل الْكِتَابَيْنِ، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: قَول الْيَهُود ظَاهر، لِأَن الْوَقْت من
الصُّبْح إِلَى الظّهْر أَكثر من وَقت الْعَصْر إِلَى
الْمغرب، وَقَول النَّصَارَى لَا يَصح إلاَّ على مَذْهَب
الْحَنَفِيَّة، حَيْثُ يَقُولُونَ: الْعَصْر هُوَ مصير ظلّ
الشَّيْء مثلَيْهِ، وَهَذَا من جملَة أدلتهم على
مَذْهَبهم. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره هُوَ قَول أبي حنيفَة
وَحده، وَغَيره من أَصْحَابه يَقُولُونَ مثله، وَيُمكن أَن
يُقَال: إِنَّمَا أسْند الأكثرية إِلَى الطَّائِفَتَيْنِ،
وَإِن كَانَ فِي إِحْدَاهمَا بطرِيق التغليب، وَيُقَال:
لَا يلْزم من كَونهم أَكثر عملا أَكثر زَمَانا، لاحْتِمَال
كَون الْعَمَل أَكثر فِي الزَّمَان الْأَقَل. قَوْله: هَل
ظلمتكم؟) أَي: هَل نقصتكم؟ إِذْ الظُّلم قد يكون
بِزِيَادَة الشَّيْء، وَقد يكون بنقصانه. وَفِي بعض
النّسخ: (أظلمتكم؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام، وَهُوَ
أَيْضا بِمَعْنى: هَل ظلمتكم؟ أَي: فِي الَّذِي شرطت لكم
شَيْئا؟ .
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: تَفْضِيل هَذِه الْأمة وتوفر
أجرهَا مَعَ قلَّة الْعَمَل، وَإِنَّمَا فضلت بِقُوَّة
يقينها ومراعاة أصل دينهَا، فَإِن زلت فَأكْثر زللها فِي
الْفُرُوع، بِخِلَاف من كَانَ قبلهم كَقَوْلِهِم: {اجْعَل
لنا إلاها} (الْأَعْرَاف: 138) . وكامتناعهم من أَخذ
الْكتاب حَتَّى نتق الْجَبَل فَوْقهم، و: {فَاذْهَبْ أَنْت
وَرَبك فَقَاتلا} (الْمَائِدَة: 54) .
وَفِيه: مَا استنبطه أَبُو زيد الدبوسي فِي (كتاب
الْأَسْرَار) من أَن وَقت الْعَصْر إِذا صَار ظلّ كل شَيْء
مثلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ قَرِيبا من
أول الْعَاشِرَة، فَيكون إِلَى الْمغرب ثَلَاث سَاعَات غير
شَيْء يسير، وَتَكون النَّصَارَى أَيْضا عمِلُوا ثَلَاث
سَاعَات وشيئا يَسِيرا، وَهَذَا من أول الزَّوَال إِلَى
أول السَّاعَة الْعَاشِرَة، وَهُوَ إِذا صَار ظلّ كل شَيْء
مثلَيْهِ، وَاعْترض على هَذَا بِأَن النَّصَارَى لم تقله،
وَإِنَّمَا قَالَه الْفَرِيقَانِ: الْيَهُود
وَالنَّصَارَى، ووقتهم أَكثر من وقتنا، فيستقيم قَوْلهم:
أَكثر عملا؟ وَأجِيب: بِأَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى لَا
يتفقان على قَول وَاحِد، بل قَالَت النَّصَارَى: كُنَّا
أَكثر عملا وَأَقل عَطاء، وَكَذَا الْيَهُود، بِاعْتِبَار
كَثْرَة الْعَمَل وَطوله، وَنقل بَعضهم كَلَام أبي زيد
هَكَذَا، ثمَّ قَالَ: تمسك بِهِ بعض الْحَنَفِيَّة كَأبي
زيد إِلَى أَن وَقت الْعَصْر من مصير ظلّ كل شَيْء
مثلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ ظلّ كل شَيْء مثله لَكَانَ
مُسَاوِيا لوقت الظّهْر، وَقد قَالُوا: كُنَّا أَكثر عملا،
فَدلَّ على أَنه دون وَقت الظّهْر. ثمَّ قَالَ: وَأجِيب
بِمَنْع الْمُسَاوَاة، وَذَلِكَ مَعْرُوف عِنْد أهل الْعلم
بِهَذَا الْفَنّ، وَهُوَ أَن الْمدَّة بَين الظّهْر
وَالْعصر أطول من الْمدَّة الَّتِي بَين الْعَصْر
وَالْمغْرب. انْتهى. قلت: لَا يخفى على كل أحد أَن وَقت
الْعَصْر، لَو كَانَ بمصير ظلّ كل شَيْء مثله، يكون وَقت
الظّهْر الَّذِي يَنْتَهِي إِلَى مصير ظلّ كل شَيْء مثله،
مثل وَقت الْعَصْر الَّذِي نقُول: وقته بمصير ظلّ كل شَيْء
مثله، وَمَعَ هَذَا أَبُو زيد مَا ادّعى الْمُسَاوَاة
بالتحقيق، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وعَلى التَّنْزِيل
لَا يلْزم من التَّمْثِيل والتشبيه التَّسْوِيَة من كل
جِهَة. قلت: مَا ادّعى هُوَ التَّسْوِيَة من كل جِهَة
حَتَّى يعْتَرض عَلَيْهِ.
وَفِيه: مَا استنبطه بَعضهم أَن مُدَّة الْمُسلمين من حِين
ولد سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى
قيام السَّاعَة ألف سنة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جعل النَّهَار
نِصْفَيْنِ الأول للْيَهُود، فَكَانَت مدتهم ألف سنة
وسِتمِائَة سنة وَزِيَادَة فِي قَول ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ
أَبُو صَالح عَنهُ، وَفِي قَول ابْن إِسْحَاق: ألف سنة
وَتِسْعمِائَة سنة وتسع عشرَة سنة، وَلِلنَّصَارَى
كَذَلِك، فَجَاءَت مُدَّة النَّصَارَى لَا يخْتَلف النَّاس
أَنه كَانَ بَين عِيسَى وَنَبِينَا صلوَات الله على
نَبينَا وَعَلِيهِ سِتّمائَة سنة، فَبَقيَ للْمُسلمين ألف
سنة وَزِيَادَة، وَفِيه نظر، من حَيْثُ إِن الْخلاف فِي
مُدَّة الفترة، فَذكر الْحَاكِم فِي (الإكليل) أَنَّهَا
مائَة وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ سنة، وَذكر أَنَّهَا
أَرْبَعمِائَة سنة، وَقيل: خَمْسمِائَة وَأَرْبَعُونَ سنة.
وَعَن الضَّحَّاك أَرْبَعمِائَة وبضع وَثَلَاثُونَ سنة،
وَقد ذكر السُّهيْلي عَن جَعْفَر بن عبد الْوَاحِد
الْهَاشِمِي: أَن جعفرا حدث بِحَدِيث مَرْفُوع: (إِن
أَحْسَنت أمتِي فبقاؤها يَوْم من أَيَّام الْآخِرَة،
وَذَلِكَ ألف سنة، وَإِن أساءت فَنصف يَوْم) . وَفِي
حَدِيث زمل الْخُزَاعِيّ، قَالَ: (رَأَيْتُك يَا رَسُول
الله على مِنْبَر لَهُ سبع دَرَجَات، وَإِلَى جَنْبك
نَاقَة عجفاء كَأَنَّك تبعتها، ففسر لَهُ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاقة بِقِيَام السَّاعَة الَّتِي
أنذر بهَا، ودرجات الْمِنْبَر عدَّة الدُّنْيَا: سَبْعَة
آلَاف سنة، بعث فِي آخرهَا ألفا) قَالَ السُّهيْلي:
والْحَدِيث، وَإِن كَانَ ضَعِيف الْإِسْنَاد، فقد رُوِيَ
مَوْقُوفا على ابْن عَبَّاس من طرق صِحَاح، أَنه قَالَ:
(الدُّنْيَا سَبْعَة
(5/52)
أَيَّام، كل يَوْم ألف سنة) ، وَصحح
الطَّبَرِيّ هَذَا الأَصْل وعضده بآثار.
وَفِيه: مَا اسْتدلَّ بِهِ بعض أَصْحَابنَا على أَن آخر
وَقت الظّهْر ممتد إِلَى أَن يصير ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ،
وَذَلِكَ أَنه جعل لنا من الزَّمَان من الدُّنْيَا فِي
مُقَابلَة من كَانَ قبلنَا من الْأُمَم بِقدر مَا بَين
صَلَاة الْعَصْر إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَهُوَ يدل أَن
بَينهمَا أقل من ربع النَّهَار، لِأَنَّهُ لم يبْق من
الدُّنْيَا ربع الزَّمَان، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (بعثت أَنا والساعة كهاتين، وَأَشَارَ بالسبابة
وَالْوُسْطَى) ، فَشبه مَا بَقِي من الدُّنْيَا إِلَى قيام
السَّاعَة مَعَ مَا انْقَضى بِقدر مَا بَين السبابَة
وَالْوُسْطَى من التَّفَاوُت. قَالَ السُّهيْلي:
وَبَينهمَا نصف سبع، لِأَن الْوُسْطَى ثَلَاثَة أَسْبَاع،
كل مفصل مِنْهَا سبع، وزيادتها على السبابَة نصف سبع،
وَالدُّنْيَا على مَا قدمْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس سَبْعَة
آلَاف سنة، فَلِكُل سبع ألف سنة، وفضلت الْوُسْطَى على
السبابَة بِنصْف الْأُنْمُلَة، وَهُوَ ألف سنة فِيمَا ذكره
أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ وَغَيره، وَزعم السُّهيْلي:
أَنه بِحِسَاب الْحُرُوف الْمُقطعَة أَوَائِل السُّور تكون
تِسْعمائَة سنة وَثَلَاث سِنِين، وَهل هِيَ من مبعثه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَو هجرته أَو وَفَاته؟ وَالله أعلم.
556 - حدَّثنا أبُو نَعِيمٍ قَالَ حدَّثنا شَيْبَانُ عَنْ
يَحْيَى عنْ أبي سَلَمَةَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِذا أَدْرَكَ أحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلاَةِ
العَصْرِ قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ
صَلاَتَهُ وَإِذَا أدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلاَةِ
الصُّبْحِ قَبْلَ أنْ تَطْلَعُ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ
صَلاَتَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (إِذا أدْرك
أحدكُم سَجْدَة من صَلَاة الْعَصْر) . (فَإِن قلت:
الْمَذْكُور فِي التَّرْجَمَة رَكْعَة، وَفِي الحَدِيث:
سَجْدَة، والترجمة فِي الْإِدْرَاك من الْعَصْر،
والْحَدِيث فِي: الْعَصْر وَالصُّبْح، فَلَا تطابق؟ قلت:
المُرَاد من السَّجْدَة الرَّكْعَة على مَا يَجِيء إِن
شَاءَ الله تَعَالَى، وَترك الصُّبْح فِيهَا من بَاب
الِاكْتِفَاء.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن،
وشيبان بن عبد الرَّحْمَن التَّمِيمِي، وَيحيى بن أبي
كثير، وَأَبُو سَلمَة عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن
عَوْف.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
القَوْل. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وبصري
ومدني.
ذكر الِاخْتِلَاف فِي أَلْفَاظ الحَدِيث الْمَذْكُور:
أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: (من أدْرك من الصُّبْح رَكْعَة قبل أَن تطلع
الشَّمْس فقد أدْرك الصُّبْح، وَمن أدْرك رَكْعَة من
الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فقد أدْرك الْعَصْر) .
أخرجه فِي بَاب من أدْرك من الْفجْر رَكْعَة، وَفِي
رِوَايَة النَّسَائِيّ (إِذا أدْرك أحدكُم أول السَّجْدَة
من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فليتم صلَاته) .
وَكَذَا أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) ، وَرَوَاهُ
أَحْمد بن منيع وَلَفظه: (من أدْرك مِنْكُم أول رَكْعَة من
صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فليتم صلَاته، وَمن
أدْرك رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس
فقد أدْرك) . وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (إِذا أدْرك
أحدكُم أول السَّجْدَة من صَلَاة الْعَصْر) وَعند السراج:
(من صلى بِسَجْدَة وَاحِدَة من الْعَصْر قبل غرُوب
الشَّمْس ثمَّ صلى مَا بَقِي بعد غرُوب الشَّمْس فَلم يفته
الْعَصْر، وَمن صلى سَجْدَة وَاحِدَة من الصُّبْح قبل
طُلُوع الشَّمْس ثمَّ صلى مَا بَقِي بعد طُلُوعهَا فَلم
يفته الصُّبْح) . وَفِي لفظ: (من أدْرك رَكْعَة من الْفجْر
قبل أَن تطلع الشَّمْس وركعة بعد مَا تطلع فقد أدْرك) .
وَفِي لفظ: (من صلى رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح ثمَّ طلعت
الشَّمْس فليتم صلَاته) . وَفِي لفظ: (من أدْرك رَكْعَة من
الْجُمُعَة فَليصل إِلَيْهَا أُخْرَى) . وَفِي لفظ: (من
صلى سَجْدَة وَاحِدَة من الْعَصْر قبل غرُوب الشَّمْس،
ثمَّ صلى مَا بَقِي بعد الْغُرُوب فَلم يفته الْعَصْر) .
وَفِي لفظ: (من أدْرك قبل طُلُوع الشَّمْس سَجْدَة فقد
أدْرك الصَّلَاة، وَمن أدْرك قبل غرُوب الشَّمْس سَجْدَة
فقد أدْرك الصَّلَاة) . وَفِي لفظ: (من أدْرك رَكْعَة أَو
رَكْعَتَيْنِ من صَلَاة الْعَصْر) ، وَفِي لفظ:
(رَكْعَتَيْنِ) ، من غير تردد. غير أَنه مَوْقُوف، وَهُوَ
عِنْد ابْن خُزَيْمَة مَرْفُوع بِزِيَادَة: (أَو رَكْعَة
من صَلَاة الصُّبْح) وَهُوَ عِنْد الطَّيَالِسِيّ: (من
أدْرك من الْعَصْر رَكْعَتَيْنِ أَو رَكْعَة الشَّك من أبي
بشر قبل أَن تغيب الشَّمْس فقد أدْرك، وَمن أدْرك من
الصُّبْح رَكْعَة قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك) .
وَعند أَحْمد: (من أدْرك رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح قبل
أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك، وَمن أدْرك رَكْعَة أَو
رَكْعَتَيْنِ من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس
فقد أدْرك) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (من أدْرك من
صَلَاة رَكْعَة فقد أدْرك) . وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: (قبل
أَن يُقيم الإِمَام صلبه فقد أدْركهَا) ، وَعِنْده أَيْضا:
(فقد أدْرك الْفَضِيلَة وَيتم مَا بَقِي) ، وَضَعفه وَفِي
(سنَن) الكبحي: (من أدْرك من صَلَاة رَكْعَة فقد أدْركهَا)
، وَفِي (الصَّلَاة) لأبي نعيم: (وَمن أدْرك رَكْعَتَيْنِ
قبل أَن تغرب الشَّمْس، وَرَكْعَتَيْنِ بعد أَن غَابَتْ
الشَّمْس فَلم تفته الْعَصْر) . وَعند مُسلم: (من أدْرك
رَكْعَة من الصَّلَاة مَعَ الإِمَام فقد أدْرك الصَّلَاة)
. وَعند النَّسَائِيّ بِسَنَد صَحِيح: (من أدْرك رَكْعَة
من الصَّلَاة فقد أدْرك الصَّلَاة كلهَا إلاَّ أَنه يقْضِي
مَا فَاتَهُ) ، وَعند الطَّحَاوِيّ: (من أدْرك رَكْعَة من
الصَّلَاة فقد أدْرك الصَّلَاة وفضلها) . قَالَ: وَأكْثر
الروَاة لَا يذكرُونَ: فَضلهَا، قَالَ: وَهُوَ الْأَظْهر.
وَعند الطَّحَاوِيّ: من حَدِيث عَائِشَة نَحْو حَدِيث أبي
هُرَيْرَة، وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا أدْرك) كلمة: إِذا،
تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط، فَلذَلِك دخلت: الْفَاء، فِي
جوابها، وَهُوَ قَوْله: (فليتم صلَاته) . قَوْله:
(سَجْدَة) أَي: رَكْعَة، يدل عَلَيْهِ الرِّوَايَة
الْأُخْرَى للْبُخَارِيّ: (من أدْرك من الصُّبْح رَكْعَة)
. وَكَذَلِكَ فَسرهَا فِي رِوَايَة مُسلم: حَدثنِي أَبُو
الطَّاهِر وحرملة، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب، والسياق
لحرملة، قَالَ: أَخْبرنِي يُونُس عَن ابْن شهَاب أَن
عُرْوَة بن الزبير حَدثهُ عَن عَائِشَة رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (من أدْرك من الْعَصْر سَجْدَة قبل أَن
تغرب الشَّمْس، أَو من الصُّبْح قبل أَن تطلع، فقد
أدْركهَا) . والسجدة إِنَّمَا هِيَ الرَّكْعَة، وفسرها
حَرْمَلَة، وَكَذَا فسر فِي (الْأُم) أَنه يعبر بِكُل
وَاحِد مِنْهُمَا عَن الآخر، وأيا مَا كَانَ، فَالْمُرَاد:
بعض الصَّلَاة، وَإِدْرَاك شَيْء مِنْهَا، وَهُوَ يُطلق
على الرَّكْعَة والسجدة وَمَا دونهَا، مثل: تَكْبِيرَة
الْإِحْرَام. وَقَالَ الْخطابِيّ؛ قَوْله: (سَجْدَة) ،
مَعْنَاهَا: الرَّكْعَة بركوعها وسجودها، والركعة إِنَّمَا
يكون تَمامهَا بسجودها، فسميت على هَذَا الْمَعْنى
سَجْدَة: فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين قَوْله: (من أدْرك من
الصُّبْح سَجْدَة؟) وَبَين قَوْله: (من أدْرك سَجْدَة من
الصُّبْح؟) قلت: رِوَايَة تقدم السَّجْدَة هِيَ السَّبَب
الَّذِي بِهِ الْإِدْرَاك، وَمن قدم الصُّبْح أَو الْعَصْر
قبل الرَّكْعَة فَلِأَن هذَيْن الإسمين هما اللَّذَان
يدلان على هَاتين الصَّلَاتَيْنِ دلَالَة خَاصَّة
تتَنَاوَل جَمِيع أوصافها، بِخِلَاف السَّجْدَة فَإِنَّهَا
تدل على بعض أَوْصَاف الصَّلَاة، فَقدم اللَّفْظ الْأَعَمّ
الْجَامِع.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ من الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن
فِيهِ دَلِيلا صَرِيحًا فِي أَن من صلى رَكْعَة من
الْعَصْر، ثمَّ خرج الْوَقْت قبل سَلَامه لَا تبطل صلَاته،
بل يُتمهَا، وَهَذَا بِالْإِجْمَاع. وَأما فِي الصُّبْح
فَكَذَلِك عِنْد الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد. وَعند أبي
حنيفَة: تبطل صَلَاة الصُّبْح بِطُلُوع الشَّمْس فِيهَا،
وَقَالُوا: الحَدِيث حجَّة على أبي حنيفَة. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: قَالَ أَبُو حنيفَة: تبطل صَلَاة الصُّبْح
بِطُلُوع الشَّمْس فِيهَا، لِأَنَّهُ دخل وَقت النَّهْي
عَن الصَّلَاة، بِخِلَاف الْغُرُوب، والْحَدِيث حجَّة
عَلَيْهِ. قلت: من وقف على مَا أسس عَلَيْهِ أَبُو حنيفَة
عرف أَن الحَدِيث لَيْسَ بِحجَّة عَلَيْهِ، وَعرف أَن غير
هَذَا الحَدِيث من الْأَحَادِيث حجَّة عَلَيْهِم،
فَنَقُول: لَا شكّ أَن الْوَقْت سَبَب للصَّلَاة وظرف
لَهَا، وَلَكِن لَا يُمكن أَن يكون كل الْوَقْت سَببا،
لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك يلْزم تَأْخِير الْأَدَاء عَن
الْوَقْت، فَتعين أَن يَجْعَل بعض الْوَقْت سَببا، وَهُوَ
الْجُزْء الأول لسلامته عَن المزاحم، فَإِن اتَّصل بِهِ
الْأَدَاء تقررت السَّبَبِيَّة وإلاَّ تنْتَقل إِلَى
الْجُزْء الثَّانِي وَالثَّالِث وَالرَّابِع وَمَا بعده
إِلَى أَن يتَمَكَّن فِيهِ من عقد التَّحْرِيمَة إِلَى آخر
جُزْء من أَجزَاء الْوَقْت، ثمَّ هَذَا الْجُزْء إِن كَانَ
صَحِيحا، بِحَيْثُ لم ينْسب إِلَى الشَّيْطَان وَلم يُوصف
بِالْكَرَاهَةِ كَمَا فِي الْفجْر، وَجب عَلَيْهِ كَامِلا،
حَتَّى لَو اعْترض الْفساد فِي الْوَقْت بِطُلُوع الشَّمْس
فِي خلال الصَّلَاة فَسدتْ، خلافًا لَهُم، لِأَن مَا وَجب
كَامِلا لَا يتَأَدَّى بالناقص، كَالصَّوْمِ الْمَنْذُور
الْمُطلق وَصَوْم الْقَضَاء لَا يتَأَدَّى فِي أَيَّام
النَّحْر والتشريق، وَإِذا كَانَ هَذَا الْجُزْء نَاقِصا
كَانَ مَنْسُوبا إِلَى الشَّيْطَان: كالعصر وَقت الاحمرار
وَجب نَاقِصا، لِأَن نُقْصَان السَّبَب مُؤثر فِي نُقْصَان
الْمُسَبّب، فيتأدى بِصفة النُّقْصَان لِأَنَّهُ أدّى
كَمَا لزم، كَمَا إِذا أنذر صَوْم النَّحْر وَأَدَّاهُ
فِيهِ، فَإِذا غربت الشَّمْس فِي أثْنَاء الصَّلَاة لم
تفْسد الْعَصْر، لِأَن مَا بعد الْغُرُوب كَامِل فيتأدى
فِيهِ، لِأَن مَا وَجب نَاقِصا يتَأَدَّى كَامِلا
بِالطَّرِيقِ الأولى. فَإِن قلت: يلْزم أَن تفْسد الْعَصْر
إِذا شرع فِيهِ فِي الْجُزْء الصَّحِيح ومدها إِلَى أَن
غربت. قلت: لما كَانَ الْوَقْت متسعا جَازَ لَهُ شغل كل
الْوَقْت، فيعفى الْفساد الَّذِي يتَّصل بِهِ
بِالْبِنَاءِ، لِأَن الِاحْتِرَاز عَنهُ مَعَ الإقبال على
الصَّلَاة مُتَعَذر، وَأما الْجَواب عَن الحَدِيث
الْمَذْكُور فَهُوَ مَا ذكره الإِمَام الْحَافِظ أَبُو
جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، وَهُوَ: أَنه يحْتَمل أَن يكون معنى
الْإِدْرَاك فِي الصّبيان الَّذين يدركون، يَعْنِي يبلغون
قبل طُلُوع الشَّمْس، وَالْحيض اللَّاتِي يطهرن،
وَالنَّصَارَى الَّذين يسلمُونَ، لِأَنَّهُ لما ذكر فِي
هَذَا الْإِدْرَاك وَلم يذكر الصَّلَاة فَيكون هَؤُلَاءِ
الَّذين سميناهم وَمن أشبههم مدركين لهَذِهِ الصَّلَاة،
فَيجب عَلَيْهِم قَضَاؤُهَا، وَإِن كَانَ الَّذِي بَقِي
عَلَيْهِم من وَقتهَا أقل من الْمِقْدَار الَّذِي يصلونها
فِيهِ. فَإِن قلت: فَمَا تَقول فِيمَا رَوَاهُ أَبُو
سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أدْرك أحدكُم سَجْدَة من
صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فليتم صلَاته،
وَإِذا أدْرك سَجْدَة من صَلَاة الصُّبْح قبل أَن تطلع
الشَّمْس فليتم صلَاته) . رَوَاهُ البُخَارِيّ
والطَّحَاوِي أَيْضا فَإِنَّهُ صَرِيح فِي ذكر الْبناء بعد
طُلُوع الشَّمْس؟ قلت: قد تَوَاتَرَتْ الْآثَار عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنَّهْي عَن
الصَّلَاة عِنْد طُلُوع الشَّمْس مَا لم تتواتر بِإِبَاحَة
الصَّلَاة عِنْد ذَلِك، فَدلَّ ذَلِك على أَن مَا كَانَ
فِيهِ الْإِبَاحَة كَانَ مَنْسُوخا بِمَا كَانَ فِيهِ
التَّوَاتُر بِالنَّهْي. فَإِن قلت: مَا حَقِيقَة النّسخ
فِي هَذَا وَالَّذِي تذكره احْتِمَال؟ وَهل يثبت النّسخ
بِالِاحْتِمَالِ؟ قلت: حَقِيقَة النّسخ هُنَا أَنه اجْتمع
فِي هَذَا الْموضع محرم ومبيح، وَقد تَوَاتَرَتْ
الْأَخْبَار والْآثَار فِي بَاب الْمحرم مَا لم تتواتر فِي
بَاب الْمُبِيح، وَقد عرف من الْقَاعِدَة أَن الْمحرم
والمبيح إِذا اجْتمعَا يكون الْعَمَل للْمحرمِ، وَيكون
الْمُبِيح مَنْسُوخا، وَذَلِكَ لِأَن النَّاسِخ هُوَ
الْمُتَأَخر، وَلَا شكّ أَن الْحُرْمَة مُتَأَخِّرَة عَن
الْإِبَاحَة لِأَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْإِبَاحَة،
وَالتَّحْرِيم عَارض، وَلَا يجوز الْعَكْس لِأَنَّهُ يلْزم
النّسخ مرَّتَيْنِ. فَافْهَم. فَإِنَّهُ كَلَام دَقِيق قد
لَاحَ لي من الْأَنْوَار الإلهية. فان قلت إِنَّمَا ورد
النَّهْي الْمَذْكُور عَن الصَّلَاة فِي التَّطَوُّع
خَاصَّة وَلَيْسَ بنهي عَن قَضَاء الْفَرَائِض قلت: دلّ
حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ
وَمُسلم وَغَيرهمَا على أَن الصَّلَاة الْفَائِتَة قد دخلت
فِي النَّهْي عَن الصَّلَاة عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَعند
غُرُوبهَا، وَعَن عمرَان أَنه قَالَ: (سرينا مَعَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة، أَو قَالَ: فِي
سَرِيَّة، فَلَمَّا كَانَ آخر السحر عرسنا، فَمَا استيقظنا
حَتَّى أيقظنا حر الشَّمْس) الحَدِيث، وَفِيه أَنه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أخر صَلَاة الصُّبْح حَتَّى فَاتَت
عَنْهُم إِلَى أَن ارْتَفَعت الشَّمْس، وَلم يصلها قبل
الإرتفاع، فَدلَّ ذَلِك أَن النَّهْي عَام يَشْمَل
الْفَرَائِض والنوافل، والتخصيص بالتطوع تَرْجِيح بِلَا
مُرَجّح.
وَمِنْهَا: أَي: من الْأَحْكَام: أَن أَبَا حنيفَة وَمن
تبعه استدلوا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور أَن آخر وَقت
الْعَصْر هُوَ غرُوب الشَّمْس، لِأَن من أدْرك مِنْهُ
رَكْعَة أَو رَكْعَتَيْنِ مدرك لَهُ، فَإِذا كَانَ مدْركا
يكون ذَلِك الْوَقْت من وَقت الْعَصْر لِأَن معنى قَوْله:
(فقد أدْرك) ، أدْرك وُجُوبهَا، حَتَّى إِذا أدْرك
الصَّبِي قبل غرُوب الشَّمْس أَو أسلم الْكَافِر أَو
أَفَاق الْمَجْنُون أَو طهرت الْحَائِض تجب عَلَيْهِ
صَلَاة الْعَصْر، وَلَو كَانَ الْوَقْت الَّذِي أدْركهُ
جزأ يَسِيرا لَا يسع فِيهِ الْأَدَاء، وَكَذَلِكَ الحكم
قبل طُلُوع الشَّمْس. وَقَالَ زفر: لَا يجب مَا لم يجد
وقتا يسع الْأَدَاء، وَكَذَلِكَ الحكم قبل طُلُوع
الشَّمْس. وَقَالَ زفر: لَا يجب مَا لم يجد وقتا يسع
الْأَدَاء فِيهِ حَقِيقَة، وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ
فِيمَا إِذا أدْرك دون رَكْعَة كتكبيرة مثلا: أَحدهمَا:،
لَا يلْزمه، وَالْآخر: يلْزمه، وَهُوَ أصَحهمَا.
وَمِنْهَا: أَنهم اخْتلفُوا فِي معنى الْإِدْرَاك. هَل
هُوَ للْحكم أَو للفضل أَو للْوَقْت فِي أقل من رَكْعَة؟
فَذهب مَالك وَجُمْهُور الْأَئِمَّة، وَهُوَ أحد قولي
الشَّافِعِي: إِلَى أَنه لَا يدْرك شَيْئا من ذَلِك
بِأَقَلّ من رَكْعَة، مُتَمَسِّكِينَ بِلَفْظ الرَّكْعَة،
وَبِمَا فِي (صَحِيح) ابْن حبَان عَن أبي هُرَيْرَة: (إِذا
جئْتُمْ إِلَى الصَّلَاة وَنحن سُجُود فاسجدوها وَلَا
تعدوها شَيْئا، وَمن أدْرك الرَّكْعَة فقد أدْرك
الصَّلَاة) . وَذهب أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف
وَالشَّافِعِيّ فِي قَول: إِلَى أَنه يكون مدْركا لحكم
الصَّلَاة. فَإِن قلت: قيد فِي الحَدِيث بِرَكْعَة
فَيَنْبَغِي أَن لَا يعْتَبر أقل مِنْهَا؟ قلت: قيد
الرَّكْعَة فِيهِ خرج مخرج الْغَالِب، فَإِن غَالب مَا
يُمكن معرفَة الْإِدْرَاك بِهِ رَكْعَة أَو نَحْوهَا،
حَتَّى قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: إِنَّمَا أَرَادَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذكر الرَّكْعَة الْبَعْض
من الصَّلَاة، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنهُ: (من أدْرك رَكْعَة
من الْعَصْر) و: (من أدْرك رَكْعَتَيْنِ من الْعَصْر) ،
(وَمن أدْرك سَجْدَة من الْعَصْر) ، فَأَشَارَ إِلَى بعض
الصَّلَاة مرّة: بِرَكْعَة، وَمرَّة: بِرَكْعَتَيْنِ،
وَمرَّة بِسَجْدَة. وَالتَّكْبِيرَة فِي حكم الرَّكْعَة
لِأَنَّهَا بعض الصَّلَاة، فَمن أدْركهَا فَكَأَنَّهُ
أدْرك رَكْعَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَاتفقَ هَؤُلَاءِ،
يَعْنِي أَبَا حنيفَة وَأَبا يُوسُف وَالشَّافِعِيّ فِي
قَول، على إدراكهم الْعَصْر بتكبيرة قبل الْغُرُوب،
وَاخْتلفُوا فِي الظّهْر، فَعِنْدَ الشَّافِعِي فِي قَول:
هُوَ مدرك بتكبيرة لَهَا لاشْتِرَاكهمَا فِي الْوَقْت،
وَعنهُ أَنه بِتمَام الْقيام لِلظهْرِ يكون قَاضِيا لَهَا
بعد، وَاخْتلفُوا فِي الْجُمُعَة، فَذهب مَالك وَالثَّوْري
وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَزفر وَمُحَمّد
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد إِلَى أَن: من أدْرك مِنْهَا
رَكْعَة أضَاف إِلَيْهَا أُخْرَى. وَقَالَ أَبُو حنيفَة
وَأَبُو يُوسُف: إِذا أحرم فِي الْجُمُعَة قبل سَلام
الإِمَام صلى رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ
وَالْحكم وَحَمَّاد، وَأغْرب عَطاء وَمَكْحُول وطاووس
وَمُجاهد فَقَالُوا: إِن من فَاتَتْهُ الْخطْبَة يَوْم
الْجُمُعَة يُصَلِّي أَرْبعا، لِأَن الْجُمُعَة إِنَّمَا
قصرت من أجل الْخطْبَة: وَحمل أَصْحَاب مَالك قَوْله: (من
أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر) على أَصْحَاب الْأَعْذَار:
كالحائض والمغمى عَلَيْهِ وشبههما، ثمَّ هَذِه الرَّكْعَة
الَّتِي يدركون بهَا الْوَقْت هِيَ بِقدر مَا يكبر فِيهَا
للْإِحْرَام وَيقْرَأ أم الْقُرْآن قِرَاءَة معتدلة ويركع
وَيسْجد سَجْدَتَيْنِ يفصل بَينهمَا ويطمئن فِي كل ذَلِك،
على قَول من أوجب الطُّمَأْنِينَة، وعَلى قَول من لَا
يُوجب قِرَاءَة أم الْقُرْآن فِي كل رَكْعَة، يَكْفِيهِ
تَكْبِيرَة الْإِحْرَام وَالْوُقُوف لَهَا. وَأَشْهَب لَا
يُرَاعِي إِدْرَاك السَّجْدَة بعد الرَّكْعَة، وَسبب
الْخلاف: هَل الْمَفْهُوم من اسْم الرَّكْعَة
الشَّرْعِيَّة أَو اللُّغَوِيَّة؟
وَأما الَّتِي يدْرك بهَا فَضِيلَة الْجَمَاعَة فَحكمهَا
بِأَن يكبر لإحرامها ثمَّ يرْكَع، وَيُمكن يَدَيْهِ من
رُكْبَتَيْهِ قبل رفع الإِمَام رَأسه، وَهَذَا مَذْهَب
الْجُمْهُور، وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه: لَا يعْتد
بالركعة مَا لم يدْرك الإِمَام قَائِما قبل أَن يرْكَع،
وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَن أَشهب، وَرُوِيَ عَن جمَاعَة من
السّلف أَنه: مَتى أحرم وَالْإِمَام رَاكِع أَجزَأَهُ،
وَإِن لم يدْرك الرُّكُوع وَركع بعد الإِمَام. وَقيل:
يجْزِيه وَإِن رفع الإِمَام رَأسه مَا لم يرفع النَّاس،
وَنَقله ابْن بزيزة عَن الشّعبِيّ، قَالَ: وَإِذا انْتهى
إِلَى الصَّفّ الآخر وَلم يرفعوا رؤوسهم، أَو بَقِي
مِنْهُم وَاحِد لم يرفع رَأسه، وَقد رفع الإِمَام رَأسه
فَإِنَّهُ يرْكَع وَقد أدْرك الصَّلَاة، لِأَن الصَّفّ
الَّذِي هُوَ فِيهِ إِمَامه، وَقَالَ ابْن أبي ليلى وَزفر
وَالثَّوْري: إِذا كبر قبل أَن يرفع الإِمَام رَأسه فقد
أدْرك، وَإِن رفع الإِمَام قبل أَن يضع يَدَيْهِ على
رُكْبَتَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يعْتد بهَا. وَقَالَ ابْن
سِيرِين: إِذا أدْرك تَكْبِيرَة يدْخل بهَا فِي الصَّلَاة
وَتَكْبِيرَة للرُّكُوع فقد أدْرك تِلْكَ الرَّكْعَة.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَقيل: يجْزِيه إِن أحرم قبل
سُجُود الإِمَام. وَقَالَ ابْن بزيزة: قَالَ أَبُو
الْعَالِيَة: إِذا جَاءَ وهم سُجُود يسْجد مَعَهم، فَإِذا
سلم الإِمَام قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَة وَلَا يسْجد، ويعتد
بِتِلْكَ الرَّكْعَة. وَعَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، أَنه كَانَ إِذا جَاءَ وَالْقَوْم سُجُود سجد
مَعَهم، فَإِذا رفعوا رؤوسهم سجد أُخْرَى، وَلَا يعْتد
بهَا. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: إِذا ركع ثمَّ مَشى فَدخل
فِي الصَّفّ قبل أَن يرفعوا رؤوسهم اعْتد بهَا، وَإِن
رفعوا رؤوسهم قبل أَن يصل إِلَى الصَّفّ فَلَا يعْتد بهَا.
وَأما حكم هَذِه الصَّلَاة: فَالصَّحِيح أَنَّهَا كلهَا
أَدَاء، قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: كلهَا قَضَاء، وَقَالَ
بَعضهم: تِلْكَ الرَّكْعَة أَدَاء، وَمَا بعْدهَا قَضَاء،
وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِي مُسَافر نوى الْعَصْر وَصلى
رَكْعَة فِي الْوَقْت، فَإِن قُلْنَا: الْجَمِيع أَدَاء،
فَلهُ قصرهَا. وَإِن قُلْنَا: كلهَا قَضَاء، أَو:
بَعْضهَا، وَجب إِتْمَامهَا أَرْبعا إِن قُلْنَا: إِن
فَائِتَة السّفر إِذا قَضَاهَا فِي السّفر يجب
إِتْمَامهَا، وَهَذَا كُله إِذا أدْرك رَكْعَة فِي
الْوَقْت، فَإِن كَانَ دون رَكْعَة، فَقَالَ الْجُمْهُور:
كلهَا قَضَاء.
557 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ
حدَّثني إبْرَاهِيمُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَالِم بنِ
عَبْدِ الله عنْ أبِيهِ أنَّهُ أخْبَرَهُ أنَّهُ سَمِعَ
رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إنَّمَا
بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ كَمَا
بَيْنَ صَلاَةِ العَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ أوتِيَ
أهْلُ التوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا حَتَّى إذَا
انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا فأُعْطُوا قِيرَاطا
قِيرَاطا ثُمَّ أُوتِيَ أهْل الإِنْجِيلِ الإنْجِيلَ
فَعَمِلُوا إلَى صَلاَةِ العَصْرِ ثُمَّ عَجَزُوا
فَأُعْطُوا قِيراطا قِيرَاطا ثُمَّ أوتِينَا القُرْآنَ
فَعَمِلْنَا إلَى غُرُوب الشمْسِ فَأُعْطِينَا
قِيرَاطَيْنِ فقَالَ أهْلُ الكِتَابَيْنِ أيْ رَبَّنَا
أعْطَيْتَ هَؤُلاَءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ
وأعْطَيْتَنَا قِيرَاطا قِيرَاطا وَنَحْنُ كُنَّا أكْثَرَ
عَمَلاً قَالَ قَالَ الله عَزَّ وجلَّ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ
مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شيءٍ قالُوا لاَ قالَ فَهُوَ فَضْلِي
أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ. .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِلَى
غرُوب الشَّمْس) ، فَدلَّ على أَن وَقت الْعَصْر إِلَى
غرُوب الشَّمْس، وَأَن من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر قبل
الْغُرُوب فقد أدْرك وَقتهَا، فليتم مَا بَقِي، وَهَذَا
الْمِقْدَار بطرِيق الِاسْتِئْنَاس الإقناعي، لَا بطرِيق
الْأَمر البرهاني، وَلِهَذَا قَالَ ابْن الْمُنِير: هَذَا
الحَدِيث مِثَال لمنازل الْأُمَم عِنْد الله تَعَالَى،
وَإِن هَذِه الْأمة أقصرها عمرا وأقلها عملا وَأَعْظَمهَا
ثَوابًا.
ويستنبط مِنْهُ للْبُخَارِيّ بتكلف فِي قَوْله: (فعملنا
إِلَى غرُوب الشَّمْس،) ، فَدلَّ أَن وَقت الْعَمَل ممتد
إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَأَنه لَا يفوت، وَأقرب
الْأَعْمَال الْمَشْهُور بِهَذَا الْوَقْت صَلَاة
الْعَصْر، وَهُوَ من قبيل الْأَخْذ بِالْإِشَارَةِ، لَا من
صَرِيح الْعبارَة، فَإِن الحَدِيث مِثَال وَلَيْسَ
المُرَاد عملا خَاصّا بِهَذَا الْوَقْت، بل المُرَاد
سَائِر أَعمال الْأمة من سَائِر الصَّلَوَات، وَغَيرهَا من
سَائِر الْعِبَادَات فِي سَائِر مُدَّة بَقَاء الْأمة
إِلَى قيام السَّاعَة، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي
الْجُوَيْنِيّ: بِأَن الْأَحْكَام لَا تتَعَلَّق بالأحاديث
الَّتِي تَأتي لضرب الْأَمْثَال فَإِنَّهُ مَوضِع تجوز.
وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا أَدخل البُخَارِيّ هَذَا
الحَدِيث، والْحَدِيث الَّذِي بعده، فِي هَذَا الْبَاب
لقَوْله: (ثمَّ أوتينا الْقُرْآن فعملنا إِلَى غرُوب
الشَّمْس فأعطينا قيراطين قيراطين) ، ليدل على أَنه قد
يسْتَحق بِعَمَل الْبَعْض أجر الْكل، مثل الَّذِي أعطي من
الْعَصْر إِلَى اللَّيْل أجر النَّهَار كُله، فَمثله
كَالَّذي أعطي على رَكْعَة أدْرك وَقتهَا أجر الصَّلَاة
كلهَا فِي آخر الْوَقْت. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) :
فِيهِ بعد، لِأَنَّهُ لَو قَالَ: إِن (هَذِه الْأمة
أَعْطَيْت ثَلَاثَة قراريط لَكَانَ أشبه، وَلكنهَا مَا
أَعْطَيْت إلاَّ بعض أجر جَمِيع النَّهَار، نعم عملت هَذِه
الْأمة قَلِيلا وَأخذت كثيرا، ثمَّ هُوَ أَيْضا منفك عَن
مَحل الِاسْتِدْلَال، لِأَن عمل هَذِه الْأمة آخر
النَّهَار كَانَ أفضل من عمل الْمُتَقَدِّمين قبلهَا،
وَلَا خلاف أَن صَلَاة الْعَصْر مُتَقَدّمَة أفضل من
صلَاتهَا مُتَأَخِّرَة، ثمَّ هَذَا من الخصائص المستثناة
عَن الْقيَاس، فَكيف يُقَاس عَلَيْهِ؟ أَلا ترى أَن صِيَام
آخر النَّهَار لَا يقوم مقَام جملَته، وَكَذَا سَائِر
الْعِبَادَات؟ انْتهى. قلت: كل مَا ذكرُوا هَهُنَا لَا
يَخْلُو عَن تعسف، وَقَوله: لَا خلاف، غير موجه، لِأَن
الْخلاف مَوْجُود فِي تَقْدِيم صَلَاة الْعَصْر وتأخيرها،
وَقِيَاسه على الصَّوْم كَذَلِك، لِأَن وَقت الصَّوْم لَا
يتجزى، بِخِلَاف الصَّلَاة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الْعَزِيز الأويسي،
بِضَم الْهمزَة، مر فِي كتاب الْحِرْص على الحَدِيث،
ونسبته إِلَى أويس أحد أجداده. الثَّانِي: ابراهيم بن سعد
بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ
الْقرشِي الْمدنِي. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب
الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: سَالم بن عبد الله بن عمر بن
الْخطاب. الْخَامِس: أَبوهُ عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
الْإِخْبَار بِصِيغَة الافراد من الْمَاضِي. وَفِيه:
القَوْل. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم
مدنيون. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده.
وَفِيه: رِوَايَة التابعة عَن التَّابِعِيّ. وهما: ابْن
شهَاب وَسَالم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي بَاب الْإِجَارَة إِلَى نصف النَّهَار عَن
سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن نَافِع
بِهِ، وَأخرجه أَيْضا فِي بَاب فضل الْقُرْآن عَن مُسَدّد
عَن يحيى عَن سُفْيَان عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن
عمر، وَأخرجه أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن أبي الْيَمَان
عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم بن عبد الله،
وَأخرجه أَيْضا فِي بَاب مَا ذكر عَن بني إِسْرَائِيل عَن
قُتَيْبَة عَن لَيْث عَن نَافِع بِهِ. وَأخرجه مُسلم
وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِنَّمَا بقاؤكم فِيمَا سلف من
الْأُمَم قبلكُمْ) ، ظَاهره لَيْسَ بِمُرَاد، لِأَن ظَاهره
أَن بَقَاء هَذِه الْأمة وَقع فِي زمَان الْأُمَم السالفة،
وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَن نسبتكم
إِلَيْهِم كنسبة وَقت الْعَصْر إِلَى تَمام النَّهَار،
وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (إِنَّمَا أجلكم فِي أجل من
خلا من الْأُمَم كَمَا بَين صَلَاة الْعَصْر إِلَى مغرب
الشَّمْس) . قَوْله: (إِلَى غرُوب الشَّمْس) ، كَانَ
الْقيَاس أَن يُقَال: وغروب الشَّمْس، بِالْوَاو، لِأَن:
بَين، يَقْتَضِي دُخُوله على مُتَعَدد، وَلَكِن المُرَاد
من الصَّلَاة وَقت الصَّلَاة، وَله أَجزَاء، فَكَأَنَّهُ
قَالَ: بَين أَجزَاء وَقت صَلَاة الْعَصْر. قَوْله:
(أُوتِيَ أهل التَّوْرَاة) ، أُوتِيَ: على صِيغَة
الْمَجْهُول، أَي: أعطي، فالتوراة الأولى مجرورة
بِالْإِضَافَة، وَالثَّانيَِة مَنْصُوبَة على أَنه مفعول
ثَان، قيل: اشتقاق التَّوْرَاة من الوري، ووزنها: تفعلة،
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل إسمان
أعجميان، وتكلف اشتقاقهما من الوري والنجل، ووزنهما: تفعلة
وإفعيل، إِنَّمَا يَصح بعد كَونهمَا عربيين. وَقَرَأَ
الْحسن: الأنجيل، بِفَتْح الْهمزَة، وَهُوَ دَلِيل على
العجمة، لِأَن: أفعيل، بِفَتْح الْهمزَة عديم فِي أوزان
الْعَرَب. قَوْله: (عجزوا) ، قَالَ الدَّاودِيّ: قَالَه
أَيْضا فِي النَّصَارَى، فَإِن كَانَ المُرَاد من مَاتَ
مِنْهُم مُسلما فَلَا يُقَال: عجزوا، لِأَنَّهُ عمل مَا
أَمر بِهِ، وَإِن كَانَ قَالَه فِيمَن آمن ثمَّ كفر فَكيف
يعْطى القيراط من حَبط عمله بِكفْر؟ وَأجِيب: بِأَن
المُرَاد: من مَاتَ مِنْهُم مُسلما قبل التَّغْيِير
والتبديل، وَعبر بِالْعَجزِ لكَوْنهم لم يستوفوا عمل
النَّهَار كُله، وَإِن كَانُوا قد استوفوا مَا قدر لَهُم،
فَقَوله: عجزوا، أَي: عَن إِحْرَاز الْأجر الثَّانِي دون
الأول، لَكِن من أدْرك مِنْهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وآمن بِهِ أعطي الْأجر مرَّتَيْنِ. قَوْله: (قيراطا)
هُوَ نصف دانق، وَالْمرَاد مِنْهُ: النَّصِيب والحصة، وَقد
اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب اتِّبَاع
الْجَنَائِز من الْإِيمَان، وَإِنَّمَا كرر لفظ القيراط
ليدل على تَقْسِيم القراريط على جَمِيعهم، كَمَا هُوَ
عَادَة كَلَامهم، حَيْثُ أَرَادوا تَقْسِيم الشَّيْء على
مُتَعَدد. قَوْله: (ثمَّ أُوتِيَ أهل الْإِنْجِيل
الْإِنْجِيل) الأول مجرور بِالْإِضَافَة، وَالثَّانِي
مَنْصُوب على المفعولية. قَوْله: (فَقَالَ أهل
الْكِتَابَيْنِ) أَي: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل. قَوْله:
أَي رَبنَا) ، كلمة: أَي، من حُرُوف النداء، يَعْنِي: يَا
رَبنَا، وَلَا تفَاوت فِي إِعْرَاب المنادى بَين حُرُوفه.
قَوْله: (وَنحن كُنَّا أَكثر عملا) ، قَالَ
الْإِسْمَاعِيلِيّ: إِنَّمَا قَالَت النَّصَارَى (: نَحن
أَكثر عملا لأَنهم آمنُوا بمُوسَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمَا
الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: النَّصَارَى لم يُؤمنُوا
بمُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على ذَلِك جمَاعَة
الإخباريين، وَأَيْضًا قَوْله: (وَنحن كُنَّا أَكثر عملا)
حِكَايَة عَن قَول أهل الْكِتَابَيْنِ، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: قَول الْيَهُود ظَاهر، لِأَن الْوَقْت من
الصُّبْح إِلَى الظّهْر أَكثر من وَقت الْعَصْر إِلَى
الْمغرب، وَقَول النَّصَارَى لَا يَصح إلاَّ على مَذْهَب
الْحَنَفِيَّة، حَيْثُ يَقُولُونَ: الْعَصْر هُوَ مصير ظلّ
الشَّيْء مثلَيْهِ، وَهَذَا من جملَة أدلتهم على
مَذْهَبهم. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره هُوَ قَول أبي حنيفَة
وَحده، وَغَيره من أَصْحَابه يَقُولُونَ مثله، وَيُمكن أَن
يُقَال: إِنَّمَا أسْند الأكثرية إِلَى الطَّائِفَتَيْنِ،
وَإِن كَانَ فِي إِحْدَاهمَا بطرِيق التغليب، وَيُقَال:
لَا يلْزم من كَونهم أَكثر عملا أَكثر زَمَانا، لاحْتِمَال
كَون الْعَمَل أَكثر فِي الزَّمَان الْأَقَل. قَوْله: هَل
ظلمتكم؟) أَي: هَل نقصتكم؟ إِذْ الظُّلم قد يكون
بِزِيَادَة الشَّيْء، وَقد يكون بنقصانه. وَفِي بعض
النّسخ: (أظلمتكم؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام، وَهُوَ
أَيْضا بِمَعْنى: هَل ظلمتكم؟ أَي: فِي الَّذِي شرطت لكم
شَيْئا؟ .
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: تَفْضِيل هَذِه الْأمة وتوفر
أجرهَا مَعَ قلَّة الْعَمَل، وَإِنَّمَا فضلت بِقُوَّة
يقينها ومراعاة أصل دينهَا، فَإِن زلت فَأكْثر زللها فِي
الْفُرُوع، بِخِلَاف من كَانَ قبلهم كَقَوْلِهِم: {اجْعَل
لنا إلاها} (الْأَعْرَاف: 138) . وكامتناعهم من أَخذ
الْكتاب حَتَّى نتق الْجَبَل فَوْقهم، و: {فَاذْهَبْ أَنْت
وَرَبك فَقَاتلا} (الْمَائِدَة: 54) .
وَفِيه: مَا استنبطه أَبُو زيد الدبوسي فِي (كتاب
الْأَسْرَار) من أَن وَقت الْعَصْر إِذا صَار ظلّ كل شَيْء
مثلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ قَرِيبا من
أول الْعَاشِرَة، فَيكون إِلَى الْمغرب ثَلَاث سَاعَات غير
شَيْء يسير، وَتَكون النَّصَارَى أَيْضا عمِلُوا ثَلَاث
سَاعَات وشيئا يَسِيرا، وَهَذَا من أول الزَّوَال إِلَى
أول السَّاعَة الْعَاشِرَة، وَهُوَ إِذا صَار ظلّ كل شَيْء
مثلَيْهِ، وَاعْترض على هَذَا بِأَن النَّصَارَى لم تقله،
وَإِنَّمَا قَالَه الْفَرِيقَانِ: الْيَهُود
وَالنَّصَارَى، ووقتهم أَكثر من وقتنا، فيستقيم قَوْلهم:
أَكثر عملا؟ وَأجِيب: بِأَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى لَا
يتفقان على قَول وَاحِد، بل قَالَت النَّصَارَى: كُنَّا
أَكثر عملا وَأَقل عَطاء، وَكَذَا الْيَهُود، بِاعْتِبَار
كَثْرَة الْعَمَل وَطوله، وَنقل بَعضهم كَلَام أبي زيد
هَكَذَا، ثمَّ قَالَ: تمسك بِهِ بعض الْحَنَفِيَّة كَأبي
زيد إِلَى أَن وَقت الْعَصْر من مصير ظلّ كل شَيْء
مثلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ ظلّ كل شَيْء مثله لَكَانَ
مُسَاوِيا لوقت الظّهْر، وَقد قَالُوا: كُنَّا أَكثر عملا،
فَدلَّ على أَنه دون وَقت الظّهْر. ثمَّ قَالَ: وَأجِيب
بِمَنْع الْمُسَاوَاة، وَذَلِكَ مَعْرُوف عِنْد أهل الْعلم
بِهَذَا الْفَنّ، وَهُوَ أَن الْمدَّة بَين الظّهْر
وَالْعصر أطول من الْمدَّة الَّتِي بَين الْعَصْر
وَالْمغْرب. انْتهى. قلت: لَا يخفى على كل أحد أَن وَقت
الْعَصْر، لَو كَانَ بمصير ظلّ كل شَيْء مثله، يكون وَقت
الظّهْر الَّذِي يَنْتَهِي إِلَى مصير ظلّ كل شَيْء مثله،
مثل وَقت الْعَصْر الَّذِي نقُول: وقته بمصير ظلّ كل شَيْء
مثله، وَمَعَ هَذَا أَبُو زيد مَا ادّعى الْمُسَاوَاة
بالتحقيق، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وعَلى التَّنْزِيل
لَا يلْزم من التَّمْثِيل والتشبيه التَّسْوِيَة من كل
جِهَة. قلت: مَا ادّعى هُوَ التَّسْوِيَة من كل جِهَة
حَتَّى يعْتَرض عَلَيْهِ.
وَفِيه: مَا استنبطه بَعضهم أَن مُدَّة الْمُسلمين من حِين
ولد سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى
قيام السَّاعَة ألف سنة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جعل النَّهَار
نِصْفَيْنِ الأول للْيَهُود، فَكَانَت مدتهم ألف سنة
وسِتمِائَة سنة وَزِيَادَة فِي قَول ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ
أَبُو صَالح عَنهُ، وَفِي قَول ابْن إِسْحَاق: ألف سنة
وَتِسْعمِائَة سنة وتسع عشرَة سنة، وَلِلنَّصَارَى
كَذَلِك، فَجَاءَت مُدَّة النَّصَارَى لَا يخْتَلف النَّاس
أَنه كَانَ بَين عِيسَى وَنَبِينَا صلوَات الله على
نَبينَا وَعَلِيهِ سِتّمائَة سنة، فَبَقيَ للْمُسلمين ألف
سنة وَزِيَادَة، وَفِيه نظر، من حَيْثُ إِن الْخلاف فِي
مُدَّة الفترة، فَذكر الْحَاكِم فِي (الإكليل) أَنَّهَا
مائَة وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ سنة، وَذكر أَنَّهَا
أَرْبَعمِائَة سنة، وَقيل: خَمْسمِائَة وَأَرْبَعُونَ سنة.
وَعَن الضَّحَّاك أَرْبَعمِائَة وبضع وَثَلَاثُونَ سنة،
وَقد ذكر السُّهيْلي عَن جَعْفَر بن عبد الْوَاحِد
الْهَاشِمِي: أَن جعفرا حدث بِحَدِيث مَرْفُوع: (إِن
أَحْسَنت أمتِي فبقاؤها يَوْم من أَيَّام الْآخِرَة،
وَذَلِكَ ألف سنة، وَإِن أساءت فَنصف يَوْم) . وَفِي
حَدِيث زمل الْخُزَاعِيّ، قَالَ: (رَأَيْتُك يَا رَسُول
الله على مِنْبَر لَهُ سبع دَرَجَات، وَإِلَى جَنْبك
نَاقَة عجفاء كَأَنَّك تبعتها، ففسر لَهُ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاقة بِقِيَام السَّاعَة الَّتِي
أنذر بهَا، ودرجات الْمِنْبَر عدَّة الدُّنْيَا: سَبْعَة
آلَاف سنة، بعث فِي آخرهَا ألفا) قَالَ السُّهيْلي:
والْحَدِيث، وَإِن كَانَ ضَعِيف الْإِسْنَاد، فقد رُوِيَ
مَوْقُوفا على ابْن عَبَّاس من طرق صِحَاح، أَنه قَالَ:
(الدُّنْيَا سَبْعَة أَيَّام، كل يَوْم ألف سنة) ، وَصحح
الطَّبَرِيّ هَذَا الأَصْل وعضده بآثار.
وَفِيه: مَا اسْتدلَّ بِهِ بعض أَصْحَابنَا على أَن آخر
وَقت الظّهْر ممتد إِلَى أَن يصير ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ،
وَذَلِكَ أَنه جعل لنا من الزَّمَان من الدُّنْيَا فِي
مُقَابلَة من كَانَ قبلنَا من الْأُمَم بِقدر مَا بَين
صَلَاة الْعَصْر إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَهُوَ يدل أَن
بَينهمَا أقل من ربع النَّهَار، لِأَنَّهُ لم يبْق من
الدُّنْيَا ربع الزَّمَان، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (بعثت أَنا والساعة كهاتين، وَأَشَارَ بالسبابة
وَالْوُسْطَى) ، فَشبه مَا بَقِي من الدُّنْيَا إِلَى قيام
السَّاعَة مَعَ مَا انْقَضى بِقدر مَا بَين السبابَة
وَالْوُسْطَى من التَّفَاوُت. قَالَ السُّهيْلي:
وَبَينهمَا نصف سبع، لِأَن الْوُسْطَى ثَلَاثَة أَسْبَاع،
كل مفصل مِنْهَا سبع، وزيادتها على السبابَة نصف سبع،
وَالدُّنْيَا على مَا قدمْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس سَبْعَة
آلَاف سنة، فَلِكُل سبع ألف سنة، وفضلت الْوُسْطَى على
السبابَة بِنصْف الْأُنْمُلَة، وَهُوَ ألف سنة فِيمَا ذكره
أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ وَغَيره، وَزعم السُّهيْلي:
أَنه بِحِسَاب الْحُرُوف الْمُقطعَة أَوَائِل السُّور تكون
تِسْعمائَة سنة وَثَلَاث سِنِين، وَهل هِيَ من مبعثه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَو هجرته أَو وَفَاته؟ وَالله أعلم.
558 - حدَّثنا أبُو كُرَيْبٍ قَالَ حدَّثنا أبُو أسامَةَ
عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أبِي بُرْدَةَ عَنْ أبي مُوسَى عَنِ
النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَثَلُ المُسْلِمِينَ
واليَهُودِ والنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ
قَوْما يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلاً إلَى اللَّيْلِ
فَعَمِلُوا إلَى نِصْفِ النَّهَارِ فقالُوا لاَ حَاجَةَ
لَنا إلَى أجْرِكَ فاسْتَأْجَرَ آخرِينَ فَقَالَ أكْمِلُوا
بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ ولَكُمْ الَّذِي شَرَطْتُ فَعَمِلُوا
حتَّى إذَا كانَ حِينَ صَلاَةِ العَصْرِ قالُوا لَكَ مَا
عمِلْنَا فاسْتَأجَرَ قَوْما فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ
يَوْمِهِمْ حَتَّى غَابَتِ الشَّمسُ وَاسْتَكْمَلُوا أجْرَ
الفَرِيقَيْنِ (الحَدِيث 558 طرفه فِي: 2271) .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة بطرِيق الْإِشَارَة
لَا بالتصريح، بَيَان ذَلِك أَن وَقت الْعَمَل ممتد إِلَى
غرُوب الشَّمْس، وَأقرب الْأَعْمَال الْمَشْهُورَة بِهَذَا
الْوَقْت صَلَاة الْعَصْر، وَإِنَّمَا قُلْنَا: بطرِيق
الْإِشَارَة، لِأَن هَذَا الحَدِيث قصد بِهِ بَيَان
الْأَعْمَال لَا بَيَان الْأَوْقَات.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد
ابْن أبي أُسَامَة. الثَّالِث: بريد، بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة: ابْن عبد الله بن أبي بردة بن أبي مُوسَى
الْأَشْعَرِيّ الْكُوفِي، ويكنى أَبَا بردة. الرَّابِع:
أَبُو بردة، واسْمه: عَامر، وَهُوَ جد بريد الْمَذْكُور.
الْخَامِس: أَبُو مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه:
القَوْل. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن جده، وَرِوَايَة
الابْن عَن أَبِيه. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي
وبصري. وَفِيه: ثَلَاثَة بالكنى.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي الْإِجَارَة
أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مثل الْمُسلمين) ، الْمثل،
بِفَتْح الْمِيم فِي الأَصْل بِمَعْنى: الْمثل، بِكَسْر
الْمِيم، وَهُوَ النظير. يُقَال: مثل وَمثل ومثيل: كشبه
وَشبه وشبيه، ثمَّ قيل لِلْقَوْلِ السائر الممثل مضربه
بمورده مثل، وَلم يضْربُوا مثلا إلاَّ لقَوْل فِيهِ غرابة،
وَهَذَا تَشْبِيه الْمركب بالمركب، فالمشبه والمشبه بِهِ
هما المجموعان الحاصلان من الطَّرفَيْنِ، وإلاَّ كَانَ
الْقيَاس أَن يُقَال كَمثل: أَقوام استأجرهم رجل. وَدخُول:
كَاف، التَّشْبِيه على الْمُشبه بِهِ، فِي تَشْبِيه
الْمُفْرد بالمفرد، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِك. قَوْله: (لَا
حَاجَة لنا إِلَى أجرك) ، الْخطاب إِنَّمَا هُوَ
للْمُسْتَأْجر، وَالْمرَاد مِنْهُ لَازم هَذَا القَوْل،
وَهُوَ ترك الْعَمَل. قَوْله: (فَقَالَ أكملوا) ، من
الْإِكْمَال بِهَمْزَة الْقطع، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة
البُخَارِيّ فِي الْإِجَارَة، وَوَقع هُنَا فِي رِوَايَة
الْكشميهني: (اعْمَلُوا) ، بِهَمْزَة الْوَصْل من
الْعَمَل. قَوْله: (حِين) ، مَنْصُوب لِأَنَّهُ خبر:
كَانَ، أَي: كَانَ الزَّمَان زمَان الصَّلَاة، وَيجوز أَن
يكون مَرْفُوعا بِأَنَّهُ اسْم: كَانَ، وَتَكون تَامَّة.
وَحَاصِل الْمَعْنى من قَوْله: (وَقَالُوا لَا حَاجَة لنا
فِي أجرك) إِلَى آخِره لَا حَاجَة لنا فِي أجرتك الَّتِي
شرطت لنا، وَمَا عَملنَا بَاطِل، فَقَالَ لَهُم: لَا
تَفعلُوا، اعْمَلُوا بَقِيَّة يومكم وخذوا أجرتكم كَامِلا،
فَأَبَوا وَتركُوا ذَلِك كُله عَلَيْهِ، فاستأجر قوما
آخَرين، فَقَالَ لَهُم: إعملوا بَقِيَّة يومكم وَلكم
الَّذِي شرطت لهَؤُلَاء من الْأجر، فعملوا حَتَّى حَان
الْعَصْر، قَالُوا: لَك مَا عَملنَا بَاطِل ذَلِك الْأجر
الَّذِي جعلت لنا، لَا حَاجَة لنا فِيهِ، فَقَالَ لَهُم:
اكملوا بَقِيَّة عَمَلكُمْ، فَإِنَّمَا بَقِي من النَّهَار
شَيْء يسير وخذوا أجركُم، فَأَبَوا عَلَيْهِ، فاستأجر قوما
آخَرين فعملوا بَقِيَّة يومهم حَتَّى إِذا غَابَتْ
الشَّمْس واستكملوا أجر الْفَرِيقَيْنِ كُله، ذَلِك مثل
الْيَهُود وَالنَّصَارَى تركُوا مَا أَمرهم
(5/53)
الله تَعَالَى، وَمثل الْمُسلمين الَّذين قبلوا هدى الله،
وَمَا جَاءَ بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَالْمَقْصُود من هَذَا الحَدِيث ضرب الْمثل للنَّاس
الَّذين شرع لَهُم دين مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، ليعملوا الدَّهْر كُله بِمَا يَأْمُرهُم بِهِ
وينهاهم إِلَى أَن بعث الله عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، فَأَمرهمْ باتباعه فَأَبَوا وتبرأوا مِمَّا
جَاءَ بِهِ، وَعمل آخَرُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ عِيسَى،
عَلَيْهِ السَّلَام، فَأَمرهمْ على أَن يعملوا بِمَا
يؤمرون بِهِ بَاقِي الدَّهْر، فعملوا حَتَّى بعث سيدنَا
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدَعَاهُمْ إِلَى
الْعَمَل بِمَا جَاءَ بِهِ، فَأَبَوا وعصوا، فجَاء الله
تَعَالَى بِالْمُسْلِمين فعملوا بِمَا جَاءَ بِهِ،
واستكملوا إِلَى قيام السَّاعَة، فَلهم أجر من عمل
الدَّهْر، كُله بِعبَادة الله تَعَالَى، كإتمام النَّهَار
الَّذِي اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ كُله أول طبقَة. وَفِي
حَدِيث ابْن عمر: قدر لَهُم مُدَّة أَعمال الْيَهُود،
وَلَهُم أجرهم إِلَى أَن نسخ الله تَعَالَى شريعتهم
بِعِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقَالَ عِنْد
مبعث عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام: من يعْمل إِلَى مُدَّة
هَذَا الشَّرْع وَله أجر قِيرَاط؟ فَعمِلت النَّصَارَى
إِلَى أَن نسخ الله تَعَالَى ذَلِك بِمُحَمد صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ قَالَ، متفضلاً على الْمُسلمين: من
يعْمل بَقِيَّة النَّهَار إِلَى اللَّيْل وَله قيراطان؟
فَقَالَ الْمُسلمُونَ: نَحن نعمل إِلَى انْقِطَاع
الدَّهْر، فَمن عمل من الْيَهُود إِلَى أَن آمن بِعِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَام، وَعمل بِشَرِيعَتِهِ لَهُ أجره
مرَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ النَّصَارَى إِذا آمنُوا بِمُحَمد
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث، (و:
رجل آمن بِنَبِيِّهِ وآمن بِي، يُؤْتى أجره مرَّتَيْنِ) .
فَإِن قلت: حَدِيث أبي مُوسَى دلّ على أَن الْفَرِيقَيْنِ
لم يأخذا شَيْئا، وَحَدِيث ابْن عمر دلّ على أَن كلا
مِنْهُمَا أَخذ قيراطا. قلت: ذَلِك فِيمَن مَاتُوا مِنْهُم
قبل النّسخ، وَهَذَا فِيمَن حرف أَو كفر بِالنَّبِيِّ
الَّذِي بعث بعد نبيه، وَقَالَ ابْن رشد مَا محصله: إِن
حَدِيث ابْن عمر ذكر مِثَالا لأهل الْأَعْذَار لقَوْله:
فعجزوا، فَأَشَارَ إِلَى أَن من عجز عَن اسْتِيفَاء
الْعَمَل من غير أَن يكون لَهُ صَنِيع فِي ذَلِك الْأجر
يحصل لَهُ تَاما فضلا من الله تَعَالَى، وَذكر حَدِيث أبي
مُوسَى مِثَالا لمن أخر من غير عذر، وَإِلَى ذَلِك
إِشَارَة بقوله عَنْهُم: لَا حَاجَة لنا إِلَى أجرك،
فَأَشَارَ بذلك إِلَى أَن من أخر عَامِدًا لَا يحصل لَهُ
مَا حصل لأهل الْأَعْذَار. وَقَالَ الْخطابِيّ: دلّ حَدِيث
ابْن عمر ان مبلغ أُجْرَة الْيَهُود لعمل النَّهَار كُله
قيراطان، وَأُجْرَة النَّصَارَى لِلنِّصْفِ الْبَاقِي من
النَّهَار إِلَى اللَّيْل قيراطان. وَلَو تمموا الْعَمَل
إِلَى آخر النَّهَار لاستحقوا تَمام الْأُجْرَة، وَهُوَ:
قِيرَاط، ثمَّ إِن الْمُسلمين لما استوفوا أُجْرَة
الْفَرِيقَيْنِ مَعًا حاسدوهم، وَقَالُوا: ... . الخ
يَعْنِي قَوْلهم: إِي رَبنَا أَعْطَيْت هَؤُلَاءِ قيراطين
... الخ. وَلَو لم تكن صُورَة الْأَمر على هَذَا لم يَصح
هَذَا الْكَلَام. وَفِي طَرِيق أبي مُوسَى زِيَادَة بَيَان
لَهُ، وَقَوْلهمْ: لَا حَاجَة لنا، إِشَارَة إِلَى أَن
تحريفهم الْكتب وتبديلهم الشَّرَائِع وَانْقِطَاع
الطَّرِيق بهم عَن بُلُوغ الْغَايَة، فحرموا تَمام
الْأُجْرَة لجنايتهم على أنفسهم حِين امْتَنعُوا من تَمام
الْعَمَل الَّذِي ضمنوه. |